طيّبات مَكّة
(١) تِجارَةُ «مَكَّة»
هذه البَلدةُ المُبارَكةُ سَبقَتْ لها ولأَهلِها الدَّعوةُ الخَليليَّةُ الإِبراهيمِيَّةُ؛ وذلك أَنَّ الله — عزَّ وجلَّ — يقولُ حاكِيًا عن خَليلِه ﷺ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.
وقال عزَّ وجلَّ: أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ.
فبُرهانُ ذلك فيها ظاهرٌ مُتَّصلٌ إِلى يوم القِيامةِ. وذلك أَنَّ أَفئدَةَ الناسِ تَهْوي إِليها مِن الأَصقاع النَّائِيَةِ، والأَقطارِ الشَّاحطَةِ.
فالطريقُ إِليها مُلتَقَى الصَّادِرِ والواردِ؛ مِمَّن بَلغَتهُ الدَّعوةُ المُبارَكةُ. والثمراتُ تُجبَى إِليْها من كلِّ مكان، فهي أَكثَرُ البلاد نِعَمًا وفواكِهَ ومنافِعَ ومَرافِق ومتاجرَ. ولو لم يكُن لها من المَتاجر إِلا أَوانُ المَوْسِم. ففيهِ مُجتمَعُ أَهلِ المَشرِقِ والمَغرِبِ، فيُباعُ فيها في يومٍ واحد — من الذَّخائرِ النَّفيسةِ، كالْجَوهرِ واليَاقوت وسائرِ الأَحجارِ، ومن أَنواعِ الطِّيبِ، كالمِسْكِ والكافُورِ والعَنْبَرِ والعُود والعقَاقير الهِنديَِّةِ، إِلى غيرِ ذلك مِمَّا يُجْلَبُ من الهِنْد والْحبشَةِ، إِلى الأَمتِعِةِ العِراقيَّةِ واليمانيَّةِ، إِلى غيرِ ذلك من السِّلَعِ الْخُرسانيَّةِ والبضَائِعِ المَغْرِبيَّة، إِلى ما لا يَنحصِرُ ولا يَنْضَبِطُ — ما لو فُرِّقَ عَلَى البلادِ كلِّها لأَقامَ لها الأَسواقَ النَّافِقَةَ (الرائجَةَ)، ولَعَمَّ جَميعَها بالمَنْفَعةِ التِّجارِيَّةِ. كلُّ ذلك في ثمَانيةِ أَيَّامٍ بعدَ المَوْسِمِ، حاشَى ما يَطرَأُ بها — مع طُولِ الأَيَّامِ — من «اليَمَنِ» وسِواها.
فَما عَلَى الأَرْضِ سِلعةٌ من السِّلعِ ولا ذَخيرةٌ من الذَّخائرِ إِلا وهي مَوجودةٌ فيها مُدَّةَ المَوْسِمِ. فهذه مِن الآياتِ التي خَصَّها اللهُ بها.
(٢) فاكِهَة «مَكَّة»
أَمَّا الأَرزاقُ والفَواكهُ وسائرُ الطَّيباتِ، فكُنَّا نظُنُّ أَنَّ الأَندلُسَ اخْتَصَّت من ذلك بحظٍّ له المَزِيَّةُ عَلَى سائرِ حُظوظِ البلادِ، حتى حَلَلْنا بهذه البِلادِ المُبارَكةِ، فأَلْفَيْناها تغَصُّ بالنِّعَم والفواكهِ كالتِّين والعِنَبِ والرُّمَّانِ والسَّفَرْجَلِ والْخوْخِ والأُتْرُجِّ (وَهُو مِنْ جِنْسِ النَّارَنْجِ، واسمه أيضًا: التُّرْنْجُ)، والْجَوزِ والمُقْل (ثَمَرِ شجر الدَّوْمِ) وبالبِطِّيخِ والقِثَّاءِ والْخِيار، إلى جميعِ البُقول كلِّها، كالباذِنجان والكُرنبِ والْجَزَرِ واليَقْطِين (القَرْعِ المُستَدِيرِ) والسَّلْجَمِ (الِّلفْتِ)، إلى غيرِ ذلك من الرَّيَاحِين العَبِقَةِ والمَشْموماتِ العَطِرَةِ. وأكثرُ هذه البُقُولِ كالباذِنجانِ والقِثَّاءِ والبِطِّيخِ، لا يكادُ يَنقطِعُ — مع طُولِ العامِ — وذلك من عَجيبِ ما شاهَدناه ممّا يَطُولُ تَعدادهُ وذِكْرُه. ولكلِّ نَوْع — من هذه الأنواعِ — فَضيلةٌ مَوجودَةٌ في حاسَّةِ الذَّوْقِ، يَفْضُلُ بها نوعَها المَوجودَ في سائرِ البِلادِ، فالعَجَبُ من ذلك يَطولُ.
ومن أعجب ما اخْتبَرْناه من فواكِهِها البِطِّيخُ والسَّفَرْجَلُ.
(٣) بِطِّيخ «مكة»
وكلُّ فواكِهِها عَجَبٌ، لكنْ للبِطِّيخِ فيها خاصَّةٌ من الفَضْلِ عجيبةٌ، وذلك لأَن رائحتَهُ من أَعْطَرِ الرَّوائحِ وأَطيَبِها، يَدْخُلُ بهِ الداخِلُ عليكَ فتجدُ رائحتَهُ العَبقَةَ قد سَبَقَتْ إِليكَ، فيكادُ يَشْغلُكَ الاسْتِمْتَاعُ بِطيبِ رَيَّاهُ، عن أَكْلِكَ إِيَّاهُ. حتى إِذا ذُقْتَه خُيِّلَ إِليكَ أَنهُ شِيبَ بِسُكَّرٍ مُذابٍ، أو بِجَنَى النَّحْلِ الُّلبابِ (الشَّهْدِ، أي: العَسَلِ الخالصِ).
وَلعلَّ مُتَصَفِّحَ هذه الأَحرفِ يَظنُّ أنَّ في الوصفِ بعضَ الغُلُوِّ. كلاَّ لَعَمْرُ اللهِ. إنهُ لأَكْثَرُ مِمّا وَصفْتُ، وفوْقَ ما قُلْتُ.
(٤) لذائذ الأطعمة
وبها عَسَلٌ أَطيَبُ من العَسَل المَاذيِّ، المَضْروبِ بهِ المَثَلُ، يُعْرَف عندهُم بالمَسْعودِيِّ. وأَنواعُ اللبَنِ بها في نهايةٍ من الطِّيب. وكلُّ ما يُصْنَعُ منها من السَّمْنِ، فإِنهُ لا تكادُ تُمَيِّزُهُ من العَسَل طِيبًا ولَذاذَةً.
ويَجْلُبُ إِليها قوْمٌ من اليمنِ يُسَمَّوْنَ «السَّرْوَ» نوْعًا من الزَّبِيبِ الأَسْوَدِ والأَحمرِ في نِهاية الطِّيبِ، وَيجلُبونَ معهُ من اللَّوْزِ كَثيرًا. وبها قَصَبُ السُّكَّرِ أَيضًا كثيرٌ، يُجْلَبُ من حيْثُ تُجْلَبُ البُقولُ التي ذكَرْناها. والسكَّرُ بها كَثيرٌ مجلوبٌ، وَسائرُ النِّعَمِ والطيِّباتِ من الرِّزْق، والحمدُ للهِ. وأَمَّا الحلْوَى فيُصْنَعُ منها أَنواعٌ غَريبةٌ من العَسَلِ والسكَّرِ المَعقودِ علَى صِفاتٍ شتَّى، وإِنهم يَصْنعون بها حِكاياتِ جميعِ الفواكهِ الرَّطبةِ واليابسةِ (أَيْ أَنَّهُمْ يعْملون حَلْواءَ على هَيْئةِ التِّينِ والعِنَب والرُّمَّان وغيرِها من الفاكِهَةِ). وفي الأَشهرِ الثَّلاثةِ: رَجَبٍ وَشعبانَ ورمضانَ، يتصِلُ منها أَسمِطةٌ بين الصَّفا والمَرْوَةِ. ولم يُشاهِدْ أَحدٌ أَكملَ مَنْظَرًا منها لا في «مصر» ولا في سِواها. قد صُوِّرَتْ منها تصاويرُ إنسانيةٌ وفاكِهِيَّةٌ، وجُلِيَت في مِنَصَّاتٍ كأَنها العَرائِسُ، ونُضِّدَت بسائرِ أنواعها المُنَضَّدِة المُلَوَّنَةِ، فتلوحُ كأَنها الأَزاهِرُ حُسْنًا، فتُقَيِّدُ الأَبصارَ، وَتَسْتَنْزِلُ الدِّرْهَمَ والدِّينارَ.
(٥) لُحومُ الضَّأْن
وَأما لُحومُ ضَأْنِها فهناك العجبُ العجيبُ، قد وَقَع القَطْعُ والجَزْمُ — من كلِّ سائحٍ تطَوَّف عَلَى الآفاقِ، وَضرب نواحيَ الأُقطارِ — أنها أطْيبُ لَحْمٍ يُؤْكَلُ في الدنيا. وما ذاكَ — والله أَعْلَمُ — إِلاَّ لِبَركةِ مَراعيها، هذا عَلَى إِفراطِ سِمَنِهِ. وَلوْ كان سِواهُ من لُحُومِ البلادِ يَنْتَهي ذلك المُنْتهَى في السِّمَن، لَلفَظتْهُ الأَفْواهُ وَعافَتْهُ وتجنَّبَتْهُ. والأَمرُ في هذا بالضِّدِّ: كلما ازداد سِمَنًا زادتِ النفوسُ فيهِ رغبةً وقَبولًا. فتَجِدُه هَنيئًا رَخْصًا (ليِّنًا طَرِيًّا) يذوبُ في الفَم قبل أن يُلاكَ مَضْغًا، ويُسْرِعُ — لِخِفَّتهِ — في المَعِدَةِ انضهامًا. وما أَرى ذلك إلا من الخواصِّ الغريبةِ. وبَركةُ البلدِ الأَمينِ قد تكلفتْ بِطيبِه. واللهُ يَجْعَلُ فيهِ رِزْقًا لِمَنْ تَشَوَّقَ بَلْدَتَه الحرامَ، وتمَنَّى هذه المَشاهِدَ العِظامَ، والمَناسِكَ الكِرامَ.
(٦) مَوْطِنُ الفاكهة
وهذه الفواكهُ تُجْلَبُ إِليها من الطَّائِفِ، وهي على مَسِيرَةِ ثلاثَةِ أَيامٍ مِنها — على الرِّفْقِ والتُّؤَدَةِ — كَما تُجْلَبُ من قُرًى حَوْلها. وأَقْربُ هذه المَواضعِ هُو من «مَكَّة» على مَسِيرَةِ يَوْمٍ — أَو أزيدَ قَليلًا — وهُو مِنْ بَطْنِ «الطَّائِف»، ويَحْتَوِي قُرًى كثِيرةً، ومِنْ «بَطْن مَرٍّ» (وَيُقالُ لَهُ: مَرُّ الظَّهْرانِ)، وهو على مسيرة يومٍ أَو أَقلَّ. ومن «نَخْلةَ»، وهي على مِثلِ هذه المَسافَةِ، ومن أَوْديةٍ بقربٍ منَ البلدِ، ﮐ«عَيْنِ سُليمانَ» وسِواها، قد جَلَبَ اللهُ إِليها مِنَ المَغاربَةِ — ذَوِي البَصارَةِ بالفِلاحَةِ والزِّراعةِ — فأَحدثُوا فيها بَساتينَ وَمَزارعَ، فكانوا أَحدَ الأَسْبابِ في خَصْبِ هذه الجِهاتِ، وذلك بِفَضْل الله وكرِيمِ اعْتِنائِه بِحَرمِهِ الكَرِيمِ، وبلَدِه الأَمِينِ.
(٧) الرُّطَبُ
والرُّطَبُ مِنْ أَغربِ ما أَلفَيْناهُ، فاسْتَمْتَعْنا بأَكْلِهِ، وأَجْرَيْنا الحَديثَ باستِطَابتِه، ولا سِيَّما لأنَّنا لَمْ نَعهدْهُ. وهو عندَهم بِمَنزلةِ التِّينِ الأَخْضَرِ في شَجَرِهِ، يُجْنَى ويُؤْكَلُ. وهو في نِهايَةٍ من الطِّيبِ والَّلذاذَةِ، لا يُسْأَمُ التَّفَكُّهُ به. وإِبَّانُه عِندَهُمْ عظيمٌ. يخرجُ الناسُ إليهِ كخُروجهم إلى الضَّيْعَةِ (الأَرْضِ المَزْرُوعة) أَو كخروجِ أَهلِ المَغربِ لقُراهم أَيَّامَ نُضْج التِّينِ والعِنَبِ. وعِنْدَ تَناهِي نُضْجِهِ يُبْسَطُ على الأَرضِ — قَدْرَ ما يَجِفُّ قَلِيلًا — ثُمَّ يُرْكَمُ بَعْضُه على بَعْض في السِّلالِ والظروفِ ويُرْفَعُ.
(٨) ظِلُّ الأَمن
ومنْ صُنْعِ اللهِ الجَميلِ لَنا، وفَضْلِهِ العَمِيمِ علَينا، أَنَّا وَصَلْنا إِلى هذه البَلْدَةِ المُكَرَّمةِ، فأَلْفَيْنا كلَّ مَنْ بها من الحُجَّاجِ المُجاوِرِينَ، ممَّن قَدُمَ عهدُه فيها، وطال مُقامُه بها، يَتحدَّثُ مُعْجَبًا بأَمْنِها من الحَرَّابةِ المُتَلَصِّصين فيها على الحاجِّ، المُختَلِسِينَ ما بأَيْدِيهِمْ، والذِينَ كانُوا آفَةَ الحَرَمِ الشَّرِيفِ، لا يَغْفُلُ أَحدٌ عن مَتاعهِ طَرْفةَ عَيْن إِلا اخْتُلِسَ من يَدَيْه، أَوْ مِنْ وَسَطِهِ، بِحِيل عجيبَةٍ، ولطَافةٍ غريبة. فما منْهُم إِلاَّ أَحَذُّ يَدِ القمِيصِ (خَفِيفُ اليَدِ، بارِعٌ في السَّرِقَةِ). فكفَى الله هذا العامَ شَرَّهم — إِلاَّ القَلِيلَ — وأَظهرَ أَميرُ البلدِ التَّشْديد عليهم، فتوَقَّفَ شَرُّهُم.
(٩) اعْتِدالُ الجوِّ
ونَعِمْنا بطيب هوائِها في هذا العامِ وفُتورِ حَمَارَّةِ قَيْظِها (شِدَّةِ حَرِّها) المَعهودِ فيها وانكسارِ حِدَّةِ سَمومها (رِيحها الحارَّة).
وكُنَّا نَبِيتُ في سطحِ المَوضعِ الذي كنا نسكُنه، فربَّما يُصيبنا من بردِ هواءِ الليلِ ما نَحْتاجُ معه إِلى دِثارٍ يَقِينا منه، وذلك أَمرٌ مُسْتَغْرَبٌ ﺑ«مَكَّةَ».
(١٠) وفرة الرخاءِ
وكانُوا أَيْضًا يتحدَّثُونَ بِكَثْرةِ نِعَمِها في هذا العامِ، وَلِينِ سِعْرِها، وأَنها خارقةٌ للعوائد السالفةِ عِندهم. وهذا في بلَد لا ضَيْعَة فيه (لَيْس فيه أَرْضٌ مزْرُوعة)، ولا قِوامَ معيشةٍ لأَهلهِ إلاَّ بالأَطْعِمةِ التي تُجْلَبُ إِليه من البِلاَدِ الأُخْرى. وهو أَمرٌ لا خَفاءَ بِيُمْنِه وبَرَكَتِهِ، على كثرةِ المُجاورينَ فيها في هذا العامِ، وانجلابِ الناسِ إِليْها، وتَوافُدِهِمْ عليْها.
فحدَّثَنا غَيْرُ واحد منَ المُجاوِرِينَ — الَّذِينَ لهُمْ بها سِنُونَ طائلةً — أَنَّهُمْ لم يَرَوْا هذا الجمعَ بها قَطُّ، ولا سُمِعَ بِمِثْلِهِ فيها.
(١١) ماءُ «زَمْزَمَ»
وما زالَ الناسُ فيها يُسَلْسِلُونَ أوصافَ أَحوالِها في هذه السنةِ وتَمْيِيزها عَمَّا سَلَف من السِّنِينَ، حتى تَغَالَوْا فَزَعَمُوا أَنَّ ماءَ «زَمْزَمَ» قد زاد عُذُوبةًً. وهذا الماءُ عَجِيبٌ في أَمرهِ، وذلك أَنَّكَ تَشْرَبه — حين يَخْرُجُ من قَرارَتِهِ — فتَجدُهُ في حاسَّةِ الذَّوْق كالَّلبَنِ عند خروجه دَفيئًا من الضَّرْعِ. وتلك فيهِ من اللهِ آيَة وعِنايَةٌ. أَرْوَى اللهُ منهُ كلَّ ظَامِيٍ إِليهِ.
ومن الأُمورِ المُجَرَّبةِ أنَّ الإِنسانَ رُبَّما وَجَدَ مَسَّ الإعْياءِ وفُتُورَ الأَعضاءِ، إِمَّا مِن كَثْرَةِ الطَّوافِ، أَوْ من عُمْرَةٍ يَعْتَمِرُها عَلَى قَدَمَيْهِ، أَوْ من غيرِ ذلك من الأَسبابِ المُؤَدِّيَةِ إلى تَعَبِ البَدَنِ، فيَصُبُّ من ذلك الماءِ علَى بَدَنِهِ، فيَجدُ الرَّاحةَ والنَّشاطَ لِحِينهِ، ويذْهَبُ عنه ما كان أَصابَهُ.