عاداتٌ وتقاليد
(١) في أَوائل الشهور
استهلَّ هلالُ شهر جُمادَى الآخِرَةِ ليلَةَ الأَرْبِعاءِ، ونحن بالحَرَم المُقدَّس. وفي صَبِيحتِها وافَى الأميرُ «مُكْثِرٌ» بأَتْباعِهِ وأَشياعِهِ عَلَى عادَتِهِ في أَوَّلِ الشَّهْرِ، وعَلَى ذلك الرَّسْمِ بِعَيْنِهِ، والزَّمْزَمِيُّ المغَرَّدُ بِثَنائِهِ والدُّعاءِ له — فوقَ قُبَّةِ «زمزم» — يَرْفَعُ صَوْتَهُ بالدُّعاءِ والثَّناءِ، عندَ كلِّ شَوْطٍ يَطُوفُهُ الأَميرُ — والقُرَّاءُ أَمامَهُ — إِلى أن فَرَغَ من طَوافِه، وأَخَذَ في طريقِ انْصِرافِهِ.
ولأَهْلِ هذه الْجهاتِ المَشْرِقِيَّةِ كلِّها سِيرَةٌ حَسَنَةٌ — عِنْدَ مُسْتَهَلِّ كلِّ شَهْرٍ من شُهُور الْعامِ — يَتَصافَحُونَ، ويهنيُ بعضُهمْ بعضًا، ويَتَغافَرُونَ، ويدعو بعضُهم لبعض — كفِعلهمْ في الأَعْيادِ — هكذا دائِمًا. وتلك طريقةٌ منَ الخَيْر، تُجَدِّدُ في النفوس الإِخْلاصَ، وتَسْتَمِدُّ الرحمةَ من اللهِ بِمُصافَحَةِ المُؤْمنين: بَعْضِهمْ بَعْضًا، وبرَكةِ ما ينَهادَوْنَهُ مِنَ الدُّعاءِ؛ والجَماعَةُ رَحْمَةٌ، ودعاؤُهُمْ — من اللهِ — بِمَكان.
(٢) الوزيرُ «جمالُ الدين»
ولهذهِ البَلْدَةِ حَمَّامانِ: أَحَدُهما يُنْسَبُ لأحَدِ الأَشْياخِ بالحَرَمِ والثاني وهو الأَكْبَرُ يُنْسَبُ ﻟ«جمالِ الدِّينِ»، وكان هذا الرجلُ عَلَى مِثل صِفَتهِ، أَعني: «جمالَ الدينِ».
وله ﺑ«مَكَّةَ» و«المَدِينَةِ» من الآثار الكَريمَةِ، والصَّنائِعِ الحَمِيدةِ والمَصانِعِ المَبنيَّةِ، ما لم يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِليهِ فيما سَلَفَ من الزمانِ.
وكان وزيرَ صاحبِ المَوْصِلِ، تَمادَى علَى هذه المَقاصدِ السَّنِيَّةِ، المُشْتَمِلَةِ عَلَى المَنافعِ العامَّةِ للْمُسْلمينَ، في حَرَمِ اللهِ وحَرَمِ رَسولهِ، أكثَرَ من خَمْسَ عشْرَةَ سنةً، لم يَزَلْ فيها باذِلًا أموالًا لا تُحصَى في بناءِ رباعٍ (مَنازِلَ) بمَكةَ، مُسبَّلَةٍ (مَجْعُولةٍ في سبيل الله) في طُرُقِ الخَيرِ والبِرِّ، مُؤَبَّدَةٍ مُحَبَّسَة (مَوقُوفةٍ دائمًا أَبَدًا) واخْتِطاطِ صَهاريجَ للمَاءِ، ووَضْعِ جِباب (حُفَرٍ) في الطُّرُقِ؛ يَسْتقِرُّ في كلِّ جُبٍّ (حُفْرَةٍ) منها ماءُ المَطَر، إِلى تَجديدِ آثارٍ من البِناءِ في الحَرَميْنِ الكَرِيميْنِ.
وكان من أَشرَفِ أَفعاله أنْ جَلَبَ الماءَ إلى «عَرَفاتٍ»، وعاهَد جماعَةَ العَربِ من سُكانِ تلك النَّواحي المَجْلُوبِ منها الماءُ، عَلَى أن يَمْنَحَهُم وظيفَةً كَبيرةً (مالًا مُرَتَّبًا) عَلَى ألاَّ يَقطَعُوا الماءَ عن الحاجِّ.
فلمَّا تُوُفِّيَ الرَّجلُ، عادُوا إلى عادَتِهم الذَّميمَةِ من قَطْعِهِ.
ومن مَفاخِرِهِ ومناقِبِهِ أَنهُ جَعلَ مَدينةَ الرَّسولِ ﷺ تحتَ سُورَينِ عتِيقَينِ، أنفَقَ فيهِما أَموالًا لا تُحصى كَثرةً.
(٣) تابوتُ الوزير
ومن أَعجبِ ما وَفَّقَه الله إليهِ أَنهُ جَدَّد أَبوابَ الحرَمِ كلَّها وجدَّد بابَ «الكَعبةِ» المُقَدَّسةِ، وغَشَّاه فِضَّةً مُذَهَّبةً، وهو الذي فيها الآنَ، وجلَّلَ العَتَبةَ المُبارَكةَ بلَوْحِ ذَهَبٍ إِبْريزٍ. وأخَذَا الباب القديمَ، وأَمَر بأنْ يُصنَعَ له منه تابوتٌ يُدْفَنُ فيهِ.
فلَما حانَتِ الوَفاةُ، أَوْصى بأَنْ يُوضَعَ في ذلك التَّابوتِ، ويُحَجُّ بهِ ميِّتًا. فسِيقَ إلى عرَفاتٍ وقُضِيَتْ له المَناسِكُ كلُّها، وكان الرَّجلُ — رحِمَهُ اللهُ — لم يَحُجُّ في حَياتِهِ. ثمَّ حُمِلَ إلى مدينةِ الرَّسولِ ﷺ، وبُنِيَتْ له رَوْضَةٌ بإِزاءِ روْضَةِ المُصطفَى ﷺ، وفُتح فيها مَوضِعٌ يلاحِظُ الرَّوْضَة المُقَدَّسَةَ، وأُبيحَ له ذلك — عَلَى شِدَّةِ الضَّنانَةِ بِمِثْلِه — لسابقِ أفعالهِ الكرِيمَةِ، ودُفِن في تلك الرَّوْضَةِ، وأَسعَدَه اللهُ بالجوارِ الكَرِيمِ، وخصَّهُ بالمُواراةِ (الدَّفْنِ) في تُرْبةِ التَّقْديسِ والتَّعظيمِ، واللهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنينَ.
(٤) كرَمُ الوزير
وكان من الآثارِ السَّنِيَّةِ لهذا الرَّجُلِ، أَنهُ عُنِيَ بإِصْلاحِ كثيرِ من طُرُقِ المُسلمين بجهةِ المَشرق، من العِراقِ، إِلى الشَّامِ إلى الحِجازِ. واسْتَنْبَطَ المِياهَ، وبَنَى الجِبابَ، واخْتَطَّ المَنازِلَ في المَفازاتِ(البِقَاعِ المُقْفِرةِ لا ماءَ فيها)، وأَمرَ بعِمارَتِها مأْوًى لأَبْناءِ السبيلِ، وكَافَّةِ المُسافِرِينَ. وابْتَنَى — بالْمُدُنِ المُتَّصِلة من العراقِ إلى الشَّامِ — فنادِقَ عيَّنَها لنزول الفُقَراءِ أَبناءِ السَّبيل الذين يضْعُفُ أَحدُهم عن تَأْدِيةِ الأَكْرِيَةِ (الأُجُورِ). وأَجْرَى عَلَى القائمينَ عَلَى تلك الفنادِقِ والمَنازِل ما يقُومُ بِمَعِيشَتِهم، وَعَيَّنَ لهم ذلك في وُجوهٍ وُقِفَتْ عليهم وتأَبَّدَت لهم (أَصْبَحَتْ لهم إلى الأبد).
فبقيَتْ تلك الرُّسومُ الكريمَةُ ثابتةً علَى حالها إِلى الآن. فسارتْ بجميلِ ذكْرِ هذا الرَّجلِ الرِّفاقُ. وكان مُدَّةَ حياتِه ﺑ«المَوْصِلِ» قدِ اتَّخذَ دارَ كَرامةٍ، واسعةَ الفِناءِ، فَسِيحةَ الأَرْجاءِ، يدعو إِليْها — كلَّ يومٍ — الجَفَلَى من الغُرَباءِ (يَدْعوهُم إِليْها دَعْوَةً عامَّةً) فيعُمُّهمْ شِبَعًا ورِيًّا، وَيَرِدُ الصَّادِرُ والوارِدُ من أَبناءِ السبيل — في ظِلِّهِ — عَيْشًا هنيًّا.
وَماتَ حميدًا سَعيدًا، والذِّكْرُ الجميلُ للسُّعَداءِ حياةٌ باقيةٌ، وَمدَّة من العُمْرِ ثانيةٌ، واللهُ الكفيلُ بجزاءِ المُحْسنين إلى عِبادهِ.
(٥) الإِصلاح في الحرمِ
ومنَ الأُمورِ الغَرِيبة المُتَّبَعةِ بهذه الحرَمِ الشريفِ أنَّ النفقةَ فيهِ مَمْنوعَةٌ، لا يجدُ المُتَأَجِّرُ (طالِبُ الأَجْرِ والثَّواب) — من ذَوِي اليسار — إِليْها سَبيلًا، وَلا يُؤْذَنُ لهُ بتَجْديدِ بناءٍ، أَو إِقامَةِ جِدارٍ، أَو غيرِ ذلكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بالحرَمِ المُبَارَك.
وَلوْ كان الأَمرُ مُباحًا في ذلكَ، لَجَعَلَ الرَّاغِبونَ في نَفَقاتِ الْبرِّ من أَهل الْجِدَةِ واليَسارِ — حِيطانَه عَسْجدًا، وتُرابَه عَنْبرًا.
لكنَّهم لا يجدون السبيلَ إلى ذلك. فمَتى ذهبَ أَحدُ أَرْباب الدُّنْيا إِلى تَجْديدِ أَثرٍ من آثاره، أَو إِقامَةِ رسمٍ كريمٍ منْ رُسومِه، أخذَ إِذْنَ الخَليفَةِ في ذلك. فإِن كان الأَثَرُ مِمَّا يُنقَشُ علَيْهِ، أو يُرسَمُ فِيهِ، طُرِّزَ باسْمِ الخَليفَةِ، ونُفُوذِ أَمْرِهِ بِعَمَلِه، ولم يُذْكَرِ اسْمُ المُتَوَلِّى لِذلك. ولابُدَّ — مع هذا — من بَذْلِ حَظٍّ وافرٍ من النَّفَقَةِ لأَميرِ البلَدِ، رُبَّما يُوازِى قَدْرَ المَنْفُوقِ فيهِ، فَتَتَضاعفُ المُؤْنَةُ على صاحِبِه، وحينئذ يصِلُ إلى غَرضِهِ من ذلك.
(٦) حِيلةُ العجَميِّ
وَمنْ أَغْرَبِ ما اتَّفَقَ لأَحدِ دُهاةِ الأَعاجِمِ — ذَوِي المُلْكِ والثَّراءِ — أَنَّهُ وَصَلَ إلى الحَرمِ الكريمِ، في العَهْدِ الَّذي وَلِيَ فيه الأَمْرَ جَدُّ الأَمير «مُكْثرٍ»، فرأَى العَجَمِيُّ تَنُّورَ بئرِ «زَمْزَمَ» (فَمَها) وقُبَّتَها على صِفَةٍ لم يَرْضَها. فاجْتَمع بالأَميرِ، وقال: «أُريدُ أَنْ أَتَأَنَّقَ في بناءِ تَنُّورِ «زمزم» وطَيِّهِ (بنائِه بالحِجارة) وتجديدِ قُبَّتِهِ، وأَبْلُغَ في ذلك الغايةَ المُمْكِنةَ، وأُنْفِقَ فيهِ منْ صَمِيمِ مالي. ولك عَلَيَّ في ذلك شَرْطٌ أَبْلُغُ — بالْتِزامِه لك — غَرَضَ المَقْصُودِ، وهو أَنْ تَجْعلَ ثِقَةً من قِبَلِكَ يُقَيِّدُ مَبْلَغَ النَّفَقَةِ في ذلك، حتى يَسْتَوْفِيَ البناءُ التَّمامَ، وتَبلُغَ النفقةُ مُنْتهاها. ومَتَى أَحْصَيتَها بذَلْتُ لك مِثْلَها، جزاءً على ما يَسَّرْتَهُ لي من سُبُلِ الإِصلاحِ».
فاهْتَزَّ الأَميرُ طَمَعًا، وعلِم أنَّ النَّفَقَةَ — في ذلك — تنْتَهِي إِلى آلاف من الدَّنانِيرِ، فأَباحَ له ذلك، وأَلْزَمَهُ مُقَيِّدًا يُحْصِي قلِيلَ الإِنْفاقِ وكَثيرَه. وَشَرع العَجَمِيُّ في بِنائِه، واحتَفلَ وبذَلَ كُلَّ ما في وُسْعِهِ في التَّأَنُّقِ، فِعلَ مَنْ يَقصِدُ بفِعْلِهِ ذاتَ اللهِ — عزَّ وجَلَّ — ويُقرِضُهُ قرْضًا حَسنًا. وكان المُقَيَّدُ يُسَوِّدُ طَوامِيرَهُ (صَحائِفَهُ)، والأَميرُ يَتَطلَّعُ إِلى ما لَدَيْهِ، ويُؤَمِّلُ لِقَبْضِ تلك النفقاتِ الواسعةِ، إِلى أَنْ فَرَغَ البِناءُ.
فلمَّا لم يَبْقَ إِلا أَنْ يُصَبِّحَ الأَمِيرُ صاحِبَ النَّفَقَةِ بالْحِسابِ، ويَسْتَقْضِيَ منهُ العَدَدَ المُجْتَمِعَ فيها، هرَب العَجَمِيُّ، وخلا منهُ المَكانُ، وركِبَ الَّليلَ جَملًا، وأَصبحَ الأَميرُ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ نَدَمًا، ويضربُ صَدْرَهُ حَسْرَةً وأَلَمًا.
ولم يُمْكِنْهُ أَنْ يُحْدِثَ في بِناءٍ — وُضِعَ في حَرمِ اللهِ تعالى — حادِثًا يُحِيلُهُ، أو نقصًا يُزِيلُهُ.
وفازَ الرجلُ بثوابِهِ، وتكفَّلَ الله بِه في انْقِلابِه، وتحسينِ مآبِه، وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
وبقِيَ خَبَرُ هذا الرَّجُلِ مَعَ الأَميرِ يُتَهادَى غرابَةً وعَجَبًا (يُهْدِيه بَعْضُ النَّاس إلى بَعْضٍ لغَرابتِهِ الَّتي تدعو إِلى العَجِبِ)، ويَدْعو له كلُّ شاربٍ من ذلكَ الماءِ المُبارَكِ.
(٧) المَوْسِمُ الرَّجبيُّ
اسْتَهَلَّ هلالُ رَجَبٍ، ليلةَ الخميسِ المُوَفِّي عِشْرِينَ لشهرِ أُكْتُوبَرَ بشَهادةِ خَلْق كَثير من الحُجَّاجِ المُجاوِرينَ.
والأَشْرافُ أَهلُ مكة ذكروا أَنهم رأَوْهُ بِطَريقِ العُمْرَةِ، ومن جَبَل «قُعَيْقِعانَ» وجبلِ «أَبي قُبَيْسٍ»؛ فَثَبَتَتْ شهادتُهم بذلك عند الأَميرِ والقاضِي. وأَمّا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ فلَمْ يُبْصِرْهُ أَحَدٌ. وهذا الشَّهْرُ المُبارَكُ — عندَ أهْلِ «مكةَ» — مَوْسِمٌ من المَواسم المُعَظَّمَةِ، وهو أَكْبرُ أَعْيادِهِم. ولم يزالوا على ذلك — قديمًا وحديثًا — يَتَوارَثُه خَلَفٌ عن سَلَفٍ، مُتَّصِلًا ميراثُ ذلك إِلى الجاهِليَّةِ.
وهو أَحدُ الأَشْهُرِ الحُرُمِ، وكانوا يُحَرِّمون القِتالَ فيه.
(٨) العُمْرة الرجبِيَّة
والعمرةُ الرَّجبِيَّةُ عندهم أُختُ الوَقفَةِ العَرَفيَّةِ، لأَنهم يَحتَفلون لها الاحتِفالَ الذي لم يُسمَعْ بمِثلِه. ويُبادِرُ إِليها أَهلُ الْجِهاتِ المُتَّصِلَِة بها، فيجتَمعُ لها خَلقٌ عظيمٌ لا يُحْصِيهم إلا اللهُ.
فَمن لا يُشاهِدْها ﺑ«مَكَّةَ» لم يُشاهِدْ مَرأًى يُستَهدَى ذكْرُه غَرابةً وعَجَبًا. شَاهَدْنا من ذلك أَمْرًا يَعجِزُ الوصْفُ عنهُ. والمقصُودُ منهُ الَّليلَةُ التي يَستهِلُّ فيها الهِلالُ مع صبيحَتها، ويَقَعُ الاستِعدادُ لها من قبْل ذلك بأَيَّامٍ. فأَبْصَرْنا من ذلك ما نَصِفُ بعْضَهُ — عَلَى جِهةِ الاختِصارِ — وذلك لأَنَّا عايَنَّا شَوارعَ «مكةَ» وأَزِقَّتَها، من عَصْرِ يوْمِ الأَربِعاءِ — وهي العَشِيَّةُ التي ارْتُقِبَ فيها الهِلالُ — قد امتَلأَتْ هَوادجَ، مَشْدودةً عَلَى الإِبلِ، مكْسُوَّةً بأَنواعِ كِساءِ الحريرِ وغيرِها — من ثِيابِ الكَتَّانِ الرَّفِيعةِ — بِحسَبِ سَعَةِ أحوالِ أصحابها ووَفْرِهِم (غِناهُم)، كلٌّ يتأَنَّقُ ويَحتَفِلُ بقَدرِ اسْتطاعَتِهِ. فأخَذُوا في الخُروجِ إِلى التَّنعِيمِ — مِيقاتِ المُعتَمرِينَ — فسالَتْ تلك الهَوادجُ في أَباطِح «مكةَ» (أَوْدِيتِها) وشعابِها، والإِبلُ قد زُيِّنَتْ تَحتَها بأَنواعِ التَّزْيينِ، وأُشعرَتْ (وُضِعَ لها شِعارٌ) بغيرِ هَدْيٍ (دُون أن تكُونَ مُهْداةً إِلى الْحَرَمِ)، بقلائدَ رائقَة المَنظَرِ من الحريرِ وغيرِه. ورُبَّما فاضَتِ الأَستارُ التي عَلَى الهَوادجِ، حتى تَسْحَبَ أَذيالَها عَلَى الأَرْضِ.
(٩) بنتُ عمَّة الأَميرِ
ومن أَغرَبِ ما شاهَدْناهُ من ذلك هَوْدَجُ الشَّرِيفَةِ «جُمانَةَ»: بنتِ عمَّةِ الأمِير «مُكْثرٍ»؛ فإنَّ أذيالَ سِتْرِهِ كانت تنْسَحِبُ عَلَى الأَرْضِ انْسِحابًا. وغيرُه من هوادج حرمِ الأميرِ، وحرمِ قُوَّادِهِ، إلى غيرِ ذلك من هوادجَ لم نَسْتَطِعْ تَقْيِيد عِدَّتِها، عَجزًا عن الإِحْصاءِ.
فكانت تَلوحُ على ظهورِ الإِبِلِ كالقِبابِ المَضْروبَةِ، فيخَيَّل للناظرِ إليْها أنها مَحَلَّةٌ قد ضُربت أَبنيتُها من كل لوْن رائقٍ. ولم يَبْقَ — ليلةَ الخميسِ هذه — ﺑ«مَكَّةَ»، إلا منَ خَرَجَ للعُمْرَةِ من أهْلِها، ومنَ المجاورينَ. وكُنّا في جُمْلَةِ مَنْ خَرَجَ، فكدْنا لا نتَخَلَّصُ إلى مَسْجدِ «عائِشَةَ» من الزِّحامِ، وانْسِدادِ ثَنِيَّاتِ الطَّرِيقِ بالهَوادجِ. والنِّيرانُ قد أُشْعِلَت بِحافَتَيِ الطَّريقِ كُلِّه، والشَّمَعُ يَتَّقِدُ بينَ أَيْدِي الإِبِلِ التي عليْها هوادِجُ من يُشارُ إليهِ من عَقائلِ نِساءِ «مكَّةَ» فلمَّا قَضَيْنا العُمْرَةَ وَطُفْنا، وَجئْنا للسَّعْيِ بين الصَّفا والمَرْوَةِ — وَقد مَضَى هَدْءٌ (جانب) من الَّليْلِ — أَبْصَرْناهُ كُلَّهُ سُرُجًا (مَصابِيحَ) ونِيرانًا. وقَدْ غَصَّ بالسَّاعينَ والسَّاعِياتِ عَلَى هَوادهنِّ. فكُنَّا لا نَتَخَلَّصُ إلا بينَ هَوادِجِهِنَّ وبينَ قوائمِ الإِبلِ، لِكثْرَةِ الزِّحام واصْطكاك الهَوادج — بَعْضِها عَلَى بَعْضٍ — فعايَنَّا ليلةً هي مِنْ أغْرَبِ ليالِي الدُّنْيا.
فمنْ لم يُعايِنْ ذلك لم يُعاينْ عَجبًا يُحَدِّثُ به، ولا عَجَبًا يُذَكِّرُهُ مَرْأَى الحشْرِ يوْمَ القيامةِ، لكَثْرَةِ الخلائقِ فيهِ، مُحرِمين، مُلَبِّين، داعِين إلى اللهِ ضارِعينَ. والجبالُ المُكَرَّمةُ التي بِحافتَيِ الطَّريقِ تُجيبُهُم بِصداها، حتى اسْتَكَّتِ المسامعُ (أُصِيبَتْ بالصَّمَمِ)، وسُكِبَتْ — مِن هَوْلِ تلكَ المُعاينَةِ — المَدامعُ، وَذابَتِ القلوبُ الخواشعُ. وفي تلكَ الليْلَةِ مُلِئَ المَسجِدُ الحرامُ كُلُّه سُرُجًا، فَتَلأْلأَ نُورًا.
(١٠) مِهْرَجانُ الرُّؤْيَةِ
وَعنْدَ ثُبوتِ رُؤْيةِ الهِلالِ — عنْدَ الأَميرِ — أَمرَ بضَرْب البُوقاتِ والدَّبادِب (الطُّبولِ)، إِشْعارً بأَنَّها ليلَةُ المَوْسِمِ.
فلَمَّا كانَتْ صَبيحةُ ليلَةِ الخميسِ، خَرَجَ إلى العُمْرة في احْتِفالٍ لم يُسْمَعْ بِمِثلْهِ، انْحَشَدَ له أهلُ «مكةَ» علَى بَكْرَةِ أَبيهِمْ، فخَرَجوا — عَلَى أَقْدارِهم وَمراتبهِمْ — قبيلةً قبيلَةً، وَحارَةً حارَةً، شاكِينَ الأَسْلِحَةَ (حامِلينَ لَها) فُرْسانًا ورجَّالةً (راكِبينَ للأَفراسِ ومُشاةً). فاجْتَمَعَ منهم عددٌ لا يُحْصَى كثرةً، يَتَعَجَّبُ المُعايِنُ لهُمْ لِوُفورِ عَددهم، فلَو أَنهم من بلاد جَمَّة لكانوا عَجبًا، فكيْفَ وَهُمْ من بلَدٍ واحدٍ. وكانوا يَخْرُجون عَلَى تَرْتيب عَجيب، والرَّجَّالَةُ يَتَواثَبون، ويَتثاقَفُون (يتضارَبُون) بالأَسْلِحَةِ في أَيْدِيهم: حِرابًا وسُيوفًا وحَجَفًا (والْحَجَف: قِطَعٌ مِن جُلودٍ بلا خَشَب وَلا حَبْل، يُتَّقَى بها مِنَ السُّيُوف). وَهُمْ يُظْهرُونَ التَّطاعُنَ بَعْضُهم لبَعْض، والتَّضارُب بالسُّيوفِ، والمُدافعةَ بالحَجَفِ التي هي لهم مِجَنٌّ (وِقايَةٌ) يَسْتَجِنُّونَ به (يَتَّقون). وأَظْهَرُوا من الحِذْقِ بالثِّقافِ والجِلادِ (المُلاعَبَةِ بالأسلحة والسيوف) كُلَّ أَمرٍ مُسْتَغْربٍ.
(١١) موكِبُ الأَمير
وكانوا يَرْمونَ بالحِرابِ إلى الهواءِ، ويُبادِرونَ إليْها لَقْفًا بأَيْدِيهِمْ — وهيَ قد تَصَوَّبَتْ أَسِنَّتُها على رُءوسِهِمْ — وَهُمْ في زِحام لا يُمْكِنُ فيهِ المَجالُ (السَّيْر)، ورُبَّما رَمَى بعضُهم بالسُّيوفِ في الهواءِ، فيتلَقَّوْنها — قَبْضًا علَى قوائِمها — كأَنَّها لم تُفارِقْ أَيْدِيَهُمْ، إلى أَن خَرَجَ الأَميرُ، يَزْحَفُ بَيْنَ قوَّادِهِ، وأَبناؤُهُ أَمامَهُ — وقدْ قارَبوا سِنَّ الشَّبابِ — والرَّاياتُ تخفُقُ أَمامهُ، والدَّبادِبُ (الطُّبولُ) بيْنَ يديْهِ، والسَّكينةُ والوَقارُ تَفيضان عليهِ، وقدِ امْتَلأَتِ الجبالُ والطُّرُقُ والثَّنِيَّاتُ (مَطالعُ الجبالِ، وأَعالِي الطُّرُقِ) بالنَّظَّارَةِ من جميعِ المُجاورينَ. فلَمَّا انْتهى إِلى المِيقاتِ (مَوْضِعِ الإِحْرامِ)، وَقَضى غَرضَهُ، أَخذ في الرُّجُوعِ، وَقد تَرتَّبَ العَسْكرانِ بين يَدَيْهِ علَى لَعِبهِمْ ومرَحِهم، والرَّجَّالةُ عَلَى ما وَصفنا من التَّجاوُل والمُصاوَلَةِ، وَقدْ ركِبَ جُمْلَةٌ من أَعْرابِ البَوادِي نُجُبًا (جِمالًا كريمةً) لَم يُرَ في الجِيادِ أَجمَلُ مَنظرًا منها. وَرُكَّابُها يُسابِقونَ الخيْلَ بِها بين يَدَيِ الأَمير، رافِعينَ أَصْواتَهُمْ بالدُّعاءِ له والثَّناءِ عليهِ، إلى أنْ وَصلَ المَسْجِدَ الحرامَ. فطافَ ﺑ«الكَعْبةِ» والقُرَّاءُ أمامَهُ، والمُؤَذِّنُ الزَّمْزَمِيُّ يُغَرِّدُ في سَطْحِ قُبَّةِ «زَمْزَمَ»، رافعًا عَقيرتَه (صَوْتَه) بتهنِئَتِه بالمَوْسمِ، والثَّناءِ عليهِ، والدُّعاءِ له عَلَى العادَةِ.
(١٢) بَعد الطَّواف
فلمَّا فَرَغ من الطَّوافِ، صلَّى عند «المُلْتزَمِ»، ثم جاءَ إِلى المَقامِ وصلَّى خلفَهُ، وقد أُخْرِجَ له من الكعبةِ وَوُضِعَ في قُبَّتِهِ الخشبيةِ التي يُصلَّى خلْفَها. فلما فرَغَ من صَلاتهِ رُفِعت له القُبَّة عن المَقامِ، فاستلمهُ (قَبَّلَهُ) وتَمَسَّحَ به، ثم أُعيدت القبةُ عليه. وأَخذَ في الخُروجِ عَلَى باب «الصفا» إلى «المَسْعَى»، فسعى راكِبًا والقوادُ مُطِيفُونَ به والرَّجَّالَةُ أَمامَه. فلمّا فرَغَ من السعي اسْتُلَّتِ السيوفُ أَمامَه، وأَحدَقت به الأَشياعُ (التَّابِعُون)، وتَوَجَّه إِلى مَنْزِله — عَلَى هذه الحالة الهائلَةِ — مُتْعبًا، وبقِيَ المَسْعى — يَومَه ذلك — يَمُوجُ بالسَّاعِينَ والسَّاعِياتِ.
(١٣) في طريق العُمْرَة
فلمَّا كان اليَوْمُ الثَّاني — وهو يومُ الجُمُعَةِ — كانَ طَريقُ العُمْرَة في العِمارةِ والزِّحامِ قريبًا من أَمْسِهِ: راكبين وماشين رِجالًا وَنِساءً. والنساءُ الماشياتُ المُتَأَجِّراتُ كثيراتٌ يُسابِقْنَ الرجالَ في تلك السَّبِيلِ المُبارَكَةِ. وفي أَثناءِ ذلك يُلاقِى الرِّجالُ بعضُهُم بَعْضًا، فَيَتَصافَحُونَ ويتَهادَوْنَ الدُّعاءَ والتَّغافُرَ بينهم، والنِّساءُ كَذلك. والكلُّ منهم قد لَبِس أَفْخَر ثيابهِ، واحْتَفَلَ احْتِفالَ أَهْلِ البِلادِ للأَعيادِ.
(١٤) البَلَدُ الأَمين
وأَمَّا أَهلُ البَلَدِ الأَمينِ، فهذا المَوْسِمُ عِيدُهم، له يُعَبُّون (يُجَهِّزُون)، وبه يَحْتَفِلُون، وفي المُباهاةِ فيهِ يَتَنافَسُون، ولهُ يُعظِّمون. وفيه تَنْفُقُ أِسواقُهم، وتَرُوجُ صَنائِعُهم. يُقَدِّمون النَّظَر في ذلك والاسْتِعدَادَ له بأَشْهُرٍ.
ومنْ لَطِيفِ صُنْعِ الله بحَرمِهِ الأَمينِ أَنَّ قَبائلَ مِنَ اليَمَنِ — أَهْلَ جِبالٍ حَصِينَة — تُعْرَفُ بالسَّرَاةِ، يَستعِدُّونَ للوصولِ من «اليمنِ» إِلى هذه البَلْدَةِ المُبارَكَةِ قَبْلَ حُلُولها بعَشَرَةِ أَيَّام، فيَجْمَعُونَ بَيْنَ النِّيَّةِ في العُمْرةِ ومِيرَةِ البَلَدِ (تَوْفيرِ الزَّادِ لَهُ) بِضُرُوبٍ من الأَطْعمةِ، كالْحِنْطَةِ وسائرِ الحبوبِ، إِلى اللُّوبِياء إلى ما دُونَها، ويَجْلُبُون السَّمْنَ والعَسَلَ والزَّبيبَ والَّلوْزَ.
فتجمعُ مِيرتُهم (طَعامهم) بين الطَّعامِ (القمح والإِدام) وهو ما يُجْعل مع الْخبز من أَلْوان المَأْكُولِ والفاكِهَةِ، ويَصِلُون في آلافٍ من العَدَدِ رجالًا وجِمالًا مُوقَرةً مُثْقَلَةً (بجميعِ ما ذُكِرَ)، فَيُرْغِدُونَ مَعايِشَ أَهْلِ البَلَدِ والمجاوِرينَ فيه: يَتَقَوَّتُون ويَدَّخرون، وتَرْخُص الأَسْعارُ وتَعُمُّ المَرافِقُ، فيُعِدُّ منها النَّاسُ ما يَكفِيهم لعامِهم إِلى مِيرَة أُخْرَى. ولولا هذه المِيرةُ لكانَ أَهلُ «مكةَ» في شَظَفِ (ضَيق وخُشُونَةٍ) من العَيْشِ.
(١٥) البَيع بالمُقايَضَة
ومن العَجَب — في أَمْرِ هؤلاءِ المائِرينَ — أَنَّهُمْ لا يَبِيعُون من جميع ما ذَكَرْناهُ بِدِينارٍ ولا بِدِرْهَمٍ، إِنما يَبِيعُونَهُ بالخِرَقَ والعَباءَاتِ والشِّمَلِ (جَمْعِ شَمْلَةٍ، وهِيَ كِساءٌ واسعٌ يُشْتَمَلُ بهِ).
فأَهلُ «مكةَ» يُعِدُّون لهم — مَعَ هذا — الأَقْنِعةَ (جمعَ قِناع) والمَلاحِفَ المِتان (المُحْكَمَة الصُّنْعِ) وما أشْبَهَ ذلك مما يلْبَسُهُ الأَعْرابُ، ويُبايِعُونَهُم به ويُشارونَهُم. وبِلادُهم — عَلَى ما ذُكِرَ لنا — خَصِيبَةً مُتَّسِعَةً، كثيرةُ التِّينِ والعِنَبِ، واسِعَةُ المُحَرَّثِ (المَزْروع) وافرةُ الغَلاَّتِ. وقد اعْتَقَدُوا اعْتِقَادًا صَحِيحًا أَنَّ البَرَكَةَ كلَّها في هذِهِ المِيرَةِ التي يجْلُبونَها. فهُمْ من ذلك في تِجارَة رابِحَة مع اللهِ عزَّ وجَلَّ.
(١٦) طَواف السَّراةِ
وهؤُلاءِ السَّراة عَرَبٌ صُرَحاءُ فُصَحاءُ، جُفاةٌ (غِلاظُ العِشْرةِ) أَصِحَّاءُ، لم تُغَذِّهِم الرِّقة الحَضَرِيَّةُ، ولا هذَّبْتُهُم السِّيَرُ المَدَنِيَّةُ، ولا سَدَّدَت مقاصدَهم السُّنَنُ الشَّرْعيَّةُ فلا تَجدُ لَدَيْهم — مِنْ أَعْمالِ العِباداتِ — سِوَا صِدْق النِّيَّةِ. فَهُمْ — إذا طافُوا بالكَعْبَةِ المُقَدَّسَةِ — يتطارَحُون عليْها تَطارُحَ البنِينَ على الأُمِّ المُشْفِقَةِ، لائِذِينَ بجِوارِها، مُتعلِّقِينَ بأَسْتارها. فحَيْثُما عَلِقت أَيْديهِم منْها تَمَزَّقَ، لِشِدَّةِ اجْتذابِهِم لها، وانكِبابهم عليْها.
وفي أَثْناءِ ذلك تَصْدَعُ أَلْسِنَتُهم (تَجْهَرُ) بأَدْعية تتصَدَّعُ لها القُلُوبُ (تَتَشَقَّقُ)، وتَتَفَجَّرُ الأَعْيُنُ الجَوامِدُ، فتَصُوبُ دُموعُها (تَسِيل).
فترَى الناسَ حَوْلَهم باسِطِي أَيْدِيهم، مُؤَمِّنِينَ على أَدْعيتِهِمْ، مُتلقِّنِينَ لها من ألسنتِهم.
على أَنَّهم — طُولَ مُقامِهِم — لا يَتَمكَّنُ معهم طَوافٌ، ولا يُوجَدُ سبِيلٌ إلى اسْتِلام الحجرِ (تَقْبِيلِهِ). وإِذا فُتِحَ البابُ الكريمُ فهُمُ الدَّاخلُونَ بِسَلامٍ. فتراهُمْ — في مُحاوَلَةِ دُخُولهم — يتسلسَلُونَ كأَنَّهُم مُرْتَبِطونَ، يتَّصِلُ منهُمْ — على هذه الصِّفَةِ — الثَّلاثُونَ والأَرْبَعُونَ، إلى أَزْيَدَ من ذلك. والسَّلاسِلُ منهم يتْبَعُ بعضُهم بعضًا. ورُبَّما انْفَصَمَتْ بواحِدٍ منهم يَميلُ عن المَطلَع المُبارَكِ إلى البَيتِ الكَرِيمِ، فيَقَعُ الكلُّ لوُقوعِه.
فيُشاهِدُ النَّاظِرُ لذلك مَرْأًى يُؤَدِّي إِلى الضَّحِكِ.
(١٧) صَلاة السَّراةِ
أمَّا صلاتُهم، فلم يُذكَرْ في مُضْحِكاتِ الأَعْراب أَظْرَفُ منها. وذلك أنَّهُمْ يَسْتَقبِلُون البيتَ الكريمَ، فيسْجدُونَ — دُونَ رُكوع — ويَنْقُرُون بالسُّجودِ نَقْرًا. ومنهم من يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الواحِدَةَ، ومنهم مَنْ يَسْجدُ الثِّنْتَيْنِ والثَّلاثَ والأَرْبَعَ؛ ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءوسَهم من الأَرْضِ قَلِيلًا — وأَيْدِيهم مَبْسُوطةٌ عليْها — ويلتَفِتُون يَمِينًا وَشِمالًا، الْتِفاتَ المُرَوَّعِ الخائِفِ، ثُمَّ يُسَلِّمُونَ، أو يَقُومونَ دونَ تسليمٍ ولا جُلوس للتَشَهُّدِ.
وربَّما تكلَّموا، في أَثناءِ ذلك. وربَّما رَفعَ أَحدُهُمْ رَأْسَهُ من سُجودِهِ إلى صاحِبِه، وصاحَ بهِ، ووَصَّاهُ — بِما شاءَ — ثُمَّ عادَ إلى سُجودِهِ، إلى غَيْرِ ذلك من أَحوالِهم الغريبَةِ.
(١٨) بَداوة السَّراةِ
ولا مَلبَسَ لهم سِوى أُزُرٍ وَسِخَة (والأُزُرُ: جَمْعُ إزار، وهو ثوبٌ يُتَغطَّى به)، أو جُلودٍ يَستتِرونَ بها. وهُم — مع ذلك — أَهلُ بأْسٍ ونَجْدةٍ، لهُم القِسِيُّ العَربيَّةُ الكبارُ، لا تُفارِقُهم في أِسفارِهم. فمتى رَحَلوا إلى الزِّيارَةِ هابَ أَعرابُ الطَّريق، المُمْسِكُونَ للحاجِّ مَقدمَهم، وتَجنَّبوا اعتِراضَهُمْ، وخلَّوْا لهُم عن الطَّرِيقِ. ويَصحَبُهم الحُجَّاجُ الزَّائِرُونَ، فَيَحْمَدُونَ صُحْبتَهم.
وعَلَى ما وَصَفْنا من أَحوالِهِم، فهُمْ أَهلُ اعتقاد للإيمانِ صَحيحٍ.
وذُكِرَ أَنَّ النبيَّ ﷺ ذكَرَهم وأَثنَى عليهِم خَيرًا، وقال: «عَلِّموهُم الصَّلاةَ، يُعلِّموكُم الدُّعاءَ».
(١٩) سَليقةُ العَرَب
وشاهَدْنا منهم صَبِيًّا في الحِجْرِ، قد جلَس إِلى أَحدِ الحُجَّاجِ يُعلِّمُه فاتحةَ الكِتابِ وسُورةَ الإِخلاصِ، فكان الحاجُّ يقولُ له: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فيقول الصَّبيُّ: «اللهُ أَحَدٌ».
فيُعيدُ عليه المُعَلِّمُ. فيقولُ له: «أَلَمْ تأْمُرُنِي بأن أَقولَ: هُوَ اللهُ أَحَدٌ؟ قد قُلْتُ».
فكابَدَ في تَلقِينِهِ مَشَقَّةً. وبعدَ لأَيْ مَّا (تَعَب) عَلِقَت بِلسانِه. وكان الحاجُّ يقولُ له: «بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ. الحَمْدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ»، فيقولُ الصَّبيُّ: «بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ والحَمدُ للهِ»، فيُعيدُ عليهِ المُعَلِّمُ، ويقولُ له: «لا تقُلْ: والْحمدُ للهِ. إِنّما قُلِ: الحمدُ للهِ»، فيقولُ الصَّبيُّ: «إِذا قلتُ: بِسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم؛ أَقولُ: والحمدُ للهِ، للاتِّصالِ. وإذا لم أَقُلْ: بِسمِ اللهِ، وبَدَأْتُ، قلتُ: الحمدُ للهِ».
فعَجبنا من أَمرِه ومن مَعرِفتِهِ — طَبْعًا — بِصِلةِ الكلامِ وفَصْلِهِ، دُونَ تَعلُّمِ.
وأَمَّا فَصاحَتُهم فبَديعةٌ جدًّا، ودُعاؤُهم كَثيرُ التَّخْشِيعِ للنُّفوسِ، واللهُ يُصلِحُ أَحْوالَهم وأحوالَ جَميعِ عِبادِه.
(٢٠) الاِحتفال بالعُمرة
والعُمرةُ في هذا الشَّهرِ كلِّه مُتَّصلَةٌ لَيلًا ونَهارًا — رِجالًا ونساءً — لكنَّ المُجْتَمَعَ كلَّه إِنما كان في الليلَةِ الأُولَى، وهي ليْلةُ المَوْسِمِ عِندَهُمْ. والبيْتُ الكَريمُ يُفتَحُ كلَّ يوْمٍ من هذا الشهر المُبارَكِ. فإِذا كان اليوْمُ التاسِعُ والعِشرُونَ منهُ، أُفَرِدَ للنِّساءِ خاصَّةً، فيَظْهَرُ لَهُنَّ ﺑ«مَكَّةَ» في ذلك اليوْمِ احتِفالٌ عَظيمٌ. فهوعِندَهم يوْمُ زينتِهم المَشْهُورُ، المُستعَدُّ له. وفي يوْمِ الخَميسِ الخامسَ عَشَرَ من هذا الشَّهر، شاهَدنا — من الاحتفَالِ للعُمْرةِ — قريبًا من المَشْهَدِ الأَوَّلِ المَذكُورِ في أَوَّلِ الشَّهر، فكان لا يَبْقَى أَحدٌ — من الرِّجالِ والنِّساءِ — إلا خَرَجَ لها. وبالْجُمْلةِ فالشَّهرُ المُبارَكُ كلُّه معمُورٌ بأَنواعِ العِباداتِ، من العُمْرةِ وسِواها.
ويَختصُّ أَوَّلُه ونِصفُهُ من ذلك بحَظٍّ مُتَمَيِّز. وكذلك السَّابعُ والعِشرونَ منهُ. وفي عَشِيِّ يوْمِ الخميسِ المذكُورِ كُنَّا جُلوسًا بالْحِجْر المكَرَّمِ؛ فما راعَنا إلا الأَمِيرُ «مُكْثِرٌ» طالعًا مُحْرِمًا، قد وَصَل من مِيقاتِ العُمْرة — تَبرُّكًا بذلك اليوْمِ، وجَرْيًا فيهِ علَى الرَّسْمِ — وأَبنَاؤُه وراءَه مُحْرمينَ، وقد حَفَّ به بَعضُ خاصَّتِهِ. وبادَرَ المُؤَذِّنُ الزَّمْزَمِيُّ — للْحِينِ — إِلى سَطْحِ قُبَّةِ «زمزم» داعِيًا عَلَى عادتِه، مُتَناوِبًا في ذلك مع أَخِيهِ. وحانَتْ صَلاةُ العِشَاءِ مع فَراغِ الأَميرِ من طَوافِهِ، فَصَلَّى خَلْفَ الإمامِ الشَّافِعِيِّ، وخَرَجَ إلى المَسْعَى المُبارَك.
(٢١) الزيارة النَّبَوِية
وفي يَوْمِ الجُمُعَةِ السَّادسَ عَشَرَ منهُ، خَرَجَتْ قافِلةٌ كبيرةٌ من الحاجِّ نَحْوُ أَرْبِع مئة جَمَل، إلى زِيارَةِ الرَّسُولِ ﷺ. وفي جُمَادَى الآخِرَةِ — قَبْلَه — كانَت أَيْضًا زِيارةُ أُخْرَى لبعْضِ الحُجَّاجِ في قافِلَةٍ أصْغَرَ من هذه القافلة. وَبَقِيَتِ الزِّيارَةُ الشَّوَّالِيَّةُ — والتي مع الحَاجِّ العِراقِيِّ — إِثْرَ الوَقْفَةِ إن شاءَ اللهُ.
وفي التاسِعَ عَشَرَ من شَعْبانَ كان انصراف هذه القافِلَةِ الكبيرةِ في كَنَفِ السَّلاَمَةِ.
(٢٢) عُمْرَة الأَكَمةِ
وفي لَيلةِ الثُّلاثَاءِ السابعِ والعِشْرِينَ منه (أعني من رجَب) ظهرَ لأَهلِ «مَكَّةَ» —أَيضًا — احتفالٌ عظيمٌ في الخُروج إلى العُمْرة لم يَقْصُرْ عن الاحْتفالِ الأَوَّلِ، فانْجَفلَ الجميعُ (انْصَرفُوا) إليها تلك الليلةَ رجالًا ونساءً — على الصِّفاتِ والهيئاتِ المُتقدِّمةِ الذِّكر — فكانت مع صَبِيحَتِها عَجَبًا في الاحتفالِ وحُسْنِ المَنظرِ. وهذه العُمْرة يُسَمُّونها عُمْرَةَ الأكَمَةِ، لأَنهم يُحْرِمون فيها من أَكَمَةٍ (تَلٍّ) أَمامَ مسجدِ «عائشةَ» رضِيَ اللهُ عنها — على مسافة قريبة. والأَصْلُ في هذه العُمرَةِ الأَكمِيَّةِ — عِنْدَهم — أَنَّ «عَبدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيرِ» لَمَّا فَرَغَ من بناءِ الكَعْبَة المُقدَّسةِ، خَرجَ ماشيًا حافِيًا مُعتَمِرًا — وأَهلُ «مَكَّةَ» معهُ — فانْتهى إلى تلك الأَكَمةِ.
فأَحرمَ منها، وكان ذلك في اليومِ السابع والعشرين من رجب، وجعل طريقَه على «ثَنِيَّةِ الحَجُونِ» المُفضٍِيَةِ إِلى «المعْلَى» حيْثُ دَخَلَ المُسلِمُونَ يومَ فَتحِ «مَكَّةَ»، فبقيت تلك العُمْرَةُ سُنَّةً عند أَهلِها في ذلك اليَوْمِ بعَيْنِه، وعلى تلك الأَكمةِ بَعَيْنِها.
(٢٣) طواف النساءِ
وفي اليومِ التَّاسعِ والعِشْرِينَ منه، وهو يَوْمُ الخميسِ، أُفْرِدَ البيتُ للنِّساءِ خاصَّةً، فاجْتَمَعْنَ مِنْ كلِ أَوْبٍ — وقد تَقَدَّمَ احتِفالُهُنَّ لذلك بأَيامٍ — ولم تَبْقَ امْرَأَةٌ ﺑ«مَكَّةَ» إلا حَضَرت المَسجِدَ الحَرامَ ذلك اليومَ.
فَلَمَّا وَصَلَ الشَّيْبِيُّونَ لِفَتْحِ البَيْتِ الكريمِ — عَلَى العادةِ — أَسْرَعُوا في الخُرُوجِ منه، وأَفْرَجُوا للنِّساءِ عنهُ، وأَفْرَجَ الناسُ لَهُنَّ عنِ الطَّوافِ وعن الحِجْرِ، ولم يبقَ حولَ البيْتِ المُبارك أَحدٌ من الرجالِ. وتَبادَرَ النِّساءُ إِلى الصُّعُودِ حتى كادَ الشَّيْبِيُّونَ لا يخْلُصُونَ بيْنَهُنَّ، عند هُبُوطهم منَ البَيْتِ الكرِيم. وتَسَلْسلَ النِّساءُ — بَعْضُهُنَّ ببعضٍ — وتشابَكْنَ حتى تَواقَعْنَ. فمن صائحَةٍ ومُعْولَةٍ، ومُكَبِّرَة ومُهَلِّلَة. وظَهَر من تَزَاحُمِهِنَّ ما ظَهَر من السَّرْو اليَمنيِّينَ، مدةَ مقامِهِم ﺑ«مكةَ» وصُعُودِهم يومَ فَتْح البَيْتِ المُقَدَّسِ.
وتَمادَيْن عَلَى ذلك صَدْرًا من النَّهارِ، وانْفَسَحْنَ في الطَّوافِ والحِجْرِ، وتَشَفَّيْنَ من تقبيلِ الحَجَرِ واسْتِلاَمِ الأَركان. وكان ذلك اليومُ عندهنَّ الأَكبرَ. فهنَّ مَعَ الرِّجال مِسكِيناتٌ مَغْبُوناتٌ يَرَيْنَ البيت الكريمَ ولا يَلِجْنَهُ (لا يَدْخُلْنهُ)، ويلْحَظنَ الْحَجَرَ المُبارَكَ ولا يَسْتَلِمنَهُ (لا يُقَبِّلْنَهُ). فحظُّهُنَّ من ذلك كلِّه النَّظَرُ والأسفُ. وليسَ لهن — في غَيْرِ هذا اليَوْمِ — سِوَى الطَّوافِ على البُعْدِ. وهذا اليومُ هو من عامٍ إلى عامٍ، فَهُنَّ يَرْتَقِبْنَهُ ارْتِقَابَ أَشْرَفِ الأَعْياد، ويُكْثِرْنَ له مِنَ التَّأَهُّبِ والاسْتِعْدادِ.
(٢٤) غَسْل البيت
وفي اليوْمِ الثَّانِي بَكَرَ الشَّيْبِيُّونَ إلى غَسْلِهِ بِماءِ «زَمْزَمَ» المُبارَك؛ لأَنَّ كَثيرًا من النِّساءِ أدخَلْنَ أَبناءَهُنَّ الصِّغارَ والرُّضَّعَ مَعَهُنَّ؛ فيُتَحَرَّى غِسلُه، تكْرِيمًا وتنْزيهًا لذلك الموْطِنِ الكَريم، المَخْصُوصِ بالتَّقْديسِ والتَّعْظِيمِ.
(٢٥) خُسوف البَدْرِ
اسْتَهلَّ هِلالُ شَعْبَانَ ليْلَةَ السبْتِ، وفي صَبيحَتِهِ بكَر الأَمِيرُ «مُكْثرٌ» إِلى الطَّوافِ — عَلَى العادةِ في ذلك، رَأْسُ كلِّ شهر — مع أخِيه وبنيهِ ومَن جَرى الرَّسْمُ باسْتِصْحابِه من القُوَّادِ والأَشياعِ والأَتباعِ.
وفي سَحَرِ يوْم الخميسِ الثالِثَ عَشَرَ منهُ، وهو أَوَّلُ يوْم من «دِجنيرَ» (يناير)، بعدَ طُلوعِ الفَجْرِ، خُسِفَ القَمرُ.
وبَدَأَ الْخسوف والنَّاسُ في صَلاةِ الصُّبْحِ — في الحَرمِ الشَّريفِ — وغابَ مَخْسوفًا، وانْتَهى الخُسوفُ إِلى ثُلثَيهِ، واللهُ يعرِّفُنا حَقيقَةَ الاعْتبارِ بآياتِهِ.
وَهذهِ الليلَةُ المُبارَكةُ (أَعْني ليلةَ النِّصْفِ من شَعبانَ) عنْدَ أهل «مكةَ» مُعَظَّمةٌ. فَهُمْ يُبادِرونَ فيها إِلى أَعمالِ البِرِّ — منَ العُمْرَةِ والطَّوافِ والصَّلاةِ — أَفْرادًا وَجماعةً، فَينقَسِمونَ في ذلك أُقسامًا، وقدْ قَدَّمتْ كلُّ جماعةٍ إمامًا، وبَسَطِتِ الحُصُرَ، وَأوْقَدَتِ الشَّمَعَ، وأَشعلَتِ المشاعل، وأَسْرَجَتِ المصابيِحَ. ومصباحُ السَّماءِ الأَزْهَرُ الأُْقْمَرُ قد أَفاضَ نورَهُ عَلَى الأَرْضِ، وبسطَ شُعاعَهُ، فتلاقَتِ الأَنوارُ في ذلكَ الحرمِ الشريف الذي هو نورٌ بذاتِه.
في ذلكَ مرْأًى لا يَتَخَيَّلُه المُتَخَيِّلُ، وَلا يتَتَوَهَّمُهُ المُتَوَهِّمُ!