مقدمة
حين يلج القارئ المعاصر في نصٍّ فلسفيٍّ قديم يحسُّ أنه ترك رأسه
بالوصيد وجعل يتخبط في مَغارٍ مُعتمٍ موحشٍ لا يُغري بطول مكوث. العرض
حِكميٌّ متقطع، الحديث متناثرٌ مفكَّك، التناقض ماثل والاتساق غائب
والتركيب مختلٌّ يُرثى له.
الحق أن كثيرًا من كتاب هذه النصوص القديمة لم تكن تهمهم حتى
الكتابة! وأن كثيرًا من زملائهم لم يكتبوا شيئًا (سقراط، ديوجين، فيرون
…)، ومنهم من لم يكتب بنفسه بل سجَّل تلامذته أقواله واستحيوها للأجيال
القادمة (إبكتيتوس)، ومنهم من كان يكتب لنفسه يَعِظها ويُدرِّبها دون
أية نية للنشر (ماركوس أوريليوس).
لم تكن الفلسفة عند هؤلاء تجريدًا نظريًّا ولا بناءً مذهبيًّا، بل
كانت فنًّا للعيش وطريقة حياة، وعزاءً ومواساة وممارسةً علاجية. قدَّمت
الفلسفة القديمة نفسها كعلاج؛ وهذا الهدف العلاجي ضالع بقوة في تشكيل
الفلسفة القديمة. كان شكل الحياة في تلك العصور الخوالي مرهِقًا خشنًا،
وكانت البيئة قاسيةً فظة؛ الخوف مقيم والفناء مصلت والبلاء واردٌ
معاوِد. وكان على الفلسفة أن تواجه هذا كله وأن تعين المرء على هول
الحياة ومرارة العيش. ومن شأن مهمة كهذه أن تجعل الصدارة للجانب العملي
من الفكر، وأن يأتي الجانب النظري في المحل الثاني، ولا تكون له قيمة
إلا بقدر ما يترجم إلى حياة، وبقدر ما يعاش ويمارس. وفي بعض الأحيان
يبدو الخطاب النظري كأنه وضع وضعًا، وفُصِّل تفصيلًا، على نحوٍ بعديٍّ
١ تحايلي، لكي يدعم الموقف العملي الوجودي ويوصله إلى
الآخرين! يعني ذلك أنك غير مضطر للانتساب لمدرسةٍ فلسفية بعينها،
واعتناق خطابها النظري والأسطوري، لكي تمارس تدريباتها العملية وتصيب
من ثمارها الأخلاقية والروحية.
لكي نفهم أعمال القدماء يجب أن «نواجدهم»،
٢ أن نتخذ (في المخيِّلة) مكانهم وزمانهم، أن نتخذ منظورهم،
أن «نضع أنفسنا في حذائهم» كما سار القول، أن نلم بالظروف التي كانوا
يعملون في ظلها، وبالأحوال التي كانوا يكتبون تحت وطأتها، وبالقيود
التي تفرضها هذه الأحوال وتلك الظروف، وبالضوابط التي تُمليها. ليس
يكفي لكي نفهم النص القديم أن نُحلِّل بنيته، بل إن علينا أيضًا أن
نضعه في الممارسة العملية التي صدر عنها، في المواقف الحية التي
تَوَلَّد منها. وليس يكفي أن نقف على ظاهره ونخضخض في سطحه، بل علينا
أن نغوص في غوره، ونكتشف غائيته، وندخل في زمانيته، ونضع صيغه القديمة
في السياق العياني للعبتها اللغوية (بتعبير فتجنشتين). يجب ألَّا ندع
الملفوظات السطحية تغشي على البنية التحتية وعلى الجنس الكتابي وحالات
الفكر التي تضفي معنًى محددًا على هذه الملفوظات. وبعون من هذه
الاعتبارات التأويلية يمكننا أن نعيد تشييد «المعنى الأساسي»،
٣ المعنى «المقصود» من جانب المؤلف.
٤
من الجوانب الأساسية لهذه الممارسة الحية ذلك «البعد الشفاهي»
للفلسفة القديمة. لقد كان الفلاسفة القدامى يعلمون بالقول الشفاهي،
وكان النص المكتوب مجرد دعامةٍ مادية لكلمةٍ منطوقة ينتوي لها الكاتب
أن تعود منطوقة مرةً ثانية، شأنها شأن شريط التسجيل (الذي لا يعدو أن
يكون وسيطًا بين حدثَين: حدث التسجيل وحدث التشغيل). لم يكن النص
المكتوب إلا سندًا ماديًّا لكلمةٍ منطوقة يُراد لها أن يُعاد نطقها
ثانية عند الحاجة.
النص إذن لا يعدو أن يكون احتفاظًا، أو احتجانًا، لما هو منطوق
وينبغي له أن يبقى منطوقًا. وللحديث المنطوق خصائص تفرض نفسها على
المتحدث وتبسط سلطانها على العقل والوجدان معًا. لا محيد للمتحدث
الشفاهي عن التكرار الكثير والإيقاع الطاغي ومراعاة وضع المستمع (رفيق
الرقصة الواحدة!) وهو يتقدم في حديثه بواسطة التداعيات الطليقة للأفكار
لا بواسطة الدقة التنظيمية والاتساق المذهبي.
كانت الفلسفة القديمة شفاهية في الصميم، ترتكز على الكلمة المنطوقة
ويجري تعليمها في مدارس وتُلقَى على طلاب. وحتى نصوصها المكتوبة تحكمها
ضوابطُ شفاهية كأنما هي كُتبت لكي تُسمع. والحق أن التعليم الأمثل
ينبغي أن يكون شفاهيًّا؛ فليس غير الكلمة المنطوقة ما يجعل الحوار
ممكنًا. إن حديث المعلم ليُكيِّف نفسه وفق احتياج التلميذ، ووفق مأزقه
الراهن أو سؤاله الآني، ووفق مرحلته التعليمية ودرجة تقدمه الروحي. لم
يكن هذا الحديث التعليمي الشفاهي معنيًّا بإيصال معلومة بقدر ما كان
يعنيه أن يؤتي أثرًا ويُحدث تحولًا في شخصية التلميذ؛ كانت غاية
التعليم الفلسفي «التكوين لا التلقين».
٥ من هنا تأتي حتمية لجوئها إلى الكلمة المنطوقة.
ويلفتنا المؤلف إلى عاملٍ مؤثرٍ قائم بذاته هو «المتوارد»، أي الصيغ
المتداولة والتراكيب المتوارثة، وضغط هذا «المتوارد» على الكاتب: ثمة
صيغ في اللغة وطرائق وعناصر إرثيةٍ سابقة التجهيز تملي على الكاتب
وتفرض نفسها على قلمه وتقسره على السير في مساراتها والتدفق في
مساربها. وما لم يلتفت الباحث إلى ذلك فسوف يخلط بالضرورة بين ما يريد
الكاتب أن يقوله وبين ما انجرف إلى قوله، بين ما يعنيه الكاتب ويرمي
إليه وبين المتوارد الموروث الذي يتطفل على قلمه برغمه ويفرض عليه ما
لم يكن في مقصده ومراده.
ليست المهمة الأولى للفيلسوف إيصال معرفةً موسوعية في شكل نسق من
القضايا والمفاهيم تعكس على التقريب نسق العالم.
٦ إنما ترمي الفلسفة إلى تحويل شخصية المرء وتعليم فن العيش،
العيش حياةً فلسفية. والعنصر الجوهري في الحياة الفلسفية ليس عنصرًا قوليًّا،
٧ بل هو عنصرٌ عملي. فالغاية من المبادئ الفلسفية هي تطبيق
المبادئ. «إن النجار لا يأتيك لكي يشرح لك فن النجارة بل ليبني لك
بيتًا.» «أفلا يخجل من نفسه من يكون مريضًا فيكتفي بأن يقرأ عن علاجات
مرضه ولا يتناولها؟!» إنما الفلسفة فن للعيش يأسو جراحنا ويداوي
أدواءنا بأن يعلمنا طريقةً جديدة تمامًا في الحياة. وقد كان الفيلسوف
في العصر القديم يعدُّ نفسه فيلسوفًا لا لأنه يشيد خطابًا فلسفيًّا بل
لأنه يعيش على نحوٍ فلسفي. كان الفيلسوف فيلسوفًا لموقفه الوجودي
بالدرجة الأساس. وكانت لفظة «فيلسوف» تطلق على من يعيش حياةً فلسفية
حتى لو لم يكن دارسًا ولا أستاذًا.
يفرق الرواقيون بين ما هو «فلسفة» وما هو «خطاب عن الفلسفة»؛ ويذهبون
إلى أن أقسام الفلسفة الثلاثة (الطبيعة والأخلاق والمنطق)، التي
نتدارسها ونجهد في استيعابها، ليست الفلسفة ذاتها، بل هي خطاب عن
الفلسفة ألجأتنا إليه مقتضيات التعليم والتدريس، واضطرتنا إلى أن نقدم
نظريةً للمنطق وأخرى للفيزيقا وثالثةً للأخلاق. أما الفلسفة ذاتها، أي
الطريقة الفلسفية في العيش، فليست نظريةً منقسمة إلى أجزاء، بل هي فعلٌ
واحد موحد مؤدَّاه أن نعيش المنطق ونعيش الفيزيقا ونعيش الأخلاق؛ فلا
نعود نعاظل بالنظرية المنطقية (أي نظرية القول الصحيح والتفكير القويم)
بل، ببساطة، نفكر ونتحدث جيدًا؛ ولا نعود نَتَنطَّس في نظرية عن العالم
بل نتأمل الكون؛ ولا نعود نُطنطن حول الفعل الأخلاقي، بل نسلك بالطريقة
اللائقة الحميدة. يقول ماركوس أوريليوس: «بحسبك من كلام عما ينبغي أن
يكون عليه الرجل الصالح — كنْ رجلًا صالحًا».
٨
وغني عن القول أن كل نصٍّ تاريخي يضمر داخله «رؤية للعالم»
٩ قابعة فيه تمنحه الموضع والسياق والإطار؛ ولا بد للمؤوِّل
من أن يستلَّ هذه الرؤية من أجل أن يفهم هذا النص على وجهه الصحيح
ويبرئه من غشاوات رؤيتنا الراهنة للعالم.
في ضوء هذه الكشوف الهادية للمؤلف بيير آدوت صرنا نقرأ النصوص
القديمة، مثل «اعترافات» القديس أوغسطين أو «في طبيعة الأشياء»
للوكريتس، قراءة أكثر تبصرا، غير مضلَّلين بالتأويلات السطحية الماضية
أو بآثام السيكولوجيا التاريخية البائسة. صرنا، بصفةٍ خاصة، نقرأ
«تأملات» ماركوس أوريليوس، التي فتنت الأجيال وحيَّرتها أيضًا،
١٠ على وجهها الصحيح، ونؤوِّلها تأويلًا أكثر اقتصادًا وفطنة
على أنها، ببساطة، ممارسةٌ كتابية للتدريبات الروحية على طريقة
إبكتيتوس.
(١) الفكر «التفسيري»١١
كان الفكر طيلة ألفَي عام لا يعدو أن يكون «تفسيرًا»
١٢ لنصٍّ «موثَّق»،
١٣ نص «سلطة»، وبخاصة نصوص أفلاطون وأرسطو. فالحقيقة
«معطاة» في النصوص الموثَّقة، وما علينا سوى أن نكتشفها ونخرجها
إلى واضحة النهار. كان الاتفاق معقودًا بأن الكاتب «الموثق» لا
يمكن أن يكون على خطأ، ولا يمكن أن يناقض نفسه، ولا أن يتناقض مع
كاتبٍ موثَّقٍ آخر. كان هذا التوجه يلجئ الشراح إلى أعتى ضروب
التكلف والعنت في التفسير من أجل تكييف المعنى الحرفي للنص مع ما
كان يعتبر الحقيقة في حينه. كان كل فصيل يعتقد أنه الوريث الشرعي
لحقيقةٍ تليدة ألقيت منذ البداية إلى بضعة حكماء. وهكذا ترسَّخت
نزعة «الاحتكام إلى سلطة»،
١٤ وترسَّخ هذا التصور للحقيقة في كل فكرٍ تفسيري يستند
إلى غيره ولا يخطر له أن يتكئ على نفسه.
كان الدرس الفلسفي في العصر الوسيط يتألف من تعليق على نص أو
تفسير نص (الكتاب المقدس، أو أرسطو، أو بوئثيوس …)، وانحصر البحث
عن الحقيقة في البحث عن معنى النصوص «السلطة»، فالحقيقة قابعة في
هذه النصوص، ومنتسبة إلى كتَّاب هذه النصوص وأتباعهم ورثة
الحقيقة.
ظل هذا هو الحال حتى مطلع القرن السابع عشر، حيث بدأ الفلاسفة
يرفضون الاحتكام إلى سلطة وينبذون التفكير التفسيري، ويرون أن
الحقيقة ليست معطًى جاهزًا، وأن على الفكر الإنساني أن يقوم بذاته
ويعتمد على نفسه. على أن هذا التفاؤل المبدئي بدأ ينحسر منذ القرن
التاسع عشر، إذ بدأت الفلسفة تدرك شيئًا فشيئًا أنها مشروطة أو
مكيَّفة تاريخيًّا ولغويًّا. وبمجيء هيجل بدا أن للوعي الإنساني
طابعًا تاريخيًّا خالصًا. وتحت تأثير المنهج الهيجلي سادت مع ماركس
وغيره من الهيجليين فكرة أن النظرية لا يمكن أن تنفصل عن الممارسة،
وأن فعل الإنسان على العالم هو ما يولد تمثُّلاته.
(٢) الرياضات الروحية
كانت الفلسفة في العصر القديم علاجًا للانفعالات المَرَضية:
الأهواء المنفلتة والمخاوف المُشِلَّة التي تسيطر على الإنسان
وتحرمه من أن يعيش حياةً حقيقية. كانت الفلسفة تدريبًا روحيًّا
يُفضي إلى تحولٍ عميق في أسلوب المرء في الرؤية وفي الوجود. تهدف
التدريبات الروحية إلى توسيع نطاق الرؤية، إلى الانتقال من الرؤية
الضيقة الفردية البشرية الأرضية، إلى الرؤية الكونية الطبيعية
الإلهية بقدر المستطاع وبقدر المتاح للبشر. تهدف التدريبات إلى أن
يعيد الفرد وضع نفسه داخل منظور «الكل»، أن يدفع الفرد نفسه إلى
حياة الروح الموضوعي، أن يخرج من ذاته، من زمانيته، جهد الاستطاعة،
ليصير «أبديًّا» بتعبير جورج فريدمان، يرى الأشياء بعين الطبيعة
الكلية، ويوحِّد إرادته بإرادة العقل الكلي. هنالك لن يسعه سوى أن
يزدري الهموم البشرية الصغيرة، وأن يجتزئ بتحقيق الرغبات الضرورية
الطبيعية، ويفرغ لتلك البهجة البسيطة بالوجود. ولن يسعه سوى أن
يتخلَّى عن القيم الزائفة: المال، والشهرة، والملذات غير الضرورية،
وأن ينصرف إلى القيم الحقيقية: الفضيلة، وحياة التأمل العقلي، ومحض
الوجود بوصفه الثروة المطلقة النهائية القصوى.
(٣) الصيغ الموجزة الشافية
من تقنيات التدريب الروحي أن يكون لدينا مبادئ «طوع يدنا»،
١٥ مأثورات من جوامع الكلم مصوغة في صياغاتٍ إبِجراميةٍ
مختصرةٍ بليغة بحيث تكون حاضرة في الذاكرة ومواتية للاستعمال في
المواقف المختلفة، كأنها عدتنا في الطوارئ، جاهزة في حقيبة أدوات
لا تفارق يدنا. إن تدريبات التأمل لا تخاطب العقل وحده؛ بل يجب أن
تصل الخيال والوجدان بعمل العقل؛ ومن ثم فإن لزاما عليها أن تستخدم
جميع الوسائل التأثيرية للغة، وأن تجند جميع الطاقات السيكاجوجية
١٦ للبلاغة. «ذلك أنه ليس يكفي أن تردد على نفسك مبدأً
عقلانيًّا ما لكي تقتنع به؛ فكل شيء يتوقف على كيف تصوغه.»
(٤) تأمل المحن مسبقًا١٧
من شأن التأمل المسبق للمصائب أن يُفقِدها شوكتها حين تقع، ويسبغ
عليها الإلف والعادية. وعلى المتأمل الرواقي بخاصة أن يتذكر أن
المصائب على كل حال ليست شرورًا لأنها «لا تعتمد علينا»، ولأنها
جزء من مسار الطبيعة. إن ما يلزمنا إذ ذاك هو ترديد الصيغ الشافية
التي تلطف من الأثر المؤلم للنوازل، وتكبح جماح الخوف أو الغضب أو
الحزن. يقول فيلون السكندري: «إنهم لا ينهارون تحت ضربات القدر
لأنهم تحسَّبوا لها مقدَّما، فالتحسُّب يجعل من السهل احتمال حتى
أصعب الحوادث التي لا نريدها؛ إذ إن العقل عندئذٍ لا يجد فيما حدث
أمرًا عجيبًا أو جديدًا، بل يتلقاها بتبلُّد مثلما يتلقى كل ما هو
قديم مستهلك» (فيلون السكندري، «في القوانين الخاصة»).
وحتى في مجال الحياة اليومية العادية، يستهل الرواقي، على سبيل
المثال، يومه وقد استعدَّ، نفسيًّا وبدنيًّا، لتحمُّل بعض الخشونة
في لعبة الحياة. هكذا أوصاه شيوخه من أمثال سنكا وإبكتيتوس وماركوس أوريليوس.
١٨
(٥) أن تعيش الفيزياء!
الفيزيقا أيضًا يمكن أن
تكون تدريبًا روحيًّا مثمرًا؛ فهي تنتشلك من نطاقك الأرضي الضئيل
وترفعك معها إلى نطاق الطبيعة الأعرض؛ ولن يسعك إذ ذاك إلا أن تنظر
بازدراء إلى الشئون الأرضية
التافهة. ستصغر في نظرك الأرض، أو ستأخذ حجمها الحقيقي، وتصغر معها
كروبك وندوبك حتى تختفي ولا يبقى لروحك إلا الابتهاج بالكون
الرائع. سيتمدد فكرك حتى يصبح فكرًا كونيًّا شموليًّا يرى الأشياء
كما تراها طبيعة الكل. سيأخذك الكون إليه فتأخذ منه فكرك وشعورك.
وإذ تنظر إلى الأحداث من منظور الكوزموس
١٩ تتضاءل فيك الفردية الضيقة وتنمو المواجدة
٢٠ حتى تسع البشر جميعا وتشملهم بالرعاية والعطف
والإيثار.
أن ننظر إلى الأشياء من وجهة نظر الطبيعة الكلية يتضمن أن نميز
سلسلة العلل التي تنتج كل حدث، أن نعيد وضع الأحداث داخل سلسلة
العلل والمعلولات، أن نُعرِّفها كما هي، بمعزل عن مداخلاتنا الأنثروبومورفية
٢١ المشوِّهة، أن نعي أننا جزء من العالم. هنالك سيبدو كل
حدث مقبولًا مثلما هو مقبول لدى الطبيعة الكلية. من شأن ذلك أن
يُفرغ علينا سلامًا داخليًّا لا يريم.
أن ننظر إلى الأشياء من المنظور الكوني، تلك هي الطريقة الفلسفية
للرؤية، تتفق في ذلك جميع المدارس الفلسفية، وبخاصة الأفلاطونية
والرواقية والأبيقورية. لقد اكتشفت هذه المدارس إلى جانب الفيزيقا
النظرية فيزيقا عملية: تدريبًا روحيًّا يرتحل فيه الخيال خلال سعة
الكون اللانهائية، «فيزيقا معيشة» تهدف إلى بلوغ عظمة الروح،
ووظيفتها أن تُعلِّم الناس ازدراء الشئون البشرية الصغيرة وتحقيق
السلام الداخلي.
(٦) الفلسفة تدريب على الموت!
«الحق يا سيمياس أن أولئك الذين يشرعون في التفلسف الصحيح هم
في تدريب للموت، وأنهم أقل جزعًا من الموت بين جميع
البشر.»
(أفلاطون: محاورة «فيدون»)
«وأرى على نور الموت كل ما في كونك من كنوز الدلال؛ أحقر
منزل فيه عزيز، وأبغض عيش فيه طيب.»
طاغور
تأمُّل الموت واستباقه عبارة عن تغيير لزاوية الرؤية: من رؤيةٍ
فرديةٍ ضيقةٍ مغشاة بانفعالاتٍ أرضيةٍ بائسة، إلى رؤيةٍ كونيةٍ
موضوعية ترصد الأشياء كما هي وتأخذها بحجمها الحقيقي. يقول سنكا:
«من تعلم كيف يموت فقد تعلم كيف لا يُستعبد.» ويذهب كلمنت السكندري
إلى أن المعرفة الكاملة هي نوع من الموت! فهي تفصل النفس من الجسد،
وتؤازر النفس لكي تعيش حياةً مكرسة تمامًا للخير، وتتيح لها أن
تعكف على التأمل في الحقائق الأصيلة بعقلٍ مطهر.
شيءٌ آخر ندركه من منظور الموت: نفاسة الحياة، كل لحظة من لحظات
الحياة، ومتعة الوجود، مجرد الوجود. لقد دأب الناس على التهرب من
حقيقة الموت بالتشبث بعَرَض الحياة، والتكالب على حطام الدنيا:
المال، السلطة، والشهرة، الأبهة … إلخ، الحطام الذي هم تاركوه لا
محالة. يظهرنا وعي الموت على أن القيمة النهائية هي في الحياة
نفسها لا في أعراضها الزائلة، وأن علينا أن نعيش ملء اللحظة، وألا
نتركها نهبًا لأوجاع الماضي أو لهواجس المستقبل. استحضار الموت إذن
هو في صميمه استحضار للحياة! استحضار لقيمة الحياة ونفاسة كل لحظة
فيها.
في كتابه «العلاج النفسي الوجودي» سجل إرفين يالوم استجابات عدد
من مرضى المراحل المتأخرة وهم يواجهون موتهم الخاص.
٢٢ كان بعضهم يُصرِّح بأنه تعلَّم ببساطة أن «الوجود لا
يمكن أن يُسوَّف»، وأنهم لم يعودوا يرجئون الحياة إلى زمنٍ لاحق في
المستقبل. لقد أدرك هؤلاء المرضى أن المرء لا يمكنه أن يعيش بحق
إلا في الحاضر. وهذا بالتحديد ما يغيب عن المريض العصابي؛ فهو إما
مسكون بهواجس الماضي أو مرعوب بتوقعات المستقبل. إن مواجهة الموت
لتحثُّ المرء على أن يحصي النعم التي بين يدَيه، وأن يفتح عينَيه
من جديد على كل ما هو طبيعي من حوله: حقائق الحياة الأولية، تبدل
المواسم، الرؤية والاستماع واللمس والحب. كم من خبراتٍ غالية في
الحياة تُفوِّتها علينا همومنا التافهة وانشغالنا بما لا نملك
وخوفنا على وضعنا وهيبتنا. يتفجَّع كثير من
مرضى المراحل المتأخرة عندما
يعاينون نموَّا شخصيًّا كبيرًا نابعًا من مواجهتهم للموت، ولسان
حالهم يقول: «كم هي مأساة أن نكون بحاجة إلى أن ننتظر كل هذا العمر
وأن ينهش المرض جسدنا كيما نتعلَّم هذه الحقائق البسيطة.»
٢٣
يذهب مارتن هيدجر إلى أن الوجود الإنساني هو «وجود للموت
Being-for-Death». وقد دأب
الناس على أن يتعاموا عن هذه الحقيقة المكينة التي ترد الإنسان إلى
ذاتيته المنسية، وتنتشله من الخسران اليومي إلى «الوجود الأصيل
Authentic Being». وهيدجر
في ذلك يلتقي بأفلاطون الذي ذهب إلى أن العبرة ليست بمجرد التفكير
في الموت بل في التمهن للموت، ممارسة تدريب الموت، الذي هو في
حقيقة الأمر تدريب للحياة!
٢٤
على المرء إذن أن يتولى أمر وجوده الخاص ويحمل تبعته، وأن يتقبل
حريته ولا يهرب منها؛ حريته المحتومة التي رُمي بها … أن يعود إلى
بيته، إلى ذاته، وألا يطيل غيابه في الخارج، في الناس، في الخسران
اليومي.
لا تنتظرْ سكرة الموت،
إذن، حتى تفهم. تدرب على الموت منذ الآن. يردك وعي الموت إلى نفسك
يا هاربًا من نفسك. لن تموت إلا وحدك، ولن يسع أحدًا أن يموت نيابة
عنك. سيمنحك الموت المسافة اللازمة لرؤية الحقيقة. على نور الموت
سترى حجم همومك وشئونك، بل حجم هموم البشرية وشئونها. على نور
الموت ستخلع أهواءك العابثة وانفعالاتك الغثَّة. وعلى نور الموت
سترى هَول الثروة التي ذخرت لك في كل آنة من آنات الحياة وكل نَفَس
من أنفاس العيش. العيش، مجرد العيش، هو كل الثروة أيها الأعشى.
الكون البهي الهائل، بأقماره وشموسه ومجرَّاته … كل هذا ملكك أيها
الأحمق. ثروتك النهائية المتعة البسيطة بالوجود.
(٧) الكتابة العلاجية
يبدو أن التدريب بالكتابة، والتمحيص الكتابي للضمير كان من
التعاليم الفلسفية القديمة. ولدينا في تأملات ماركوس أوريليوس
مثالٌ رائع للتدريب بالكتابة أفلت من عوادي الضياع بمصادفةٍ سعيدة
وبقي محفوظًا للأجيال. ويبدو أن الجنس الأدبي
للتأمل بواسطة الكتابة كان فكرة
أخذها ماركوس من إبكتيتوس
٢٥ الذي يقول في «المحادثات»: «هذه هي صنوف الأشياء التي
ينبغي على محبي الحكمة أن يتأملوا فيها؛ إن عليهم أن يسجلوها كتابة
كل يوم، ويستخدموها في تدريب أنفسهم» (المحادثات، ١) … «فلتكن هذه
الأفكار طوع يدك ليل نهار. اكتبها وأعد قراءتها؛ تحدث عنها، لنفسك
ومع الآخرين» (المحادثات، ٣).
ويبدو أن الآباء المسيحيين قد أخذوا هذه التقنية عن الفلسفة
القديمة؛ فقد كان القديس أنتوني يوصي تلاميذه بمراقبة أفعالهم
وسرائرهم وتدوين ذلك كتابة. لقد عرف القيمة العلاجية للكتابة:
«ليدوِّنْ كلٌّ منا أفعاله وحركات نفسه، وكأننا سنقدم تقريرًا
عنها». فلتكن الكتابة بديلًا عن «عيون الآخرين». لا يجرؤ المرء على
أن يأثم وهو مراقب، فلتراقبه كتابته إن لم تراقبه العيون.
وللكتابة قدرةٌ خاصة على الإفشاء، وعلى إضفاء العمومية على
الخاص، والموضوعية على الذاتي، والتحديد على ما هو غائمٌ مختلط. إن
المرء ليشعر بالعون والانفراج بمجرد أن يكتب انفعالاته وسرائره.
لكأنه يتبينها بعد أن كانت غامضةً مشتبهة، ويموضعها ويأخذ مسافة
منها فيتملَّكها بعد أن كانت تتملَّكه، ويتناولها بالمراجعة
والنقد.
ويبدو أن أمر الكتابة أعمق وأشمل حتى من ذلك؛ فالكتابة تحرر
المشاعر من ربقة الجسم وتدمجها في نظام الرموز، وتصرف الانفعالات
من قنوات المادة الجسمية وتصبها في محيط اللغة. الكتابة صيانة
للجسد والنفس.
٢٦
(٨) عشْ ملء اللحظة
«ويعرفون كُنه الحقيقة، وهي أن العبرة هي بروح النعمة لا
بمقدارها.»
مصطفى صادق الرافعي
تتفق الأبيقورية والرواقية، على تباعدهما، في تمجيد اللحظة
الحاضرة، وفي أن السعادة لا يمكن أن توجد إلا في الحاضر، وفي أن
لحظةً واحدة من السعادة تكافئ دهرًا منها، وفي أن السعادة يمكن
ويجب أن تُجلَب فورًا، هنا والآن. تدعونا كلٌّ من الرواقية
والأبيقورية إلى إعادة وضع اللحظة الحاضرة داخل منظور الكوزموس،
وإلى إضفاء قيمة لانهائية على أصغر لحظة من الوجود. «الحكيم يضع
نفسه داخل ثبات الطبيعة الأزلية، التي هي مستقلة عن الزمن.»
أنقذ اللحظة أولا. أوجاع الماضي وهموم المستقبل تتناهش لحظتك
الحية كالضباع؛ وتموت ولم تشهد قط مهرجان الوجود. اللحظة تامةٌ
مكتفية تذخر لك أبدًا من الفرح. الدائرة الصغيرة ليست أقلَّ دائرية
من الكبيرة. تناهي اللحظة يعني لاتناهي قيمتها.
ومثلما يقتنص الفنان اللحظة المثقلة بالمعنى التي تسم حركة ذات
دلالة، أو تسم نقطة تحول تكشف الماضي والحاضر والمستقبل في بارقةٍ
واحدة؛ عليك أن تعي أنت أيضًا أن جميع اللحظات مثقلة بالمعنى
وتنطوي على ماضي الكون ومستقبله. لقد أعدَّ لك كل ما في الكون من
جمال وجلال لكي تختلج وتندهش. إذ ما جدوى كل هذه الأكوان
اللانهائية، ما جدوى كل هذه الخلائق الجامدة؛ إذا لم يبتهج وعيٌ
واحد بوجوده الخاص؟ ربما لأجل هذه اللحظة الفذَّة كان الأزل يغزل
كل هذا الغزْل.
في عينَيها انظرها إذن … اللحظة الحبلى،
٢٧
لكأنها تجرُّ وراءها الماضي كله،
وتشدُّ إليها المستقبل كله،
وإذ تلتئم هذه الأقانيم الثلاثة نكون قد فتقنا
الزمن،
واختلسنا لمحة غيب،
تظل وهجًا في الفؤاد لا ينطفئ.
(٩) التطهر أداةٌ معرفية
«إذا كنت تريد النور فاجعل نفسك لائقة بالنور.»
جلال الدين الرومي
«لا يمكن فهم هذا المذهب إلا بعد أن يتصفَّى الإنسان من
الرذائل كلها، ويدرك بنور نفسه معنى النور الذي انبثقت منه
نفسه.»
مصطفى صادق الرافعي
ثمة أشياء لا تدرَك إلا إشراقًا … إلا ذوقًا. يصدق هذا بصفةٍ
خاصة في مبحث النفس ومبحث الأخلاق. من هنا تأتي أهمية التدريب في
الفلسفة القديمة. «لا تبقَ خارج الإيقاع أطول مما ينبغي، فسوف
يزداد تمكُّنك من التناغم بدوام العودة إليه.» «لا تعدْ تتنفس فقط
من الهواء المحيط، بل خذْ فكرك أيضًا من العقل الذي يضمُّ الأشياء
جميعًا. فالقوة العاقلة منتشرة كالهواء في كل مكان ومتخلِّلة في كل
شيء، طوع من يشاء أن يتشرَّبها، تمامًا كالهواء لمن يستطيع أن
يتنفسه» (ماركوس أوريليوس، التأملات، ٨–٥٤).
وثمة براهينُ فلسفية لا تستمد قوَّتها البرهانية من التعقل
المجرد بقدر ما تستمدها من خبرةٍ معينة هي في الوقت نفسه تدريبٌ
روحي. يتجلى ذلك في أوضح صورة في برهان أفلوطين على خلود النفس. في
فلسفة أفلوطين تبلغ أهمية التدريب مداها، ويبلغ التطهر الروحي أن
يكون أداةً معرفية. في مسألة طبيعة النفس، على سبيل المثال، يذهب
أفلوطين إلى أن أفضل سبيل إلى إدراك خلودها ولا ماديَّتها هو
تطهيرها من الأهواء العنيفة والانفعالات المريضة والرغبات
اللاعقلانية. طهِّر نفسك من أدرانها ثم تفحَّصْها ولسوف تتيقن من
خلودها؛ «دع النفس تمارس الفضيلة ولسوف تفهم هي أنها خالدة». ها قد
تحول «برهان خلود النفس» إلى تدريب. وحده من يحرر نفسه ويخلصها مما
علق بها من أوضار تطمس حقيقتها الأصيلة، وحده من يفهم لاماديَّتها
وخلودها. المعرفة تدريب. ممارسة الفضيلة هي الخطوة الأولى نحو
المعرفة القويمة، لأن الأهواء المريضة تُشوِّش التناغم الداخلي
وتعيق العلو إلى عالم المعقولات. معرفة الخير هي ضرب من التوحد به
والفناء فيه.
(١٠) الحوار تدريب روحي
«إن حياة لا تخضع للنقد لهي حياة لا تستحق أن تعاش.»
سقراط
«علينا أن نخلي بين أنفسنا وبين الحقيقة.»
ع. م
دأب سقراط على أن يطرح أسئلة ولا يجيب عنها. واعتاد في حديثه مع
محاوريه أن يبدأ المحاورة بالتسليم بوجهة نظر محاوره، ثم من خلال
الأسئلة يؤدي به إلى أن يدرك أن موقفه الأول متناقض. فيكتشف القائد
العسكري، مثلا، أنه لا يعرف شيئا عن الشجاعة، ويكتشف المتكهِّن أنه
لا يعرف ماذا تكونه التقوى. فجأة يكتشف المحاور أن منظومته القيمية
لا تقوم على أساس. تتغير كيمياء المحاور، يتوحد مع سقراط: أي مع البلبلة،
٢٨ الحيرة، الشك. «فسقراط لا يعرف شيئا وكل ما يعرفه أنه
لا يعرف شيئا. تنتهي المحاورة مع سقراط والمحاور لم يتعلم شيئا
(نظريًّا)، غير أنه خلال رحلة النقاش يكون قد جرَّب وخبر وكابد ما
يكونه النشاط العقلي الحق، وأفضل من ذلك بعدُ أنه قد أصبح سقراط
نفسه: وما سقراط إلا السؤال، البحث، التحقيق، النكوص إلى الخلف
لأخذ نظرة إلى النفس؛ وباختصار، سقراط هو الوعي.»
كانت محاورات سقراط نوعًا من التدريب الروحي الجمعي، غرضها الأول
تمحيص الضمير والالتفات إلى النفس (اعرف نفسك). وكل تأملٍ حقيقي هو
حوار مع النفس، وكل تدريبٍ روحي هو حوار ما دام هو تدريبًا على
الحضور الأصيل تجاه النفس وتجاه الآخرين.
والحوار الحقيقي نقيض «المماحكة»،
٢٩ أي الجدال من أجل قهر الخصم لا من أجل الوصول إلى
الحقيقة. يشرع المماحك في الجدال وقد وقر في نيته ألا يغير رأيه
مهما تبيَّن له من نقاط ضعفه وهشاشته. أما المحاور الحق فيشرع في
الحوار وقد عقد النية على أن يكتشف الحقيقة وأن يُغيِّر رأيه إذا
تبيَّن له خطؤه، أو يقوِّمه إذا تبين له اعوجاجه. إن علينا أن نخلي
بين أنفسنا وبين الحقيقة، أن ندع أنفسنا تتغير. علينا، من ثم، أن
نتحاور مع أنفسنا، أن نشتبك مع أنفسنا، أن نألف عشرة الأسئلة، وأن
نجعل المسير أهم من الوصول، والمنهج أهم من الموضوع، والطريقة أهم
من الحل. تجبهنا عثرات الحوار فنراجع مفاهيمنا وننقح تعريفاتنا
ونقوِّم استدلالاتنا. الحوار الحقيقي صعودٌ مشترك صوب الحقيقة،
وأداة لصقل النفس وتهذيبها.
يقول كارل بوبر في «أسطورة الإطار»: «… فما يجب أن يتعلموه هو أن
الانتصار (في الجدل) لا يعني شيئًا. بينما يكون النجاح العظيم في
أبسط توضيح لمشكلة ينشغل بها المرء، بل وفي أضأل مساهمة في السير
قدمًا نحو تفهُّم أوضح لموقفه الخاص أو موقفٍ واحد من خصومه. إن
المناقشة التي تنتصر فيها بينما تفشل في أن تعينك على تغيير أفكارك
أو توضيحها ولو إلى حدٍّ يسير يجب اعتبارها خسرانًا مبينًا. ولصميم
هذا السبب ينبغي ألا يحدث أي تغيير في موقف المرء بصورةٍ خفية عن
الأعين، بل يجب دائمًا التأكيد عليه واستكشاف معقباته.»
٣٠
لم يكن هم سقراط في محاوراته أن يشيد نسقًا مذهبيًّا، بل أن يوقظ
وعينا ويعلمنا أن اللغة قاصرة وأن الفكر معايشة وأن الحوار حتم؛
ثمة مستوًى من الوجود لا يمكن بلوغه إلا في علاقة شخص بشخص.
٣١
(١١) الحكيم والعالم
صفة الحكيم أنه لا ينصرف عن الرؤية الكلية طرفة عين. يطوف في
دروب «العالم» وعينه على «الكوزموس»، يجول بين الأشجار وعينه على
الغابة. لا تزلزله النوائب الجزئية لأنه يأخذها في سياقها الأعرض
ويقيسها بمقياس الكل
٣٢ وكثيرًا ما يرى الشرور الجزئية خيرًا صميمًا حين تتخذ
مكانها من الصورة الكلية التي لا تني تتسع في رؤيته وتنفرج أبعادها
المكانية والزمانية إلى غير حد. الحكيم يعي كونه جزءًا من العالم،
«يغمد نفسه في كلية العالم» (سنكا).
٣٣
الحكيم الرواقي مبتهج بحركة العالم، قانع بما يأتي به القدر
ويوجهه عقل العالم. وإذ ينظر الحكيم إلى كل شيء في سياق «الكل» يرى
كل شيء جميلًا، حتى النواتج الثانوية العرضية والمنفرة! «فهذه
أشياء تبدو بعيدة عن الجمال حين تؤخذ على حدة، ولكن ترتبها على
عمليات الطبيعة يضفي عليها جمالًا وجاذبية … وكثير من مثل تلك
المدركات لن تروق كل إنسان بل ذلك الذي أصبح على ألفةٍ حقيقية مع
الطبيعة ومع أعمالها.»
٣٤ أي الحكيم. هذه نظريةٌ استطيقيةٌ قائمةٌ برأسها، تجعل
الحكيم كائنًا مغمورًا بالجمال حتى طُرَّته؛ وهل العيش إلا
ذاك؟
يريدنا الحكيم أن نعيد تعلم أن نرى العالم، أن ندرك العالم
كعالم، الإدراك بوصفه عالمًا، وحدة العالم والإدراك (هذا هو جوهر
الرد الفينومينولوجي عند هسرل وميرلوبونتي).
ويريدنا الحكيم أن ندرك العالم بطريقةٍ قريبة من طريقة الفنان؛
أن نتحول من الإدراك النفعي للأشياء إلى الإدراك الاستطيقي،
الإدراك «المنزَّه عن الغرض»،
٣٥ أي الإدراك الذي لا يَتغيَّا المنفعة الحياتية والتصرف
العملي، بل الإدراك لذاته. يعيدنا الحكيم إلى إدراك للواقع أكمل
وأتم، بواسطة نوع من «إزاحة الانتباه»
٣٦ الذي وصفه هنري برجسون. يخرجنا الحكيم من العمى
الإدراكي الذي يرين علينا، بقطيعة مع الإدراك النفعي الذي يخفي عنا
العالم بما هو عالم، بتحولٍ حاسم لعلاقتنا بالعالم، لكي ندركه من
أجله هو لا من أجلنا نحن، ولكي نعي معجزة الإدراك نفسه الذي يكشف
لنا العالم. هنالك يدهشنا العالم، ويذهب إلفنا به فنراه بنواظرَ
بكرٍ، وكأنه يبزغ أمام أعيننا للمرة الأولى.
هذا التحول الحاسم في نظرة المرء إلى العالم يتطلب تدريبًا على
تركيز الذهن في اللحظة الحاضرة، بانسلاخ عن المستقبل والماضي من
أجل «حصر الحاضر».
٣٧ هذا التدريب يتيح للذهن، الذي تملَّص من ثقلة الماضي
وهاجس المستقبل، يتيح له ذلك الانسلاخ الداخلي والحرية والسلام
والصفاء، وهي متطلبات لا غنى عنها لإدراك العالم بما هو عالم. وما
إن يقبض المرء على اللحظة الحاضرة حتى يكتشف الثروة الطائلة
والمعجزة المذهلة لوجودنا في العالم.
«ذَرِ النفسَ تأخذ فرحها في الحاضر» (هوراس). ولا فرح عند الحكيم
إلا في الفضيلة، وهي شيء في يدنا ويعتمد علينا وليس بوسع أحد أن
يسلبه منا. مثل هؤلاء الحكماء تظل أجسامهم على الأرض بينما تجول
أرواحهم في الأعالي. «مثلهم يعتبرون العالم كله مدينتهم، ومواطنيه
رفاق الحكمة؛ وقد تلقوا حقوقهم المدنية من الفضيلة، التي عُهِد
إليها بترؤس دولة العالم. هكذا هم، تعودوا، ممتلئين بكل الفضائل،
ألا يهتموا بما لا يهم؛ فهم محصَّنون من الملذات والرغبات معًا؛
وهم، باختصار، يسعون دائمًا إلى أن يعلوا بأنفسهم فوق الأهواء، مثل
هؤلاء، الذين يجدون فرحهم في الفضيلة، هم في مهرجانٍ حافل طول
حياتهم. هم، وقليل ما هم، أشبه بجمرات حكمة باقية الاتِّقاد في
مدنهم، لكيلا تنطفئ الفضيلة وتختفي من جنسنا البشري. فإذا ما أحسَّ
الناس في كل مكان بما تحسُّه هذه القلة المصطفاة وصاروا مثلما قصدت
الطبيعة لهم أن يكونوا؛ أنقياء من الرَّنْق، محبِّين للحكمة،
مبتهجين بالجميل لأنه جميل فحسب، غير منتظرين أي شيء عداه … هنالك
ستكون مدننا مترعة بالسعادة، ولن يعرف الناس أي سبب للحزن أو
الخوف، بل سيكونون مفعَمين بكل أسباب الفرح والهناء بحيث لن تخلو
لحظة لديهم من الضحك البهيج، ودورة السنة كلها، حقًّا، ستكون
مهرجانا لهم.»
٣٨
(١٢) طريق الحكمة
«الأفضل أن يدوم السفر سنين عديدة، وأن تصل إلى الجزيرة
شيخًا كبيرًا غنيًّا بما كسبته من الطريق.»
«حبطت رحلته ونفدت أنفاسه ولم تطأ قدماه القارة الموعودة،
لكن حمائم الرضا ترفُّ على خلجان عينَيه للمرة الأولى، لقد كان
شوقه هو الثروة ورحلته هي القارة.»
ع. م، الموت البليغ
طريق الحكمة غاية ذاته،
الطريق يحول سالكه،
ما تشهده في الطريق وتخبره وتكابده
يعتمل فيك ويصقلك،
تشحذك نتوءات الطريق، تقوِّمك الْتواءاته،
شجون الطريق تعجمك وتجبلك،
وتنشئك خلقًا آخر أعمق وعيًا،
وأعرض عمرًا وأكثف وجودًا،
وهل كانت لك إذ تذرعه غاية أبعد من ذلك؟!
الحكمة قدوةٌ مفارقة،
نجم يهدي ولا يطال،
نعلم أنها غاية لا تدرك
غير أن حبها يعمر القلب،
ويمنح أقدامنا الطريق.