الفصل الأول
أشكال الحياة وأشكال الخطاب في
الفلسفة القديمة١
حين نعرض الآن لتاريخ الفلسفة الإغريقية والرومانية لن نأبه
للاختلافات المذهبية بين شتى المدارس بقدر ما نريد أن نقبض على
جوهر الفلسفة، ونكتنه السمات المشتركة بين الفلاسفة وعمليات
التفلسف في الزمن القديم. علينا أن نحاول أن نميز، على نحوٍ ما،
غرابة هذه الظاهرة، عسانا أن نفهم، على نحوٍ أفضل، غرابة استمرارها
طوال تاريخ الفلسفة الغربية كله. ولعلك تتساءل لماذا نتحدث عن
«الغرابة» حيث «الفيلوصوفيا»
Philosophia ظاهرةٌ عامةٌ جد ومشتركة للغاية.
ألا تلون الصبغة الفلسفية كل الفكر الهلينستي
٢ والروماني؟ ألم يكن شمول الفلسفة وشعبيتها من خصائص
ذلك الزمن؟ بلى، الفلسفة متغلغلة في كل شيء: في الخطب، في
الروايات، في الشعر، في العلم، في الفن؛ ولكن علينا ألا ننخدع؛
فهذه الأفكار العامة والتصورات الشائعة التي قد تزين عملًا
أدبيًّا، يفصلها عن التفلسف الحقيقي هوةٌ سحيقة. الحق أن كونك
فيلسوفًا يقتضيك قطيعة مع ما أسماه الارتيابيون اﻟ «بيوس
Bios»، أي الحياة اليومية (حيث كانوا
ينتقدون غيرهم من الفلاسفة لإغفالهم المسلك الحياتي المشترك،
الطريقة المعتادة في النظر والعمل والتي تتمثل عندهم في احترام
العادات والقوانين، وممارسة حرفة أو مزاولة تجارة، وإشباع الحاجات
الجسدية، والإيمان بالمظاهر الذي لا غنى عنه للعمل والفعل). فمن
الحق أن الارتيابيين حتى مع اختيارهم الإذعان للسلوك الحياتي
الشائع ظلوا فلاسفة؛ فقد كانوا يمارسون تدريبًا يتطلب شيئًا لا
يخلو من الغرابة: وهو تعليق الحكْم،
٣ والسعي إلى غاية قلَّما يعرفها المسلك الحياتي الشائع؛
وهي السكينة المستمرة والصفاء الروحي الدائم.
هذه القطيعة بين الفيلسوف ومسلك الحياة اليومية كانت شديدة
الوضوح لدى غير الفلاسفة؛ فكان مؤلفو الأعمال الكوميدية والهجائية
(الساتورا) يصوِّرون الفلاسفة على أنهم شخصياتٌ عجيبة إن لم تكن
خطرة. ومن الحق كذلك أن عدد الدجالين أدعياء الفلسفة لا بد أنه كان
كبيرًا طوال العصر القديم، وأن شخصًا مثل لوسيان(لوشن) Lucian، قد وجد فيهم غرضًا سانحًا
لممارسة ظرفه. والقانونيون أيضًا كانوا يعتبرون الفلاسفة جنسًا
منفصلًا. ويذكر ألبيان Ulpian أنه
في الدعاوى القضائية بين الفلاسفة وخصومهم لم يكن المتنفِّذون
بحاجة إلى أن يشغلوا بالهم بالفلاسفة، لأن هؤلاء الناس يصرِّحون
بأنهم يحتقرون المال. ثمة لائحة وضعها الإمبراطور أنطونيوس بيوس عن
الرواتب والتعويضات جاء فيها أنه إذا ساوم فيلسوف في أمر ممتلكاته
فإنه يثبت بذلك أنه ليس فيلسوفًا.
الفلاسفة إذن غرباء … جنسٌ منفصل. غرباء حقًّا أولئك
الأبيقوريون، الذين يعيشون حياةً مقتصدة يمارسون فيها مساواةً تامة
بين الرجال والنساء داخل حلقتهم الفلسفية، بل بين المتزوجات
والمحظيات. وغرباء أيضًا أولئك الرواقيون الرومان الذين يديرون،
بنزاهة، مقاطعات من الإمبراطورية يولَّون عليها، فإذا هم الوحداء
الذين يأخذون مأخذ الجد قوانين منع السكر أو الإفراط في الشراب.
غريب أيضًا هذا الأفلاطوني الروماني السيناتور روجتيانوس، تلميذ
أفلوطين، الذي أقدم منذ أول يوم لتولِّيه وظائف البريتور
٤ على التخلي عن مسئولياته الشخصية وممتلكاته الخاصة،
وإعتاق عبيده، وتناول الطعام غِبًّا.
٥ غرباء حقًّا كل أولئك الفلاسفة الذين، من غير إلهام من
عقيدةٍ دينية، يقطعون صلتهم تماما بتقاليد معظم الفانين
وعاداتهم.
وإبان المحاورات الأفلاطونية كان سقراط يُدعى «أتوبوس» Atopos، أي المتعذر تصنيفه (غريب
الأطوار). إن ما يجعله أتوبوس هو بالضبط أنه
Philo-sopher بالمعنى
الإتيمولوجي للكلمة، أي «محب الحكمة» (في علاقة عشق مع الحكمة).
ذلك أن الحكمة، فيما تقول ديوتيما في محاورة المأدبة، ليست حالةً
بشرية، إذ هي حالة من كمال الوجود والمعرفة لا يمكن أن تكون إلا
إلهية. إن عشق هذه الحكمة، هذا العشق الغريب عن العالم، هو ما يجعل
الفيلسوف غريبًا فيه.
لذا ستشيد كل مدرسة تصورها
العقلي لهذه الحالة من الكمال في شخص الحكيم، وكل مدرسة ستبذل
جهدًا لرسم صورته. والحق أن هذا المثال المفارق سيعتبر مستحيل
التحقق تقريبًا، فوفقا لبعض المدارس لم يوجد رجلٌ حكيم قط، ووفقًا
لمدارس أخرى فربما كان هناك واحد أو اثنان، مثل أبيقور؛ ذلك الإله
بين البشر، ووفقًا لرأيٍ ثالث فإن هذه الحالة قد تبلغ في لحظاتٍ
نادرةٍ عابرة. بهذا المعيار المفارق الذي يؤسسه العقل ستعبر كل
مدرسة عن رؤيتها الخاصة للعالم، وأسلوبها الخاص في الحياة، وفكرتها
الخاصة عن الإنسان الكامل. هذا ما جعل وصف هذا المعيار المفارق، في
كل مدرسة، يتداخل مع فكرتها العقلية عن الرب. وقد لاحظ ميشليه Michelet ملاحظةً ثاقبة للغاية،
وهي أن «الديانة الإغريقية بلغت ذروتها في إلهها الحقيقي؛ الحكيم.»
ويمكننا تأويل هذه الملاحظة، التي لم يتوسع فيها ميشليه، بأن نقول
إن اليونان لحظة يحقق الفلاسفة تصورًا عقليًّا للرب قائمًا على
نموذج الحكيم — تتجاوز تمثلها الأسطوري لآلهتها. إن الأوصاف
الكلاسيكية للحكيم، بطبيعة الحال، تصور ظروف الحياة الإنسانية وتصف
كيف سيتصرف الحكيم في هذا الموقف أو ذاك، ولكن الغبطة التي يحتفظ
بها الرجل الحكيم بثبات خلال مصاعبه هي غبطة الرب نفسه. يسأل سنكا:
ماذا ستكون حياة الحكيم في الوحدة إذا كان في السجن أو المنفى أو
ملقًى به على شطوط جزيرةٍ مهجورة؟ ويجيب بأنها ستكون حياة زيوس
(أي، عند الرواقيين، حياة العقل الكلي) بعد أن يتوقف نشاط الطبيعة
في نهاية كل فترةٍ كونية، عندما يتفرغ، بحرية، لأفكاره. ومثل زيوس
سيطيب للحكيم أن يكون وحيدًا مستمتعًا بكونه مكتفيًا بذاته. هكذا
تتداخل أفكار الرجل الحكيم وإرادته، مع أفكار وإرادة العقل المحايث
لتطور الكون. أما الحكيم الأبيقوري فإنه، شأنه شأن الآلهة، يشاهد
لانهائية العوالم الناجمة من الذرات في فراغٍ لانهائي؛ إن الطبيعة
كافية لإشباع حاجاته، ولا شيء يعكر صفاء روحه. أما الحكيم
الأفلاطوني والحكيم الأرسطي فيرفعان نفسيهما، باختلاف يسير، بحياة
العقل، إلى نطاق العقل الإلهي نفسه.
الآن لدينا فهمٌ أفضل للأتوبيا Atopia، أي غرابة الفيلسوف في دنيا البشر، لا
يعرف المرء كيف يصنفه، فلا هو حكيم ولا هو إنسان كغيره من البشر.
إنه يعرف أن الحالة القويمة للإنسان يجب أن تكون هي الحكمة، أي
رؤية الكون كما هو في ضوء العقل، ويعرف أيضًا أن الحكمة ما هي إلا
طريقة الوجود والمعيشة وفقًا لهذه الرؤية. ولكن الفيلسوف يعرف
أيضًا أن هذه الحكمة حالةٌ مثالية لا سبيل إلى بلوغها. بالنسبة
لهذا الإنسان فإن الحياة اليومية كما ينظمها الناس ويعيشونها لا بد
أن تبدو غير سوية، وأشبه بحالة جنون، وغيبوبة، وجهل بالواقع. غير
أن عليه أن يحيا هذه الحياة كل يوم، في هذا العالم الذي يشعر فيه
بالغربة، والذي يراه فيه الآخرون واحدًا من الناس. في هذه الحياة
اليومية بالتحديد ينبغي عليه أن يبلغ تلك الطريقة من العيش التي هي
غريبة تمامًا عن عالم كل يوم. والنتيجة هي صراعٌ دائم بين محاولة
الفيلسوف أن يرى الأشياء كما هي من منظور الطبيعة الكونية وبين
الرؤية التقليدية للأشياء في المجتمع البشري، أي صراع بين الحياة
كما ينبغي أن تعاش والحياة اليومية التي تواضع عليها الناس. هذا
الصراع لا يمكن مطلقًا حله على نحوٍ تام. أما الكلبيون Cynics، في رفضهم لعالم العرف
الاجتماعي، فيختارون القطيعة التامة. وأما الارتيابيون (الشُّكَّاك) Skeptics، على العكس،
فيقبلون العرف الاجتماعي تمامًا مع احتفاظهم بالسلام الداخلي. وأما
الأبيقوريون Epicureans
فيحاولون فيما بينهم إعادة خلق حياةٍ يومية تتفق مع مثال الحكمة.
وأما الأفلاطونيون Platonists والرواقيون Stoics فيجاهدون، متجشِّمين مصاعبَ جمة، لكي
يعيشوا حياتهم اليومية، وحتى حياتهم العامة، بطريقةٍ «فلسفية».
وبالنسبة للجميع على كل حال فإن الحياة الفلسفية ستكون محاولة
للعيش والتفكير وفق معيار الحكمة، ستكون حركة، تقدمًا، وإن كان
بغير نهاية، تجاه هذه الحالة المفارقة.
كل مدرسة، إذن، تمثل شكلًا للحياة يحدده مثال للحكمة. والمحصِّلة
أن كل مدرسة لديها اتجاهها الداخلي الأساسي الخاص بها (التوتر عند
الرواقيين، مثلًا، أو الاسترخاء عند الأبيقوريين)، ولديها طريقتها
في الحديث (مثل استخدام الجدل الطارق
٦ عند الرواقيين، أو البلاغة الغزيرة عند الأكاديميين).
ولكن فوق كل شيء فإن كل مدرسة تمارس تدريباتٍ مصمَّمة لكي تحقق
التقدم الروحي نحو حالةٍ مثالية من الحكمة ستكون للروح بمثابة
تناول علاجٍ طبي. وبصفةٍ عامة تتكون التدريبات في المقام الأول من
السيطرة على النفس والتأمل. والسيطرة على النفس هي بالأساس انتباه
المرء إلى نفسه؛ يقظة بلا انقطاع عند الرواقيين، والتخلي عن
الرغبات غير الضرورية عند الأبيقوريين. وهو يتضمن دائمًا جهدًا
للإرادة، وبالتالي الإيمان بالحرية الأخلاقية وإمكان التحسن
الذاتي، ووعيًا أخلاقيًّا حادًّا يشحذه توجهٌ روحي وممارسة تمحيص
المرء لضميره،
٧ ويتضمن أخيرًا ذلك النوع من التدريبات العملية التي
وصفت بدقةٍ متناهية وبخاصة من جانب بلوتارخ: التحكم في الغضب، أو
الفضول، أو الكلام، أو حب الثروة، بادئة بالأسهل ومتدرجة إلى
اكتساب طبعٍ صلب وثابت.
أما «التأمل»، وهو الأهم فهو عبارة عن «تدريب» العقل. كما أن
اللفظتَين مترادفتان من الوجهة الإتيمولوجية. وبخلاف ممارسات
التأمل البوذية في الشرق الأقصى فإن التأمل الفلسفي
اليوناني/الروماني غير مرتبط بوضعٍ جسدي، بل هو تدريبٌ
عقلي-تخيلي-حدسي خالص يمكن أن يتخذ أشكالًا متباينة للغاية. التأمل
هو، قبل كل شيء، استظهار وتمثل للمبادئ الأساسية والقواعد الحياتية
الخاصة بالمدرسة. وبفضل هذا التدريب فإن رؤية العالم الخاصة بالشخص
الساعي إلى التقدم الروحي سوف تتحول تمامًا. التأمل الفلسفي في
المبادئ الفيزيقية الأساسية، بصفةٍ خاصة، مثل التأمل الأبيقوري في
نشوء العوالم في الخلاء اللانهائي، أو التأمل الرواقي في التدفق
العقلاني والضروري للأحداث الكونية، يمكن أن يفضي إلى تدريب
للمخيلة تبدو فيه الأمور البشرية لا وزن لها بالقياس إلى هول
المكان والزمان. ومن الضروري أن يحاول المرء أن يجعل هذه المبادئ
والقواعد الحياتية «طوع اليد»
٨ إذا شاء أن يكون قادرًا على أن يسلك سلوك فيلسوف تحت
جميع الظروف الحياتية. كما أن على المرء أن يكون قادرًا على تخيُّل
هذه الظروف مقدمًا لكي يكون متأهبًا لصدمة الأحداث. وفي جميع
المدارس، ولأسبابٍ متعددة، ستكون الفلسفة بصفةٍ خاصة تأملًا في
الموت وتركيزًا على اللحظة الحاضرة لكي يستمتع بها المرء ويعيشها
بجمع وعيه. في جميع هذه التدريبات سوف تستخدم كل الوسائل التي
يتيحها الجدل والبلاغة
٩ لتحقيق أقصى تأثيرٍ ممكن. هذا الاستخدام العمد للبلاغة
يفسر انطباع التشاؤم الذي يلمسه بعض القراء في «تأملات ماركوس
أوريليوس». إنه لا يتردد في استخدام أي صورٍ خيالية إذا كانت تقرع
المخيلة وتجعل القارئ على وعي بأوهام الجنس البشري
ومواضعاته.
يجب أن تُفهَم العلاقة بين النظرية والتطبيق في الفلسفة في هذه
الفترة من منظور هذه التدريبات التأملية. لم تكن النظرية ينظر
إليها كغاية في ذاتها، وإنما هي، بوضوح وحسم، في خدمة الممارسة.
وأبيقور صريح في هذا الصدد: هدف علم الطبيعة هو بلوغ الصفاء
الروحي. أو، مثلما هو الحال عند الأرسطيين، فإن ارتباط المرء
بالنشاط النظري، معتبرًا كطريقة حياة تؤتي هناءً وسعادةً شبه
إلهية، هو أعظم من ارتباطه بالنظريات ذاتها. أو، مثلما هو الحال في
مدرسة الأكاديميين أو لدى الشُّكاك، فإن النشاط النظري هو نشاطٌ
نقدي. أو، كما يؤثر عن الأفلاطونيين، فالنظرية ليست تُعدُّ معرفةً
حقيقية: يقول فرفوريوس
Porphyry:
١٠ «التأمل البهيج لا يتكون من تراكم حجج أو مخزن معرفةٍ
ملقَّنة؛ إنما النظرية عندنا يجب أن تصبح طبيعة أو تصبح الحياة
ذاتها.» ووفقًا لأفلوطين فإن المرء لا يمكنه أن يعرف الروح ما لم
يطهر نفسه من أهوائها لكي يخبر في ذاته علو الروح على الجسد، ولا
يمكنه أن يعرف مبدأ جميع الأشياء ما لم يكن قد حظي بخبرة التوحد
بهذا المبدأ.
ولكي يمكن للمبتدئين أداء هذه التدريبات التأملية فإنهم يلمُّون
بخلاصات المبادئ الأساسية لمدرستهم. كانت «رسائل» Letters أبيقور، التي حفظها لنا
ديوجينيس لائرتيوس، تقصد إلى أن تلعب هذا الدور. ولضمان فاعليةٍ
روحيةٍ كبيرة لهذه المبادئ فإن من اللازم أن تتمثل في صياغاتٍ
أخاذةٍ وجيزة كما في «المذاهب الرئيسية» لأبيقور، أو في شكلٍ صارم
التنظيم كما في «رسالة إلى هيرودوت» لنفس المؤلف، بحيث تتيح للطالب
أن يستوعب في ضرب من الحدس الواحد أساسيات المذهب بحيث يكون أقرب
مأخذًا له وأدنى قطوفًا. وهنا يكون الاتساق المنظومي (النسقي) من
أجل الفاعلية الروحية.
إن الاعتقادات والمبادئ الميثودولوجية لكل مدرسة ليست محل نقاش.
لقد كان التفلسف في هذه الحقبة هو أن تختار مدرسة وتتحول إلى
طريقتها الحياتية وتقبل مبادئها. هذا هو السبب في أن لُبُّ المبادئ
الأساسية والقواعد الحياتية لدى الأفلاطونية والأرسطية والرواقية
والأبيقورية بقيت كما هي طوال العصر القديم. وحتى العلماء في ذلك
الزمن كانوا ينتسبون دائمًا إلى مدرسةٍ فلسفية: ولم تُغيِّر
نظرياتهم الرياضية والفلكية شيئًا قط من المبادئ الأساسية للمدرسة
التي يتحزَّبون لها.
ليس يعني ذلك أن التفكر والتوسع النظريَّين غائبان عن الحياة
الفلسفية. غير أن هذا النشاط لم يمتد قط إلى المبادئ نفسها أو
الأسس الميثودولوجية، بل اقتصر على طرائق البرهنة على هذه المبادئ
وتنظيمها، وعلى نقاطٍ مذهبيةٍ ثانويةٍ ناجمة منها ولا يوجد إجماع
عليها في المدرسة. وهذا النوع من الاستقصاء مقصور دائما على الطلاب
الأكثر تقدمًا، حيث يُعدُّ هذا بالنسبة لهم تدريبًا عقليًّا يقويهم
في حياتهم الفلسفية. مثال ذلك أن خريسبوس آنَس في نفسه القدرة على
اكتشاف الحجج التي تبرر المبادئ الرواقية التي أسسها زينون
وكليانتس، والتي حدت به، فضلًا عن ذلك، إلى الاختلاف معهما، ليس في
هذه المبادئ بل في طريقة تأسيسها. كذلك فعل أبيقور إذ ترك شرح
التفاصيل ودراستها للطلاب الأكثر تقدمًا؛ وبعده بزمنٍ طويل سنجد
نفس الموقف عند أوريجين الذي أولى «الطلاب الروحانيين»، كما يقول
هو نفسه، مهمة البحث، من طريق التدريب، عن «الكيف» واﻟ «لماذا»
ومناقشة هذه الأسئلة الغامضة والثانوية. هذا المجهود من التفكُّر
النظري يمكن أن يفضي إلى تأليف أعمالٍ ضخمة.
من الواضح أن هذه الرسائل النسقية (المنظومية)
١١ والتعليقات الأكاديمية، من مثل رسالة أوريجين عن
«المبادئ» أو رسالة بروكلوس «عناصر الثيولوجيا»، خليقة أن تجذب
انتباه مؤرخ الفلسفة. إن دراسةً تقدم الفكر في هذه النصوص العظيمة
يجب أن تكون إحدى المهام الرئيسية في أي تأمل في ظاهرة الفلسفة؛
غير أن من الضروري أن ندرك أن الأعمال الفلسفية بعامة في الفترة
الإغريقية الرومانية تُربِك القارئ المعاصر بصفةٍ شبه دائمة؛ لا
القارئ العام فحسب بل تربك حتى المتخصصين في المجال. إن بوسع المرء
أن يجمع مجلدًا كاملًا من المقتطفات الخاصة بالشكاوى المرفوعة ضد
المؤلِّفين القدامى من جانب المعلِّقين المحدَثين الذين ينعون
عليهم ركاكتهم وتناقضاتهم وافتقارهم إلى الدقة والاتساق. الحق أني
أعجب لهؤلاء النقاد وأعجب أيضًا للظاهرة التي يشجبونها من حيث
شمولها ودوامها. وهذه الدهشة المزدوجة هي ما أملى المراجعات التي
عرضتُها للتوِّ وتلك التي أودُّ أن أنتقل إليها الآن.
يبدو لي، في الحقيقة، أننا لكي نفهم أعمال فلاسفة العصر القديم
يتعيَّن علينا أن نلمَّ بجميع الظروف العيانية والملموسة التي
كانوا يكتبون فيها، جميع القيود أو الضوابط التي كانوا تحت وطأتها:
إطار عمل المدرسة، طبيعة «الفيلوصوفيا» نفسها، الأجناس الأدبية،
القواعد البلاغية، الأوامر العقدية، الطرائق التقليدية في
الاستدلال. ليس بمكنة المرء أن يقرأ كاتبًا قديمًا بنفس الطريقة
التي يقرأ بها كاتبًا معاصرًا (ليس يعني هذا أن المؤلفين المعاصرين
أسهل في الفهم من أولئك القدماء). الحق أن أعمال العصر القديم
أنتجت تحت ظروفٍ مختلفة تمامًا عن ظروف نظرائهم المحدَثين. لن أعرض
لمشكلة العون المادي: الرَّق
١٢ أو المخطوطة، وكلاهما له إملاءاته. ولكني أريد حقَّا
أن أؤكد حقيقة أن الأعمال المكتوبة في الفترة التي ندرسها لم تكن
قط متحررة تمامًا من القيود التي يفرضها النقل الشفاهي. إنه لشطط
في الرأي أن نقول، كما يتردد لا يزال حتى اليوم، إن الحضارة
الإغريقية الرومانية صارت منذ بواكيرها حضارة كتابة، وإن بوسع
المرء، من ثم، أن يتناول الأعمال الفلسفية للعصر القديم، من
الناحية المنهجية، مثلما يتناول أي عملٍ مكتوبٍ آخر.
ذلك أن الأعمال المكتوبة في هذه الحقبة تبقى وثيقة الصلة بالنقل
الشفاهي. فكثيرًا ما كانت تملى على ناسخ. وكان يقصد منها أن تُقرأ
جهارا، سواء بواسطة عبد يقرأ لسيده أو بواسطة القارئ نفسه؛ إذ إن
القراءة في العصر القديم كانت تعني عادة القراءة الجهرية التي تبرز
إيقاع العبارة وأصوات الكلمات، والتي خبرها المؤلف نفسه عندما أملى
عمله. لقد كان القدماء حساسين للغاية لهذه التأثيرات الصوتية،
وقلَّما كان أحد من فلاسفة هذه الحقبة يقاوم هذا السحر الخاص
بالكلمة المنطوقة، لا نستثني أحدًا حتى الرواقيين وحتى أفلوطين.
لذا فإن كان الأدب الشفاهي قبل ممارسة الكتابة يفرض ضوابط صارمة
على التعبير، ويقسر المرء على أن يستخدم صيغًا معينةً إيقاعية
ومكرورة وتقليدية توصل صورًا وأفكارًا بمعزل، إن صح التعبير، عن
إرادة المؤلف — فإن هذه الظاهرة ليست غريبة على الأدب المكتوب بحيث
إنه أيضًا يجب أن يكترث بالإيقاع والصوت. وإذا شئت مثالًا متطرفًا
في ذلك، ولكنْ كاشفًا للغاية، فإن استخدام الوزن الشعري في كتاب
«في طبيعة الأشياء» De Rerum
Natura يحتم اللجوء إلى صيغٍ معينةٍ مكرورة
بعض الشيء، وتمنع لوكريتس من الاستخدام الحر للمفردات الفنية
الأبيقورية التي كان عليه أن يستخدمها.
هكذا تفسِّر هذه العلاقة بين الكلمة المكتوبة والمنطوقة جوانبَ
معينةً من أعمال العصر القديم. فالأغلب الأعم أن يتقدم العمل
بواسطة تداعيات الأفكار بدون دقةٍ تنظيمية. إن العمل ليحتفظ
باستهلالات، وتوقفات، وترددات، وإعادات الحديث المنطوق. وإلا فإن
المؤلف بعد إعادة قراءة ما كتب يدخل تنظيمًا مقحمًا بعض الشيء،
بإضافة انتقالات أو مقدمات أو خواتيم، إلى الأجزاء المختلفة من
العمل.
إن الأعمال الفلسفية أكثر ارتباطًا بالنقل الشفاهي من بقية ضروب
الأدب؛ لأن الفلسفة القديمة نفسها هي بعد كل شيء شفاهية الطابع.
صحيح بغير شك أنه كانت هناك مصادفات يتحول فيها شخصٌ ما إثر قراءة
كتاب، غير أنه إذ ذاك سيُهرع إلى الفيلسوف ليسمعه وهو يتكلم،
ويسائله، ويجري مناقشات معه ومع التلاميذ الآخرين في جماعة تعمل
دائمًا كمحلٍّ للنقاش. إن الكتابة في أمور التدريس الفلسفي لا تعدو
أن تكون عونًا للذاكرة، ملجأً أخيرًا لن يقوم أبدًا مقام الكلمة
الحية.
التعليم الحقيقي شفاهي دائمًا؛ لأن الكلمة الشفاهية وحدها هي ما
يجعل الحوار ممكنًا، أي إنها تمكن التلميذ من أن يكتشف الحقيقة
بنفسه من خلال تفاعل الأسئلة والأجوبة، وتُمكِّن الأستاذ أيضًا من
أن يُكيِّف تدريسه وفقًا لاحتياجات التلميذ. ثمة عدد من خيرة
الفلاسفة لم يرغب في الكتابة، على أساس أن ما تنقشه الكلمة
المنطوقة — كما رأى أفلاطون بحق — أصح وأبقى من الأحرف المدوَّنة
على البردي أو على الرَّق.
١٣
هكذا كانت معظم الإصدارات الكتابية للفلاسفة هي إعداد أو امتداد
أو صدًى للدروس المنطوقة، وموسومة بالقيود والضوابط التي يفرضها
هذا الموقف الشفاهي.
كما أن بعض هذه الأعمال
ترتبط مباشرة بعملية التدريس؛ فقد تكون ملخصًا يُسَوِّده المعلم في
إعداد فصله، أو ملاحظات يدوِّنها الطلاب أثناء الفصل؛ وإلا فقد
تكون نصوصًا مكتوبة بعناية ولكن قُصِد منها أن تُقرَأ أثناء الفصل،
سواء بواسطة الأستاذ أو أحد الطلاب. في جميع هذه الحالات فإن
الحركة العامة للفكر، تفتُّحه وانبلاجه، أو ما يمكن أن نسميه
زمانيته، تنظمها زمانية الكلام (المنطوق). ذلك قيدٌ جد ثقيل أراني
أَخبُر اليوم وطأته.
حتى النصوص التي كُتبت في ذاتها ولذاتها هي وثيقة الارتباط
بالنشاط التعليمي، يعكس جنسُها الأدبي مناهجَ المدارس وطرائقها.
يتكون أحد التدريبات المعتبرة في المدارس من شرح: إما على نحوٍ
ديالكتيكي (على شكل أسئلة وأجوبة) وإما على نحوٍ خطابي؛ أي في
حديثٍ مستمر يطلق عليه «أطروحات»
Theses: أي مواقف نظرية معروضة في شكل أسئلة
من قبيل: «هل الموت شر؟»، «هل الرجل الحكيم يغضب على الإطلاق؟» من
شأن هذا أن يقدم تدريبًا على إحكام الكلمة المنطوقة وتدريبًا
فلسفيًّا قويمًا أيضًا. إلى هذا التدريب ينتمي الشطر الأكبر من
الأعمال الفلسفية القديمة (مثل أعمال شيشرون وبلوتارخ وسِنِكا
وأفلوطين وما يسميه المحدثون «الدياتريب»
Diatribe). إنها أعمال تعرض لسؤالٍ محدد تضعه
في بداية العمل، والذي يتطلب عادة الجواب بنعم أو لا. يتمثل مسار
التفكير في هذه الأعمال في العودة إلى المبادئ العامة التي قبلتها
المدرسة والتي يمكنها حل المشكلة المطروحة. هذا البحث عن المبادئ
لحل مشكلةٍ معطاة يحصر التفكير داخل حدودٍ ضيقة. إن الأعمال
المختلفة المكتوبة بواسطة نفس المؤلف والمسترشدة وفق هذه الطريقة
«الملتمِسة»
Zedetic١٤ لن تكون متسقة بالضرورة في جميع النقاط؛ لأن تفاصيل
الحجة في كل عمل ستكون مكيَّفة للسؤال المطروح.
وتدريبٌ مدرسيٌّ آخر هو قراءة وتفسير النصوص العمدة
١٥ في كل مدرسة. وكثير من الأعمال الأدبية، وبخاصة
التعليقات الطويلة من نهايات العصر القديم، هي نتاج هذا التدريب.
وبصفةٍ أعم فإن عددًا كبيرًا من الأعمال الفلسفية من ذلك الزمن
يستخدم شكلًا من التفكير التفسيري:
١٦ فالأغلب أن يكون عرض «الأطروحة»
Thesis عبارة عن عرض لا للمشكلة في ذاتها بل
للمعنى الذي يجب أن يسبغه المرء على عبارات أفلاطون أو أرسطو
المتعلقة بهذه المشكلة. وما إن يتبنى المرء هذه الطريقة حتى يكون
قد تناول المشكلة حقًّا ببعض العمق، إلا أن هذا التناول يتم بأن
يسبغ المرء على العبارات الأفلاطونية أو الأرسطية المعاني التي
تؤيد الحل ذاته الذي ارتآه للمشكلة المعنية. وأي معنًى ممكن هو
صحيح ما دام يتَّسق مع الحقيقة التي يعتقد المرء أنه اكتشفها في
النص. بهذه الطريقة تنبثق شيئًا فشيئًا، في التراث الروحي لكل
مدرسة وبخاصة في الأفلاطونية، سكولائية تعتمد على الاحتكام إلى السلطة،
١٧ وتشيد صروحًا مذهبيةً عملاقة عن طريق تأملٍ عقلي فوق
المعتاد في العقائد الأساسية. ينجم من ذلك في بعض الأحيان الجنس
الأدبي الفلسفي الثالث على وجه التحديد: أي الرسالة المنظومية
(النسقية)، التي تقترح ترتيبًا عقليًّا للمذهب كله، كما في حالة
بروكلوس
More Geometrico، أي وفقًا
لنموذج «العناصر»
Elements
لإقليدس. في هذه الحالة لا يعود المرء إلى المبادئ الضرورية لحل
مشكلةٍ معينة بل يسجل المبادئ مباشرة ويستنبط نتائجها المترتبة
عنها. هذه الأعمال «أكثر كتابية»، إن صح التعبير، من غيرها.
وكثيرًا ما تتضمن سلسلةً طويلة من الكتب، وتتميز بتصميمٍّ كليٍّ
عريض. ولكن هذه الأعمال ذاتها، شأنها شأن كتب «المجمل اللاهوتي»
Summae Theologicae
للعصور الوسطى التي حذت حذوها، يجب أن تُفهم من منظور التدريبات
المدرسية الديالكتيكية والتفسيرية.
وعلى خلاف نظائرها الحديثة، لا شيء من هذه الأعمال الفلسفية، حتى
الأعمال المنظومية، يخاطب أيًّا كان، أو يتوجه لعامة الجمهور،
وإنما قصد بها في المقام الأول أن تخاطب الجماعة المكوَّنة من
أعضاء المدرسة، وكثيرًا ما تردد المشكلات المطروحة بواسطة التدريس
الشفاهي. ولا يخاطب الدائرةَ الأوسعَ من القراء إلا الأعمال
الدعائية.
كما أن الفيلسوف كثيرًا ما يكون عمله وهو يكتب امتدادًا لعمله
الذي يمارسه في المدرسة كموجِّهٍ روحي. في مثل هذه الأحوال قد يكون
العمل موجهًا لتلميذٍ معين بحاجة إلى تشجيع أو يجد نفسه في ضائقةٍ
معينة. أو ربما يكون العمل مفصلًا ليناسب المستوى الروحي
للمخاطَبين. فليست كل تفاصيل المذهب يمكن أن تُشرَح للمبتدئين،
فكثير من التفاصيل لا يمكن أن تكشَف إلا لمن قطع في التعلم شوطًا.
وفوق كل ذلك فإن العمل، حتى إذا بدا نظريًّا ومنظوميًّا، إنما
يكتَب لا لكي يلقِّن القارئ محتوًى مذهبيًّا بل لكي ينشِّئه ويكوِّنه،
١٨ أن يجعله يجتاز محطةً معينة من المسيرة التي سيحقق بها
التقدم الروحي. يتجلَّى ذلك بوضوح في أعمال أفلوطين وأوغسطين، حيث
جميع الانعطافات والبدايات والتوقفات والاستطرادات هي عناصر تنشئة.
وعلى المرء دائمًا أن يقارب أي عملٍ فلسفي قديم وفي ذهنه هذه
الفكرة عن التقدم الروحي. إن الرياضيات نفسها عند الأفلاطونيين،
على سبيل المثال، تُستخدَم لتدريب الروح على السمو بنفسها من
المحسوس إلى المعقول. وإن البناء الكلي للعمل وأسلوبه في العرض قد
يكون استجابة لهذه الشواغل.
تلك إذن هي القيود العديدة التي كانت مفروضة على المؤلف القديم،
والتي كثيرًا ما تُحيِّر القارئ الحديث، سواء من ناحية ما يقال أو
الطريقة التي يقال بها. يتطلب فهمُ عملٍ قديم وضعَه في الجماعة
التي صدر منها، وفي تراث عقائدها، وفي جنسها الأدبي، ويتطلب فهمَ
أهدافه. على المرء أن يحاول أن يميز ما كان مطلوبًا من المؤلف أن
يقوله، ما كان بمكنته وما ليس بمكنته أن يقوله، وأن يميز، فوق كل
شيء، ما قصد أن يقوله؛ ذلك أن فن المؤلف القديم يتمثل في براعته،
للوصول إلى أهدافه، في التعامل مع الضوابط التي تُنيخ عليه
والنماذج التي هيأها التراث. كما أنه، فضلًا عن ذلك، لا يستخدم فقط
الأفكار والصور ونماذج الحجة بهذه الطريقة بل النصوص أيضًا أو
الصيغ المسبقة على أقل تقدير. فمن الانتحال الخالص والبسيط إلى
الاقتباس أو إعادة الصياغة تتضمن هذه الممارسة — وهذا هو المثال
الأميز — الاستخدامَ الحرفي للصيغ أو الألفاظ التي استخدمها التراث
الأقدم التي كثيرًا ما يمنحها المؤلف معنًى جديدًا يلائم ما يريد
أن يقوله. تلك هي الطريقة التي يستخدم بها فيلون Philo اليهودي الصيغَ الأفلاطونية
لكي يعلق على الكتاب المقدس، أو يترجم بها أمبروز Ambrose المسيحي نص فيلون لكي
يعرضَّ المذاهب المسيحية، والطريقة التي يستخدم بها أفلوطين كلمات
وجملًا كاملة من أفلاطون لكي يوصل خبرته. إن المهم في المقام الأول
هو مكانة الصيغة القديمة والتراثية وليس المعنى الدقيق الذي لديها
في الأصل. فالفكرة ذاتها أقل أهمية من العناصر الجاهزة التي يعتقد
الكاتب أنه يرى فيها فكرته هو، تلك العناصر التي تكتسي معنًى
وغرضًا غير متوقَّعَين عندما تندمج في كلٍّ أدبي. هذا الترقيع،
البارع في بعض الأحيان، لعناصر مصنوعة مقدمًا يعطي انطباع
«البريكولاج» Bricolage —
بالتعبير الرائج حاليًّا — ليس فقط بين الأنثروبولوجيين ولكن بين
البيولوجيين. أي إن الفكر يتطور بإدماج عناصرَ جاهزة ومسبقة تكتسب
عندئذٍ معنًى جديدًا، إذ تنسبك في منظومةٍ عقلية. لستَ تدري ما هو
الأعجب في عملية الدمج هذه: العرضية، الصدفة، اللامعقولية، البطلان
نفسه الناتج عن العناصر المستخدمة، أم، على العكس، القوة العقلية
العجيبة في اندماج وانسلاك هذه العناصر المتفرقة وإضفاء معنًى
جديدٍ عليها.
ثمة مثالٌ بالغ الدلالة
على هذا الإضفاء لمعنًى جديد يمكن أن نراه في الأسطر الأخيرة من
«تأملات
ديكارتية»
Cartesian Meditations لإدموند هُسْرل. يقول هسرل: لقد اكتسب
جواب كاهنة دلفي (اعرف نفسك) معنًى جديدًا … يتعيَّن على المرء
أولًا أن يفقد العالم بواسطة الإبوخيه
١٩ («التقويس الفينومينولوجي» للعالَم عند هسرل) لكيما
يستعيده في وعيٍ ذاتي كلي. يقول القديس أوغسطين «لا تضل طريقك من
الخارج، عدْ إلى نفسك، إنما في الإنسان الباطن تقطن الحقيقة.» هذه
العبارة الأخيرة للقديس أوغسطين تقدم لهسرل صيغةً مريحة للتعبير عن
تصوره الخاص للوعي وتلخيص هذا التصور. ومن الحق أن هسرل يعطي هذه
الجملة معنًى جديدًا. ﻓ «الإنسان الباطن» عند أوغسطين يصبح
«الأنا
الترنسندنتالية»
Transcendental Ego عند هسرل، تلك الذات العارفة
التي تسترد العالم في «وعي ذاتي عمومي»
A Universal
Self-Consciousness. لم يكن بمكنة أوغسطين قط أن
يتصور «إنسانه الباطن» على هذا النحو. ورغم ذلك فإن المرء ليفهم
لماذا أُغري هسرل باستعمال هذه الصيغة. ذلك أن عبارة أوغسطين تلخص،
على نحوٍ معجب، روح الفلسفة الإغريقية الرومانية كلها، التي تمهد
الطريق لكلٍّ من «تأملات» ديكارت و«تأملات ديكارتية» لهسرل.
وبواسطة نفس الإجراء، أي بأخْذ هذه الصيغة مرةً أخرى، يمكننا نحن
أنفسنا أن نطبق على الفلسفة القديمة ما يقوله هسرل عن فلسفته هو:
جواب الوحي في دلفي «اعرف نفسك» قد اكتسب معنًى جديدًا. ذلك أن كل
الفلسفة التي قد تحدثنا عنها تعطي أيضًا معنًى جديدًا لصيغة دلفي.
هذا المعنى الجديد ظهر بالفعل بين الرواقيين الذين يرون أن
الفيلسوف يدرك وجود عقلٍ إلهي في النفس الإنسانية، والذين يضعون
وعيه الأخلاقي، الذي يعتمد عليه وحده، بمقابل بقية الكون. بل يظهر
هذا المعنى الجديد بوضوحٍ أكبر بين الأفلاطونيين المحدَثين الذين
يماهون بين ما يسمونه النفس الحقيقية وبين الفكر المؤسس للعالم،
ويماهون حتى بينها وبين الوحدة المفارقة التي تؤسس كل فكر وكل
واقع. هكذا تكون هذه الحركة في الفكر الهلينستي والروماني، التي
يتحدث عنها هسرل، قد ارتسمت بالفعل، والتي وفقًا لها يفقد المرء
العالم من أجل أن يجده مرةً ثانية في وعيٍ ذاتيٍّ كوني. هكذا يقدم
هسرل نفسه بوعي وصراحة على أنه وريث لمذهب «اعرف نفسك» الذي يمتد
من سقراط إلى أوغسطين إلى ديكارت. ولكن هذا ليس كل شيء؛ فهذا
المثال، المستعار من هسرل، يمكننا على نحوٍ أفضل أن نفهم بشكلٍ
محدد كيف يمكن لهذه الضروب من إضفاء معنًى جديدٍ أن تُستشفَّ في
العصر القديم أيضًا. حقًّا إن تعبير «في الإنسان
الباطن تقطن الحقيقة»
In Interiore Homine Habitat Veritas، كما بين لي صديقي وزميلي
جولفن مادك، هو إشارة إلى مجموعة من كلماتٍ مقتبسة من الإصحاح ٣،
آية ١٦ و١٧ من رسالة بولس إلى أهل إفسس (من نسخةٍ لاتينيةٍ قديمة
إن شئت الدقة)، يبدو فيها النص ﮐ «في الإنسان الباطن يقطن المسيح».
غير أن هذه الكلمات هي مجرد اقترانٍ ماديٍّ محض لا يوجد إلا في هذه
النسخة اللاتينية ولا يطابق مضامين فكر بولس، لأنها تنتمي إلى
تعبيرتين مختلفتين للجملة: من ناحية يود بولس أن يقطن المسيح في
قلب تلاميذه من خلال الإيمان، ومن ناحيةٍ أخرى، في التعبيرة
السابقة، هو يود أن يتيح الله لتلاميذه أن يتقوَّوا بالروح القدس
في الإنسان
الباطن
In Interiorem Hominem، كما هو في النسخة اللاتينية للإنجيل
(
Vugate). إذن فإن الصيغة
اللاتينية المبكرة، بضمها ﻟ «في الإنسان الباطن» مع «يقطن المسيح»،
كانت إما سوء ترجمة أو سوء نسخ. والصيغة الأوغسطينية «في الإنسان
الباطن تقطن الحقيقة»، هي بذلك مختلقة من مجموعة كلمات لا تمثل
معنًى موحدًا في نص القديس بولس؛ ولكن لهذه المجموعة من الكلمات،
معتبرة في ذاتها، معنًى لدى أوغسطين، وهو يفسِّرها في سياق
De Vera Religione٢٠ حيث يستخدمها: الإنسان الباطن، أي الروح الإنسانية،
يكتشف أن ما يتيح له أن يفكر ويعقل هو الحقيقة، أي العقل الإلهي —
أي، عند أوغسطين، المسيح، الذي يقطن في الروح الإنسانية والذي يحضر
داخلها. بهذه الطريقة تتخذ الصيغة معنًى أفلاطونيًّا. ها نحن نرى،
من القديس بولس إلى هسرل، عن طريق أوغسطين، كيف أن مجموعة من
الكلمات كانت وحدتها في الأصل ماديةً محضة، أو كانت سوء فهم من
جانب المترجم اللاتيني؛ قد أعطيت معنًى جديدًا بواسطة أوغسطين، ثم
بواسطة هسرل، متخذة هكذا مكانها في التراث الواسع الخاص بتعميق
فكرة الوعي الذاتي.
هذا المثال المستفاد من هسرل يتيح لنا أن نلمس أهمية ما يعرف في
الفكر الغربي باﻟ
Topos٢١ (المتوارد): تستخدم النظريات الأدبية هذا المصطلح
ليشير إلى الصيغ، والصور، والاستعارات، التي تفرض نفسها قسرًا على
الكاتب والمفكر بحيث إن استخدام هذه النماذج السابقة التجهيز يبدو
شيئًا لا غنى عنه لكي يتمكنوا من التعبير عن أفكارهم هم.
لقد تغذَّى فكرنا الغربي
بهذه الطريقة ولا يزال يعيش على عددٍ محدود نسبيًّا من الصيغ
والاستعارات المستفادة من شتى التراثات التي هو نتاج لها. مثال ذلك
أن ثمة مبادئ تشجع موقفًا داخليًّا معينًا من قبيل «اعرف نفسك»؛
تلك المبادئ التي طالما وجهت رؤيتنا للطبيعة: «الطبيعة لا تجترح
قفزات»، «الطبيعة تفرح بالتنوع». وهناك استعارات مثل «قوة
الحقيقة»، «العالم ككتاب» (تلك الاستعارة التي ربما امتدت فأدخلت
في تصور الكود الجيني كنص). وهناك صيغ من الكتاب المقدس مثل
I Am Who I Am (أهيه الذي أهيه)،
٢٢ التي وَسَمتْ بعمقٍ فكرة الرب. النقطة التي أودُّ أن
أؤكد عليها هنا هي التالية: هذه النماذج المسبقة التجهيز، والتي
قدَّمتُ للتوِّ بعض أمثلة منها، كانت معروفة أثناء «النهضة»
Renaissance وفي العالم الحديث
بنفس الشكل الذي كان لها في التراث الهلينستي والروماني، وكانت
مفهومة أصلًا أثناء النهضة وفي العالم الحديث بنفس المعنى الذي كان
لهذه النماذج الفكرية أثناء الحقبة الإغريقية الرومانية وبخاصة في
نهايات العصر القديم. لذا فإن هذه النماذج لا تزال تفسر جوانبَ
كثيرةً من فكرنا المعاصر، وحتى
بنفس الدلالة، غير المتوقَّعة أحيانًا، التي نجدها في العصر
القديم. مثال ذلك أن التحيز الكلاسيكي، الذي أضرَّ كثيرًا بدراسة
الآداب اليونانية المتأخرة واللاتينية، هو اختراع الحقبة الإغريقية
الرومانية، والذي خلق قانونًا للكُتَّاب الكلاسيكيين كرد فعل ضد
النمطية والباروك اللذين كانا يسميان آنذاك
Asianism.
٢٣ ولكن إذا كان التحيز الكلاسيكي موجودًا بالفعل أثناء
العصر الهلينستي، وبخاصة في عهد الإمبراطورية، فبالضبط لأن المسافة
التي نحسُّها مع اليونان الكلاسيكية كانت ظاهرة أيضًا في ذلك
الوقت. هذه الروح الهلينستية بالتحديد، هذه المسافة، الحديثة
بمعنًى ما، هي التي من خلالها، مثلًا، أصبحت الأساطير التراثية
موضوعات للدراسة أو للتأويلات الفلسفية والأخلاقية. إنما عبر الفكر
الهلينستي والروماني، وبخاصة في أواخر العصر القديم، كان على
«النهضة» أن تدرك التراث الإغريقي. وكان لهذه الحقبة أهميةٌ حاسمة
في ميلاد الفكر والفن الأوروبي الحديث. ومن جهةٍ أخرى فإن النظريات
الهرمنيوطيقية المعاصرة التي قد شَيَّدت، منادية باستقلال النص
المكتوب، برج بابل حقيقيًّا من التأويلات حيث أصبحت جميع المعاني
ممكنة؛ هذه النظريات تأتي نتاجًا مباشرًا لممارسات التفسير
Exegesis القديم التي تحدثت عنها
آنفًا. ومثالٌ آخر: بالنسبة لزميلنا الراحل رولان بارت
Roland Barthes فإن «كثيرًا من
ملامح أدبنا، وملامح تدريسنا، ومؤسساتنا اللغوية … ستتضح وتُفهَم
على نحوٍ مختلف إذا نحن فهمنا فهمًا كاملًا المدونة البلاغية التي
أعطت لغتها لثقافتنا.» هذا حق تمامًا، وبوسعنا أن نضيف أن معرفتنا
ربما ستمكننا من أن نعي حقيقة أن علومنا الإنسانية، في مناهجها
وطرائق تعبيرها، كثيرًا ما تعمل بطريقةٍ مماثلة تمامًا لنماذج
البلاغة القديمة.
لذلك فإن تاريخنا للفكر الهلينستي والروماني يجب ألا يقتصر على
تحليل حركة الفكر في الأعمال الفلسفية، بل أن يكون أيضًا تاريخًا
للمتوارد، الذي سيدرس تطور معنى المتواردات، التي تحدثنا عن
نماذجها، والدور الذي لعبته في تكوين الفكر الغربي. هذا التاريخ
يجب أن يجدَّ في تبيُّن المعاني الأصلية للصيغ والنماذج، والدلالات
المختلفة التي أضفتْها عليها التأويلات المتعاقبة.
في البداية سيأخذ هذا التاريخ (تاريخ المتوارد)، كموضوع لدراسته،
جميع الأعمال التي كانت نماذج مؤسسة والأجناس الأدبية التي خلقتها.
مثال ذلك أن «العناصر»
Elements٢٤ عملت كنموذج ﻟ «عناصر الثيولوجيا (اللاهوت)» لبروكلوس،
ولكنها عملت أيضًا كنموذج ﻟ «الأخلاق» لاسبينوزا. ومحاورة «طيماوس»
لأفلاطون، وهي نفسها مستلهَمة من قصائد كونية قبل-سقراطية، عملت
كنموذج ﻟ «في طبيعة
الأشياء»
De Rerum Natura للوكريتس، والقرن الثامن عشر، بدوره،
كان ليحلم بقصيدةٍ كونيةٍ جديدة تعرض آخر اكتشافات العلم. كما أن
«اعترافات» القديس أوغسطين، مثلما أُسيء تأويلها، ألهمت إنتاجًا
أدبيًّا هائلًا حتى روسو والرومانتيكيين.
هذا المتوارد يمكن أيضًا أن يكون متواردًا للشذرات: مثال ذلك
المبادئ Maxims عن الطبيعة التي
سادت الخيال العلمي حتى القرن التاسع عشر. وسوف ندرس هذا العام (في
الكوليج دي فرانس) بهذه الطريقة شذرة هيراقليطس التي تُصاغ عادة
على أنها تقول «الطبيعة تحب أن تختفي»، رغم أن هذا بالتأكيد ليس
المعنى الأصلي للكلمات اليونانية الثلاث التي هكذا تُرجمت. وسنفحص
الدلالة التي تتخذها هذه الصيغة خلال العصر القديم وما بعد ذلك،
كحصيلة لتطور فكرة الطبيعة؛ ذلك التأويل نفسه الذي اقترحه مارتن
هيدجر.
وفوق كل شيء فإن هذا المتوارد التاريخي سيكون متواردًا عن ثيمات
التأملات التي تحدثنا عنها منذ لحظات، والتي سادت ولا تزال تسود
فكرنا الغربي. عرف أفلاطون الفلسفة، مثلًا، على أنها تدريب على
الموت، بوصفه انفصال الروح عن الجسد. يتخذ هذا التدريب عند أبيقور
معنًى جديدًا، فيصبح هو الوعي بتناهي الوجود، ذلك التناهي الذي
يسبغ قيمةً لامتناهية على كل لحظة: «هب أن كل يومٍ جديد تطلع عليك
شمسه سيكون يومك الأخير، ولسوف تتلقَّى كل ساعة غير منتظرة بالشكر
والعرفان.» أما من منظور الرواقية فيتخذ التدريب على الموت طابعًا
مختلفًا؛ إنه يدعو إلى التحول الفوري ويجعل الحرية الداخلية ممكنة:
«ضع الموت نصب عينَيك كل يوم؛ ولسوف تنفي عنك أي أفكار دنيئة أو أي
رغبات مفرطة.» ثمة لوحةٌ فسيفسائية في المتحف الوطني الروماني
مستوحاة، ربما تهكميًّا، من هذا التأمل، إذ تصور هيكلًا عظميًّا مع
منجل، ومنقوش معها «اعرفْ نفسك». ومهما يكن من أمر فإن المسيحية
سوف تستخدم هذه الثيمة التأملية استخدامًا واسعًا؛ حيث يمكن أن
تتناولها تناولًا قريبًا من الرواقية، كما في تأمل هذا الراهب:
«منذ بدأنا محادثتنا اقتربنا أكثر من الموت. فلنكن متيقظين والوقت
بعدُ لدينا.» غير أنه يتغير جذريًّا عندما يتحد مع الثيمة المسيحية
بحق؛ ثيمة المشاركة في موت المسيح. وإذا تركنا جانبًا كل التراث
الأدبي الغربي الثري، الذي يمثله خير تمثيل فصل مونتيني
Montaigne «أن تتفلسف هو أن تتعلم
أن تموت»، فإن بوسعنا أن نتَّجه مباشرة إلى هيدجر لكي نعيد اكتشاف
هذا التدريب الفلسفي الأساسي في تعريفه للوجود الأصيل على أنه
استباقٌ مستبصر للموت.
٢٥
وباتصالها بتأمل الموت تلعب ثيمة اللحظة الحاضرة وقيمتها دورًا
أساسيًّا في جميع المدارس الفلسفية. إنها، باختصار، وعي بالحرية
الداخلية. ويمكن إيجازها في صيغة من هذا القبيل: لا تلزمك إلا نفسك
لكي تحظى للتو بسلامٍ داخلي بأن تكف عن الانشغال بالماضي
والمستقبل. بوسعك أن تكون سعيدًا الآن وإلا فلن تكون سعيدًا أبدًا.
ستؤكد الرواقية على الجهد المطلوب لكي ينتبه المرء إلى نفسه،
والتقبل البهيج للحظة الحاضرة التي فرضها علينا القدر. أما
الأبيقوري فإنه سيتصور هذا التحرُّر من الانشغال بالماضي والمستقبل
على أنه استرخاء، وانبهاجٌ محض بالوجود: «بينما نحن نتحدث فقد فرَّ
الزمن الغيور؛ اقبضْ على اليوم ولا تضعْ ثقتك في الغد.» هذا هو
مبدأ هوراس الشهير
Laetus in
Praesens، هذا «الاستمتاع بالحاضر المحض»،
باستخدام التعبير الموفَّق لأندريه شاستيل عن مارسيليو فيتشينو
الذي اتخذ هذه الصيغة نفسها لهوراس كشعار له. هنا أيضًا نجد تاريخ
هذه الثيمة في الفكر الغربي شائقًا جذابًا. ليس بوسعي أن أقاوم
متعة تذكُّر الحوار بين فاوست وهيلانة، ذروة الجزء الثاني من
«فاوست» لجوته: «ومن ثم فإن الروح لا تنظر إلى الأمام ولا إلى
الوراء. وحده الحاضر هو فرحنا … لا يشغلْك مصيرُك. الوجود هنا واجب،
٢٦ حتى وإن يكن مجرد لحظة.»
ها أنا ذا أصِل إلى ختام هذه الكلمة الافتتاحية. وهذا يعني أنني
أتممت من فوري ما كان يسمى في العصر القديم
Epideixis، كلمة الافتتاح. وهي
تصطفُّ مباشرة مع تلك الخطب التي كان على الأساتذة في زمن
ليبانيوس، مثلًا، أن يلقوها لكي يحشدوا لهم جمهورًا من المستمعين
بينما يحاولون في الوقت نفسه أن يبرهنوا على القيمة الاستثنائية
لتخصصهم وأن يستعرضوا فصاحتهم. إنه ليكون شائقًا أن نستقصي
المسارات التاريخية التي انتقلت بها هذه الممارسة القديمة إلى
الأساتذة الأوائل بالكوليج دي فرانس. على كل حال فنحن في هذه
اللحظة ذاتها في عملية معايشةٍ تامة للتراث الإغريقي الروماني. كان
فيلون السكندري يقول عن هذه الخطب الافتتاحية إن المحاضر «يخرج إلى
العلن ثمرة جهودٍ طويلة بُذلت في الخفاء، مثلما يلتمس المصوِّرون
والمثَّالون، في إنجاز أعمالهم، إطراء الجمهور.» وهو يضاهي هذا
السلوك بالتعليم الفلسفي الحقيقي، حيث يكيف المعلم حديثه لحالة
مستمعيه، ويقدم لهم العلاجات التي تلزمهم من أجل الشفاء.
الاهتمام بالمصير الفردي والتقدم الروحي، الإقرار الموطد
بالمتطلبات الأخلاقية، الدعوة إلى التأمل، وإلى طلب هذا السلام
الداخلي الذي تنادي به جميع المدارس، حتى مدارس الارتيابيين، كغاية
للفلسفة، الحس بجدية الوجود وعظمته — هذا، فيما يبدو لي، ما لم
يفُقْه أي اهتمامٍ آخر في الفلسفة القديمة، وهذا ما يبقى حيًّا على
الدوام. لعل البعض سوف يرى في هذه الاتجاهات هروبًا أو روغانًا لا
يتوافق مع ما ينبغي أن نتحلى به من الوعي بالبؤس والمعاناة
البشريين، وسوف يظن أن الفيلسوف بذلك يظهر نفسه في صورة المغترب عن
العالم اغترابًا لا شفاء منه. وسأجيب عن ذلك، ببساطة، بأن أقتبس
هذا النص الجميل من جورج
فريدمان
Georges Friedmann، من عام ١٩٤٢م، الذي يقدم لمحة عن إمكان
التوفيق بين شاغل العدل والجهد الروحي؛ وقد كان يمكن أن يكون كاتبه
رواقيًّا من العصر القديم:
«فِرَّ كل يوم! ولو لحظة، مهما تكن ضئيلة ما دامت مكثفة.
مارسْ كل يوم (تدريبًا روحيًّا)، فرديًّا أو بمعية إنسان
يود هو أيضًا أن يرتقي بنفسه … خَلِّ الزمن الاعتيادي وراء
ظهرك. ابذلْ جهدًا لكي تُخلِّص نفسك من أهوائك الخاصة … كن
أبديًّا بأن تتجاوز نفسك. هذا الجهد الباطن ضروري، هذا
الطموح عادل. ما أكثر أولئك المستغرقين بكُليَّتهم في
السياسة النضالية، استعدادًا للثورة الاجتماعية! وما أندر
أولئك الذين لكي يستعدوا للثورة، يريدون أن يكونوا جديرين بها!»
٢٧