الفصل العاشر
الحكيم والعالم
(١) تعريف المشكلة
لم يصف أحد العلاقة بين الحكيم القديم والعالم أفضل مما
وصفها برنارد جروثيسن:
«وعي الحكيم بالعالم هو شيءٌ خاص به وحده. وحده
الحكيم من لا ينصرف ذهنه عن الرؤية الكلية طرفة عين.
إنه لا ينسى «العالم» أبدًا، غير أنه يفكر ويعمل وعينه
على «الكون» … الحكيم جزء من العالم؛ والحكيم كوني.
فهو لا يتغافل عن العالم، أو ينسلخ عن كلية الكون …
تشكل صورة الحكيم وحدة لا تنفصم مع تمثُّل الإنسان للعالم».
١
يصدق ذلك على الحكيم الرواقي بصفةٍ خاصة، الذي يتمثل موقفه
الأساسي في الارتياح البهيج، في كل لحظة، لحركة العالم التي
يوجهها العقل الكلي، حيث كانت. نذكر في ذلك صلاة ماركوس
أوريليوس الشهيرة إلى العالم: «كل ما يتناغم معك، أيها العالم،
يتناغم معي» (التأملات، ٤–٢٣). ونذكر نظرية ماركوس الاستطيقية،
التي قد تكون أقل شهرة، والتي تقوم على نفس الوجهة من الرأي:
«ومن ثم فأي إنسان لديه شعور واستبصارٌ عميق
بتشغيلات «الكل» سوف يجد لذةً ما في كل جانب منها
تقريبًا، بما في ذلك النواتج العرضية. مثل هذا الإنسان
سوف تُبهجه زمجرة الوحوش بهجة لا تقلُّ عن بهجته بكل
تمثيلات المصورين والمثَّالين؛ سوف يرى لونًا من
التفتُّح والوسامة في امرأة أو رجلٍ عجوز؛ ومثل هذا
الإنسان سيكون قادرًا على أن ينظر بتوقُّر إلى الفتنة
الآسرة في غلمانه أنفسهم. وكثير من مثل تلك المدرَكات
لن تروق كل إنسان، بل ذلك الذي أصبح على ألفةٍ حقيقية
مع الطبيعة ومع أعمالها.» (التأملات، ٣–١)
كما نذكر أيضًا أن الحكيم الرواقي، مثل سنكا، كان على وعي
بأنه جزء من العالم، وكان يغمد نفسه في كلية الكون
Toti se Inserens
Mundo.
ويمكن أن يُقال الشيء نفسه على الحكيم الأبيقوري، رغم أن
الفيزيقا التي يتبنَّاها تعتبر العالم نتاج الصدفة وتستبعد كل
تدخلٍ إلهي. غير أن هذا التصور عن العالم كان ملائمًا تمامًا
للأبيقوري: فهي تجلب معها متعةً خالصة وسلامًا عقليًّا،
وتُحرِّره من الخوف غير المعقول من الآلهة، وتجعله يتلقَّى كل
لحظة من عمره كأنها معجزة غير منتظَرة. وكما أوضح هوفمان
فبالضبط لأن الأبيقوري يعتبر الوجود نتاج الصدفة المحضة، فهو
يحتفي بكل لحظة ويتلقَّاها بكل العرفان كأنها نوع من المعجزة
الإلهية. تأتي متعة الحكيم من تأمل العالم في سلام وصفاء. وهو
في ذلك يتشبه بالآلهة، الذين لا يشاركون في إدارة العالم حتى
لا تفسد عليهم سكينتهم الأزلية. في وصفه لتأمل الحكيم المماثل
لتأمل الآلهة — يهتف لوكريتس:
«تتبدد مخاوف العقل، تنهار أسوار العالم، أرى
الأشياء في حركةٍ دائبة خلال الخلاء … على هذه الأشياء
مثلما هي … تتملَّكني متعةٌ شبه إلهية وهزة خشوع؛ إذ
أدرك أن الطبيعة جبلت هكذا غاية في الصفاء والوضوح،
وقد طُرحت عارية للبصر من كل جانب.» (لوكريتس، «في
طبيعة الأشياء»)
هنا قد يعترض القارئ قائلًا: حسن، ولكن من الحق أيضًا أن
الحكمة القديمة، سواء الأفلاطونية أو الأرسطية، أو الرواقية،
أو الأبيقورية — كانت مرتبطة بعلاقةٍ وثيقة بالعالم؛ ولكن
أليست هذه النظرة القديمة للعالم عتيقة الزي؟ إن العالم
الكمِّيَّ للعلم الحديث غير قابل للتمثُّل، ولا يشعر المرء
داخله إلا بالعزلة والضياع. الطبيعة اليوم لا تعدو أن تكون
«بيئة» الإنسان؛ وقد أصبحت مشكلةً إنسانيةً خالصة، مشكلة
التلوث الصناعي. ولم يعد لفكرة العقل الكلي أي معنًى.
كل هذا صحيح تمامًا. ولكن هل يمكن لخبرة الإنسان الحديث أن
تردَّ إلى ما هو تقنيٌّ-علميٌّ خالص؟ أليس للإنسان الحديث
أيضًا خبرته بالعالم بما هو عالم؟ ألا يمكن أيضًا لهذه الخبرة
أن تفتح له طريقًا نحو الحكمة؟
(٢) عالم العلم وعالم الإدراك اليومي
قد يكون من تحصيل الحاصل أن نُقرَّ بأن العالم الذي ندركه في
خبرتنا اليومية مختلفٌ جذريًّا عن العالم غير القابل للتمثُّل
الذي يشيده العلم. صحيح أن عالم العلم، بفضل تطبيقاته
التكنولوجية العديدة، يحول تحويلًا جذريًّا بعض جوانب حياتنا
اليومية؛ غير أن علينا أن ندرك أن طريقتنا في إدراك العالم في
حياتنا اليومية لا تتأثر جذريًّا بتصورات العلم. إن الشمس
لتطلع وتغيب، وإن الأرض لثابتة لا تتحرك، في خبرة كلٍّ منا،
حتى في خبرة عالم الفلك عندما يعود إلى بيته ليلًا.
قدم ميرلوبونتي، مقتفيًا أثر هسرل، بعض التأملات الرائعة في
هذا التعارض بين عالم العلم وعالم الإدراك:
«إن عالم العلم مشيد برُمَّته على العالم كما ندركه
(Sur le Monde
Vécu)، وإذا أردنا حقًّا أن نفكر
داخل نطاق العلم نفسه، لكي نقدر بدقة مجاله ومعناه،
فلا بد لنا أولًا من أن نوقظ هذه الخبرة بالعالم، التي
يُعدُّ العلم هو التعبير الثانوي عنها.» (ميرلوبونتي،
«فينومينولوجيا الإدراك»)
بالنسبة للخبرة الوجودية المعيشة فإن الأرض لا تعدو أن تكون
تلك الأرضية الثابتة التي أنا أتحرك بالنسبة إليها، ذلك المرجع
الأساسي لوجودي. إن هذه الأرض، الثابتة بالنسبة لحركاتنا
المدركة، هي ما يستخدمه حتى الفلكي كنقطةٍ مرجعية، حتى عندما
تبدو له الأرض من أعماق الفضاء مثل كرةٍ زرقاءَ صغيرة. تطلعنا
تحليلات هسرل وميرلوبونتي على أن الثورة الكوبرنيقية، التي
ألهمت الكثير من العمل الفلسفي في كتيبات الفلسفة، لا تزعج إلا
الخطاب النظري للمثقفين عن العالم، ولكنها لا تغير أي شيء في
إدراكنا اليومي المعتاد للعالم.
غير أننا يجب أن نكون أكثر تحديدًا في مسألة التعارض بين
عالم العلم وعالم الإدراك اليومي. إن السبب الذي من أجله
يريدنا هسرل وميرلوبونتي أن نعود إلى عالم الإدراك المعيش، أو
بالأحرى إلى هذا «الإدراك-بوصفة-عالمًا»، هو أن نصبح «واعين»
به. هذا الوعي بدوره سوف يحول إدراكنا نفسه للعالم تحويلًا
جذريًّا؛ لأنه لن يعود إدراكًا لأشياءَ محددة، بل إدراكًا
للعالم كعالم، و(عند ميرلوبونتي بخاصة) إدراكًا ﻟ «وحدة»
العالم والإدراك. يرى هسرل
٢ وميرلوبونتي أن الفلسفة ليست غير هذه العملية التي
بواسطتها نحاول «أن نعيد تَعلُّم أن نرى العالم».
ويمكننا أن نقول، بمعنًى ما، إن عالم العلم وعالم الفلسفة —
كلاهما معارض على طريقته لعالم الإدراك المعتاد. أما في حالة
العلم فيأخذ هذا التعارض شكل إقصاء الإدراك: فالعلم يُصوِّر
لنا عالمًا مختزلًا، بواسطة كلٍّ من الوسائل الرياضية
والتكنولوجية، إلى جوانبه الكمِّية. وأما الفلسفة فهي، من
جهتها، تُعمِّق وتحوِّل الإدراك الاعتيادي، فتحملنا على أن
نصبح واعين بهذه الواقعة ذاتها؛ واقعة أننا «ندرك العالم»، وأن
العالم هو ذلك الذي نحن ندركه.
ونحن نجد تمييزًا مثيلًا بين الإدراك المعتاد والإدراك
الفلسفي في كتابات برجسون. يصف برجسون هذا الفرق كما يلي:
٣
«تتطلب الحياة أن نضع غمائم على أعيننا فلا ننظر
يمينًا ولا شمالًا ولا وراء، بل ننظر أمامنا فحسب، في
الاتجاه الذي يُفترَض أن نسير فيه. لكي نعيش يتعيَّن
علينا أن نكون انتقائيين في معرفتنا وذاكرتنا، ولا
نحتفظ إلا بما يُسهم في فعلنا على الأشياء.»
ويمضي برجسون قائلا: «ولنا أن نقول الشيء نفسه عن الإدراك.
فالإدراك بوصفه مساعدًا على الفعل يعزل، من بين مجموع الأشياء
الواقعية، تلك التي تهمنا.» غير أن بعض الناس ولدوا منسلخين
(عن الواقع)؛ أولئك هم الفنانون.
«وهؤلاء حينما ينظرون إلى شيء فإنهم لا يرونه
لأنفسهم، بل لنفسه هو! وهم لا يدركون لمجرد العمل
والتصرف، بل يدركون للإدراك ذاته، أعني لغير ما غاية،
اللهم إلا المتعة وحدها …»
«هذا الذي تفعله الطبيعة مرةً واحدة في حقبةٍ طويلة،
من جراء التشتُّت، لحفنة من الأشخاص المتميزين، ألا
تحاول الفلسفة فعل الشيء نفسه، بمعنًى آخر وبطريقةٍ
أخرى، لكل شخص؟ أليس دور الفلسفة هو أن تعيدنا إلى
إدراكٍ للواقع أكملَ وأتمَّ، بواسطة نوع من إزاحة
انتباهنا؟»
«إزاحة
الانتباه» Displacement of Attention الذي تحدث عنه برجسون، شأنه شأن
«الرد
الفينومينولوجي» Phenomenological Reduction عند ميرلوبونتي، هو في
الحقيقة تحولٌ حاسم
Conversion: قطيعةٌ جذرية مع
الغيبوبة التي يعيش فيها الإنسان عادة. إن الإدراك النفعي الذي
لدينا للعالم في الحياة اليومية، هو، في الحقيقة، يُخفي عنا
العالم بما هو عالم. إن الإدراك الاستطيقي والإدراك الفلسفي
للعالم لا يتسنَّى إلا بتحولٍ تام لعلاقتنا بالعالم: إن علينا
أن ندركه من أجله هو وليس من أجلنا نحن.
(٣) الإدراك الاستطيقي
يعتبر برجسون، وميرلوبونتي كما سنرى، الإدراك الاستطيقي
نوعًا من النموذج للإدراك الفلسفي. والحقيقة، كما بين
ج. ريتر
J. Ritter، أن
ازدهار العلم الحديث، من القرن ١٨ فصاعدًا، والتحول الذي أحدثه
في علاقة الفيلسوف بالطبيعة، هو الذي خلق وعيًا بضرورة إيجاد
شكلٍ استطيقي من الإدراك، لكي يسمح للوجود —
Man’s Dasein٤ — أن يحتفظ بالبعد الكوني الضروري للوجود
الإنساني. وقد بيَّن باومجارتن
Baumgarten في كتابه
Aesthetica في زمنٍ مبكر
(١٧٥٠م) التعارض بين «الحقيقة الاستطيقية» و«الحقيقة
المنطقية»: الحقيقة المنطقية، مثلًا، هي معرفة كسوف للشمس
يلائم عالم فلك، بينما الحقيقة الجمالية قد تكون، مثلًا،
إدراكًا عاطفيًّا من جانب أحد الرعاة لنفس الظاهرة كما يصفها
لحبيبته. وقد بين كانْت أيضًا، في كتابه «نقد ملكة الحكم» عام
١٧٩٠م، التعارض بين الإدراك الاستطيقي والمعرفة العلمية. يقول
كانت: لكي ندرك أن المحيط جليل
Sublime فليس من الضروري
أن نلحق به كل صنوف المعرفة الجغرافية أو المتيورولوجية ونحن
ننظر إليه. وإنما «يجب على المرء أن يبصر المحيط — المحيط
بذاته — مثلما يفعل الشعراء تمامًا، وفق ما يصوِّره للعين
حصرًا، عندما تتأمله سواء في هدأته، إذ يتخذ شكل مرآةٍ رائقة
من الماء، أو في ثورته العنيفة، كأنه هاويةٌ تُهدِّد بابتلاع
كل شيء.» عندما كتب كارس
C. G.
Carus، بين ١٨١٥م و١٨٣٠م، كتابه «رسائل في
فن تصوير المناظر الطبيعية»، ميَّز هذا الفن بأنه «فن تمثيل
حياة الأرض». يذهب كارس إلى أننا بفضل الإدراك الاستطيقي يمكن
أن تدوم لنا هذه العلاقة المعيشة المبصرة بالأرض، والتي
تُشكِّل بُعدًا ضروريًّا للوجود الإنساني.
هكذا قد يُتيح لنا الإدراك الاستطيقي المنزَّه عن الغرض — أن
نتخيَّل ما قد يعنيه الوعي الكوني بالنسبة للإنسان الحديث. وإن
الفنانين المحدثين المتأملين في فنهم ليعتبرون هذا الإدراك
الاستطيقي ملازمًا مندمجًا ومكونًا أصيلًا لأية خبرةٍ مكتملة
بالعالم.
والفنان الحديث، في المقام الأول، يشارك عن وعي في الحياة
الكونية، إذ يمارس الخلق الفني. يقول بول كلي
Paul Klee: «يظل الحوار مع
الطبيعة هو الشرط الضروري بالنسبة للفنان. فالفنان إنسان. وهو
نفسه طبيعة، جزء من الطبيعة داخل نطاق الطبيعة.»
٥ هذا الحوار مع الطبيعة يفترض مسبقًا تواصلًا
شديدًا مع العالم، غير مقصور على القنوات البصرية: «فالفنان
اليوم أفضل من الكاميرا وأكثر حذقًا ودقةً … إنه مخلوق على
الأرض ومخلوق داخل العالم؛ مخلوق على نجم بين نجومٍ أخرى.» من
هنا كانت هناك، وفقًا لكلي وسائل غير الوسيلة البصرية لتأسيس
العلاقة بين النفس وموضوعها. ثمة حقيقة أننا نضرب جذورنا في
نفس التربة، ويجمعنا مشتركٌ عام في الكون. يعني ذلك أن الفنان
يحب أن يرسم وهو في حالة يشعر فيها بوحدته مع الأرض ووحدته مع
العالم.
الفن التجريدي إذن يبدو عند كلي كأنه ضرب من الامتداد لعمل
الطبيعة:
«إن تقدم الفنان في ملاحظة الطبيعة ورؤيتها يُفضي به
إلى رؤيةٍ فلسفية للعالم، تسمح له أن يخلق أشكالًا
مجردة كما يشاء … هكذا يخلق الفنان أعمالًا فنية (أو
يشارك في خلق أعمال) هي صورة للعمل الخالق للرب …
ومثلما يقلدنا الأطفال وهم يلعبون، كذلك نحن، في لعبة
الفن، نقلِّد القوى التي خلقت، وما تنفك تخلق، العالم
… إن ديناميات عملية الخلق تشغف الفنان أكثر مما يشغفه
العالم المنظور كنتاج لهذه العمليات.»
ونحن نصادف هذا الوعي الكوني مرةً أخرى عند سيزان.
٦ يقول سيزان: «هل رأيت ذلك العملاق تينتوريتو
٧ في فينيسيا،
حيث الأرض والبحر، الكرة الأرضية المائية، مُدلَّاة
فوق رءوس الناس؟ الأفق يتحرك بعيدًا في المدى القصيِّ،
العمق، الأبعاد الأوقيانوسية، الأجسام تطير، امتلاءٌ
هائل، خريطة العالم؛ الكوكب يقذف، يسقط ويتدحرج وسط
الأثير! … لقد كان يتنبأ لنا. كان لديه من الأصل نفس
الحواز الكوني الذي يستغرقنا الآن … أما عني فأنا أريد
أن أُبدِّد نفسي في الطبيعة، أن أنمو معها مرةً ثانية،
مثلها … في بقعة من الأخضر سيتدفق دماغي كله مع النسغ
المتدفق في الأشجار … اتساع العالم، سيل العالم، في
قدرٍ ضئيل من المادة.»
المصور عند كلي، كما رأينا، يشعر بأنه «كسرة من الطبيعة،
داخل نطاق الطبيعة»، ونحن نجد الثيمة نفسها عند
Roger Caillois في كتابه
«الاستطيقا العامة»
Generalized
Aesthetics، فيما يتصل بخبرة الجمال:
«تشكل بِنيات الطبيعة كلتا النقطتَين المرجعيتَين،
الأولى والأخيرة، لكل جمال يمكن تخيُّله، رغم أن
الجمال هو تقديرٌ «بشري». وما دام الإنسان نفسه ينتمي
للطبيعة، فمن الممكن بسهولة أن تغلق الدائرة، وأن يكون
شعور الإنسان بالجمال مجرد انعكاس لحالته ككائنٍ حي
وجزءٍ مندمج بالعالم. ولا يترتب عن هذا أن الطبيعة هي
نموذج الفن، بل إن الفن يشكل حالةً خاصة من الطبيعة؛
تلك التي تحدث عندما يمر الفعل الاستطيقي بالعملية
الإضافية للتصميم والتنفيذ.»
٨
تشترك العملية الفنية مع عملية الخلق التي تقوم بها الطبيعة
في خاصية جعل الأشياء مرئية ودفعها إلى الظهور. وقد أَوْلى
ميرلوبونتي هذه الفكرة تركيزًا كبيرًا:
٩ «لا يعود الفن يحاكي الأشياء المرئية؛ بل يجعل
الأشياء مرئية.» إنه الطبعة الزرقاء لنشوء الأشياء. تبين
اللوحات الفنية كيف تصبح الأشياء أشياء وكيف يصبح العالم
عالمًا … كيف تصبح الجبال، في نظرنا، جبالًا. تجعلنا اللوحات
نحسُّ وجود الأشياء: حقيقة أن «الأشياء ها هنا». «عندما يسعى
سيزان وراء العمق»، يقول ميرلوبونتي، «فإن ما يلتمسه في
الحقيقة هو احتراق الوجود.»
هكذا تتيح لنا خبرة الفن الحديث أن نلمح — بطريقة هي في
نهاية التحليل فلسفية — معجزة الإدراك نفسه، الذي يكشف لنا
العالم. غير أننا لا يمكننا أن ندرك هذه المعجزة إلا بالتأمل
في الإدراك، وتحويل انتباهنا. بهذه الطريقة يمكننا أن نغيِّر
علاقتنا بالعالم، وعندما نفعل ذلك، يدهشنا العالم. نوقف فجأة
«إلفنا بالعالم، وهذا التوقف لا يمكن أن يُعلِّمنا إلا التدفق
التلقائي للعالم.» لكأننا في مثل هذه اللحظات نرى العالم يظهر
أمام أعيننا للمرة الأولى.
(٤) المتفرج البكر
ليس ثمة ما هو جديد فيما قلناه حتى الآن. وإنما استدعيناه
لكي نحدد تلك المنطقة من خبرتنا التي قد تكون بها علاقة
بالعالم تحمل بعض الشبه بتلك التي كانت قائمة بين الحكيم
القديم والكون؛ أي عالم الإدراك. نحن الآن في موضع يظهرنا على
أنه، منذ الأزمنة القديمة، كان ثمة تدريبات حاول الفلاسفة
بواسطتها أن يحولوا إدراكهم للعالم، بطريقةٍ مماثلة للرد
الفينومينولوجي عند ميرلوبونتي، أو لتحول الانتباه الذي تحدَّث
عنه برجسون. إن الخطابات الفلسفية التي عبر بها (أو برر)
برجسون وميرلوبونتي والفلاسفة القدامى — عن الإجراء الذي يؤدي
إلى تحويل الانتباه — مختلفة للغاية بعضها عن بعض، مثلما أن
حديثَي كلي وسيزان عن التصوير يجب ألا يختلطا بفينومينولوجيا
ميرلوبونتي. ولكن مهما يكن من شيء فإن ميرلوبونتي كان على وعيٍ
عميق بأنه، وراء اختلافات
الأقوال وفوقها، فإن خبرات كلي أو سيزان تداخلت مع خبراته.
والشيء نفسه يمكن أن يُقال عن تشابه الخبرة الذي بوسع المرء أن
يلمحه وراء نصوصٍ معينةٍ لافتة للغاية من العصر القديم.
ولننظر في هذه الفقرة، على سبيل المثال، من إحدى رسائل سنكا
إلى لوسيليوس: أما عني فأنا عادة أقضي وقتًا كبيرًا في تأمل
الحكمة. أنظر إليها بنفس الانشداه الذي أنظر به، في مناسباتٍ
أخرى، إلى العالم، هذا العالم الذي أشعر كثيرًا جدًّا كأنني
أراه للمرة الأولى (Tamquam Spectator
Novus). إذا كان سنكا يتحدث عن الانشداه
فلأنه أحيانًا يجد أنه يكتشف العالم فجأة، «كأنما هو يراه لأول
مرة.» في مثل هذه اللحظات فإنه يصبح واعيًا بالتحول الذي يجري
في إدراكه للعالم. في الأوقات العادية لم يكن سنكا يرى العالم
في حقيقة الأمر ومن ثم لم يكن مندهشًا به. الآن، وفجأة، هو
مشدوه لأنه يرى العالم بأعينٍ جديدة.
وقد كان لوكريتس الأبيقوري على دراية بنفس الخبرة شأن سنكا
الرواقي. في الكتاب الثاني من «في طبيعة الأشياء» يعلن لوكريتس
أنه يزمع تعليمًا جديدًا: «حقيقةٌ جديدةٌ مذهلة توشك أن تقرع
آذانكم، ووجهٌ جديد للأشياء أن يكشف نفسه.» لا عجب، حقًّا، أن
يصدم الخيال هذا التعليم الجديد: يوشك لوكريتس أن يقرر وجود
فضاء لا نهائي، وداخل هذا الفضاء اللانهائي وجود كثرة من
العوالم. ولكي يعد قارئه لهذه الجدة يقدم لوكريتس بعض
الاعتبارات عن استجابات الجنس البشري السيكولوجية للأشياء
الجديدة. فمن جهة، يقول لوكريتس، نجد الشيء الجديد صعب
التصديق؛ فأيما شيء يُربك عاداتنا الذهنية يبدو لنا كاذبًا
وغير مقبول ابتداءً. غير أننا ما إن نعترف به فإن نفس القوة
التي للعادة، والتي جعلت الجدة مدهشة ومفارقة تجعلها لاحقا
تبدو تافهة مبتذلة، فيتضاءل إعجابنا شيئا فشيئا. ثم يصف
لوكريتس كيف سيبدو العالم لنا لو أننا رأيناه للمرة الأولى:
«أولًا وقبل كل شيء لون السماء الرائق البراق، وكل
ما تضمُّه داخلها، النجوم التي تجول هنا وهناك، والقمر
وإشعاع الشمس بضوئها الباهر، كل هذه الأشياء إذا ما
شاهدها الفانون لأول مرة، إذا وضعت أمام أنظارهم بغتة،
فأية قصة تُروى يمكن أن تكون أكثر إدهاشًا من هذه
الأشياء؟ وأي شيء كان يمكن أن يجول بخلد أقوام البشر؟
… ولكن انظر الآن كيف لا يلتفت أحد، بعد أن نال منه
الضجر وأتخم بالمرائي، ولا يتنازل بأن يرنو إلى
الأصقاع الساطعة من السماء.» (لوكريتس، «في طبيعة
الأشياء»)
هذه النصوص مهمة لغرضنا إلى أقصى حد. فهي تُثبت أنه حتى في
العصر القديم لم يكن الناس واعين بالعيش في العالم. لم يكن
لديهم متَّسع للنظر إلى العالم، وكان الفلاسفة يُحسُّون
إحساسًا شديدًا بالمفارقة الفاضحة للحالة البشرية: فالإنسان
يعيش في العالم دون أن يدرك العالم. وقد أدرك برجسون إدراكًا
صحيحًا هذا الموقف عندما ميَّز بين الإدراك النفعي المعتاد
الضروري للحياة وبين الإدراك المنزَّه المنسلخ عند الفنان أو
الفيلسوف. إن ما يفصلنا عن العالم، إذن، ليس طابع عدم القابلية
للتمثيل الذي يَسِمُ العالم العلمي (فالعالم الذي نعيش فيه هو
في النهاية عالم الإدراك المعيش)، ولا هو الشكوك المعاصرة حول
الصفة العقلانية للعالم؛ فقد أنكر لوكريتس بالفعل هذه
العقلانية. لم يكن الناس في العصر القديم يدرون بالعلم الحديث،
ولا كانوا يعيشون في مجتمعٍ تكنولوجيٍّ صناعي؛ غير أن القدماء
لم يكونوا ينظرون إلى العالم قط أكثر مما نفعل نحن في العادة.
هكذا هو الوضع البشري؛ فلكي يعيش الجنس البشري كان لزامًا عليه
أن «يؤنسن» العالم، أي أن يحوله، بواسطة عمله وبواسطة إدراكه
أيضًا، إلى طاقم من «الأشياء» المفيدة للحياة. هكذا نصطنع
موضوعات قلقنا ونصطنع معاركنا، وطقوسنا الاجتماعية، وقيمنا
التقليدية. هذا ما يبدو عليه عالمنا. نحن لم نعد نرى العالم
بما هو عالم. فالأمثل أن:
نرى كل شيء،
ونرى أنفسنا في كل شيء
ملتئمة وكلًّا
العائق إذن عن إدراك العالم ليس قائمًا في
الحداثة، بل داخل الإنسان نفسه. إن علينا أن نفصل أنفسنا عن
العالم بما هو عالم من أجل أن نعيش حياتنا اليومية، ولكن علينا
أن نفصل أنفسنا عن عالم كل يوم من أجل أن نعيد اكتشاف العالم
بما هو عالم.
(٥) اللحظة
هناك نصٌّ شهير يمكن أن نرى فيه صدى التعاليم القديمة
واستباقًا لمواقفَ حديثةٍ معينة: هو «تأملات متجول وحيد»
لروسو. الشيء اللافت في هذه الفقرة هو أننا لا يسعنا إلا أن
نلحظ الصلة الوثيقة القائمة، عند روسو، بين النشوة الكونية
وتحول موقفه الداخلي تجاه الزمن. من جهة «يفرُّ منه كل شيءٍ
فردي فلا يرى ويحسُّ إلا بما هو في الكل»،
١١ ولكن، في الوقت نفسه، «لا يعود الزمن يعني أي شيء
(له) … الحاضر يدوم إلى الأبد، دون أن يدع أحدًا يحسُّ بمدته،
ودون أي أثر للتتالي. ما من إحساس — لا بالحرمان ولا بالمتعة،
لا باللذة ولا بالألم، لا بالرغبة ولا بالخوف — ليس غير إحساسٍ
واحدٍ وحيد … بوجودنا.»
١٢ هنا يحلِّل روسو، بطريقةٍ جد رائعة، العناصر التي
تُشكِّل الإدراك المنزَّه للعالم وتجعله ممكنًا. المطلوب هو
التركيز على اللحظة الحاضرة، تركيزًا تكون فيه الروح، بمعنًى
ما، بلا ماضٍ ولا حاضر، إذ تخبر الإحساس البسيط … «الإحساس
بالوجود». غير أن هذا الإحساس ليس مجرد انطواء المرء على نفسه؛
فالإحساس بالوجود هو، على العكس، الإحساس بالوجود «في الكل»
والإحساس ﺑ «وجود الكل».
عند روسو يعدُّ كل هذا حالةً سلبية، صوفية تقريبًا، أما عند
القدماء فمن الواضح تمامًا أن تحول نظرة المرء إلى العالم كان
وثيق الارتباط بتدريبات تشمل تركيز ذهنه في اللحظة الحاضرة.
تتألف هذه التدريبات عند الرواقية وعند الأبيقورية معًا من
«انسلاخ المرء عن المستقبل والماضي» لكي «يحصر اللحظة الحاضرة».
١٣ مثل هذا التكنيك يوفر للذهن — المتحرر من عبء
الماضي وتحيزاته وشواغل المستقبل وهمومه — ذلك الانسلاخ
الداخلي، والحرية والسلام، وهي متطلبات لا غنى عنها لإدراك
العالم بما هو عالم. وفضلًا عن ذلك فإن لدينا هنا نوعًا من
العِلِّية المتبادلة: يكتسب العقل سلامًا وصفاءً، إذ يصبح
واعيا بعلاقته مع العالم، إلى حد أنه يعيد وضع وجودنا داخل
المنظور الكوني.
من شأن التركيز على اللحظة الحاضرة أن يجعلنا نكتشف القيمة
اللانهائية والمعجزة غير المنتظرة لوجودنا في العالم. يتضمن
التركيز على اللحظة الحاضرة تعليق جميع مشروعاتنا للمستقبل.
وبتعبيرٍ آخر، يتضمن أننا يجب أن نفكر في اللحظة الحاضرة على
أنها «آخر» لحظة، وأننا نعيش كل يوم وكل ساعة كما لو كانت
ساعتنا الأخيرة. هذا التدريب عند الأبيقوريين يكشف ضربة الحظ
المذهلة التي مكنت لنا أن نعيش في العالم كل لحظة
نعيشها.
«اعتبر أن كل يوم يطلع عليك سيكون اليوم الأخير لك.
إذا فعلت ذلك ستتلقى كل ساعة غير منتظرة بالشكر
والعرفان.» (هوراس، «رسالة»)
«تلقَّ كل لحظة من الزمن المتراكم كأنها أتت إليك
بضربة حظ لا تُصدَّق».
١٤
«ذرِ النفس تأخذ فرحها في الحاضر، وتعلَّم أن تكره
الانشغال بهموم المستقبل.» (هوراس، «قصائد»)
والرواقيون أيضًا، وإنْ لأسبابٍ مختلفة، يشاركون في موقف
الدهشة هذا مما يظهر ويحدث في كل لحظة. وبالنسبة للرواقيين فإن
كل لحظة تطوي داخلها العالم كله، وتاريخ العالم كله. ومثلما أن
كل لحظة تفترض مسبقًا هول الزمان، فإن جسدنا يفترض مسبقًا
العالم كله. إنما «داخل أنفسنا» يمكننا أن نخبر انوجاد الواقع
وحضور الوجود. ونحن حين نصبح واعين باللحظة الواحدة من حياتنا،
بضربةٍ واحدة من قلبنا، يمكننا أن نشعر بأنفسنا موصولين بهول
الكون كله، وبالحقيقة المدهشة لوجود العالم. العالم كله موجود
في كل جزء من أجزاء الواقع، هذه الخبرة باللحظة تتطابق عند
الرواقيين مع نظريتهم في التداخل المتبادل لأجزاء العالم. غير
أن هذه الخبرة ليست مرتبطة بالضرورة بأي نظرية. فنحن نجد
تعبيرًا عنها، مثلًا، في الأبيات التالية لوليم بليك:
لكي ترى عاﻟمًا في حبة رمل،
وسماءً في زهرةٍ برِّيَّة؛
اقبضْ على اللانهاية في راحة يدك،
وعلى الأبد في ساعة.
أن ترى العالم لآخر مرة هو مثل أن تراه لأول
مرة Tamquam Spectator Novus.
هذا الانطباع يمكن أن يتولد من التفكير في الموت، الذي يكشف
لنا الطابع الإعجازي لعلاقتنا بالعالم: في خطر دومًا، مباغتة
دومًا. ويمكن أن يتولد هذا الانطباع أيضًا من الشعور بالجدة
الناجم من تركيز المرء انتباهه على لحظةٍ واحدة، لحظة من لحظات
العالم؛ عندئذٍ يبدو العالم كأنه ينوجد ويولد أمام عينَيك.
عندئذٍ ندرك العالم بوصفه «طبيعة» بالمعنى الإتيمولوجي للعالم:
فيزيس، حركة النمو والميلاد تلك التي بواسطتها تظهر الأشياء
ذاتها. نحن نخبر أنفسنا كحركة أو لحظة من هذه الحركة؛ الحدث
الهائل الذي يتجاوزنا هو دائمًا هناك أمامنا بالفعل وهو دائمًا
متجاوز لنا. نحن نولد مع العالم. إن الشعور بالوجود الذي
تحدَّث عنه روسو هو بالضبط هذا الشعور بالهوية بين وجود العالم
ووجودنا نحن.
(٦) الحكيم والعالم
كان سنكا مشدوهًا بمشهد العالم (الذي تأمَّله تأمُّل المتفرج
البكر)، ومشدوهًا بمشهد الحكمة بنفس الدرجة. وكان يعني ﺑ
«الحكمة» صورة الحكيم كما رآها متجسدة في شخصية الفيلسوف
سكستوس Sextos.
هذا توازٍ دالٌّ للغاية. ثمة في الحقيقة تشابهٌ دقيق بين
الحركة التي نقارب بواسطتها رؤية العالم، وتلك التي نتصور بها
صورة الحكيم. فأولًا، منذ محاورة «المأدبة» لأفلاطون اعتبر
الفلاسفة القدماء صورة الحكيم كنموذج لدورٍ بعيد المنال، ذلك
الدور الذي يسعى محب-الحكمة Philo-Sopher أن يحاكيه سعيًا متجددًا على
الدوام يمارسه كل لحظة. بذلك كان تأمُّل الحكمة كما تتجسد في
شخصيةٍ محددة هو أن يؤدي المرء حركة للنفس، عبر حياة هذه
الشخصية، تقوده إلى تمثُّل الكمال المطلق، الذي يتجاوز ويعلو
على كل تحقُّقاته الممكنة. كذلك الأمر في تأمل جانبٍ جزئي من
العالم، فإن التأمل يكتشف كلية العالم متجاوزًا المنظر الطبيعي
الذي يلمح في لحظة بعينها، ومتخطيًا إياه في الطريق إلى
تمثُّلٍ للكل الذي يعلو على كل شيءٍ مرئي.
والتأمل الذي يذكره سنكا هو فوق ذلك نوع من التفكُّر
الموحَّد Unitive Contemplation. فلكي «ندرك» العالم يتعين علينا أن
ندرك هويتنا مع العالم، وذلك بتدريب للتركيز على اللحظة
الحاضرة. وبالمثل إذا أردنا أن ندرك الحكمة يتعيَّن علينا أن
ننخرط في تدريب للحكمة؛ فنحن لا يمكننا أن نعرف شيئًا ما إلا
بأن نصبح مثل موضوعنا. هكذا، بواسطة تحولٍ كلي، يمكن أن نجعل
أنفسنا منفتحين على العالم وعلى الحكمة. من هنا كان سنكا
مشدوهًا ومنتشيًا بمرأى الحكمة مثلما كان بمرأى العالم. كان
الأمر بالنسبة إليه في كلتا الحالتين أمر اكتشاف يتحصل بفضل
تحولٍ داخلي وتغيرٍ كامل في طريقته في الرؤية وفي العيش. وفي
نهاية التحليل فإن كلًّا من العالم كما يدرك في وعي الحكيم،
ووعي الحكيم نفسه، منغمدًا في كلية العالم، ينكشفان لمحب
الحكمة في حركةٍ واحدةٍ فريدة.