الفصل الحادي عشر
الفلسفة كطريقة للعيش
«كل شخص، يوناني أو بربري،
١ يتدرَّب على الحكمة ويعيش حميدًا بريء الساحة،
فإنه يعمد إلى ألا يرتكب ظلمًا ولا يردُّ الظلم بالظلم؛ بل
يجتنب صحبة الفضوليين ويزدري الأماكن التي يقضون فيها وقتهم —
المحاكم، والمجالس، والأسواق، والتجمعات — وباختصار، كل نوع من
اللقاء أو الاجتماع بأناس لا فكر لهم. ولما كان هدفهم هو حياة
سلام وصفاء فإنهم يتأملون الطبيعة وكل شيء يوجد فيها؛ إنهم
يستكشفون الأرض بشغف والبحر والهواء والسماء وكل طبيعة توجد
فيها. وفي الفكر هم يصحبون القمر والشمس ودورات النجوم الأخرى،
سواء الثابتة أو الجائلة. تظل أجسامهم على الأرض بينما
يزوِّدون أرواحهم بأجنحة حتى يشاهدوا، مصعدين في الأثير، القوى
التي تكمن هناك، كما يليق بأولئك الذين أصبحوا حقًّا مواطني
العالم. مثل هؤلاء يعتبرون العالم كله مدينتهم، ومواطنيه رفاق
الحكمة؛ وقد تلقَّوا حقوقهم المدنية من الفضيلة، التي عُهِد
إليها بترؤِّس دولة العالم. هكذا هم، تعوَّدوا، ممتلئين بكل
الفضائل، ألا يهتموا بما لا يهمُّ؛ فهم محصَّنون من الملذات
والرغبات معًا؛ وهم، باختصار، يسعون دائمًا إلى أن يعلوا
بأنفسهم فوق الأهواء … إنهم لا ينهارون تحت ضربات القدر لأنهم
تحسَّبوا لها مقدمًا (فالتحسُّب يجعل من السهل احتمال حتى أصعب
الحوادث التي لا نريدها؛ إذ إن العقل عندئذٍ لا يجد فيما حدث
أمرًا عجيبًا أو جديدًا، بل يتلقَّاه بتبلُّد مثلما يتلقَّى كل
ما هو قديمٌ مستهلَك). من الواضح أن مثل هؤلاء، الذين يجدون
فرحهم في الفضيلة، هم في مهرجانٍ حافل طول حياتهم. هم، وقليل
ما هم، أشبه بجمرات حكمةٍ باقية الاتِّقاد في مدنهم، لكيلا
تنطفئ الفضيلة وتختفي من جنسنا البشري. فإذا ما أحسَّ الناس في
كل مكان بما تحسُّه هذه القِلَّة المصطفاة، وصاروا مثلما قصدت
الطبيعة لهم أن يكونوا: أنقياء من الرنق، أبرياء من الملامة،
محبِّين للحكمة، مبتهجين بالجميل لأنه جميل فحسب، غير منتظرين
أي شيء عداه … هنالك ستكون مدننا مترعة بالسعادة، ولن يعرف
الناس أي سبب للحزن أو الخوف، بل سيكونون مفعَمين بكل أسباب
الفرح والهناء بحيث لن تخلو لحظة لديهم من الضحك البهيج؛ ودورة
السنة كلها، حقًّا، ستكون مهرجانًا لهم.» (فيلون السكندري، «في
القوانين الخاصة»)
في هذه الفقرة من فيلون السكندري، المستوحاة من الرواقية، يقفز
إلى الواجهة بوضوح جانب من الجوانب الأساسية للفلسفة في الحقبتَين
الهلينستية والرومانية. خلال هذه الفترة كانت الفلسفة «طريقة
للعيش» (أسلوب حياة). ليس يعني ذلك أنها كانت نوعًا محددًا من
السلوك الأخلاقي، وانظرْ إلى الدور الذي يلعبه تأمل الطبيعة في
فقرة فيلون؛ إنما يعني أن الفلسفة كانت طريقة وجود-في-العالم، تلك
الطريقة التي تتعين ممارستها في كل لحظة، وكان هدفها أن تحوِّل
حياة الفرد بأكملها.
كان مجرد اللفظ Philo-Sophia
(محبة الحكمة) عند القدماء يكفي للتعبير عن هذا المفهوم للفلسفة.
في محاورة «المأدبة» بين أفلاطون أن سقراط، رمز الفيلسوف، يمكن أن
يتوحد مع «إيروس» ابن كل من بوروس (الحيلة) وبنيا (العوز). كان
إيروس يفتقر إلى الحكمة، غير أنه كان يعرف فعلًا كيف يكتسبها. هكذا
أخذت الفلسفة شكل تدريب للفكر، والإرادة، ووجود المرء كله، يتغيَّا
تحقيق حالةٍ ممتنعة عمليًّا على بني الإنسان: الحكمة. كانت الفلسفة
طريقة للتقدم الروحي تتطلب تحولًا جذريًّا لطريقة الفرد في
الوجود.
الفلسفة إذن كانت طريقة حياة، سواء في ممارستها وسعيها لتحقيق
الحكمة، أو في هدفها — أي الحكمة نفسها. ذلك أن الحكمة الحقيقية لا
تؤدي بنا إلى أن نعرف فحسب، بل إلى أن «نكون» أو «نوجَد» بطريقةٍ
أخرى. كانت عظمة الفلسفة القديمة (ومفارقتها أيضًا) أنها كانت
واعية باستحالة بلوغ الحكمة ومؤمنة في الوقت نفسه بضرورة السعي إلى
التقدم الروحي. وبتعبير كينتيليان
Quintillian: «علينا أن نسعى إلى ما هو أعلى،
مثلما فعل الكثير من القدماء. لقد استمروا في تعليم مبادئ الحكمة
رغم أنهم يعتقدون أنه لم يوجد على الأرض حكيم قط».
٢ كان القدماء يعرفون أنهم لن يستطيعوا بلوغ الحكمة داخل
أنفسهم كحالةٍ مؤكدةٍ ثابتة، إلا أنهم على الأقل كانوا يأملون أن
يجدوا منفذًا إليها في لحظاتٍ مباركةٍ معينة، وكانت الحكمة قدوةً
مفارقة توجِّه فعلهم.
الحكمة إذن كانت طريقة عيش تقدم السلام العقلي (أتراكسيا
Ataraxis)، والحرية الداخلية
(أوتاركيا
Autarkeia)، والوعي
الكوني. كانت الفلسفة، أولًا وقبل كل شيء، تقدم نفسها ﮐ «علاج»
لشقاء الجنس البشري. هذا المفهوم مذكور صراحة عند زينوقراط، وعند
أبيقور: «ينبغي ألا نتوقع أن نجني أي شيء من معرفة ظواهر السماء …
غير السلام العقلي، وغير طمأنينةٍ وثيقة». وكانت هذه أيضًا فكرةً
بارزة لدى الرواقيين، ولدى الشُّكَّاك مثل سكستوس إمبيريكوس الذي
يستعمل الصورة البديعة التالية:
«كان Apelles، المصور
الشهير، يريد أن يستخرج الزبد من فم حصان في إحدى لوحاته،
وفشل في أن يجسده على نحوٍ صحيح؛ لذا فقد رمى بالإسفنجة
(التي يستخدمها لمسح فرش الرسم) على اللوحة. وعندما ارتطمت
الإسفنجة باللوحة أنتجت شيئًا لا يحاكي إلا رغوة فرس.
وبنفس الطريقة، يبدأ الشُّكَّاك مثل غيرهم من الفلاسفة
بالْتماس السلام العقلي في صرامة أحكامهم ووثوقها. وعندما
يفشلون في تحقيق ذلك فإنهم يعلقون حكمهم. وما يكادون
يفعلون ذلك حتى يأتي السلام العقلي، بالصدفة المحضة،
مصاحبًا لتعليق الحكم، مثل ظل يتبع جسمًا.» (سكستوس
إمبريكوس، «معالم مذهب فيرون»)
كانت الفلسفة تقدِّم نفسها كطريقة لتحقيق الاستقلال والحرية
الداخلية (الأوتاركيا)، تلك الحالة التي فيها تعتمد الذات على
نفسها فحسب. ونحن نصادف هذه الثيمة عند سقراط، وعند الكلبيين، وعند
أرسطو (الذي يعتبر حياة التأمل هي وحدها الحياة المستقلة)، وعند
أبيقور، وبين الرواقيين. ورغم اختلاف المدارس الفلسفية ميثودولوجيا
فنحن نجد فيها جميعًا نفس الوعي بقدرة النفس البشرية على تحرير
نفسها من كل شيء غريب عنها، حتى إذا كانت تفعل ذلك خلال مجرد
الإحجام عن اتخاذ أي قرار، كما في حالة الشكاك.
في كل من الأبيقورية والرواقية أضيف الوعي الكوني إلى هذه
النزوعات الأساسية. ونحن نعني ﺑ «الوعي الكوني» الوعي بأننا جزء من
الكون، وتمدُّد ذاتنا بالتالي خلال لا نهائية الطبيعة الكلية.
وبتعبير مترودورس تلميذ أبيقور: «تذكر أنك رغم كونك فانيًا محدود
العمر فقد علوت من خلال تأمل الطبيعة إلى لا نهائية المكان
والزمان، وقد رأيت الماضي كله والمستقبل كله.» ووفقًا لماركوس
أوريليوس فإن «الروح العاقلة تجتاز العالم كله والخلاء المحيط به،
وتستكشف شكله، وتمدُّ نفسها في لا نهاية الزمان، وتحيط بالتجدُّد
الدوري ﻟ «الكل» وتفهمه» (التأملات، ١١–١). كان الحكيم القديم، في
كل لحظة، على وعي بالعيش في الكون، ويضع نفسه في تناغم مع
الكون.
ولكي نفهم، على نحوٍ أفضل، كيف أمكن للفلسفة القديمة أن تكون
طريقة حياة، فربما يلزمنا أن نستعين بالتفرقة التي اقترحها
الرواقيون بين «الفلسفة نفسها» و«خطاب عن
الفلسفة» Discourse About Philosophy. إن أجزاء الفلسفة الثلاثة (الطبيعة،
والأخلاق، والمنطق)، عند الرواقيين، ليست في الحقيقة أجزاء الفلسفة
ذاتها، بل أجزاء الخطاب الفلسفي؛ ويعنون بذلك أننا عند تدريس
الفلسفة تدفعنا المقتضيات المنطقية والتعليمية إلى أن نقدم نظرية
للمنطق ونظرية للفيزيقا ونظرية للأخلاق؛ ولكن الفلسفة ذاتها — أي
الطريقة الفلسفية في العيش — ليست نظريةً مقسمة إلى أجزاء، بل هي
فعلٌ موحد يتألف من أن نعيش المنطق، ونعيش الفيزيقا، ونعيش
الأخلاق. هنالك لا نعود ندرس النظرية المنطقية (أي نظرية الحديث
الجيد والتفكير الجيد) بل، ببساطة، نفكر ونتحدث جيدًا؛ ولا نعود
ننخرط في نظرية عن العالم الفيزيقي بل نتأمل الكون؛ ولا نعود ننظر
حول الفعل الأخلاقي بل نفعل بالطريقة الصائبة والعادلة.
الخطاب عن الفلسفة ليس الفلسفة. اعتاد بولمون
Polemon، أحد أئمة الأكاديمية
القديمة أن يقول:
«يجب أن ندرب أنفسنا بالواقع لا بالتنظيرات
الديالكتيكية، كشأن إنسان الْتهم كتابًا دراسيًّا في
الهرمونيقا
harmonics٣ ولكن لم يضع معرفته قط في الممارسة. كذلك
ينبغي ألا نكون مثل الذين يبهرون الحاضرين بمهارتهم في
المحاجَّة القياسية ولكنهم، عندما يكون الشأن شأن حياتهم
نفسها يناقضون تعاليمهم.»
وبعد خمسة قرون من ذلك يقول إبكتيتوس مُردِّدًا
هذا الرأي:
«إن النجار لا يأتيك قائلًا: أصغِ إلى حديثي عن فن
النجارة؛ بل يتعاقد معك على بناء منزل ويبنيه … ليكنْ هذا
أيضًا ديدنك. كُلْ كإنسان، واشرب كإنسان، وتزوجْ وأنجِب،
وشاركْ في الحياة المدنية؛ تعلَّم كيف تصبر على الإهانات،
واحتمل الآخرين.» (إبكتيتوس، «المحادثات»)
بوسعنا أن نتنبأ من فورنا بالنتائج المترتبة على هذا التمييز،
الذي صاغه الرواقيون ولكن أغلب الفلاسفة سلموا به، والمتصل
بالعلاقة بين النظرية والتطبيق. وثمة مثلٌ أبيقوري يترجمه بوضوح:
«عبث كلمة ذلك الفيلسوف التي لا تخفِّف أي شقاءٍ إنساني»؛
فالنظريات الفلسفية هي في خدمة الحياة الفلسفية. لهذا السبب اختزلت
النظريات الفلسفية، في الحقبتين الهلينستية والرومانية، إلى نواة
نظريةٍ نسقية شديدة التركيز، قادرة على أن تؤتي أثرًا نفسيًّا
قويًّا، وقريبة المأخذ بحيث يمكن وضعها دائمًا في متناول اليد
(Procheiron). لم يكن الخطاب
الفلسفي نسقيًّا لأنه يريد تقديم تفسيرٍ مذهبيٍّ شامل للواقع
الكلي؛ وإنما كان نسقيًّا عساه أن يقدم للذهن عددًا صغيرًا من
المبادئ المرتبطة معًا ارتباطًا وثيقًا، والتي تستمد قوةً إقناعية
أكبر وتأثيرًا تذكريًّا أشد، من جراء هذه النسقية بالتحديد. من شأن
الأقوال القصيرة أن توجز، في شكلٍ أخَّاذ أحيانًا، المبادئ
الجوهرية، بحيث يتسنَّى للطالب أن يعيد وضع نفسه داخل النزوع
الأساسي الذي عليه أن يعيش فيه.
هل الحياة الفلسفية، إذن، هي مجرد تطبيق نظرياتٍ مدروسة جيدًا من
أجل حل مشكلات الحياة؟ الحق أننا حين نتأمل فيما تنطوي عليه الحياة
الفلسفية ندرك أن هناك هوةً بين النظرية الفلسفية والتفلسف كفعلٍ
حي. ولنأخذْ مثالًا: قد يبدو كأن الفنانين في نشاطهم الإبداعي لا
يفعلون أكثر من تطبيق قواعد، إلا أن هناك مسافةً سحيقة بين الخلق
الفني ونظرية الفن المجردة. على أننا في مجال الفلسفة لا نتعامل مع
مجرد خلق عملٍ فني: إنما هدفنا أن نحول «أنفسنا». العيش، إذن،
بطريقةٍ فلسفيةٍ أصيلة يقابل نظامًا للواقع مختلفًا تمامًا عن نظام
الخطاب الفلسفي.
كان التفلسف في الرواقية، مثلما هو في الأبيقورية، فعلًا
مستمرًّا ودائمًا ومتوحدًا مع الحياة نفسها، التي يجب أن تتجدد في
كل لحظة. وفي كلتا المدرستين يمكن تعريف هذا الفعل كتوجه
للانتباه.
كان الانتباه في الرواقية متوجهًا نحو خلوص نيات المرء. وبعبارةٍ
أخرى كان هدف الرواقية أن نطوِّع إرادتنا الفردية مع العقل، أو مع
إرادة الطبيعة الكلية؛ بينما تتوجه الأبيقورية نحو المتعة، التي هي
في النهاية متعة الوجود. غير أن تحقيق هذه الحالة من الانتباه
يتطلب عددًا من التدريبات: التأمل المكثف في المبادئ الأساسية،
والوعي المتجدد أبدًا بتناهي الحياة، وتمحيص المرء لضميره، وفوق كل
شيء موقفٌ محدد تجاه الزمن:
ينصحنا الرواقيون والأبيقوريون معًا بالعيش في الحاضر، فلا
ينغصنا الماضي ولا يقلقنا المستقبل غير المتيقن؛ فالحاضر عند كلتا
هاتين المدرستَين كافٍ للسعادة؛ لأنه الواقع الوحيد الذي ينتمي لنا
ويعتمد علينا. ويتفق الرواقيون والأبيقوريون في إدراك القيمة
اللانهائية لكل لحظة؛ فالحكمة عندهما تامة مكتملة في اللحظة
الواحدة مثلما هي خلالٌ أبدية. وعند الحكيم الرواقي، بصفةٍ خاصة،
فإن كلية الكوزموس متضمَّنة ومحتواةٌ في كل لحظة. ونحن فوق ذلك
بوسعنا، بل وينبغي علينا، أن نكون سعداء هنا والآن. الأمر عاجلٌ
مُلحٌّ، فالمستقبل غير متيقَّن والموت تهديدٌ مصلت: «بينما نحن
ننتظر أن نحيا تنقضي الحياة وتضيع» (سنكا، «رسائل إلى لوسيليوس»).
لا يمكن أن نفهم هذا الموقف إلا إذا افترضنا أنه في الفلسفة
القديمة كان هناك وعيٌ حادٌّ بقيمة الوجود التي لا تُحَدُّ ولا تقايس.
٤ فالوجود في الكون، في الواقع الفذِّ للحدث الكوني، كان
يُعدُّ شيئًا نفيسًا إلى غير حد.
الفلسفة، إذن، في الحقبة الهلينستية واليونانية، كما قد رأينا،
أخذت شكل أسلوب في الحياة، فن للعيش، طريقة وجود. غير أن هذا لم
يكن شيئًا جديدًا؛ فقد اتخذت الفلسفة القديمة هذا الطابع منذ سقراط
على أقل تقدير. كان هناك أسلوبٌ سقراطي في الحياة (حاكاه
الكلبيون). والحوار السقراطي كان تدريبًا يهيب بمحاور سقراط أن
يُسائل نفسه، وأن يعتني بنفسه، وأن يجعل روحه جميلة وحكيمة جهد ما
يستطيع (أفلاطون، «الدفاع»، e21).
كذلك يُعرِّف أفلاطون الفلسفة كتدريب على الموت، ويعرف الفيلسوف
كشخص لا يخاف الموت لأنه يتأمل كلية الزمان والوجود.
وحتى أرسطو، الذي يُدعى أحيانا أنه مُنظِّرٌ محض، كان يعتبر أن
الفلسفة يستحيل ردُّها إلى خطابٍ فلسفي، أو إلى حشد من المعارف؛
إنما الفلسفة عند أرسطو كيفية
Quality للعقل، نتاج تحولٍ
داخلي، وشكل الحياة الذي كان يدعو إليه أرسطو هو الحياة وفقًا
للعقل.
لذا يجب ألا نتخيل، مثلما يحدث كثيرًا، أن الفلسفة تحولت تمامًا
أثناء الحقبة الهلينستية، سواء بعد السيطرة المقدونية على المدن
اليونانية أو أثناء الفترة الإمبراطورية. فمن ناحية، ليس صحيحًا،
مثلما تحملنا الرواسم الواسعة الانتشار على الاعتقاد، أن دولة
المدينة الإغريقية قضت نحبها بعد عام ٣٣٠ق.م.، وأن الحياة السياسية
انقضت معها؛ فأولًا وقبل كل شيء، ليس مفهوم الفلسفة كفن وشكل
للعيش، ليس مرتبطًا بظروفٍ سياسية، أو باللجوء إلى ميكانزمات
الهروب والحرية الداخلية للتعويض عن الحرية السياسية المفقودة. لقد
كانت الفلسفة من الأصل بالنسبة لسقراط وتلاميذه طريقة حياة
وأسلوبًا للعيش الداخلي. ولم تغير الفلسفة ماهيتها خلال مسار
تاريخها كله في العصر القديم.
وبصفةٍ عامة، قلَّما يلتفت مؤرخو الفلسفة إلى حقيقة أن الفلسفة
القديمة كانت، أولًا وقبل كل شيء، طريقة حياة. فهم يعتبرون الفلسفة
خطابًا فلسفيًّا فوق كل شيء. كيف يمكن تفسير أصل هذا التحيز؟ أعتقد
أنه يرتبط بتطور الفلسفة في العصور الوسيطة وفي الأزمنة
الحديثة.
لعبت المسيحية دورًا كبيرًا في هذه الظاهرة. فمنذ بداياتها
الأولى، أي منذ القرن الثاني، قدَّمت المسيحية نفسها كفلسفة:
الطريقة المسيحية في الحياة. الحق أن هذه الحقيقة نفسها، حقيقة أن
المسيحية استطاعت أن تقدم نفسها كفلسفة، تؤكد مقولة أن الفلسفة كان
يُنظَر لها في العصر القديم كطريقة حياة. فإذا كان فعل الفلسفة هو
العيش وفقًا لقانون العقل — هكذا تمضي الحجة — كان المسيحي
فيلسوفًا، إذ كان يعيش وفقًا لقانون اللوجوس؛ العقل الإلهي. ولكي
تقدم نفسها كفلسفة فقد كان على المسيحية أن تدمج عناصر مستعارة من
الفلسفة القديمة. كان عليها أن تدمج لوجوس الإنجيل وفقًا ليوحنا مع
العقل الكوني الرواقي، وبالتالي أيضًا مع اﻟ
Intellect الأرسطي
والأفلاطوني. وكان عليها أيضًا أن تدمج التدريبات الروحية الفلسفية
في الحياة المسيحية. وتظهر ظاهرة الدمج بوضوحٍ شديد عند كلمنت
السكندري؛ وجعلت تنمو بعنفوان في حركة الرهبنة، حيث نجد تدريبات
الانتباه إلى النفس (Prosoche)
الرواقية/الأفلاطونية، والتأمل، وتمحيص الضمير، والتدريب على
الموت. ونصادف أيضًا، مرةً أخرى، القيمة الكبرى المسداة للسلام
العقلي ومنعة العقل.
وكان للعصور الوسيطة أن ترث تصور الحياة الرهبانية كفلسفةٍ
مسيحية، أي كطريقةٍ مسيحية في الحياة. وكما كتب دوم جين ليكليرك:
«مثلما كانت في العصر القديم، لم تكن الفيلوصوفيا في العصور
الوسيطة الرهبانية تطلق على نظرية أو طريقة للمعرفة بل على حكمةٍ
معيشة، طريقة عيش وفقًا للعقل».
٥ غير أن الجامعات القروسطية في نفس الوقت شهدت زوال
الخلط الذي كان موجودًا في المسيحية الأولية بين الثيولوجيا،
القائمة على قاعدة الإيمان، والفلسفة التقليدية، القائمة على
العقل. لم تعد الفلسفة الآن هي العلم الأسمى، بل «خادمة اللاهوت»،
فقد كانت تزود اللاهوت بالمادة التصورية والمنطقية والفيزيقية
والميتافيزيقية التي تلزمه. وأصبحت كلية الآداب مجرد إعداد لكلية
اللاهوت.
إذا غضضنا الطرف لحظة عن الاستخدام الرهباني لكلمة فيلوصوفيا،
يمكننا أن نقول إن الفلسفة في العصور الوسيطة قد أصبحت نشاطًا
نظريًّا ومجردًا. لم تعد الفلسفة طريقة عيش؛ ولم تعد التدريبات
الروحية القديمة جزءًا من الفلسفة، بل وجدت نفسها تندمج في الروحية
المسيحية. وإنما في هذا الشكل نحن نصادفها مرةً أخرى في «التدريبات
الروحية» للقديس إغناطيوس. ووجد التصوف الأفلاطوني المحدث امتداده
في التصوف المسيحي، وبخاصة بين اﻟ Rhineland
Dominicans من أمثال Meister
Eckhardt.
هكذا شهدت العصور الوسيطة تحولًا جذريًّا في محتوى الفلسفة
بالمقارنة بالعصر القديم. كما أنه منذ الفترة الوسيطة فصاعدًا كان
اللاهوت والفلسفة يُدرَسان في تلك الجامعات التي كانت صنيعة
الكنيسة القروسطية. ورغم جهود بُذلت لاستخدام كلمة «جامعة» University للإشارة إلى المؤسسات
التعليمية القديمة، يبدو أنه لا فكرة الجامعة ولا واقعها كان له
وجود في العصر القديم (ربما باستثناء «الشرق» Orient قرب نهاية الحقبة القديمة).
من خصائص الجامعة أنها مكوَّنة من أساتذة يدربون أساتذة، أو
مهنيين يدربون مهنيين. هكذا لم يعد التعليم متجهًا إلى أناس يُرجى
تعليمهم لكي يصبحوا كائناتٍ بشريةً ناضجة، بل متجهًا إلى متخصصين
لكي يدربوا متخصصين آخرين. هذا هو خطر «السكولائية» Scholasticism، ذلك النزوع
الفلسفي الذي بدأ في التشكُّل في نهاية العصر القديم وبلغ أشده في
العصور الوسطى، والذي يمكن تمييز وجوده في الفلسفة اليوم.
سوف تستمر الجامعة السكولائية، التي يهيمن عليها اللاهوت، تعمل
حتى نهاية القرن الثامن عشر؛ ولكن ينمو نشاطٌ فلسفيٌّ إبداعيٌّ
أصيل خارج الجامعة منذ القرن السادس عشر حتى الثامن عشر، متمثلًا
في شخص ديكارت، وشخص اسبينوزا ومالبرانش وليبنتز. هكذا استردت
الفلسفة استقلالها في مقابل اللاهوت؛ غير أن هذه الحركة — الوليدة
كرد فعل ضد السكولائية الوسيطة — كانت مركوزة في نفس الأرض التي
عليها الأخيرة. وفي مقابل نوع من الخطاب الفلسفي النظري بزغ بعدُ
خطابٌ نظريٌّ آخر.
منذ نهاية القرن الثامن عشر جعلت فلسفةٌ جديدة تظهر داخل
الجامعة، في أشخاص ولف، وكانت، وفخته، وشيلنج، وهيجل. منذ ذلك
الحين، وباستثناءاتٍ نادرة مثل شوبنهاور أو نيتشه، ستكون الفلسفة
مرتبطة بالجامعة. نرى ذلك في حالة برجسون، وهسرل، وهيدجر. هذه
الحقيقة لا تخلو من أهمية. فالفلسفة، إذ تردُّ كما رأينا إلى خطابٍ
فلسفي، تنمو منذ هذه النقطة في مناخ وبيئة مختلفَين عن مناخ
الفلسفة القديمة وبيئتها. لم تعد الفلسفة في الجامعة الحديثة طريقة
حياة أو شكل حياة (اللهم إلا إذا كان شكل حياة أستاذ فلسفة). إن
عنصر الفلسفة وبيئتها النشطة هذه الأيام هو المؤسسة التعليمية
الحكومية؛ وقد كان هذا دائمًا، وربما لا يزال، خطرًا على
استقلالها. وبتعبير شوبنهاور:
«بصفةٍ عامة فإن فلسفة الجامعة مجرد مبارزة أمام المرآة.
وهدفها في النهاية هو أن تقدم للطلاب آراء توافق هوى
الوزير الذي يمنح الكراسي الجامعية … والنتيجة أن هذه
الفلسفة الممولة حكوميًّا تجعل من الفلسفة أضحوكة. ولكن
إذا كان ثمة شيءٌ واحد يُرتجى في هذا العالم، فهو أن أرى
شعاع ضوء يسقط على ظلام حياتنا، مسلطًا نوعًا ما من النور
على اللغز المستغلق لوجودنا.»
٦
ومهما يكن من شيء فإن الفلسفة الحديثة هي أولًا وأخيرًا خطاب
ينشأ في الفصل الدراسي، ثم يودع في كتب. فهي نص Text يتطلَّب تفسيرًا Exegesis.
ليس يعني ذلك أن الفلسفة الحديثة لم تعد، بطرائقَ مختلفة، اكتشاف
بعض الجوانب الوجودية للفلسفة القديمة. كما يجب أن نضيف أن هذه
الجوانب لم تختفِ تمامًا في يوم من الأيام. فلم يكن من قبيل
الصدفة، مثلًا، أن يسمي ديكارت أحد كتبه «تأملات»؛ فهي حقًّا
تأملات Meditatio — بمعنى
التدريب — وفقًا لروح الفلسفة المسيحية لأوغسطين؛ ويوصي ديكارت بأن
تمارس عبر فترةٍ معينة من الزمن. كما أن «أخلاق» Ethics اسبينوزا، من تحت شكلها الهندسي النسقي،
توافق إلى حدٍّ بعيد ما يمكن أن يعنيه الخطاب الفلسفي بالنسبة
للرواقيين. وبوسع المرء أن يقول إن خطاب اسبينوزا، المشرب بالفلسفة
القديمة، يعلم الإنسان كيف يحول وجوده جذريًّا وعيانيًّا، وكيف
يخلص إلى الغبطة. كما أن صورة الحكيم تظهر في الأسطر الأخيرة من
«الأخلاق»: «الحكيم، بوصفه حكيمًا، لا تضطرب روحه على الإطلاق، بل
لأنه على وعي بنفسه، وبالله، وبالأشياء، بضرورةٍ أبديةٍ معينة، لا
يكفُّ عن الوجود، بل يمتلك دائمًا قبولًا روحيًّا حقيقيًّا»
(سبينوزا، «الأخلاق»، الجزء الخامس). كما أن فلسفتَي نيتشه
وشوبنهاور هما أيضًا دعوتان للتحول الجذري لطريقة حياتنا. وكلا
الرجلين كانا أيضًا متشرِّبين بتعاليم الفلسفة القديمة.
للوعي الإنساني، وفقًا للنموذج الهيجلي، طابعٌ تاريخيٌّ خالص.
وتحت تأثير المنهج الهيجلي بزغت بين ماركس وصغار الهيجليين فكرة أن
النظرية لا يمكن أن تنسلخ عن الممارسة، وأن فعل الإنسان على العالم
هو ما يولد تمثلاته. وفي القرن العشرين ظهرت فلسفة برجسون
وفينومينولوجيا هسرل كمنهجين لتحويل إدراكنا للعالم أكثر منهما
مذهبين مغلقين. وأخيرًا فإن الحركة الفكرية التي افتتحها هيدجر
وواصلتها الفلسفة الوجودية ترمي، نظريًّا ومن حيث المبدأ، إلى أن
تدخل حرية الإنسان وفعله في العملية الفلسفية، رغم أنها، في نهاية
التحليل، هي أيضًا خطاب فلسفي بالأساس.
بوسع المرء أن يقول إن ما يفرق الفلسفة القديمة عن الحديثة هو
أنه في الفلسفة القديمة لم يكن خريسبوس أو أبيقور وحدهما، لأنهما
أنشآ خطابًا فلسفيًّا، يعتبران من الفلاسفة، بل كل من يعيش وفقًا
لتعاليم خريسبوس أو أبيقور كان يعد فيلسوفًا مثلهما تمامًا. إن
سياسيًّا مثل كاتو من
يوتيكا Cato of Utica كان يعدُّ فيلسوفًا بل حكيمًا، رغم أنه لم
يكتب ولم يُعمِّم شيئًا قط؛ ذلك أن حياته كانت رواقية على نحوٍ
كامل. والشيء نفسه يصح في رجال الدولة الرومان من أمثال
رتيلوس روفوس Rutilius Rufus
وكينتوس
موسيوس سيفولا بونتيفكس Quintus Mucius Scaevola Pontifex، اللذين مارسا الرواقية،
إذ أبديا نزاهة وإنسانية مثاليتَين في إدارة المقاطعات التي عهدت
إليهما. لم يكن هذان الرجلان مجرد مثالَين للأخلاقية بل كانا
رجلَين يعيشان الرواقية بكليتها، يتحدثان كالرواقيين (يقول شيشرون
صراحة إنهما كانا يحجمان عن استخدام نوعٍ معين من البلاغة في
المحاكمات التي كانا شاهدَين فيها)، وينظران إلى العالم
كالرواقيين؛ وبعبارةٍ أخرى: يحاولان أن يعيشا وفقًا للعقل الكوني.
لقد أرادا أن يحققا مثال الحكمة الرواقية: أسلوبًا معينًا من
الإنسانية، من العيش وفقًا للعقل، داخل الكون وفي رفقة غيرهما من
البشر. لم تكن غاية جهودهما تتمثل في مجرد الأخلاق، بل الكائن
الإنساني ككل.
كانت الفلسفة القديمة تقترح على الجنس البشري فنًّا للعيش. وعلى
العكس من ذلك تبدو الفلسفة الحديثة، فوق كل شيء، كتشييد لرطانةٍ
تكنيكيةٍ مقصورة على المتخصصين.
لكل شخصٍ كاملُ الحرية في أن يعرف الفلسفة كما يحب، أن يختار
أيما فلسفة يرغب فيها، أو يبتكر — إن استطاع — أيما فلسفة قد يراها
صحيحة. وقد ظل ديكارت وسبينوزا مخلصَين للتعريف القديم: كانت
الفلسفة عندهما هي «ممارسة الحكمة». فإذا كنا نرى، مقتدين
بمثالهما، أن من الضروري لبني الإنسان أن يحاولوا الوصول إلى حالة
الحكمة، فسوف نجد في التعاليم القديمة لشتى المدارس الفلسفية —
السقراطية، الأفلاطونية، الأرسطية، الأبيقورية، الرواقية، الكلبية،
الشكية — نماذج للحياة، وأشكالًا أساسية في التوافق مع العقل يمكن
تطبيقها على الوجود الإنساني، ونماذج أصلية لطلب الحكمة. إن النفيس
هنا هو هذا التعدد في المدارس القديمة على التحديد. فالتعدد يتيح
لنا أن نقارن المعقبات المترتبة على مختلف المواقف الأساسية
الممكنة، ويقدم مجالًا ذا امتياز للتجريب. يفترض ذلك مسبقًا،
بطبيعة الحال، أننا نرد هذه الفلسفات إلى روحها وجوهرها، فاصلين
إياها عن العناصر الكوزمولوجية أو الأسطورية البائدة، مستخلصين
منها القضايا الأساسية التي كانت هي نفسها تعتبرها جوهرية. ليس
يعني ذلك، بالمناسبة، أنها مسألة اصطفاء مدرسة على أخرى من هذه
المدارس إلى حد إقصاء الأخريات؛ فالأبيقورية والرواقية، على سبيل
المثال، يناظران «قطبين متقابلين ولكن لا ينفصلان» لحياتنا
الداخلية: مطالب ضميرنا الأخلاقي، وتنامي فرحنا بالوجود.
كانت الفلسفة في العصر القديم تدريبًا يمارَس في كل لحظة. إنها
تدعونا إلى أن نركز في كل آنة من آنات الحياة، كي نصبح على وعي
بالقيمة اللانهائية لكل لحظةٍ حاضرة فور وضعها داخل منظور الكون؛
فتدريب الحكمة يستلزم بعدًا كونيًّا. وبينما فقد الشخص العادي صلته
بالعالم، ولم يعد يرى العالم بما هو عالم بل يتعامل معه كوسيلة
لإشباع رغباته، فإن الحكيم لا يغفل طرفة عين عن تمثُّل الكل أمام
عقله. إنه يفكر ويفعل داخل المنظور الكوني، وإن لديه شعورًا
بالانتماء إلى الكل الذي يتجاوز حدود فرديته. كان هذا الوعي الكوني
في الزمن القديم قائمًا في منظورٍ مختلف عن منظور المعرفة العلمية
بالعالم التي يمكن أن يقدمها، مثلًا، علم الظواهر الفلكية. كانت
المعرفة العلمية موضوعية ورياضية بينما الوعي الكوني نتاج تدريبٍ
روحي يتألف من صيرورة المرء واعيًا بمكان وجوده داخل التيار الكبير
للكون وداخل منظور الكل؛ أن ينغمد المرء في كلية العالم
Toti se Inserens Mundo،
بتعبير سنكا. لم يكن هذا التدريب يقام في المكان المطلق للعلم
الدقيق، بل في الخبرة المعيشة للذات الحية العينية
والمدركة.
علينا هنا أن نتعامل مع نوعَين مختلفَين جذريًّا من العلاقة
بالعالم. ويمكننا أن نفهم الفرق بين هذين النوعَين بأن نستدعي
التضاد الذي أشار إليه هسرل بين دوران الأرض، المؤكد والمثبت
علميًّا، وثبات الأرض، المسلَّم به من جانب الخبرة اليومية ومن
جانب الوعي الترانسندنتالي/البنائي Transcendental/Constitutive. فبالنسبة لهذا الأخير،
فالأرض هي الأرضية الثابتة لحياتنا، النقطة المرجعية لتفكيرنا، أو،
بتعبير ميرلوبونتي «رحم زماننا ومكاننا». وبنفس الطريقة، فإن
الطبيعة والكون هما، بالنسبة لإدراكنا الحي، الأفق اللانهائي
لحيواتنا، سر وجودنا الذي، كما قال لوكريتس، يلهمنا الروع والشهوة
المقدسة، رجفة ولذةً مقدسة. وكما عبر جوته في أبيات رائعة:
أروع ما في الإنسان هو الرعشة،
مهما غلا الثمن الذي يقتضيه العاﻟمُ أن يدفعه مقابل هذا
الانفعال،
هو في قبضة الانخطاف عندما يحسُّ باﻟمعجز.
يمكن للتعاليم الفلسفية القديمة أن تكون دليلًا
هاديًا لنا في علاقتنا بأنفسنا، وبالكون، وبرفاقنا من البشر. ثمة
فكرة من الرواسم (الكلشيهات) المحفورة في ذهنية المؤرخين المحدثين
ليس ثمة ما هو أكثر منها رسوخًا ولا أصعب على الاقتلاع — مفادها أن
الفلسفة القديمة كانت آلية هروب، فعل نكوص للمرء إلى ذاته؛ هروب
إلى سماء المُثل في حالة الأفلاطونيين، وإلى رفض السياسة في حالة
الأبيقوريين، وإلى الإذعان للقدر في حالة الرواقيين. هذه الطريقة
في النظر إلى الأشياء هي طريقةٌ زائفة في الحقيقة زيفًا مزدوجًا؛
فالفلسفة القديمة أولًا كانت دائمًا فلسفة تمارس في جماعة، سواء في
حالة المجتمعات الفيثاغورية، أو الحب الأفلاطوني، أو الصداقة
الأبيقورية، أو التوجيه الروحي الرواقي. كانت الفلسفة القديمة
تتطلب جهدًا جمعيًّا، مجتمع بحث، عونًا متبادلًا، دعمًا متبادلًا،
دعمًا روحيًّا. وفوق كل شيء، لم يتخلَّ الفلاسفة قط — حتى
الأبيقوريون في نهاية التحليل — عن المشاركة في دعم مدنهم، وتحويل
مجتمعهم؛ ولدينا آثار لذلك محفوظة لنا في نقوشٍ باقية. لعل الأفكار
السياسية قد اختلفت من مدرسة إلى أخرى، ولكن الاهتمام بتقديم العون
للمدينة أو الدولة، أو الملك أو الإمبراطور، ظل ثابتًا على الدوام.
يصدق هذا بصفةٍ خاصة على الرواقية، وبوسعنا أن نراه بسهولة في كثير
من نصوص ماركوس أوريليوس. فبين المهام الثلاث التي علينا أن نضعها
نصب أعيننا كل لحظة، وإلى جانب تيقُّظ المرء لأفكاره والتسليم بما
يقضي به القدر، ثمة مكانٌ جوهريٌّ مقيض للواجب الذي علينا أن نقوم
به دائمًا في خدمة المجتمع البشري، أي، الفعل وفقًا للعدالة. كما
أن هذا المتطلب الأخير مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمتطلبَين
الآخرَين. إنها الحكمة الواحدة بعينها تلك التي توائم نفسها مع
حكمة الكون ومع العقل الذي يشارك فيه البشر جميعًا. هذا الاهتمام
بالعيش في خدمة المجتمع البشري، وبالفعل الموافق للعدالة، هو عنصرٌ
جوهري لكل حياةٍ فلسفية. وبعبارةٍ أخرى: فالحياة الفلسفية تستلزم
عادة مشاركةً مجتمعية. وربما تكون هذه المهمة هي الأصعب في
التنفيذ. والحذق هنا هو في أن يحفظ المرء نفسه على مستوى العقل،
ولا يسمح لنفسه بأن تعميها الأهواء السياسية، أو الغضب، أو الإحن،
أو التحيزات. ثمة توازن — مستحيل التحقيق تقريبًا — بين السلام
الداخلي الذي تجلبه الحكمة، والانفعال المحتوم من مرأى المظالم
والآلام والبؤس البشري. غير أن الحكمة هي بالضبط هذا التوازن،
والسلام الداخلي لا غنى عنه من أجل الفعل الناجع.
هذا هو درس الفلسفة القديمة: دعوة لكل كائن إنساني بأن يحول
نفسه. الفلسفة تحول
Conversion،
تحول لطريقة المرء في الوجود والحياة، ومسعًى إلى الحكمة. وليس هذا
بالأمر اليسير. وكما كتب اسبينوزا في نهاية كتابه «الأخلاق»
Ethics:
«إذا كان الطريق الذي بينتُه على أنه يؤدي إلى هذه
النتيجة يبدو عسيرًا للغاية، فإن من الممكن اكتشافه برغم
ذلك. وقد كان لزامًا أن يكون صعبًا حقًّا، ما دام نادرًا
جدًّا. أكان بالإمكان أن يكون الخلاص ميسورًا ومبذولًا دون
عناءٍ كبير ثم نجد الجميع تقريبًا غافلًا عنه مهمِلًا
إياه؟ صعبة هي ممارسة الفلسفة، ولكن الأشياء الممتازة هي
دائمًا صعبة بقدر ما هي نادرة.»