الفصل الثاني
الفلسفة، والتفسير، والأخطاء الخلَّاقة
كلنا يعرف ملاحظة هُوَيتهِد «لا تعدو الفلسفة الغربية أن تكون
سلسلة هوامش على محاورات أفلاطون.» يمكن تأويل هذه العبارة
بطريقتَين: فقد نأخذها بمعنى أن الإشكاليات التي طرحها أفلاطون قد
تركت أثرًا مؤكدا في الفلسفة الغربية، وهذا قد يكون صحيحًا. ويمكن
أيضًا أن تؤخذ بمعنى أن الفلسفة الغربية قد اتخذت، بالمعنى الدقيق،
شكل تعليقات Commentaries — على
أفلاطون أو غيره — وأنها اتخذت، بمعنًى أعم، شكل تفسير Exegesis، وهذا أيضًا صحيح إلى حدٍّ
كبير جدًّا. من الأهمية بمكان أن ندرك أنه لقُرابة ألفَي عام — من
منتصف القرن الرابع قبل الميلاد وحتى نهاية القرن السادس عشر بعد
الميلاد — كانت الفلسفة تُفهَم على أنها، بعد كل شيء، التفسير
لعددٍ صغير من النصوص المستقاة من مفكِّرين «ثقات»
Authorities يأتي على رأسهم
أفلاطون وأرسطو. ولنا أيضًا أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت الفلسفة،
حتى بعد الثورة الديكارتية، لا تزال تحمل آثارًا من ماضيها الطويل،
وما إذا كانت، حتى اليوم، وإلى حدٍّ ما على الأقل، لا تزال
تفسيرًا.
ترتبط الفترة المتطاولة للفلسفة «التفسيرية» Exegetical بظاهرةٍ سوسيولوجية: وهي وجود
مدارسَ فلسفيةٍ يُحتفَظ فيها بفكر أستاذٍ معين، وأسلوب حياته
وكتاباته، على نحوٍ ديني. وقد كانت هذه الظاهرة موجودة فيما يبدو
بين المدارس قبل السقراطية، غير أن بوسعنا أن نلحظها في أوضح صورة
منذ أفلاطون فصاعدًا.
كان أفلاطون قد منح أكاديميته تنظيمًا ماديًّا وشرعيًّا صلبًا؛
فكان قادة المدرسة يخلف أحدهم الآخر في سلسلةٍ متصلة إلى أن أغلق
جستنيان مدرسة أثينا عام ٥٢٩م. وطوال هذه الفترة كان النشاط
الدراسي يقوم على طرائقَ تقليديةٍ ثابتة. وكانت المدارس العظيمة
الأخرى، سواءٌ المشائية
١ أو الرواقية أو الأبيقورية، منظمةً وفق خطوطٍ مماثلة.
كانت الكتابات الخاصة بمؤسسي كل مدرسة هي أساس التعليم فيها، وكان
يحدد الترتيب الذي ينبغي على الطالب أن يقرأ به هذه الكتابات كيما
يكتسب أفضل تعليمٍ ممكن. ولا تزال بين أيدينا بعض الكتابات التي
يوصي فيها الأفلاطونيون بالترتيب الذي ينبغي أن يُتبَع في قراءة
محاورات أفلاطون. وهكذا يمكننا القول بأنه منذ القرن الرابع قبل
الميلاد فصاعدًا كانت كتابات أرسطو المنطقية منظمة بترتيبٍ مدرسيٍّ
محدد — الأورجانون — لن يناله أي تغيير حتى الأزمنة
الحديثة.
وكان التعليم يتمثل أساسًا في التعليق على أفلاطون وأرسطو،
باستخدام تعليقاتٍ سابقة وإضافة تأويلٍ جديد هنا أو هناك. ولدينا
في هذا الصدد شهادةٌ شائقة من فرفوريوس عن دروس أفلوطين:
«اعتاد في فصوله أن يأمر بقراءة التعليقات، ربما تعليقات
سيفيروس أو كرونيوس أو نومينيوس أو جايوس أو أتيكوس، أو
تعليقات أحد المشائين مثل أسباسيوس أو ألكسندر، أو أيما
أحد يعن. غير أنه لم يكرر قط أي شيء من هذه التعليقات
لفظًا لفظًا مكتفيًا بهذه القراءات، بل دأب على أن يعطي
بنفسه تفسيرًا عامًّا
(
Theoria) للنص (نص
أفلاطون أو أرسطو) بطريقته الشخصية، والذي كان مختلفًا عن
الرأي السائد. كما أنه في استقصاءاته كان يحمل ميسم أمونيوس.»
٢
كان أول معلق على محاورة طيماوس لأفلاطون، فيما يبدو، هو كرانتور
(
Crantor ca. 330 BC). واستمر
المعلقون الأفلاطونيون يزاولون نشاطهم حتى نهاية المدرسة الأثينية
في القرن السادس. ومنذ هذه النقطة استمر التعليم، في العالم العربي
وفي الغرب اللاتيني، حتى عصر النهضة (مارسيليو فيتشينو). أما أرسطو
فقد كان أول معلق عليه هو أندرونيقوس الروديسي (القرن الأول ق.م.)
الذي بدأ سلسلة امتدت إلى نهاية عصر النهضة في شخص زابارديلا. وإلى
جانب التعليقات بمعناها الدقيق اتخذ النشاط التفسيري للمدارس
الفلسفية صورة الرسائل العقدية المكرِّسة لنقاطٍ معينة من التفسير،
والكتيبات الإرشادية المصمَّمة لكي تعمل كمداخل لدراسة الأئمة
الكبار. كما شهدت أواخر العصر القديم ظهور سلطاتٍ أخرى غير أفلاطون
وأرسطو: سلطات الوحي. وهي بالنسبة للمسيحيين واليهود تعني الكتاب
المقدس أساسًا، وبالنسبة للفلاسفة الوثنيين تعني
اﻟ
Chaldaean Oracles
(الموحيات الكلدانية). أرادت كل من اليهودية والمسيحية أن تقدم
نفسها للعالم اليوناني على أنها فلسفات؛ ومن ثم أنشآ على يد فيلون
وأوريجين على التوالي تفسيرًا للكتاب المقدس مماثلًا للتفسير
الوثني التقليدي لأفلاطون. ومن جانبهم بذل المعلقون الوثنيون على
الموحيات الكلدانية (أمثال فرفوريوس ويامبليكوس وبروكلوس) بذلوا
وسعهم لكي يثبتوا أن تعاليم «الآلهة» تتفق مع مذاهب أفلاطون. وإذا
كنا نعني ﺑ «الثيولوجيا» التفسير العقلاني لنصٍّ مقدس فإن بوسعنا
أن نقول إن الفلسفة خلال هذه الفترة تحولت إلى ثيولوجيا، وإنها
بقيت كذلك طوال العصور الوسطى. ومن هذه الزاوية بدا مدرسيو
Scholastics العصر الوسيط
كامتدادٍ منطقي للتعليم التفسيري القديم. وقد عرف م. د.
شنو
Chenu الطابع الخاص
للسكولائية على أنه «جدليات مستخدمة من أجل فهم نصٍّ ما: إما نصٌّ
متصل، حيث الهدف هو كتابة تعليق، وإما سلسلة نصوصٍ منتقاة لكي تعمل
كأسس وبراهين على بناء نظريٍّ معطى». وبالنسبة لهذا الباحث فإن
السكولائية هي «شكلٌ عقلاني من الفكر معقود عن دراية وعمد ينطلق من
نصٍّ معتبر كسلطة». إذا قبلنا هذه التعريفات لأمكننا القول بأن
الفكر السكولائي لم يعْد أن تبنى العمليات الفكرية المعمول بها في
معظم المدارس الفلسفية القديمة، ولأمكننا أيضًا أن نقول، على
العكس، إن هذه المدارس كانت منخرطة في فكر سكولائي. لقد كان الدرس
الفلسفي خلال العصور الوسطى يتمثل جوهريا في تعليق نصي، سواء كان
النص هو الكتاب المقدس، أو أرسطو، أو بوئثيوس، أو «العبارات»
Sentences٣ لبيتر لومبارد.
لهذه الحقائق مترتبات هامة فيما يتعلق بالتأويل العام لتاريخ
الفلسفة، وبخاصة في فترة ما قبل ديكارت. فمن حيث إن الفلسفة كانت
تعد تفسيرا Exegesis فقد كان
البحث عن الحقيقة طوال هذه الفترة مغشى بالبحث عن معنى النصوص
«الموثقة» Authentic، أي تلك
النصوص التي كانت تعتبر سلطة. لقد كانت الحقيقة متضمنة داخل هذه
النصوص، كانت خاصة كتابها كما كانت خاصة تلك الجماعات التي تسلِّم
بسلطة هؤلاء الكتاب، وكانوا من ثم «ورثة» هذه الحقيقة
الأصلية.
وكانت مشكلات الفلسفة تُصاغ في لغةٍ تفسيرية. مثال ذلك أننا نجد
أفلوطين يكتب ما يلي في سياق بحثه لمشكلة الشر: «يجب أن نحاول أن
نكتشف بأي معنًى يقول أفلاطون إن الشرور لن تزول وإن وجودها
ضروري.» وكالعادة فإن بقية بحث أفلوطين عبارة عن مناقشة المصطلحات
التي يستخدمها أفلاطون في محاورته «ثياتيتوس»
Theaetetus. وكانت المعركة الشهيرة حول
الكليات
Universals، والتي
قسمت العصر الوسيط، قائمة على تفسير تعبيرةٍ واحدة من «إيساغوجي»
٤ فرفوريوس. وإن بوسعنا أن نضع قائمة بجميع النصوص التي
كان شرحها يكون الأساس لجميع الإشكاليات القديمة والوسيطة، وهي
قائمة لن تطول: إذ تشمل بضع فقرات من أفلاطون (وبخاصة «طيماوس»)،
وأرسطو، وبوئثيوس، والفقرات الأولى من سفر التكوين، ومقدمة إنجيل
يوحنا.
وكوْن النصوص الموثقة تطرح أسئلة لا يعود إلى أي خللٍ متأصل
فيها؛ إن غموضها، على العكس، كان يعتبر مجرد نتيجة لتكنيك يستخدمه
الأستاذ، الذي يريد أن يُلمِع إلى أمورٍ كثيرة في الوقت نفسه، ومن
ثم حصر «الحقيقة» في صياغاته. وكان أي معنًى ممكن، ما دام متسقًا
مع ما يعتقد أنه مذهب الأستاذ، كان يُعدُّ بالتالي صحيحًا.
والملاحظة التالية لتشارلس ثورو عن المعلقين على بريسيانوس النحوي
تنطبق على جميع مفسري الفيلسوف:
«إن الشراح في تفسيراتهم لنصٍّ ما، لا يبتغون أن يفهموا
فكر الكاتب، بل أن يدرسوا المذهب نفسه الذي يفترضون أنه
متضمَّن في النص. إن ما أسموه كاتبًا «موثقًا» Authentic لا يمكن أن
يكون مخطئًا، ولا أن يناقض نفسه، ولا أن يقيم حججه على
نحوٍ سقيم، ولا أن يتعارض مع أي كاتبٍ موثقٍ آخر. وكانت
تستخدم أعنت التفسيرات من أجل تكييف المعنى الحرفي للنص مع
ما كان يعتبر الحقيقة.»
كان المعتقد هو أن الحقيقة قد «أُعطيتْ» في نصوص الأستاذ، وأن كل
ما يلزم عمله هو تبيُّنها وإخراجها إلى واضحة النهار. يكتب أفلوطين
مثلًا: «هذه الأقوال ليست جديدة، ولا تنتمي إلى الوقت الحاضر، بل
وُضعت منذ زمنٍ طويل وإنْ على نحوٍ غير صريح. وما قلناه في شرحها
كان تأويلًا لها يعتمد على كتابات أفلاطون نفسها لإثبات أنها آراء
قديمة.» ها هنا نواجه جانبًا آخر لتصور الحقيقة الذي تتضمنه
الفلسفة «التفسيرية» Exegetical.
لقد كانت كل مدرسة أو جماعةٍ فلسفية أو دينية تعتقد أنها حائزة على
حقيقةٍ تقليدية ألقاها الرب منذ البداية إلى بضعة رجال حكماء؛ ومن
ثم كانت كل جماعة تزعم أنها الوريثة الشرعية للحقيقة.
من هذا المنظور يكون الصراع بين الوثنيين والمسيحيين، من القرن
الثاني الميلادي فصاعدًا، بالغ الدلالة. فكان الوثنيون والمسيحيون
كلاهما إذا تبينوا تشابهات بين مذهبَيهما اتهم كلٌّ منهما الآخر
بالسرقة. ادعى البعض أن أفلاطون انتحل من موسى، بينما أكد آخرون
العكس. ونتج عن ذلك سلسلة من الحجج الخاصة بالترتيب الزمني أريد
بها أن تثبت أيهما الأسبق تاريخيًّا. أما عند كلمنت السكندري فإن
السرقة ترتد زمنيًّا حتى إلى ما قبل خلق البشر: إذ كان ثمة ملاكٌ
خبيث كشف بعض آثار الحقيقة الإلهية فأوحى بالفلسفة إلى حكيم هذا
العالم.
وبنفس الطريقة كان الوثنيون والمسيحيون يفسرون نقاط الخلاف التي
بقيت بين مذهبَيهما رغم التشابهات المعينة؛ فقالوا إنها نتاج ضروب
من إساءة الفهم وإساءة الترجمة (أي سوء تفسير Bad Exegesis) للنصوص المسروقة.
من ذلك أن كلسوس Celsus كان يرى
أن مفهوم الاتِّضاع المسيحي لا يعدو أن يكون إساءة تأويل لفقرة في
محاورة «القوانين» لأفلاطون، وأن فكرة البعث Resurrection ليست أكثر من سوء فهم
لفكرة التقمص Transmigration.
وعلى الجانب المسيحي كان جوستن Justin يؤكد أن بعض أقوال أفلاطون تبين أنه قد
أساء فهم نص موسى.
في هذا المناخ الفكري كان الخطأ هو نتاج تفسيرٍ سيئ، أو ترجمةٍ
سيئة، أو فهمٍ مغلوط. غير أن المؤرخين هذه الأيام، فيما يبدو،
يعتبرون كل الفكر التفسيري نتاج أخطاء أو سوء فهم، ويرون أن هذه
الأخطاء والتحريفات تتخذ أشكالًا يمكن أن نعددها باختصار فيما يلي:
في المقام الأول يرتكب المفسرون تشييدات اعتسافية، فيقتطعون من
سياقاتها فقرات متباعدة في الأصل جدًّا، ويحللونها على نحوٍ صوريٍّ
خالص لكي يردوا النصوص المطلوب تفسيرها إلى جمع مذهب مترابط. مثال
ذلك أن تراتب الوجود الطبقي (الرباعي أو الخماسي) مستخلص من
محاوراتٍ أفلاطونيةٍ متعددة.
غير أن هذا ليس أخطر الأخطاء: إن التشييد المنظومي (النسقي)
يدمج، عن وعي أو بدونه، أشد الأفكار تباينًا، تلك التي أفرزتها
مذاهبُ مختلفة أو حتى متناقضة، فلا نعدم معلقين على أرسطو يستخدمون
أفكارًا رواقية أو أفلاطونية في تفسيرهم للنصوص الأرسطية. لقد تكرر
مرات، وبخاصة في حالة النصوص المترجمة، أن نجد معلقين يحاولون
تفسير أفكار هي، ببساطة، لا وجود لها في النص الأصلي. في مزمور
١١٣: ١٦ مثلًا نقرأ: «السماء هي سماء الرب»، غير أن أوغسطين انطلق
من الترجمة اليونانية للكتاب المقدس وفهم: «سماء السموات هي سماء
الرب (أو تخص الرب)». هكذا تأدَّى بأوغسطين أن يتصور واقعًا
كوزمولوجيًّا وحد بينه وبين العالم المدرك، ثم مضى يحاول أن يربطه
ﺑ «السماء» المذكورة في الآية الأولى من سفر التكوين. هذا البناء
برمته، وفقا للنص الأصلي للكتاب المقدس، قائم على فراغ.
ليست حالات سوء الفهم هي دائما بهذا الغلو. غير أنه كثيرًا ما
يشيد المفسرون صروحًا كاملة من التأويل يقيمونها على أساس عبارةٍ
بسيطة أو أسيء فهمها. إن التفسير الأفلاطوني المحدث لمحاورة
«بارمنيدس» هو، فيما يبدو، مثال من هذه الظاهرة.
ربما يستشعر المؤرخ الحديث بشيء من الارتباك حين يصادف مثل هذه
الطرائق من التفكير، الغريبة عليه وعلى طريقته المعتادة في
الاستدلال. غير أنه مضطر إلى الاعتراف بحقيقة: أنه كثيرًا جدًّا ما
أفضت الأخطاء وإساءات الفهم إلى تطوراتٍ هامة في تاريخ الفلسفة،
وبصفةٍ خاصة أنها تسببت في ظهور أفكارٍ جديدة. ولعل أبلغ مثال على
هذا هو، فيما يبدو لي، ظهور التمييز بين
Being كصيغة مصدر
Infinitive
وBeing ﮐ
Participle، الذي اتخذه
فرفوريوس، كما بينت في موضعٍ آخر، لكي يحل به مشكلة طرحتها فقرة في
أفلاطون. ففي محاورة «بارمنيدس» كان أفلاطون قد سأل: إذا كان
الواحد (The One) يكون
(Is)، فهل من الممكن أنه يجب
ألا يشارك في اﻟ Being Ousia؟ وعند
الأفلاطوني المحدث فرفوريوس فإن الواحد المعني هنا هو الواحد الثاني The Second One. وهو يمضي
في استدلاله هكذا: إذا كان هذا الواحد الثاني يشارك في اﻟ
Ousia فيجب أن نفترض أن اﻟ
Ousia سابق على الواحد الثاني.
ولكن الشيء الوحيد السابق على الواحد الثاني هو الواحد الأول وهذا
الواحد الأول ليس Ousia بأي معنًى
من المعاني. وهكذا يستنتج فرفوريوس في هذه الفقرة أن كلمة
Ousia تشير إلى الواحد الأول
بطريقةٍ رمزيةٍ مُلغزة. الواحد الأول ليس
Ousia بمعنى «جوهر» Substance بل هو
Being (Être) بمعنى فعل مفارق
محض سابق على Being كموضوعٍ جوهري
(Étant).
وفضلًا عن ذلك فإن تاريخ فكرة اﻟ
Being معلم بسلسلةٍ كاملة من
مثل هذه الأخطاء الخلاقة. فإذا ما نظرنا في السلاسل التي كونها
Ousia عند أفلاطون،
وOusia عند أرسطو،
وOusia عند الأفلاطونيين
المحدثين، وSubstantia أو
Essentia عند آباء الكنيسة
والسكولائيين (المدرسيين)، فسوف نجد أن فكرة اﻟ
Ousia أو
Essence هي من أكثر الأفكار
خلطًا وتخليطًا. وقد حاولت في موضعٍ آخر أن أبين أن التمييز، الذي
أسسه بوئثيوس، بين (‘Being’/‘To Be’)
Esse و(‘That Which Is’) Quod
Est لم يكن له في الأصل ذلك المعنى الذي
ألصقته به العصور الوسطى فيما بعدُ.
على مؤرخي الفلسفة، إذن، توخي أشد الحذر في استخدام فكرة «البناء
المذهبي» أو المنظومة (النسق)
System في فهم الأعمال
الفلسفية في العصر القديم والوسيط. ليس صحيحًا أن كل جهدٍ فلسفيٍّ
قويم هو «بنائي مذهبي» أو «منظومي» Systematic بالمعنى الكانتي أو الهيجلي. لقد
تبنَّى الفكر الفلسفي طيلة ألفَي عام منهجًا حكم عليه بأن يقبل
تناقضات وارتباطات متمحلة لا لشيء إلا لكي تشيد مذهبًا (تكون
منظومية). على أنه ما يكاد المرء يشرع في دراسة حقيقية لتقدم الفكر
التفسيري Exegetical حتى يبدأ
في إدراك أن الفكر يمكن أن يؤدي فعله العقلاني بطرقٍ كثيرة ليست
بالضرورة هي طريقة المنطق الرياضي أو الديالكتيك الهيجلي.
لقد رفض فلاسفة العصر الحديث، منذ القرن السابع عشر حتى بداية
القرن التاسع عشر، الاحتكام إلى سلطة Argument from Authority، ونبذوا الطريقة التفسيرية Exegetical في التفكير، وبدءوا
يرون أن الحقيقة ليست معطًى جاهزًا، بل هي نتاج عملية توسع يقوم
بها عقل يتكئ على نفسه. غير أنه بعد فترةٍ أولى من التفاؤل ظن
الناس فيها أن بوسع الفكر أن يقوم بذاته على نحوٍ مطلق، بدأت
الفلسفة تعي أكثر فأكثر، منذ القرن التاسع عشر، بأنها مشروطة أو
مكيفة تاريخيًّا ولغويًّا.
كان هذا رد فعل مشروعًا، ولكن يمكن القول بأنه أفضى بالفلاسفة
إلى أن يدعوا أنفسهم منوَّمين بالخطاب الفلسفي إذ يؤخذ في ذاته
ولذاته. وفي التحليل النهائي فإن الخطاب الفلسفي الآن يميل إلى ألا
يتغيَّا سوى مزيد من الخطاب الفلسفي. لقد صار الخطاب الفلسفي
المعاصر، بمعنًى ما، تفسيريًّا
Exegetical مرةً أخرى. ومن المؤسف أن نقول إنه
كثيرًا ما يؤول نصوصه بنفس العنف الذي كان يستخدمه الممارسون
القدماء للأليجوري.
٥