الفصل الثالث
التدريبات الروحية
أن تفرَّ كل يوم، لحظةً على الأقل، قد تكون وجيزة ما دامت مكثفة.
«تدريبٌ روحي» كل يوم، فرديَّا كان أو بمعية شخص يرغب هو أيضًا في
الارتقاء بنفسه. تدريباتٌ روحية. اخطُ خارج الزمن … حاولْ أن
تُخلِّص نفسك من أهوائك، وخيلائك، وتوقك إلى الحديث عن اسمك، الذي
قد يتلفك مثل المرض المزمن. اجتنب الغيبة. تخلَّص من الأسف
والكراهية. أحبَّ جميع الكائنات البشرية الحرة. صِرْ أبديًّا بأن
تتخطى ذاتك.
هذا العمل على نفسك أمرٌ ضروري، هذا الطموح مبرَّر. كم من أناسٍ
غارقين إلى الأذقان في السياسة النضالية وفي الإعداد للثورة
الاجتماعية، ولكن ما أندر أولئك الذين لكي يُعدُّوا للثورة يريدون
أن يجعلوا أنفسهم جديرين بها.
باستثناء الأسطر القليلة الأخيرة، ألا يبدو هذا النص «معارضة»
Pastiche١ لماركوس أوريليوس؟ إنه نص لجورج فريدمان، ومن الجائز
تمامًا أن الكاتب وهو يكتبه لم يكن داريًا بالتشابه. وفضلًا عن ذلك
ففي بقية كتابه الذي يلتمس فيه موضعًا «لإعادة بناء نفسه» يخلص إلى
أنه ليس ثمة تراث — يهوديًّا كان أو مسيحيًّا أو شرقيًّا — متوافق
مع المطالب الروحية المعاصرة. غير أنه من عجب لا يسأل نفسه عن قيمة
التراث الفلسفي للعصر الإغريقي-الروماني القديم، رغم أن الأسطر
التي اقتبسناها من فورنا تكشف إلى أي مدًى لا يزال يعيش بداخله
التراث القديم، وإنْ على مستوًى لا شعوري، مثلما يعيش داخل كل واحد
منا.
«تدريبات روحية» … التعبير مربك بعض الشيء للقارئ المعاصر.
فأولًا وقبل كل شيء لم يعد رائجًا تمامًا استخدام كلمة «روحي» Spiritual. غير أني أرى برغم ذلك
أن استخدامها ضروري، لأن أيًّا من النعوت الأخرى المتاحة لنا:
تدريباتٌ نفسية، خلقية، ذهنية، تدريبات للفكر … إلخ؛ لا يغطي جميع
جوانب الواقع التي نريد أن نصنفها. وحيث إنه في هذه التدريبات يجعل
الفكر، أيًّا ما كان، من نفسه موضوعًا لنفسه ويسعى لتعديل نفسه،
فربما كان من الجائز لنا أن نتحدث عن «تدريباتٍ فكرية»؛ غير أن
لفظة «فكر» Thought لا تدلُّ
بوضوحٍ كافٍ على الخيال والحساسية اللذين يلعبان دورًا هامًّا
للغاية في هذه التدريبات. ولنفس السبب لا أرانا نستريح ﻟ «تدريبات
ذهنية» برغم أن عوامل من قبيل التعريف، والتقسيم، والاستدلال،
والقراءة، والاستقصاء، والتضخيم البلاغي؛ تلعب دورا كبيرًا فيها.
وقد يكون اسم «تدريبات أخلاقية» مغريًا نوعًا ما، حيث إن التدريبات
المعنية، كما سوف نرى، تسهم إسهامًا قويًّا في علاج الانفعالات،
وذات صلة بالمسلك الحياتي. غير أن هذه أيضًا قد تكون نظرةً ضيقة
جدًّا إلى الأشياء. فكما يمكننا أن نلمح من خلال نص فريدمان فإن
هذه التدريبات في الحقيقة أشبه بتحول في رؤيتنا للعالم وتغير بنيوي
في شخصيتنا. إن كلمة «روحية» Spiritual خليقة تمامًا أن تبصرنا بأن هذه
التدريبات ليست نتاج الفكر وحده بل نتاج النفسية الكلية للفرد.
وأهم من كل ذلك أن كلمة «روحية» تكشف الأبعاد الحقيقية لهذه
التدريبات. فبواسطة هذه التدريبات يدفع الفرد نفسه إلى حياة الروح
الموضوعي، أي إنه يعيد وضع نفسه داخل منظور «الكل» The Whole (صِرْ أبديًّا بأن تتخطى
نفسك).
هنا قد يقول قارئنا: «حسن، سوف نقبل تعبير «تدريبات روحية»، ولكن
هل نحن نتحدث عن «التدريبات الروحية» Exercitia Spiritualia لإغناطيوس من لويولا؟ أية
علاقة هنا بين تأملات إغناطيوس وبرنامج فريدمان ﻟ «الخطو خارج
الزمان … والصيرورة أبديًّا بأن يتخطى المرء ذاته؟» وردُّنا، بكل
بساطة، هو أن «التأملات الروحية» لإغناطيوس لا تعدو أن تكون صيغةً
مسيحية للتعليم الإغريقي الروماني، الذي نأمل أن نبين امتداده فيما
سيأتي. أولًا وقبل كل شيء فإن فكرة ومصطلح
Exercitium Spititule كليهما
معترف بهما ومصدَّق عليهما في المسيحية اللاتينية المبكرة، قبل
إغناطيوس من ليولا بكثير، وهما يناظران اللفظة المسيحية اليونانية
Askesis. وكلمة
Askesis، التي يجب ألا تفهم
على أنها التقشف بل على أنها ممارسة تدريباتٍ روحية، موجودة أصلا
داخل التراث الفلسفي للعصر القديم. وفي نهاية التحليل فإننا إلى
العصر القديم علينا أن نرجع لكي نفسر أصل هذه الفكرة ودلالتها؛
فكرة التدريبات الروحية التي لا تزال، كما يبين لنا مثال فريدمان،
حية في الوعي المعاصر.
ليس الهدف من هذا الفصل مجرد جذب الانتباه إلى وجود التدريبات
الروحية في العصر القديم الإغريقي الروماني، وإنما الهدف أولًا
وقبل كل شيء هو تحديد نطاق هذه الظاهرة وأهميتها، وتبيُّن ما يلزم
عنها من تبعات، ليس في فهم الفكر القديم فحسب، بل في فهم الفلسفة
ذاتها.
(١) تعلَّم أن تعيش
تمكَّن معاينة التدريبات الروحية في أوضح صورة في المدارس
الهلينستية والرومانية. فقد صدع الرواقيون بأن الفلسفة بالنسبة
لهم «تدريب» Exercise:
الفلسفة ليست تعليم نظريةٍ مجردة، وهي أبعد ما تكون عن عملية
تفسير نصوص. إنما الفلسفة هي فن العيش. الفلسفة موقفٌ عياني
وأسلوبٌ محدد في الحياة يشمل الوجود بكليته. الفعل الفلسفي ليس
واقعًا على المستوى المعرفي وحده، بل على مستوى الذات ومستوى
الوجود. إنه تقدم يؤدي بنا إلى أن «نوجد» وجودًا أكثر امتلاءً
وأن يجعلنا أفضل حالًا. إنه تحولٌ وجوديٌّ حاسم
(Conversion) يقلب حياتنا
كلها رأسًا على عقب، مغيِّرًا حياة الشخص الذي يخوض فيه. الفعل
الفلسفي يرفع الفرد منا من حالةٍ حياتية غير أصيلة، وغيبوبةٍ
معتمة، وهمٍّ منغِّص؛ إلى حالةٍ حياتيةٍ أصيلة يمتلك فيها
المرء الوعي الذاتي، والرؤية الدقيقة للعالم، والسلام الداخلي،
والحرية.
تتفق المدارس الفلسفية جميعًا على أن السبب الرئيسي لمعاناة
الجنس البشري واضطرابه وغياب وعيه هو الأهواء أو الانفعالات Passions، أي الرغبات
المنفلتة والمخاوف الزائدة التي تسيطر على الناس وتحرمهم من أن
يعيشوا حياةً حقيقية. هنالك تنبري الفلسفة كعلاج للانفعالات في
المقام الأول (بتعبير فريدمان: «حاول أن تتخلص من
انفعالاتك!»). لكل مدرسةٍ فلسفية طريقتها العلاجية الخاصة، غير
أن المدارس جميعًا تهدف بعلاجها إلى إحداث تحولٍ عميق في أسلوب
المرء في الرؤية وفي الوجود، وتتخذ من التدريبات الروحية وسيلة
إلى هذا التحول العميق.
لنبدأْ بالرواقيين؛ إن جميع أوجاع الجنس البشري، عندهم، تنجم
من حقيقة أنه يريد امتلاك أشياء قد يعجز عن امتلاكها أو عن
الاحتفاظ بها، ويريد اجتناب أشياء قد تكون محتومة لا مردَّ
لها. من هنا تتحدد مهمة الفلسفة، وهي أن تُعلِّم البشر ألا
يسعوا إلا إلى ما هم قادرون على اكتسابه، وألا يتجنبوا إلا تلك
الشرور التي بوسعهم اجتنابها، مستندين في كل ذلك إلى الحرية
الإنسانية فحسب. ولكن الحرية الإنسانية لا تطول إلا الخبرات
الأخلاقية والشرور الأخلاقية، فهذه وحدها هي الأشياء التي
تعتمد علينا، وكل ما دون ذلك خارج عن نطاق حريتنا الإنسانية
وخاضع تمامًا للضرورة الطبيعية، خاضع للصلة الضرورية بين العلة
والمعلول، ذلك هو نطاق الطبيعة الذي لا يخضع لحريتنا البشرية،
وينبغي أن تستوي أشياؤه جميعًا عندنا، أي ألا نختلق أي فروق
فيها، بل نقبلها في كليتها، مثلما شاءها القدر.
٢
لدينا ها هنا تحولٌ تام لطريقتنا المعتادة في النظر إلى
الأشياء. علينا هنا أن نتحول من رؤيتنا «البشرية» للواقع، حيث
تعتمد قيمنا على أهوائنا وانفعالاتنا، إلى رؤية «طبيعية»
للأشياء تعيد وضع كل حدث داخل منظور الطبيعة الكلية.
مثل هذه النقلة في الرؤية ليس بالأمر السهل. وهذه النقلة
بالتحديد هي ما تعمل عليه التدريبات الروحية. وشيئًا فشيئًا
يصبح التحول البنيوي التكويني
Metamorphosis في ذاتنا
الداخلية ممكنًا. شيئًا فشيئًا يجري التحول ويعتمل.
لم تنحدر إلينا رسالةٌ نسقية
٣ تسرد التدريبات الروحية؛ غير أن لدينا عددًا
وافرًا من الإشارات إلى واحد أو آخر من هذه الأنشطة الباطنة في
كتابات العصرَين الروماني والهلينستي، مما يدل على أن هذه
التدريبات كانت معروفة جيدًا وكانت جزءًا من الحياة اليومية في
المدارس الفلسفية بحيث يكفي الإلماع إليها، وأنها اتخذت مكانها
داخل منهجٍ تعليمي من التلقين الشفاهي.
على أن لدينا بفضل فيلون السكندري قائمتَين من التدريبات
الروحية. وهما قائمتان غير متداخلتَين تمامًا، ولكن فيهما
بالتأكيد مزية أنهما تقدمان لنا بانوراما شبه كاملة للعلاج
الفلسفي المتأسي بالرواقية والأفلاطونية: إحدى القائمتين تدرج
العناصر التالية: البحث
Zetesis، الاستقصاء الدقيق
Skepsis، الاطلاع
(القراءة)
Anagnosis،
الاستماع
Akroasis،
الانتباه
Prosoche، التحكم في
النفس
Enkrateia، عدم الاكتراث
بالأشياء اللافارقة (عدم الاهتمام بما لا يهم).
٤ والقائمة الأخرى تدرج على التوالي: الاطلاع،
التأملات
Meletai، علاج
الانفعالات، تذكر الأشياء الحسنة، التحكم في النفس، إنجاز
الواجبات. بمساعدة هاتين القائمتَين سيكون بوسعنا أن نقدم
وصفًا مختصرًا للتدريبات الروحية الرواقية. سندرس المجموعات
الآتية على التتابع: سندرس أولًا الانتباه، ثم التأملات و«تذكر
الأشياء الحسنة»، ثم التدريبات الأكثر ذهنية: القراءة،
الاستماع، البحث، الاستقصاء، وأخيرًا التدريبات الأكثر نشاطًا:
التحكم في النفس، إنجاز الواجبات، عدم الاهتمام بما لا
يهم.
الانتباه
Prosoche هو الموقف
الرواقي الأساسي. وهو يقظة الذهن وحضوره المستمر، ووعيٌ ذاتي
لا ينام أبدًا، وتوترٌ دائم للروح. بفضل هذا الموقف يكون
الفيلسوف واعيًا تمامًا بما يعمله في كل لحظة؛ وهو «يريد»
أفعاله إرادةً كاملة. وبفضل هذه اليقظة الروحية تكون «طوع يده»
Procheiron دائمًا القاعدة
الرئيسية للحياة: [التمييز بين ما يعتمد علينا وما لا يعتمد
علينا]. وفي الرواقية، مثلما هو في الأبيقورية، من الضروري أن
يتزود الخبراء بمبدأٍ أساسيٍّ قابلٍ للصياغة في بضع كلمات،
وشديد الوضوح والبساطة بحيث يبقى مواتيًا للذهن، وقابلٍ
للتطبيق بوثوق وثبات كأنه منعكس
(Reflex). «لا تنبتَّ عن هذه المبادئ العامة،
لا تنمْ ولا تأكلْ ولا تشربْ بدونها.» هذه اليقظة الروحية هي
التي تجعلنا نطبق المبدأ الأساسي على كل موقفٍ خاص من مواقف
الحياة، ونعمل ما نعمله كما ينبغي. يمكننا أيضًا تعريف موقف
الانتباه على أنه «التركيز على اللحظة الحاضرة»:
«أينما كنت ووقتما كنت فإن بوسعك أن تمجد الله
راضيًا بحالك، وأن تُعامل من معك من الناس بالعدل، وأن
تُنعم النظر في كل انطباعٍ راهن في عقلك بحيث لا تدع
شيئًا يفلت من منال فهمك.»
٥
والانتباه إلى اللحظة الحاضرة هو، بمعنًى ما، مفتاح
التدريبات الروحية. إنه يحررنا من الانفعالات التي تتسبب
دائمًا عن الماضي أو المستقبل، وهما منطقتان لا تعتمدان علينا
(خارج نطاق قدرتنا). اللحظة الحاضرة صغيرةٌ دقيقة يسهل
احتمالها والتحكم فيها، والانتباه إذ يهيب بالتركيز عليها إنما
يزيدنا يقظة، كما أن الانتباه إلى اللحظة الحاضرة يتيح لنا
منفذًا إلى الوعي الكوني إذ يلفتنا إلى القيمة اللانهائية لكل
لحظة، ويجعلنا نتلقى كل لحظة وجود من منظور القانون الكلي
للكون.
يتيح لنا الانتباه أن نستجيب للأحداث فورًا كما لو كانت
أسئلة تُوجَّه لنا فجأة؛ ومن ثم فلا بد أن تكون المبادئ
الأساسية «طوع يدنا»
Procheiron. علينا أن
ننتقع في قانون الحياة Kanon
بتطبيقه ذهنيًّا على شتى المواقف الحياتية الممكنة، تمامًا
مثلما نتمثل قاعدةً نحوية أو رياضية خلال الممارسة بتطبيقها
على الحالات الفردية. على أننا إذ ذاك لسنا بصدد مجرد المعرفة،
بل بصدد تحول شخصيتنا.
ينبغي علينا أيضًا أن نشرك مخيلتنا ووجداننا مع تدريب فكرنا.
علينا هنا أن نهيب بكل تقنيات الحفز
٦ السيكولوجي
Psychagogic
Techniques وطرائق التضخيم البلاغي. يجب
أن نصوغ لأنفسنا القاعدة الحياتية بطريقةٍ آسرة وعِيانية إلى
أقصى درجةٍ ممكنة. يجب أن نبقي أحداث الحياة «نصب أعيننا»
ونراها في ضوء القانون الأساسي. يسمى هذا تدريب الاستظهار
Mneme وتأمل
Melete قانون
الحياة.
أما تدريب التأمل Meditation فيجعلنا على استعداد في اللحظة التي
يقع فيها ظرف غير متوقع، وربما درامي. ثمة تدريب يسمى
Praemeditatio Malorum
(تأمل المحن مسبقًا): علينا أن نمثل لأنفسنا الفقر والمعاناة
والموت، وأن نواجه المصاعب وجهًا لوجه متذكرين أنها ليست
شرورًا إذ إنها لا تعتمد علينا. من أجل هذا يتعين علينا أن
نحفر المبادئ الهامة في ذاكرتنا، حتى إذا أذن الوقت يمكنها أن
تساعدنا في تقبل مثل هذه الأحداث التي هي على كل حال جزء لا
يتجزأ من مسار الطبيعة. هكذا تكون هذه المبادئ والعبارات «طوع
يدنا». ما يلزمنا هو صيغ أو حجج مقنعة
(Epilogismoi) يمكننا أن
نرددها على مسامعنا في أوقات الشدة حتى نوقف حركات الخوف أو
الغضب أو الحزن.
في الصباح يجب أن يكون أول شيء نفعله هو أن نستعرض في ذهننا
ماذا علينا أن نعمل سحابة النهار، وأن نقرر ما هي المبادئ التي
ستقودنا وتلهم أفعالنا.
٧ وفي المساء يجب أن نتفحص أنفسنا مرةً ثانية لكي
نعي الأخطاء التي ارتكبناها أو التقدم الذي أحرزناه. علينا
أيضًا أن نتفحص أحلامنا.
تدريب التأمل، كما نرى، هو محاولة للتحكم في خطابنا الداخلي
لكي نرده متسقًا مترابطًا، والهدف أن ينتظم هذا الخطاب حول
مبدأٍ عامٍّ بسيط: التمييز بين ما يعتمد علينا وما لا يعتمد
علينا، بين الحرية والطبيعة (الضرورة). من يُرد أن يحرز تقدمًا
فإن عليه، من خلال الحوار مع النفس ومع الآخرين وبالكتابة
أيضًا، أن ينظم تأملاته،
٨ وأن يصل في النهاية إلى تحولٍ كامل لرؤيته للعالم،
ولمناخه الداخلي، ولسلوكه أيضًا.
يحتاج تدريب التأمل والتذكر إلى تغذية. وهنا تأتي التدريبات
الأكثر ذهنية، كما أدرجها فيلون السكندري: القراءة، الاستماع،
الدراسة والبحث والاستقصاء. إنه لأمرٌ بسيط نسبيًّا أن تقدِّم
غذاءً للتأمل: بوسع المرء أن يقرأ أقوال الشعراء والفلاسفة
مثلا، أو اﻟ Apophthegmata
(مجموعات الحكم). غير أن القراءة يمكن أن تشمل أيضًا تفسير
نصوصٍ فلسفية تحديدًا، أي أعمال كتبها معلمون في مدارسَ
فلسفية. مثل هذه النصوص يمكن أن تُقرأ أو تُسمع داخل إطار
تلقينٍ فلسفي على يد أستاذ. بهذا التلقين يتقوى التلميذ بحيث
يستطيع أن يتشرب الصرح النظري كله الذي يسوغ المبدأ الأساسي
الذي يعمل به، والبحث الفيزيقي والمنطقي الذي يعد هذا المبدأ
تلخيصًا له. لقد كان «البحث» و«الاستقصاء» نتاج وضع التلقين في
الممارسة. مثال ذلك أن علينا أن نعتاد تعريف الأشياء والأحداث
من زاويةٍ فيزيقية، أي أن نصورها كما هي عندما توضع داخل
«الكل» الكوني. كما يمكننا، في مقامٍ آخر، أن نقسم الأحداث أو
نشرحها لكي نتبين العناصر التي يمكن أن تُردَّ إليها.
ونأتي أخيرًا إلى
التدريبات العملية المنوط بها خلق العادات؛ بعض هذه التدريبات
«جوانية» جدًّا وقريبة جدًّا من التدريبات الذهنية التي عرضنا
لها توًّا. «عدم الاهتمام بما لا يهم»، مثلًا، ما كان إلا
تطبيقًا للمبدأ الأساسي. وتمارين أخرى، من قبيل التحكم في
النفس وأداء واجبات الحياة الاجتماعية، كانت تستلزم أشكالًا
عملية من السلوك. هنا أيضًا نقابل ثيمات فريدمان: «احرص على
التخلص من أهوائك وخيلائك والتَّوق إلى الحديث عن اسمك …
تجنَّب الاغتياب، تخلص من الأسف والكراهية، أحبَّ جميع
الكائنات البشرية الحرة.»
وهناك عددٌ كبير من الرسائل المتعلقة بهذه التدريبات عند
بلوتارخ: «في كبح الغضب»، «في سلام العقل»، «في الحب الأخوي»،
«في حب الأطفال»، «في الثرثرة»، «في حب الثروة»، «في الخجل
الزائف»، «في الحسد والكراهية». سنكا أيضًا له أعمال من نفس
الجنس الأدبي: «في الغضب»، «في النعم»، «في سلام العقل»، «في
وقت الفراغ». ثمة مبدأٌ بسيط يُنصح به دائمًا في هذا التدريب:
ابدأ بممارسة الأشياء الأيسر وتدرج شيئًا فشيئًا حتى تكتسب
العادة المكينة الثابتة.
يرى الرواقيون، إذن، أن فعل التفلسف هو أن تمارس فن العيش،
أن تعرف كيف تعيش، عن وعي وحرية: وعي نتجاوز به حدود فرديتنا
ونعي بأنفسنا كجزء من كونٍ مفعم بالعقل، وحرية بمعنى أن نُقلع
عن أن نرغب فيما لا يعتمد علينا وما يخرج عن سيطرتنا، وأن
نُعنى فحسب بما يعتمد علينا: أفعالنا العادلة القويمة المسايرة
للعقل.
من السهل أن نفهم أن فلسفةً مثل الرواقية، التي تتطلب اليقظة
والطاقة والتوتر النفسي، ينبغي أن تتمثل جوهريًّا في تدريباتٍ
روحية. ولكن ربما نعجب إذا علمنا أن الأبيقورية، التي تُعتبر
عادة فلسفة المتعة، تعطي مكانًا بارزًا، شأنها شأن الرواقية،
لممارساتٍ محددة لا تعدو أن تكون تدريباتٍ روحية. ذلك أن
الفلسفة عند أبيقور، مثلما هي عند الرواقيين تمامًا، ممارسةٌ
علاجية. «علينا أن نُعنى بشفاء حيواتنا.» في هذا السياق فإن
الشفاء هو أن يسلَّ المرء نفسه من هموم الحياة إلى البهجة
البسيطة بالوجود، من رهق الحياة إلى فرح الوجود. يُشخِّص
أبيقور تعاسة الناس بأنها تأتي بسبب خوفهم من أشياء لا تستدعي
الخوف، ورغبتهم في أشياء لا ينبغي أن يرغبوا فيها بالضرورة،
أشياء خارج منالهم وسيطرتهم، فتنقضي حياتهم وهم مهمومون بمخاوف
لا مبرر لها، ورغباتٍ غير متحققة. إنهم بذلك يحرمون أنفسهم من
المتعة الأصيلة الوحيدة؛ متعة الوجود. من هنا تستطيع الفيزيقا
الأبيقورية أن تحررنا من الخوف؛ فهي تبين لنا أن الآلهة لا
تأثير لها في تقدم العالم، وأن الموت، من حيث هو تحللٌ تام،
ليس جزءًا من الحياة. أما الأخلاق الأبيقورية، بصفتها انعتاقًا
من الرغبات، فيمكن أن تحررنا من رغباتنا التي لا تشبع، وذلك
بالتمييز بين الرغبات التي هي ضرورية وطبيعية، والرغبات
الطبيعية غير الضرورية، والرغبات التي لا هي طبيعية ولا
ضرورية. يوصي أبيقور بالاكتفاء بتحقيق الفئة الأولى من
الرغبات، وبالتخلي عن الفئة الأخيرة، ثم بالتخلي في النهاية عن
الفئة الثانية أيضًا، كيما نضمن غياب الهموم، ونكتشف البهجة
الخالصة للوجود: «صرخات اللحم ثلاث: الشبع من الجوع، والري من
العطش، والدفء من البرد. فإذا نَعِم المرء بامتلاك هذه وبرجائه
بدوام امتلاكها، فقد ينافس زيوس نفسه في السعادة!» هذا هو مصدر
الشعور بالعرفان الذي ما كان للمرء أن يتوقعه، والذي يلقي
الضوء على ما يمكن أن يسميه بالتقوى الأبيقورية تجاه جميع
الأشياء: «شكرًا للطبيعة المباركة أن جعلت ما هو ضروري سهل
المنال، وما ليس سهلًا غير ضروري.»
التدريبات الروحية لازمة من أجل شفاء الروح. ويوصينا
الأبيقوريون، شأنهم شأن الرواقيين، أن نتأمل ونتمثَّل، بالغدو
والآصال، مأثورات أو خلاصاتٍ مختصرة تتيح لنا أن تبقى المبادئ
الأساسية في يدنا. من ذلك على سبيل المثال «الصيغة الشافية
الرباعية» Tetrapharmakos:
«الرب لا يبثُّ مخاوف، الموت لا يبثُّ همومًا، وبينما الخير
سهل المنال فالشر سهل الاحتمال.» إن وفرة مجموعات الحكم
الأبيقورية إنما هي استجابة لمطالب التدريب الروحي الخاص
بالتأمل. على أن دراسة الرسائل العقدية للمؤسسين العظام
للمدرسة، مثلما هو الحال مع الرواقيين، كانت أيضًا تدريبًا
يقصد منه أن يقدم مادة للتأمل، من أجل أن تتشرب الروح، على نحو
أكثر دقة، بالحدوس الأساسية للأبيقورية.
وتعدُّ دراسة الفيزيقا تدريبًا روحيًّا مهمًّا بصفةٍ خاصة.
«لا تحسبن معرفة الظواهر السماوية تحقق لنا أي غاية أخرى عدا
التحرر من الاضطراب، والثقة الوطيدة، شأنها شأن غيرها من حقول
الدراسة» (أبيقور، رسالة إلى بيثوكليس). إن تأمل العالم
الفيزيقي وتخيُّل اللانهائي عنصران مهمان في الفيزيقا
الأبيقورية، وإن كليهما قمين أن يحدث تغيرًا تامًّا في طريقة
نظرنا إلى الأشياء. العالم المغلق متمدد إلى ما لا نهاية، ونحن
نستمد من هذا المشهد متعةً روحيةً فريدة:
«تنفرج جدران العالم، أرى النشاط جاريًا خلال الخلاء
كله … هنالك يتملكني فرحٌ قدسي ورعدة، فها هي الطبيعة
بسلطاني قد انكشفت بوضوحٍ شديد وأُميط اللثام عن كل
جزء منها.» (لوكريتس، «في طبيعة الأشياء»)
غير أن التأمل، سواء كان بسيطًا أو عميقًا متبحرًا، ليس
التدريب الروحي الأبيقوري الوحيد. فلكي تَشفي الروح فإنه ليس
من الضروري، مثلما يريد الرواقيون، أن تدربها على أن تشدَّ
نفسها، بل تدربها على أن تسترخي. وبدلًا من تصور المحن مسبقًا
من أجل الاستعداد لتحمُّلها فإن علينا، فيما يقول الأبيقوريون،
أن ننأى بفكرنا عن رؤية الأشياء المؤلمة، ونركز أبصارنا على
الأشياء السارة. علينا أن نعيد معايشة الذكريات الخاصة
بالمسرات الماضية، وأن نتمتع بالمسرات الحاضرة، مدركين كم هي
شديدة وسائغة هذه المتع الحاضرة! إن لدينا هنا تدريبًا روحيًّا
محددًا تمامًا، ومختلفًا عن اليقظة الدائمة التي يتحلى بها
الرواقي في استعداده الدائم لصون حريته الخلقية في كل لحظة.
إنما تبشر الأبيقورية بالاختيار العمدي، المتجدد على الدوام،
للاسترخاء والصفاء، مقرونَين بشكرٍ عميق تجاه الطبيعة والحياة،
اللتين تقدمان لنا على الدوام فرحًا ومتعة لو أننا عرفنا كيف
نجدهما.
كذلك الأمر بالنسبة للتدريب الروحي على الحياة في اللحظة
الحاضرة، فهو في الأبيقورية غيره في الرواقية. فهو عند
الرواقيين يعني التوتر الذهني والتيقظ المستمر للضمير
الأخلاقي، أما عند الأبيقوريين فهو، كما قد رأينا، دعوة إلى
الاسترخاء والصفاء. إن القلق أو الهم ليشدنا بعنف في اتجاه
المستقبل فيحجب عنا القيمة الهائلة للحقيقة البسيطة: «نحن نولد
مرةً واحدة، ولا يمكن أن نولد مرتين … ولكنكم، يا من لا حكم
لكم على الغد، لا تزالون تسوِّفون سعادتكم: فتهدر الحياة في
التسويف ويموت كل واحد منا وهو مثقل بالهموم» (أبيقور). هذه هي
الفكرة القابعة في قولة هوراس الشهيرة
Carpe
Diem (اقبض على الحاضر):
بينما أتحدث تنحسر الحياة.
لذلك تشبثْ بكل يومٍ حاضر ولا تعوِّل على
التالي.
(هوراس: قصائد)
اللذة، في نهاية التحليل، هي عند الأبيقوريين تدريبٌ روحي —
اللذة المقصودة هنا ليست مجرد الإشباع الحسي، بل اللذة الذهنية
المستمَدَّة من تأمل الطبيعة، والتفكر في اللذات الماضية
والحاضرة، وأخيرًا لذة الصداقة. وللصداقة في الأوساط
الأبيقورية تدريباتها الروحية التي تُجرى في جوٍّ هادئٍ بهيج:
تشمل هذه التدريبات اعتراف المرء بأخطائه على الملأ، والتقويم
المتبادل الذي يتم بروحٍ أخوية، وتمحيص المرء لضميره. لقد كانت
الصداقة ذاتها، في المقام الأول، هي التدريب الروحي بامتياز.
«على كل شخص أن يخلق مناخًا يمكن أن تزدهر فيه القلوب. الغاية
الرئيسية هي السعادة. ويسهم العطف المتبادل، والثقة التي بها
يعتمد الأفراد بعضهم على بعض، في هذه السعادة أكثر من أي شيءٍ
آخر.»
(٢) تعلَّم أن تُحاوِر
من المرجَّح أن ممارسة التدريبات الروحية متجذرة في تعاليم
تعود إلى أزمنةٍ موغلة في القِدم. غير أن شخصية سقراط هي التي
جعلتها تبزغ في الوعي الغربي. ذلك أن هذه الشخصية كانت، وظلت،
النداء الحي الذي يوقظ ضميرنا الأخلاقي. وينبغي ألا ننسى أن
هذا النداء تردد في شكلٍ محدَّد، هو الحوار.
ليس السؤال المحوري في الحوار السقراطي هو «ماذا» يناقش (ما
الموضوع الذي يدور حوله الحديث) بل «مَن» هو المتحدث.
«أيما شخصٍ قريب من سقراط ويدخل في محادثة معه فهو
عرضة لأن يُستدرَج إلى مجادلة. وأيًّا ما كان الموضوع
الذي يبدؤه فسوف يذهب به سقراط كل مذهب، حتى يجد نفسه
في النهاية مدفوعًا إلى أن يفصح عن حياته الحاضرة
والماضية، حتى إذا ما وقع في الشَّرَك فلن يتركه سقراط
حتى ينخله ويمحِّصه … ولستُ أرى أي ضير في أن يذكِّرنا
أحد بأي خطأ نفعله أو فعلناه. إن من لا يهرب من النقد
سيضمن أن يكون أكثر انتباهًا لحياته المقبلة.»
(أفلاطون، محاورة «لاخس»)
في أية محاورةٍ سقراطية فإن مُحاوِر سقراط لا يتعلم أي شيء،
وليس لدى سقراط نية في أن يُعلِّمه أي شيء. كما أن سقراط يقول
مرارًا وتكرارًا، لكل من يريد أن يستمع، إن الشيء الوحيد الذي
يعرفه هو أنه لا يعرف شيئًا. غير أنه، مثل ذبابة خيل لا تعرف
التعب، لم يكن يكلُّ عن ملاحقة محدِّثيه بأسئلة تنسل أسئلة،
لكي يدفعهم إلى الانتباه إلى أنفسهم ورعايتها.
«أسائل بطريقتي أيًّا صادفتُ، وأهيب به قائلًا: ما
لي أراك يا صاح تُعنى وسعك بجمع المال وطلب المجد
والصيت، ولا تنشد الحكمة والحق وتهذيب النفس إلا
قليلًا؛ وأنت ابن أثينا، مدينة العظمة والقوة والحكمة؛
ألا يخجلك ذلك؟» (أفلاطون، محاورة «الدفاع»)
رسالة سقراط هي أن يدعو معاصريه إلى تمحيص
ضميرهم وإلى ارتقائهم الداخلي:
«ماذا أنتم صانعون برجل أهمل ما عُنيت به كثرة
الناس؛ الثروة ومصالح الأسرة والمناصب الحربية، ولم
يقل في جمعية الشعب قولًا، ولم يشترك في مجالس الحكام،
ولم يساهم في الدسائس والأحزاب بنصيب؟ … لقد قصدت إلى
أن أسدي لكلٍّ منكم على حدته ما أعتقد أنه أعظم خدمةٍ
ممكنة: أن أحمل كل رجل بينكم على وجوب النظر إلى نفسه
لينشد الفضيلة والحكمة قبل أن ينظر إلى مصالحه
الخاصة.» (أفلاطون، محاورة «الدفاع»)
في محاورة «المأدبة» Symposium يصف ألقيبيادس ما فعلته في نفسه
حواراته مع سقراط فيقول: «… تركتني في حالةٍ ذهنية شعرت فيها
أنني، ببساطة، لا أستطيع أن أمضي في العيش بالطريقة التي كنت
عليها … جعلني أعترف أنني بينما أقضي وقتي في السياسة فأنا
أهمل كل الأشياء التي تهيب بي أن أنتبه إليها في نفسي».
«هكذا تتكشف محاورات سقراط عن نوع من التدريب الروحي الجمعي؛
فالمتحاورون فيها مدعوون إلى المشاركة في تدريباتٍ روحيةٍ
داخلية، مثل تمحيص الضمير والالتفات إلى النفس. إنهم، بعبارةٍ
أخرى، مدعوون إلى الإذعان للقول المأثور «اعرفْ نفسك». وبرغم
صعوبة التأكد من المعنى الأصلي لهذه الصيغة، فإن من البين أنها
تدعونا إلى تكوين علاقة مع أنفسنا — تأسيس علاقة النفس بالنفس،
والتي تشكل أساس كل تدريبٍ روحي. أن يعرف المرء نفسه تعني، بين
أشياء أخرى، أن يعرف نفسه بوصفه غير حكيم: أي ليس صوفوس، بل
بوصفه فيلو-صوفوس، أيْ بوصفه شخصًا على الطريق تجاه الحكمة.
كما أنها يمكن أن تعني أن يعرف المرء نفسه في وجوده الجوهري؛
مما يستلزم الفصل بين «ما ليس نحن» و«ما هو نحن». ويمكن أخيرًا
أن تعني أن يعرف المرء نفسه في حالته الأخلاقية الحقيقية؛ أي
أن يمحص المرء ضميره.
إذا أمكننا أن نستند إلى الصورة التي رسمها أفلاطون
وأرسطوفانيس فإن سقراط، سيد الحوار مع الآخرين، كان سيدًا
أيضًا في الحوار مع نفسه، وكان، من ثم، سيدًا في ممارسة
التدريبات الروحية. إنه يوصف بأنه قادر على درجةٍ غير اعتيادية
من التركيز الذهني. فهو، مثلًا، يصل متأخرًا إلى مأدبة أجاثون
لأنه «فيما انطلقنا في الطريق فُتح عليه، فأخذ يفكر فيما طرأ
لذهنه، فسار الهوينى وتخلَّف عن رفيقه» (المأدبة). ويروي
ألقيبيادس كيف أنه أثناء الحملة العسكرية ضد
Poteidaia ظل سقراط واقفًا
طوال النهار وطوال الليل «مستغرقًا في الفكر». وفي مسرحية
«السحب» يومئ أرسطوفانيس، فيما يبدو، إلى نفس العادات
السقراطية:
«الآن فكِّر بعمق وتأمل، درْ والتفَّ في كل اتجاه
وأنت تركز. وإذا أكديت بإزاء نقطةٍ مستغلقة فاقفز إلى
أخرى … والآن لا تدعْ عقلك يُدوِّم دائمًا حول نفسه،
بل نفِّس عن أفكارك قليلًا وأطلقها في الهواء قليلًا،
مثل خنفساء أيار مربوطة برجلها.» (أرسطوفانيس، «السحب»)
٩
يبدو أن تلاميذ سقراط كانوا ينظرون إلى التأمل؛ أي ممارسة
المرء الحوار مع نفسه، بعين الإجلال. وعندما سئل أنتستين أية
فائدة ربحها من الفلسفة؟ قال: «القدرة على المحادثة مع نفسي.»
ثمة صلةٌ وثيقة بين الحوار مع الآخرين والحوار مع النفس: لا
يستطيع مواجهة نفسه على نحوٍ أصيل مَن ليست لديه القدرة على
الملاقاة الأصيلة بالآخر، والعكس صحيح كذلك. لا يمكن للحوار أن
يكون أصيلًا إلا داخل إطار الحضور تجاه الآخرين وتجاه النفس.
من هذه الزاوية فإن كل تدريبٍ روحي هو حوار ما دام هو تدريبًا
على الحضور الأصيل تجاه النفس وتجاه الآخرين.
المحاورات الأفلاطونية تدريباتٌ نموذجية. هي نماذج من حيث
إنها ليست تدوينات لحواراتٍ حقيقية، بل تأليفاتٌ أدبية تعرض
حوارًا مثاليًّا، وهي تدريبات بالضبط بقدر ما هي حوارات: لقد
رأينا للتوِّ، فيما يتعلق بسقراط، الخاصية الجدلية لكل
التدريبات الروحية. فالمحاورة هي خط رحلة الفكر يقتفي مسارها
اتفاقٌ معقود، على نحوٍ متصل، بين سائل ومجيب. ويؤكد أفلاطون
بشدة أن طريقته هي النقيض من المماحكة
Eristics.
١٠ في محاورة «مينون» يؤكد أفلاطون على هذه النقطة:
«أما إذا كان من الأصدقاء الذين يرغبون، كما نفعل
الآن أنا وأنت، في الحوار معًا، فإنه واجب علينا أن
نكون أكثر رقَّة معهم، وأن نجيبهم على نحوٍ أكثر
ملاءمة لقواعد المحادثة (الديالكتيك/فن الحوار). ولا
شك أنه ليس فقط من الموافق أكثر لقواعد المحادثة أن
يجيب المرء بالحقيقة، بل إنه يجب عليه كذلك أن يجيب في
حدود أشياء أعلن صاحب السؤال أنه يعرفها.» (أفلاطون،
محاورة «مينون»)
بوسعنا أن نرى أن المحاور (المخاطب في الحوار Interlocutor) هو بُعدٌ ذو
أهميةٍ كبرى. هذا البعد هو ما يمنع الحوار من أن يصبح عرضًا
مذهبيًّا نظريًّا، ويدفعه إلى أن يكون تدريبًا عمليًّا
ملموسًا. ذلك أن الغرض ليس تقديم مذهب، بل إرشاد المحاور تجاه
موقفٍ ذهنيٍّ محدد. الحوار قتال، ودي ولكنْ حقيقي.
هذه النقطة تستحق التوكيد؛ إذ إن الشيء نفسه يحدث في كل
تدريبٍ روحي: إن لزامًا علينا أن ندع أنفسنا تتغير، أن نتغير
في وجهة نظرنا، وفي مواقفنا وفي قناعاتنا. يعني ذلك أن علينا
أن نتحاور مع أنفسنا، ومن ثم يجب علينا أن نخوض معركة مع
أنفسنا. من هنا فإن ميثودولوجيا المحاورة الأفلاطونية ذات
أهميةٍ حاسمة:
«ومهما يكن من شيء فإن الفكر الأفلاطوني لا وجه لشبه
بينه وبين يمامةٍ خفيفة الجناح ليست بحاجة إلى جهد لكي
تقلع من الأرض فتحلق بعيدًا في فضاءاتٍ يوتوبيةٍ محضة
… إنما على اليمامة كل لحظة أن تناضل ضد روح المحاور
المثقلة بالرصاص. عليها أن تخوض معركة لكل درجة من
درجات الصعود وأن تكسبها.» (جولدشميت، محاورات
أفلاطون)
ولكي يخرج المرء منتصرًا من هذه المعركة ليس يكفي أن يكشف
الحقيقة. وليس يكفي حتى أن يبرهن عليها. إن ما يلزمه هو
«الإقناع»، ومن أجل ذلك يجب أن يستخدم السيكاجوجيا
Psychagogy، أي فن إغراء
(حفز) الأرواح.
١١ وحتى إذ ذاك ليس يكفي أن تستخدم البلاغة، التي
تحاول، كيفما كانت، أن تقنع من مسافة، بواسطة الخطاب المتصل.
إن ما يلزمه في المقام الأول هو الديالكتيك، الذي يتطلب
اتفاقًا صريحًا من جانب المحاور في كل لحظة. يجب أن يتخير
الديالكتيك مسارًا متعرجًا — أو بالأحرى سلسلة من المسارات
المتباعدة في الظاهر والمتقاربة برغم ذلك — حتى تحمل المحاوِر
على أن يكتشف التناقضات التي في موقفه، أو أن يسلم بنتيجةٍ غير
متوقَّعة. إن جميع الحلقات، والالتفافات، والتفرعات اللانهائية
والاستطرادات والدقائق، التي تجعل القارئ الحديث لمحاورات
أفلاطون يضيق ذرعًا؛ مقصود بها أن تجعل القارئ القديم
والمحاورين يخوضون مسارًا محددًا. بفضل هذه الالتفافات،
و«بجهدٍ كبير، يعجم المرء الأسماء، والتعريفات، والرؤى،
والأحاسيس، ويقرع أحدها بالآخر»، و«يقضي المرء وقتًا طويلًا في
صحبة الأسئلة»، «يعيش مع الأسئلة»، حتى ينبلج له الضياء. غير
أنه لا يكفُّ عن الممارسة، لأن «الحياة كلها عند ذوي العقل من
الناس إنما تُقاس بقدر الإصغاء إلى مثل هذه المطارحات»
(أفلاطون، محاورة «الجمهورية»).
العبرة ليست بحل مشكلةٍ معينة، إنما هي بالطريق الذي نقطعه
للوصول إلى الحل، طريق عَبْره يُكوِّن المحاور والتلميذ
والقارئ فكرهم، ويجعلونه أجدر باكتشاف الحقيقة بنفسه.
١٢
الغريب
:
هَبْ أن أحدًا سألنا السؤال التالي عن فصلنا
في تعلم القراءة في المدرسة الابتدائية:
«عندما يُسأل طفل أن يتهجى حروف كلمةٍ ما (أية
كلمة تحبها). هل علينا أن نعتبر أن هذا
التمرين يجرى لاكتشاف الهجاء الصحيح للكلمة
المعينة التي حددها المعلم، أم نعتبره
مصمَّمًا لتحسين قدرة الطفل في التعامل مع
جميع الكلمات التي قد يُطلب منه أن
يتهجاها؟»
سقراط الصغير
:
من المؤكد أننا نجيب بأن الغرض هو أن نعلمه
قراءة الكلمات جميعًا.
الغريب
:
كيف ينطبق هذا المبدأ على بحثنا الحالي عن
رجل الدولة؟ لماذا طرحنا على أنفسنا هذا
السؤال؟ أيكون غرضنا الرئيسي أن نجد رجل
الدولة، أم أن لدينا الهدف الأكبر في أن نصبح
أكثر قدرةً على الحوار وعلى معالجة جميع
الأسئلة؟
سقراط الصغير
:
الجواب هنا أيضًا واضح؛ نحن نهدف إلى أن
نصبح أكثر قدرة على الحوار في جميع الموضوعات
الممكنة» (أفلاطون، محاورة «السياسي»).
موضوع الحوار، كما نرى، أقل أهمية من المنهج المطبَّق فيه،
وحل المشكلة أقل قيمة من الطريق الذي نقطعه معًا لكي نحلَّها.
ليس المهم أن تجد الجواب على مشكلةٍ ما قبل غيرك، بل أن تمارس،
بأكبر كفاءة ممكنة، تطبيق منهج:
«إن السهولة والسرعة في تعليم الجواب على المشكلة
المطروحة شيءٌ جدير بكل ثناء؛ غير أن «اللوجوس» يقتضي
أن يكون هذا سببًا ثانويًّا، لا أوليًّا، في إطراء
حجة. فالذي ينبغي أن نقدره أولًا وفوق كل شيء هو
المنهج الفلسفي نفسه، وهذا الأخير يتمثل في القدرة على
التقسيم وفقًا للصور
Forms. وسواء، من
ثم، كان اللوجوس طويلًا ضافيًا أو مختصرًا للغاية فإنه
إذا غادر المستمع وهو أكثر قدرة على أن يجد الصور
بنفسه، فإن هذا المثول للوجوس هو الذي ينبغي أن ينجز
بدأب وعناية.»
١٣ (أفلاطون، محاورة «السياسي»)
والحوار الأفلاطوني، بصفته تدريبًا ديالكتيكيًّا، هو تدريبٌ
روحي قلبًا وقالبًا. ثمة سببان لذلك: في المقام الأول فالحوار،
بحذر ولكن بأصالة، يقود المحاور — والقارئ — إلى التحول Conversion. الحوار لا يكون
حوارًا إلا إذا كانت لدى المحاور رغبةٌ حقيقية في الحوار؛ أي
إذا كان يريد حقًّا أن يكتشف الحقيقة، ويرغب في «الخير» من
أعماق روحه، وكان مستعدًّا لأن يُذعن للمقتضيات العقلية
للوجوس، وكان فعل الإيمان لديه مناظرًا لفعل سقراط: «ولأنني
على قناعة بصواب هذه الحجة فأنا مستعد، بمساعدتك، أن أبحث في
طبيعة الفضيلة» (أفلاطون، محاورة «مينون»).
الحق أن النشاط الديالكتيكي (الحواري) هو صعودٌ مشترك صوب
الحقيقة وصوب «الخير»، «الذي تسعى إليه كل نفس». وفضلًا عن
ذلك، من وجهة نظر أفلاطون، فكل تدريبٍ ديالكتيكي، بالضبط لأنه
تدريب على الفكر الخالص وخاضع لمتطلبات اللوجوس، فإنه يصرف
النفس عن العالم الحسي، ويتيح لها أن تحوِّل ذاتها تجاه
«الخير». إنه خط رحلة النفس تجاه المقدَّس.
(٣) تعلم أن تموت
ثمة صلةٌ ملغزة بين اللغة والموت. كانت هذه إحدى الثيمات
المفضَّلة عند برايس
بارين Brice Parain المتأخر، الذي كتب: «لا تنمو اللغة إلا
على موت الأفراد» (بارين، «اللغة والوجود»). ذلك أن اللوجوس
يمثل حاجة إلى عقلانيةٍ عمومية، ويفترض مسبقًا وجود عالم من
المعايير الثابتة التي هي مضادة لحالة الصيرورة الدائمة
والرغبات المتغيرة التي تميز الحياة الجسدية الفردية. في هذا
التقابل Opposition فإن
من يظل مخلصًا للوجوس يجازف بفقدان حياته. كذا كانت حالة
سقراط، الذي قضى نحبه من أجل إخلاصه للوجوس.
كان موت سقراط هو الحدث المفصلي الذي أسس الأفلاطونية. فجوهر
الأفلاطونية في النهاية هو التوكيد على أن الخير هو العلة
القصوى لجميع الموجودات. وبتعبير أحد الأفلاطونيين المحدثين في
القرن الرابع:
«إذا كانت جميع الموجودات هي موجودات بفضل الخيرية
وحدها، وإذا كانت تشارك في الخير، فالأول إذن لا بد أن
يكون بالضرورة خيرًا يعلو على الوجود. ها هنا برهانٌ
جلي على ذلك: النفوس الكبيرة تحتقر الحياة، من أجل
الخير، حيثما عرضت نفسها للخطر في سبيل وطنها، أو
أحبابها، أو من أجل الفضيلة.» (سالستيوس، «بخصوص
الآلهة والعالم»)
لقد عرَّض سقراط نفسه للموت من أجل الفضيلة، وفضَّل أن يموت
على أن يتخلى عن مطالب ضميره، رافعًا بذلك الخير فوق الوجود،
والفكر والضمير فوق الحياة في الجسد. وما هذا سوى الاختيار
الفلسفي الأساسي. فإذا صح أن الفلسفة تخضع إرادة الجسد لأن
يحيا وفق المطالب العليا للفكر فإن لنا أن نقول بأن الفلسفة
تدريب وتمهن
١٤ للموت. وكما قال أفلاطون في محاورة «فيدون»: «الحق
يا سيمياس أن أولئك الذين يشرعون في التفلسف الصحيح هم في
تدريب للموت، وأنهم الأقل انزعاجا من الموت بين جميع
البشر».
والموت الذي يعنينا هنا هو انفصال النفس عن الجسد:
«فصل النفس قدر المستطاع من الجسد، وتوطينها على أن
تلمَّ نفسها من كل جزء من الجسم وتركِّز ذاتها إلى أن
تكون مستقلةً تماما، وأن يكون لديها مقامها، جهد
استطاعتها، الآن وفي المستقبل، وحدها وبذاتها، متحررة
من أغلال الجسد.» (أفلاطون، «فيدون»،
c67)
هكذا هو التدريب الأفلاطوني. غير أننا يجب أن نحاذر من إساءة
تأويله. يجب بصفةٍ خاصة ألا نفصله عن الموت الفلسفي لسقراط
الذي يطغى حضوره على محاورة «فيدون» كلها. إن انفصال الروح
والجسد الذي نعرض له هنا — أيا ما كانت الأسباب البعيدة التي
مهدت له — لا يشبه على الإطلاق أي حالة من حالات الغشية Trance أو الجمدة
Catalepsy (حيث يفقد الجسم
الوعي بينما تكون الروح في حالة رؤيوية فائقة للطبيعة). إن
جميع الحجج في محاورة فيدون، سواء السابقة أو اللاحقة على
الفقرة المقتبسة أعلاه، تثبت أن هدف هذا الانفصال الفلسفي هو
من أجل أن تحرر الروح نفسها، فتطرح الانفعالات المرتبطة
بالحواس الجسدية، حتى تبلغ استقلال الفكر.
ربما يكون بوسعنا تحصيل فكرة أفضل عن هذا التدريب الروحي إذا
فهمناه على أنه محاولة لتحرير أنفسنا من وجهة نظر انفعاليةٍ
جزئيةٍ مرتبطة بالحواس وبالجسم؛ كيما نعلو إلى منظور للفكر
معياريٍّ عمومي، مخضِعين أنفسنا لمطالب اللوجوس ومعيار
«الخير». التدريب للموت هو تدريب لإماتة فردية المرء وأهوائه
من أجل أن ينظر إلى الأشياء من منظور الكونية
والموضوعية.
مثل هذا التدريب يتطلب تركيز الفكر على نفسه، بواسطة التأمل
والحوار الداخلي. يومئ أفلاطون إلى هذه العملية في محاورة
«الجمهورية» مرة ثانية في سياق طغيان الانفعالات الفردية. يقول
أفلاطون إن استبداد الرغبة يفصح عن نفسه في الأحلام على نحوٍ
أكثر وضوحا:
«الجزء الوحشي من النفس … لا يتردد بالخيال أن يهتك
عرض الأم أو من عداها، سواء كان إنسانًا أم إلهًا أم
حيوانًا. وهو عندئذٍ لا يتحرج من ارتكاب أية جريمةٍ
دموية، ولا يستحرم أي طعام. وباختصار فهو لا ينهي ذاته
عندئذٍ عن أية حماقة أو وقاحة.» (أفلاطون،
«الجمهورية»،
d571)
ولكي نحرر أنفسنا من هذا الاستبداد علينا أن نلجأ إلى تدريبٍ
روحي من نفس الصنف الذي وصف في «فيدون»:
«أما الشخص الذي يتصف بالاعتدال والصحة، فإنه لا
يستسلم للنوم إلا بعد أن يكون قد أيقظ عقله وغذَّاه
بالأفكار والخواطر الرفيعة في تأملٍ باطن مركَّز؛ وبعد
أن يكون قد هدَّأ رغباته … وهدَّأ الجزء الغضبي من
نفسه … وبمجرد أن يُهدِّئ هذين الجزأين من نفسه ويوقظ
الجزء الثالث الذي تكمن فيه الحكمة … ففي هذه الحالة
وحدها تبلغ النفس أعلى درجات الحقيقة.» (أفلاطون،
«الجمهورية»،
d-571a572)
وهنا أستميح القارئ في استطرادٍ وجيز. لقد كان تقديم الفلسفة
ﮐ «تدريب للموت» قرارًا غاية في الأهمية. مثل هذا التوصيف، كما
بادر بالملاحظة محاور سقراط في فيدون، يبدو مضحكًا بعض الشيء،
ويُبرِّر للرجل العام أن يسمي الفلاسفة بالمكتئبين المحتضرين
الذين إذا أُدينوا بالموت سيكونون قد نالوا جزاءهم المستحق.
١٥ غير أن من يأخذ الفلسفة مأخذ الجد سيرى أن قول
أفلاطون صحيح للغاية. لقد كان لهذا القول المأثور تأثيرٌ هائل
على الفكر الغربي، وقد أخذ به حتى خصوم للأفلاطونية مثل أبيقور
وهيدجر. وإن الحشو الكلامي الفلسفي في الماضي والحاضر ليبدو
فارغًا حقًّا إذا قورن بهذه الصياغة. وبتعبير لاروشفوكو:
«اثنان لا يمكنك التحديق فيهما: الشمس … والموت» (لاروشفوكو،
مبادئ، رقم ٢٦).
الحق أنه لا يجرؤ على مجرد التفكير في ذلك إلا الفلاسفة.
وتحت جميع تصوراتهم المتباينة للموت ثمة فضيلةٌ مشتركةٌ واحدة
تعاود مرارًا وتكرارًا:
Lucidity (الصفو، الروق،
الاستبصار، الشفافية، وضوح الفكر وبُعد النظر). يرى أفلاطون أن
من عرف يومًا مذاق خلود الفكر لا يمكن أن يرتاع لفكرة أن يختطف
من الحياة الحسية. ويذهب أبيقور إلى أن خاطر الموت مساوٍ للوعي
بالطبيعة المتناهية للوجود، وهذا بعينه هو ما يضفي قيمةً
لامتناهية على كل لحظة. تندفق كل آنة من آنات الحياة محملة
بقيمة لا تقدَّر. يقول هوراس: «اعتبرْ أن كل يوم طلعت عليك
شمسه سيكون آخر يوم لك، ولسوف تتلقى كل ساعة غير منتظرة
بالعرفان والشكر.»
في التمهُّن بالموت يكتشف الرواقي التمهن بالحرية. من أشهر
مقالات مونتيني مقال «في أن الفلسفة تُعلِّم كيف تموت» اقتبس
فيه قول سنكا «من تعلَّم كيف يموت فقد تعلم كيف لا يستعبد.»
١٦ إن خاطر الموت يحول نغمة الحياة الداخلية
ومستواها. يقول إبكتيتوس في «المختصر»: «ضع الموت نصب عينَيك
في كل شيء … وعندئذٍ لن تفكر أبدًا في أي شيءٍ دنيء، ولن تتوق
إلى أي شيء توقًا زائدًا عن الحد» (إبكتيتوس، «المختصر»، ٢١).
وهذه الثيمة الفلسفية، بدورها، موصولة بثيمة القيمة
اللامتناهية للحظة الحاضرة التي ينبغي علينا أن نعيشها وكأنها
أول وآخر لحظة.
ولا تزال الفلسفة «تدريبًا للموت» عند مفكرٍ حديث مثل هيدجر.
فالوجود الأصيل عند هيدجر هو استباق للموت بصفاء وسكينة؛ وإن
لك أن تختار بين الصفاء والزيغ.
التدريب على الموت عند أفلاطون هو تدريبٌ روحي عبارة عن
تغيير المرء لزاوية رؤيته: من نظرة إلى الأشياء تسودها
الانفعالات الفردية إلى تمثيل للعالم تحكمه كونية الفكر
وموضوعيته. يشكل هذا تحولًا
Metastrophe بجمع الروح.
من منظور الفكر الخالص فإن الأشياء «البشرية الموغلة في
البشرية» تبدو ضئيلة على نحوٍ مفجع. هذه واحدة من الثيمات
الأساسية للتدريبات الروحية الأفلاطونية، وهذه هي التي ستتيح
لنا أن نحتفظ بصفائنا في الشدائد:
«– أعني القانون العقلي القائل إنه ليس أفضل من تحمل
المكاره بأكبر قدر من رباطة الجأش، وعدم الاستسلام
للحزن؛ إذ إن المرء لا يعلم ما في هذه الأحداث من خير
وشر، وهو لن يكسب من الثورة شيئًا، والقائل إن الأمور
الإنسانية كلها لا تستحق من المرء اهتمامًا، وأن حزننا
يحول دون حدوث ما نحن في أشد الحاجة إليه في مثل هذه
اللحظات.
– ماذا تعني؟
– أعني تدبر ما حدث، واستعادة قدرتنا على التحكم في
النفس بعد أن يوجِّه القدر ضربته، كما في لعبة النرد،
وترك العقل يحدد أفضل السبل أمامنا، والكف عن سلوك
مسلك الأطفال الذين يصرخون عندما يصيبهم جرح ويضمون
إليهم الجزء المجروح، وتعويد النفس أن تهرع دائمًا
لنجدة المريض المحتاج إليها، وتسارع بإنهاضنا من
كبوتنا، ومواساة الحزن بلمسة من دوائها الشافي.»
(أفلاطون، «الجمهورية»،
b-d604)
قد يقول قائل إن هذا التدريب الروحي هو تدريبٌ رواقي بالفعل؛
إذ بوسعنا أن نرى فيه استخدام القواعد والمبادئ التي تقصد إلى
أن «تروض الروح» وتحررها من الانفعالات، ومن بينها يلعب المبدأ
الذي يؤكد تفاهة الشئون البشرية دورًا هامًّا. إلا أن هذا
المبدأ بدوره ما هو إلا نتاجٌ مترتب على الحركة، التي يصفها
أفلاطون في «فيدون»، التي تصعد بها النفس، النازحة من الفردية
إلى الكونية، إلى مستوى الفكر الخالص.
في الفقرة التالية نجد المفاهيم المفتاحية الثلاثة: تفاهة
الشئون البشرية، وازدراء الموت، والرؤية الكونية المميزة للفكر
الخالص؛ نجدها مرتبطة بوضوح تام:
«وها هي ذي مسألةٌ أخرى يتعيَّن بحثها في سعينا إلى
تمييز الطبيعة الفلسفية من غيرها؛ وهي أن تكون النفس
أبعد ما تكون عن الوضاعة، ما دام صغر النفس هو أبعد
الأمور عن الروح التي تتجه دومًا إلى إدراك مجموع
الأشياء الإنسانية والإلهية معًا … فإذا كان المرء قد
وهب مثل هذه النفس الكبيرة، وأحاط فكره بالزمان في
كليته والوجود في مجموعه، فهل تظنه قادرًا على أن يرى
في هذه الحياة البشرية شيئًا ذا بال؟ … وإذن فمثل هذا
الرجل لن يرى في الموت ما يخيف» (أفلاطون،
«الجمهورية»،
a488)
هنا يتصل «التدريب على الموت» بتأمل «الكل» وصعود الفكر الذي
يرتفع من الذاتية المنفعلة الفردية إلى المنظور الكوني
الشمولي؛ وبعبارةٍ أخرى فإنه يبلغ إلى تدريب الفكر الخالص. في
هذه الفقرة، للمرة الأولى، يوسم الفيلسوف بالصفة التي سوف
تلازمه طيلة التراث القديم: عظمة الروح. عظمة الروح هي ثمرة
شمولية الفكر. هكذا يصبح الجهد النظري والتأمل بكليته تدريبًا
روحيًّا، بقدر ما يرفع فكره إلى منظور «الكل» ويخلِّصه من
أوهام الفردية (وبتعبير فريدمان: «اخطُ خارج الزمن … صرْ
أبديًّا بأن تتجاوز ذاتك»).
من هذا المنظور (الكلي الشمولي الكوني) تصبح حتى الفيزيقا
تدريبًا روحيًّا، تدريبًا يقع في ثلاثة مستويات: فالفيزياء، في
المقام الأول، يمكن أن تكون نشاطًا تأمليًّا يحمل غايته في
ذاته، ويقدم للروح بهجة وصفاءً، ويحررها من الهموم اليومية.
هذه هي روح الفيزيقا الأرسطية: «الطبيعة، التي شكلت المخلوقات،
تهب متعةً مدهشة في دراستها لكل الذين يستطيعون تتبع الصلات
العلية، والذين هم فلاسفة بطبيعتهم.» أما لوكريتس الأبيقوري
فقد كان، مثلما رأينا، يجد في تأمل الطبيعة «فرحًا قدسيًّا».
وأما عند إبكتيتوس الرواقي فإن معنى وجودنا يكمن في هذا
التأمل: «لقد وضعنا على الأرض لكي نتأمل الخلق الإلهي، وينبغي
ألا نموت قبل أن نكون قد شاهدنا عجائبه وعشنا في توافق مع
الطبيعة» (إبكتيتوس، المحادثات، ١–٦).
١٧
من الواضح أن المعنى الدقيق لتأمل الطبيعة يختلف اختلافًا
بعيدًا من فلسفة إلى أخرى. ثمة فرقٌ كبير بين الفيزيقا
الأرسطية، مثلًا، والإحساس نحو الطبيعة الذي نجده عند فيلون
السكندري وبلوتارخ. غير أن من الشائق أن نلحظ بأي حماسة يتحدث
هذان الكاتبان عن فيزيقاهما التخيلية:
«أولئك الذين يمارسون الحكمة … هم متأملون ممتازون
للطبيعة وكل شيء تحتويه الطبيعة، يتفحصون الأرض والبحر
والسماوات وقاطنيها. إنهم مرتبطون في فكرهم بالشمس
والقمر وكل النجوم الأخرى، الثابت منها والجائل في
مساره. ورغم أن أجسامهم مرتبطة بالأرض فإنهم يمنحون
أرواحهم أجنحة لكي يسيروا على الأثير ويتأملوا القوى
التي تقيم هناك، مثلما يليق بمواطنين حقيقيين للعالم …
وبذلك فإنهم، ممتلئين بالفضل والامتياز، يتعوَّدون ألا
يلقوا بالًا بالجسد وبالأشياء الخارجية … وغنيٌّ عن
القول أن مثل هؤلاء الناس، مبتهجين بفضائلهم، يجعلون
من حياتهم كلها مهرجانًا.» (فيلون السكندري، «في
القوانين الخاصة»)
هذه الأسطر الأخيرة هي إلماع لشذرة ديوجين الكلبي، التي
اقتبسها أيضًا بلوتارخ: «الإنسان الصالح، ألا يعتبر كل يوم
مهرجانا؟» … «ومهرجانًا رائعًا للغاية لو ترى.» ويمضي بلوتارخ:
«فالعالم هو أكثر المعابد قداسة وألوهة، وأجدرها
بالآلهة. والإنسان أدخل فيه بالميلاد لكي يكون
مشاهدًا: لا لتماثيل اصطناعية جامدة للصور المدركة
للماهيات المعقولة … مثل الشمس، والقمر، والنجوم،
والأنهار التي يتدفق ماؤها مجددًا على الدوام، والأرض
التي تخرج الغذاء للنبات والحيوان على السواء. حياة هي
وحيٌ تام، وإن انتسابًا إلى مثل هذه الأسرار لا بد أن
يكون مليئًا بالسكينة والفرح.» (بلوتارخ، «في سلام
العقل»)
والفيزياء كتدريبٍ روحي يمكن أيضًا أن تتخذ شكل عروجٍ خيالي
إلى الأعالي، تبدو معه الشئون البشرية ضئيلة لا قيمة لها. ونحن
نصادف هذه الثيمة عند ماركوس أوريليوس:
«إذا ما رُفعتَ فجأة إلى ارتفاعٍ هائل وأمكنك أن
تنظر تحتك إلى مشاغل البشر بشتى أصنافها، لأن مجال
نظرك سوف يضم أيضًا حشدًا هائلًا من الأرواح التي تأهل
الفضاء والسماء، ولأنك مهما أعدت الكرة فسوف ترى
الأشياء نفسها؛ الرتابة والزوال. هل هذه الأشياء
تستدعي الزهو والخيلاء؟!» (ماركوس أوريليوس، التأملات،
١٢–٢٤)
والثيمة نفسها نجدها عند سنكا:
«تنال الروح ذروة السعادة حين تدوس على كل ما هو شر
ثم تصعد إلى الأعالي وتجول بين النجوم ذاتها، هنالك
تود أن تضحك على أبهة الأغنياء … غير أن الروح لا
يتسنى لها أن تزدري كل هذا حتى تصوب نظرة ازدراء إلى
كوكب الأرض الضئيل من أعلى قائلة لنفسها: «هذه إذن
النقطة الضئيلة التي تتقاسمها أممٌ عديدة فيما بينها
بالنار والسيف؟ كم هي مضحكةٌ سخيفة تخوم البشر!»
(سنكا، «أسئلة طبيعية»)
في هذا التدريب على رؤية الكل، والصعود بالفكر إلى مستوى
الفكر الكوني الشمولي، يمكننا أن نتبين درجةً ثالثة، نقترب
منها أكثر من الثيمة الأفلاطونية التي بدأنا منها. وعلى حد قول
ماركوس أوريليوس:
«لا تعدْ تتنفس فقط من الهواء المحيط، بل خذ فكرك
أيضًا من العقل الذي يضم الأشياء جميعًا. فالقوة
العاقلة منتشرة، كالهواء، في كل مكان، ومتخلِّلة في كل
شيء، طوع من يشاء أن يتشرَّبها، تمامًا كالهواء لمن
يستطيع أن يتنفسه … عندئذٍ ستوفر لنفسك للتو مكانا
رحبًا بأن تفهم الكون كله وتستوعبه في عقلك، وبأن
تتفكر في أبدية الزمان.» (ماركوس أوريليوس، التأملات،
٨–٥٤، ٩–٣٢)
عند هذه المرحلة نصبح كما لو أننا صرنا لامبالين بفرديتنا،
ونحن إذ نفعل ذلك نتقبل داخل وعينا من جهة وشمولية التفكير في
الكل من جهةٍ أخرى.
لقد كنت «الكل» أصلًا، ولكنْ لأن شيئًا ما غير
«الكل» حدث أن أضيف عليك، فقد أصبحت أقل من «الكل»، من
جراء واقعة هذه الإضافة ذاتها. ذلك أن الإضافة لم تأتِ
من الوجود — فماذا عساه أن يضاف إلى «الكل»؟! — بل أتت
من اللاوجود. عندما يصبح المرء «شخصًا ما» من جراء
اللاوجود، لا يعود المرء هو «الكل»، حتى يترك اللاوجود
وراءه. كما أنك تزيد نفسك عندما ترفض كل شيء عدا
«الكل»، وما إن تنبذه حتى يتمثل لك «الكل» … «الكل» لا
يحتاج إلى أن «يجيء» لكي يكون حاضرًا. فإذا لم يكن
حاضرًا فإنما سبب ذلك أنك «أنت» الذي أبعدتَ نفسك عنه.
ليس يعني «إبعاد نفسك» تركها لتذهب إلى مكانٍ ما آخر؛
إذ سيكون «الكل» هناك أيضًا؛ بل يعني الانصراف عن الكل
برغم حقيقة أنه هناك.» (أفلوطين، التاسوعات)
ومع أفلوطين نعود الآن إلى الأفلاطونية. لقد ظل التعليم
الأفلاطوني مخلصًا لتدريبات أفلاطون الروحية. على أن نضيف أن
فكرة التقدم الروحي في الأفلاطونية المحدثة تلعب دورًا أكثر
صراحة بكثير مما في كتابات أفلاطون. كانت مراحل التقدم الروحي
في الأفلاطونية المحدثة تناظر درجاتٍ مختلفة من الفضيلة. وإن
تراتب هذه المراحل موصوف في كثير من النصوص الأفلاطونية
المحدثة، ويشكل الإطار، بصفةٍ عامة، لكتاب مارينوس «حياة
بروكلوس». وقد رتَّب فرفوريوس، محرر تاسوعات أفلوطين، عمل
أستاذه وفقًا لمراحل هذا التقدم الروحي. فأولًا: تطهر النفس
بانسلاخها التدريجي من الجسد. ثم تأتي معرفة العالم المحسوس
ملحقة بتجاوزه والعلو عليه. وأخيرا تبلغ الروح التحول تجاه
اﻟ Intellect وتجاه
الواحد.
التدريبات الروحية متطلب أساسي للتقدم الروحي. في رسالته «في
الامتناع عن الكائنات الحية» يجمع فرفوريوس التعليم الأفلاطوني
على نحوٍ جيد تمامًا. ويقول إن علينا أن نقوم بتدريبَين: علينا
في المقام الأول أن نعود إلى نشاط اﻟ
Intellect. تشمل المرحلة
الأولى من هذه التدريبات الأفلاطونية المحدثة جوانبَ تقشفية
للغاية، بالمعنى الحديث للكلمة: غذاءً نباتيًّا، وأشياء أخرى.
وفي نفس السياق يؤكد فرفوريوس بقوة على أهمية التدريبات
الروحية. وهو يقول إن التفكر
(Theoria) الذي يأتي
بالسعادة لا يتمثل في تراكم الخطاب والدروس المجردة، حتى لو
كان موضوعها «الوجود» الحقيقي. وإنما علينا أن نتأكد من أن
دراساتنا يصحبها جهد يحول هذه الدروس داخلنا إلى «طبيعة
وحياة».
للتدريبات الروحية في فلسفة أفلوطين أهميةٌ جوهرية. ولعل
أفضل مثال على ذلك هو طريقة أفلوطين في تعريف ماهية النفس
ولامادِّيتها. يقول أفلوطين إننا إذا كانت لدينا شكوك حول خلود
النفس ولامادِّيتها فإن مردَّ ذلك إلى أننا اعتدنا أن نراها
ممتلئة بالرغبات اللاعقلانية والعواطف العنيفة
والانفعالات.
«إذا أراد المرء أن يعرف طبيعة شيء فإن عليه أن
يفحصه في حالته الخالصة، إذ إن أي إضافة إلى شيء ما هي
عقبة في معرفة هذا الشيء. فعندما تفحصه، إذن، أزل كل
ما ليس منه. والأفضل، بعدُ، أن تزيل عن نفسك أنت كل
الأوضار وتفحص نفسك، ولسوف تتيقن من خلودك.
إذا كنت لا تزال غير مبصر للجمال الكامن فيك فافعل
ما يفعله المثَّال بتمثاله، الذي يجب أن يصير جميلًا:
إنه يزيل جزءًا، ويفتت آخر، وينعم موضعًا وينظف آخر …
حتى يجعل الوجه الجميل في التمثال يسفر وينجلي. أنت
أيضًا عليك بنفس الطريقة أن تزيل عنك كل ما هو فضولٌ
زائد، وأن تُقوِّم ما هو ملتوٍ، وتجلو ما هو معتم حتى
يصير لامعًا براقًا. لا تكفَّ عن نحت تمثالك أنت حتى
يسطع فيه البهاء القدسي للفضيلة … فإذا ما أصبحتَ على
هذا النحو وصرتَ خاليًا من كل ما ليس أنت؛ فحدِّق
ببصرك وانظر، فليس غير هذه العين ما يمكنه أن يُبصُر ﺑ
«الجمال» الأكبر.» (أفلوطين، التاسوعات)
هنا يمكننا أن نرى كيف أن برهان خلود النفس قد تحوَّل إلى
تدريب. وحده من يحرر نفسه ويطهرها من الانفعالات التي تُغشِّي
على الواقع الحقيقي للنفس؛ يستطيع أن يفهم أن الروح لا مادية
وخالدة. المعرفة هنا تدريبٌ روحي. لا بد أولًا أن نتطهر
أخلاقيًّا كيما يتسنَّى لنا الفهم.
وعندما لا يعود موضوع معرفتنا هو الروح، بل اﻟ
Intellect، وفوق كل شيء
«الواحد»
The One، مبدأ
جميع الأشياء، فلا بد لنا مرةً أخرى أن نلجأ إلى التدريبات
الروحية. أما بإزاء «الواحد» فإن أفلوطين يميز تمييزًا واضحًا
بين «التلقين»
Instruction من
جهة، الذي يتناول موضوعه من خارج، و«الطريق»
The Path من جهةٍ أخرى، الذي
يقود حقًّا إلى معاينة «الخير»
The Good: نحن «نلقن» عنه بواسطة التشبيهات
والنفي ومعرفة الأشياء التي تصدر منه … ونحن «نُقاد نحوَه»
بواسطة التطهر، والفضائل، والانسجام الباطني، والعلو إلى
العالم المعقول» (أفلوطين، التاسوعات). وتزخر كتابات أفلوطين
بالفقرات التي تصف مثل هذه التدريبات الروحية التي لا تهدف إلى
مجرد «معرفة» الخير بل إلى «التوحد به»، في حالة فناءٍ تام
للفردية. ولكي نبلغ هذا الهدف يهيب بنا أفلوطين أن نتجنب
التفكير في أي شكلٍ محدد، وأن نجرد النفس من كل شكلٍ معين،
وننأى بجانبنا عن كل ما سوى «الواحد». هنالك فقط، في ومضةٍ
خاطفة من الضياء، يحدث تحوُّل
١٨ النفس.
«هنالك لا يعود الرائي يرى موضوعه، إذ لا يعود إذ
ذاك يميز نفسه عنه؛ لا يعود لديه انطباع بشيئَين
منفصلَين، بل هو قد أصبح، بمعنًى ما، آخر. لم يعد
نفسه، ولا عاد هو منتميًا إلى نفسه، ولكنه هو واحد مع
«الواحد»، مثلما تتراكز دائرة مع أخرى، فمركز الاثنتين
واحد.» (أفلوطين، التاسوعات)
(٤) تعلم كيف تقرأ
في الصفحات السابقة حاولنا أن نصف، وإنْ باختصار شديد، ثراء
التدريبات الروحية في العصر القديم وتنوع ممارستها. ورأينا
أنها تبدو للوهلة الأولى واسعة التباين. بعض هذه التدريبات،
مثل تدريبات
Ethismoi١٩ بلوتارخ، المصمَّمة لكي تكبح جماح الفضول أو الغضب
أو الاغتياب، كانت ممارسات قُصد بها أن ترسِّخ العادات
الأخلاقية الحميدة. وبعضها الآخر، وبخاصة تأملات التعليم
الأفلاطوني، كانت تتطلب درجةً عالية من التركيز العقلي. وكان
البعض، مثل التفكر في الطبيعة كما يمارس في جميع المدارس
الفلسفية، يلفت النفس إلى الكون، بينما كان البعض الآخر،
الاستثنائي والنادر، يُفضي إلى تغيير هيئة الشخصية، كما هو
الحال في خبرات أفلوطين. ورأينا أيضًا أن النبرة العاطفية
والمحتوى الفكري لهذه التدريبات يختلف اختلافًا واسعًا من
مدرسةٍ فلسفية إلى أخرى: ما بين تحريك الطاقة والرضا بالقضاء
عند الرواقيين، إلى الاسترخاء والانسلاخ عند الأبيقوريين، إلى
التركيز الذهني والتخلِّي عن العالم المحسوس عند
الأفلاطونيين.
إلا أن هناك تحت هذا التنوع الظاهري وحدةٌ عميقة، سواء في
الوسائل المستخدمة أو في الغايات المنشودة. فالوسائل
المستخدَمة هي فنيات الإقناع البلاغية والحوارية، محاولات
سيطرة المرء على حواره الداخلي وتركيزه الذهني. والهدف المنشود
من هذه التدريبات في جميع المدارس الفلسفية هو تحقيق الذات
وتحسينها. تتفق جميع المدارس في أن الإنسان قبل التحول الفلسفي
يكون في حالة اضطرابٍ تعيس، تأكله الهموم وتمزِّقه الأهواء فلا
يعيش حياةً حقيقية ولا يكون نفسه على الحقيقة. وتتفق جميع
المدارس أيضًا على أن بوسع الإنسان أن يتخلَّص من هذه الحالة،
بوسعه أن يجد مسلكًا إلى الحياة الأصيلة، ويحسِّن من نفسه،
يحوِّل نفسه، ويبلغ حالة من الكمال. لأجل ذلك بالتحديد جُعلت
التدريبات الروحية. إن هدفها هو نوع من تكوين النفس، أو اﻟ
Paideia، أي أن تُعلِّمنا
أن نعيش، لا وفقًا للتحيزات البشرية والأعراف الاجتماعية
(فالحياة الاجتماعية نفسها نتاج للانفعالات)، بل وفقًا لطبيعة
الإنسان؛ وما طبيعة الإنسان سوى العقل. كانت جميع المدارس،
كلٌّ على طريقتها، تؤمن بحرية الإرادة، التي بفضلها يكون بمكنة
الإنسان أن يعدل نفسه ويحسنها ويحققها. وتتبطن هذه القناعة
نظرية التوازي بين التدريبات الجسمية والروحية: فمثلما بوسع
الرياضيين بفضل التدريبات البدنية المستمرة أن يُضفوا على
أجسامهم شكلًا جديدًا وقوة، كذلك بوسع الفيلسوف أن يقوِّي روحه
ويعدِّل مناخه الداخلي ويحوِّل رؤيته للعالم؛ ويحوِّل، بعدُ،
وجوده كله. وليس من قبيل الصدفة أن كان الجيمناسيون، المكان
الذي كانت تمارس فيه التدريبات الرياضية، هو نفسه المكان الذي
تُعطى فيه الدروس الفلسفية، أي التدريبات الروحية.
ومن الرموز الموفَّقة لتحقيق الذات، الذي هو غاية التدريبات
الروحية، تلك الصورة الأفلوطينية عن نحت المرء لتمثاله الخاص.
وهذا الرمز كثيرًا ما يُساء فهمه، إذ يتخيل الناس أنه تعبير عن
ضرب من النزعة الجمالية
٢٠ الأخلاقية؛ ولكنه إذا فُهم بهذا المعنى سيكون من
قبيل اتخاذ المرء وِضعةً
Pose
له أو اختيار موقف أو اصطناع شخصية. بينما الحقيقة أن صورة
التمثال الأفلوطينية ليست من ذلك في شيء. لقد كان النحت عند
القدماء فنًّا «يطرح» (أو يطَّرح)، على نقيض التصوير الذي هو
فن «يضيف إلى»؛ فالتمثال قابع مسبقًا في كتلة الرخام، وما على
المثال سوى طرح الزائد لكي يظهر.
تلتقي جميع المدارس الفلسفية في تصورٍ واحد؛ الناس تعيسة
لأنها مستعبَدة لأهوائها، وبعبارة أخرى: الناس تعيسة لأنها
ترغب في أشياء لا تكون قادرة على نيلها لأن هذه الأشياء
خارجية، غريبة عنهم، زائدة عليهم. يترتب على ذلك أن السعادة هي
الاستقلال، الحرية، الاكتفاء. وبعبارةٍ أخرى: السعادة هي في
العودة إلى الجوهري؛ ذلك الذي هو «نحن» على الحقيقة، والذي
يعتمد علينا.
٢١
يصح هذا بشكلٍ واضح في الأفلاطونية، حيث نجد الصورة الشهيرة
ﻟ «جلوكوس» Glaucos؛ الإله
الذي يعيش في أعماق البحر؛ ولأنه مغطًّى حيث هو بالطين وأعشاب
البحر والقواقع والحصى، فلا يمكن التعرف على صورته الأصلية.
وكذلك الأمر بالنسبة للنفس؛ فالجسم نوع من القشرة الخشنة
الصفيقة التي تغطيها وتشوِّهها تمامًا. ولن تظهر الطبيعة
الحقيقية للنفس إلا إذا برزت خارج البحر وانتضت عنها كلَّ شيءٍ
غريب عليها. من شأن تدريب التمهن للموت، الذي هو انفصال المرء
عن الجسد وأهوائه ورغباته، أن ينقِّي النفس من جميع هذه
الإضافات الزائدة. ويكفي أن يمارس المرء هذا التمرين لكي تعود
النفس إلى طبيعتها الحقة، وتكرس نفسها حصريًّا للتدريب على
الفكر الخالص.
ويصح الشيء برمَّته على الرواقية؛ فبوسعنا، بمعرفة التمييز
بين ما يعتمد علينا وما لا يعتمد علينا، أن ننبذ كل ما هو غريب
عنا ونعود إلى أنفسنا الحقيقية. بوسعنا، بعبارةٍ أخرى، أن نبلغ
الحرية الأخلاقية.
كما أنه يصح أيضًا لدى الأبيقورية؛ إذ بوسعنا، بالإقلاع عن
الرغبات غير الطبيعية وغير الضرورية، أن نعود إلى نواتنا
الأصلية من الحرية والاستقلال، التي قد نعرفها بأنها إشباع
الرغبات الطبيعية والضرورية.
هكذا نتبيَّن أن جميع التدريبات الروحية هي، جوهريًّا، عودة
إلى النفس، تتحرر فيها النفس من حالة الاغتراب التي كانت
منغمدة فيها بواسطة المشاغل والهموم والأهواء والرغبات.
«النفس» (الذات) Self،
المحرَّرة بهذه الطريقة، لا تعود مجرد فرديتنا الانفعالية
الأنانية؛ إنها شخصنا «الأخلاقي»، المنفتح على الكونية
والموضوعية، والمشارك في الطبيعة الكونية أو الفكر
الكوني.
بمساعدة هذه التدريبات لا بد أن نكون قادرين على أن ننال
الحكمة، وهي حالة من التحرر التام من الانفعالات، وحالة من
الصفاء التام، ومعرفة أنفسنا ومعرفة العالم. والحق أن مثل هذا
المثال من الكمال البشري، عند أفلاطون وأرسطو والأبيقوريين
والرواقيين، يصلح لتعريف الكمال «الإلهي»، وهو حالة فوق مثال
الإنسان بحكم التعريف. أما الحالة الوحيدة التي يمكن أن يبلغها
الإنسان فهي الفيلو-صوفيا؛ حب الحكمة أو التقدم تجاه الحكمة.
تبقى الحكمة مثالًا نسعى إليه ولا نبلغه. وما دامت الحكمة لا
تدرك أبدًا فالتدريبات الروحية ينبغي ألا تتوقف أبدًا.
يعيش الفيلسوف حالةً بينية؛ فهو ليس حكيما، ولا هو أيضًا غير
حكيم. وهو لذلك ممزَّق على الدوام بين الحياة اللافلسفية
والحياة الفلسفية، بين نطاق الاعتيادي واليومي من جهة، ونطاق
الوعي والشفافية من جهةٍ أخرى. وبقدر ما تكون الحياة الفلسفية
مكافِئة لممارسة التدريبات الروحية فهي أيضًا انسلاخ عن الحياة
اليومية. إنها تحوُّلٌ Conversion، تبدُّلٌ تام لرؤية المرء وسلوكه
وأسلوب حياته.
وعند الكلبيين Cynics،
أبطال «الزهد» Askesis، يبلغ
هذا الانسلاخ أن يكون قطيعةً تامة مع العالم الدنيوي مماثلة
للنداء الرهباني في المسيحية. تأخذ القطيعة شكل طريقة في
العيش، وحتى في اللباس، مغايرة تمامًا لما عليه بقية الجنس
البشري. من هنا كان يقال أحيانًا إن الكلبية ليست فلسفة
بالمعنى الدقيق للكلمة بل حالةٌ حياتية
Enstasis. على أن جميع
المدارس الفلسفية، في الحقيقة، كانت تسلك تلاميذَها في طريقةٍ
جديدة من الحياة، وإنْ على نحوٍ أكثر اعتدالًا. تُفضي
التدريبات الروحية إلى العكس تمامًا من الأفكار السائدة: على
المرء أن يتخلى عن القيم الزائفة كالثروة والشهرة والملذَّات،
وينصرف إلى القيم الحقيقية؛ الفضيلة، والتأمل، والأسلوب البسيط
في الحياة، والسعادة البسيطة بالوجود. وهذا التعارض الجذري
يفسر لنا رد فعل غير الفلاسفة الذي يتراوح بين التهكم الذي
نجده معبرًا عنه عند شعراء الكوميديا، والعداء السافر الذي
تمادى حتى تسبَّب في موت سقراط.
كان على الفرد أن ينسلخ عن عاداته وتحيُّزاته الاجتماعية،
فتغيرت حياته تغيرًا كليًّا، وتحوَّلت نظرته إلى العالم تحولًا
جذريًّا واتخذت منظورًا كونيًّا فيزيقيًّا. وينبغي ألا نستهين
بمبلغ، وعمق، الصدمة التي يمكن أن تسببها هذه التغيرات؛ تلك
التغيرات التي قد تبدو خرافية وعديمة المعنى بالنسبة للحسِّ
المشترك اليومي السليم. لقد كان مستحيلًا على المرء أن يحفظ
نفسه على هذه الارتفاعات بصفةٍ مستمرة؛ فقد كان هذا تحولًا
يلزمه إعادة تقويم دائمة. ربما من جراء هذه المصاعب دأب
الفيلسوف سالستيوس، كما نعرف في كتاب داماسيوس «حياة
إسيدوروس»، على أن يعلن أن الفلسفة غير ممكنة للإنسان. ولعله
قصد بذلك أن الفلاسفة لا يستطيعون البقاء فلاسفة في كل لحظة من
حياتهم، بل إنهم حتى إن كانوا يحتفظون بلقب «فلاسفة» فلا مناص
لهم من اللجوء إلى عادات الحياة اليومية. كان الشُّكَّاك مثلًا
يرفضون قطعًا أن يعيشوا على نحوٍ فلسفي، مختارين عمدًا أن
«يعيشوا مثل كل شخصٍ آخر». غير أنهم لا يفرغون من تحقيق
انعطافٍ فلسفيٍّ شديد حتى يصعب علينا أن نصدق أن «حياتهم
اليومية» كانت «يومية» تمامًا كما يزعمون.
أطروحتنا إذن هي أن الفلسفة في العصر القديم كانت تدريبًا
روحيًّا. أما عن النظريات الفلسفية فكانت إما موضوعة صراحة في
خدمة الممارسة الروحية، مثلما هو الحال في الرواقية
والأبيقورية، وإما كانت تؤخذ كموضوعات للتدريبات الذهنية، أي
لممارسة حياة التفكر التي لا تعدو، في نهاية التحليل، أن تكون
تدريبًا روحيًّا. ولا يمكن فهم النظريات الفلسفية القديمة دون
أخذ ذلك المنظور العياني بالاعتبار، لأنه هو الذي يسبغ على
النظريات معناها الحقيقي.
في ضوء ما قلناه ينبغي علينا عندما نقرأ أعمال الفلاسفة
القدامى أن نولي انتباهًا أكبر للمواقف الوجودية المتبطنة
للصروح المذهبية التي نقابلها. وسواء كان علينا أن نتعامل مع
محاورات كما في حالة أفلاطون، أو تدوين محاضرات كما في حالة
أرسطو، أو رسائل مثل رسائل أفلوطين، أو تعليقات مثل تعليقات
بروكلوس، فإن أعمال الفيلسوف لا يمكن أن تفسَّر دون النظر في
الموقف العياني الذي تولدت عنه. إنها منتجات مدرسةٍ فلسفية،
بأقصى معنًى عياني للكلمة، يقوم فيها أستاذ ﺑ «تشكيل» تلاميذه،
محاولا أن يرشدهم إلى تحويل النفس وتحقيقها. ومن ثم فإن العمل
المكتوب هو انعكاس لشواغل بيداجوجية وسيكاجوجية وميثودولوجية.
٢٢
وبرغم أن كل عمل مكتوب هو مونولوج فإن العمل الفلسفي دائمًا
هو، ضمنيًا، ديالوج. ذلك أن البعد الخاص بالمحاوِر الممكن هو
بعدٌ موجود داخله بصفةٍ دائمة. وهذا يفسر عدم الاتساق
والتناقضات التي يكتشفها المؤرخون المحدثون في أعمال الفلاسفة
القدامى ويستغربون منها. في أعمالٍ فلسفية مثل هذه لا يمكن أن
يمضي الفكر وفق الضرورة المطلقة الخالصة لمنظومةٍ مذهبية، إنما
عليه أن يأخذ بالاعتبار مستوى المخاطب المتحاور والإيقاع
العيني ﻟ «اللوجوس» الذي يُعبَّر فيه. فالاقتصاد الصحيح لأي
«لوجوس» مكتوبٍ معين هو الذي يكيف محتواه الفكري، و«اللوجوس»
هو الذي يشكل منظومةً حية ينبغي، بتعبير أفلاطون، «أن يكون لها
جسدها الخاص … بحيث لا ينقصها رأس أو قدم، ولا بد أن يكون لها
وسط وطرفان، ويكون كلٌّ من تلك الأجزاء مكتوبًا بحيث يناسب
بعضها بعضًا ويناسب الكل» (أفلاطون، محاورة «فايدروس»،
c264).
إن كل «لوجوس» هو «منظومة» (نسق)
System، ولكن مجموع
اللوجوسات التي يكتبها مؤلفٌ ما لا تشكل منظومة. ويظهر هذا
بوضوح في حالة محاورات أفلاطون. على أنه صحيح بنفس الدرجة في
حالة محاضرات أرسطو؛ ذلك أن كتابات أرسطو هي في الحقيقة
محاضراتٌ مدونة لا أكثر ولا أقل. والخطأ الذي وقع فيه كثير من
الأساتذة الأرسطيين هو أنهم تناسوا هذه الحقيقة وتخيلوا، بدلًا
من ذلك، أنها كانت كتيبات أو رسائل نسقية قُصد بها أن تكون
عرضًا كاملًا لمذهبٍ منظم. وقد ترتب على ذلك أنهم كانوا
يندهشون من التناقضات وعدم الاتساق الذي يكتشفونه بين كتابة
وأخرى. وكما بيَّن درينج
Düring، على نحوٍ مقنع، فإن اللوجوسات
المتعددة لأرسطو تُناظر مواقفَ عيانيةً حية خلقتها سجالاتٌ
أكاديميةٌ محددة، وكل درس من دروسه ينتسب إلى ظروفٍ مختلفة
وإلى إشكالية بعينها. إن لكل درس وحدةً داخلية، ولكن محتواه
الفكري لا يتداخل بدقة مع محتوى أي درسٍ آخر. كما أن أرسطو لم
يكن في مقصوده أن يقدم نظامًا كاملًا للواقع، بل كان يريد أن
يدرِّب طلابه في فنية استخدام الطرق الصحيحة في المنطق، وفي
العلوم الطبيعية، وفي الأخلاق. يقدم درينج وصفًا ممتازًا
للطريقة الأرسطية:
«إن أخصَّ الخصائص عند أرسطو شرحه الذي لا ينقطع
للمشكلات. وكل تقرير مهم تقريبًا هو جواب عن سؤال طُرح
بطريقةٍ معينة، وهو صائب فقط كجواب عن هذا السؤال
المعين. الشيء المثير حقًّا في أرسطو هو تأطيره
للمشكلات وليس إجاباته عنها. وإن جزءًا لا يتجزأ من
طريقته البحثية مقاربة مشكلة أو مجموعة مشكلات مرارًا
وتكرارًا من زوايا مختلفة. وتعبيره المأثور هنا هو:
«الآن، نتخذ نقطة بدء مختلفة …» وهو من نقاط بدء
مختلفة يجوس في خطوطٍ مختلفة من الفكر فيصل في النهاية
إلى إجاباتٍ غير متسقة. من أمثلة ذلك نقاشه لموضوع
النفس … ففي كل مرة يأتي الجواب كنتاج للطريقة التي
وَضَع بها المشكلة. وباختصار، يمكننا أن نفسر هذا
النوع من عدم الاتساق كنتائجَ طبيعيةٍ للطريقة التي
يستخدمها.» (درينج، أرسطو والتركة من أفلاطون)
في طريقة «نقاط البدء المختلفة» الأرسطية بوسعنا أن نتبيَّن
الطريقة التي كان يعزوها أرسطوفانيس لسقراط، وقد رأينا إلى أي
مدًى ظل العصر القديم كله مخلصًا لهذه الطريقة. لهذا السبب فإن
وصف درينج يمكن أن ينطبق في الحقيقة، بعد إجراء التغييرات الضرورية،
٢٣ على جميع فلاسفة العصر القديم تقريبًا. مثل هذه
الطريقة، التي تتألف لا من تقديم مذهب بل من تقديم أجوبةٍ
محددة عن أسئلةٍ محددة بدقة، هي الميراث، الباقي طوال العصر
القديم، للطريقة الديالكتيكية، أي للتدريب الحواري.
ولنعد لأرسطو: ثمة حقيقةٌ عميقة في واقعة أن أرسطو نفسه
اعتاد أن يسمي فصوله الدراسية
Methodoi. وفي هذه النقطة،
فضلًا عن ذلك، تنتمي الروح الأرسطية لروح «الأكاديمية
الأفلاطونية» التي كانت، فوق كل شيء، مدرسة تشكِّل تلاميذها من
أجل دورٍ سياسي في النهاية، وكانت معهدًا بحثيًّا تجرى الأبحاث
فيه بروح المناقشة الحرة.
ولعل من الشائق أن نعقد مقارنة بين ميثودولوجيا أرسطو
وميثودولوجيا أفلوطين. نحن نعرف من فرفوريوس أن أفلوطين أخذ
ثيمات كتاباته من المشكلات التي كانت تعرض في فصول تدريسه.
كانت لوجوسات أفلوطين المتعددة، المدرجة داخل إشكاليةٍ محددة
للغاية، هي إجابات عن أسئلة بعينها. وهي مكيَّفة وفق احتياجات
تلاميذه، وهي محاولة لإحداث تأثير سيكاجوجي (حافز/قائد للنفس)
فيهم. وعلينا ألَّا نقع في خطأ تصور أنها فصولٌ متتابعة لعرضٍ
مذهبيٍّ واسع لفكر أفلوطين. في كل «لوجوس» من هذه نصادف المنهج
الروحي الخاص بأفلوطين، غير أن الأمر لا يخلو من التضارب
والتناقض وعدم الاتساق في نقاط التفصيل عندما نقارن المحتوى
المذهبي الخاص بكل رسالة من الرسائل.
عندما نقارب لأول مرة التعليقات الأفلاطونية المحدثة على
أفلاطون يشملنا انطباع بأن شكلها ومضمونها أملتهما حصريًّا
اعتباراتٌ مذهبية وتفسيرية. غير أننا حين نُنعم النظر ندرك، في
كل تعليق، أن المنهج التفسيري والمحتوى المذهبي أملاهما
المستوى الروحي للحضور الذين يوجَّه لهم التعليق. وتأويل ذلك
أن هناك تدفقًا من التعليم الفلسفي قائمًا على التقدم الروحي.
فالنصوص التي تُقرأ للمبتدئين، غير التي تُقرأ للمتقدمين، غير
التي تُقرأ لمن بلغوا الاكتمال. والمفاهيم التي تظهر في
التعليقات هي أيضًا تمليها القدرات الروحية للمخاطَبين. يترتب
على ذلك أن المحتوى المذهبي يمكن أن يتفاوت كثيرًا من تعليق
إلى آخر، حتى عندما يكتبه نفس المؤلف. ليس يعني ذلك أن المعلق
قد غيَّر مذاهبه، بل أن احتياجات تلامذته كانت مختلفة. من ذلك
أنه في الجنس الأدبي المسمى
Parenesis المستخدم لنصح
المبتدئين، يجوز للمرء لكي يبث تأثيرًا معينًا في روح المخاطب
أن يستخدم حججًا من مدرسةٍ أخرى منافسة، فيقول الرواقي مثلًا
«حتى إذا كانت اللذة هي الخير بالنسبة للنفس (كما يذهب
الأبيقوريون) فإن علينا أن نُطهِّر أنفسنا من الانفعال.» وقد
وعظ ماركوس أوريليوس نفسه بذات الطريقة؛ فهو يقول: «إذا كان
العالم مجرد تجمع للذرات، كما يذهب الأبيقوريون، فالموت إذن
ليس بالشيء المخيف» (ماركوس أوريليوس، التأملات، ٩–٣٩).
وفضلا عن ذلك ينبغي ألا ننسى أن كثيرًا من البراهين الفلسفية
لا تستمدُّ قوتها البرهانية من التعقل المجرد بقدر ما تستمدها
من خبرةٍ معينة هي في الوقت نفسه تدريبٌ روحي. وقد رأينا أن
هذا هو الحال بالنسبة للبرهان الأفلوطيني على خلود النفس. فقد
قال أفلوطين دع النفس تمارس الفضيلة ولسوف تفهم هي أنها خالدة.
ونجد مثالًا شبيهًا عند الكاتب المسيحي أوغسطين في كتابه
«في
الثالوث» On the Trinity يقدم أوغسطين سلسلة من الصور
السيكولوجية ﻟ «الثالوث» التي لا تشكل منظومةً متسقة، والتي
كانت بالتالي مصدر اضطرابٍ كبير للمعلِّقين عليه. إلا أن
أوغسطين، في حقيقة الأمر، لا يحاول في ذلك أن يقدِّم نظريةً
منظومية لمماثلاتٍ ثالوثية، بل يريد، من خلال جعل النفس تنعكس
داخليًّا على نفسها، أن يجعلها «تخبر» حقيقة أنها صورة
للثالوث. وبحسب تعبيره: «هذه الثالوثات تحدث داخلنا و«تكوِّن»
داخلنا، عندما نتذكر، وننظر إلى، ونرغب في، مثل هذه الأشياء»
(أوغسطين، «في الثالوث»). إنما في الفعل الثلاثي: تذكُّر الرب،
ومعرفة الرب، ومحبة الرب، تكتشف النفس ذاتها كصورة
للثالوث.
من خلال الأمثلة السابقة قد تستوي لدينا فكرةٌ ما عن التغير
في المنظور الذي قد يحدث في قراءتنا وتأويلنا للأعمال الفلسفية
للعصر القديم عندما ننظرها من زاوية ممارسة التدريبات الروحية.
هنالك تظهر الفلسفة في جانبها الأصيل؛ لا كبناءٍ نظري، بل
كطريقة لتدريب الناس على العيش والنظر إلى العالم بطريقةٍ
جديدة. إنها محاولة لتحويل الجنس البشري. وقلَّما يميل مؤرخو
الفلسفة المعاصرون اليوم إلى الالتفات إلى هذا الجانب رغم أنه
جانبٌ جوهري. ومردُّ ذلك إلى أنهم، إذعانًا للتقليد الموروث من
العصور الوسيطة ومن العهد الحديث، يعتبرون الفلسفة نشاطًا
نظريًّا تجريديًّا خالصًا. ولنتذكرْ باختصار كيف أتى هذا
التصور إلى الوجود.
يبدو أنه نتيجة امتصاص المسيحية للفيلوصوفيا: لقد قدمت
المسيحية نفسها منذ البداية على أنها فيلوصوفيا بقدر ما تمثلت
في ذاتها الممارسات التقليدية للتدريبات الروحية. نرى ذلك يحدث
عند كلمنت السكندري، وأوريجين، وأوغسطين، والنزعة الرهبانية.
إلا أنه بمجيء المدرسية (السكولائية) الوسيطة نجد تمييزًا
واضحًا يرسم بين «الثيولوجيا» (اللاهوت) و«الفيلوصوفيا». أصبح
اللاهوت واعيًا باستقلاله كعلمٍ أسمى، بينما فرغت الفلسفة من
تدريباتها الروحية التي ستُحال، منذ الآن فصاعدًا، إلى التصوف
المسيحي والأخلاق. منذ ذلك الحين انخفضت مرتبة الفلسفة إلى
«وصيفة اللاهوت» وصار دورها أن تزود اللاهوت بالمادة التصورية،
ومن ثم النظرية الخالصة. وعندما استعادت الفلسفة استقلالها في
العصر الحديث، فقد ظلت ملامح كثيرة وموروثة من هذا التصور
القروسطي ظلت ملازمة لها. لازمها بالأخص طابعها النظري الخالص،
بل تطور هذا الطابع في اتجاه مزيد من التنظيم المذهبي. وليس
قبل مجيء نيتشه وبرجسون والوجودية تعود الفلسفة عودة واعية إلى
كونها موقفًا حياتيًّا، طريقة للعيش ولرؤية العالم. غير أن
المؤرخين المعاصرين للفكر القديم ظلوا، بصفةٍ عامة، أسرى
التصور النظري الخالص عن الفلسفة. كما أن الميول البنيوية Structuralist المعاصرة لا
تحملهم على أن يصححوا هذا التصور الخاطئ، إذ إن التدريبات
الروحية تُدخِل في الحسبان مكونًا ذاتيًّا ومتغيرًا وديناميًّا
لا يلائم نماذج التفسير الخاصة بالبنيويين.
لقد عدنا الآن إلى الفترة المعاصرة وإلى النقطة التي بدأنا
منها؛ إلى أسطر فريدمان التي اقتبسناها في بداية هذه الدراسة.
لقد حاولنا أن نجيب أولئك الذين، مثل فريدمان، يسألون أنفسهم:
كيف يمكن أن نمارس التدريبات الروحية في القرن العشرين؟ حاولنا
ذلك بتذكر وجود تراثٍ غربيٍّ ثري ومتنوع للغاية. فلا مجال
بالطبع للمحاكاة الآلية لمخططاتٍ نمطية. وعلى كل حال، ألم
يحثَّ سقراط وأفلاطون تلاميذهم على إيجاد الحلول التي يحتاجون
إليها بأنفسهم؟ ولكنا لا يسعنا أن نغفل هذا الكم القيم من
الخبرة، المتراكمة عبر الألفيات. ولكي نقدم مثالًا واحدًا نذكر
أن الرواقية والأبيقورية يبدوان بالفعل مناظرَين لقطبَين
متضادَّين ولكنْ متلازمَين لحياتنا الداخلية؛ التوتر
والاسترخاء، الواجب والصفاء، الضمير الأخلاقي وفرح
الوجود.
يقول فوفنارجس Vauvenargues: «الكتاب الجديد حقًّا والأصيل حقًّا
هو الكتاب الذي جعل الناس تحب الحقائق القديمة» (فوفنارجس،
«تأملات ومبادئ»). وأرجو أنني كنت «جديدًا حقًّا وأصيلًا
حقًّا» بهذا المعنى، حيث إن هدفي كان حقًّا أن أجعل الناس تحب
بضع حقائقَ قديمة. حقائق قديمة: … ثمة بعض الحقائق لن ينضب
معناها أبدًا عبر أجيال البشر؛ ليس لأنها صعبة، فهي على العكس
بسيطة للغاية في الأغلب، بل كثيرًا ما تبدو تافهة؛ ولكن لكي
يفهم معنى هذه الحقائق القديمة يجب أن تُعاش، وتُعاد معايشتها
على الدوام. وعلى كل جيل أن يتولى، من الصفر، مهمة تعلم قراءة
«الحقائق القديمة»، وإعادة قراءتها.
نحن نقضي أعمارنا «نقرأ»، أي نجري تفسيرات، بل وأحيانًا
تفسيرات لتفسيرات. ينبئنا إبكتيتوس عن رأيه في مثل هذه
الأنشطة:
«تعال واستمعْ إليَّ أقرأ تعليقاتي … سوف أشرح لك
خريسبوس كما لا يستطيع أحدٌ غيري، وسوف أقدِّم لك
تحليلًا كاملًا لنصِّه كله … بل أستطيع إذا لزم الأمر
أن أُضيف آراء أنتيباتر وأرخيميدوس … ترى لهذا الغرض
إذن يتعين على الشباب أن يتركوا أوطانهم وأوطان آبائهم
لكي يأتوا ويستمعوا إليك تفسر ألفاظًا؟ ألفاظًا صغيرةً
تافهة؟!» (إبكتيتوس، المحادثات)
إلا أننا نسينا كيف نقرأ، كيف نتوقف ونحرر أنفسنا من
شواغلنا، ونعود إلى أنفسنا، ونتخلى عن بحثنا عن الحذق والجدة،
لكي نتأمل بهدوء ونجترَّ ونترك النصوص تتحدث إلينا.
٢٤ هذا أيضًا تدريبٌ روحي، وواحد من أصعب التدريبات.
يقول جوته: «لا يعرف عامة الناس كم يلزم من الوقت والجهد لكي
تتعلم كيف تقرأ. لقد سلختُ ثمانين عامًا في ذلك، ولا أحسبني
وصلتُ إلى بغيتي» (جوته، «محادثات مع إكرمان»).