الفصل الرابع
التدريبات الروحية القديمة والفلسفة
المسيحية
كان الفضل الكبير لباول رابو أنه بيَّن في كتابه
Seelenführung (الإرشاد
الروحي) بأي معنًى كانت طرق التأمل المقدَّمة والممارسة في كتاب
القديس إغناطيوس من لويولا «تدريبات روحية» متجذرة بعمق في
التدريبات الروحية للفلسفة القديمة. يبدأ رابو كتابه بعرض مختلف
التكنيكات التي توسل بها البلاغيون خلال العصر القديم لإقناع
مستمعيهم. شملت هذه التكنيكات، مثلا، التضخيم الخطابي والوصف
المثير الحي للأحداث. ويقدم رابو، فوق كل شيء، تحليلًا رائعًا
للتدريبات التي كان يمارسها الرواقيون والأبيقوريون، مؤكدًا فكرة
أنها كانت تدريباتٍ «روحية» من نفس النوع الذي نجده عند إغناطيوس
من لويولا. وعلى هاتين النقطتَين فتح كتاب رابو الطريق إلى مناطقَ
جديدة من البحث. على أن المؤلف نفسه ربما لم يتوقع كل النتائج التي
ترتبت على اكتشافه.
يبدو لي أولًا أن رابو ربط ظاهرة التدريبات الروحية ربطًا وثيقًا
جدًّا بما يسميه «التوجه الداخلي» Inward
Orientation (Innenwendung)، الذي يزعم أنه
استجدَّ في الذهنية اليونانية في القرن الثالث ق.م.، وعبر عن نفسه
في نشأة المدرستَين الرواقية والأبيقورية. غير أن هذه الظاهرة كانت
أوسع انتشارًا من ذلك بكثير؛ فبإمكاننا أن نتبيَّن خطوطها العريضة
في المحاورات السقراطية/الأفلاطونية؛ وقد استمرت قدمًا حتى نهاية
العصر القديم. وتأويل ذلك أنها مرتبطة بجوهر الفلسفة القديمة ذاته.
إن الفلسفة نفسها هي ما ارتآه القدماء كتدريبٍ روحي.
وإذا كان رابو يحصر التدريبات الروحية في الفترة
الهلينستية/الرومانية فربما لأنه يقتصر على النظر في جانبها
الأخلاقي فقط. كما أنه لا يتناول الأخلاق إلا في فلسفات من مثل
الرواقية والأبيقورية التي يظهر أنها تولي الصدارة في تعاليمها
للمسائل الأخلاقية. الحق أن رابو قد غالى في ذلك إلى حد تعريف
التدريبات الروحية كتدريباتٍ أخلاقية:
«نعني ﺑ «التدريب الأخلاقي» إجراءً أو فعلًا محددًا
يُقصَد به أن يؤثر في المرء، ويجرى بهدفٍ صريح هو تحقيق
تأثيرٍ أخلاقيٍّ محدد. وهو دائما يأمل فيما يتجاوز ذاته
بقدر ما يكرر نفسه، أو هو على الأقل موصول بأفعالٍ أخرى
لكي يشكل معها طاقمًا منهجيًّا.» (رابو، «الإرشاد
الروحي»)
ويمضي رابو قائلًا إنه
بقدوم المسيحية تحوَّلت هذه التدريبات الأخلاقية إلى تدريباتٍ
روحية:
«التدريبات الروحية، إذن، التي تشبه التدريبات الأخلاقية
كالتوءم، في الجوهر والبنية معًا، بلغت أوجها الكلاسيكي
وكمالها في «التدريبات الروحية» لإغناطيوس من لويولا.
التدريبات الروحية بذلك تنتمي حقًّا إلى المجال الديني، إذ
إن هدفها هو أن تقوِّي، وتحفظ وتجدِّد، الحياة «في الروح» In the Spirit.»
(رابو، الإرشاد الروحي)
أخذت التدريبات الروحية المسيحية حقًّا معنًى جديدًا بفضل الطابع
الخاص للروحية المسيحية، المستلهِمة لموت المسيح والحياة الثالوثية
للقديسين؛ ولكن أن تتحدث فيما يتعلق بالتدريبات الفلسفية للعصر
القديم عن «تدريبات أخلاقية» بسيطة؛ هو أن تسيء فهم أهميتها
ودلالتها. فهذه التدريبات، كما بينَّا آنفًا، كانت تتغيَّا تحويل
رؤيتنا للعالم وتحويل وجودنا؛ ولم تكن لها من ثم مجرد قيمةٍ
أخلاقية بل قيمةٌ وجودية أيضًا. لسنا هنا بإزاء مدونة للسلوك
الأخلاقي القويم بل بإزاء «طريقة وجود» بالمعنى الأتم للكلمة؛ لذا
فإن مصطلح «تدريبات روحية»، في النهاية، هو الأفضل؛ لأنه لا يدع
مجالًا للشك بأننا بإزاء تدريبات تشمل كلية النفس.
ثانيًا، يتلقَّى المرء الانطباع من قراءة رابو بأن إغناطيوس من
لويولا أعاد اكتشاف التدريبات الروحية بفضل نهضة القرن السادس عشر
في الدراسات البلاغية؛ غير أن البلاغة عند القدماء، في الحقيقة،
كانت مكوِّنًا واحدًا من مكوناتٍ كثيرة للتدريبات التي كانت، أولًا
وأخيرًا، «فلسفية» بالمعنى الصارم للكلمة. وفضلًا عن ذلك فمنذ
القرون الأولى لوجود الكنيسة كانت الروحية المسيحية وريثة الفلسفة
القديمة وتدريباتها الروحية، وعليه فلم يكن ثمة حائل بين إغناطيوس
وبين أن يجد الميثودولوجيا ﻟ
«تدريباته» داخل التراث المسيحي نفسه. وفي الصفحات التالية نأمل أن
نبين، بالاستعانة ببضعة اقتباسات، كيف حُفظت التدريبات الروحية
القديمة ونُقلت بواسطة تيار بأكمله من الفكر المسيحي القديم: أي
ذلك التيار الذي كان يُعرِّف المسيحية نفسها كفلسفة.
وقبل أن نبدأ دراستنا يجب أن نكون أكثر تحديدًا حول فكرة
التدريبات الروحية. فكلمة Exercise
(تدريب) تقابل اللفظتين اليونانيتين
Askesis أو
Melete. ولنكن واضحين في
البداية حول حدود بحثنا الحالي: فنحن لن نعرض ﻟ «الزهد» (التقشف)
Asceticism بالمعنى الحديث
للكلمة، مثلما يعرفها هيوسي Heussi مثلا: «الامتناع التام عن، أو الإقلال من،
الطعام والشراب والنوم واللباس والملكية، والتعفف بصفةٍ خاصة في
الأمور الجنسية.» وهنا ينبغي أن نميز بدقة بين ظاهرتَين مختلفتَين:
من جهة هناك الاستعمال المسيحي (والحديث بالتالي) لكلمة «زهد»، كما
رأيناها تُعرَّف للتو، ومن الجهة الأخرى هناك استخدام لفظة
Askesis في الفلسفة القديمة.
كانت لفظة Askesis عند الفلاسفة
القدامى تطلق حصريًّا على التدريبات الروحية التي عرضنا لها آنفا:
نشاطاتٌ داخلية للفكر والإرادة. أما هل كان ثمة، أو لم تكن،
ممارساتٌ غذائية أو جنسيةٌ مماثلة للزهد المسيحي بين فلاسفةٍ قدامى
معينين (الكلبيين مثلا أو الأفلاطونيين المحدَثين) فتلك مسألةٌ
مختلفة تمامًا. فمثل هذه الممارسات لا صلة لها بتدريبات الفكر
الفلسفية. وقد أفاض كثير من المؤلفين في هذه المسألة، وبينوا أوجه
التشابه والاختلاف بين الزهد (بالمعنى الحديث للكلمة) في الفلسفة
القديمة وفي المسيحية. أما الذي نقترح فحصه هنا فهو كيف تلقَّت
المسيحية اﻟ Askesis (بالمعنى
«الفلسفي» للفظة).
لكي نفهم الظاهرة قيد البحث فإن من الضروري أن نذكر أنه كان ثمة
تقليدٌ مسيحي واسع الانتشار يصور المسيحية على أنها «فلسفة». بدأ
هذا التمثل مع أولئك الكتاب المسيحيين في القرن الثاني الذين يطلق
عليهم عادة
Apologists
(المدافعون/الدفاعيون)، وبخاصة مع جوستن
Justin. اعتبر «المدافعون» أن المسيحية فلسفة.
ولكي يبينوا تعارضها مع الفلسفة اليونانية فقد تحدثوا عن المسيحية
بوصفها «فلسفتنا» أو بوصفها «فلسفة غير يونانية»
Barbarian Philosophy.
١ غير أنهم لم يعتبروا المسيحية مجرد فلسفة بين غيرها من
فلسفات، بل رأوا المسيحية على أنها «الفلسفة»، ورأوا أن ما كان
متناثرًا ومبعثرًا خلال الفلسفة اليونانية قد تم تجميعه وتنظيمه في
الفلسفة المسيحية، وكتبوا أن كل فيلسوفٍ يوناني لم يمتلك إلا قسمًا
من اللوجوس، بينما امتلكت المسيحية اللوجوس نفسه، متجسدًا في يسوع
المسيح. وإذا كان التفلسف هو أن تعيش وفقًا لقانون العقل،
فالمسيحيون إذن فلاسفة؛ إذ كانوا يعيشون وفقًا لقانون اللوجوس
الإلهي (جوستن، «الدفاع»).
وقد أفاض كلمنت السكندري في هذه الثيمة. وهو يقيم صلةً وثيقة بين
الفلسفة و«البيديا» Paideia التي
يعني بها تعليم الجنس البشري. صحيح أنه داخل الفلسفة اليونانية كان
اللوجوس، أو المعلم الإلهي، يقوم بعمله في تعليم البشرية، إلا أن
المسيحية نفسها، بوصفها الوحي الكامل للوجوس، كانت هي الفلسفة
الحقيقية، «التي تعلمنا أن نسلك بحيث يمكن أن نشبه الرب، وأن نتقبل
الخطة الإلهية Oikonomia بوصفها
المبدأ المرشد لتعليمنا كله» (كلمنت السكندري، «متفرقات»
Stromata).
كان توحد المسيحية مع
الفلسفة الحقيقية ملهمًا لجوانبَ كثيرة من تعليم أوريجين، وظل
مؤثرًا خلال التراث الأوريجيني، وبخاصة بين الآباء الكبادوكيين:
بازل من سيزاريا، وجريجوري نازيانزن، وجريجوري من نيسا. وهو أيضًا
ثابت عند جون كريسوستوم. يتحدث كل هؤلاء الكتاب عن «فلسفتنا»، أو
عن «الفلسفة الكاملة»، أو عن «الفلسفة وفقًا للمسيح».
يمكننا أيضًا أن نسأل أنفسنا هل كان مثل هذا التوحد مشروعًا، وأن
نتساءل ألم يسهم إلى حدٍّ كبير في «هلننة»
Hellenization٢ المسيحية؛ تلك الهلننة المشهرة التي كتب عنها الكثير.
وأنا لن أوغل هنا في هذه المشكلة المعقدة، بل سأقتصر على تبيان أن
تصوير المسيحية كفلسفة — هذا التقليد كان وريثًا، عن وعي بالتأكيد
— لنزوع كان ساريًا بالفعل في التراث اليهودي، وبخاصة عند فيلون
السكندري. فقد كان فيلون السكندري يصور اليهودية على أنها
Patrios Philosophia: أي
الفلسفة التقليدية للشعب اليهودي. والمصطلح نفسه كان يستعمل من
جانب فلافيوس جوسيفوس.
وعندما جاء النظام الرهباني بعد بضعة قرون لكي يمثل ذروة الكمال
المسيحي، فهو أيضًا أمكن تصويره ﮐ «فلسفة». هكذا بالضبط كان يصوَّر
في الحقيقة، منذ القرن الرابع فصاعدًا، من جانب آباء الكنيسة أمثال
جريجوري نازيانزن، وجريجوري من نيسا، وجون كريسوستوم، وبخاصة
إفاجريوس بونيكوس. وكان هذا الرأي لا يزال سائدًا في القرن الخامس،
عند Theodoret of Cyrrhus على سبيل
المثال.
هنا أيضًا كان فيلون السكندري
هو من بيَّن الطريق. لقد منح اسم «فلاسفة» لأولئك «الثرابيوتي» Therapeutae الذين كانوا،
وفقًا لوصفه، يعيشون في وحدة، ويتأملون في القانون، ويكرِّسون
أنفسهم للتفكر. وقد أوضح جين ليكليرك أن الحياة الرهبانية، تحت
تأثير التراث اليوناني، ظلت تُنعت باسم «فيلوصوفيا» طوال العصور
الوسيطة. من ذلك أن نصًّا رهبانيًّا سيسترشيانيًّا ينبئنا بأن
برنارد من كليرفو دأب على أن يسلك تلاميذه «في أنظمة الفلسفة
السماوية». كما أن جون من سالسبري ذهب إلى أن الرهبان هم من
«تفلسف» بالطريقة الأكثر صوابًا وأصالة.
إن أهمية هذا التمثُّل بين المسيحية والفلسفة هي شيء لا يطاله
شك. ولكن لنكنْ واضحين في نقطة معينة؛ أنه لا سبيل إلى إنكار
الأصالة الفريدة للمسيحية. وسوف نعود إلى هذه النقطة لاحقًا، وسوف
نؤكد بخاصة على الطابع المسيحي المميز لهذه «الفلسفة»، وعلى اهتمام
المسيحيين بربطها بالتعاليم الإنجيلية/الإفانجليكانية. كما أن
الميل إلى التمثُّل كان محصورًا داخل حدودٍ تاريخيةٍ محددة،
ومتصلًا دائمًا، اتصالًا وثيقًا إلى حدٍّ ما، بتعاليم الدفاعيين
وتعاليم أوريجين. على أن هذا الميل كان قائمًا بالفعل؛ وكانت
أهميته كبيرة، وكانت نتيجته هي إدخال التدريبات الروحية الفلسفية
في المسيحية.
وبالإضافة إلى تشرُّبها للتدريبات الروحية فقد اكتسبت المسيحية
أسلوبًا محددًا للحياة، وموقفًا روحيًّا محددًا، ونبرةً خاصة لا
وجود لها في المسيحية البدائية. ولهذه الحقيقة دلالةٌ كبيرة؛ فهي
تثبت أنه إذا كانت المسيحية قادرة على تمثُّل فلسفة فلأن الفلسفة
نفسها كانت، من الأصل وفوق كل شيءٍ آخر، طريقة وجود وأسلوب حياة.
وكما أشار جين ليكليرك: «في العصور الوسيطة الرهبانية، مثلما في
العصر القديم بالضبط، لم تكن الفيلوصوفيا اسمًا لنظرية أو لوسيلة
معرفة، بل كانت حكمة تمارَس وتعاش، وطريقة للعيش وفقًا للعقل»
(ليكليرك، «للتاريخ»).
وقد أشرنا آنفا إلى أن الموقف الأساسي للفيلسوف الرواقي هو
«الانتباه» Prosoche: انتباه المرء
لنفسه والتيقظ في كل لحظة. الشخص اليقظ عند الرواقيين هو دائمًا
على وعيٍ كامل لا بما «يفعل» فحسب بل بما «يكون». هو، بعبارةٍ
أخرى، على دراية بمكانه في العالم وعلاقته بالله. إن وعيه الذاتي
هو قبل كل شيء وعيٌ أخلاقي.
ومن وُهب مثل هذا الوعي فإنه يسعى إلى تطهير مقاصده وتصحيحها في
كل حين، وهو بالمرصاد دومًا لأية دلائل داخل نفسه على أي دافع
للفعل غير إرادة فعل الخير. غير أن هذا الوعي الذاتي ليس مجرد وعيٍ
أخلاقي، فهو أيضًا وعيٌ كوني. يعيش الشخص «المنتبه» في حضرة الرب
على الدوام، ومتذكرًا للرب على الدوام، وراضيًا في ابتهاج بإرادة
عقل العالم، وناظرًا كل الأشياء بأعين الرب نفسه.
هذا هو الموقف الفلسفي بامتياز. وهو أيضًا موقف الفيلسوف
المسيحي. ونحن نصادف هذا الموقف بالفعل لدى كلمنت السكندري، في
فقرة تؤذن بالروح الذي سوف يسيطر فيما بعدُ على المذهب الرهباني
المستلهم للفلسفة: «من الضروري للقانون الإلهي أن يبثَّ الخوف، عسى
أن يكتسب الفيلسوف، ويحفظ، السلام العقلي
Amerimnia، بفضل الحصافة
Eulabeia والانتباه لنفسه
Prosoche، وعسى أن يظل معفًى
من الخطايا والسقوط في كل الأشياء» (كلمنت السكندري، «متفرقات»).
والقانون الإلهي عند كلمنت هو القانون الكلي للفلاسفة والكلمة
الإلهية للمسيحيين في آنٍ معا. وهو يلهم الخوف لا بالمعنى
الانفعالي — الذي يدينه الرواقيون كانفعال — بل بمعنى احتراسٍ معين
في الفكر والفعل. هذا الانتباه إلى النفس يجلب السلام العقلي، وهو
من أهم الأهداف المرجوَّة لدى المذهب الرهباني.
والانتباه للنفس هو موضوع موعظةٍ بالغة الأهمية لبازل من
سيزاريا. يبني بازل (بازيليوس) موعظته على النسخة اليونانية لفقرة
من سفر التثنية: «احترز من أن يكون مع قلبك كلامٌ لئيم» (التثنية،
١٥: ٩). وعلى هذه القاعدة يقيم بازل نظريةً كاملة ﻟ «الانتباه»
Prosoche، متأثرة بشدة
بالتعاليم الرواقية والأفلاطونية. وسوف نعود لهذه النقطة لاحقًا،
أما الآن فلنلحظْ ببساطة أن سبب تعليق بازل على هذه الفقرة من سفر
التثنية هو أنه يراها تستحضر مصطلحًا تقنيًّا للفلسفة القديمة.
الانتباه إلى النفس، عند بازل، عبارة عن إيقاظ المبادئ العقلانية
للفكر والفعل التي وضعها الله في أرواحنا. علينا أن نراقب
«أنفسنا»، أي روحنا، وليس جسمنا أو ممتلكاتنا. هكذا يتألف اﻟ
Prosoche من الانتباه إلى جمال
أرواحنا بتعهده بالتجديد الدائم لتمحيص ضميرنا ومعرفتنا بأنفسنا.
وبهذا الفعل يمكننا أن نصحح الأحكام التي نبرمها على أنفسنا. إذا
كنا نرى أننا أثرياء ونبلاء فإن علينا أن نتذكر أننا مجبولون من
تراب، وأن نسأل أنفسنا أين الرجال الأماجد الذين سبقونا أين هم
الآن. وإذا كنا، على العكس، فقراء ومطرودين فإن علينا أن نتبين
الثروات والروائع التي يقدمها لنا الكون: جسمنا، الأرض والسماء
والنجوم، ولسوف نتذكر عندئذٍ مهمتنا المقدسة. ليس من الصعب تبيُّن
الطابع الفلسفي لهذه الثيمات.
الانتباه إلى النفس، الموقف الأساسي للفيلسوف، أصبح الموقف
الأساسي للراهب. يمكننا أن نلاحظ هذه الظاهرة في كتاب أثناسيوس
«حياة أنتوني»، الذي كتبه عام ٣٣٧م. عندما يصف أثناسيوس تحول
القديس إلى حياة الرهبنة يقول ببساطة:
«لقد بدأ يولي انتباهًا لنفسه».
ونقرأ لاحقًا أن أنتوني نفسه يفترض أنه قال لتلاميذه على فراش
موته: «عيشوا كما لو أنكم تموتون كل يوم، منتبهين لأنفسكم ومتذكرين
لما سمعتموه من تبشيري.»
في القرن السادس كتب دوروثيوس من جازا: «نحن مهملون لدرجة أننا
لا نعرف لماذا خرجنا من العالم … لهذا السبب لا نحقق تقدمًا … ذلك
لأننا ليس لدينا انتباه في قلوبنا». وكما قد رأينا فالانتباه
والتيقُّظ يفترضان مسبقًا التركيز المستمر على اللحظة الحاضرة،
التي يجب أن تُعاش كما لو كانت اللحظة الأولى والأخيرة في الحياة
في آنٍ معًا. ينبئنا أثناسيوس أن أنتوني اعتاد ألا يحاول تذكُّر
الزمن الذي قضاه في تدريباته بل كان يبذل جهدًا جديدًا تمامًا كل
يوم كأنما يبدأ من جديد من الصفر (أثناسيوس، «حياة أنتوني»).
وبعبارةٍ أخرى كان يعيش كل لحظةٍ حاضرة كما لو كانت لحظته الأولى،
ولحظته الأخيرة أيضًا. وقد رأينا أيضًا أن أنتوني قال لتلاميذه
«عيشوا كما لو أنكم تموتون كل يوم.» ويسجل أثناسيوس قولًا آخر
لأنتوني: «إذا عشنا كأننا سنموت كل يوم فلن نرتكب خطيئة.» علينا أن
نقوم من نومنا وفي حسباننا أننا قد لا نشهد المساء، وأن نذهب إلى
النوم وفي حسباننا أننا قد لا نقوم منه. وقد كان إبكتيتوس يتحدث
بنفس النبرة وينسج على نفس المنوال: «ضع الموت نصب عينَيك ولن تفكر
أبدًا في أي شيءٍ دنيء ولن تتوق إلى أي شيء توقًا زائدًا عن الحد»
(إبكتيتوس، المختصر ٢١).
ويقول ماركوس أوريليوس عازفًا على نفس الوتر: «ربما تغادر الحياة
في أية لحظة. فلتضعْ هذا الاحتمال نصب عينَيك في كل ما تفعل أو
تقول أو تفكر به» (التأملات، ٢–١١). ودوروثيوس من جازا أيضًا يعقد
رباطًا وثيقًا بين «الانتباه» و«وشوك الموت»: «لننتبهْ لأنفسنا يا
إخوتي ولنكن أيقاظًا ونحن لا نزال نملك وقتًا … انظروا! منذ جلسنا
في هذا المؤتمر فقد أنفقنا ساعتَين أو ثلاثًا من عمرنا، واقتربنا
بنفس القدر من الموت. ولكن رغم رؤيتنا أننا نفقد الوقت فنحن لا
نرعوي»، ومرةً أخرى: «لننتبه لأنفسنا ولنكن أيقاظًا يا إخوتي. من
سوف يردُّ لنا الوقت الحاضر إذا نحن أضعناه؟» (دوروثيوس من جازا،
«تعاليم».)
والانتباه إلى الحاضر هو في الوقت ذاته سيطرة المرء على أفكاره،
وقبوله للإرادة الإلهية وتنقية نياته تجاه الغير. ولدينا ملخصٌ
ممتاز لهذا الانتباه الدائم إلى الحاضر في تأملٍ شهير من تأملات
ماركوس أوريليوس:
«أينما كنت ووقتما كنت فإن بوسعك أن تمجد الله راضيًا
بحالك، وبما يحدث في اللحظة الحاضرة، وأن تعامل من معك من
الناس هنا والآن بالعدل، وأن تنعم النظر في كل انطباعٍ
راهن في عقلك بحيث لا تدع شيئًا يفلت من منال فهمك.»
(التأملات، ٧–٥٤)
ونحن نصادف نفس اليقظة المستمرة للأفكار والنوايا في الروحية
الرهبانية، حيث تحولت إلى «مراقبة القلب»، وتعرف أيضًا ﺑ
Nepsis أو اليقظة. ولسنا هنا
بإزاء مجرد تدريب للضمير الأخلاقي؛ فالانتباه إنما يعيد وضع
الإنسان داخل كينونته الأصيلة: أي علاقته بالله؛ وهو بالتالي مكافئ
لتدريبٍ مستمر لوجود الله. وبتعبير فرفوريوس تلميذ أفلوطين: «ليكن
الله حاضرًا لديك رقيبًا وحارسًا لكل فعل، وعمل، وكلمة!»
(فرفوريوس، إلى مارسيلا). ها نحن بإزاء ثيمةٍ أساسية للانتباه
الفلسفي: الحضور تجاه الله والنفس معًا.
«لتكنْ بهجتك وراحتك في
شيءٍ واحد: أن تمضي من عملٍ اجتماعي إلى عملٍ اجتماعي آخر، والله
في خاطرك وضميرك» (التأملات، ٦-٧). هذا التأمل لماركوس أوريليوس
يتصل، مرةً أخرى بثيمة التدريبات المتضمَّنة لحضور الله. وهو في
الوقت نفسه يقدم لنا تعبيرًا سيلعب فيما بعدُ دورًا مهمًّا في
الروحية الرهبانية. ﻓ «تذكر الله» هو الرجوع الدائم إلى الله في كل
لحظة من الحياة، ويربطه بازل من سيزاريا ربطًا صريحًا ﺑ «مراقبة
القلب»: «علينا أن نظل نراقب قلبنا بكل يقظة … لكي نتجنب أن ننسى
الله على الإطلاق». وكثيرًا ما يستحضر ديادوكوس من فوتيكي هذه
الثيمة؛ فتذكُّر الله بالنسبة إليه مكافئ تمامًا للانتباه: «لا
يعرف تقصيره إلا من لا يترك ذهنه ينشغل عن تذكر الله.» «منذ ذلك
الحين (أي منذ سقوطه) لا يستطيع الذهن البشري، إلا بصعوبة، أن
يتذكر الله وأوامره.» علينا أن:
«نغلق منافذ الهرب أمام الذهن، عن طريق تذكر
الله.
إن ما يميز الإنسان الذي هو صديق الفضيلة هو أنه يبدِّد
على الدوام كل شيءٍ أرضي في قلبه عن طريق تذكُّر الله،
بحيث إن الشر فيه يتبدَّد شيئًا فشيئًا بلهب تذكُّر «الخير
الأسمى»، وتعود روحه إلى كامل بريقها الطبيعي، بل إلى
بهاءٍ أعظم.» (ديادوكوس من فوتيكي، «كيفالايا جنوستيكا»
شذور غنوصية)
من الواضح أن تذكُّر الله هو، بمعنًى ما، جوهر الانتباه ذاته.
إنه الطريقة الأكثر حسمًا لضمان حضور المرء تجاه الله وتجاه نفسه.
غير أن النوايا الغامضة ليست كافية للانتباه الحقيقي إلى النفس،
فقد لاحظنا أن ديادوكوس من فوتيكي يتحدث عن «تذكُّر الله وأوامره».
وفي الفلسفة القديمة أيضًا كان «الانتباه» يقتضي تأمُّل، وتذكُّر،
قواعد الحياة (
Kanones)، تلك
المبادئ التي يجب أن تطبَّق في كل ظرفٍ معين، في كل لحظة من
الحياة. وقد كان لزامًا أن تكون لدى المرء مبادئ الحياة،
«المبادئ»
Dogmas٣ الأساسية، طوع يده.
ونحن نصادف هذه الثيمة نفسها مرةً أخرى في التراث الرهباني. غير
أن المبادئ الفلسفية هنا استُبدلت بها «الوصايا» Commandments كقاعدةٍ
إفانجليكانية للحياة، وكلمات المسيح مُفصِحة عن مبادئ الحياة
المسيحية. غير أن قاعدة الحياة كان يمكن استلهامها ليس فقط من
الوصايا الإفانجليكانية بل أيضًا من كلمات «القدماء»، أي من
الرهبان الأوائل. ويكفي أن نتذكر أنتوني، على فراش موته، وهو يوصي
تلاميذه بتذكُّر مواعظه. ويقول إفاجريوس بونتيكوس: «من الضروري
جدًّا أن تتأمل بعناية طرق الرهبان الذين ترحَّلوا، في زمنٍ أقدم،
على الصراط السوي، وأن تقتفي نفس المسالك.»
كانت الوصايا الإفانجليكانية وكلمات القدماء متمثلة في هيئة جملٍ
قصيرة، تلك التي يمكن، كما في التراث الفلسفي، تذكرها بسهولة
والتأمل فيها. وإن المجموعات العديدة من اﻟ
Apophthegmata ومن اﻟ
Kephalaia التي نجدها في الأدب
الرهباني هي استجابة لهذه الحاجة إلى التذكر والتأمل. أما اﻟ
Apophthegmata (المأثورات) فهي
الأقوال المأثورة التي نطق بها «آباء الصحراء» في مناسباتٍ معينة؛
وهذا الجنس الأدبي كان موجودًا من الأصل في التراث الفلسفي، ولدينا
أمثلةٌ عديدة منه في أعمال ديوجينيس لاإرتيوس. وأما اﻟ
Kephalaia فهي مجموعات من
عباراتٍ قصيرة نسبيًّا مقسمة عادة إلى مجموعات كل مجموعة مائة
عبارة. هذا أيضًا جنسٌ أدبي كان رائجًا جدًّا في الأدب الفلسفي
التقليدي؛ ومن أمثلته «تأملات» ماركوس أوريليوس و«عبارات»
فرفوريوس. وكلا هذين الجنسَين الأدبيَّين هما استجابتان لمقتضيات
التأمل.
وقد ازدهر التأمل المسيحي، شأنه شأن التأمل الفلسفي، بواسطة
استخدام جميع الوسائل المتاحة من التضخيم البلاغي والخطابي، وتحريك
جميع مصادر الخيال الممكنة. فنجد أن إفاجريوس بونتيكوس، مثلًا،
اعتاد أن يدعو تلاميذه إلى تخيُّل موتهم الخاص، وتحلُّل أجسادهم،
وأهوال وعذابات أرواحهم في الجحيم والنار الأزلية، ثم، على سبيل
المقارنة، تصور سعادة الصالحين.
والتأمل ينبغي على كل حال أن يكون دائمًا مستمرًّا. ويلحُّ
دوروثيوس من جازا بقوة على هذه النقطة:
«تأملوا هذه الوصية على الدوام بقلوبكم أيها الإخوة،
تدارسوا كلمات الشيوخ المقدسين.
إذا ما تذكرنا أقوال الشيوخ المقدسين أيها الإخوة،
وتأملنا فيها دوما، سيكون من الصعب أن نقع في
الخطية.
إذا شئتم أن تمتلكوا هذه الأقوال في اللحظة المناسبة،
فتأمَّلوا فيها بشكلٍ دائم.» (دوروثيوس من جازا،
«تعاليم»)
ثمة نوع من التواطؤ في
الحياة الروحية بين الأقوال المعيارية التي تُحفظ وتُتأمَّل، من
جهة، والأحداث التي تقدم المناسبة لوضعها موضع التنفيذ والممارسة،
من جهةٍ أخرى. كان دوروثيوس من جازا يَعِد رهبانه بأنهم إذا تأملوا
باستمرار في «أعمال الشيوخ المقدسين» سيكون «بوسعهم أن يفيدوا من
كل شيء يحدث لهم، وأن يحرزوا تقدمًا بعون الله.» ولا شك أن
دوروثيوس كان يعني أن رهبانه بعد هذه التأملات سيكون بمكنتهم أن
يدركوا إرادة الله في كل الأحداث، بفضل كلمات «الآباء»، التي كانت
أيضًا بإلهام إرادة الرب.
ومن الواضح أن التيقُّظ والانتباه الذاتي يفترضان مسبقًا ممارسة
تمحيص الضمير. وقد رأينا بالفعل في حالة بازل من سيزاريا الرابطة
الوثيقة بين «الانتباه» وتمحيص الضمير. ويبدو أن ممارسة تمحيص
الضمير جرت للمرة الأولى في التراث المسيحي في «تعليق أوريجين على
نشيد الأنشاد». ففي سياق تأويله للآية ١: ٨ «إن لم تعرفي نفسك
أيتها الجميلة بين النساء …»، يفسر أوريجين أن النفس يجب أن تمتحن
مشاعرها وأفعالها. هل تتخذ الخير كغاية لها؟ هل تسعى وراء شتى
الفضائل؟ هل تحقق تقدمًا؟ هل قمعت، مثلًا، انفعالات الغضب، والحزن،
وحب المجد؟ وما هي طريقتها في العطاء والأخذ، أو في الحكم
بالحقيقة؟
هذه السلسلة من الأسئلة، الخالية من أي ملمحٍ مسيحيٍّ حصري،
قائمة في التعليم الفلسفي لتمحيص الضمير، كما أوصى به
الفيثاغوريون، والأبيقوريون، والرواقيون (وبخاصة سِنِكا وإبكتيتوس)
وكثير من الفلاسفة الآخرين، مثل بلوتارخ وجالين. ونحن نجد هذه
الممارسة يوصي بها مرةً أخرى جون كريسوستوم ودوروثيوس من جازا
بصفةٍ خاصة:
«ينبغي علينا ألا نمحص أنفسنا كل يوم فحسب، بل كل فصل،
وكل شهر، وكل أسبوع، ونسأل أنفسنا: في أية مرحلة أنا الآن
فيما يخصُّ الانفعال الذي غلبني الأسبوع الماضي؟ والعام
الماضي كذلك: لقد غلبني هذا الانفعال أو ذاك في العام
الماضي، فماذا عن الآن؟
لقد أنبأنا «الآباء» كم هو مفيد لكلٍّ منا أن ينقي نفسه
دوريًّا، بأن نتقصى كل مساء كيف قضينا النهار، ونتقصى كل
صباح كيف قضينا الليل … على أننا نحن الذين نخطئ كثيرًا
وننسى كثيرًا نحتاج حقًّا إلى أن نمحص أنفسنا كل ست ساعات
أيضًا، لكي نعرف كيف قضينا هذه الساعات وعلى أي نحو
أذنبنا.» (دوروثيوس من جازا، «تعاليم»)
ثمة جزئيةٌ شائقة في هذا الصدد في كتاب أثناسيوس «حياة أنتوني».
فوفقًا لكاتب سيرته اعتاد أنتوني أن يوصي تلاميذه بأن يكتبوا
ملاحظات عن أفعال أنفسهم وحركاتها. إن من المحتمل أن التمحيص
الكتابي للضمير كان من الأصل جزءًا من التعاليم الفلسفية؛ إذ إن
الكتابة مفيدة إن لم تكن ضرورية لضمان أن الاستقصاء كان أدقَّ ما
يمكن. إلا أن الجانب الهام عند أنتوني كان هو القيمة العلاجية
للكتابة: «ليدونْ كل واحد منا ويسجل أفعاله وتقلبات نفسه، وكأننا
سنقدم تقريرًا عنها بعضنا لبعض.» ويمضي قائلًا: من المؤكد أننا لا
نجرؤ على أن نرتكب الآثام علنًا، على مرأى من الآخرين: «ليكن هذا
التسجيل الكتابي بديلًا عن عيون رفاقنا النساك.» إن فعل الكتابة،
وفقًا لأنتوني، يمنحنا الانطباع بأننا على الملأ، وأمام جمهور.
ويمكننا أيضًا أن نلحظ القيمة العلاجية للكتابة في فقرة يسجل فيها
دوروثيوس أنه أحس ﺑ «عون وانفراج» بمجرد أن كتب إلى مرشده
الروحي.
ثمة نقطةٌ سيكولوجيةٌ شائقةٌ أخرى: لقد لاحظ أفلاطون وزينون أن
نوعية أحلامنا تتيح لنا أن نحكم على الحالة الروحية لروحنا. ونحن
نجد هذه الملاحظة تتكرر عند إفاجريوس بونتيكوس وديادوكوس من
فوتيكي.
وأخيرا فإن «الانتباه» يتضمن السيادة على النفس، أي انتصار العقل
على الانفعالات، لأن الانفعالات هي ما يسبب انشغال النفس وتشتُّتها
وتبدُّدها. والأدب الرهباني لا يملُّ من التوكيد على آثام
الانفعالات، التي كثيرًا ما تشخَّص في صورةٍ شيطانية.
وقد حفظ الكثير من مأثورات
الفلسفة القديمة في التدريبات الرهبانية للسيادة على النفس. مثال
ذلك أننا نجد دوروثيوس من جازا، شأنه شأن إبكتيتوس، ينصح تلاميذه
بأن يبدءوا بتدريب أنفسهم على أشياءَ صغيرة، لكي يخلقوا عادة، قبل
أن ينتقلوا إلى أمورٍ أكبر، وينصحهم كذلك بالإقلال من الذنوب شيئًا
فشيئًا، لكي يقهروا انفعالًا ما. ونجد إفاجريوس بونتيكوس يقترح أن
نحارب الانفعال بانفعالٍ آخر — الفسوق مثلًا يحاربه المرء بتوقه
إلى حسن السمعة — إذا كان من المتعذَّر أن يحارب الانفعالَ مباشرة
بواسطة الفضيلة المضادة له. وهذه هي الطريقة التي اقترحها شيشرون
بالفعل في كتابه «توسكالانيات».
٤
قلنا آنفا إن تقبُّل
المسيحية للتدريبات الروحية قد أدخل إليها موقفًا روحيًّا معينًا
وأسلوب حياة معينًا كانت تفتقدهما سابقًا. لننظر مثلًا في مفهوم
التدريبات ككل. إن العملية ذاتها — عملية تأدية أفعالٍ مكرورة
والتدرب من أجل تعديل أنفسنا وتحويلها — هذه العملية فيها
انعكاسيةٌ تأمليةٌ معينة ومسافة تجعلها مختلفة تمامًا عن التلقائية
الإفانجليكانية. والانتباه إلى النفس (جوهر اﻟ
Prosoche) يفضي إلى سلسلةٍ
كاملة من تقنيات الاستبطان، ويولِّد حذقًا غير عادي في تمحيص
الضمير والإدراك الروحي. وأهم من ذلك وأكثر دلالة أن المثال
الموجود في هذه التدريبات، والأهداف المقترحة من أجل الحياة
الروحية، أصبحت مشربة بلونٍ رواقي-أفلاطوني قوي، أي إنه منذ نهايات
العصر القديم أدمجت الأفلاطونية المحدثة داخلها الأخلاق الرواقية
بحيث صارت هذه مشربة بعمق بالأفلاطونية المحدثة. هكذا كان الحال،
مثلًا، مع دوروثيوس من جازا الذي يصف الكمال الروحي وصفًا رواقيًّا
تمامًا: إنه تحول الإرادة بحيث تصبح متماهية مع الإرادة الإلهية:
«ذلك الذي ليس لديه إرادةٌ خاصة به يفعل دائمًا ما يشاء!
إذ لأنه لا إرادة له فكل شيء يحدث يرضيه؛ فيجد أنه يفعل ما
يشاء طول الوقت؛ ذلك أنه لا يريد الأشياء أن تكون كما يريد
هو، بل أن تكون مثلما هي فحسب.» (دوروثيوس من جازا،
«تعاليم»)
يقارن أحدث محرري دوروثيوس هذا النص بفقرة من «مختصر» إبكتيتوس:
«لا تطلب من الأشياء أن تجري مثلما تريد (أنت)، بل اطلب أن تجري
الأشياء مثلما تجري. وبذلك تمضي حياتك في سكينة وسلام» (المختصر،
٨).
ويصور الكمال الروحي أيضًا على أنه «أباتيا» Apatheia؛ أي الغياب التام للانفعالات. وهو
مفهومٌ رواقي تَبنَّته الأفلاطونية المحدثة. والأباتيا عند
دوروثيوس من جازا هي النتيجة النهائية لمحو المرء لإرادته الخاصة:
«بهذا الاستئصال للإرادة الذاتية يوفر الإنسان لنفسه انسلاخًا
Aprospatheia، وبهذا الانسلاخ
يتأتَّى له، بعون من الله، أن يتقن الأباتيا» (دوروثيوس،
«تعاليم»). وقد نلاحظ، ملاحظةً عابرة، أن الوسيلة التي ينصح بها
دوروثيوس لاستئصال الإرادة الذاتية هي هي تدريبات السيادة على
النفس في التراث الفلسفي. لكي نشفي الفضول، مثلًا، كان بلوتارخ
ينصح الناس بألا يقرءوا نقوش الأضرحة، ولا يستطلعوا جيرانهم
بتطفُّل، وأن يديروا ظهورهم لمشاهد الطريق. كذلك ينصحنا دوروثيوس
بألا ننظر في الاتجاه الذي نريد أن ننظر فيه، وألا نسأل الطاهي
ماذا يُعدُّ للغداء، وألا ننخرط في محادثة نجدها وقد جرت مجراها.
هذا ما يعنيه دوروثيوس ﺑ «استئصال الإرادة الذاتية».
إلا أنه مع إفاجريوس يمكننا أن نرى على أوضح نحو كيف ترتبط
الأباتيا المسيحية بالمفاهيم الفلسفية أوثق ارتباط. في كتاب
«براكتيكوس» لإفاجريوس نجد التعريف التالي: «ملكوت السموات هو
أباتيا الروح برفقة المعرفة الحقيقية بالموجودات.» وعندما نشرع في
التعليق على صيغة مثل هذه نجد بونًا هائلًا بين هذه التأملات وبين
الروح الإفانجليكانية. والرسالة الإفانجليكانية، كما نعلم، تتمثل
في إعلان حدثٍ أخروي يسمى «ملكوت السماء» أو «ملكوت الله». يبدأ
إفاجريوس بالتفرقة بين التعبيرَين وتفسيرهما بطريقةٍ شخصية جدًّا.
فهو يتوسع في تعليم أوريجين ويعتبر أن التعبيرين يسميان حالتَين
داخليتَين للروح، أو — إن شئت الدقة — مرحلتَين من التقدم الروحي:
«ملكوت السماء هو أباتيا الروح برفقة المعرفة الحقيقية
بالموجودات.»
«ملكوت الله هو معرفة الثالوث الأقدس متمادية مع قدرة
الفهم ومانحة إياها صلاحًا فائقًا.» (إفاجريوس من بونتيس،
«براكتيكوس»)
هنا نميز مستويين من المعرفة: معرفة الموجودات، ومعرفة الله.
وعندئذٍ ندرك أن هذا التمييز يقابل بدقة تقسيم أجزاء الفلسفة الذي
كان معروفًا جيدًا لأوريجين، ومصدَّقًا عليه في الأفلاطونية منذ
زمن بلوتارخ على الأقل. في هذا التقسيم ثمة تمييز بين ثلاث مراحل
أو ثلاثة مستوياتٍ منفصلة من التقدم الروحي تقابل الأجزاء الثلاثة
للفلسفة: الأخلاق — أو «الممارسات» كما يسميها إفاجريوس —
والفيزيقا، واللاهوت. الأخلاق تقابل التطهر المبدئي، والفيزيقا
تقابل الانسلاخ التام عن العالم الحسي وتأمل نظام الطبيعة،
واللاهوت، أخيرًا، يقابل تأمل مبدأ الأشياء جميعًا. غير أن مخطط
إفاجريوس يقتضي أن الأخلاق تقابل
Praktike، والفيزيقا تقابل
«ملكوت السماء» الذي يشمل المعرفة الحقيقية بالموجودات، واللاهوت
يقابل «ملكوت الله» وهو معرفة الثالوث. وفي التنظيم الأفلاطوني
المحدث فإن هذه الدرجات تقابل أيضًا درجات الفضيلة؛ فوفقًا
لفرفوريوس تبدأ النفس باستخدام الفضائل «السياسية» لكي تسيطر على
الانفعالات عبر حالة اﻟ
Metriopatheia، وعندئذٍ تصعد
إلى مستوى الفضائل الكاثارتية
Kathartic، وهذه الفضائل تبدأ في فصل النفس عن
الجسم، ولكنْ ليس تمامًا بعدُ؛ فهذه لا تعدو أن تكون بداية
الأباتيا. وليس قبل مستوى الفضائل «النظرية» تبلغ النفس الأباتيا
الكاملة والانفصال التام عن الجسم. إنما عند هذا المستوى يكون
بمُكنة النفس أن تتأمل الصور داخل الفكر الإلهي، والتي هي النماذج
للعالم الظاهر (فرفوريوس، العبارات). هذا المستوى، المتَّسم
بالأباتيا وبتأمل الموجودات، يقابل «ملكوت السماء» عند إفاجريوس.
فالروح الآن، وفقًا لإفاجريوس، تتأمل تكثُّر اﻟ
Physeis («الطبائع»، ومن ثم
تسمية «فيزيقي»): الصور المعقولة من ناحية، ولوجوسات الموجودات
الحسية من ناحيةٍ أخرى. والمرحلة الأخيرة، وهي
Noetic٥ في طبيعتها، هي تأمُّل الرب نفسه. هكذا يوجز إفاجريوس
فكره في هذه الكلمات: «المسيحية هي مذهب المسيح مخلصنا؛ وهي تتكون
من البراكتيكي، والفيزيقا، واللاهوت» (إفاجريوس من بونتيس،
«براكتيكوس»).
تلعب الأباتيا دورًا جوهريًّا ليس فقط في البناءات النظرية مثل
ميتافيزيقا إيفاجريوس، بل أيضًا في الروحية الرهبانية، حيث ترتبط
قيمتها ارتباطًا وثيقًا بالسلام العقلي والخلو من الهموم:
Amerimnia أو
Tranquillitas. ولا يتردد
دوروثيوس في الإقرار بأن السلام العقلي هو من الأهمية بحيث يتعيَّن
على المرء إذا لزم الأمر أن يتخلَّى عما شرع فيه إذا ما تهدَّد
سلامه العقلي. كما أن سلام العقل — Tranquillitas
Animi — كان دائمًا ذا قيمةٍ محورية داخل
التراث الفلسفي.
الأباتيا عند فرفوريوس، كما رأينا، هي نتاج انسلاخ النفس من
الجسد. وهنا مرةً ثانية نلمس التدريب الفلسفي بامتياز. فكما رأينا
آنفا فقد ذهب أفلاطون إلى أن «أولئك الذين يشرعون في التفلسف على
نحوٍ صحيح هم في تدريب على الموت». ولا نزال حتى تاريخٍ متأخر
كالقرن السابع نجد صدى هذا القول عند ماكسيموس كنفسور: «وفقًا
لفلسفة المسيح؛ لنجعلْ حياتنا تدريبًا على الموت» (ماكسيموس
كنفسور، تعليق على «أبينا» Commentary on the
Our Father).
على أن ماكسيموس نفسه ما هو إلا وريث تراثٍ ثري كان يماهي مرارًا
بين الفلسفة المسيحية وتدريب الموت. فنحن نصادف هذه الثيمة بالفعل
عند كلمنت السكندري، الذي كان يفهم هذا التدريب فهمًا أفلاطونيًّا
صميمًا كمحاولةٍ روحية لفصل النفس عن الجسم. فالمعرفة الكاملة عند
كلمنت (Gnosis) هي نوع من الموت.
فهي تفصل النفس من الجسم، وتؤازر النفس لكي تعيش حياةً مكرسة
بالكامل للخير، متيحة لها أن تعكف على التأمل في الحقائق الأصيلة
بعقلٍ مطهَّر. ومرةً ثانية تتكرر نفس الموتيفة عند جريجوري
نازيانزن: «اجعلْ من هذه الحياة، كما قال أفلاطون، تدريبًا على
الموت وأنت، على حد تعبيره، تفصل النفس من الجسم قدر
المستطاع.»
هذه، فيما يقول لنا جريجوري، «هي ممارسة الفلسفة». أما إفاجريوس،
من جهته، فهو يعبر عن نفسه بكلامٍ مشابه بشكلٍ لافت لكلام
فرفوريوس:
«فصل الجسم من الروح شيء لا يتمتع به إلا «هو»، الذي
جمعهما معًا. ولكن فصل الروح من الجسم يقع أيضًا في قدرة
الشخص الذي يلتمس الفضيلة. فآباؤنا أطلقوا على تدريب الموت
وعلى الهروب من الجسد اسم
Anachoresis أي الحياة
الرهبانية.» (إفاجريوس، «براكتيكوس»)
بميسورك أن ترى أن المفهوم الأفلاطوني للهروب من الجسد، الذي أخذ
بلُبِّ أوغسطين الصغير، كان عنصرًا أضيف إلى المسيحية وليس
جوهريًّا فيها. وبرغم ذلك فقد حدَّد هذا المفهوم توجُّه الروحية
المسيحية بأسرها في اتجاهٍ محدد تمامًا.
لقد لاحظنا حتى الآن البقاء الدائم لتدريباتٍ روحيةٍ فلسفيةٍ
معينة في المسيحية والرهبانية، وحاولنا أن نتفهَّم النبرة
المعيَّنة التي أدخلتها في المسيحية. غير أن علينا ألا نبالغ في
أهمية هذه الظاهرة؛ فهي أولًا لا تظهر، كما رأينا، إلا في دائرةٍ
محدودة نسبيًّا: بين الكتَّاب المسيحيين الذين تلقَّوا تعليمًا
فلسفيًّا. وحتى في هذه الحالة فإن المركب النهائي مسيحي في
الصميم.
لقد جهد كتابنا في إضفاء الصبغة المسيحية على اقتباساتهم قدر
المستطاع؛ غير أن هذا ربما يكون الجانب الأقل أهمية في المسألة.
لقد اعتقدوا أنهم اكتشفوا أن تدريباتٍ روحيةً معينة تعلَّموها من
خلال الفلسفة هي موجودة في فقراتٍ محددة من الكتاب المقدس. فرأينا
مثلًا بازل من سيزاريا يربط بين اﻟ
Prosoche وبين نص من سفر
التثنية. ثم تحول اﻟ Prosoche في
«حياة أنتوني» لأثناسيوس وطوال التراث الرهباني إلى «مراقبة القلب»
تحت تأثير سفر «الأمثال» (٢٣: ٤) «فوق كل تحفظ احفظ قلبك.» وكثيرًا
ما كان تمحيص الضمير يسوغ بالرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس (٥:
١٣) «جربوا أنفسكم … امتحنوا أنفسكم.» وأخيرًا، كان يوصَى بالتأمل
في الموت بناءً على كورنثوس الأول (٣١: ١٥) «أنا أموت كل
يوم.»
ومع ذلك فإنه ليكون من الخطأ أن نظن أن هذه المراجع كانت كافية
بذاتها لتنصير التدريبات الروحية. فالسبب الذي لفت انتباه الكتاب
المسيحيين على هذه الفقرات الإنجيلية المعينة هو أنهم كانوا على
إلف أصلًا (من مصادرَ أخرى) بالتدريبات الروحية ﻟ
Prosoche (الانتباه)، والتأمل
في الموت، وتمحيص الضمير. لم يكن بوسع النصوص المقدسة أن تزوِّدنا
بطريقة لممارسة هذه التدريبات. فالأغلب، في الحقيقة، أن يكون
للفقرة المقدسة المعينة صلةٌ بعيدة فحسب مع التدريب الروحي
المعين.
الأهم من ذلك هو الروح الكلية التي كانت تمارَس بها التدريبات
الروحية المسيحية والرهبانية. فهي دائمًا تفترض مسبقًا عون النعمة
الإلهية، وتجعل من الاتِّضاع أهم الفضائل جميعًا. وبتعبير دوروثيوس
من جازا: «كلما اقترب المرء من الرب كان أقرب إلى رؤية نفسه كمذنب»
(دوروثيوس، «تعاليم»). هذا الاتِّضاع يجعلنا نرى أنفسنا أدنى من
الآخرين، ويؤدي بنا إلى توخِّي أكبر درجات التحفظ في سلوكنا
وحديثنا، وإلى أن نتخذ أوضاعًا جسميةً معينة ذات دلالة، مثل
الانحناء أمام الرهبان الآخرين.
كانت هناك فضيلتان أساسيتان أخريان هما الندم (التوبة) والطاعة.
أما الندم، الذي يستلهم خشية الله وحبه، فقد كان يأخذ شكل إماتة
للجسد قاسية للغاية. ولم يكن القصد من تذكُّر الموت أن يدرك الناس
إلحاح التحول فحسب، بل أن يبعث الخشية من الله. وهو بدوره مرتبط
بالتأمل في «الدينونة»، وبالتالي بفضيلة الندم والتوبة. ويصدق
الشيء نفسه على تمحيص الضمير.
وأما الطاعة — أي تخلي المرء عن إرادته الخاصة في خضوعٍ كامل
لأوامر من هو أعلى — فقد حولت الممارسة الفلسفية للإرشاد الروحي
تحولًا كاملًا. ويمكننا أن نرى التطرف الشديد الذي أمكن أن تصل
إليه هذه الطاعة في كتاب دوروثيوس «حياة دوسيثيوس»؛ فقد كان لمرشد
الضمير سطوةٌ مطلقة على قرار التلميذ فيما يتعلق بممتلكاته،
وعاداته الغذائية، وأسلوب حياته كلها.
وفي التحليل الأخير فإن هذه الفضائل كلها كان يتبدَّل مظهرها من
جراء البعد المفارق لحب الرب وحب المسيح. هكذا كان التدريب على
الموت، أو فصل النفس من الجسد، مشاركة في موت المسيح في الوقت
نفسه. وكان تخلي المرء عن إرادته الخاصة هو تمسكٌ بالحب
الإلهي.
وبصفةٍ عامة يمكننا القول بأن المذهب الرهباني في مصر وسوريا
وُلد ونما في بيئةٍ مسيحية، تلقائيًّا ودون تدخل نموذجٍ فلسفي. لم
يكن الرهبان الأوائل مثقفين بل مسيحيين أرادوا بلوغ الكمال المسيحي
بواسطة ممارسةٍ بطولية لوصفاتٍ إفانجليكانية، ومحاكاة حياة المسيح.
فكان من الطبيعي، إذن، أن يلتمسوا تكنيكاتهم للكمال من العهد
القديم والجديد (الكتاب المقدس). إلا أنه تحت التأثير السكندري —
التأثير البعيد لفيلون، والتأثر الأكثر مباشرة لأوريجين وكلمنت
السكندري، بتنسيقٍ رائع بواسطة الكبادوكيين — أُدخلتْ تكنيكاتٌ
روحيةٌ فلسفيةٌ معينة في الروحية المسيحية. وكانت النتيجة أن
المثال المسيحي كان يوصف، ويمارَس جزئيًّا، باستعارة نماذج ومفردات
من التراث الفلسفي اليوناني. وبفضل مزاياه الأدبية والفلسفية فقد
أصبح هذا التوجه سائدًا، ومن خلال توسطه انتقل إرث التدريبات
الروحية القديمة إلى الروحية المسيحية؛ روحية العصور الوسيطة
أولًا، وروحية الأزمنة الحديثة بعد ذلك.