(١) سيلنوس
هكذا يعمل سقراط كوسيط بين المعايير المثالية والواقع
البشري. وإن مفهومَي «التوسط» mediation و«البيني» Intermediate يستدعيان في الذهن فكرتي التوازن
والوسط الذهبي؛ لذا يجب أن نتوقَّع أن نرى في سقراط صورةً
متناغمة، تجمع الخصائص الإلهية والبشرية في دقة ولطف.
لا شيء يمكن أن يكون أبعد من ذلك عن الحقيقة. فصورة سقراط
غامضة، ومقلقة، ومزعجة على نحوٍ غريب. وأولى الغرائب التي
بانتظارنا قبحه الجسماني، الذي شهد به أفلاطون وزينوفون
وأرسطوفان. يقول نيتشه: «إنه لشيءٌ ذو دلالة أن سقراط كان أول
هيلينيٍّ عظيم يتسم بالقبح»، «كل شيء فيه متضخم، مهرج،
كاريكاتور.» ويمضي نيتشه فيستدعي «عينيه الشبيهتين بأعين
السرطان، وشفاهه المنتفخة وبطنه المتدلي». ويروقه أن يحكي كيف
أخبره المتفرِّس زوبيروس ذات مرة أنه مسخ يُخبِّئ داخله أسوأ
الشرور والشهوات، فيردُّ سقراط، فيما يقول نيتشه، «كم تعرفني
معرفة جيدة!» إذا كان سقراط يشبه حقًّا سيلنوس كما وصفه
أفلاطون في «المأدبة» فإن هذه الشكوك تكون مفهومة تمامًا. كانت
السيلنات والساتيرات في الخيال الشعبي شياطين هجينة، نصفَ
حيوانات ونصفَ بشر، تَخفِر ديونيسوس. كانت هذه الكائنات
المهرِّجة البذيئة تُشكِّل جوقة المسرحيات الساتورية، وهي جنسٌ
أدبي من أمثلته الباقية لدينا مسرحية كيكلوبس ليوربيدس.
كانت السيلنات Sileni
كائناتٍ طبيعيةً خالصة ترمز لرفض الثقافة والحضارة، وللهزل
الماجن العجيب، وللفسق وانفلات الغرائز.
وبتعبير كيركجارد كان سقراط كوبولد A Cobold (روحًا شريرة). وقد أرادنا أفلاطون
أن نفهم أن مشابهة سقراط لسيلنوس لم تكن إلا مظهرًا مخبوءًا
وراءه شيءٌ آخر. في نهاية محاورة «المأدبة» يقارن ألقيبيادس،
في كلمته الشهيرة في مدح سقراط، يقارن سقراط بالتماثيل الصغيرة
للسيلنات التي يمكن أن تجدها في دكاكين المثَّالين، والتي تخبئ
داخلها تماثيل صغيرة للآلهة. كذلك كان سقراط: مظهره الخارجي —
القبيح، شبيه المهرج، البذيء، شبه المسخ — لم يكن غير قناع
وواجهةٍ خارجيةٍ كاذبة.
نحن هنا نتأدى إلى مفارقةٍ أخرى: لم يكن سقراط قبيحا فحسب،
بل كان خداعًا أيضًا. يقول نيتشه: «كل شيء فيه مخبوء، خفي،
تحت-أرضي.» سقراط يُقنِّع نفسه، وفي نفس الوقت يستخدمه الآخرون
كقناع.
سقراط يُقنِّع نفسه: نحن هنا بإزاء التهكم السقراطي الشهير،
الذي سيكون علينا أن نوضح معناه فيما بعدُ. يتظاهر سقراط
بالجهل والصفاقة. يقول ألقيبيادس «إنه يقضي عمره كله يلعب دور
الساذج والطفل.»، «الأسماء والأفعال التي تكون الغلاف الخارجي
لكلماته أشبه بجلد ساتير Satyr صفيق.» مظهره الجهول والتفاتاته
المحبة «هي ما غلَّف به نفسه، مثل سيلنوس منحوت» (أفلاطون،
«المأدبة»، d216).
لقد أحكم سقراط إنجاز مشروعه في الخداع لدرجة أنه نجح في
تقنيع نفسه بإحكام من التاريخ. فهو لم يكتب شيئًا، منخرطًا فقط
في الحوار. وجميع الشهادات التي بحوزتنا عنه تخفيه عنا أكثر
مما تكشفه، بالضبط لأنه كان يستخدم دائمًا كقناع من جانب أولئك
الذين تحدثوا عنه.
ولأنه كان هو نفسه مقنَّعًا فقد أصبح اﻟ
Prosopon، أو القناع،
للشخصيات التي أحسَّت بأنها بحاجة إلى أن تتخذ سترًا وراءه.
ومنه أخذوا فكرة أن يقنعوا أنفسهم وأن يستخدموا التهكم
السقراطي كقناع. ها نحن بإزاء ظاهرة غاية في الثراء من حيث
منطوياتها الأدبية، والبيداجوجية،
٢ والسيكولوجية.
كانت النواة الأصلية لهذه الظاهرة هي تهكم سقراط نفسه. كان
سقراط، المستجوب الأبدي، يستخدم الأسئلة الذكية لكي يحمل
محاوريه على أن يعترفوا بجهلهم. وكان بفعله هذا يربكهم بحيث
يحدوهم في النهاية إلى الشك في حياتهم كلها. وبعد موت سقراط
كانت ذكرى محادثاته السقراطية إلهامًا لظهور جنسٍ أدبيٍّ جديد
هو اﻟ Logoi Sokratikoi
(المحاورات السقراطية)، التي تحاكي المحادثات التي كان قد
عقدها سقراط مع تنوُّعٍ عريض من المحاورين. في هذه «المحاورات
السقراطية» أصبح سقراط «بروسوبون» (قناعًا) — محاورًا أو شخصية
— ومن ثم، إذا ما ذكرنا معنى بروسوبون في المسرح القديم، أصبح
قناعًا. كان المقصود من المحاورة السقراطية، وبخاصة في صورتها
الراقية المرهفة التي أسبغها عليها أفلاطون، أن تثير في قرائها
تأثيرًا مماثلًا للتأثير الذي أحدثه الخطاب الحي لسقراط نفسه.
وهكذا يجد قارئ هذه المحاورات نفسه في ذات الموقف الذي كان فيه
محاورو سقراط؛ أي لا يعرف إلى أين ستقوده أسئلة سقراط. إن
القناع المزعج الروَّاغ لسقراط ليبثُّ الارتباك في روح القارئ،
ويؤدي إلى ارتفاع منسوب وعيه الذي قد يصل به إلى حد التحوُّل
الفلسفي. وكما بين كونراد
جيزر Konrad Gaiser، بحق، فإن القارئ نفسه مدعو إلى
الالتجاء وراء قناع سقراط. في جميع المحاورات السقراطية
لأفلاطون، تقريبًا، تأتي لحظة أزمة حيث يغشى المحاورين
الإحباطُ، ويفقدون الثقة في إمكان استمرار النقاش، ويبدو كأن
الحوار يوشك أن يتوقف. هنالك يتدخل سقراط؛ فيأخذ على عاتقه شك
الآخرين وقلقهم وإحباطهم، ويأخذ على عاتقه كل أخطار المغامرة
الحوارية، ويجري تبديلًا كاملًا للأدوار، فإذا ما فشل المشروع
سيكون ذلك مسئوليته منذ ذلك الحين. وهو بهذه الطريقة يُطلع
محاوريه على إسقاط لأنفسهم هم. وبوسعهم الآن أن يحوِّلوا
اضطرابهم الشخصي إلى سقراط ويستعيدوا الثقة في البحث الحواري
وفي اللوجوس نفسه.
أفلاطون أيضًا في محاوراته يستخدم سقراط كقناع، أو، في مصطلح
نيتشه، ﮐ «سيميوطيقا»
A Semiotics.
٣ وكما بيَّن باور فريدلندر فبينما تجلَّت
«الأنا»
Ego قديمًا في
الأدب اليوناني (فهزيود، وزينوفان، وبارمنيدس، وأمبدوقليس،
والسوفسطائيون، وحتى زينوفون، لا يترددون في الحديث بصيغة
المتكلم) فإن أفلاطون يطمس نفسه تمامًا وراء سقراط في
محاوراته، ويتجنَّب بشكلٍ منظَّم استخدام ضمير المتكلم المفرد.
نحن هنا بإزاء علاقةٍ دقيقة للغاية من الصعب جدًّا فهم
دلالتها. هل علينا أن نفترض، مع جيزر وكرامر، أن أفلاطون كان
يميز بدقة بين نوعَين من التعليم: ذلك الخاص به، الذي كان
شفاهيًّا، سريًّا، ومقصورًا على أعضاء الأكاديمية، ومحاوراته
المكتوبة التي كان يستخدم فيها قناع سقراط لكي يحض قرَّاءه على
الفلسفة؟ أم علينا أن نخلص إلى أن أفلاطون يستخدم صورة سقراط
لكي يقدم مذاهبه بدرجةٍ معينة من التهكُّم وأخذ مسافة؟ وعلى أي
حال فإن هذا الموقف المبدئي قد ترك أثرًا لا يُمحى في الضمير
الغربي. وحيثما أدرك المفكرون التجديد الجذري الملقى على
عاتقهم وأشفقوا منه فقد استخدموا هم أيضًا قناعًا لكي يواجهوا
معاصريهم. لقد اختاروا عادة أن يستخدموا القناع التهكمي
لسقراط.
وعندما كان ج. ج.
هامان J. G. Hamann، في القرن التاسع عشر، يمدح سقراط في
كتاب «تذكارات
سقراطية» Socratic Memorabilia، كان يفعل ذلك «من باب التقليد» على
حد تعبيره. لقد كان هامان نفسه، بعبارةٍ أخرى، يتخذ قناع سقراط
— العقلاني بلا منازع في نظر القرن الثامن عشر — من أجل أن
يجعل الناس ترى، خلف القناع، صورة تنبئ بالمسيح.
والذي لم يكن إلا حيلةً مؤقتة عند هامان أصبح موقفًا
وجوديًّا أساسيًّا عند كيركجارد. يتجلَّى ولع كيركجارد
بالأقنعة أوضح ما يكون في استخدامه للأسماء المستعارة. فمن
المعروف جيدًا أن معظم أعمال كيركجارد نشرت أولًا تحت أسماءٍ
مستعارةٍ متعددة: فيكتور إريميتا، جوهانس كليماكوس … إلخ. لسنا
هنا بإزاء نزوةٍ تحريرية؛ وإنما جميع هذه الأسماء المستعارة
عند كيركجارد تُناظر مستوياتٍ مختلفة — المستوى «الاستطيقي»،
٤ و«الأخلاقي»، و«الديني» — يفترض أن المؤلف يتحدث
منها. إن كيركجارد ليتحدث مرارًا عن المسيحية كداعيةٍ جمالي
Aesthete، ثم كداعيةٍ
أخلاقي
Moralist، لكي
يحمل معاصريه على أن يدركوا أنهم ليسوا مسيحيين حقيقيين. «فهو
يخبئ نفسه تحت قناع فنان وقناع داعيةٍ أخلاقي نصف معتقد لكي
يتحدث عما كان يعتقده بعمقٍ شديد.»
كان كيركجارد على درايةٍ تامة بالطابع السقراطي لمنهجه:
«من زاوية نشاطي كله كمؤلف، مأخوذًا على الجملة، فإن
العمل الاستطيقي هو خدعة، وها هنا يجب أن تلتمس
الدلالة الأعمق لاستخدام الأسماء المستعارة. غير أن
الخدعة هي شيءٌ قبيح نوعًا ما. وعلى هذا أودُّ أن أقدم
ردًّا: إن على المرء ألا ينخدع بكلمة «خدعة». فمن
الجائز للمرء أن يخدع شخصًا من أجل الحقيقة، وبتعبير
سقراط القديم قد يخدع المرء شخصا «إلى» الحقيقة. والحق
أنه ليس بغير هذه الطريقة، أي بخداعه، يمكن أن تجلب
إلى الحقيقة شخصًا يعيش في وهم.» (كيركجارد، «منظور
عملي كمؤلف»)
كان هدف كيركجارد أن يجعل القارئ مدركًا لأخطائه، لا عن طريق
تفنيدها على نحوٍ مباشر، بل بتقديمها على نحوٍ يجعل بطلانها
واضحًا جليًّا. تلك طريقةٌ سقراطية قلبًا وقالبًا. وفي الوقت
نفسه كان كيركجارد يستخدم الاسم المستعار لكي يهب صوتًا لكل
الشخصيات المختلفة بداخله. وهو بهذه العملية يُموضِع ذواته
المتعددة دون أن يميز نفسه في أيٍّ منها؛ تمامًا مثلما كان
سقراط بواسطة أسئلته الذكية يموضع ذوات محاوريه دون أن يميز
نفسه في أيٍّ منها. هكذا نجد كيركجارد يكتب: بسبب اكتئابي قضيت
سنوات قبل أن أستطيع أن أقول لنفسي
Thou (أنت). بين الاكتئاب
واﻟ «أنت» الخاصَّين بي كان ثمة عالمُ كامل من الخيال. وقد
استنفدته، جزئيًّا، في أسمائي المستعارة. غير أن كيركجارد لم
يكن راضيًا بتقنيع نفسه وراء الأسماء المستعارة. فقد كان قناعه
الحقيقي هو التهكُّم السقراطي نفسه، سقراط نفسه: «أيْ سقراط!
مغامرتك هي مغامرتي! أنا وحيد. ومثيلي الوحيد هو سقراط. ومهمتي
مهمةٌ سقراطية» (كيركجارد، «اللحظة»).
كان كيركجارد يسمي هذه الطريقة السقراطية طريقته «في التواصل
غير المباشر». ونحن نصادفها مرةً ثانية عند نيتشه، وهي عنده
طريقة المعلم العظيم: «المعلم لا يقول مطلقًا ما يعتقده هو
نفسه، بل ما يعتقد عن شيءٍ معين وفقًا لمتطلبات أولئك الذين
يُعلِّمهم. ويجب ألا يضبط في هذا الخداع» (كيركجارد، مقتطفات
نشرت بعد وفاته). هذه الطريقة تبررها مهمة المعلم المفارقة:
«كل نفسٍ كبيرة يلزمها قناع، والأفضل، بعدُ، أن ينمو قناع
باستمرار حول كل نفسٍ كبيرة بفضل التأويل الزائف على الدوام —
أي السطحي — لكل كلمة من كلماته أو خطوة أو مظهر حياة» (نيتشه،
«فيما وراء الخير والشر»). كان قناع سيلنوس السقراطي يعمل
كنموذج لنظرية نيتشه في القناع. وكما قال في كتاباته غير
المنشورة في الفترة الأخيرة من حياته:
«أعتقد أن هذا كان سحر سقراط؛ كانت له نفس، من
ورائها نفس أخرى، من ورائها ثالثة. في الأولى كان
زينوفون يرقد لينام؛ وفي الثانية أفلاطون، وفي الثالثة
أفلاطون أيضًا ولكن هذه المرة أفلاطون بنفسه الثانية
(نفس أفلاطون الثانية). أفلاطون نفسه رجلٌ ذو كهوفٍ
خفيةٍ كثيرة من ورائه وواجهاتٍ كاذبةٍ كثيرة من
أمامه.» (نيتشه، مقتطفات منشورة بعد وفاته)
ومثلما هو الحال مع كيركجارد فإن الأقنعة عند نيتشه هي ضرورة
بيداجوجية، على أنها أيضًا ضرورةٌ سيكولوجية. إن نيتشه نفسه
يمكن أن يدخل في فئته من «الرجال الذين لا يريدون إلا أن
يتألَّقوا خلال الآخرين. وثمة الكثير من الحكمة في ذلك»
(نيتشه، «الفجر»). في كتابه Ecce
Homo (هو ذا الإنسان) يعترف نيتشه نفسه
بأنه استعمل أستاذَيه شوبنهاور وفجنر كقناعَين في كتابه
«تأملات لغير زمانها»، تمامًا مثلما استخدم أفلاطون سقراط ﮐ
«سيميوطيقا». ثمة حقًّا علاقة هنا تماثل تلك التي بين أفلاطون
وسقراط: لقد كان نيتشه يتحدث عن فجنر مثالي وشوبنهاور مثالي،
واللذين لم يكونا في الحقيقة إلا نيتشه نفسه. وكما بين برترام
بحق فإن أحد أقنعة نيتشه كان سقراط نفسه بالتأكيد، سقراط الذي
تبعه بنفس «الكراهية المحبة» التي كان يشعر بها نيتشه تجاه
نيتشه، سقراط نفسه الذي يقول فيه إنه «قريب مني بحيث لا أكفُّ
عن العراك معه». الجانب من سقراط الذي يكرهه نيتشه يطابق نيتشه
الذي يُبدِّد الأساطير ويستبدل بالآلهة معرفة الخير والشر،
نيتشه الذي يردُّ عقول الناس إلى الأشياء الإنسانية، الإنسانية
جدًّا. أما الجانب من سقراط الذي يحبُّه نيتشه، ويغار منه، فهو
الجانب الذي يودُّ نيتشه نفسه أن يكونه: المغوي، المعلم، مرشد
النفوس. وسوف تكون لدينا عودة إلى هذه الكراهية المحبة.
القناع السقراطي هو قناع التهكُّم. وإذا فحصنا النصوص — نصوص
أفلاطون، أو أرسطو، أو ثيوفراسطس — التي وردت فيها كلمة
Eironeia (تهكم، سخرية)
يمكننا أن نستنتج أن التهكم هو موقفٌ نفسي يستخدم فيه الشخص
انتقاص الذات في محاولة للظهور أدنى مما هو في الحقيقة. وفي فن
الخطاب واستخدامه يأخذ التهكم شكل تظاهر المرء بالتسليم بأن
مُحاوِره على صواب، وتبنِّي وجهة نظر خصمه. الصورة البلاغية
للتهكم، إذن، عبارة عن استخدام الكلمات أو الأحاديث التي كان
المستمعون يتوقعون بالأحرى سماعها من فم الخصم. هذا بالتأكيد
هو الشكل الذي يتخذه التهكم السقراطي. وبتعبير شيشرون:
«بانتقاص نفسه دأب سقراط على أن يذعن أكثر مما يلزم لخصومه
الذين يريد أن يفندهم. وهكذا إذ يبطن شيئًا ويقول شيئًا آخر
كان يستمتع بذلك الصنف من المداجاة الذي يسميه اليونانيون
(التهكُّم)». التهكم السقراطي، إذن، هو انتقاصٌ ذاتيٌّ مختلق
يتألف بالأساس من تقديم المرء لنفسه على أنه شخصٌ عادي وسطحي
تمامًا. وكما يقول ألقيبيادس في معرض مديحه لسقراط:
«إن حديثه لا يشبه أحدًا إلا إذا شبهناه بتلك
السيلنات التي تنفتح إلى الوسط Open Up
Down the Middle. إن من يسمع حديث
سقراط لأول مرة لا يتمالك نفسه من الضحك. إنه يتحدث عن
حمير السوق والحدادين والحذائين ودابغي الجلود، ويبدو
دائمًا أنه يُكرِّر نفس الشيء، بحيث إن أي شخصٍ بليد،
أو لم يألف أسلوبه، سيكون حريًّا أن يعدَّه هراءً
خالصًا.» (أفلاطون، المأدبة،
e221)
لم يكن سقراط متهمًا فقط بتفاهة الموضوعات التي يخوض فيها،
بل إن محاوريه أيضًا كانوا تافهين. فقد كان يقصد إلى مستمعيه
في السوق، وصالات الألعاب الرياضية، وورش الفنانين، والحوانيت.
كان رجل شارع. وبتعبير نيتشه: «إن الضحالة
٥ هي أنسب قناع يمكن للنفس الكبيرة أن ترتديه»
(نيتشه، إنساني، إنساني جدًّا). كان سقراط يتحدث ويتناقش،
ولكنه كان يرفض أن يعد أستاذًا. يقول إبكتيتوس: «… كان يتجنب
الادعاء على الإطلاق: وعندما كان أناس يأتون إليه لكي يقدمهم
إلى فلاسفة كان يأخذهم إلى الفلاسفة ويوصي بهم ولا يكترث قط
بأنهم يغفلونه» (إبكتيتوس، المختصر، ٤٦).
ها هنا نحن نلمس قلب التهكم السقراطي: فإذا كان سقراط يرفض
أن يعلم أو أن يعتبر أستاذًا، فلذلك السبب الوجيه، الذي كان
يعلنه مرارًا وتكرارًا، وهو أنه لا يعرف أي شيء. فإذا لم يكن
لديه شيء يقوله، ولا أية أطروحة يؤيدها، فإن كل ما كان بوسعه
أن يفعله هو أن يسأل أسئلة، حتى إذا كان هو نفسه يرفض أن يجيب
عليها. في الكتاب الأول من «الجمهورية» يصيح ثراسيماخوس: «يا
إلهي! تلك هي طريقتك المميزة في التهكم وادعاء الجهل يا سقراط!
ألم أتكهن بذلك من البداية؟ ألم أخبر الباقين بأنك إذا ما
سُئلتَ ترفض الإجابة، وتدَّعي الجهل، وتفعل أي شيء إلا أن تقدم
جوابًا؟» (أفلاطون، الجمهورية،
a337). ويصف أرسطو الموقف
بوضوح أكثر حتى من هذا: «دأب سقراط على أن يسأل أسئلة ولا يجيب
عنها — لأنه دأب على أن يعترف بأنه لا يعرف» (أرسطو، في
الدحوضات السوفسطائية).
من الواضح أنه ليس
بإمكاننا أن نعرف على اليقين كيف كانت تدور مناقشات سقراط مع
الأثينيين. فمحاورات أفلاطون، حتى أكثرها سقراطية، ليست أكثر
من محاكاة لما حدث تبتعد مرتين عن الحقيقة؛ فهي أولًا غير
مَحكيَّة بل مكتوبة؛ وكما لاحظ هيجل: «فإن الأجوبة في المحاورة
المطبوعة هي تحت سيطرة المؤلف بالكامل؛ وشتان بين ما نراه من
أجوبة الناس في الحياة الحقيقية وما يحملون على قوله هنا في
المحاورة المكتوبة.» وفضلًا عن ذلك فإن بوسعنا في محاورات
أفلاطون أن نلحظ تحت السحر السطحي للخيال الأدبي أثر التدريبات
المدرسية للأكاديمية الأفلاطونية. وقد صنَّف أرسطو قواعد هذه
المبارزات الحوارية في «الطوبيقا» Topics. فقد كانت هناك أدوارٌ محدَّدة
لكل من السائل والمجيب في هذه التدريبات الجدالية، وكانت قواعد
هذه المبارزة الفكرية محددة بدقةٍ تامة.
وقد قدَّم أتو
أبلت Otto Apelt وصفًا جيدًا لآلية التهكم السقراطي:
الانشقاق والازدواج. فسقراط يُقسِّم نفسه إلى اثنين، بحيث يكون
ثمة سقراطان: سقراط الذي يعرف مقدمًا كيف سينتهي النقاش،
وسقراط الذي يذرع الطريق الحواري كله مع محاوره. إن محاوري
سقراط لا يعرفون إلى أين يقودهم، وهنا يكمن التهكم. وفيما يذرع
الطريق مع محاوريه فإنه لا ينفكُّ يطلب منهم الموافقة التامة.
وهو يتخذ موقف رفيقه كنقطة انطلاق له، ويحمله شيئًا فشيئًا على
التسليم بالحصائل التي تترتب على موقفه. هذه الموافقة الأولية
تقوم على المقتضيات العقلانية للوجوس، أو الخطاب العقلاني.
وبمطالبته بالتسليم المستمر يقود سقراط محاوره إلى أن يدرك أن
موقفه الأول كان متناقضًا، وهو بذلك يموضع تعهدهما المشترك.
وكقاعدةٍ عامة، فإن سقراط ينتقي نشاطًا مألوفًا لدى محاوره
كموضوع للنقاش، ويحاول أن يحدد، مع المحاور، المعرفة العملية
المطلوبة لأداء هذا النشاط. فالقائد العسكري، على سبيل المثال،
يتعين عليه أن يعرف كيف يقاتل بشجاعة، والمتكهِّن يجب أن يسلك
تجاه الآلهة سلوكًا تقيًّا. غير أنه في نهاية المطاف يتبين أن
القائد العسكري لا يعرف ما هي الشجاعة على الحقيقة، وأن
المتكهن لا يعرف ما هي التقوى. هنالك يدرك المحاور أنه في
الحقيقة لا يعرف أسباب أفعاله، وفجأة تبدو له منظومته القيمية
برُمَّتها غير قائمة على أساس. فحتى هذه اللحظة كان متوحدًا
إلى حدٍّ معين مع المنظومة القيمية التي كانت تُملي عليه
طريقته في التفكير والحديث. ولكن منذ هذه اللحظة فصاعدًا سيكون
معارضًا لها.
المحاور أيضًا ينقسم إلى اثنين؛ فهناك المحاور كما كان قبل
محادثته مع سقراط، وهناك المحاور الذي، عبر الاتفاق المتبادل
المستمر، وحَّد نفسه مع سقراط، ولن يعود نفس الشخص منذ
الآن.
الشيء الجوهري على الإطلاق في هذه الطريقة التهكمية هو
الطريق الذي يقطعه سقراط ومحاوره معًا. يتظاهر سقراط بأنه يريد
أن يتعلم شيئًا من محاوره، وهذا يُشكِّل انتقاصه الذاتي
التهكمي. فحقيقة الأمر أنه بينما يبدو سقراط متقمِّصًا محاوره
وداخلًا كليًّا في خطابه، فإن المحاور، في نهاية التحليل، هو
من ينغمد لاشعوريًّا في خطاب سقراط ويتوحد معه. على ألا ننسى
شيئًا هامًّا: أن توحد المرء مع سقراط هو توحُّده مع البلبلة
والشك؛ إذ إن سقراط لا يعرف أي شيء، وكل ما يعرفه أنه لا يعرف
شيئًا؛ لذا تنتهي المحاورة مع سقراط والمحاور لم يتعلم شيئًا،
بل هو في الحقيقة لم يعد يعرف أي شيء، غير أنه خلال رحلة
النقاش يكون قد جرَّب وخَبَرَ وكابد ماذا يكونه النشاط العقلي
الحق. وأفضل من ذلك، بعدُ، أنه قد أصبح سقراط نفسه. وما سقراط
إلا السؤال، البحث، التحقيق، النكوص إلى الخلف لأخذ نظرة إلى
النفس. وباختصار، سقراط هو الوعي.
هذا هو المعنى العميق للطريقة السقراطية — التسآلية
السقراطية
Socratic Maieutics. وفي فقرةٍ شهيرة من محاورة
ثياتيتوس ينبئنا سقراط كيف أنه يمارس المهنة نفسها التي كانت
تمارسها أمه، التي كانت قابلة
٦ تُعنى بالولادات الجسدية. أما سقراط نفسه فيزعم
أنه مولِّد للعقل، وإنما بتوليد العقول هو يُعنى. إن سقراط
نفسه لا يولِّد أي شيء، ما دام سقراط لا يعرف شيئًا؛ إنما هو
يساعد الآخرين لا أكثر على أن يولِّدوا أنفسهم. وكما أدرك
كيركجارد جيدًا، فإن الطريقة السقراطية تجعل علاقة
الأستاذ-التلميذ تقف على رأسها:
«أن تكون معلمًا لا تعني أن تؤكد أن هذا الشيء هو
كذا، أو أن تلقي محاضرة … إلخ. كلا. أن تكون معلمًا
بالمعنى الصحيح هو أن تكون متعلمًا. يبدأ التعليم
عندما تتعلم أنت، المعلم، أن تتعلم من التلميذ، أن تضع
نفسك في مكانه بحيث تفهم ماذا يفهم وبأية طريقة يفهم.»
(كيركجارد، «وجهة نظر»)
«التلميذ فرصة للأستاذ لكي يفهم نفسه، مثلما أن
الأستاذ فرصة للتلميذ لفهم نفسه. وعندما يموت المعلم
لا يكون له دين على نفس التلميذ أكثر مما للتلميذ على
نفس الأستاذ … إن أفضل طريقة لفهم سقراط هي بالضبط أن
تفهم أننا لا ندين له بأي شيء. هذا ما كان يفضله
سقراط، وإن من يُمن الطالع أنه كان قادرًا على
تفضيله.» (كيركجارد، «متفرقات فلسفية»)
ها هنا نضع يدنا على أحد المعاني الممكنة لإعلان سقراط
الملغز بأن «الشيء الوحيد الذي يعرفه هو أنه لا يعرف أي
شيء.»
يمكن تأويل هذه العبارة على أنها تعني أن سقراط لم يكن يملك
أي معرفةٍ قابلة للانتقال، ولم يكن بمكنته نقل الأفكار من عقله
إلى عقول الآخرين. لذا وضع القول على لسانه في محاورة
«المأدبة»: «عزيزي أجاثون … لو كانت الحكمة من ذلك الصنف من
الأشياء الذي يفيض من وعاءٍ ممتلئ إلى وعاءٍ فارغ …»
٧
في كتابه «حياة سقراط» لزينوفون، يقول هيبياس لسقراط إن من
الأفضل لسقراط، بدلًا من أن يظل دومًا يسأل أسئلة عن العدالة،
أن يقول مرةً واحدة ونهائية ما العدالة؟ فيرد سقراط: «إذا كنت
لا أكشف عن آرائي عن العدالة في كلمات فإنني أفعل ذلك بواسطة
سلوكي.» لقد كان سقراط شغوفًا بالكلمات والحوار، غير أنه كان
حريصًا بنفس الدرجة على أن يوضح لنا حدود اللغة؛ يريد سقراط أن
يبين لنا أننا لا يمكننا أن نفهم العدالة إذا لم نعشها.
العدالة، شأنها شأن كل واقعٍ حقيقي، غير قابلة للتعريف؛ وهذا
ما كان يريد سقراط من محاوره أن يفهمه، كيما يحمله على أن
«يعيش» العدالة. إن مساءلة الخطاب تفضي إلى مساءلة الفرد، الذي
يتعين عليه أن يُقرِّر ما إذا كان يعتزم أن يعيش وفقًا لضميره
وللعقل. وكما يقول أحد محاوري سقراط «من يدخل في حوار مع سقراط
هو عرضة لأن يُستدرَج إلى جدال؛ وأيًّا كان الموضوع الذي يبدأ
به فإن سقراط سوف يجول به جولات حتى يجد نفسه في النهاية
مضطرًّا إلى أن يقدم تقريرًا عن حياته الحاضرة والماضية»
(أفلاطون، محاورة «لاخس»،
e187). هكذا يجد الفرد نفسه
يُساءَل في الأسس النهائية لأفعاله، ويغدو واعيًا بالمشكلة
الحية التي يمثلها بنفسه لنفسه. إن القيم جميعًا، بالتالي،
تنقلب رأسًا على عقب، وكذلك الأهمية التي كانت تُنسب لها في
السابق. وكما يقول سقراط في محاورة الدفاع:
«إنني أهمل ما يعنى به معظم الناس: جمع المال، إدارة
الممتلكات، المناصب العسكرية، والنجاح في مناقشات
جمعية الشعب، والاشتراك في مجالس الحكام، والمساهمة في
الدسائس والتحالفات والنزاعات الحزبية السياسية … لا،
لم أخترْ لنفسي هذا الطريق، بل اخترتُ الطريق الذي
أمكنني من أن أُسدي أعظم الخير لكل واحد منكم على
حدته؛ إذ حاولتُ أن أحمل كل رجل منكم على ألا يُعنى
بما «يملك» قدر ما يعنى بما «يكون»، فينشد الفضيلة
والحكمة ما استطاع.» (أفلاطون، الدفاع،
b36)
المشروع السقراطي إذن مشروعٌ وجودي من حيث هو يهيب بالفرد.
هذا ما جعل نيتشه وكيركجارد، كلٌّ على طريقته، يحاولان تكراره.
في النص التالي لنيتشه، حيث يصف الإنسان «الشوبنهوري»، منعزلًا
وسط معاصريه، من الصعب ألَّا يقفز سقراط إلى الذهن بمناشدته
الدائمة للفرد أن «يعنى بنفسه»، وبمساءلته المستمرة للفرد:
«ها هم رفاقك من البشر يختالون هنا وهناك في مائة
قناعٍ تنكُّري، كشباب، وشيب، وآباء، ومواطنين، وكهنة،
ومسئولين، وتجار … لا تعنيهم إلا مسرحيتهم الكوميدية
التي يؤدُّونها. إذا سئلوا: إلى أية غاية تعيشون؟
لردُّوا جميعًا للتوِّ وبافتخار: إلى أن أكون مواطنًا
جيدًّا، أو أستاذًا جيدًا، أو رجل دولة جيدًا.»
٨
«إن كل الغرض من كل الترتيبات البشرية هو أن تشتت
أفكار المرء لكيلا يعود واعيًا بالحياة.
الكل متعجل، لأن الكل هارب من نفسه.»
٩ (نيتشه، تأملات لغير زمانها)
وفي محاورة «المأدبة» لأفلاطون نجد بالفعل أن ألقيبيادس قد
قال: «يضطرني سقراط أن أعترف بأنني على الرغم من حاجتي إلى
أمورٍ كثيرة أظل أهمل شئوني الخاصة وأنشغل بأمور أهل أثينا»
(المأدبة، a216). تتيح لنا هذه
الفقرة أن نلمح العواقب السياسية لمثل هذا الانعكاس في القيم
والانقلاب في المعايير المرشدة في الحياة. فانشغال المرء
بمصيره الفردي لا يمكن أن يؤدي إلى غير الصراع مع الدولة. هذا
هو المعنى الأعمق لمحاكمة سقراط وموته. يصبح التهكم السقراطي
دراميًّا بشكلٍ خاص، بفضل الدليل المستمد من محاورة «دفاع
سقراط» لأفلاطون، عندما نراه يستخدم ضد متهمي الفيلسوف، ويفضي،
بمعنًى ما، إلى الحكم عليه بالموت.
لدينا هنا مثال على «جدية الوجود» التي يتحدث عنها كيركجارد.
بالنسبة لكيركجارد كانت مزية سقراط أنه كان مفكرًا موجودًا، لا
فيلسوفًا نظريًّا نسي ماذا يعني أن توجد. إن المقولة الأساسية
للوجود عند كيركجارد هي الفرد، أو الفريد، المنعزل في وحدة
مسئوليته الوجودية. وعند كيركجارد أن سقراط هو مكتشفها
(كيكجارد، «وجهة نظر»).
هنا يجبهنا أحد أعمق الأسباب للتهكم السقراطي: اللغة
المباشرة ليست كفئًا لتوصيل خبرة الوجود، أو الوعي الأصيل
بالوجود، أو جدية الحياة كما نعيشها، أو وحدة صناعة القرار. أن
تتكلم هو أن تدان بالتفاهة مرتين: ففي المقام الأول لا يمكن أن
يكون ثمة توصيل مباشر لخبرة الوجود، وبهذا المعنى فإن كل فعلٍ
كلامي هو فعلٌ «تافه» (عادي/مُبتذَل). ولكن، ثانيًا، هذا
الابتذال نفسه، في شكل التهكم، هو الذي يمكن أن يجعل التوصيل
غير المباشر ممكنًا. وبتعبير نيتشه: «أعتقد أني أحس بأن سقراط
كان عميقًا؛ فقد كان تهكُّمه بعد كل شيء ضروريًّا لكي يوهم
بأنه سطحي، حتى يكون قادرًا على الارتباط بالناس على الإطلاق»
(نيتشه، متفرقات منشورة بعد موته). إن العادية والسطحية
بالنسبة للمفكر الوجودي ضرورةٌ حيوية. فالوجودي يجب أن يظل على
صلة ببني الإنسان، حتى لو كان هؤلاء على مستوًى منقوص من
الوعي. غير أن علينا هنا، في الوقت نفسه، أن نستخدم حيلةً
بيداجوجية. إن التفافات التهكم والتواءاته، وصدمة البلبلة،
يمكن أن تدفع القارئ إلى بلوغ جدية الوعي الوجودي، وبخاصة، كما
سوف نرى لاحقًا، إذا كانت قوة الإيروس مضافة بقدرٍ جيد.
لم يكن لدى سقراط مذهب يعلمه. لقد كانت فلسفته برمتها
تدريبًا روحيًّا، دعوة إلى طريقةٍ جديدة في العيش، إلى تأملٍ
نشط، وضميرٍ حي.
ربما ينبغي للصيغة السقراطية «أعرف أني لا أعرف شيئا» أن
تعطى معنى أعمق: هكذا نعود إلى نقطة بدايتنا: سقراط يعرف أنه
ليس حكيمًا. وبصفته فردًا كان ضميره يستثار ويستحث من جراء
شعوره بالقصور والنقص.
في هذا الصدد يمكن لكيركجارد أن يساعدنا على أن نفهم دلالة
صورة سقراط. يذهب كيركجارد إلى أنه لا يعرف إلا شيئًا واحدًا:
هو أنه ليس مسيحيًّا. وكان على قناعةٍ وثيقة بهذه الحقيقة؛ فأن
تكون مسيحيًّا هو أن تكون لديك علاقةٌ شخصية ووجوديةٌ أصيلة
بالمسيح، أن تستدخل
١٠ المسيح في قرارٍ صادر من أعماق النفس. وحيث إن هذا
الاستدخال عسير للغاية فمن شبه المحال على أي شخص أن يكون
مسيحيًّا حقًّا. المسيحي الحق الوحيد هو المسيح. وإن أقل ما
يقال، على كل حال، هو أن أفضل المسيحيين هو ذلك الذي يدري أنه
ليس مسيحيًّا، بقدر ما يدرك ويميز أنه ليس مسيحيًّا.
كان وعي كيركجارد الوجودي منقسمًا، شأنه شأن كل وعيٍ وجودي.
فهو لا يوجد إلا في وعيه بأنه غير موجود كما يجب. إن وعي
كيركجارد مطابق للوعي السقراطي:
«أي سقراط، لقد كانت لديك الأفضلية اللعينة في الكشف
بوضوحٍ مؤلم (بواسطة جهلك) أن الآخرين كانوا أقل حكمة
منك، حتى إنهم كانوا لا يعرفون أنهم جاهلون. مغامرتك
هي عين مغامرتي. يصبح الناس ساخطين عليَّ عندما يرون
أني أستطيع أن أثبت أن الآخرين أقل مسيحية حتى مني،
أنا الذي أُبجِّل المسيحية بحيث أرى وأعترف بأني لست
مسيحيًّا!» (كيركجارد، «اللحظة»)
إن الوعي السقراطي هو أيضًا ممزَّق ومنقسم: لا بصورة المسيح
بل بالمعيار المفارق لصورة الحكيم.
العدالة، كما رأينا، لا يمكن أن تُعرَف. العدالة يجب أن
تُعاش. وكل الخطاب البشري في العالم ليس يكفي البتة للتعبير عن
عمق اعتزام شخصٍ واحد أن يكون عادلًا. على أن جميع القرارات
البشرية هشة وقلقة. وعندما يختار شخص أن يكون عادلًا في سياق
فعلٍ معيَّن؛ هنالك يكون لديه ومضة وجود يمكن أن يكون عادلًا
بالمعنى التام للكلمة. مثل هذا الوجود العادل تمامًا هو وجود
الحكيم، الذي ليس صوفوس، بل فيلو-صوفوس: ليس إنسانًا حكيمًا بل
إنسان يتوق إلى الحكمة، بالضبط لأنه يفتقر إليها. وقد أصاب
باول فريدلندر حين قال: «التهكم السقراطي، في جوهره، يعبر عن
التوتر بين الجهل — أي الاستحالة النهائية في أن تضع في كلمات
«ما هي العدالة» — والخبرة المباشرة بالمجهول، وجود الإنسان
العادل، الذي ترتفع عنده العدالة إلى مستوى المقدس» (فريدلندر،
«أفلاطون»).
ومثلما كان كيركجارد مسيحيًّا فقط بقدر ما كان واعيًا بكونه
غير مسيحي، كان سقراط حكيمًا فقط بقدر ما كان واعيًا بكونه غير
حكيم. تنبع رغبة عارمة من مثل هذا الفقدان. وهذا ما جعل سقراط
الفيلسوف، بالنسبة للوعي الغربي، يأخذ ملامح إيروس، المتشرِّد
الأزلي في البحث عن الجمال الحقيقي.
(٢) إيروس
من الجائز أن يُقال إن سقراط كان أول فرد في تاريخ الفكر
الغربي. وقد كان فرنر
ياجر
Werner Jaeger على حق حين أشار إلى أن أفلاطون
وزينوفون، في كتاباتهما السقراطية، يحاولان جهدهما أن يجعلا
القارئ يُحسُّ بأصالة سقراط وتفرُّده وهما يرسمان صورته
الأدبية. هذا المطلب من جانبهما هو بالتأكيد نتاج إدراكهما
البارع بأنهما بإزاء شخصيةٍ فذة؛ وهذا، كما أوضح كيركجارد، هو
التفسير الصحيح لمصطلحات
Atopos
و
Atopia
و
Atopotatos، التي تتكرر
كثيرًا جدًّا في أعمال أفلاطون لوصف شخصية سقراط. في محاورة
«ثياتيتوس»، على سبيل المثال، يُقرُّ سقراط: «إنهم يقولون إنني
Atopotatos غريب الأطوار
١١ ولا أخلق شيئًا غير البلبلة
(
Aporia)» (أفلاطون،
ثياتيتوس،
a149).
إتيمولوجيا تعني كلمة Atopos
«في لا مكان»، وبالتالي: غريب، متهور، محال، غير قابل للتصنيف،
مقلق. وفي محاورة «المأدبة» يؤكد ألقيبيادس هذا المعنى في
كلمته في مدح سقراط: «إن لسقراط من الخلال العجيبة ما يستحق
الثناء، ولكن بعضها مشترك بينه وبين غيره من الناس؛ أما الذي
يميزه عن غيره فهو مخالفته جميع الرجال، وكونه أرفع من أن
يقارَن بهم؛ فإن براسيداس، القائد الإسبرطي، كان مثل أخيل،
وبركليس يقارن بنستور اليوناني وأنتينور الطروادي؛ وإن كثيرًا
من الأقدمين تُمكن مقارنتهم برجال من نوعهم؛ أما سقراط، بشخصه
وخطبه، فلا يمكن تشبيهه بأحد إلا بالسيلنات والساتيرات»
(أفلاطون، المأدبة،
c-d221).
كان سقراط فردًا حقًّا: ذلك الفرد العزيز جدًّا لدى
كيركجارد؛ حتى إنه ودَّ أن يكتب على شاهد قبره: «كان ذلك
الفرد.»
غير أن سقراط، وإن لم يشبه أحدًا قط، فسنراه الآن يتخذ
الأوصاف الأسطورية لإيروس، أي أوصاف إيروس متصوَّرًا كإسقاطٍ
لصورة سقراط.
والتهكُّم الإيروسي عند سقراط مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتهكم
الديالكتيكي (الحواري)، ويُفضي إلى انعكاس الوضع، تمامًا كتلك
الانعكاسات التي يُفضي إليها الأخير (أي التهكم الديالكتيكي).
ولنكنْ واضحين تمامًا: الحب المعني هنا هو حبٌّ مثلي،
١٢ بالضبط لأنه حبٌّ تعليمي. كان الحب الذكوري في
اليونان أيام سقراط بقيةً أثرية لتعليم المحارب القديم، حيث
كان النبيل الصغير يدرَّب في الفضائل الأرستقراطية داخل إطار
الصداقة الذكورية وتحت إرشاد رجلٍ أكبر. وكانت علاقة
الأستاذ-التلميذ أثناء فترة السوفسطائيين متصوَّرة على غرار
هذه العلاقة القديمة، وكثيرًا ما كان يتحدث عنها بلغةٍ
إيروسية. وينبغي بالطبع ألَّا ننسى الدور الذي كان يلعبه
الخيال البلاغي والأدبي في هذه الطريقة من الحديث.
يتألَّف تهكم سقراط الإيروسي من التظاهر بأنه في حب، إلى أن
يحدث انعكاس الوضع بفعل التهكم ويقع موضوع التفاتاته الغرامية
نفسه في الحب. تلك هي القصة التي يرويها ألقيبيادس في كلمته في
مدح سقراط. لقد صدَّق ألقيبيادس تصريحات الحب العديدة التي
بثَّها إياه سقراط، ودعاه ذات ليلة إلى منزله ليغويه؛ واندسَّ
في الفراش معه ولفَّ ذراعَيه حوله. ولكن، لدهشة ألقيبيادس، بقي
سقراط متمالكًا نفسه تمامًا ولم ينجرف في الغواية على الإطلاق.
يقول ألقيبيادس في «المأدبة»:
«منذ ذلك الحين أنا الذي صرت مستعبدًا، وأنا الذي
حالي هو حال رجل لدغته أفعى خبيثة.
لقد لُدغتُ في القلب، أو في العقل، أو ما شئت أن
تسميه، بواسطة فلسفة سقراط … لحظة أسمعه يتحدث أُصاب
بهوسٍ مقدس، أشد من أي كوريبانت،
١٣ ويقفز قلبي إلى فمي، ويستهلُّ الدمع في
عيني … ولست وحدي في ذلك أيضًا؛ فهناك خارميدس،
ويوثيديموس، وكثيرون جدًّا؛ لقد خدعهم جميعًا؛ لكأنما
هو المحبوب وليس المحب.»
ولسنا نتصور تعليقا على هذه الفقرة أفضل من
الفقرة التالية لكيركجارد:
«للمرء أن يسميه مُغويًا،
١٤ إذ قد خدع الشباب وأيقظ فيهم أشواقًا لم
يشبعها قط … لقد خدعهم جميعًا بنفس الطريقة التي خدع
بها ألقيبيادس الذي … لاحظ أن سقراط بدلًا من أن يكون
عاشقًا صار معشوقًا … لقد جذب الشباب إليه، غير أنهم
عندما تطلَّعوا إليه وأرادوا أن يسكنوا إليه، عندما
نسوا كل شيء آخر وأرادوا أن يجدوا سكنًا آمنًا في حبه،
عندما لم يعودوا هم أنفسهم موجودين ولم تعد لهم حياة
إلا في كونهم معشوقيه؛ عندئذٍ ذهب سقراط، وانتهى
الافتتان، عندئذٍ أحسُّوا بلواعج الحب غير اﻟمُثاب،
أحسُّوا أنهم خُدعوا وأن سقراط ليس الذي أحبَّهم بل هم
الذين أحبوا سقراط.» (كيركجارد، «مفهوم
التهكم»)
يتألَّف تهكمُ سقراط الإيروسيُّ من التظاهر بالحب. كان
سقراط، في تهكم ديالكتيكي، يتظاهر وهو يسأل أسئلته أن رغبته
الحقيقية هي أن يجود عليه محاورُه بمعرفته وحكمته. غير أن هذه
اللعبة في الحقيقة، لعبة الأسئلة والأجوبة، كانت تُفضي إلى أن
يدرك المحاور أنه غير قادر على أن يشفي جهل سقراط، إذ ليست
لديه حكمة ولا معرفة لكي يمنحها لسقراط. أما الذي كان يرغب فيه
المحاور حقُّا، عندئذٍ، فهو أن يلتحق بمدرسة سقراط؛ مدرسة
الوعي باللامعرفة.
في التهكم الإيروسي كان سقراط يستخدم تصريحات الحب لكي
يتظاهر بأنه يريد من محبوبه المزعوم ألَّا يقدم له معرفته بل
يقدم جماله الفيزيقي. وهذا موقفٌ مفهوم: سقراط غير جذَّاب،
بعكس محاوره الشاب. إلا أنه في هذه الحالة يكتشف المحبوب — أو
المحبوب المفترض — من خلال موقف سقراط، أنه غير قادر على إشباع
حب سقراط، لأنه لا يمتلك جمالًا حقيقيًّا. وعند اكتشافه لأوجه
قصوره يكون المحبوب عندئذٍ قمينًا بأن يقع في حب سقراط. لم يكن
الجمال هو ما وقع المحبوب في حبه — فسقراط ليس من الجمال في
شيء — إنما هو وقع في «حب الحب» الذي هو، وفقًا لتعريف سقراط
له في «المأدبة»، الرغبة في الجمال الذي نفتقر إليه جميعًا. أن
تحب سقراط، إذن، هو أن تحب الحب.
هذا بالضبط هو معنى محاورة «المأدبة». فالمحاورة كلها
مشيَّدة بحيث تجعل القارئ يحدس بالتماهي بين صورتَي سقراط
وإيروس، وأفلاطون يعرض الضيوف آخذين أدوارهم من اليسار إلى
اليمين، مُلقين أحاديث في مديح إيروس. ونحن نسمع على التتالي
فايدروس وبوسانياس، ثم أركسيماخوس الطبيب، وأرسطوفانيس الشاعر
الكوميدي، وأخيرًا الشاعر التراجيدي أريستون. وعندما يأتي دور
سقراط فإنه لا يقدم خطبةً مباشرة في مدح الحب لأن هذا يكون
مخالفًا لمنهجه؛ ويروي بدلًا من ذلك محادثة كانت له مع ديوتيما
الكاهنة من مانتينيا، التي أنبأته بأسطورة ميلاد إيروس. وقد
كانت المحاوَرة قمينة بأن تنتهي هنا، لولا اقتحام ألقيبيادس
المفاجئ لغرفة المأدبة: متوجًا بإكليل من البنفسج وأوراق
اللبلاب يذعن ألقيبيادس لقواعد المأدبة، ولكنه بدلًا من مدح
إيروس يقدِّم كلمة في مدح سقراط.
يتأكد هذا التماهي بين سقراط وإيروس بطرقٍ عديدة: فالخطبة
التي في مدح سقراط تتخذ مكانها في سلسلة من الخطب التي أُلقيت
للتوِّ في مدح إيروس؛ ليس هذا فحسب، بل هناك أيضًا ملامحُ
دالَّةٌ كثيرة تجمع بين صورة إيروس كما رسمتها ديوتيما وصورة
سقراط كما قدَّمها ألقيبيادس.
تحكي ديوتيما أنه في يوم ميلاد أفروديت أقام الآلهة مأدبة.
فجاءت بنيا
Penia — أي
«الفقر» أو «الحرمان» — تستجدي في نهاية وقت الطعام، فلمحت
بوروس
Poros — أي «الغنى»
و«الحيلة» و«الوفور» — ثملًا بالنكتار
١٥ ونائمًا في حديقة زيوس. ولكي تتخلص من عدمها قررت
بنيا أن تحمل من بوروس، فضاجعته وهو نائم وحملت إيروس
Eros.
هذه الرواية في أصل إيروس تتيح لديوتيما أن تقدم وصفًا شديد
الدقة بحيث يمكن تأويله على مستوياتٍ شتى: فأولًا، يمكننا
باقتفاء الكلمات المحددة للأسطورة أن نميز في إيروس ملامح كلٍّ
من أمه وأبيه. فمن ناحية أبيه يأخذ مهارته وذهنه المبتدع
(Euporia باليونانية)، ومن
أمه يرث حالة «الشحاذ المبتلى بالفقر»:
Aporia. وبوسعنا وراء هذا
الوصف أن نميز تصورًا معينًا جدًّا للحب. وفي حين وصف الضيوف
الآخرون الحب بطريقةٍ مثالية، فإن سقراط يروي محادثة مع
ديوتيما لكي يدخل بعض الواقعية في رؤية الحب. فليس من الحق،
بعكس ما يفترضه بقية الضيوف، أن الحب جميل؛ فإذا كان جميلًا لا
يعود حبًّا؛ لأن الحب جوهريًّا رغبة، والمرء لا يمكن أن يرغب
إلا فيما ليس لديه. إيروس، إذن، لا يمكن أن يكون جميلًا:
فبوصفه ابن بنيا فهو يفتقر إلى الجمال، ولكنه بوصفه ابن بوروس
يعرف كيف يعالج نقصه. وقد خلط أجاثون بين الحب وموضوع الحب، أي
المحبوب.
الحب Love عند سقراط هو
محب A Lover. وهو من ثم
ليس إلهًا كما يظن معظم الناس، بل هو دايمون Daimon (نصف إله) فحسب، أيْ
كائنٌ وسط بين البشري والإلهي.
لذا فثمة شيءٌ كوميدي في وصف ديوتيما لإيروس. إن بوسعنا أن
ندرك فيه الوجود التسوُّلي الذي يمكن للحب أن يلقي بنا فيه.
تلك هي ثيمة «كل محب هو مقاتل»: حيث يقف المحب حارسًا على درجة
باب المحبوب، أو يقضي الليل نائمًا على الأرض. إن إيروس شحاذ
وجندي معًا، غير أنه أيضًا مخترع، وساحر، ومتحدث ماهر، لأن
الحب يجعله عبقريًّا. الحياة بالنسبة له لحن متصل من الخيبة
والرجاء، من الحاجة والإشباع، يعقب أحدهما الآخر بحسب نجاحاته
وهزائمه في حبه.
هذا هو إيروس في جانبه الهولي المسيخ — تافه متبطل، وقح،
عنيد، صخاب، همجي — إيروس المصوَّرة حماقاته تصويرًا مميزًا في
الشعر اليوناني نُزُلًا حتى العصر البيزنطي.
غير أن أفلاطون، بمهارةٍ مدهشة، يجعل ملامح سقراط «الفيلسوف»
تظهر تحت صورة إيروس الصياد. قد يظن أجاثون أن إيروس رقيق
ولطيف، ولكن ديوتيما تؤكد أنه، في الواقع، فقير دائمًا وخشن
وقذر وحافي القدمين. وفي كلمة ألقيبيادس في مدح سقراط نجده
أيضًا يصور سقراط حافي القدمين متلفعًا بسترةٍ رديئة لا تكاد
تحميه من برد الشتاء. ومن سياق المحاورة نعلم أن سقراط قد
اغتسل «على غير العادة» قبل أن يذهب إلى المأدبة. والشعراء
الكوميديون أيضًا قد أوسعوا سقراط سخريةً ضاحكة من قدمَيه
الحافيتَين وعباءته البالية.
وقد اتخذ الفلاسفة الكلبيون فيما بعدُ صورة سقراط كإيروس
الشحاذ، وبخاصة ديوجين. فقد دأب ديوجين، الذي نعت نفسه، فيما
يبدو، ﮐ «سقراطٍ
١٦ هائج»، على أن يتجوَّل ليس عليه غير عباءة وحقيبة
ظهر، لا مأوى له ولا بيت. وكما أوضح فريدلندر فإن إيروس الحافي
يستدعي أيضًا في الذهن الإنسان البدائي كما يُصوِّره أفلاطون
في محاورة «بروتاجوراس» ومحاورة «السياسي».
ها نحن نُردُّ إلى صورة ذلك الكائن الطبيعي الخالص سيلنوس،
بقوته البدائية الأسبق على الثقافة والحضارة. وليس من قبيل
الصدفة أن يدخل هذا العنصر في الصورة المعقدة لسقراط/إيروس؛
فهو يتطابق تمامًا مع انعكاس القيم الذي جلبه الوعي السقراطي؛
فالشيء الجوهري عند الإنسان المعني بتهذيب روحه لا يلتمس في
المظهر ولا اللباس ولا الراحة، بل في الحرية.
ومع ذلك تؤكد ديوتيما أن إيروس قد ورث بعض الملامح من أبيه:
«إنه ينصب شراكًا للنفوس النبيلة، لأنه جريء، وعنيد، وكثير
التحمل. وهو صيادٌ خطر، يحبك خدعة ما على الدوام؛ يتوق إلى
المهارة، كثير الحيل، يدبر دائمًا خطة ما، وهو ساحرٌ رهيب،
ومغالط» (المأدبة، d203).
ويكفينا أن نستمع إلى ستريسيادس في مسرحية «السحب» لأرسطوفانيس
وهو يصف ما يريد أن يصبح بعد تعليمه السقراطي: «مغامر، ذلق
اللسان، جريء وعنيد … لا تخونه العبارة، ثعلب حقيقي». وفي خطبة
مديحه لسقراط أطلق ألقيبيادس عليه «سيلنوس وقح»، وأسبغ عليه
أجاثون نعت Hybristes (فظيع).
وسقراط عند ألقيبيادس هو ساحر، معسول اللسان، متمرِّس في جذب
كل صبيٍّ مليح.
تظهر صلابة إيروس مرةً أخرى في الصورة التي يرسمها ألقيبيادس
لسقراط في الحملة مع الجيش. يقول ألقيبيادس إن سقراط كان
يستطيع الصبر على البرد والجوع، ويمتنع عن نبيذه بنفس السهولة
التي يتحمل بها النوبات الطويلة من التأمل. وينبئنا ألقيبيادس
أن سقراط أثناء الانسحاب من ديليون كان يمشي بهدوء كأنه في
شوارع أثينا، حيث يصفه أرسطوفانيس بأنه «رافع رأسه … مقلَّب
عينيه، حافي القدم، بادي الوقار.» وهذه الصورة لسقراط/إيروس،
كما يمكننا أن نرى، ليست مبالغة في الإطراء، فمن الواضح أننا
في قلب التهكم الأفلاطوني، إن لم يكن السقراطي، تمامًا. غير أن
هذه الصورة لا تخلو من صدقٍ سيكولوجيٍّ عميق.
تخبرنا ديوتيما أن إيروس هو دايمون (نصف إله)؛ أي وسط بين
الآلهة والبشر. ومرةً أخرى نحن نضطر إلى النظر في مشكلة
الحالات البينية، وإلى أن نتبيَّن مرةً أخرى كم هو مزعج هذا
الوضع وغير مريح! إن إيروس، كما تصفه لنا ديوتيما، صعب
التعريف، وصعب التصنيف: هو أيضًا، مثل سقراط،
Atopos (غريب الأطوار).
إنه ليس إلهًا ولا هو إنسان، لا هو جميل ولا قبيح، لا حكيم ولا
أحمق، لا خير ولا شرير. غير أنه لا يزال يجسد الرغبة، لأنه،
مثل سقراط، يدري أنه ليس وسيمًا ولا حكيمًا. وهذا هو السبب في
أنه فيلو-صوفر أي محب للحكمة. وهو، بعبارةٍ أخرى، يرغب في بلوغ
مستوى وجود الكمال الإلهي. إيروس، إذن، وفقًا لوصف ديوتيما، هو
الرغبة في كماله الخاص، أي في نفسه الحقيقية. وهو يعاني من
كونه محرومًا من وفرة الوجود، ويجهد لبلوغ ذلك. وعندما يقع
الناس في حب سقراط/إيروس — أي عندما يقعون في حب الحب، كما
أفشى لهم سقراط — فإن ما يحبونه في سقراط هو حبه للجمال ولكمال
الوجود، والطموح إلى ذلك. إنهم يجدون في سقراط الطريق إلى
كمالهم الخاص.
إن إيروس، مثل سقراط، مجرد نداء واحتمال. إنه ليس الحكمة
ذاتها ولا الجمال ذاته. واذكر أن المرء حين يفتح السيلنات
الصغيرة التي ذكرها ألقيبيادس يكتشف أنها مليئة بتماثيل
الآلهة. غير أن السيلنات ليست هي نفسها التماثيل، بل تنفتح
فحسب لكي يستطيع المرء أن يصل إليها. اذكرْ أن الأصل الاشتقاقي
لكلمة Poros، والد إيروس، هو
«المنفذ» أو «المخرج». سقراط مجرد سيلنوس ينفتح على شيء ما
خارج نفسه.
الفيلسوف أيضًا لا يعدو أن يكون هذا: نداء إلى الوجود. وكما
عبر سقراط، بتهكُّم، مخاطبًا ألقيبيادس الوسيم: «إذا كنتَ
تحبني فلأنك، حتمًا، قد رأيت فيَّ جمالًا لا يشبه جمالك
الجسماني … لكنْ أنعِم النظر في الأمر، حتى لا تقع في خطأ عني
وعن تفاهة شأني معًا» (المأدبة،
e218). هنا سقراط يعطي
ألقيبيادس تحذيرًا؛ ففي حبه لسقراط إنما يحب في الحقيقة إيروس؛
لا إيروس ابن أفروديت، بل إيروس ابن بوروس وبنيا. وسبب حبه هو
أنه يحس أن سقراط يمكن أن يفتح له طريقًا إلى جمالٍ غير عادي،
يتجاوز كل الجمالات الأرضية. إن فضائل سقراط (تلك التماثيل
الإلهية المخبوءة داخل سيلنوس التهكمي) التي يعجب بها
ألقيبيادس أيما إعجاب، لا تعدو أن تكون انعكاسًا، وعيِّنة، من
الحكمة الكاملة التي يرغب فيها سقراط، والتي يرغب فيها
ألقيبيادس من خلال سقراط.
في إيروس السقراطي نجد نفس البنية الأساسية التي في التهكم
السقراطي: وعي منقسم، يدري بعمق أنه ليس ما ينبغي أن يكونه.
وإنما من هذا الشعور بالانفصال والافتقار — يولد الحب.
ستبقى دائمًا من أعظم مناقب أفلاطون أنه استطاع، من خلال
أسطورة سقراط/إيروس أن يدخل في الحياة الفلسفية بعد الحب؛ أي
بعد الرغبة واللامعقول. وقد أنجز ذلك بطرقٍ عديدة: أولًا بخبرة
الحوار نفسه، حيث متحاوران تحدوهما إرادةٌ مشبوبة في إيضاح
مشكلةٍ معينة معًا. وبعيدًا عن الحركة الديالكتيكية للوجوس فإن
الطريق الذي يقطعه سقراط ورفيقه معًا، وإرادتهما المشتركة في
الوصول إلى اتفاق هما بحد ذاتهما نوع من الحب. إن في تدريباتٍ
روحية مثل محاورات سقراط من الفلسفة أكثر بكثير مما في تشييد
مذهبٍ فلسفي. تتمثل مهمة الحوار جوهريًّا في تبيان محدودية
اللغة، وعجزها عن إيصال الخبرة الأخلاقية والوجودية. غير أن
الحوار نفسه، بوصفه حدثًا ونشاطًا روحيًّا يشكل من الأصل خبرةً
أخلاقية ووجودية؛ ذلك أن فلسفة سقراط ليست هي التشييد المنعزل
لمذهبٍ معين، بل هي إيقاظ الوعي، والولوج إلى مستوًى من الوجود
لا يمكن بلوغه إلا في علاقة شخص بشخص.
وإيروس، شأنه شأن سقراط المتهكم، لا يعلم شيئًا، لأنه جاهل.
إنه لا يجعل الناس أكثر حكمة؛ بل يجعلهم غير ما هم. إيروس هو
أيضًا تسآلي Maieutic؛ إنه
يساعد النفوس أن تولد نفسها.
إنها لرحلةٌ مؤثرة أن تقتفي تأثير إيروس السقراطي عبر
التاريخ. في إسكندرية القرن الثالث، على سبيل المثال، مدح
الكاتب المسيحي جريجوري ثوماتورجوس أستاذه أوريجين بالعبارات
التالية:
«وهكذا، مثل شرر يضيء دخيلة روحنا، انقدح الحب
واندلع لهبًا داخلنا — حب لهما معًا: للوجوس … ولهذا
الإنسان، صديق اللوجوس وداعيته … أحيانًا ما يقاربنا
بطريقةٍ سقراطيةٍ أصيلة، ويقلع بنا إلى أعلى بواسطة
حجاجه كلما رآنا نحرن تحته مثل كثيرٍ جدًّا من الخيول
غير المروَّضة.» (جريجوري ثوماتورجوس، «خطبة في مدح
أوريجين»)
ونحن، كما بيَّن برترام في بعض الصفحات الرائعة، نصادف
موضوعة إيروس السقراطي والدايمون التربوي عند نيتشه. ثمة،
وفقًا لبرترام، ثلاثة أقوال توجز بإحكام هذا البعد الإيروسي للبيداجوجيا.
١٧ أحدها لنيتشه نفسه: «أعمق الاستبصارات تنبع من
الحب وحده» (نيتشه، «مدخل إلى دراسة الفلسفة الكلاسيكية»).
والثاني لجوته: «نحن لا نتعلم إلا من أولئك الذين نحبهم»
(جوته، «محادثات مع إكرمان»). وهناك أخيرًا قولٌ مأثور
لهلدرلين: «الإنسان الفاني يعطي أفضل ما عنده عندما يحب»
(هلدرلن، «موت أمبدوقليس»). تعمد هذه المبادئ الثلاثة إلى أن
تبيِّن أننا لا نلج إلى الوعي الأصيل إلا من خلال الحب
المتبادل.
وباستخدام مصطلح جوته يمكننا أن نسم هذا البعد الخاص بالحب
والرغبة واللامعقول على أنه «الديموني» The Demonic. وقد صادف أفلاطون هذا البعد في
شخص سقراط نفسه. فكما هو معروف جيدًا فإن «ديمون» سقراط كان
نوعًا من الإلهام الذي ينتابه أحيانًا بطريقةٍ لامعقولة
تمامًا، كعلامةٍ سلبية تهيب به ألا يفعل هذا الشيء أو ذاك. لقد
كان هذا، بمعنًى ما، «شخصيته» الحقيقية، أو ذاته الحقيقية. كما
أن هذا العنصر اللاعقلاني في الوعي السقراطي ربما لا يخلو من
علاقة بالتهكم السقراطي. ومن الجائز أن السبب في إقرار سقراط
بأنه لا يعرف أي شيء هو أنه، عندما يكون المقام مقام فعل، فإنه
يثق في «ديمونه» الخاص، كما يثق أيضًا في «ديمون» محاوريه.
وعلى كل حال، كما بين جيمس هيلمان في عام ١٩٦٦م، فإذا كان بوسع
أفلاطون أن يسبغ على سقراط صورة الديمون العظيم إيروس فربما
لأنه قد صادف في سقراط إنسانًا ديمونيًّا (هيلمان، الإبداع
النفسي).
كيف يمكننا أن نفسر هذا البعد؛ بعد الديموني؟ لا يمكن لأحد
أن يرشدنا في هذا الموضوع أفضل من جوته، الذي خلبه لغز
الديموني وأقلقه طوال حياته. ولعل أول لقاء له بالديموني كان
ديمون سقراط كما صوَّره هامان في «تذكارات
سقراطية» Socratic Memorabilia. لقد فُتن جوته بسقراط لدرجة أننا
نجد في رسالته إلى هردر في عام ١٧٧٢م الهتاف الرائع التالي:
«آه لو أمكنني فقط أن أكون ألقيبيادس يومًا واحدًا وليلة، ثم
أموت!» (جوته، «رسالة إلى هردر»). الديموني عند جوته كان لديه
جميع الملامح الملتبسة والمتناقضة لإيروس السقراطي. إنه، كما
يقول في الكتاب ٢٠ من «الشعر والحقيقة»، قوة لا هي إلهية ولا
إنسانية، لا شيطانية ولا ملائكية، والتي توحد وتفرق، في آنٍ
معًا، جميع الكائنات. ومثلما هو الحال في إيروس في محاورة
«المأدبة»، فإنه لا يمكن تعريفه إلا بألوان من النفي المتزامن
والمتناقض. إلا أنه قوة تمنح حامليها سطوة لا تصدُق على
الكائنات والأشياء. يمثل الديموني نوعًا من السحر الطبيعي داخل
بُعد اللامعقول واللامفسر. هذا العنصر اللاعقلاني هو القوة
المحركة التي لا غنى عنها لكل خلق؛ إنه الدينامية العنيدة
العمياء التي لا يمكننا الهروب منها وإنما علينا أن نتعلم كيف
نستخدمها. في كتابه Unworte
يقول جوته التالي عن ديمون الأفراد:
«كذا ينبغي أن تكون
… لا زمان ولا قوة يمكن أن تحطم
الشكل المختوم، الذي ينمو فيما هو يعيش.» (جوته،
«الديمون»)
وعند جوته أن المخلوقات التي تمثل العنصر
الديموني أدق تمثيل تأخذ ملامح إيروس في «المأدبة». ويصدق هذا
بصفةٍ خاصة، كما أوضح رابي Raabe، في حالة منيون Mignon. إن منيون، شأنها شأن إيروس، فقيرةٌ
معوزة، ولكنها تطمح إلى النقاء والجمال. ورغم أن ملابسها
فقيرةٌ رديئة فإن مواهبها الموسيقية تكشف ثراءها الداخلي. وهي
مثل إيروس تنام على الأرض العارية، أو على درجة سلم فلهلم
ميستير. وهي في النهاية، مثل إيروس، إسقاط وتجسيد لحنين ميستير
إلى شكلٍ أعلى من الحياة.
وعند جوته صورةٌ ديمونيةٌ أخرى هي أوتيليا Ottilia، بطلة
Elective Affinities. وهو
يصورها كقوةٍ طبيعية، شديدة وعجيبة وفاتنة. وصلتها العميقة
بإيروس أخفى من حالة منيون، ولكنها ليست أقل واقعية. يجب أن
نذكر أيضًا الصورة الخنثوية
ﻟ «هومنكولوس»
Homunculus، الذي نجد صلته بإيروس مؤكدة بوضوحٍ كبير في
المشهد الثاني من فاوست الثاني.
والديموني، بوصفه عنصرًا ملتبسًا، ومتناقضًا، وغير حاسم، فهو
لا خيِّر ولا شرير؛ وحده القرار الأخلاقي البشري ما يمكن أن
يمنحه قيمةً محددة. غير أن هذا العنصر، غير العقلاني وغير
المفسر، ملتئم بالوجود لا يمكن فصله. كما أن اللقاء بالديموني،
واللعب الخطر مع إيروس، قدرٌ يتعذَّر اجتنابه.
(٣) ديونيسوس
سنعود الآن إلى كراهة نيتشه المحبة، والعجيبة، لسقراط. وقد
كان برترام قد ذكر اللازم في هذه النقطة، ولكن ربما يمكن فهم
موقف نيتشه المعقَّد فهمًا أفضل بالنظر في بعض العناصر الأقل
ملاحظة والتي راحت تشكل صورة سقراط في «المأدبة».
كان نيتشه يدري تمامًا بالقوى الإغوائية العجيبة لسقراط الذي
أطلق عليه «ذلك المسخ الساخر والمفتون، وزمار أثينا المتلوِّن،
الذي جعل أعتى الشباب يرتعد وينشج» (نيتشه، «العلم المرح»).
يحاول نيتشه أن يتعرف على آلية هذا الإغواء: «لقد تفهمت كيف
تأتَّى لسقراط أن يصدَّ؛ لذا كان الألزم كثيرًا أن أفسر فتنته
وسحره.» ثم يمضي نيتشه ليقترح تفسيراتٍ عديدة: «تملق سقراط
نزوع اليونانيين للقتال بحوارياته؛ لقد كان إيروسيا كبيرًا،
وقد فهم دوره التاريخي في مقاومة التفسُّخ الغرزي بواسطة
العقلانية.» الحقيقة أن جميع هذه التفسيرات لا تُغريني. إلا أن
نيتشه يقترح بالفعل سببًا أعمق: يأتي افتتان الأجيال كلها
بسقراط من جراء موقفه في وجه الموت. وتأتي بالأخص من الطبيعة
شبه الإرادية لموته. منذ كتابه المبكر «ميلاد التراجيديا» قام
نيتشه بتجميع الصفحات الأخيرة من «فيدون» و«المأدبة» في صورةٍ
رفيعة:
«كونه قد عوقب بالموت وليس بالنفي، فذاك شيء يبدو أن
سقراط شخصيًّا قد ألحقه بنفسه عن درايةٍ تامة ودون أي
رهبةٍ طبيعية من
الموت. لقد ذهب إلى الموت بالهدوء الذي ترك به — وفقًا
لأفلاطون — المأدبة في الفجر، كآخر الندماء، ليبدأ
يومًا جديدًا، بينما بقي رفاق مائدته الناعسون على
المقاعد وعلى الأرض ليحلموا بسقراط، الإيروسي الحقيقي.
ويصبح سقراط اﻟمحتضر هو المثال الجديد، غير المسبوق
قط، للشباب اليوناني النبيل.» (نيتشه، «ميلاد
التراجيديا»)
أحس نيتشه وتوقع، في المشهد الأخير من محاورة «المأدبة»
لأفلاطون، رمز موت سقراط. إن وصف أفلاطون للمشهد، في حد ذاته،
هو أبسط ما يمكن:
«وحدهم أرسطوفان وأجاثون وسقراط كانوا لايزالون
صاحين يشربون ويتبادلون طاسًا واحدة. وكان سقراط
يتناقش معهم … ويحملهم في النهاية على التسليم بأن من
يقدر على تأليف الشعر التراجيدي قادر على تأليف الشعر
الكوميدي، لأن أصول الصنعتين واحدة … وكان أرسطوفان
أول من نام. ثم نام أجاثون عندما طلعت الشمس. أما
سقراط فقد نهض ومضى، وقصد إلى الليسيوم فاغتسل، ثم قضى
بقية اليوم مثلما اعتاد أن يقضي أي يوم آخر.»
(أفلاطون، المأدبة،
c223)
لم تغب الرمزية الغامضة الكامنة في الفقرة الرصينة، لم تغب
عن الشعراء المحدثين. ماير C. F.
Meyer، على سبيل المثال، قدم الصورة
التالية لمشهد سقراط المحتضر، في ذلك الفجر حيث لم يبق صاحيًا
إلا الفيلسوف:
بينما شرب أصحاب سقراط معه،
وغاصت رءوسهم في وسائدهم،
دخل شاب، أتذكر ذلك جيدًا،
مع عازفي فلوت رشيقين،
أفرغنا كئوسنا حتى الثمالة،
وهوت شفاهنا، المنهكة من كثرة الكلام، صامتة،
حومت أغنية فوق أكاليل الزهر الذابلة …
صمت! مزامير الموت الناعسة تعزف!
وعلى خلاف ذلك فإن ما رآه هلدرلن في الحدث هو سقراط عاشق
الحياة:
ولكن يأخذ كل منا عياره،
فصعب تحمُّل الحظ العاثر،
ولكن أصعب، بعد، تحمل الحظ السعيد،
غير أن رجلًا حكيمًا واحدًا كان بوسعه
من الظهر إلى منتصف الليل دواليك
حتى الصباح — أن يوقد السماء
ويبقى صاحيًا تمامًا في المأدبة.
ها هنا يكمن اللغز الذي وضعه سقراط لنيتشه:
كيف تأتَّى لشخص أحب الحياة قدر ما أحبها سقراط أن يكره
الوجود، فيما يبدو، بحيث يريد أن يموت؟ ذلك أن نيتشه كان على
إلفٍ تام بسقراط الذي أحب الحياة؛ وأحبه نيتشه حقًّا:
«إذا جرت الأمور على ما يرام فسوف يأتي زمن يأخذ فيه
المرء «تذكارات» سقراط، وليس الكتاب المقدس، كمرشد
للأخلاق وللعقل، ويستخدم مونتيني وهوراس كرائدَين ومعلمَين
١٨ لفهم سقراط، أكثر الشفعاء بساطة ودوامًا.
إن مسارات شتى الطرائق الفلسفية للحياة وأكثرها
تباينًا لترتدُّ إليه … سقراط يفوق مؤسس المسيحية في
امتلاكه صنفًا مرحًا من الجدية وتلك الحكمة اﻟمفعمة
بالصعلكة التي تشكل أنقى حالة للنفس البشرية.» (نيتشه،
«إنساني، إنساني جدًّا»)
يمكننا أن نرى حكمة سقراط «المفعمة بالصعلكة» في تصوير
زينوفون لسقراط راقصًا، وفي سقراط المازح الساخر في المحاورات
الأفلاطونية، وفي صورة الفيلسوف المحب للحياة في قصيدة هلدرلين
«سقراط وألقيبيادس»:
«أيا سقراط المقدس، لماذا
تتودد دائمًا إلى هذا الشاب؟
ألا تعرف شيئًا أعظم من ذلك؟
لماذا ترنو عيناك إليه بحب
كأنما ترنوان إلى إله؟»
«إن من تفكَّر على نحوٍ أكثر عمقًا
يحب من هو أكثر حياة،
ومن رأى العالم
بوسعه أن يفهم الشباب الرفيع،
ومن المرجح، في النهاية
أن ينحني الحكيم أمام الجميل.»
في مقال نيتشه «شوبنهاور معلمًا» تندمج صورة
شوبنهاور بهذه الصورة ﻟ «سقراط-كمحب-للحياة». في الفقرة
الرائعة القادمة يستعين نيتشه بأبيات هلدرلن لكي يصف مرح
الحكيم:
لا شيء يمكن أن يلم بالإنسان أفضل ولا أسعد من أن
يكون قريبًا من أحد أولئك المظفَّرين الذين لأنهم
فكروا بعمقٍ بالغ، بالضبط لهذا السبب، فلا بد أن يحبوا
ما هو أكثر حياة، وبصفتهم حكماء فإنهم يميلون في
النهاية إلى الجميل … إنهم نشطون وأحياء بحق … الأمر
الذي يجعلنا في قربهم نحسُّ بأننا إنسانيون وطبيعيون
مرةً واحدة، ونحس كأننا نهتف مع جوته: «ما أمجده
وأغلاه أي شيء حي! كم هو متكيف مع ظروف عيشه، كم هو
حق، كم هو موجود!» (نيتشه، «تأملات لغير
زمانها»)
في كتابه «ميلاد التراجيديا» يرى نيتشه أن بوسعه أن يتنبأ
بمجيء سقراطٍ موسيقي. يرى نيتشه أن سقراط الموسيقي سوف يلبي
النداء الذي، في أحلام سقراط، دعا الفيلسوف إلى أن ينذر نفسه
للموسيقى. وهو بذلك سوف يوفق بين الصفاء الساخر للوعي العقلاني
وبين الحماسة الشيطانية. مثل هذه الصورة، فيما يقول نيتشه في
كتاباته غير المنشورة، سوف يكون مثالًا حقيقيا ﻟ «الإنسان
التراجيدي». لقد أسقط نيتشه حلمه الخاص بالتوفيق بين أبولو
وديونيسوس على هذه الصورة لسقراط موسيقيًّا.
وفي سقراط المحتضر رأى نيتشه، بعد، انعكاسًا آخر لمأساته
الخاصة. لقد «أراد» سقراط أن يموت — هذا ما كان صادمًا جدًّا
لنيتشه — وفي لحظة موته تحدث بهذه الكلمات الملغِزة: «أي
كريتون نحن مدينون بديك لأسكليبيوس»
١٩ (أفلاطون، محاورة «فيدون»،
a118)؛ لكأنما شفي سقراط
من داء ما، وأصبح عليه دين لإله الشفاء.
«هذه الكلمة المضحكة والرهيبة، هذه «الكلمة
الأخيرة»، تعني لكل ذي سمع: «أي كريتون، إنما الحياة
داء». هل من المحتمل أن رجلًا مثله كان لا بد له أن
يكون متشائمًا؟ لقد كان يحتفظ بسيماءَ مرحة بينما كان
يخفي طوال حياته حكمه النهائي، شعوره الأعمق. سقراط!
سقراط كان يعاني الحياة! ثم انتقم، بعد، لنفسه — بهذا
القول اﻟمعمى والشنيع، التقي والكفري … لوددت أنه ظل
متكتمًا أيضًا في اللحظة الأخيرة من حياته، لكان،
ربما، انتسب إلى فصيل من النفوس أرفع درجة.» (نيتشه،
«العلم المرح»)
وكما بين برترام بحق فإن نيتشه هنا يقدم لنا المفتاح لشكِّه
الخاص، الوثيق السري، ولمأساة وجوده كله. لعله كان يود أن يكون
شاعر فرح الحياة والوجود، ولكنْ، في نهاية التحليل، ألم يكن هو
أيضًا متخوفًا من ألا تكون الحياة سوى مرض؟ لقد باح سقراط
برأيه في الوجود الأرضي، فأفشى بذلك سره. لكن نيتشه «أراد» أن
ينتمي إلى ذلك «الفصيل الأرفع من الأنفس»: أولئك الذين بمكنتهم
أن يكتموا هذا السر الرهيب. وبتعبير برترام: «ترى أكانت
أنشودته الديونيزية المغالية للحياة، وللحياة وحدها، هي فقط
ذلك الصنف من الصمت الذي تحته معلمٌ عظيم للحياة لم يكن يؤمن
بالحياة؟» (برترام، «نيتشه»).
في «شفق
الأصنام» The Twilight of the Idols نجد انقلابًا أخيرًا في إعادة تأويل
نيتشه لكلمات سقراط الأخيرة. المرض هنا الذي كان سقراط بصدد
الشفاء منه ليس الحياة ذاتها، بل نوع الحياة الذي عاشه سقراط:
(«سقراط ليس طبيبًا»، قال لنفسه بترفُّع، «وحده الموت هو
الطبيب هنا»؛ لم يكن سقراط نفسه إلا مريضًا لزمن طال). على هذا
التأويل فإن الصفاء السقراطي والخلق السقراطي يناظران مرضًا
ينخر في الحياة. ولكن، هنا أيضًا، ألا يجوز أن يكون مرض سقراط
هو ذات المرض الذي كان يعانيه نيتشه نفسه؟ هذا الاستبصار
المبدِّد للخرافة، وهذا الوعي القاسي، أليسا هما استبصار،
ووعي، نيتشه نفسه؟ إن كراهية نيتشه المحبة لسقراط كانت، في
نهاية التحليل، مطابقة للكراهية المحبة التي يشعر بها نيتشه
نحو نفسه. ربما يكون التباس صورة سقراط عند نيتشه متجذرًا في
التباس الصورة المحورية للميثولوجيا النيتشوية: ديونيسوس، إله
الموت والحياة.
لأسباب تبقى في النهاية ملغِزة علينا نوعًا ما، أحاط أفلاطون
سقراط في «المأدبة» بكوكبةٍ كاملة من الرموز الديونيزية. والحق
أن المحاورة كلها كان يمكن أن تسمى «حكم
ديونيسوس» The Judgment of Dionysos؛ إذ إن أجاثون يخبر سقراط أنه حين
يكون السؤال: من هو الأحكم، هو أم سقراط؟ فإنهما سيحتكمان إلى
ديونيسوس. وبعبارةٍ أخرى، إن من يشرب أكثر سيفوز بمباراة صوفيا
هذه — الحكمة والمعرفة — الواقعة حيث هي تحت شارة إله النبيذ
(المأدبة، e175). وعندما يقتحم
ألقيبيادس فيما بعدُ غرفة المأدبة يكون مكلَّلًا بالبنفسج
وأوراق اللبلاب، تمامًا مثل ديونيسوس. وبمجرد أن يدخل يضع
تاجًا من عصائب الرأس حول رأس سقراط، مثلما جرت العادة على أن
يفعل تجاه الفائز في المسابقات الشعرية. نحن نذكر أن ديونيسوس
كان إله كل من التراجيديا والكوميديا. في معرض كلمته في مدح
سقراط يؤلف ألقيبيادس ما يسميه سقراط فيما بعدُ «دراما
الساتيرات والسيلنات»، إذ إن هذه هي الكائنات التي يقارن بها
سقراط. ونحن نذكر مرةً ثانية أن الساتيرات والسيلنات يشكلون
الحاشية المصاحبة لديونيسوس، وأن محور الدراما الساتورية كان
أصلًا هو انفعالات ديونيسوس. وفي المشهد الأخير من «المأدبة»
نجد سقراط وحده مع الشاعر التراجيدي أجاثون والشاعر الكوميدي
أرسطوفان، وهو يقنعهما شيئًا فشيئًا أن الشخص نفسه يجب أن يكون
قادرًا على أن يكون شاعرًا تراجيديًّا وكوميديًّا في آنٍ معًا.
وقد سبق أن قال أجاثون في مديحه لإيروس إن الحب هو أعظم
الشعراء. هكذا فإن سقراط الذي يتفوق في مجال إيروس يتفوق أيضًا
في مجال ديونيسوس. فهو بعد كل شيء لا ينافسه أحد في مواصلة
الشراب. وإذا كان يفوز، نتيجة ﻟ «حكم ديونيسوس»، بمسابقة
الحكمة فلأنه الوحيد الذي يبقى صاحيًا في نهاية المأدبة. هل
يمكن أن نلحظ، بعدُ، خاصةً ديونيزيةً أخرى في نشواته المتطاولة
المذكورة مرتين في المحاورة؟
هكذا نجد في محاورة «المأدبة» لأفلاطون ما يبدو أنه مجموعةٌ
واعية ومتبصرة من الإشارات إلى الطبيعة الديونيزية لصورة
سقراط. تبلغ هذه المجموعة أوجها في المشهد الأخير من المحاورة،
الذي يظهر فيه سقراط فائزًا، بحكم ديونيسوس، كأفضل شارب وأفضل
شاعر.
وعلينا ألا نستغرب إذا وجدنا صورة سقراط عند نيتشه، على نحوٍ
مفارق وسري وربما لاشعوري، تتداخل مع صورة ديونيسوس.
في نهاية «ما وراء الخير والشر» يسدي نيتشه إلى ديونيسوس
إطراءً فوق العادة ﻟ «عبقرية القلب» (نبوغ القلب)، التي
يكررها، بوصفها دليلًا على مهارته في التحكم في النفس، في «ها
هو الإنسان»، رغم أنه يرفض هذه المرة أن يقول من الذي يخاطبه.
نحن في هذه الأنشودة كأنما نسمع صدى «أقبل، أيها الروح
القدس» Veni Sancte Spiritus، ذلك المديح القروسطي لروح القدس
(الذي اعتبر هامان أن ديمون سقراط مبشر به): «ألِنْ ما هو عصي،
أدْفئْ ما هو بارد، قوِّمْ ما هو معوجٌّ.» وعند نيتشه تتحلى
عبقرية القلب بنفس القوة، المدهشة النعومة، على التليين
والتدفئة والتقويم. وفي تصويره للمرشد الروحي ذي القوى
الديمونية عمد نيتشه إلى أن يصف فعل سقراط. ولكن — كما يومئ
برترام — ألم يكن هو أيضًا يفكر، شعوريًّا أو لا شعوريًّا، في
سقراط؟
سنختم بمديح من نيتشه، إذ هو يوجز بشكلٍ رائع كل ثيمات
حديثنا:
«نبوغ القلب الذي لذاك المستتر الكبير، للإله
المجرب، لمن ولد ليكون صيادًا للضمائر، ومن يهبط صوته
إلى قرارة كل نفس، ومن لا يقول كلمة ولا ينظر نظرة إلا
انطوت على نيةٍ خفية بالإغواء … نبوغ القلب الذي يسكت
كل صاخب وصلف ويعلمه الإصغاء، الذي يصقل النفوس
الغليظة ويذيقها رغبةً جديدة، رغبة بالسكون ملسة
كالمرآة كي تنعكس فيها السماء العميقة … نبوغ القلب
الذي يلمس المرء ليزيده غنًى، فينصرف ليس كمن أغدقت
عليه نعمة أو هبة على غفلة، ليس كمن أسعده خيرٌ غريب
وأثقل عليه، بل كمن صار أغنى في ذاته، جديدًا حيال
نفسه ومنفتحا، كمن لفحه وسبره نسيم يذيب الثلوج، وربما
كمن بات أقل يقينًا وصلابة وأكثر رقة وانكسارًا، لكن
كمن يزخر بآمالٍ جديدة لا اسم لها بعدُ.» (نيتشه، «ما
وراء الخير والشر»)