ماركوس أوريليوس
(١) التأملات بوصفها تدريبا روحيا
وقد ألمح كثير من الكتاب إلى وجود هذا الجنس الأدبي في العصر القديم، غير أنه كان مقدَّرًا لمثل هذه الكتابات أن تختفي؛ إذ إنها لم تكن تُكتب بقصد النشر. ونحن مدينون في بقاء تأملات ماركوس لبعض الظروف السعيدة، ومن المحتمل جدًّا لورع واحد من الحاشية اللصيقة بالإمبراطور.
«مريض القرحة هو شخصٌ منغلق على نفسه، مهموم، ومأزوم … نوع من تضخم الذات يجعله غير قادر على أن يرى رفاقه من الناس … وإنما نفسه، في نهاية التحليل، هي ما يبحث عنه في الآخرين … وهو حي الضمير إلى حد الشكلانية، وهو شغوف بالكمال التقني للإدارة أكثر من شغفه بالعلاقات الإنسانية، رغم أن الأولى يجب ألَّا تكون سوى المجموع الكلي للثانية. وإذا كان مريض القرحة إنسانًا مفكرًا فسوف يكون أميل إلى البحث عن التبريرات، وانتحال شخصياتٍ رفيعة، وتبنِّي مواقفَ رواقيةٍ وفريسية.» (ديلي وإفنتير، «حالة ماركوس أوريليوس»)
تأملات ماركوس عند هذين الكاتبَين هي استجابة لحاجته إلى «الإقناع الذاتي» و«التبرير في عينَيه هو».
مثلما يمكننا أن نرى، كانت مشكلة ماركوس مع التعب والأرق مؤقتة. لم يلتمس ماركوس الأفيون قط من أجل ذاته، بل من أجل تأثيراته الطبية؛ ويبدو أنه قد وجد، بفضل جالين، التوازن القويم في جرعته.
ويعترف أفريكا نفسه، في الملاحظة الأخيرة من مقاله، بأنه حتى إذا تناول أحد القدر الذي يتناوله ماركوس من الترياق فإن كمية الأفيون التي يحتويها غير كافية لإحداث إدمان لأفيون. إلا أنه يضيف: يجب أن نفترض أن الجرعات الموصوفة لم تكن تراعى دائمًا، لأننا لا بد أن نجد طريقةً ما لتفسير غرابة «تأملات» الإمبراطور والطبيعة الغريبة للرؤى التي يصفها.
«انظر مليًّا كيف يُزاح كل ما هو قائم وكل ما هو قادم ويصير ماضيًا ويزول زوالًا. الوجود مثل نهر في تدفقٍ دائم، وأفعاله تعاقبٌ ثابت للتغير! وأسبابه لا تُحصى في تنوُّعها. لا شيء يبقى ثابتًا حتى ما هو حاضرٌ عتيد. تأمَّل أيضًا الهوَّة الفاغرة للماضي والمستقبل التي تبتلع كل شيء. أليس بأحمق من يعيش وسط هذا كله ثم تُحدِّثه نفسه أن يلج في الأمل أو يهلك في الكفاح أو يسخط على نصيبه؟! وكأن أي شيء من هذا دائم له أو مُقدَّر أن يؤرِّقه طويلًا.» (التأملات، ٥–٢٣)
«ضعْ أمام عين عقلك الامتداد الهائل لهوَّة الزمان، وقارن عندئذٍ ما نُسمِّيه الحياة الإنسانية باللانهاية …» (سنكا، رسالة)
«كل شيء يسقط في نفس الهاوية … الزمن يمرُّ بسرعةٍ لا نهائية … وجودنا نقطة، بل أقل من نقطة؛ ولكن الطبيعة بتقسيمها لهذا الشيء الضئيل قد أضفت عليه مظهر مدةٍ أطول.» (سنكا، رسالة)
هذه صورةٌ جليلة. ونحن نجدها في الأبيات الرفيعة التالية من ليونيداس من تارنتم: «أيها الإنسان، لا نهائيًّا كان الزمن قبل أن يبزغ فجرك، ولا نهائيًّا سيكون الزمن الذي ينتظرك في هاديس. فأيُّ قسط من الحياة يتبقَّى لك، غير نقطة، أو إذا كان ثمة ما هو أدقُّ من النقطة؟» (يونيداس من تارنتم، «المختارات اليونانية»). ونهر ماركوس، بالمناسبة، ليس غير نهر الوجود الرواقي الذي يجري بلا توقف؛ على أنه، في نهاية التحليل، هو أيضًا نهر هيرقليطس الذي كان يضاهي جميع الموجودات بتدفق نهر. كما أنه أيضًا نهر الأفلاطونيين كما ذكره بلوتارخ: «كل الأشياء معًا تكون وتفسد: الأفعال، الأقوال، المشاعر؛ ذلك أن الزمن مثل نهر يجرف كل شيء.» والنهر نفسه يذكره أوفيد: «الزمن نفسه يجري في حركةٍ دائمة، تمامًا مثل نهر … موج يدفعه موج» (أوفيد، ميتامورفوزيس).
«انظر في الوجود كله؛ الذي أنت أصغر أجزائه، وانظر في الزمان كله، الذي قُسمتْ لك منه لحظةٌ وجيزة وهاربة؛ وانظر في القدر وما هو معقود بالقدر، وكم أنت جزءٌ ضئيل منه.» (التأملات، ٥–٢٤)
«إذا ما رُفعْتَ فجأة إلى ارتفاعٍ هائل وأمكنك أن تنظر تحتك إلى مشاغل البشر بشتى أصنافها؛ لأن مجال نظرك سوف يضم أيضًا حشدًا هائلًا من الأرواح التي تأهل الفضاء والسماء، ولأنك مهما أعدت الكرَّة فسوف ترى الأشياء نفسها؛ الرتابة والزوال. هل هذه الأشياء تستدعي الزهو والخيلاء؟!» (التأملات، ١٢–٢٤)
«بوسعك أن تُنحِّي الكثير من المنغصِّات غير الضرورية التي تكمن بأكملها في حكمك أنت. عندئذٍ ستوفر لنفسك مكانًا رحبًا بأن تفهم الكون كله وتستوعبه في عقلك، وبأن تتفكر في أبدية الزمان، وتتأمل في التغير السريع الذي يعتري كل شيء في كل جانب؛ ما أضيق البون بين الميلاد والفناء، وما أوسع الفجوة الزمنية التي سبقت مولدك والفجوة اللانهائية المماثلة التي تعقب فناءك.» (التأملات، ٩–٣٢)
«ما أصغر نصيب كلٍّ منا من الزمن — حصته الضئيلة من الهوة الزمانية اللانهائية؛ لسرعان ما تبتلعها الأبدية! وما أضأل حصته من مادة «الكل» وروح «الكل»! ما أضألها في جملة الأرض تلك البقعة التي تزحف عليها! تأمل في كل هذا ولا تكبر شيئًا سوى الكدح إلى حيث تقودك طبيعتك، والتسليم بما تأتي به طبيعة العالم.» (التأملات، ١٢–٣٢)
وتدوينات ماركوس أوريليوس لنفسه لا تعطينا فكرةً تُذكر عن خبراته الشخصية. صحيح أن بوسعنا في بعض فقرات «التأملات» أن نُعاين بعض المعلومات الأوتوبيوجرافية الصغرى؛ غير أن هذه قليلة ومتباعدة بعضها عن بعض (٣٥–٤٠ فقرة فقط، من بين ٤٧٣، تتضمن مثل هذه المعلومات). وكثيرًا ما تكون هذه التفاصيل مجرد اسم، مثل بانثيا، وصيفة لوشيوس فيروس، التي لزمت مقبرة حبيبها، أو ميميس فيليستيون، وفويبوس، وأوريجانيون. إن ماركوس لا يخبرنا فعليًّا بأي شيء عن نفسه.
ويتخذ ماركوس بالمثل نظرة للأنشطة الإنسانية غير واهمة: «وكل ما نُعليه ونُغليه في الحياة هو شيءٌ فارغ وعفن وتافه؛ جِرَاء يعضُّ بعضها بعضًا، وأطفال تتشاجر … تضحك … وما تلبث أن تبكي» (التأملات، ٥–٣٣). والحرب التي كان يدافع فيها ماركوس عن حدود الإمبراطورية كانت، بالنسبة له، أشبه بصيد للعبيد الصرامطة، لا يختلف في شيء عن صيد عنكبوت للذباب (التأملات، ١٠-١٠). ويحدج بنظرةٍ قاسية ذلك الهياج المشوَّش للدمى البشرية: «أي صنف من الناس هم حين يأكلون ويرقدون ويضاجعون ويقضون حاجتهم … إلخ؟ ثم أي صنف من الناس هم حين يتولَّون السلطة على الناس؟ متجبِّرين، متحجِّري القلب» (التأملات، ١٠–١٩). ومما يحقر من الحرص البشري أنه لا يدوم غير لحظة وينتهي إلى لا شيء حقًّا: «بالأمس كان بذرة وغدًا مومياء أو رمادًا» (التأملات، ٤–٤٨).
ليست الشئون البشرية مضجرة فحسب، إنها أيضًا عابرةٌ زائلة. وماركوس يحاول أن يستحضر في مخيِّلته صورةً حية للجموع البشرية للعصور الماضية، مصوِّرًا أيام ترايان وفيسباسيان، بأعراسها، وأمراضها، وحروبها، وأعيادها، وتجارتها، وزراعتها، وطموحها، وغرامياتها. كل هذه الكتل البشرية، مع أفعالها، قد زالت ولم يبقَ لها من أثر. ويحاول ماركوس أيضًا أن يتخيَّل هذه العملية الموصولة من الفَناء تعمل عملها على أولئك الذين حوله (التأملات، ١٠–١٨).
وماركوس لا يستطيع صبرًا على أولئك الذين يُعزُّون أنفسهم عن قِصَر الحياة بالأمل في خلود اسمهم لدى الأخلاف. «ماذا في الاسم؟ مجرد ضوضاء، أو صدًى خافت» (التأملات، ٥–٣٣). وفي أعلى تقدير فسوف ينتقل هذا الشيء البائس الرائغ إلى بضعة أجيال لا يدوم كلٌّ منها إلا كما تدوم ومضة برق في الزمان اللانهائي. ينبغي ألا يخدعنا مثل هذا الوهم؛ «فهو قائم على تعاقب قليل من البشر سرعان ما يموتون ولا يعودون يعرفون أنفسهم ناهيك بمن مات منذ زمنٍ بعيد!» (التأملات، ٣–١٠). «سرعان ما ستكون قد نسيت كل شيء، ويكون قد نسيك كل شيء» (التأملات، ٧–٢١).
مثل هذا التراكم من العبارات التشاؤمية هو شيءٌ لافت حقًّا. إلا أننا يجب أن نأخذ حذرنا من أن نستنبط منها نتائجَ متسرعةً عن سيكولوجية ماركوس نفسها. لكم هو يسير علينا أن نتصور، شأن كثير من الكتاب المحدثين، أن الكتَّاب القدامى كانوا يكتبون لكي يوصلوا معلومات على نحوٍ مباشر أو يوصلوا العواطف التي تصادف أنهم يشعرون بها؛ فنفترض، مثلًا، أن «تأملات» ماركوس قصد بها أن تنقل مشاعره اليومية إلينا، وأن لوكريتوس كان هو نفسه شخصًا قلقًا واستخدم قصيدته «في طبيعة الأشياء» لكي يحاول أن يحارب قلقه، وأن أوغسطين كان يعترف على نفسه حقًّا في «الاعترافات». إلا أنه، في حقيقة الأمر، ليس يكفي أن ننظر المعاني السطحية الظاهرة في نصٍّ قديم حتى نفهمه فهمًا كاملًا. إنما ينبغي علينا أن نحاول أن نفهم لماذا كتبت هذه العبارات أو قيلت، ينبغي أن نكتشف غائيتها.
وبصفةٍ عامة يمكننا القول إن تصريحات ماركوس التي تبدو تشاؤمية ليست تعبيرات عن تقزُّزه أو إحباطه تجاه مشهد الحياة، ولكنها وسيلة يستخدمها من أجل أن يُغيِّر طريقته في تقييم الأحداث والأشياء التي يتشكل منها الوجود البشري. وهو يقوم بذلك بأن يعرف هذه الأحداث والأشياء كما هي عليه في الواقع — أو قل «فيزيائيًّا» — عازلًا إياها عن التمثيلات التقليدية التي اعتاد الناس أن يشكِّلوها من الأحداث والأشياء. إن تعريفات ماركوس للغذاء، أو النبيذ، أو الأَرْديَة الأرجوانية (الملكية)، أو الجماع، هي تعريفات تعمد إلى أن تكون «طبيعية»، تعريفاتٍ تقنية، طبية تقريبًا، للأشياء، والتي إذا نظرت بطريقةٍ «بشرية» تُثير أعنف الانفعالات، وعلينا أن نستخدمها لنُحرِّر أنفسنا من الفتنة التي تمارسها علينا. مثل هذه التعريفات لا تعبر عن انطباعات ماركوس، بل هي على العكس تُناظر وجهة من الرأي قُصد بها أن تكون «موضوعية»، وليست هي من اختراع ماركوس بأي حال. لقد كان أبقراط، مثلًا، وديمقريطس قديمًا قد عرَّفا الجماع على أنه «صرعٌ صغير».
عندما يتخيل ماركوس، بلا تلطُّف، الحياة الحميمة للمتغطرس، في «أكله، نومه، جماعه، تغوُّطه» فإنما يحاول أن يقدِّم رؤيةً «فيزيائية» للواقع الإنساني. ونحن نجد تأملًا مماثلًا عند إبكتيتوس يتعلق بالأشخاص الذين يقنعون بمجرد الحديث عن الفلسفة: «لوددت أن أراقب أحد هؤلاء الفلاسفة وهو يضاجع كيما أرى كيف يتعرَّق، ويجهد، وأي ضرب من النخير والتأوُّه يصدر؛ وما إذا كان بوسعه حتى أن يتذكر اسمه، بَلْه الأحاديث الفلسفية التي قد سمعها، أو ألقاها، أو قرأها» (إبكتيتوس، المحادثات).
يطبِّق ماركوس نفس الطريقة على فكرتنا عن الموت: «تأمل ما هو الموت، وكيف أن المرء إذا نظر إلى الموت في ذاته وبذاته، مبددًا الصور المرتبطة بالموت إذ يُحلِّل تصورنا جميعًا عنه، فلن يعود يراه إلا نتاجًا من نواتج الطبيعة.»
كذلك عندما يتحدث ماركوس عن رتابة الوجود الإنساني، فإنه يفعل ذلك لا لكي يعبر عن سأمه هو بل لكي يقنع نفسه بأن الموت لن يحرمه من أي شيءٍ جوهري. وعند لوكريتس نجد نفس الحجة تستخدم من جانب الطبيعة نفسها، لكي تواسي الإنسان في محنة الموت: «لا جديد لديَّ يمكن أن أخترعه لكي أَسُرَّك؛ كل شيء هو نفسه على الدوام … ما يكمن لك في الخزانة هو دائمًا نفس الشيء … حتى لو قُدِّر لك ألا تموت أبدًا» (لوكريتس، «في طبيعة الأشياء»).
والحق أن بعض فقرات ماركوس تبدو مستفزة في هذا الصدد، غير أنها تقتضي أقصى الاجتهاد في التأويل. فحين يستحضر ماركوس، مثلًا، «تعفُّن المادة الذي يتبطن الأشياء جميعًا … الماء، التراب، العظام، القذر»، فهو لا يقصد أن يقول إن المادة نفسها تعفن، بل يريد أن يؤكد أن تحولات المادة، بوصفها عملياتٍ طبيعية، تكون بالضرورة مصحوبة بظواهر «تبدو لنا» مثيرة للاشمئزاز، وإن كانت هي أيضًا طبيعية في واقع الأمر.
«معيب أن تتأذَّى من هذه الأشياء مثلما هو معيب أن تشكو من رشاش ماء نالك في الحمام، أو من أنك دُفعتَ في زحام، أو بأنك تلوثتَ في بركة وحلٍ صغيرة. يحدث الشيء نفسه في الحياة مثلما يحدث في الحمامات، وفي الزحام، وفي الطريق … الحياة ليست شيئًا رقيقًا.» (سنكا، «رسائل إلى لوسيليوس»)
«شيءٌ آخر عليك أن تلحظه؛ أنه حتى النواتج العرضية لما يتم وفقًا للطبيعة لا يخلو من فتنة وجاذبية. حين يُخبَز رغيف، على سبيل المثال، فلا بد من أن تحدث تشققات هنا وهناك ضد ما يقصده الخباز. على أن هذه التشققات غير المتعمدة تجذب العين بطريقةٍ ما وتثير الشهية. التين أيضًا ينفلق عند تمام نضجه. وفي حالة الزيتون الذي ينضج على شجرته فإن قرب التحلُّل نفسه يمنح ثمرته رونقًا معينًا. كذلك سنابل القمح المنحنية إلى الأرض، وجفن الأسد اﻟمغضن، والزَّبَد المتدفِّق من فم الخنزير، وغير ذلك كثير؛ كل أولئك أشياء تبدو بعيدة عن الجمال حين تؤخذ على حدة، ولكن ترتُّبها على عمليات الطبيعة يضفي عليها جمالًا وجاذبية. ومن ثم فأي إنسان لديه شعور واستبصارٌ عميق بتشغيلات «الكل» سوف يجد لذةً ما في كل جانب منها تقريبًا، بما في ذلك النواتج العرضية. مثل هذا الإنسان سوف تبهجه زمجرة الوحوش بهجة لا تقلُّ عن بهجته بكل تمثيلات المصوِّرين والمثَّالين؛ سوف يرى لونًا من التفتُّح والوسامة في امرأة أو رجلٍ عجوز؛ ومثل هذا الإنسان سيكون قادرًا على أن ينظر بتوقر إلى الفتنة الآسرة في غلمانه أنفسهم. وكثير من مثل تلك المدرَكات لن تروق كل إنسان، بل ذلك الذي أصبح على ألفةٍ حقيقية مع الطبيعة ومع أعمالها.» (التأملات، ٣–١)
ومن المفيد أن نقارن هذا النص بفقرة أرسطو المقتبَسة آنفًا.
فعند أرسطو من الأصل، ولكن عند ماركوس أوريليوس بصفةٍ أخص، بوسعنا أن نرى ثورة تحدث. فبدلًا من الاستطيقا المثالية التي تقصر الجميل على العقلي والوظيفي الذي يُبدي نِسبًا جميلة وشكلًا مثاليًّا، ها نحن بإزاء استطيقا واقعية تجد الجمال في الأشياء كما هي، في كل شيء يعيش أو يوجد. نحن نعرف من أولوس جليوس، فضلًا عن ذلك، أن تمييز ماركوس بين الخطة الأصلية للطبيعة والنتائج غير المتوقَّعة الناتجة عن هذه الخطة تعود إلى خريسبوس. هكذا يقف ماركوس برسوخ في هذه الحالة أيضًا داخل التعليم الرواقي التقليدي.
لا رجاء ولا جدوى في استنباط حالات ماركوس النفسية من أي شيء مما سبق. أكان هو متفائلًا أم متشائمًا؟ أكان يعاني من قرحة المعدة؟ إن «التأملات» لا تسمح لنا بالرد على هذه الأسئلة. كل ما بوسعنا أن نعلمه منها هو عن التدريبات الروحية، كما كانت تمارَس تقليديًّا من جانب الرواقيين.
(٢) إبكتيتوس
في زمن ماركوس أوريليوس كان الحجة الأكبر في مسائل الرواقية هو إبكتيتوس. كان إبكتيتوس عبدًا لإبافروديت، معتق نيرون، وحضر دروس المعلم الرواقي مزونيوس روفوس. وعندما أُعتق إبكتيتوس بدوره من جانب إبافروديت أسس مدرسةً فلسفية في روما. وفي عام ٩٣-٩٤م وقع تحت طائلة مرسوم الإمبراطور دوميتيان الذي طرد الفلاسفة من روما ومن إيطاليا، فاستأنف نشاطه في نيقوبوليس في أبيروس، حيث أسس مدرسةً ثانية، وكان أحد تلامذته المنتظمين هو من سيكون الموظف المدني والمؤرخ أريان من نيقوميديا. كان أريان هو المسئول عن توصيل ما نعرفه عن تعليم إبكتيتوس، إذ إن إبكتيتوس، شأنه شأن الكثير من الفلاسفة القدامى، لم يخطَّ بيده أي شيء قط.
في الخطاب الفلسفي النظري كانت الأجزاء الثلاثة للفلسفة متميزة بالضرورة؛ وتعرض كل منها على نحوٍ منفصل، وفقًا لتسلسلٍ منطقي، وتشكُّل الأسس والمبادئ الأولية للمذهب الرواقي. على مستوى الخطاب النظري، إذن، كانت أجزاء الفلسفة، بمعنًى ما، متخارجة إحداها عن الأخرى، بحسب مقتضيات العرض التعليمي. غير أن الفلسفة نفسها هي «ممارسة» الحكمة؛ إنها فعلٌ فريد، متجدد في كل لحظة: ممارسة المنطق، أو الفيزيقا، أو الأخلاق، وفقًا للموضوع الذي تمارَس فيه، ودون أن ينال ذلك من وحدتها بأي طريقة. عند هذا المستوى نحن لا نعود معنيين بالمنطق النظري — أي بنظرية الاستدلال الصحيح — بل بألا ندع أنفسنا ننخدع في حياتنا اليومية بالتمثيلات الزائفة. ولا نعود معنيين بالفيزيقا النظرية — أي نظرية نشأة الكون وتطوره — بل بأن نعي في كل لحظة أننا جزء من الكون وعلينا أن نجعل رغباتنا منسجمة ومذعنة وممتثلة لهذا الوضع. ولا نعود معنيين بالنظرية الأخلاقية — أي بتعريف الفضائل والواجبات وتصنيفها — بل، ببساطة، بأن نسلك بطريقةٍ أخلاقية.
تتطلب الممارسة الفلسفية العيانية أن نضع باعتبارنا دائمًا المبادئ الرواقية الأساسية. لقد كان الغرض من هذه المبادئ أن تُشكِّل الأساس لصوابنا في الحكم، وموقفنا تجاه الكون، والمسلك الذي يجب أن نتبنَّاه تجاه زملائنا المواطنين في المدينة. كانت الفلسفة، إذن، كما تُعاش وتُمارَس، تتضمن تدريبًا مستمرًّا للتأمل واليقظة الدائمة، لكي تبقى المبادئ التي يعلمها الخطاب النظري حية في ذهن المرء.
إذا أردنا أن نفهم لماذا أولى إبكتيتوس أهميةً كبرى لما أسماه «المناطق الثلاث للتدريبات» سيكون علينا أن نأخذ بعين الاعتبار هذا التمييز بين الخطاب الفلسفي النظري والفلسفة العيانية كما تُعاش وتُمارَس. في «المحادثات»، كما أوردها أريان، تعرض هذه المناطق الثلاث بصرامةٍ منهجيةٍ شديدة بحيث تُسوِّغ لنا أن نشكَّ بأن هذا المذهب كان له دورٌ هام يلعبه في التعليم النظري لإبكتيتوس.
يقيم إبكتيتوس مذهبه على التفرقة الرواقية التقليدية بين ما هو في قدرتنا وما ليس في قدرتنا. «من الأشياء ما هو في قدرتنا وطوقنا، ومنها ما ليس في قدرتنا وليس لنا به يد. فمما يتعلق بقدرتنا: أفكارنا ونوازعنا ورغبتنا ونفورنا، وبالجملة كل ما هو من عملنا وصنيعنا. ومما لا يتعلق بقدرتنا أبداننا وأملاكنا وسمعتنا ومناصبنا، وبالجملة كل ما ليس من عملنا وصنيعنا» (إبكتيتوس، المختصر ١). ما يعتمد علينا هو أفعال أنفسنا، لأننا أحرار في اختيارها. وما لا يعتمد علينا هو تلك الأشياء التي تتوقف على المسار العام للطبيعة والقدر. من بين أفعال النفس التي تعتمد علينا حقًّا يلحق البعض بمنطقة «الحكم والتصديق»، والبعض الآخر بمنطقة «الرغبة»، والبعض الثالث بمنطقة «النزوع إلى الفعل».
-
المنطقة الأولى منطقة الرغبة والنفور. الناس تُعساء لأنهم يرغبون في أشياء قد يفقدونها وقد يفشلون في الحصول عليها، وتعساء لأنهم يتجنبون أشياء كثيرًا ما تكون محتومةً؛ ذلك أن هذه المرغوبات، كالثروة والصحة مثلًا، لا تعتمد علينا. ومن ثم فإن نظام الرغبة عبارة عن تعويد أنفسنا أن نتخلى رويدًا رويدًا عن مثل هذه الضروب من الرغبة والتجنُّب، بحيث لا نرغب في النهاية إلا فيما هو في قدرتنا ويعتمد علينا — أي الفضيلة الأخلاقية — ولا نجتنب إلا ذلك الذي يعتمد علينا — أي الشر الأخلاقي — يجب أن نعتبر كل ما لا يعتمد علينا «غير فارق» Indifferent، وبتعبيرٍ آخر: يجب ألا نفرق بين هذه الأشياء (لا تكترثْ بالأشياء اللافارقة/لا تهتم بما لا يهم). مجال الرغبة إذن يختص بالانفعالات والعواطف (Pathe) التي نشعر بها كنتيجةٍ لما يحدث لنا.
-
المنطقة الثانية للتدريبات منطقة النزوع، أو الفعل. وهي عند إبكتيتوس تتعلق أولًا وقبل كل شيء بالعلاقات البشرية داخل المدينة، وتُناظر ما اصطلح الرواقيون على تسميته «الواجبات» Duties: تلك الأفعال التي تلائم ميول طبيعتنا. الواجبات أفعال، إذن هي واقعة ضمن الأشياء التي تعتمد علينا، لتؤثر في أشياء لا تعتمد علينا (كالناس الآخرين، السياسة، الصحة، الفن … إلخ). الواجبات هي أفعالٌ «مناسبة» لطبيعتنا العاقلة، وتتألف من أن نضع أنفسنا في خدمة المجتمع البشري (في صورة الدولة/المدينة والعائلة).
-
المنطقة الثالثة للتدريبات منطقة التصديق Assent يهيب بنا إبكتيتوس أن ننقد كل «تمثيل» Phantasia كما يقدِّم نفسه لنا ولا نمنح تصديقنا إلا للتمثيلات «الموضوعية». وبعبارةٍ أخرى: أن نطرح كل أحكام القيمة الذاتية. وهو يصوغ المبدأ المرشد لهذا التدريب كالتالي: «ليست الأشياء هي ما يشقي الناس بل أحكامهم «عن» الأشياء» (إبكتيتوس، المختصر ٥).
«تمامًا كما لو أننا في مجال التصديق، وقد ووجهنا بانطباعات بعضها بيِّن الصواب وبعضها بيِّن الخطأ، علينا، بدلًا من أن نميز بينها، أن نطلب قراءة ما كُتب عن الإدراك! كيف يتأتَّى ذلك؟ السبب هو أننا لم نقم قط بقراءتنا أو كتابتنا بطريقة تكفل لنا عندما يحين أوان الفعل أن نستخدم الانطباعات التي نتلقَّاها استخدامًا متناغمًا مع الطبيعة؛ ونقنع بدلًا من ذلك بأننا قد قرأنا ما يقال لنا ويمكننا شرحه للآخرين، وبأننا نستطيع تحليل الأقيسة وفحص الحجج الافتراضية.» (إبكتيتوس، المحادثات)
في القسمة الثلاثية للفلسفة فإن منطقتَي المنطق والأخلاق متبوعتان بمنطقة الفيزيقا. فهل بالإمكان، إذن، تهيئة الفيزيقا بحيث تقابل مجال الرغبة؟ ربما تبدو الفقرة التي اقتبسناها للتوِّ كما لو كانت تمنع هذا التوحُّد. عندما يتحدث إبكتيتوس، في سياق الرغبة، عن رسائل بعنوان «في الرغبة والنفور» فإن لدينا كل العذر بأن نظنها رسائل تتعلق بالأخلاق. ولكن برغم أن النظرية المجردة ﻟ «الرغبة» بما هي كذلك، ما دامت فعلًا للنفس، تتعلق بمجالَي الأخلاق والسيكولوجيا، فإن الموقف المعيش الذي يقابل مجال الرغبة يبدو أنه، حقًّا، ضرب من الفيزيقا التطبيقية، التي يعيشها المرء ويخبرها بطريقة التدريب الروحي. يؤكد إبكتيتوس في مناسباتٍ عديدة أن مجال الرغبة عبارة عن «تعلم أن نرغب في أن يحدث كل شيء بالطريقة التي يحدث بها بالضبط»، و«أن نحفظ إرادتنا في تناغم مع الطبيعة»، و«إذا استطاع إنسان صالح أن يتنبأ بالمستقبل فسيكون قمينًا أن يتعاون مع المرض والموت والتشوُّه؛ ذلك أنه سيكون على دراية بأن هذا قد كان مقدَّرًا بواسطة النظام الكلي للأشياء وأن الكل أهم من أجزائه.» ها نحن بإزاء حالةٍ حقيقية للفيزياء إذ تعاش وتُخبَر كتدريبٍ روحي. فلكي يحكم الناس رغباتهم ويقوِّموها يلزمهم وعيٌ حاد بحقيقة أنهم جزء من الكوزموس؛ وأن عليهم أن يضعوا كل حدث داخل منظور الطبيعة الكلية.
تلك، عند إبكتيتوس، هي ممارسة الفلسفة، وذلك هو تدريبها. ونحن نجد هذا المخطط الأساسي يتكرر طوال «المحادثات». وأريان، تلميذ إبكتيتوس الذي كان مسئولًا عن إعداد كلٍّ من «المحادثات» و«المختصر» للطبع، لم يخطئ في هذا الصدد عندما اختار أن يجمع الأقوال التي تُشكِّل «المختصر» وفقًا للمجالات، أو المناطق، الثلاث التي بينَّاها للتوِّ.
(٣) ماركوس أوريليوس وإبكتيتوس
من الإنصاف أن نقول إن لبَّ لباب تأملات ماركوس أوريليوس تأتي من إبكتيتوس. بل إن الجنس الأدبي للتأمل عن طريق الكتابة قد يكون فكرة أخذها ماركوس من إبكتيتوس: «هذه هي صنوف الأشياء التي ينبغي على محبي الحكمة أن يتأملوا فيها؛ إن عليهم أن يسجلوها كتابةً كل يوم، ويستخدموها في تدريب أنفسهم» (إبكتيتوس، المحادثات ١) … «فلتكن هذه الأفكار طوع يدك ليل نهار. اكتبها وأعد قراءتها؛ تحدَّث عنها، لنفسك ومع الآخرين» (إبكتيتوس، المحادثات ٣). نعم، من المهم أن تكون لدينا أقوالٌ سهلة الحفظ جاهزة في جعبتنا.
كانت فكرة الديالوج مع النفس موجودة منذ القدم. ولنذكر تصوير هومر لأوديسيوس وهو يعظ نفسه «تماسكْ يا قلبي.» كذلك كانت عادة كتابة المرء، من أجل استخدامه الشخصي، أفكاره أو الأقوال التي سمعها — كانت عادةً قديمة جدًّا بلا شك. غير أن لدينا كل ما يدعونا إلى الاعتقاد بأنه من إبكتيتوس استمدَّ ماركوس فكرة هذا الشكل من النصح الذاتي والمحاورة مع النفس التي تستند إلى نفس القواعد الحياتية والمبادئ السلوكية التي كان إبكتيتوس ينصح قرَّاءه بالتأمل فيها.
«يقول إبكتيتوس أيضًا: علينا أن نكتشف منطقًا للقبول، وفي مجال رغباتنا أن نحرص على أن تكون كل حركة مشروطة، ذات هدفٍ اجتماعي، ومتناسبة مع قيمة هدفها. أما عن الرغبة الحسية فيجب أن نظل بمنأًى كامل عنها؛ وأما النفور فعلينا ألا نبديه بإزاء أي شيء خارج عن قدرتنا.» (ماركوس أوريليوس، التأملات، ١١–٣٧)
«ماذا يكفيك؟
-
حكمك القيمي الراهن ما دام موضوعيًّا.
-
فعلك الذي تقوم به الآن ما دام يفعل لخير المجتمع الإنساني.
-
نزوعك الداخلي الراهن ما دام يبهج لكل حدث تفضي إليه علل خارجك.»
«كل كائنٍ حيٍّ قانعٌ بنفسه إذا هو اتبع الطريق الصحيح لطبيعته. والطريق الصحيح للطبيعة العاقلة هو ألا تساير أي شيءٍ زائف أو مُبهَم فيما ينطبع على عقلها؛ وأن توجِّه نزعاتها إلى الفعل الاجتماعي وحده. وألا ترغب أو تتجنَّب إلا في حدود قدرتها، وأن ترضى بكل ما قسمَته لها طبيعة العالم.» (التأملات، ٨-٧)
«امحُ الخيال، اكبح الرغبة، أخمد الشهوة، حتى يظل عقلك الموجِّه سيد نفسه.» (التأملات، ٩–٧)
«وإلى أين إذن ينبغي على المرء أن يسعى؟ إلى هنا فقط: فكرٌ صائب، وفعل للخير العام، وقول لا يعرف الكذب، وتقبُّل لكل ما يجري كشيءٍ ضروري وعادي ونابع من مبدأ ومصدر من نفس الصنف.» (التأملات، ٤–٣٣)
لعل القارئ قد لاحظ أنه رغم أخذ ماركوس عن إبكتيتوس بناءه الثلاثي بوضوحٍ تام — إلا أن هناك فرقًا في النبرة والتوكيد نحسُّه في عرض ماركوس لهذا البناء الثلاثي. عندما يتحدث ماركوس مثلًا عن مجال الرغبة فهو لا يصرُّ — كما فعل إبكتيتوس — على ضرورة ألا نرغب إلا في الأشياء التي تعتمد علينا (أي على الخير الأخلاقي) حتى لا تُحبَط رغباتنا؛ إنما يتصور ماركوس هذا التدريب، على نحوٍ أصرح من إبكتيتوس، على أنه وضع رغباتنا في توافق مع إرادة القدر وإرادة عقل العالم؛ وهدفه من ذلك أن يغرس فينا موقف عدم الاكتراث بالأشياء اللافارقة، أي كل ما لا يعتمد علينا. إن مجال الرغبة عند ماركوس يأخذ، بنبرةٍ أوضح كثيرًا من إبكتيتوس، صورة «فيزيقا تطبيقية»، أو الفيزيقا وقد تحولت إلى تدريبٍ روحي.
إن مجال الرغبة يبلغ الأوْج في رضا محبٍّ مبتهج بالأحداث التي تريدها الطبيعة. ولكن لكي نصل إلى هذه الحالة يجب أن نغير طريقتنا في النظر إلى الأشياء، فننظر لها من وجهة نظر الطبيعة الكلية؛ وهذا يتضمن أن نتعلم، أن نميز سلسلة العلل التي تنتج كل حدث … أن نتأمل كل حدث كمنسوج للقدر يتدفَّق بضرورةٍ طبيعية من العلل الأولى. هكذا يحملنا مجال الرغبة على أن نعيد وضع الحياة البشرية بكلِّيتها داخل منظورٍ كوني، وأن نصبح واعين بحقيقة أننا «جزء» من العالم. «من لا يعرف ما هو العالم لا يعرف أين هو. ومن لا يعرف لأي غاية وُجد العالم لا يعرف من هو ولا ما هو العالم. ومن يجهل أي شيء من هذه لا يمكنه حتى أن يقول لماذا وجد هو ذاته» (التأملات، ٨–٥٢).
لكي نمارس هذا الصنف من «الفيزيقا» يحاول ماركوس أن يتبع منهجًا صارمًا في التعريف، عبارة عن إعادة وضع كل الأشياء داخل كلية العالم، وإعادة وضع كل الأحداث داخل سلسلة العلل والمعلولات. أن نعرفها في ذاتها ولذَّاتها، بمعزل عن التمثيلات الأنثروبومورفية التقليدية التي اعتاد الجنس البشري أن يصطنعها لها.
ها هنا قد يسعنا أن نلمح كيف أن المجالات الثلاثة، شأن الأجزاء الثلاثة للفلسفة، يتضمن أحدها الآخر داخل فعلٍ واحد للتفلسف. إن منهج التعريف «الفيزيقي» الذي شرحه ماركوس يطابق مجال التصديق الذي يوصي بأن علينا ألا نمنح تصديقنا إلا لتلك التمثيلات الموضوعية الخالية من كل أحكامٍ قيميةٍ ذاتية.
لا يكاد ماركوس يختلف عن إبكتيتوس في عرضه للثيمة الثالثة؛ مجال التصديق. غير أن النظام الذي يفرضه ماركوس على نفسه ليس مقصورًا على المنطق الداخلي — أي التصديق الذي نمنحه لانطباعاتنا — بل يشمل أيضًا المنطق الخارجي؛ أي طريقتنا في التعبير عن أنفسنا. إن الفضيلة الأساسية هنا هي فضيلة الصدق، بمعنى استقامة التفكير والكلام. فالكذب، حتى إذا كان غير متعمَّد، هو نتاج تشوُّه ملكة الحكم عندنا.
وفي موضعٍ آخر يربط ماركوس التدريبات الفلسفية الثلاثة بفضائلها المقابلة، فيكون لدينا المخطط التالي:
المجال | الفضيلة المقابلة |
---|---|
مجال الرغبة | الاعتدال (Sophrosyne)، وخُلُو البال (Ataraxia) |
مجال النزوع | العدل (Dikaiosyne) |
مجال التصديق | الحقيقة (Aletheia)، التأني (Aproptosia) |
ويَعُدُّ ماركوس الفضائل الثلاث المقابلة للمجالات الثلاثة في الحدود التالية: «التفكير المتأني، الأُلفة بالآخرين، الطاعة للآلهة» (التأملات، ٣–٩).
هذه المفردات غائبة تمامًا عن «محادثات» إبكتيتوس. فكيف لنا أن نفسر هذه الفروق في الطريقة التي يعرض بها كلٌّ من ماركوس وإبكتيتوس التدريبات الأساسية الثلاثة للفلسفة؟
- (١) قد يكون الكتاب المعنيَّ نسخة من العمل بتدوين أريان. ففي الخطاب الاستهلالي الذي وضعه أريان في بداية إصداره ﻟ «محادثات» إبكتيتوس، يصف بنفسه عمله على أنه تجميع ﻟ «يوميات» Hypomnemata:
«إنما وجه الأمر أنني حاولتُ أن أدوِّن كل ما سمعته يقول حرفيَّا جهد ما أستطيع، بغية أن أحتفظ بها لنفسي فيما بعدُ كمذكرات (يوميات) لأفكار إبكتيتوس وشجون حديثه. ومن ثم فإن «المحادثات» بطبيعتها أشبه بما عسى أن يُفضي به إنسانٌ لآخر عفو الخاطر، لا بما يكتبه بقصد أن يقرأه الآخرون.»
أريان، إذن، جعل يختلف إلى فصول إبكتيتوس في زمن ما بين عام ١٠٧م و ١٠٩م. ورسالته التمهيدية إلى لوشيوس جيليوس ربما كتبت بعد وفاة إبكتيتوس، في زمن ما بين عام ١٢٥ و١٣٠؛ والمحادثات نفسها نشرت حوالي عام ١٣٠. ويروي أولوس جيليوس أنه في العام الذي قضاه في الدراسة في أثينا — حول عام ١٤٠م — كان حاضرًا مناقشة في المقرر الذي أحضر له المليونير الشهير هيرود أتيكوس من مكتبة ما نسخة مما أشار إليه جيليوس ﮐ «رسائل» Dissertations إبكتيتوس، مجمَّعة بواسطة أريان. وهو يخبرنا أيضًا كيف أنه في الطريق من Cassiopeia إلى Brindisium قابل بالصدفة فيلسوفًا كان لديه نسخة من نفس الكتاب في أمتعته. وهذا يثبت أنه من المحتمل على أقل تقدير أن ماركوس قرأ نسخةً من هذا الكتاب، والتي أعاره إياها رستيكوس. - (٢)
ولنا أيضًا أن ننظر في مقترحٍ آخر كان فاركهارسون قد أدلى به. يفترض فاركهارسون أن ما أعاره رستيكوس لماركوس ربما كان مدونات رستيكوس نفسه التي كتبها أثناء محاضرات إبكتيتوس. ومن زاوية التسلسل الزمني فإذا سلَّمنا بأن إبكتيتوس مات بين عام ١٢٠ و١٣٠م، وإذا كان رستيكوس من مواليد بداية القرن الثاني، مثلما يحق لنا أن نستنبط من مسيرته الوظيفية، فمن الممكن جدًّا، إذن، أن رستيكوس كان تلميذ إبكتيتوس. كما أنه من الصعب تصوُّر أنه لم تكن ثمة نسخة من محادثات إبكتيتوس متاحة في روما حول عام ١٤٥-١٤٦م، رغم أن العمل كان واسع الانتشار في اليونان منذ عام ١٤٠م. أضف إلى ذلك أن ماركوس يصور هدية رستيكوس كشيءٍ استثنائي؛ ومن ثم فإن لنا أن نندهش إذا لم تكن الهدية هي مدونات رستيكوس نفسه. كما أننا على يقين تقريبًا من أن ماركوس قد قرأ عمل أريان، إذ إن «التأملات» مليئة باستشهاداتٍ حرفية مأخوذة منه.
وسواء كان ماركوس لم يقرأ إلا «المحادثات» كما رتبها أريان، أو أنه قد قرأ أيضًا مدونات رستيكوس، فإن لدينا شيئًا واحدًا لا يرقى إليه الشك؛ وهو أن ماركوس كان مطَّلعًا على نصوص تتصل بتعليم إبكتيتوس أكثر مما لدينا اليوم. إن بحوزتنا جزءًا فقط من عمل أريان؛ وإذا كان ثمة شيء من قبيل مدونات رستيكوس فإنها كانت قمينة جدًّا أن تكشف لماركوس بعض جوانب تعاليم إبكتيتوس التي لم تكن مدونة من جانب أريان.
إنه بفضل ماركوس نحن نعرف بعض النُّتف من إبكتيتوس المجهولة فيما عدا ذلك، مثل شذرة: «أنت روحٌ ضئيلة تضطرب هنا وهناك حاملةً جثةً» (التأملات، ٤–٤١). هذه الشذرة تكشف لنا أيضًا أن الملامح «التشاؤمية» ليست خاصةً مقصورة على ماركوس أوريليوس مثلما شاع مرارًا. هكذا يمكننا أن نفترض أن الاختلافات في عرض التدريبات الثلاثة التي نجدها عند ماركوس وفي الأعمال الباقية من إبكتيتوس قد يفسرها تأثير فقرات من إبكتيتوس كانت معروفة لماركوس لكنها فُقدت بعد ذلك.
وأخيرًا، ينبغي ألا ننسى أن هناك فرقًا عميقًا بين الجنس الكتابي ﻟ «محادثات» إبكتيتوس والجنس الكتابي ﻟ «تأملات» ماركوس أوريليوس: فعمل أريان، حتى إذا كان قد أُعيد تنسيقه بأكثر مما يودُّ كاتبه أن يُقرَّ في مقدمته، هو، حرفيًّا تمامًا، سلسلة من «الأحاديث» أُلقيتْ أمام نظَّارة. وموضوعها ألهمته ظروفٌ محدَّدة: أسئلة وُجِّهت إلى الأستاذ، أو زيارات أشخاص من خارج المدرسة. والمحاجَّة فيها كانت مكيفة وفقًا لقدرات المستمعين، وهدفها كان إقناعهم.
هكذا كان ماركوس، في مسار تأملاته المتوحدة، مقودًا إلى أن ينسق ويصرح بكل شيء كان مضمرًا في مذهب المجالات الثلاثة كما اقترحه إبكتيتوس. ولا يفعل ماركوس، في كثير من الأحيان، أكثر من أن يتوسع في نقاطٍ موجزة كانت مدوَّنة بالفعل في «المحادثات» التي دوَّنها أريان: هكذا كان الحال مع ثيمة الرضا الفرح بالأحداث كما أرادها العقل الكلي، أو مع ثيمة طاعة الآلهة (التأملات، ١، ١٢، ٨).
وصفوة القول أنه في كل مرة كان ماركوس يدوِّن فيها إحدى تأملاته كان يعلم ماذا يفعل؛ كان يعظ نفسه بأن تمارس واحدًا من المجالات الثلاثة: الرغبة، الفعل، التصديق. وكان في نفس الوقت يعظ نفسه بأن تمارس الفلسفة نفسها، في أقسامها الثلاثة: الفيزيقا، والأخلاق، والمنطق (التأملات، ٨–١٣).
لعلنا الآن في وضع يتيح لنا أن نفهم ما الذي جعل ﻟ «التأملات» تلك القوة الآسرة التي مارستها على أجيال القراء. إنها بالضبط حقيقة أن لدينا شعورًا بأننا نشهد ممارسة التدريبات الروحية، نراها رأي العين، نقبض عليها حية إن جاز التعبير. وعلى كثرة الوعاظ والمنظِّرين والموجِّهين الروحيين ومراقبي تاريخ الأدب العالمي، إلا أن من النادر جدًّا أن تُتاح للمرء فرصة أن يرى شخصًا ما في عملية تدريب نفسه أن يكون إنسانًا. «في الصباح، عندما تجد نفسك غير راغب في القيام، قل لنفسك: إنني أصحو من نومي لكي أؤدي عملي كإنسان» (التأملات، ٥–١).
قلَّما نحسُّ في «التأملات» بأن ماركوس يتردَّد أو يتعثَّر أو يتحسس طريقه وهو يمارس التدريبات التي تتبع بكل دقة التوجيهات التي رسمها إبكتيتوس مقدَّمًا. ورغم ذلك فإننا نشعر بانفعالٍ خاصٍّ تمامًا، إذ نضبط شخصًا في عملية صنعٍ ما نحاول جميعًا أن نصنعه؛ أن نضفي معنًى على حياتنا، أن نجهد لأن نعيش في حالة وعيٍ تام، ونعطي كل لحظات الحياة قيمتها الكاملة. لقد كان ماركوس يتحدث إلى نفسه، غير أننا لا نزال نتلقَّى الانطباع بأنه كان يتحدث أيضًا إلى كل واحدٍ منا.