الفصل السادس

ماركوس أوريليوس

(١) التأملات بوصفها تدريبا روحيا

نشرت «تأملات» ماركوس أوريليوس (قد تترجم على نحوٍ أفضل إلى «عظات إلى نفسه») في الغرب للمرة الأولى في ١٥٥٨-٩م بواسطة مفكِّر زيوريخ الإنساني أندرياس جسنر Andreas Gesner. ومنذ ظهورها الأول ظلَّت «التأملات» تأخذ بألباب القراء. لم يكن جميع هؤلاء القراء، بمن فيهم كثير من المؤرخين أيضًا، يفهمون دائمًا ماذا كان ماركوس أوريليوس يريد أن يحققه بكتابة هذا الكتاب. أما المحرِّران والمترجمان الإنجليزيان مريك كاسوبون وتوماس جاتاكر فقد كان لديهما، بعدُ، حسٌّ وثيق بالوقائع القديمة، وكانا على درايةٍ جيدة بطبيعة العمل الذي كانا يزاولانه. لقد أدركا أن «التأملات» كانت مجموعة من «اليوميات» Hypomnemata (باللاتينية Commentaria): أي خواطر مكتوبة بشكلٍ يومي من أجل الاستعمال الشخصي للمؤلف.

وقد ألمح كثير من الكتاب إلى وجود هذا الجنس الأدبي في العصر القديم، غير أنه كان مقدَّرًا لمثل هذه الكتابات أن تختفي؛ إذ إنها لم تكن تُكتب بقصد النشر. ونحن مدينون في بقاء تأملات ماركوس لبعض الظروف السعيدة، ومن المحتمل جدًّا لورع واحد من الحاشية اللصيقة بالإمبراطور.

إلا أن معظم المؤرخين قد أسقطوا، على نحوٍ أناكروني،١ التحيزات الأدبية الخاصة بزمنهم الأحدث على «التأملات». ففي القرنَين السابع عشر والثامن عشر، حيث كانت الرسائل المذهبية النسقية تُعدُّ الشكل الأكمل للإنتاج الفلسفي، كان يعتقد بعامة أن «التأملات» لا بد من ربطها بتأليف رسالةٍ ما من مثل هذه الرسائل. ومن ثم تصوَّر الباحثون أن «التأملات» كانت نُتفًا أو «بقايا مبعثرة» Disjecta Membra لمثل هذا العمل الافتراضي، أو، ربما، سلسلة من المدونات مكتوبة بتصور نشرها.
وفي القرن التاسع عشر، الذي اتسم بالرومانتيكية، كان مدرَكًا على نطاقٍ واسع أن «التأملات» هي مجموعة من اليوميات Hypomnemata أو المدونات الشخصية. غير أنه في أحيانٍ كثيرة، مثلما في دراسة رينان العظيمة «ماركوس أوريليوس ونهاية العالم القديم»، ذهب الباحثون إلى أن ماركوس قد كتب «يوميات شخصية لحالاته الداخلية».
وفي القرن العشرين، عصر السيكولوجيا، والتحليل النفسي، والشك، فإن الواقعة نفسها — واقعة أن ماركوس كتب هذه اليوميات الشخصية — قد تم تأويلها على أنها عَرَض لانحرافٍ سيكولوجي، وصار من الرواسم المكرورة الحديث عن «تشاؤمية» Pessimism ماركوس أوريليوس. يؤكد إ. ر. دودز E. R. Dodds، مثلًا، على النقد الذاتي الدائم الذي مارسه ماركوس على نفسه، وربط هذا الميل بحلم لماركوس، حفظه لنا ديو كاسيوس؛ ففي ليلةٍ تبنيه، فيما يقول ديو، رأى الإمبراطور في المنام أن كتفَيه مجبولتان من العاج. ويرى دودز أن هذا يومئ إلى أن ماركوس كان مصابًا بأزمة هوية حادة.
وفي دراسةٍ مشتركة شرع ﻫ. فان إفنتير H. Van Effenterre وعالم الأمراض النفسجسمية ر. ديلي R. Dailly في تشخيص الجوانب الباثولوجية — النفسية والفزيولوجية معًا — لما أسمياه «حالة ماركوس أوريليوس»؛٢ وافترضا، مستندَين إلى شهادة ديو كاسيوس، أن ماركوس أوريليوس كان يعاني من قرحة المعدة، وأن شخصية الإمبراطور تطابق الملازمات Correlates السيكولوجية لهذا المرض:٣

«مريض القرحة هو شخصٌ منغلق على نفسه، مهموم، ومأزوم … نوع من تضخم الذات يجعله غير قادر على أن يرى رفاقه من الناس … وإنما نفسه، في نهاية التحليل، هي ما يبحث عنه في الآخرين … وهو حي الضمير إلى حد الشكلانية، وهو شغوف بالكمال التقني للإدارة أكثر من شغفه بالعلاقات الإنسانية، رغم أن الأولى يجب ألَّا تكون سوى المجموع الكلي للثانية. وإذا كان مريض القرحة إنسانًا مفكرًا فسوف يكون أميل إلى البحث عن التبريرات، وانتحال شخصياتٍ رفيعة، وتبنِّي مواقفَ رواقيةٍ وفريسية.» (ديلي وإفنتير، «حالة ماركوس أوريليوس»)

تأملات ماركوس عند هذين الكاتبَين هي استجابة لحاجته إلى «الإقناع الذاتي» و«التبرير في عينَيه هو».

أما ذروة هذا النوع من التأويل فهي بدون شك مقالة لتوماس أفريكا Thomas W. Africa بعنوان «إدمان ماركوس أوريليوس للأفيون». في هذه المقالة يحاول المؤلف، مستندًا إلى فقرات من جالين وديو كاسيوس، أن يكشف إدمانًا حقيقيًّا للأفيون من جانب ماركوس أوريليوس، ويظن أن بوسعه أن يكتشف أعراضه في «التأملات». غير أن النصوص التي يوردها، في الحقيقة، لا تشكل برهانًا قاطعًا على إدمان ماركوس. أما النصوص المقتطفة من «التأملات» نفسها والمورَدة كأعراض للانسمام فإن تأويل أفريكا لها هو هراءٌ محض.
لا يذكر ديو كاسيوس الأفيون على الإطلاق؛ بل يذكر فقط أنه أثناء حملة الدانوب لم يكن ماركوس يأكل بالليل، وكان أثناء النهار لا يتناول إلا قليلًا من الترياق Theriac لكي يريح صدره ومعدته. وفي حين يذكر جالين الأفيون حقًّا فإنه يذكره على نحوٍ لا يمكن معه أن يُستنبَط من كلماته إدمانٌ حقيقي للأفيون. فهو يذكر فقط أن ماركوس أثناء حملة الدانوب كان يتناول قليلًا من الترياق كل يوم «بقدر حبة الفول المصري»؛ لدواعي السلامة. كانت هذه عادةً متكررة بين الأباطرة الرومان؛ إذ إن الترياق كان يعتبر محصِّنًا ممتازًا ضد السموم. كان ماركوس يشعر بتعبٍ مزمن بالنهار عندما كان يستعمل الترياق؛ لأنه يحتوي على عصير الخشخاش أي الأفيون؛ ولذا فقد أمر بإزالة الخشخاش من الخليط، غير أنه عندئذٍ صار يعاني الأرق؛ فعاد من ثم إلى الترياق ولكنْ مَعتَّقًا هذه المرة وأخف بكثير. وبعد وفاة ديمتريوس الطبيب الرسمي لماركوس تولى جالين نفسه مهمة تركيب ترياق الإمبراطور، وكان ماركوس راضيا تمامًا عن خدماته. وقد شرح له جالين أن هذا الترياق هو الأفضل، بالضبط لأنه مركب وفقًا للنسب التقليدية.

مثلما يمكننا أن نرى، كانت مشكلة ماركوس مع التعب والأرق مؤقتة. لم يلتمس ماركوس الأفيون قط من أجل ذاته، بل من أجل تأثيراته الطبية؛ ويبدو أنه قد وجد، بفضل جالين، التوازن القويم في جرعته.

ويعترف أفريكا نفسه، في الملاحظة الأخيرة من مقاله، بأنه حتى إذا تناول أحد القدر الذي يتناوله ماركوس من الترياق فإن كمية الأفيون التي يحتويها غير كافية لإحداث إدمان لأفيون. إلا أنه يضيف: يجب أن نفترض أن الجرعات الموصوفة لم تكن تراعى دائمًا، لأننا لا بد أن نجد طريقةً ما لتفسير غرابة «تأملات» الإمبراطور والطبيعة الغريبة للرؤى التي يصفها.

ها هنا يقفز إلى الأعين ضعف منطق أفريكا: نحن لسنا على أدنى يقين بأن ماركوس أوريليوس كان مدمن أفيون، ولكن علينا أن «نفترض» أنه كان كذلك، إذ لا بد لنا بطريقةٍ ما أن نفسر غرابة «التأملات». هذه سفسطةٌ مزدوجة: أولًا، حتى لو كانت الرؤى في «التأملات» غريبة، فلا شيء يجبرنا على أن نفسرها بواسطة الأفيون؛ إن ديلي وفان إفنتير، على كل حال، كانا قانعَين بتفسيرها بواسطة قرحة المعدة! يظن أفريكا أن بوسعه أن يكشف مماثلات بين «التأملات» و«اعترافات آكل أفيون إنجليزي» لتوماس دي كينسي Thomas De Quincey. ولكنْ هل مثل هذه المقارنة ممكنة حقًّا؟
سندع أفريكا يتحدث عن نفسه:
«لم يكن تصوُّر ماركوس للزمن كنهرٍ هائج يكتسح كل شيء أمامه ويلقي به في هاوية المستقبل، لم يكن هذا التصور مذهب مدرسةٍ فلسفية عن الحياة منظورًا إليها من «الرواق» Porch، بل محاولة للتعبير عن المنظورين اﻟمتماديين للزمان والمكان اللذين فتحهما له الأفيون. لقد تعجَّل بُعدا الزمان والمكان حتى كانت أوروبا بقعة والحاضر نقطة والناس حشرات تزحف على كتلة طين. لم يعد التاريخ مرجعًا بل موكبًا حقيقيًّا للماضي. ويشارك ماركوس زميله المدمن دي كينسي الإحساسات المتوهجة: «الإحساس بالمكان، وفي النهاية الإحساس بالزمن، كانا كلاهما متأثرين بقوة. المباني، المناظر الطبيعية … إلخ عُرضت في أحجامٍ شاسعة بحيث إن العين الجسدية غير مؤهلة لإدراكها. على أن هذا كان أقل إزعاجًا لي بكثير من التمدد الهائل للزمن. لقد بدا لي أحيانًا أنني عشت سبعين عامًا أو مائة عام في ليلةٍ واحدة، بل لقد كانت لديَّ أحاسيس تمثل مدة تتجاوز كثيرًا حدود الخبرة البشرية».» (توماس دي كينسي، «اعترافات آكل أفيون إنجليزي»)
أما الفقرات من ماركوس أوريليوس التي يشير إليها أفريكا فهي التالية:
«الزمن أشبه بنهر من الأحداث الجارية وتيارٍ عنيف.٤ فما يكاد شيء يعنُّ حتى ينجرف بعيدًا (إلى الماضي) ويحلُّ غيرُه محلَّه، فما يلبث أن ينجرف بدوره.» (التأملات، ٤–٣٤)

«انظر مليًّا كيف يُزاح كل ما هو قائم وكل ما هو قادم ويصير ماضيًا ويزول زوالًا. الوجود مثل نهر في تدفقٍ دائم، وأفعاله تعاقبٌ ثابت للتغير! وأسبابه لا تُحصى في تنوُّعها. لا شيء يبقى ثابتًا حتى ما هو حاضرٌ عتيد. تأمَّل أيضًا الهوَّة الفاغرة للماضي والمستقبل التي تبتلع كل شيء. أليس بأحمق من يعيش وسط هذا كله ثم تُحدِّثه نفسه أن يلج في الأمل أو يهلك في الكفاح أو يسخط على نصيبه؟! وكأن أي شيء من هذا دائم له أو مُقدَّر أن يؤرِّقه طويلًا.» (التأملات، ٥–٢٣)

حنانيك يا أفريكا! هذه الثيمة واردة كثيرًا ومُسلَّم بها في الرواقية، خذ مثلًا الفقرات التالية من سنكا:

«ضعْ أمام عين عقلك الامتداد الهائل لهوَّة الزمان، وقارن عندئذٍ ما نُسمِّيه الحياة الإنسانية باللانهاية …» (سنكا، رسالة)

«كل شيء يسقط في نفس الهاوية … الزمن يمرُّ بسرعةٍ لا نهائية … وجودنا نقطة، بل أقل من نقطة؛ ولكن الطبيعة بتقسيمها لهذا الشيء الضئيل قد أضفت عليه مظهر مدةٍ أطول.» (سنكا، رسالة)

هذه صورةٌ جليلة. ونحن نجدها في الأبيات الرفيعة التالية من ليونيداس من تارنتم: «أيها الإنسان، لا نهائيًّا كان الزمن قبل أن يبزغ فجرك، ولا نهائيًّا سيكون الزمن الذي ينتظرك في هاديس. فأيُّ قسط من الحياة يتبقَّى لك، غير نقطة، أو إذا كان ثمة ما هو أدقُّ من النقطة؟» (يونيداس من تارنتم، «المختارات اليونانية»). ونهر ماركوس، بالمناسبة، ليس غير نهر الوجود الرواقي الذي يجري بلا توقف؛ على أنه، في نهاية التحليل، هو أيضًا نهر هيرقليطس الذي كان يضاهي جميع الموجودات بتدفق نهر. كما أنه أيضًا نهر الأفلاطونيين كما ذكره بلوتارخ: «كل الأشياء معًا تكون وتفسد: الأفعال، الأقوال، المشاعر؛ ذلك أن الزمن مثل نهر يجرف كل شيء.» والنهر نفسه يذكره أوفيد: «الزمن نفسه يجري في حركةٍ دائمة، تمامًا مثل نهر … موج يدفعه موج» (أوفيد، ميتامورفوزيس).

عندما يستخدم سنكا، في الفقرة المقتبسة آنفًا، تعبير propone — «ضع نصب عين عقلك»، أي «تمثل في نفسك هاوية الزمن» — فإنه يوضح بجلاء أنه يتحدث عن تدريب المخيلة الذي يتعيَّن على الرواقي أن يمارسه. وإنه لمثال لنفس النوع من التمرين، إذ يحاول ماركوس أوريليوس، في «التأملات»، أن يضم أبعاد العالم في مخيلته، وينظر إلى الأشياء من فوق، لكي يردَّها إلى قيمتها الحقيقية.

«انظر في الوجود كله؛ الذي أنت أصغر أجزائه، وانظر في الزمان كله، الذي قُسمتْ لك منه لحظةٌ وجيزة وهاربة؛ وانظر في القدر وما هو معقود بالقدر، وكم أنت جزءٌ ضئيل منه.» (التأملات، ٥–٢٤)

«إذا ما رُفعْتَ فجأة إلى ارتفاعٍ هائل وأمكنك أن تنظر تحتك إلى مشاغل البشر بشتى أصنافها؛ لأن مجال نظرك سوف يضم أيضًا حشدًا هائلًا من الأرواح التي تأهل الفضاء والسماء، ولأنك مهما أعدت الكرَّة فسوف ترى الأشياء نفسها؛ الرتابة والزوال. هل هذه الأشياء تستدعي الزهو والخيلاء؟!» (التأملات، ١٢–٢٤)

«بوسعك أن تُنحِّي الكثير من المنغصِّات غير الضرورية التي تكمن بأكملها في حكمك أنت. عندئذٍ ستوفر لنفسك مكانًا رحبًا بأن تفهم الكون كله وتستوعبه في عقلك، وبأن تتفكر في أبدية الزمان، وتتأمل في التغير السريع الذي يعتري كل شيء في كل جانب؛ ما أضيق البون بين الميلاد والفناء، وما أوسع الفجوة الزمنية التي سبقت مولدك والفجوة اللانهائية المماثلة التي تعقب فناءك.» (التأملات، ٩–٣٢)

«والروح العاقلة، فضلا عن ذلك، تجتاز العالم كله والخلاء المحيط به، وتستكشف شكله، وتمد نفسها في لانهاية الزمان،٥ وتحيط بالتجدد الدوري ﻟ «الكل» وتفهمه.» (التأملات، ١١–١)
«آسيا وأوروبا مجرد ركنَين صغيرَين من العالم. كل محيط هو نقطة في العالم. جبل أثوس Athos٦ حفنة تراب في العالم. الزمن الحاضر كله هو ثقب دبوس في الأبدية. كل الأشياء ضئيلة وسريعة التغير وزائلة.» (التأملات، ٦–٣٦)

«ما أصغر نصيب كلٍّ منا من الزمن — حصته الضئيلة من الهوة الزمانية اللانهائية؛ لسرعان ما تبتلعها الأبدية! وما أضأل حصته من مادة «الكل» وروح «الكل»! ما أضألها في جملة الأرض تلك البقعة التي تزحف عليها! تأمل في كل هذا ولا تكبر شيئًا سوى الكدح إلى حيث تقودك طبيعتك، والتسليم بما تأتي به طبيعة العالم.» (التأملات، ١٢–٣٢)

الفرق بين هذه النصوص والفقرة المقتبسة آنفًا من دي كينسي يقفز إلى العين: فتشوُّه الزمان والمكان لدى الأخير مقحَم عليه من الخارج؛ فالمدمن ضحية سلبية لانطباعاته. أما عند ماركوس فالنظر في لا نهائية الزمان والمكان هو عمليةٌ إيجابية «نشطة»؛ يتجلَّى ذلك بوضوحٍ تام من عظاته المتكررة بأن «يتمثل في نفسه» و«يتفكر في» كلية الأشياء. إن علينا أن نتعامل هنا مع تدريبٍ روحيٍّ تقليدي يستخدم ملكات التخيُّل. وإذا كان دي كينسي يتحدث عن تشوُّه اللحظة، التي تتخذ نسبًا هولية فإن ماركوس، على العكس، يتحدث عن «جهد» لتخيُّل اللانهائي وتخيُّل الكل، عسى أن ترى جميع اللحظات والأماكن وقد رُدَّت إلى أحجامٍ متناهية الصغر. في حالة ماركوس فإن هذا التمرين الإرادي للمخيلة يفترض مسبقًا اعتقادًا في المخطط الكوزمولوجي الرواقي التقليدي: العالم قائم داخل خلاءٍ لا نهائي، ومدته متضمَّنة داخل زمانٍ لانهائي، فيه تجددٌ دوري للكون يتكرر إلى ما لا نهاية. المقصد من تمرين ماركوس هو أن يزوده برؤية للشئون البشرية قادرة على وضعها داخل منظور الطبيعة الكونية.٧
مثل هذا الإجراء هو ماهية الفلسفة نفسها. ونحن نجده متكررًا في صورةٍ متطابقة، تحت الفروق السطحية في المفردات، في جميع المدارس الفلسفية في العصر القديم. أفلاطون، على سبيل المثال، يُعرِّف الطبيعة الفلسفية بقدرتها على تأمل كلية الزمان والوجود، والنظر بالتالي إلى الشئون البشرية بازدراء (أفلاطون، الجمهورية، a486). ونحن نصادف هذه الثيمة نفسها بين الأفلاطونيين مثل فيلون السكندري ومكسيموس الصوري، وفي الفيثاغورية الجديدة، وبين الرواقيين، وحتى بين الأبيقوريين، كما قد رأينا في فقرة مترودوروس المقتبسة آنفًا.
في «حلم سكيبيو» Dream of Scipio٨ لشيشرون نجد حفيد سكيبيو أفريكانوس يتأمل الأرض من فوق مجرة درب التبانة، فتبدو الأرض له من الصغر بحيث إن الإمبراطورية الرومانية لا يمكن إدراكها، والحياة نفسها تبدو أدق من نقطة. استمرت هذه الثيمة على طول التراث الغربي. نذكر مثلًا باسكال و«اللانهايتين»: «فلتبدُ الأرض كنقطة … بالمقارنة بالفلك الهائل الذي يرسمه هذا النجم …» (باسكال، الأفكار).

وتدوينات ماركوس أوريليوس لنفسه لا تعطينا فكرةً تُذكر عن خبراته الشخصية. صحيح أن بوسعنا في بعض فقرات «التأملات» أن نُعاين بعض المعلومات الأوتوبيوجرافية الصغرى؛ غير أن هذه قليلة ومتباعدة بعضها عن بعض (٣٥–٤٠ فقرة فقط، من بين ٤٧٣، تتضمن مثل هذه المعلومات). وكثيرًا ما تكون هذه التفاصيل مجرد اسم، مثل بانثيا، وصيفة لوشيوس فيروس، التي لزمت مقبرة حبيبها، أو ميميس فيليستيون، وفويبوس، وأوريجانيون. إن ماركوس لا يخبرنا فعليًّا بأي شيء عن نفسه.

ولكن ماذا عن تلك العبارات العديدة لماركوس التي تبدو مشربة بالتشاؤم؟ ألا تنبئنا بأي شيء عن حالاته النفسية؟ إنك إن جمعتها معًا فإنها بالتأكيد تعطي انطباعًا بازدراءٍ تام للشئون البشرية. ونحن نجد فيها، فيما يبدو، انطباعًا بالمرارة، والتقزُّز، وحتى «الغثيان» تجاه الوجود البشري. «مثلما يبدو لك ماء الغسل: زيت، عرق، قذر، أسن — كل ما هو مغث؛ كذلك حال كل جزء من الحياة، وحال كل شيء فيها» (التأملات، ٨–٢٤). للوهلة الأولى يبدو هذا النوع من التعبير الازدرائي مقصورًا على اللحم والبدن، الذي يسميه ماركوس «الطين»، و«القذر»، و«الدم الملوث». إلا أنه بنفس المعاملة يعامل أشياء دأب الجنس البشري على اعتبارها قيمًا هامة:
«ما أطيب، عندما يكون أمامك لحمٌ مشوي أو ما شابه من الأطايب، أن تستحضر في ذهنك أن هذا جثة سمكة، وهذا جثة طائر أو خنزير، ثم إن هذا النبيذ الفاليرني٩ مجرد عصير عنب، وإن رداءك الأرجواني ليس أكثر من فراء خروف منقوع في دم المحار! وفي الجماع أنه ليس أكثر من احتكاك غشاء ودفقة مخاط.» (التأملات، ٦–١٣)

ويتخذ ماركوس بالمثل نظرة للأنشطة الإنسانية غير واهمة: «وكل ما نُعليه ونُغليه في الحياة هو شيءٌ فارغ وعفن وتافه؛ جِرَاء يعضُّ بعضها بعضًا، وأطفال تتشاجر … تضحك … وما تلبث أن تبكي» (التأملات، ٥–٣٣). والحرب التي كان يدافع فيها ماركوس عن حدود الإمبراطورية كانت، بالنسبة له، أشبه بصيد للعبيد الصرامطة، لا يختلف في شيء عن صيد عنكبوت للذباب (التأملات، ١٠-١٠). ويحدج بنظرةٍ قاسية ذلك الهياج المشوَّش للدمى البشرية: «أي صنف من الناس هم حين يأكلون ويرقدون ويضاجعون ويقضون حاجتهم … إلخ؟ ثم أي صنف من الناس هم حين يتولَّون السلطة على الناس؟ متجبِّرين، متحجِّري القلب» (التأملات، ١٠–١٩). ومما يحقر من الحرص البشري أنه لا يدوم غير لحظة وينتهي إلى لا شيء حقًّا: «بالأمس كان بذرة وغدًا مومياء أو رمادًا» (التأملات، ٤–٤٨).

تكفي كلمتان لكي نوجز الكوميديا البشرية: كل شيء تافه، وكل شيء زائل. تافه لأنه لا جديد تحت الشمس:
«تأمل دومًا كيف أن ما يحدث الآن قد حدث من قبلُ، وسوف يحدث في المستقبل بنفس الطريقة. شاهد بعين عقلك مسرحياتٍ كاملة، بنفس المشاهد — كل ما تعرفه من خبرتك أو من التاريخ الأقدم — كل بلاط هادريان على سبيل المثال، بلاط أنطونينوس بأكمله، بلاط فيليب، الإسكندر، كرويسوس.١٠ كل أولئك كان مسرحيات كالتي تراها الآن، ولا اختلاف إلا في فرقة الممثلين.» (التأملات، ١٠–٢٧)
وتبلغ التفاهة والسأم حدًّا مُغثيًا:
«مثلما يحدث لك في المدرج Amphitheater وما شابه ذلك من الأمكنة، حيث ثبات المنظر ورتابة المشهد يبعثان على الضجر، كذلك الحال في خبرتك بالحياة ككل؛ كل شيء، هنا وهناك، هو نفس الشيء، وبنفس الأسباب. فإلى متى؟!» (التأملات، ٦–٤٦)

ليست الشئون البشرية مضجرة فحسب، إنها أيضًا عابرةٌ زائلة. وماركوس يحاول أن يستحضر في مخيِّلته صورةً حية للجموع البشرية للعصور الماضية، مصوِّرًا أيام ترايان وفيسباسيان، بأعراسها، وأمراضها، وحروبها، وأعيادها، وتجارتها، وزراعتها، وطموحها، وغرامياتها. كل هذه الكتل البشرية، مع أفعالها، قد زالت ولم يبقَ لها من أثر. ويحاول ماركوس أيضًا أن يتخيَّل هذه العملية الموصولة من الفَناء تعمل عملها على أولئك الذين حوله (التأملات، ١٠–١٨).

وماركوس لا يستطيع صبرًا على أولئك الذين يُعزُّون أنفسهم عن قِصَر الحياة بالأمل في خلود اسمهم لدى الأخلاف. «ماذا في الاسم؟ مجرد ضوضاء، أو صدًى خافت» (التأملات، ٥–٣٣). وفي أعلى تقدير فسوف ينتقل هذا الشيء البائس الرائغ إلى بضعة أجيال لا يدوم كلٌّ منها إلا كما تدوم ومضة برق في الزمان اللانهائي. ينبغي ألا يخدعنا مثل هذا الوهم؛ «فهو قائم على تعاقب قليل من البشر سرعان ما يموتون ولا يعودون يعرفون أنفسهم ناهيك بمن مات منذ زمنٍ بعيد!» (التأملات، ٣–١٠). «سرعان ما ستكون قد نسيت كل شيء، ويكون قد نسيك كل شيء» (التأملات، ٧–٢١).

مثل هذا التراكم من العبارات التشاؤمية هو شيءٌ لافت حقًّا. إلا أننا يجب أن نأخذ حذرنا من أن نستنبط منها نتائجَ متسرعةً عن سيكولوجية ماركوس نفسها. لكم هو يسير علينا أن نتصور، شأن كثير من الكتاب المحدثين، أن الكتَّاب القدامى كانوا يكتبون لكي يوصلوا معلومات على نحوٍ مباشر أو يوصلوا العواطف التي تصادف أنهم يشعرون بها؛ فنفترض، مثلًا، أن «تأملات» ماركوس قصد بها أن تنقل مشاعره اليومية إلينا، وأن لوكريتوس كان هو نفسه شخصًا قلقًا واستخدم قصيدته «في طبيعة الأشياء» لكي يحاول أن يحارب قلقه، وأن أوغسطين كان يعترف على نفسه حقًّا في «الاعترافات». إلا أنه، في حقيقة الأمر، ليس يكفي أن ننظر المعاني السطحية الظاهرة في نصٍّ قديم حتى نفهمه فهمًا كاملًا. إنما ينبغي علينا أن نحاول أن نفهم لماذا كتبت هذه العبارات أو قيلت، ينبغي أن نكتشف غائيتها.

وبصفةٍ عامة يمكننا القول إن تصريحات ماركوس التي تبدو تشاؤمية ليست تعبيرات عن تقزُّزه أو إحباطه تجاه مشهد الحياة، ولكنها وسيلة يستخدمها من أجل أن يُغيِّر طريقته في تقييم الأحداث والأشياء التي يتشكل منها الوجود البشري. وهو يقوم بذلك بأن يعرف هذه الأحداث والأشياء كما هي عليه في الواقع — أو قل «فيزيائيًّا» — عازلًا إياها عن التمثيلات التقليدية التي اعتاد الناس أن يشكِّلوها من الأحداث والأشياء. إن تعريفات ماركوس للغذاء، أو النبيذ، أو الأَرْديَة الأرجوانية (الملكية)، أو الجماع، هي تعريفات تعمد إلى أن تكون «طبيعية»، تعريفاتٍ تقنية، طبية تقريبًا، للأشياء، والتي إذا نظرت بطريقةٍ «بشرية» تُثير أعنف الانفعالات، وعلينا أن نستخدمها لنُحرِّر أنفسنا من الفتنة التي تمارسها علينا. مثل هذه التعريفات لا تعبر عن انطباعات ماركوس، بل هي على العكس تُناظر وجهة من الرأي قُصد بها أن تكون «موضوعية»، وليست هي من اختراع ماركوس بأي حال. لقد كان أبقراط، مثلًا، وديمقريطس قديمًا قد عرَّفا الجماع على أنه «صرعٌ صغير».

عندما يتخيل ماركوس، بلا تلطُّف، الحياة الحميمة للمتغطرس، في «أكله، نومه، جماعه، تغوُّطه» فإنما يحاول أن يقدِّم رؤيةً «فيزيائية» للواقع الإنساني. ونحن نجد تأملًا مماثلًا عند إبكتيتوس يتعلق بالأشخاص الذين يقنعون بمجرد الحديث عن الفلسفة: «لوددت أن أراقب أحد هؤلاء الفلاسفة وهو يضاجع كيما أرى كيف يتعرَّق، ويجهد، وأي ضرب من النخير والتأوُّه يصدر؛ وما إذا كان بوسعه حتى أن يتذكر اسمه، بَلْه الأحاديث الفلسفية التي قد سمعها، أو ألقاها، أو قرأها» (إبكتيتوس، المحادثات).

يطبِّق ماركوس نفس الطريقة على فكرتنا عن الموت: «تأمل ما هو الموت، وكيف أن المرء إذا نظر إلى الموت في ذاته وبذاته، مبددًا الصور المرتبطة بالموت إذ يُحلِّل تصورنا جميعًا عنه، فلن يعود يراه إلا نتاجًا من نواتج الطبيعة.»

كما رأينا فإن سعي ماركوس لمواجهة الوجود في حقيقته العارية بتمامها يُفضي به إلى أن يلمح عمليات الفساد والتحلُّل التي تفعل فعلها في الناس والأشياء من حوله، ويستحضر بلاط أوغسطس حيًّا أمام عينَيه للحظة، حتى يدرك أن جميع هؤلاء الناس، المفعمين بالحياة في مخيِّلته، هم في الحقيقة أموات منذ زمنٍ طويل. إلا أنه لا يحق لنا أن نفسِّر هذا على أنه وسواس بالموت أو رضًا ذاتيٌّ مرضي، بأكثر مما يحق لروبين ويليامز، في فيلم ‘Dead Poets’ Society’، أن يدعو تلاميذه إلى تأمل صورة لأولاد المدرسة القدامى. إن بطل الفيلم يحاول أن يبصر تلاميذه بمعنى Carpe Diem (اقبضْ على اليوم)، بنفاسة كل لحظة من لحظات الحياة، وإنما بهذا الهدف في الذهن هو يؤكد أن جميع الوجوه في الصورة الفوتوغرافية للفصل، الوجوه الصغيرة المفعمة بالحياة، هي الآن ميتة منذ زمان.

كذلك عندما يتحدث ماركوس عن رتابة الوجود الإنساني، فإنه يفعل ذلك لا لكي يعبر عن سأمه هو بل لكي يقنع نفسه بأن الموت لن يحرمه من أي شيءٍ جوهري. وعند لوكريتس نجد نفس الحجة تستخدم من جانب الطبيعة نفسها، لكي تواسي الإنسان في محنة الموت: «لا جديد لديَّ يمكن أن أخترعه لكي أَسُرَّك؛ كل شيء هو نفسه على الدوام … ما يكمن لك في الخزانة هو دائمًا نفس الشيء … حتى لو قُدِّر لك ألا تموت أبدًا» (لوكريتس، «في طبيعة الأشياء»).

في حالة ماركوس أوريليوس فإن كل هذه التصريحات هي تطبيقٌ إراديٌّ واعٍ لطريقة يصوغها كما يلي:
«ضعْ لنفسك دائمًا تعريفًا أو وصفًا للشيء الذي يعرض لعقلك، بحيث يمكنك أن تتبيَّن بوضوح أي صنف من الأشياء هو في جوهره وتجرُّده، وفي كليته وفي أجزائه، وبحيث يمكنك أن تُفضي إلى نفسك باسمه الصحيح وأسماء تلك العناصر التي يتركب منها والتي سوف ينحلُّ إليها.»١١ (التأملات، ٣–١١)
هذه الطريقة رواقية في الصميم: تتألف من عدم إضافة أحكام قيمة ذاتية — من قبيل «هذا الشيء كريه»، «هذا الشيء حسن»، «هذا الشيء سيئ»، «هذا جميل»، «هذا قبيح» — والعدول عن ذلك إلى التمثيل «الموضوعي» للأشياء التي لا تعتمد علينا، وليس لها من ثم قيمةٌ أخلاقية. هذا المنهج الرواقي الشهير Phantasia Kataleptike، الذي يترجم ﺑ «التمثيل الموضوعي»، يقع بالتحديد عندما نمتنع عن إضافة أي حكم قيمة إلى الواقع المحض (العاري). وبتعبير إبكتيتوس: «نحن لن نمنح تصديقنا لأي شيء إلا ذلك الذي لدينا عنه تمثيلٌ موضوعي» (إبكتيتوس، «المحادثات»)؛ وهو يضيف التوضيح التالي: ماذا حدث؟ ولدك مات. لا أكثر؟ لا أكثر. سفينتك فُقدت. ماذا حدث؟ سفينتك فُقدت. فلان زُجَّ به إلى السجن. ماذا حدث؟ لقد زُجَّ به إلى السجن. أما أنه في هذا قد نُكِب فذاك شيء يزايد به كلٌّ من رأيه الخاص (إبكتيتوس، «المحادثات»).
يعتقد بعض المؤرخين أن بوسعهم في هذه التعريفات الموضوعية/الواقعية أن يكتشفوا آثار موقفٍ اشمئزازي تجاه المادة وتجاه أشياء العالم الفيزيائي، ومن ثم يكون ماركوس أوريليوس، وفقًا لهذا الرأي، قد تخلَّى عن المذهب الرواقي القائل بمحايثة (كمون/مباطنة) Immanence العقل الإلهي في العالم وفي المادة، ولا يعود عنده أي أثر للإعجاب الذي كان يشعر به خريسبوس تجاه العالم الظاهر؛ وبذلك يمكننا، في زعمهم، أن نجد عند ماركوس ميلًا للقول بألوهةٍ مفارقةٍ موجودة بمعزل عن العالم الظاهر.

والحق أن بعض فقرات ماركوس تبدو مستفزة في هذا الصدد، غير أنها تقتضي أقصى الاجتهاد في التأويل. فحين يستحضر ماركوس، مثلًا، «تعفُّن المادة الذي يتبطن الأشياء جميعًا … الماء، التراب، العظام، القذر»، فهو لا يقصد أن يقول إن المادة نفسها تعفن، بل يريد أن يؤكد أن تحولات المادة، بوصفها عملياتٍ طبيعية، تكون بالضرورة مصحوبة بظواهر «تبدو لنا» مثيرة للاشمئزاز، وإن كانت هي أيضًا طبيعية في واقع الأمر.

قد تبدو الفقرة التي اقتبسناها آنفًا أكثر استفزازًا حتى من ذلك: «مثلما يبدو لك ماء غسلك — زيت، عرق، قذر، أسن — كل ما هو مغثٍ؛ كذلك حال كل جزء من الحياة وحال كل شيء فيها» (التأملات، ٨–٢٤). هذا النص الوجيز يمكن أن يؤول على أنحاءٍ شتى. فيمكننا أولًا أن نقول إن ماركوس هنا يطبق منهجه في التعريفات الموضوعية، فيكون قصده أن يقول: «عندما أشاهد ظواهرَ فيزيائية وفيزيولوجية مثلما تكون هي على الحقيقة، فإن عليَّ أن أعترف أن هناك جوانبَ كثيرة لها تبدو لي مقززة أو تافهة؛ فهي تتكون من تراب، والوضر الذي يعلو سقط المتاع، والروائح الكريهة، والقاذورات. إن على تمثيلنا الموضوعي أن يميز كل هذه الجوانب من الواقع دون أن يحاول إخفاء أيٍّ منها». غير أن هذه النظرة الواقعية لها وظيفةٌ ثلاثية؛ فهي أولًا مقصود منها أن تعدنا لمواجهة الحياة كما هي. وكما يلاحظ سنكا:

«معيب أن تتأذَّى من هذه الأشياء مثلما هو معيب أن تشكو من رشاش ماء نالك في الحمام، أو من أنك دُفعتَ في زحام، أو بأنك تلوثتَ في بركة وحلٍ صغيرة. يحدث الشيء نفسه في الحياة مثلما يحدث في الحمامات، وفي الزحام، وفي الطريق … الحياة ليست شيئًا رقيقًا.» (سنكا، «رسائل إلى لوسيليوس»)

ثانيا: ليس من قصد النظرة الواقعية أن تُنكر محايثة العقل في العالم، بل أن تقنعنا بأن نلتمس العقل حيث يوجد في أنقى حالاته: في العقل الموجَّه أو الروح الداخلي ‘Daimon’، ذلك المبدأ المرشد بداخلنا، مصدر الحرية ومبدأ الحياة الأخلاقية.
وثالثًا: بتدعيم النبرة الكئيبة للقرف والنفور، تريد مثل هذه التعريفات أن تقدم مقارنة بالإضاءة البهية التي تُغيِّر هيئة جميع الأشياء عندما نتأملها من منظور العقل الكوني. لا يتردد ماركوس في موضعٍ آخر بأن يصرح بأن:
كل الأشياء تأتي من هناك … من ذلك العقل الكلي الحاكم، إما مباشرة وإما كنتيجة. لذا حتى فكَّا الأسد المفتوحان، وحتى السم، وكل مؤذٍ من الأشياء، كالشوك، كالطين، هي نواتجُ بعدية للنبيل والجميل.١٢
فلا تحسبنها غريبة عما تقدسه، بل تأمَّلْ، وأنصفْ، ينبوع الأشياء جميعًا.١٣ (التأملات، ٦–٣٦)
من الواضح تمامًا أن القذر هنا والتراب وغير ذلك من جوانب الواقع المنفِّرة في الظاهر هي نتاجٌ ضروري لعمليةٍ طبيعية تعود، في نهاية التحليل، إلى العقل الكوني. إذن ليست المادة نفسها هي التي تبدو منفِّرة لنا، بل الظواهر المضافة التي تصاحب تحولاتها. وماركوس هنا على اتفاقٍ تام مع التقليد الرواقي الذي يقول بأن المادة طيعة وخاضعة للعقل الذي يُشكِّلها ويحكمها. والغرض من تعريفات ماركوس الفيزيائية/الموضوعية هو أن ندرك أن مشاعر النفور التي نحسُّها في وجود بعض الظواهر التي تصاحب العمليات الطبيعية لا تعدو أن تكون تحيزًا «متمركزًا على الإنسان» Anthropocentric Prejudice. وفي الفقرة الآسرة التالية يعبر ماركوس عن قناعته بأن الطبيعة جميلة من جميع جوانبها:

«شيءٌ آخر عليك أن تلحظه؛ أنه حتى النواتج العرضية لما يتم وفقًا للطبيعة لا يخلو من فتنة وجاذبية. حين يُخبَز رغيف، على سبيل المثال، فلا بد من أن تحدث تشققات هنا وهناك ضد ما يقصده الخباز. على أن هذه التشققات غير المتعمدة تجذب العين بطريقةٍ ما وتثير الشهية. التين أيضًا ينفلق عند تمام نضجه. وفي حالة الزيتون الذي ينضج على شجرته فإن قرب التحلُّل نفسه يمنح ثمرته رونقًا معينًا. كذلك سنابل القمح المنحنية إلى الأرض، وجفن الأسد اﻟمغضن، والزَّبَد المتدفِّق من فم الخنزير، وغير ذلك كثير؛ كل أولئك أشياء تبدو بعيدة عن الجمال حين تؤخذ على حدة، ولكن ترتُّبها على عمليات الطبيعة يضفي عليها جمالًا وجاذبية. ومن ثم فأي إنسان لديه شعور واستبصارٌ عميق بتشغيلات «الكل» سوف يجد لذةً ما في كل جانب منها تقريبًا، بما في ذلك النواتج العرضية. مثل هذا الإنسان سوف تبهجه زمجرة الوحوش بهجة لا تقلُّ عن بهجته بكل تمثيلات المصوِّرين والمثَّالين؛ سوف يرى لونًا من التفتُّح والوسامة في امرأة أو رجلٍ عجوز؛ ومثل هذا الإنسان سيكون قادرًا على أن ينظر بتوقر إلى الفتنة الآسرة في غلمانه أنفسهم. وكثير من مثل تلك المدرَكات لن تروق كل إنسان، بل ذلك الذي أصبح على ألفةٍ حقيقية مع الطبيعة ومع أعمالها.» (التأملات، ٣–١)

ومن المفيد أن نقارن هذا النص بفقرة أرسطو المقتبَسة آنفًا.

فعند أرسطو من الأصل، ولكن عند ماركوس أوريليوس بصفةٍ أخص، بوسعنا أن نرى ثورة تحدث. فبدلًا من الاستطيقا المثالية التي تقصر الجميل على العقلي والوظيفي الذي يُبدي نِسبًا جميلة وشكلًا مثاليًّا، ها نحن بإزاء استطيقا واقعية تجد الجمال في الأشياء كما هي، في كل شيء يعيش أو يوجد. نحن نعرف من أولوس جليوس، فضلًا عن ذلك، أن تمييز ماركوس بين الخطة الأصلية للطبيعة والنتائج غير المتوقَّعة الناتجة عن هذه الخطة تعود إلى خريسبوس. هكذا يقف ماركوس برسوخ في هذه الحالة أيضًا داخل التعليم الرواقي التقليدي.

وعودًا إلى الفقرة «المستفزة» التي بدأنا بها (٨–٢٤): يبدو أن المعنى الذي يقصده ماركوس هو هذا: إزاء الأشياء التي أسماها الرواقيون «الأسواء» (اللافارقة) Indifferentia (أي التي لا تعتمد علينا بل على طبيعة العالم) ينبغي ألَّا نفرق بين المنفِّر والسارِّ أكثر مما تفرق بينهما الطبيعة نفسها. فالقذر، والطين، والأشواك، بعد كل شيء، تأتي من نفس المصدر الذي تأتي منه الوردة ويأتي منه الربيع. وهكذا فمن وجهة نظر الطبيعة، وبالتالي أيضًا من وجهة نظر كل من يعرف الطبيعة، لا ينبغي التمييز بين ماء الغسل وبقية الخلق: كل الأشياء «طبيعية» بنفس القدر.

لا رجاء ولا جدوى في استنباط حالات ماركوس النفسية من أي شيء مما سبق. أكان هو متفائلًا أم متشائمًا؟ أكان يعاني من قرحة المعدة؟ إن «التأملات» لا تسمح لنا بالرد على هذه الأسئلة. كل ما بوسعنا أن نعلمه منها هو عن التدريبات الروحية، كما كانت تمارَس تقليديًّا من جانب الرواقيين.

(٢) إبكتيتوس

في زمن ماركوس أوريليوس كان الحجة الأكبر في مسائل الرواقية هو إبكتيتوس. كان إبكتيتوس عبدًا لإبافروديت، معتق نيرون، وحضر دروس المعلم الرواقي مزونيوس روفوس. وعندما أُعتق إبكتيتوس بدوره من جانب إبافروديت أسس مدرسةً فلسفية في روما. وفي عام ٩٣-٩٤م وقع تحت طائلة مرسوم الإمبراطور دوميتيان الذي طرد الفلاسفة من روما ومن إيطاليا، فاستأنف نشاطه في نيقوبوليس في أبيروس، حيث أسس مدرسةً ثانية، وكان أحد تلامذته المنتظمين هو من سيكون الموظف المدني والمؤرخ أريان من نيقوميديا. كان أريان هو المسئول عن توصيل ما نعرفه عن تعليم إبكتيتوس، إذ إن إبكتيتوس، شأنه شأن الكثير من الفلاسفة القدامى، لم يخطَّ بيده أي شيء قط.

ما حفظه لنا أريان، إذن، لم يكن الشطر التكنيكي من التعليم الفلسفي لإبكتيتوس؛ أي تعليقاته على الكتَّاب الرواقيين أمثال خريسبوس، أو تفسيراته الأعم للمذهب؛ بل كان ما دوَّنه أريان هو المناقشات التي دأبت المدارس الفلسفية القديمة على إجرائها «بعد» الجزء التكنيكي من الفصل. في هذه المناقشات كان للأستاذ أن يجيب عن أسئلة الحضور، أو يتوسع في نقاطٍ معينة ذات أهمية من أجل أن يعيش المرء حياةً فلسفية. ومن المهم التوكيد على هذه النقطة؛ لأنها تعني أننا يجب ألا نتوقع أن نجد عروضًا نسقيةً تكنيكية لكل جانب من المذاهب الرواقية في «محادثات» Discourses إبكتيتوس. والحق أنها لا تتناول إلا عددًا محدودًا نسبيًّا من المشكلات؛ لأن الجزء الأكبر مقصور على الأمور الأخلاقية. ليس يعني هذا، بالطبع، أن إبكتيتوس لم يكن يعرض للنسق الرواقي كله في مقرره التعليمي النظري. كما أنه لم يبقَ لدينا من عمل أريان إلا الكتب الأربعة الأولى. ونحن نعلم من خلال فقرة من أولوس جاليوس، الذي يورد مقتطفًا من الكتاب الخامس ﻟ «محادثات» إبكتيتوس، أن شطرًا من العمل قد فقد. لهذين السببين، إذن، علينا أن نحاذر من أن نستنتج، على أساس هذه المجموعات من مدونات أريان، أن التعليم الفلسفي النظري جعل يضمر شيئًا فشيئًا في مقرر الرواقية المتأخرة.
ما يسعنا أن نقوله هو أن إبكتيتوس كان يؤكد بقوة وحسم على مفهوم كان تقليديًّا في الرواقية: هو التفرقة بين «خطاب عن الفلسفة»١٤ و«ممارسة الفلسفة ذاتها».
يقال أحيانًا إن الرواقيين كانوا يميزون بين جزأين من الفلسفة: جزءٍ نظري-خطابي Theoretical-Discursive من ناحية، يشمل الفيزيقا والمنطق، أي دراسة الطبيعة ودراسة قواعد الخطاب؛ وجزءٍ عملي من ناحيةٍ أخرى يختصُّ بالأخلاق. وهذا خطأ؛ فكلا الخطاب الفلسفي النظري والفلسفة ذاتها كما كانت تُعاش وتُخبَر يتألَّفان من ثلاثة أجزاءٍ مكونة.

في الخطاب الفلسفي النظري كانت الأجزاء الثلاثة للفلسفة متميزة بالضرورة؛ وتعرض كل منها على نحوٍ منفصل، وفقًا لتسلسلٍ منطقي، وتشكُّل الأسس والمبادئ الأولية للمذهب الرواقي. على مستوى الخطاب النظري، إذن، كانت أجزاء الفلسفة، بمعنًى ما، متخارجة إحداها عن الأخرى، بحسب مقتضيات العرض التعليمي. غير أن الفلسفة نفسها هي «ممارسة» الحكمة؛ إنها فعلٌ فريد، متجدد في كل لحظة: ممارسة المنطق، أو الفيزيقا، أو الأخلاق، وفقًا للموضوع الذي تمارَس فيه، ودون أن ينال ذلك من وحدتها بأي طريقة. عند هذا المستوى نحن لا نعود معنيين بالمنطق النظري — أي بنظرية الاستدلال الصحيح — بل بألا ندع أنفسنا ننخدع في حياتنا اليومية بالتمثيلات الزائفة. ولا نعود معنيين بالفيزيقا النظرية — أي نظرية نشأة الكون وتطوره — بل بأن نعي في كل لحظة أننا جزء من الكون وعلينا أن نجعل رغباتنا منسجمة ومذعنة وممتثلة لهذا الوضع. ولا نعود معنيين بالنظرية الأخلاقية — أي بتعريف الفضائل والواجبات وتصنيفها — بل، ببساطة، بأن نسلك بطريقةٍ أخلاقية.

تتطلب الممارسة الفلسفية العيانية أن نضع باعتبارنا دائمًا المبادئ الرواقية الأساسية. لقد كان الغرض من هذه المبادئ أن تُشكِّل الأساس لصوابنا في الحكم، وموقفنا تجاه الكون، والمسلك الذي يجب أن نتبنَّاه تجاه زملائنا المواطنين في المدينة. كانت الفلسفة، إذن، كما تُعاش وتُمارَس، تتضمن تدريبًا مستمرًّا للتأمل واليقظة الدائمة، لكي تبقى المبادئ التي يعلمها الخطاب النظري حية في ذهن المرء.

إذا أردنا أن نفهم لماذا أولى إبكتيتوس أهميةً كبرى لما أسماه «المناطق الثلاث للتدريبات» سيكون علينا أن نأخذ بعين الاعتبار هذا التمييز بين الخطاب الفلسفي النظري والفلسفة العيانية كما تُعاش وتُمارَس. في «المحادثات»، كما أوردها أريان، تعرض هذه المناطق الثلاث بصرامةٍ منهجيةٍ شديدة بحيث تُسوِّغ لنا أن نشكَّ بأن هذا المذهب كان له دورٌ هام يلعبه في التعليم النظري لإبكتيتوس.

يقيم إبكتيتوس مذهبه على التفرقة الرواقية التقليدية بين ما هو في قدرتنا وما ليس في قدرتنا. «من الأشياء ما هو في قدرتنا وطوقنا، ومنها ما ليس في قدرتنا وليس لنا به يد. فمما يتعلق بقدرتنا: أفكارنا ونوازعنا ورغبتنا ونفورنا، وبالجملة كل ما هو من عملنا وصنيعنا. ومما لا يتعلق بقدرتنا أبداننا وأملاكنا وسمعتنا ومناصبنا، وبالجملة كل ما ليس من عملنا وصنيعنا» (إبكتيتوس، المختصر ١). ما يعتمد علينا هو أفعال أنفسنا، لأننا أحرار في اختيارها. وما لا يعتمد علينا هو تلك الأشياء التي تتوقف على المسار العام للطبيعة والقدر. من بين أفعال النفس التي تعتمد علينا حقًّا يلحق البعض بمنطقة «الحكم والتصديق»، والبعض الآخر بمنطقة «الرغبة»، والبعض الثالث بمنطقة «النزوع إلى الفعل».

هذه المناطق الثلاث، إذن، عند إبكتيتوس (أفعال النفس، أو جوانب ذلك الذي يعتمد علينا) هي التي تحدد الأشكال الثلاثة للتدريبات الفلسفية. وبوسعنا، بمقارنة الفقرات ذات الصلة في «المحادثات»، أن نعرض نظرية الأشكال الثلاثة (أو المناطق الثلاث) للتدريبات الفلسفية كما يلي:
  • المنطقة الأولى منطقة الرغبة والنفور. الناس تُعساء لأنهم يرغبون في أشياء قد يفقدونها وقد يفشلون في الحصول عليها، وتعساء لأنهم يتجنبون أشياء كثيرًا ما تكون محتومةً؛ ذلك أن هذه المرغوبات، كالثروة والصحة مثلًا، لا تعتمد علينا. ومن ثم فإن نظام الرغبة عبارة عن تعويد أنفسنا أن نتخلى رويدًا رويدًا عن مثل هذه الضروب من الرغبة والتجنُّب، بحيث لا نرغب في النهاية إلا فيما هو في قدرتنا ويعتمد علينا — أي الفضيلة الأخلاقية — ولا نجتنب إلا ذلك الذي يعتمد علينا — أي الشر الأخلاقي — يجب أن نعتبر كل ما لا يعتمد علينا «غير فارق» Indifferent، وبتعبيرٍ آخر: يجب ألا نفرق بين هذه الأشياء (لا تكترثْ بالأشياء اللافارقة/لا تهتم بما لا يهم). مجال الرغبة إذن يختص بالانفعالات والعواطف (Pathe) التي نشعر بها كنتيجةٍ لما يحدث لنا.
  • المنطقة الثانية للتدريبات منطقة النزوع، أو الفعل. وهي عند إبكتيتوس تتعلق أولًا وقبل كل شيء بالعلاقات البشرية داخل المدينة، وتُناظر ما اصطلح الرواقيون على تسميته «الواجبات» Duties: تلك الأفعال التي تلائم ميول طبيعتنا. الواجبات أفعال، إذن هي واقعة ضمن الأشياء التي تعتمد علينا، لتؤثر في أشياء لا تعتمد علينا (كالناس الآخرين، السياسة، الصحة، الفن … إلخ). الواجبات هي أفعالٌ «مناسبة» لطبيعتنا العاقلة، وتتألف من أن نضع أنفسنا في خدمة المجتمع البشري (في صورة الدولة/المدينة والعائلة).
  • المنطقة الثالثة للتدريبات منطقة التصديق Assent يهيب بنا إبكتيتوس أن ننقد كل «تمثيل» Phantasia كما يقدِّم نفسه لنا ولا نمنح تصديقنا إلا للتمثيلات «الموضوعية». وبعبارةٍ أخرى: أن نطرح كل أحكام القيمة الذاتية. وهو يصوغ المبدأ المرشد لهذا التدريب كالتالي: «ليست الأشياء هي ما يشقي الناس بل أحكامهم «عن» الأشياء» (إبكتيتوس، المختصر ٥).
هذه المناطق (Topoi) الثلاث للتدريب عند إبكتيتوس تقابل الجوانب الثلاثة للفلسفة كما تعاش وتُخبَر؛ بعكس الأجزاء الثلاثة للخطاب Discourse الفلسفي. يتضح ذلك من خلال فقرة في «المحادثات» ينتقد فيها أشباه الفلاسفة، القانعين بمجرد قراءة الخطاب النظري عن الفلسفة. بوسعنا هنا أن نرى بوضوح أن المنطقتَين الثانية والثالثة تقابلان، على الترتيب، الأخلاق والجدليات.

«تمامًا كما لو أننا في مجال التصديق، وقد ووجهنا بانطباعات بعضها بيِّن الصواب وبعضها بيِّن الخطأ، علينا، بدلًا من أن نميز بينها، أن نطلب قراءة ما كُتب عن الإدراك! كيف يتأتَّى ذلك؟ السبب هو أننا لم نقم قط بقراءتنا أو كتابتنا بطريقة تكفل لنا عندما يحين أوان الفعل أن نستخدم الانطباعات التي نتلقَّاها استخدامًا متناغمًا مع الطبيعة؛ ونقنع بدلًا من ذلك بأننا قد قرأنا ما يقال لنا ويمكننا شرحه للآخرين، وبأننا نستطيع تحليل الأقيسة وفحص الحجج الافتراضية.» (إبكتيتوس، المحادثات)

في هذه الفقرة يبرز إبكتيتوس التعارض بين المنطق النظري، كما يوضع في رسائل تحت عناوين من قبيل «في الفهم»، وبين ما يمكن أن يسمى «المنطق المعيش» Lived Logic، أو المنطق كما يطبق في الحياة، والذي يتمثل في مجال التصديق Assent، ونقد (تمحيص) تلك التمثيلات التي تقدم نفسها إلينا بالفعل. وفي بقية هذه الفقرة نجد نفس التعارض بين الخطاب النظري والتدريبات «المعيشة» العملية، فيما يتصل هذه المرة بالمنطقة الثانية. يبين إبكتيتوس أن الشيء الوحيد الذي يبرر قراءة الرسائل النظرية من قبيل «في النزوع» أو «في الواجبات» هو أن تمكننا في المواقف العيانية من أن نسلك وفقًا للطبيعة العقلانية لبني الإنسان.

في القسمة الثلاثية للفلسفة فإن منطقتَي المنطق والأخلاق متبوعتان بمنطقة الفيزيقا. فهل بالإمكان، إذن، تهيئة الفيزيقا بحيث تقابل مجال الرغبة؟ ربما تبدو الفقرة التي اقتبسناها للتوِّ كما لو كانت تمنع هذا التوحُّد. عندما يتحدث إبكتيتوس، في سياق الرغبة، عن رسائل بعنوان «في الرغبة والنفور» فإن لدينا كل العذر بأن نظنها رسائل تتعلق بالأخلاق. ولكن برغم أن النظرية المجردة ﻟ «الرغبة» بما هي كذلك، ما دامت فعلًا للنفس، تتعلق بمجالَي الأخلاق والسيكولوجيا، فإن الموقف المعيش الذي يقابل مجال الرغبة يبدو أنه، حقًّا، ضرب من الفيزيقا التطبيقية، التي يعيشها المرء ويخبرها بطريقة التدريب الروحي. يؤكد إبكتيتوس في مناسباتٍ عديدة أن مجال الرغبة عبارة عن «تعلم أن نرغب في أن يحدث كل شيء بالطريقة التي يحدث بها بالضبط»، و«أن نحفظ إرادتنا في تناغم مع الطبيعة»، و«إذا استطاع إنسان صالح أن يتنبأ بالمستقبل فسيكون قمينًا أن يتعاون مع المرض والموت والتشوُّه؛ ذلك أنه سيكون على دراية بأن هذا قد كان مقدَّرًا بواسطة النظام الكلي للأشياء وأن الكل أهم من أجزائه.» ها نحن بإزاء حالةٍ حقيقية للفيزياء إذ تعاش وتُخبَر كتدريبٍ روحي. فلكي يحكم الناس رغباتهم ويقوِّموها يلزمهم وعيٌ حاد بحقيقة أنهم جزء من الكوزموس؛ وأن عليهم أن يضعوا كل حدث داخل منظور الطبيعة الكلية.

تلك، عند إبكتيتوس، هي ممارسة الفلسفة، وذلك هو تدريبها. ونحن نجد هذا المخطط الأساسي يتكرر طوال «المحادثات». وأريان، تلميذ إبكتيتوس الذي كان مسئولًا عن إعداد كلٍّ من «المحادثات» و«المختصر» للطبع، لم يخطئ في هذا الصدد عندما اختار أن يجمع الأقوال التي تُشكِّل «المختصر» وفقًا للمجالات، أو المناطق، الثلاث التي بينَّاها للتوِّ.

(٣) ماركوس أوريليوس وإبكتيتوس

من الإنصاف أن نقول إن لبَّ لباب تأملات ماركوس أوريليوس تأتي من إبكتيتوس. بل إن الجنس الأدبي للتأمل عن طريق الكتابة قد يكون فكرة أخذها ماركوس من إبكتيتوس: «هذه هي صنوف الأشياء التي ينبغي على محبي الحكمة أن يتأملوا فيها؛ إن عليهم أن يسجلوها كتابةً كل يوم، ويستخدموها في تدريب أنفسهم» (إبكتيتوس، المحادثات ١) … «فلتكن هذه الأفكار طوع يدك ليل نهار. اكتبها وأعد قراءتها؛ تحدَّث عنها، لنفسك ومع الآخرين» (إبكتيتوس، المحادثات ٣). نعم، من المهم أن تكون لدينا أقوالٌ سهلة الحفظ جاهزة في جعبتنا.

كانت فكرة الديالوج مع النفس موجودة منذ القدم. ولنذكر تصوير هومر لأوديسيوس وهو يعظ نفسه «تماسكْ يا قلبي.» كذلك كانت عادة كتابة المرء، من أجل استخدامه الشخصي، أفكاره أو الأقوال التي سمعها — كانت عادةً قديمة جدًّا بلا شك. غير أن لدينا كل ما يدعونا إلى الاعتقاد بأنه من إبكتيتوس استمدَّ ماركوس فكرة هذا الشكل من النصح الذاتي والمحاورة مع النفس التي تستند إلى نفس القواعد الحياتية والمبادئ السلوكية التي كان إبكتيتوس ينصح قرَّاءه بالتأمل فيها.

إن موضوع تأملات ماركوس وتدريباته ما هي إلا المواضيع الثلاثة لإبكتيتوس: الرغبة، والنزوع، والحكم. هذا البناء التصوُّري خاص بإبكتيتوس ولا يوجد في أي تراثٍ فلسفيٍّ آخر. وبين سلسلة اقتباسات من إبكتيتوس في التأملات يقدم ماركوس بوضوح هذه المواضيع الثلاثة التي نحن بصددها:

«يقول إبكتيتوس أيضًا: علينا أن نكتشف منطقًا للقبول، وفي مجال رغباتنا أن نحرص على أن تكون كل حركة مشروطة، ذات هدفٍ اجتماعي، ومتناسبة مع قيمة هدفها. أما عن الرغبة الحسية فيجب أن نظل بمنأًى كامل عنها؛ وأما النفور فعلينا ألا نبديه بإزاء أي شيء خارج عن قدرتنا.» (ماركوس أوريليوس، التأملات، ١١–٣٧)

كما أن ماركوس نفسه يصوغ مرارًا القاعدة الثلاثية للحياة. وبِمَيسورنا أن نميز ذلك في الفقرات التالية:

«ماذا يكفيك؟

  • حكمك القيمي الراهن ما دام موضوعيًّا.

  • فعلك الذي تقوم به الآن ما دام يفعل لخير المجتمع الإنساني.

  • نزوعك الداخلي الراهن ما دام يبهج لكل حدث تفضي إليه علل خارجك.»

(ماركوس أوريليوس، التأملات، ٩–٣٦)

«كل كائنٍ حيٍّ قانعٌ بنفسه إذا هو اتبع الطريق الصحيح لطبيعته. والطريق الصحيح للطبيعة العاقلة هو ألا تساير أي شيءٍ زائف أو مُبهَم فيما ينطبع على عقلها؛ وأن توجِّه نزعاتها إلى الفعل الاجتماعي وحده. وألا ترغب أو تتجنَّب إلا في حدود قدرتها، وأن ترضى بكل ما قسمَته لها طبيعة العالم.» (التأملات، ٨-٧)

«امحُ الخيال، اكبح الرغبة، أخمد الشهوة، حتى يظل عقلك الموجِّه سيد نفسه.» (التأملات، ٩–٧)

«وإلى أين إذن ينبغي على المرء أن يسعى؟ إلى هنا فقط: فكرٌ صائب، وفعل للخير العام، وقول لا يعرف الكذب، وتقبُّل لكل ما يجري كشيءٍ ضروري وعادي ونابع من مبدأ ومصدر من نفس الصنف.» (التأملات، ٤–٣٣)

لعل القارئ قد لاحظ أنه رغم أخذ ماركوس عن إبكتيتوس بناءه الثلاثي بوضوحٍ تام — إلا أن هناك فرقًا في النبرة والتوكيد نحسُّه في عرض ماركوس لهذا البناء الثلاثي. عندما يتحدث ماركوس مثلًا عن مجال الرغبة فهو لا يصرُّ — كما فعل إبكتيتوس — على ضرورة ألا نرغب إلا في الأشياء التي تعتمد علينا (أي على الخير الأخلاقي) حتى لا تُحبَط رغباتنا؛ إنما يتصور ماركوس هذا التدريب، على نحوٍ أصرح من إبكتيتوس، على أنه وضع رغباتنا في توافق مع إرادة القدر وإرادة عقل العالم؛ وهدفه من ذلك أن يغرس فينا موقف عدم الاكتراث بالأشياء اللافارقة، أي كل ما لا يعتمد علينا. إن مجال الرغبة عند ماركوس يأخذ، بنبرةٍ أوضح كثيرًا من إبكتيتوس، صورة «فيزيقا تطبيقية»، أو الفيزيقا وقد تحولت إلى تدريبٍ روحي.

إن مجال الرغبة يبلغ الأوْج في رضا محبٍّ مبتهج بالأحداث التي تريدها الطبيعة. ولكن لكي نصل إلى هذه الحالة يجب أن نغير طريقتنا في النظر إلى الأشياء، فننظر لها من وجهة نظر الطبيعة الكلية؛ وهذا يتضمن أن نتعلم، أن نميز سلسلة العلل التي تنتج كل حدث … أن نتأمل كل حدث كمنسوج للقدر يتدفَّق بضرورةٍ طبيعية من العلل الأولى. هكذا يحملنا مجال الرغبة على أن نعيد وضع الحياة البشرية بكلِّيتها داخل منظورٍ كوني، وأن نصبح واعين بحقيقة أننا «جزء» من العالم. «من لا يعرف ما هو العالم لا يعرف أين هو. ومن لا يعرف لأي غاية وُجد العالم لا يعرف من هو ولا ما هو العالم. ومن يجهل أي شيء من هذه لا يمكنه حتى أن يقول لماذا وجد هو ذاته» (التأملات، ٨–٥٢).

لكي نمارس هذا الصنف من «الفيزيقا» يحاول ماركوس أن يتبع منهجًا صارمًا في التعريف، عبارة عن إعادة وضع كل الأشياء داخل كلية العالم، وإعادة وضع كل الأحداث داخل سلسلة العلل والمعلولات. أن نعرفها في ذاتها ولذَّاتها، بمعزل عن التمثيلات الأنثروبومورفية التقليدية التي اعتاد الجنس البشري أن يصطنعها لها.

ها هنا قد يسعنا أن نلمح كيف أن المجالات الثلاثة، شأن الأجزاء الثلاثة للفلسفة، يتضمن أحدها الآخر داخل فعلٍ واحد للتفلسف. إن منهج التعريف «الفيزيقي» الذي شرحه ماركوس يطابق مجال التصديق الذي يوصي بأن علينا ألا نمنح تصديقنا إلا لتلك التمثيلات الموضوعية الخالية من كل أحكامٍ قيميةٍ ذاتية.

ما إن يتيح لنا طول التمرُّس معرفة طرائق الطبيعة وقوانينها، حتى تفضي بنا «الفيزيقا» حين تُمارَس كتدريبٍ روحي إلى «ألفة» Familiarity مع الطبيعة. وبفضل هذا الإلف يمكننا أن ندرك الروابط فيما بين الظواهر التي تبدو غريبة أو كريهة لنا، وبين هذه الظواهر والعقل الكلي — ذلك المصدر الذي منه تتدفق. من مثل هذا المنظور سوف يبدو كل حدث لنا جميلًا وجديرًا بتصديقنا المحب. أن تكون غير مكترث بالأشياء اللافارقة، تعني ألا تجعل بينها فروقًا؛ وبعبارةٍ أخرى أن تحبها على السواء، تمامًا مثلما تفعل الطبيعة. «الأرض تحب المطر، والسماء الجليلة تحب أن تمطر.»١٥ العالم كله يحب أن يخلق المستقبل. أقول للعالم إذن: «إنني أبادلك الحب.» أليس هذا ما قيل أيضًا من أن «هذا يحب أن يحدث»؟١٦ (التأملات، ١٠–٢١). عندما كان يريد المرء في اليونان القديمة أن يقول بأن شيئًا ما «يحدث عادة»، أو «دأب على الحدوث»، كان ثمة استعمالٌ شائع يتيح له أن يقول إن الحدث «يحب» أن يحدث (Philei Ginesthai). هنا يريدنا ماركوس أن نفهم أن الأحداث تحب، حرفيًّا، أن تحدث، وأن علينا أن «نحب» أن نراها تحدث لأن الطبيعة الكلية «تحب» أن تنتجها.
في نهاية التحليل فإن مثل هذا الموقف المصدِّق للعالم تصديقًا منشرحًا يطابق موقف طاعة الإرادة الإلهية. هذا ما يحمل ماركوس أحيانًا على أن يصف مجال الرغبة كدعوة إلى «أن تتبع الآلهة» أو «الله»، كما في العرض التالي للمجالات الثلاثة: «احفظ العقل الموجِّه الذي بداخلك في حالة صفاء، بحيث يتبع الرب على نحوٍ قويم، لا يقول غير الصدق، ولا يفعل غير العدل» (التأملات، ٣–١٦). وفي صياغة الثيمة الثانية يولي إبكتيتوس اهتمامًا أكبر بحقيقة أن ميولنا وأفعالنا يجب أن تكون مرتبطة بواجباتنا (Kathekonta) تجاه رفاقنا من البشر. أما ماركوس فيُكثر من الحديث عن الأفعال «العادلة» التي تُجتَرح في خدمة المجتمع البشري. وكما كان الحال مع الثيمة الأولى، تأخذ الثيمة الثانية نغمةً عاطفيةً قوية عند ماركوس؛ يقول ماركوس: يجب أن نحب الآخرين بكل قلوبنا، فالكائنات العاقلة ليست فحسب أجزاءً من الكل نفسه، بل أعضاء للجسم نفسه. بل ينبغي أن يمتد حبنا ليشمل حتى أولئك الذين يُلحقون بنا الظلم، آخذين باعتبارنا أنهم ينتمون مثلنا إلى الجنس البشري نفسه، وأنهم إذ يأثمون فإنما يفعلون ذلك عن جهل لا عن عمد (التأملات، ٧–٢٢).

لا يكاد ماركوس يختلف عن إبكتيتوس في عرضه للثيمة الثالثة؛ مجال التصديق. غير أن النظام الذي يفرضه ماركوس على نفسه ليس مقصورًا على المنطق الداخلي — أي التصديق الذي نمنحه لانطباعاتنا — بل يشمل أيضًا المنطق الخارجي؛ أي طريقتنا في التعبير عن أنفسنا. إن الفضيلة الأساسية هنا هي فضيلة الصدق، بمعنى استقامة التفكير والكلام. فالكذب، حتى إذا كان غير متعمَّد، هو نتاج تشوُّه ملكة الحكم عندنا.

وحين يصوغ ماركوس القاعدة الثلاثية للحياة فإنه يحب أيضًا أن يؤكد على حقيقة أننا ينبغي أن نُركِّز على اللحظة الحاضرة: الانطباع الحاضر، والفعل الحاضر، والنزوع الداخلي الحاضر (سواء بالرغبة أو بالنفور). ونحن لا نجد شيئًا من هذا القبيل عند إبكتيتوس، إلا أن موقف ماركوس هنا في اتفاقٍ تام مع الموقف الرواقي الأساسي الخاص ﺑ «الانتباه» Prosoche إذ يتجه نحو اللحظة الحاضرة. ينبغي ألَّا يُفلت شيء من قبضة الوعي اليقظ، لا علاقتنا بالمصير وبطريق العالم (وهذا مجال الرغبة)، ولا علاقتنا برفاقنا البشر (مجال الإرادة النشطة)، ولا علاقتنا بأنفسنا (مجال التصديق).

وفي موضعٍ آخر يربط ماركوس التدريبات الفلسفية الثلاثة بفضائلها المقابلة، فيكون لدينا المخطط التالي:

المجال الفضيلة المقابلة
مجال الرغبة الاعتدال (Sophrosyne)، وخُلُو البال (Ataraxia)
مجال النزوع العدل (Dikaiosyne)
مجال التصديق الحقيقة (Aletheia)، التأني (Aproptosia)

ويَعُدُّ ماركوس الفضائل الثلاث المقابلة للمجالات الثلاثة في الحدود التالية: «التفكير المتأني، الأُلفة بالآخرين، الطاعة للآلهة» (التأملات، ٣–٩).

هذه المفردات غائبة تمامًا عن «محادثات» إبكتيتوس. فكيف لنا أن نفسر هذه الفروق في الطريقة التي يعرض بها كلٌّ من ماركوس وإبكتيتوس التدريبات الأساسية الثلاثة للفلسفة؟

في المقام الأول يبدو مؤكَّدًا أن ماركوس كان يمتلك معلومات عن تعاليم إبكتيتوس أكثر مما نمتلكه نحن اليوم. يخبرنا ماركوس في الكتاب الأول من تأملاته أنه تعرف على كتابات إبكتيتوس بفضل كونتوس يونيوس رستيكوس، رجل الدولة الذي علَّم ماركوس أسس المذهب الرواقي قبل أن يمضي ليصبح واحدًا من مستشاريه. يذكر ماركوس أن رستيكوس أعاره نسخته الشخصية من «محادثات» إبكتيتوس، أي من كتاب مدونات أخذت في فصوله. يمكن تأويل هذه العبارة بطريقتَين:
  • (١)
    قد يكون الكتاب المعنيَّ نسخة من العمل بتدوين أريان. ففي الخطاب الاستهلالي الذي وضعه أريان في بداية إصداره ﻟ «محادثات» إبكتيتوس، يصف بنفسه عمله على أنه تجميع ﻟ «يوميات» Hypomnemata:

    «إنما وجه الأمر أنني حاولتُ أن أدوِّن كل ما سمعته يقول حرفيَّا جهد ما أستطيع، بغية أن أحتفظ بها لنفسي فيما بعدُ كمذكرات (يوميات) لأفكار إبكتيتوس وشجون حديثه. ومن ثم فإن «المحادثات» بطبيعتها أشبه بما عسى أن يُفضي به إنسانٌ لآخر عفو الخاطر، لا بما يكتبه بقصد أن يقرأه الآخرون.»

    أريان، إذن، جعل يختلف إلى فصول إبكتيتوس في زمن ما بين عام ١٠٧م و ١٠٩م. ورسالته التمهيدية إلى لوشيوس جيليوس ربما كتبت بعد وفاة إبكتيتوس، في زمن ما بين عام ١٢٥ و١٣٠؛ والمحادثات نفسها نشرت حوالي عام ١٣٠. ويروي أولوس جيليوس أنه في العام الذي قضاه في الدراسة في أثينا — حول عام ١٤٠م — كان حاضرًا مناقشة في المقرر الذي أحضر له المليونير الشهير هيرود أتيكوس من مكتبة ما نسخة مما أشار إليه جيليوس ﮐ «رسائل» Dissertations إبكتيتوس، مجمَّعة بواسطة أريان. وهو يخبرنا أيضًا كيف أنه في الطريق من Cassiopeia إلى Brindisium قابل بالصدفة فيلسوفًا كان لديه نسخة من نفس الكتاب في أمتعته. وهذا يثبت أنه من المحتمل على أقل تقدير أن ماركوس قرأ نسخةً من هذا الكتاب، والتي أعاره إياها رستيكوس.
  • (٢)

    ولنا أيضًا أن ننظر في مقترحٍ آخر كان فاركهارسون قد أدلى به. يفترض فاركهارسون أن ما أعاره رستيكوس لماركوس ربما كان مدونات رستيكوس نفسه التي كتبها أثناء محاضرات إبكتيتوس. ومن زاوية التسلسل الزمني فإذا سلَّمنا بأن إبكتيتوس مات بين عام ١٢٠ و١٣٠م، وإذا كان رستيكوس من مواليد بداية القرن الثاني، مثلما يحق لنا أن نستنبط من مسيرته الوظيفية، فمن الممكن جدًّا، إذن، أن رستيكوس كان تلميذ إبكتيتوس. كما أنه من الصعب تصوُّر أنه لم تكن ثمة نسخة من محادثات إبكتيتوس متاحة في روما حول عام ١٤٥-١٤٦م، رغم أن العمل كان واسع الانتشار في اليونان منذ عام ١٤٠م. أضف إلى ذلك أن ماركوس يصور هدية رستيكوس كشيءٍ استثنائي؛ ومن ثم فإن لنا أن نندهش إذا لم تكن الهدية هي مدونات رستيكوس نفسه. كما أننا على يقين تقريبًا من أن ماركوس قد قرأ عمل أريان، إذ إن «التأملات» مليئة باستشهاداتٍ حرفية مأخوذة منه.

وسواء كان ماركوس لم يقرأ إلا «المحادثات» كما رتبها أريان، أو أنه قد قرأ أيضًا مدونات رستيكوس، فإن لدينا شيئًا واحدًا لا يرقى إليه الشك؛ وهو أن ماركوس كان مطَّلعًا على نصوص تتصل بتعليم إبكتيتوس أكثر مما لدينا اليوم. إن بحوزتنا جزءًا فقط من عمل أريان؛ وإذا كان ثمة شيء من قبيل مدونات رستيكوس فإنها كانت قمينة جدًّا أن تكشف لماركوس بعض جوانب تعاليم إبكتيتوس التي لم تكن مدونة من جانب أريان.

إنه بفضل ماركوس نحن نعرف بعض النُّتف من إبكتيتوس المجهولة فيما عدا ذلك، مثل شذرة: «أنت روحٌ ضئيلة تضطرب هنا وهناك حاملةً جثةً» (التأملات، ٤–٤١). هذه الشذرة تكشف لنا أيضًا أن الملامح «التشاؤمية» ليست خاصةً مقصورة على ماركوس أوريليوس مثلما شاع مرارًا. هكذا يمكننا أن نفترض أن الاختلافات في عرض التدريبات الثلاثة التي نجدها عند ماركوس وفي الأعمال الباقية من إبكتيتوس قد يفسرها تأثير فقرات من إبكتيتوس كانت معروفة لماركوس لكنها فُقدت بعد ذلك.

وأخيرًا، ينبغي ألا ننسى أن هناك فرقًا عميقًا بين الجنس الكتابي ﻟ «محادثات» إبكتيتوس والجنس الكتابي ﻟ «تأملات» ماركوس أوريليوس: فعمل أريان، حتى إذا كان قد أُعيد تنسيقه بأكثر مما يودُّ كاتبه أن يُقرَّ في مقدمته، هو، حرفيًّا تمامًا، سلسلة من «الأحاديث» أُلقيتْ أمام نظَّارة. وموضوعها ألهمته ظروفٌ محدَّدة: أسئلة وُجِّهت إلى الأستاذ، أو زيارات أشخاص من خارج المدرسة. والمحاجَّة فيها كانت مكيفة وفقًا لقدرات المستمعين، وهدفها كان إقناعهم.

أما ماركوس فكان، على النقيض، وحيدًا مع نفسه. وأنا من جانبي لا يمكنني أن أُعاين في «التأملات» تلك الترددات والتناقضات والمشاحنات لرجلٍ مُنتبَذ لوحدته؛ التي ظن بعض الباحثين أنه كشفها فيها. بل إن المرء، على العكس، ليذهل من صرامة الفكر والطبيعة التكنيكية للمفردات الفلسفية التي يقابلها من بداية «التأملات» إلى نهايتها. كل شيء يُفضي إلى استنتاج أنه: إما أن ماركوس كان متمثِّلًا تمامًا تعاليم رستيكوس وإبكتيتوس، وإما أنه كان دائمًا يضع نصوص إبكتيتوس نفسه طوع يده من أجل ممارسة تدريباته التأملية. كما أن المرء ليذهل، فضلُا عن ذلك، من المستوى الأدبي الرفيع للتأملات في معظمها. لقد علَّمه أستاذه السابق في البلاغة، فرونتو، كيف ينحت عباراته بتأنُّق، وكان هو دائمًا يعمد إلى أن يسبغ على أفكاره الوضوح، والصرامة، والصياغات المثيرة اللازمة لكي تمنحها الفعالية العلاجية والسيكاجوجية١٧ المرجوَّة. ذلك أنه ليس يكفي، بعد كل شيء، أن تردد على نفسك مبدأ عقلانيًّا ما لكي تقتنع به؛ فكل شيء يتوقف على كيف تصوغه. تبدو «التأملات» تنويعات، مؤدَّاة أحيانًا بمهارةٍ استثنائية، على عددٍ قليل من الثيمات؛ هي حقا الثيمات الثلاث التي تبنَّاها إبكتيتوس. في بعض الفقرات، مثل تلك التي رأيناها واردة آنفًا، نجد المخطط الثلاثي، المتضمن للتدريبات الفلسفية الثلاثة التي علينا أن نمارسها في كل لحظة، معروضًا بكليته، مع بعض الفروقات الطفيفة. وفي مواضعَ أخرى نجد ثيمتَين فقط معروضتَين، أو حتى ثيمةً واحدة. أما عن الفروقات: فأحيانًا تقدم ثيمة أو أخرى من الثيمات الثلاث، وأحيانًا أخرى تقدم موتيفاتٍ مرتبطة بهذه الثيمات الرئيسية. فتحت عنوان مجال الرغبة، مثلًا، نجد ثيمة القدر ينسج لنا مقدمًا كل ما سوف يحدث لنا؛ أو نجد عرضًا للتعريف «الفيزيائي» للأشياء، أو الخاصة الطبيعية للظواهر الزائدة التي تصاحب الظواهر الطبيعية، أو ثيمة الموت. وتحت عنوان المجال الثاني، مجال النزوع، نجد الثيمات المتعلقة بحب الآخرين، أو بالفعل العقلاني.

هكذا كان ماركوس، في مسار تأملاته المتوحدة، مقودًا إلى أن ينسق ويصرح بكل شيء كان مضمرًا في مذهب المجالات الثلاثة كما اقترحه إبكتيتوس. ولا يفعل ماركوس، في كثير من الأحيان، أكثر من أن يتوسع في نقاطٍ موجزة كانت مدوَّنة بالفعل في «المحادثات» التي دوَّنها أريان: هكذا كان الحال مع ثيمة الرضا الفرح بالأحداث كما أرادها العقل الكلي، أو مع ثيمة طاعة الآلهة (التأملات، ١، ١٢، ٨).

وصفوة القول أنه في كل مرة كان ماركوس يدوِّن فيها إحدى تأملاته كان يعلم ماذا يفعل؛ كان يعظ نفسه بأن تمارس واحدًا من المجالات الثلاثة: الرغبة، الفعل، التصديق. وكان في نفس الوقت يعظ نفسه بأن تمارس الفلسفة نفسها، في أقسامها الثلاثة: الفيزيقا، والأخلاق، والمنطق (التأملات، ٨–١٣).

لعلنا الآن في وضع يتيح لنا أن نفهم ما الذي جعل ﻟ «التأملات» تلك القوة الآسرة التي مارستها على أجيال القراء. إنها بالضبط حقيقة أن لدينا شعورًا بأننا نشهد ممارسة التدريبات الروحية، نراها رأي العين، نقبض عليها حية إن جاز التعبير. وعلى كثرة الوعاظ والمنظِّرين والموجِّهين الروحيين ومراقبي تاريخ الأدب العالمي، إلا أن من النادر جدًّا أن تُتاح للمرء فرصة أن يرى شخصًا ما في عملية تدريب نفسه أن يكون إنسانًا. «في الصباح، عندما تجد نفسك غير راغب في القيام، قل لنفسك: إنني أصحو من نومي لكي أؤدي عملي كإنسان» (التأملات، ٥–١).

قلَّما نحسُّ في «التأملات» بأن ماركوس يتردَّد أو يتعثَّر أو يتحسس طريقه وهو يمارس التدريبات التي تتبع بكل دقة التوجيهات التي رسمها إبكتيتوس مقدَّمًا. ورغم ذلك فإننا نشعر بانفعالٍ خاصٍّ تمامًا، إذ نضبط شخصًا في عملية صنعٍ ما نحاول جميعًا أن نصنعه؛ أن نضفي معنًى على حياتنا، أن نجهد لأن نعيش في حالة وعيٍ تام، ونعطي كل لحظات الحياة قيمتها الكاملة. لقد كان ماركوس يتحدث إلى نفسه، غير أننا لا نزال نتلقَّى الانطباع بأنه كان يتحدث أيضًا إلى كل واحدٍ منا.

١  Anachronistically أي على نحوٍ «مفارق تاريخيًّا»، أي بشكل لا يراعي ظروف كل حقبةٍ زمنية وملابساتها؛ كأن يُشعل يوليوس قيصر غليونه! أو ينظر رمسيس الثاني في ساعته! … إلخ.
٢  The Case of Marcus Aurelius.
٣  تُعدُّ هذه واحدة من الفضائح المزرية للسيكولوجيا التاريخية. وماذا لو علمنا أن قرحة المعدة قد تبيَّن حديثًا أنها تتسبب، في عامة الأحوال، عن بكتريا! هي «هيليكوباكتر» Helicobacter؟
٤  ربما يكون التشبيه مستمدًّا من هيراقليطس القائل: «كل شيء في حالة تدفق.»، «إنك لا تنزل النهر الواحد مرتَين.»
٥  في النظرة الشاملة للوجود انظر ٩–٣٢: «عندئذٍ ستوفر لنفسك مكانًا رحبًا بأن تفهم الكون كله وتستوعبه في عقلك، وبأن تتفكر في أبدية الزمان …»
٦  جبل في شمال اليونان، يبلغ ارتفاع قمته حوالي ألفَي متر.
٧  أي رؤية الأشياء «من منظور الأزل».
٨  سكيبيو، أو سيبيو، أو شبيو.
٩  نبيذٌ فاخر كان يُنتَج في شمال كمبانيا.
١٠  ملك ليديا في القرن السادس ق.م.؛ قيل إنه كان أغنى رجل في العالم. هزمه قورش ملك الفرس عام ٥٤٦ق.م.
١١  التحليل الرَّدِّي أو الاختزالي Reductive Analysis، أي رد الشيء إلى أجزائه المكوِّنة وتجريده من مظاهره الخارجية العرضية، أداة يستخدمها ماركوس في السياقات الأخلاقية والمادية جميعًا؛ ويعني به شيئًا مختلفًا عن «الاختزالية» أو «الردِّية» Reductionism بمعناها السلبي الحديث.
١٢  النواتج العرضية لعمليات الطبيعة لها أيضًا جاذبيتها وسحرها.
١٣  اذكر أن العالم عند الرواقيين ليس إلا كائنًا واحدًا حيًّا متنفسًا، وكل الأشياء، على تمايزها، يتخلل بعضها بعضًا ويستجيب بعضها لبعض؛ كلها متواشجةٌ متناسجة وكلها واحد. وما يحصل في جزء من الكون يؤثر في جميع أجزائه، وما يحدث في الكل يؤثر في كل جزء. فالكون بأسره عبارة عن بدنٍ واحدٍ حي، قد سرى في جميع أجزائه نَفَس يمسك عليه وحدته. ذلك هو مذهب «وحدة الوجود» أو «البانتيزم» الذي صُبغت به الطبيعيات الرواقية.
١٤  Discourse About Philosophy.
١٥  الاقتباس من يوريبيدس.
١٦  هنا يستخدم ماركوس تلاعبًا لفظيًّا ليُبين حقيقةً عميقة عنده؛ فالكلمة اليونانية Philei (يحب) يمكن أن تعني أيضًا «يميل إلى»، «دأب على»؛ فماركوس يأخذ النمط المألوف المطرد للأشياء كدليلٍ على، وتعبيرٍ عن، حب الطبيعة لأن تخلق عالمًا منظمًا.
١٧  أي الموجِّهة المحرِّكة المحفِّزة للنفس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤