الفصل السابع
تأملات في فكرة «تربية النفس»
في مقدمته لكتاب
The Use of
Pleasure، وكذلك في فصل من كتاب «رعاية النفس»
١ The Care of the Self،
٢ أشار ميشيل فوكو إلى مقالي «التدريبات الروحية» الذي
يعود إصدار صيغته الأولى إلى عام ١٩٧٦م. يبدو أن فوكو كان مغرمًا
بصفةٍ خاصة بالنقاط التالية التي فصلتها في هذا المقال:
-
وصف الفلسفة القديمة على أنها فن، أو أسلوب، أو
طريقة عيش.
-
محاولتي تفسير كيف أن الفلسفة الحديثة قد نسيت هذا
التقليد وأصبحت خطابًا نظريًّا صرفًا تقريبًا.
-
الفكرة التي أوجزتها في المقال وتوسعتُ فيها أكثر
فيما سبق من حديثي، بأن المسيحية قد اتخذت لنفسها
تقنياتٍ معينة للتدريبات الروحية مثلما كانت تمارس
بالفعل في العصر القديم.
أودُّ هنا بالضرورة أن أقدِّم بضع ملاحظات بغرض تبيين الاختلافات
في التأويل، وفي الاختيار الفلسفي في نهاية التحليل، التي تفصلنا،
على ما بيننا من نقاط اتفاق. لقد كان من الممكن لهذه الاختلافات أن
تقدم مادة لحوار بيننا، لولا وفاة فوكو المبكرة التي سارعت، لسوء
الحظ، بقطع خيوط الحوار.
في كتابه «رعاية النفس» يصف فوكو بدقةٍ ما أسماه «ممارسات النفس» Pratiques de Soi، التي
كان ينصح بها الفلاسفة الرواقيون في العصر القديم. تتضمن هذه
الممارسات رعاية المرء لذاته؛ تلك الرعاية التي لا يمكن أن تتم إلا
تحت توجيهٍ روحي، والانتباه إلى الجسد والروح الذي يتضمنه كتاب
«رعاية النفس»، وتدريبات التقشف، وتمحيص الضمير، وفلترة
الانطباعات، والتحول، أخيرًا، تجاه امتلاك النفس. يتصور فوكو هذه
الممارسات على أنها «فنون الوجود» و«تكنيكات النفس».
من الحق تمامًا، في هذا الصدد، أن القدماء تحدثوا بالفعل عن
«فن للعيش» An Art of Living.
غير أنه يبدو لي أن وصف فوكو لما أسميته «تدريبات روحية»، ويفضل هو
أن يسميه «تكنيكات النفس» — هذا الوصف مركَّز تركيزًا كبيرًا على
«النفس»، أو على الأقل على تصوُّر محدد للنفس.
وبصفةٍ خاصة، يعرض فوكو الأخلاق اليونانية-الرومانية على أنها
أخلاق اللذة التي يجدها المرء في نفسه: «بوسع النفاذ إلى النفس أن
يستعيض عن هذا النوع من اللذات العنيفة والمؤقتة وغير المضمونة
بشكل من اللذة يجدها المرء في نفسه في صفاء وعلى الدوام.» ولكي
يوضح هذه النقطة يورد فوكو رسالة سنكا الثالثة والعشرين، حيث يتحدث
عن الفرح الذي يجده المرء داخل نفسه، وبخاصة في أفضل جزء من نفسه.
ولكن عليَّ، في الحقيقة، أن أقول إن ثمة قدرًا كبيرًا من عدم الدقة
في هذه الطريقة في عرض المسألة. في الرسالة ٢٣ يعارض سنكا على نحو
صريح اﻟ Voluptas واﻟ
Gaudium (اللذة والفرح)، ومن
ثم لا يحق للمرء أن يتحدث عن الفرح. ليس هذا مجرد مماحكة في ألفاظ،
رغم أن الرواقيين كانوا يولون بالفعل أهميةً كبيرة للألفاظ، وفرقوا
بدقة بين Hedone (اللذة)
وEupatheia (الفرح). لا، ليست
هذه مسألة مفردات فحسب. فإذا كان الرواقيون يصرُّون على لفظة «فرح»
Gaudium فلأنهم، بالضبط،
يرفضون أن يُدخِلوا مبدأ اللذة في الحياة الأخلاقية. فالسعادة
عندهم ليست في اللذة، بل في الفضيلة نفسها، التي هي ثواب ذاتها.
ومن قبل كانْت Kant بزمنٍ طويل
جاهد الرواقيون جهادًا غيورًا للحفاظ على خلوص النية في الوعي
الأخلاقي.
ثانيًا، وللأهمية الكبرى، ليس من الحق أن الرواقي يجد فرحه في
«النفس»، بل، كما يقول سنكا، «في الجزء الأفضل من النفس»، في
«الخير الحقيقي» (سنكا، رسالة ٢٣، ٦). إنما يُلتَمَس الفرح «في
الضمير الملتفت تجاه الخير»، في المقاصد (النيات) التي لا هدف لها
غير الفضيلة، في الأفعال وحدها (سنكا، رسالة ٢٣، ٦). يمكن التماس
الفرح فيما يسميه سنكا «العقل التام» Perfect
Reason (أي العقل الإلهي)، إذ إن العقل
الإنساني عنده إنْ هو إلا العقل القادر على تقبل الإتمام. «الجزء
الأفضل من المرء»، إذن، هو، في نهاية التحليل، النفس المفارقة
(العالية). لا يلتمس سنكا فرحه في «سنكا» بل في تجاوز «سنكا»
(العلو على سنكا)، باكتشاف أن ثمة بداخله، بداخل كل الكائنات
الإنسانية، أي داخل الكون نفسه؛ ثمة عقل هو جزء من العقل
الكلي.
الحق أن هدف التدريبات الرواقية هو تجاوز النفس، والفكر والفعل
بانسجام مع العقل الكلي. وإن التدريبات الثلاثة التي وصفها ماركوس
أوريليوس، متبعًا إبكتيتوس، لبالغة الدلالة في هذا الصدد. وهي،
مثلما رأينا آنفًا، كما يلي:
بوسعي أن أفهم جيدًا دوافع فوكو إلى إغفال هذه الجوانب التي كان
على درايةٍ تامة بها. إن وصفه لممارسات النفس — شأنه أيضًا شأن
وصفي للتدريبات الروحية — ليس مجرد دراسةٍ تاريخية، بل هو محاولةٌ
ضمنية لأن يقدم للجنس البشري المعاصر نموذج حياة، يسميه فوكو
«جماليات
الوجود»
Aesthetics of Existence. والآن، وفقًا لميل التفكير الحديث كله
تقريبًا، الذي قد يكون غَرزيًّا أكثر مما هو تأملي، فإن فكرتَي
«عقل كلي» و«طبيعة كلية» لم يعد لهما معنًى كبير؛ ومن الملائم
بالتالي «تقويسهما».
٤
ولأقل الآن، إذن، من وجهة نظر تاريخية، إنه يبدو صعبًا أن نقول
إن الممارسة الفلسفية للرواقيين والأفلاطونيين لم تكن إلا علاقة
بين المرء ونفسه، أو تهذيبًا للنفس، أو استمتاع المرء بنفسه.
فالمضمون النفسي لهذه التدريبات يبدو لي شيئًا مغايرًا تمامًا.
يبدو لي أن الشعور بالانتماء إلى «كلٍّ» هو عنصرٌ جوهري: أي
الانتماء إلى الكل الذي يشكله المجتمع البشري، وذلك الذي يشكله
الكل الكوني. وسنكا يوجز ذلك في أربع كلمات
Toti se
Inserens Mundo (أن يغمد المرء نفسه في كلية
العالم). وفي كتابه الرائع «الأنثروبولوجيا
الفلسفية»
Anthropologie Philosophique٥ يبين جروثويسن
Groethuysen أهمية هذه النقطة الأساسية. مثل هذا
المنظور الكوني من شأنه أن يحول شعور المرء بنفسه تحويلًا
جذريًّا.
ومن الغريب أن فوكو ليس لديه الكثير ليقوله عن الأبيقوريين.
وأعجب ما في ذلك أن الأخلاق الأبيقورية هي، بمعنًى ما، أخلاق بدون
معايير. إنها أخلاقٌ مستقلة؛ لأنها لا يمكن أن تؤسس نفسها على
الطبيعة، التي هي من وجهة نظرها نتاج الصدفة. ولعلها تبدو لهذا
السبب أخلاقًا ملائمة تمامًا للذهنية الحديثة. ربما يعود هذا الصمت
(عن الأبيقورية) إلى حقيقة أن من الصعب، نوعًا ما، دمج الهيدونية
الأبيقورية في المخطط الكلي لاستخدام المتع The Use
of Pleasures الذي يقترحه ميشيل فوكو. ومهما
يكن من شيء فإن الأبيقوريين استخدموا التدريبات الروحية بالفعل،
تمحيص الضمير على سبيل المثال. ولكن، كما قد قلنا، هذه الممارسات
ليست قائمة على معايير الطبيعة أو العقل الكلي؛ لأن تكوين العالم
عند الرواقيين هو نتاج الصدفة المحضة. وبرغم ذلك، هنا مرةً ثانية،
فإن هذا التدريب لا يمكن أن يُعرَّف ببساطة على أنه تثقيف للنفس،
أو علاقة النفس بالنفس، أو لذة يمكن أن يجدها المرء في نفسه. لم
يكن الأبيقوري يتحرَّج من الاعتراف باحتياجه لأشياءَ أخرى بجانب
ذاته كيما يشبع رغباته ويشعر بالمتعة؛ يحتاج تغذية الجسم، ولذائذ
الحب، ولكن تلزمه أيضًا نظريةٌ فيزيقية عن العالم لكي ينفي الخوف
من الآلهة والخوف من الموت. وتلزمه صحبة الأعضاء الآخرين للمدرسة
الأبيقورية حتى يجد السعادة في العواطف المتبادلة. ويلزمه، أخيرًا،
التأمل التخيُّلي لعددٍ لا متناهٍ من العوالم في خلاءٍ لا متناهٍ،
حتى يخبر ما يسميه لوكريتس Divina Voluptas et
Horror (المتعة المقدسة أو الروع المقدس).
يقدم مترودوروس، تلميذ أبيقور، وصفًا جيدًا لانغمار الحكيم في
الكون: «تذكر أنك، بالرغم من كونك ولدت فانيًا محدود العمر، قد
علوتَ في الفكر إلى بُعد الأبد ولا نهائية الأشياء، وأنك قد شهدت
كل ما كان، وكل ما سيكون.» ثمة انعكاسٌ عجيب للمنظور في
الأبيقورية: فبالضبط لأن الوجود عند الأبيقوري يبدو صدفةً محضة،
وفريدًا ممعنًا في الفرادة، فإنه يحتفي بالوجود كنوع من المعجزة،
كهدية من الطبيعة مجانية وغير منتظَرة، والوجود بالنسبة له احتفالٌ
مدهش.
ولنتأمل مثالًا آخر لكي نوضح الفروق بين تأويلاتنا ﻟ «رعاية
النفس». في مقالٍ مثير بعنوان «كتابة النفس» يتخذ فوكو — كنقطة
انطلاق له — نصًّا رائعًا يتعلق بالقيمة العلاجية للكتابة،
تناولْتُه بالدراسة في كتابي «تدريبات روحية». وفقًا لهذا النص،
اعتاد القديس أنتوني أن ينصح تلاميذه بكتابة أفعالهم وانفعالات
أنفسهم، كما لو كانوا سيفشون بها للآخرين. اعتاد أنتوني أن يقول
«دع الكتابة تأخذ مكان عيون الآخرين.» هذه الحكاية تؤدي بميشيل
فوكو إلى أن يتأمل في شتى الأشكال التي اتخذتها في العصر القديم ما
يسميه «كتابة
النفس» Writing of the Self. وهو يفحص بصفةٍ خاصة الجنس الأدبي ﻟ
Hypomnemata
(اليوميات/المذكرات)، التي يمكن للمرء أن يترجمها إلى «ملاحظاتٍ
روحية» يدوِّن فيها المرء أفكار أشخاصٍ آخرين قد تفيد في تهذيبه
هو؛ أي تهذيب من يكتبها. يصف فوكو هدف هذا التدريب كما يلي: الهدف
أن «تقبض على ما سبق قوله» و«أن يجمع المرء ما سمعه أو قرأه لا
يبتغي غير تكوين نفسه»؛ ثم يسأل نفسه: «كيف يمكن أن نوضع في حضرة
أنفسنا بمساعدة أحاديثَ مخلدةٍ مقتطفة من أي مكانٍ قديم؟»؛ ويجيب
كما يلي: «هذا التدريب يُفترض أن يسمح للمرء أن يلتفت إلى الماضي؛
إسهام اليوميات هو إحدى الوسائل التي يسلخ بها المرء نفسه عن
الهموم حول المستقبل، لكي ينعطف نحو تأمل الماضي.» يعتقد فوكو أنه
يرى في كلٍّ من الأخلاق الأبيقورية والرواقية رفض الموقف الذهني
الموجَّه إلى المستقبل، ويرى الميل إلى إسباغ قيمةٍ إيجابية
لامتلاك ماضٍ يمكن للمرء أن يستمتع به باستقلال وبدون هموم.
يبدو لي أن هذا تأويلٌ مغلوط. صحيح أن الأبيقوريين، والأبيقوريين
فقط، كانوا يعتبرون ذكرى اللحظات السارة في الماضي مصدرًا رئيسيًّا
للذة؛ ولكن هذا لا شأن له بالتأمل في «ما سبق قوله» الذي يمارس في
اليوميات؛ إنما يشترك الرواقيون والأبيقوريون، كما رأينا آنفًا، في
موقف يتمثل في تحرير المرء لنفسه، ليس فقط من الانشغال بالمستقبل،
بل أيضًا من عبء الماضي، كيما يركز على اللحظة الحاضرة، لكي يستمتع
بها أو لكي يعمل داخلها. من هذه الزاوية فلا الرواقيون ولا حتى
الأبيقوريون يولون الماضي قيمةً إيجابية. لقد كان الموقف الفلسفي
الأساسي يتمثل في «العيش في الحاضر»، وفي تملُّك الحاضر وليس
الماضي. أما كون الأبيقوريين أيضًا يولون أهميةً كبيرة للأفكار
التي صاغها أسلافهم، فهذه مسألةٌ مختلفةٌ كليًّا. ولكن على الرغم
من أن اليوميات تتناول ما سبق قوله فهي لا تشمل أيما شيء «سبق
قوله» لا لشيء إلا لأنه جزء من الماضي، إنما تتناول ما يرى المرء
من بين «ما سبق قوله» (وهو عادة مبادئ مؤسس المدرسة الفلسفية) أنه
ينبغي للعقل نفسه أن «يخاطب به الحاضر»؛ ذلك لأن المرء يكتشف في
تعاليم أبيقور وخريسبوس قيمةً «حاضرة أبدًا»، بالضبط لأنها تعبير
العقل نفسه. وبعبارةٍ أخرى: عندما يكتب المرء أو يدوِّن شيئًا ما
فإن ما يتملَّكه ليس فكرةً أجنبية عنه؛ إنما وجه الأمر أنه يستعمل
صياغات تُعدُّ جديرة بتحقيق ما هو موجود من الأصل داخل عقل الشخص
الذي يكتب، وتأتي به إلى الحياة.
وفقًا لفوكو فإن هذه الطريقة مثَّلت محاولةً تعمد إلى أن تكون
توفيقية، وتضمَّنت لذلك اختيارًا شخصيًّا. وهذا من ثم يفسر
«تكوين
النفس»
Constitution of the Self.
٦
الكتابة كتدريبٍ شخصي يعمله المرء بنفسه لنفسه، هو فنٌّ
ذو حقائقَ متباينة؛ إنه، إن شئت الدقة، طريقة لضم السلطة
التقليدية لما سبق قوله مع فرادة الحقيقة التي تفصح عن
نفسها فيها، وخصوصية الظروف التي تحدد استخدامها.
غير أن الاختيار الشخصي، في الحقيقة، لا يُلتمَس في التوفيقية،
على الأقل بالنسبة للرواقيين والأبيقوريين. فالتوفيقية لا تُستخدَم
إلا لتحويل المبتدئين. ففي هذه المرحلة الابتدائية كل شيء يجوز.
فمثلًا، يجد فوكو مثالًا للتوفيقية في «رسائل إلى لوسيليوس» التي
يقتبس فيها سنكا الرواقي أقوالًا لأبيقور. غير أن هدف هذه الرسائل
هو «أن تحول» To Convert
لوسيليوس وتدفعه إلى أن يبدأ حياةً أخلاقية، ولا يظهر استخدام
أبيقور إلا في الرسائل الأولى، ثم يختفي سريعًا. الاختيار الشخصي،
على العكس، لا يتدخل إلا عندما يستمسك المرء حصرًا بشكلٍ محدَّد من
الحياة، وليكن الرواقية أو الأبيقورية، باعتباره متفقًا مع العقل.
فقط في الأكاديمية الجديدة، في شخص شيشرون مثلًا، نجد أن الاختيار
الشخصي يتخذ وفقًا لما يراه العقل هو الأرجح في لحظة
بعينها.
ليس صحيحًا، إذن، ما يذهب إليه فوكو من أن الفرد يصوغ هويةً
روحية لنفسه بكتابة، أو إعادة قراءة أفكارٍ متباينة. فهذه الأفكار،
أولًا، ليست متباينة، كما قد رأينا، بل مختارة بسبب اتِّساقها.
ثانيًا، والأهم، فإن الغرض ليس أن يصوغ المرء لنفسه هويةً روحية
بالكتابة، بل أن يحرر نفسه من فردانيته، لكي يعلو بها إلى الكلية.
من الخطأ، إذن، أن نتحدث عن «كتابة النفس» Writing of the Self: ليس
صحيحا أن المرء «يكتب نفسه»، بل ليس صحيحًا أن الكتابة تشكل النفس.
فالكتابة، شأنها شأن غيرها من التدريبات الروحية، تُغيِّر مستوى
النفس، وتضفي عليها الكلية. ومعجزة هذا التدريب، الذي يمارَس في
الوحدة، هي أنه يتيح لممارسه أن يَنفُذ إلى كلية العقل داخل حدود
المكان والزمان.
تتمثل القيمة العلاجية للكتابة عند الراهب أنتوني، تتمثل
بالتحديد في قدرتها على إضفاء الكلية.
٧ يقول أنتوني إن الكتابة تأخذ مكان عيون الآخرين. يشعر
الشخص الذي يكتب أنه يراقب، أنه لم يعد بمفرده، بل هو جزء من
مجتمعٍ إنسانيٍّ حاضر في صمت. وإذ يصوغ المرء أفعاله الشخصية
بالكتابة، فإنه يؤخذ بواسطة آلية العقل والمنطق والكلية. وما كان
مختلطًا وذاتيًّا يصبح بذلك موضوعيًّا.
ولكي نلخص ما قيل: فإن ما يسميه فوكو «ممارسات النفس» ينطبق، عند
الأفلاطونيين وعند الرواقيين أيضًا، على حركة تحول تجاه النفس. إن
المرء ليُحرِّر نفسه من الخارجية، من الارتباط الشخصي بأشياءَ
خارجية، ومن اللذَّات التي قد تقدمها. وإن المرء ليلاحظ نفسه، لكي
يحدد ما إذا كان قد أحرز تقدمًا في هذا التدريب. يريد المرء أن
يكون سيد نفسه، أن يمتلك نفسه، أن يجد سعادته في الحرية والاستقلال
الداخلي. وأنا أتفق مع كل هذه النقاط؛ غير أني أرى بالفعل أن حركة
الاستدخال هذه موصولة بغير انقطاع بحركةٍ أخرى يرتفع بها المرء إلى
مستوًى نفسي أعلى، يجد المرء عنده نوعًا آخر من الخارجية، علاقةٌ
أخرى ﺑ «الخارجي». هذه طريقةٌ جديدة للوجود-في-العالم،
٨ الذي يتمثل في صيرورة المرء واعيًا بنفسه كجزء من
الطبيعة، وجزء من العقل الكلي. هنالك لا يعود المرء يعيش في العالم
البشري التقليدي المعتاد، بل في عالم الطبيعة. عندئذٍ، كما رأينا
آنفًا، يمارس المرء «الفيزيقا» كتدريبٍ روحي.
بهذه الطريقة، يوحد المرء نفسه مع «آخر»: الطبيعة، أو العقل
الكلي، كما هو موجود داخل كل فرد. يتضمن هذا تحولًا جذريًّا في
المنظور، ويتضمن بعدًا كونيًّا كليًّا يبدو لي أن فوكو لم يركز
عليه بما يكفي. الاستدخال هو تجاوز المرء لذاته، هو التحول إلى الكلية.
٩
ليس القصد من الملاحظات السابقة أن تكون ذات صلة فقط بتحليلٍ
تاريخي للفلسفة القديمة. إنها محاولة أيضًا للتعرف على نموذجٍ
أخلاقي يمكن للإنسان الحديث أن يكتشفه في العصر القديم. ما أخشاه
هو أن ميشيل فوكو، بتركيز تأويله حصرًا على تثقيف النفس والعناية
بالذات والتحول تجاه الذات وتعريف نموذجه الأخلاقي بعامة كإستطيقا
الوجود (جماليات الوجود)، أنه بذلك يقدم تثقيفًا للنفس موغلًا في
الإستطيقية (الجمالية). وهذا، بعبارةٍ أخرى، قد يكون شكلًا جديدًا
من «الداندية»، ذلك الأسلوب الذي ظهر في أواخر القرن العشرين.
١٠ غير أن هذا يقتضي دراسة أكثر تمعنًا لا يسمح بها
المجال هنا. وأنا شخصيًّا أعتقد بقوة، وإنْ ربما بسذاجة، أن بوسع
الإنسان الحديث أن يعيش، لا كحكيم
Sophos (فأغلب القدماء لا
يعتقدون أن هذا ممكن) بل كممارس ﻟ «التدريب» (الهش أبدًا) على
الحكمة. بوسعه أن يحاول هذا بدءًا من الخبرة الحية من جانب الذات
العينية الحية والمدركة، تحت الشكل الثلاثي الذي حدده ماركوس
أوريليوس كما رأينا آنفًا:
- (١)
كمحاولة لممارسة موضوعية الحكم.
- (٢)
كمحاولة للعيش وفقًا للعدالة، في خدمة المجتمع
البشري.
- (٣)
كمحاولة لأن يصير على وعي بموضعنا كجزء من العالم.
مثل هذا التدريب على الحكمة سيكون بذلك محاولة لانفتاح
المرء على الكل.
وعلى نحو أكثر تحديدًا أرى أن بوسع الإنسان المعاصر أن يمارس
التدريبات الروحية القديمة بمعزل عن الخطاب الفلسفي والأسطوري
المصاحب لها. والحق أن نفس التدريبات يمكن أن تسوغها خطاباتٌ
فلسفية شديدة التنوع. هذه الخطابات لا تعدو أن تكون محاولاتٍ
خرقاء، آتية بعد الواقعة
Post Hoc،
لوصف، وتبرير، خبراتٍ داخلية تتأبى كثافتها الوجودية، في النهاية،
على أي محاولة للتنظير أو التمذهب. يهيب الرواقيون والأبيقوريون،
مثلًا، بتلاميذهم أن يلتفتوا إلى اللحظة الحاضرة، ويتخلصوا من
القلق على المستقبل ومن عبء الماضي. إلا أن أي شخص يمارس هذا
التدريب سيرى العالم بأعينٍ جديدة. وفي استمتاعه بالحاضر المحض
يكتشف سر الوجود وروعته. في هذه اللحظات نقول كما قال نيتشه: نعم،
«لا لأنفسنا فحسب، بل للوجود كله.» ليس شرطًا، إذن، أن تعتقد في
الطبيعة الرواقية أو العقل الكلي عند الرواقيين لكي تمارس هذه
التدريبات. بل إن المرء إذ يمارسها يعيش وفق العقل الكلي بكل معنى
الكلمة. وبتعبير ماركوس أوريليوس: «رغم أن كل شيء يحدث عشوائيًّا،
ألست أنت أيضًا تسلك عشوائيًّا.»
١١ بهذه الطريقة يكون بوسعنا أن نلج إلى كلية المنظور
الكوني، وإلى السر المدهش لوجود العالم.