الفصل التاسع
النظرة من فوق
لم يوفَّق أحد في التعبير عن توقنا إلى نظرة من فوق وإلى طيران
الروح مثلما وُفِّق فاوست جوته، عندما ذهب مع فجنر لنزهة الفصح
ورمق غروب الشمس في المساء:
«ليت أني أملك جناحًا يقلع بي من الأرض؛
كي أهفو إلى الشمس دومًا،
فأشاهد في غسقٍ مسائيٍّ لا نهائي
الأرض الصامتة تحت قدميَّ،
كل تل وهو متوهج، وكل وادٍ وهو ساكن،
والجداول الفضية تنساب في تياراتٍ ذهبية …»
«النهار أمامي والليل من ورائي،
السماء من فوقي والأمواج من تحتي،
وأنا في حلمٍ جميل إلى أن تغيب الشمس،
آه لو كان لي جناحٌ جسمانيٌّ
يصحب أجنحة الروح بسهولة،
غير أن كل إنسان مفطور —
حين تنشد القبرة لحنها اﻟمدوي
وهي تهيم في الفضاء الأزرق، بعيدة جد فوقنا —
على شعور يدفعه إلى أمام وإلى أعلى.»
يبدو هذا النص للقارئ العابر مجرد حلم عن الطيران
لا أكثر: تلك الرغبة المبتذلة، المفطورة في كل كائنٍ إنساني، في أن
يكون قادرًا على أن يطير، وبعبارةٍ أخرى، مجرد ثيمةٍ مكرورة كما
يتعجل المؤرخون بتصنيفها في أحيانٍ كثيرة. غير أن ثيمة طيران
الروح، في الحقيقة، تلعب دورًا بالغ الأهمية عند جوته، كما يمكننا
أن نلمح من الأسطر التالية من رسالته إلى شيلر في ١٢ مايو ١٧٩٨:
«وجدني خطابك … في الإلياذة، التي أعود إليها دائمًا باغتباط.
لكأنما المرء في بالون، عاليًا بعيدًا فوق كل شيءٍ أرضي؛ لكأنما
المرء في ذلك النطاق البيني حيث يحلق الآلهة هنا وهناك.» الحق أن
الإنسان كان قد نجح في تحرير نفسه من وزن الأرض قبل ذلك ببضعة
أعوام فقط؛ فقد أجرى الأخوان مونتجولفر طيرانهما الأول في ٢١
نوفمبر ١٧٨٣م، وكان جوته منبهرًا بهذا الحدث، وساعدته هذه الخبرة،
على نحوٍ غير متوقذَع على الإطلاق، في فهم الشعر الهومري.
فإلى جانب الوقائع التي ترويها لنا الملحمتان الهومريتان، فإنهما
تعرضان لنا العالم من وجهة نظر الآلهة، الذين ينظرون إلى معارك
البشرية وأهوائها من أعالي السماوات أو قمم الجبال، دون القدرة،
برغم ذلك، على مقاومة إغراء التدخل، بين الحين والحين، إلى جانب
أحد طرفي النزاع أو إلى الطرف الآخر. في الكتاب الخامس مثلًا من
الإلياذة نحن ننطلق بسرعةٍ هائلة بين السماء والأرض مع أحصنة هيرا:
«لا تتردد الأحصنة المجنحة في شق طريقها
خلال الفضاء بين الأرض والسماء ذات
النجوم
بعيدًا بقدر ما يمكن للمرء أن يرى بعينَيه في
المدى الغائم
وهو جالس على ذروة جبله يحدِّق إلى الماء الخمري
الزرقة
ما دامت هذه هي خطوة أحصنة الآلهة الصاهلة
الأبية.»
(الإلياذة، الكتاب الخامس)
في بداية الكتاب الثالث عشر نتخذ زاوية رؤية زيوس،
ونشاهد أراضي التراقيين والميسيين، وغيرهما من الشعوب. ومن موضعٍ
آخر نجلس مع بوزيدون على أعلى قمة بجزيرة ساموثراس ذات الأحراج
الخضراء، نحدق إلى المعركة وجلبة الأسلحة أمام أسوار
طروادة.
يذهب جوته إلى أن بوسع الشعر الهومري أن يشيل بنا فوق جميع
الأشياء الأرضية ويتيح لنا أن نلاحظها من زاوية رؤية الآلهة، وذلك
لأنه يمثل بارادايم الشعر الحقيقي. يقول جوته في «الشعر والحقيقة»:
«يمكن تمييز الشعر الحقيقي بأنه، مثل إنجيلٍ دنيوي،
يمكنه، من خلال البهجة الداخلية والمتعة الخارجية التي
يوفرها لنا، أن يحرِّرنا من الأعباء التي تنوء بنا، وأن
يرفعنا، مثل بالون هواء حار، إلى أصقاعٍ عليا، مع ثقل
الموازنة الذي يتشبَّث بنا، ويرينا، من منظور عين طائر،
المتاهات المجنونة للعالم منبسطة أمامنا.» (جوته، «الشعر
والحقيقة»)
في الجملة الأخيرة لا تجول في خاطر جوته الرؤية الفوقية للآلهة
الهومرية فحسب، بل أيضًا الأجنحة التي صمَّمها ديدالوس لكي يحرر
نفسه من قصر اللابرنت الذي سجنه فيه الملك مينوس. وسوف نرى لاحقًا
بتفصيلٍ أكبر لماذا يتمتع الشعر، في رأي جوته، بمثل هذه القدرة
المدهشة.
ثمة تاريخٌ معقد لثيمة رؤية الطائر وثيمة طيران الروح،
المرتبطتَين ارتباطًا وثيقًا. وقبل أن نمضي إلى فحص المعنى
الأخلاقي والوجودي المنسوب لهما، من جانب الفلسفة القديمة ثم من
جانب جوته، قد يكون مفيدًا أن نحاول تقسيم الأشكال المتعددة التي
تظهران بها. وحيث إن عرضنا سيكون معنيًّا فقط بالنصوص الفلسفية
والأدبية، فإن لنا أن ندع جانبًا السؤال عن المنشأ، الحقيقي أو
الأسطوري المزعوم، لهاتين الثيمتَين.
يجب قبل كل شيء أن نؤكد على أن الفلسفة القديمة والأدب القديم لم
يربطا، فيما يبدو، ثيمة طيران الروح مع ثيمة القدرة على الطيران
(أي مجرد الخبرة الحسية بالطيران)، وإنما مضت ثيمة طيران الروح
يدًا بيدٍ مع تصورٍ محدَّد لسطوة الفكر والطبيعة الإلهية للروح،
التي بوسعها أن ترفع نفسها فوق مقولتَي المكان والزمان. نحن لا
يمكننا أن نعتبر هذه القوة كقدرةٍ طبيعية للنفس الإنسانية بوصفها
مقيمة في الأرجاء الأرضية، كلا ولا هي ظاهرةٌ خارقة للطبيعة. أما
بخصوص النقطة الأولى فإن من الطبيعي تمامًا أن الفكر أو النفس
المفكِّرة يمكنها أن تنقل ذاتها بسرعة، بل للتو واللحظة، إلى حيثما
يتصادف أن يكون موضوع الفكر. وها هو بين أيدينا، في الكتاب السابع
في كتابه «تذكارات» Memorabilia
يقول إن فكر النفس، شأنه شأن الفكر الإلهي، يمكن أن ينتقل للتو إلى
مصر أو إلى صقلية. وقد طالما أخذ فيلون السكندري هذه الفكرة، التي
استخدمها لتوضيح ثيمات خلود النفس، وعظمة الإنسان، وكونه على صورة
الرب.
غير أن طيران الروح وفقًا لتصورٍ آخر لا يتمثل في مجرد خبرة
الفكر، التي هي، بمعنًى ما، ظاهرةٌ يوميةٌ عادية؛ وإنما هي شيء لا
يمكن أن يُخبَر إلا تحت ظروفٍ استثنائية: فهو يتأتَّى بخاصة كنتيجة
لانفصال الروح عن الجسم.
هنا نتبين مذهب أفلاطون: وفقًا للأسطورة في محاورة فايدروس فإن
النفس مزوَّدة بطبيعتها بأجنحة. وقبل تجسُّدها في الجسم الأرضي
تكون بذلك قادرة على أن تصعد إلى أقاصي السماوات، وأن تتبع موكب
العربات المجنَّحة للآلهة. على أن النفس إذا أثبتت أنها أضعف من أن
تكون جديرة بالوجود السماوي فإنها تفقد أجنحتها وتسقط في الجسد.
ولا يمكن للنفس أن تستعيد أجنحتها إلا عندما تنفصل عن الجسم، أي
بعد الموت. عندما يتحدث شيشرون في «التوسكالانيات»،
١ أو سنكا في «عزاء مارسيا»، عن وجود الروح بعد الموت،
فإنهما يصفان كيف تكتشف النفوس أسرار الطبيعة وتنظر إلى الأرض من
أعلى. على أن أفلاطون هو خير من أكَّد واقعة أن بوسع النفس، أثناء
تطوافها السماوي، أن تتأمل العالم العلوي للصور الأزلية (المُثل)،
مثلما فعلت في حياتها السابقة قبل سقوطها في العالم
الجسماني.
قبيل الموت تبدأ النفس في الشعور بتأثيرات انفصالها الوشيك عن
الجسد، وهي من ثم قادرة على الترحال إلى الماوراء. في الكتاب
العاشر من محاورة «الجمهورية» يروي أفلاطون قصة
Er من بامفيليا، الذي قُتل في
الحرب، وانفصلت روحه مؤقتًا عن جسده. وعندما يعرض بوكلوس لهذه
الفقرة في كتابه «تعليق على جمهورية أفلاطون» يذكر عددًا من القصص
المشابهة عن أريستيس من بروكونيسوس، وهيرمودوروس من كلازوميني،
وإبيمنيدس الإقريطي. ويبدو أن ديمقريطس أيضًا قد جمع مجموعة من مثل
هذه القصص. كما روى
Clearchus of
Soloi، من تلاميذ أرسطو، قصة الطيران الروحي
لكليونيموس من
أثينا
Cleonymus of Athens الذي صعدت روحه عاليًا فوق الأرض، ومن هناك
كانت له لمحات لأصقاعٍ مجهولة من الأرض. ويحكي بلوتارخ في مقاله
«في تأخر الانتقام الإلهي» خبرات ثيسبيسيوس من
صولوي
Thespesius of
Soloi، الذي قُتل أيضًا:
«رأى شيئًا لم يرَ مثله من قبلُ قط: كانت النجوم كبيرة
للغاية وبعيدة بعضها عن بعض بعدًا هائلًا. ومتَّقدة بضوءٍ
قويٍّ جدًّا ورائع الألوان، بحيث انتقلت الروح بسلاسة وخفة
بواسطة هذا الضوء كما تبحر سفينة على بحرٍ هادئ وتتحرك
بسرعة إلى حيثما شاءت.»
كان القدماء يعتقدون أن الأحلام، حتى أتفه الأحلام، هي انفصال
النفس عن الجسم، حيث يمكنها أن تصعد إلى ارتفاعاتٍ سماوية. ويكفينا
أن نذكر مثال «حلم سكيبيو» لشيشرون.
وكانوا يعتقدون أيضًا بأن انفصال الروح عن الجسد يمكن أن يحدث
بوسيلةٍ روحيةٍ خالصة. تتم إماتة الجسد بطريقةٍ روحية عن طريق
الفلسفة، فالفلسفة وفقًا لأفلاطون لا تعدو أن تكون تدريبًا على
الموت:
«ألن نقول بأن التطهر يحدث … عندما يفصل الإنسان النفس
قدر الإمكان عن الجسم، ويعوِّدها على أن تجمع نفسها من كل
جزء من الجسم وتركز نفسها حتى تكون مستقلة تمامًا، ويكون
لها مقامها، قدر ما تستطيع، الآن وفي المستقبل، وحدها
ولوحدها، متحررة من أغلال الجسد؟» (أفلاطون، محاورة
«فيدون»)
وسوف تكون لنا عودة فيما بعدُ للمعنى الدقيق لهذا التدريب
الفلسفي، وبحسبنا الآن أن نقول إنه عندما يريد أفلاطون أن يصف
الحياة الفلسفية فإنه يستخدم صورة النفس، إذ تجمع نفسها ثم تحلِّق
في لا نهاية السماوات. هذا التحليق يتيح للروح أن تنظر من فوق إلى
الشئون البشرية بكل معنًى العبارة.
أما عن الفيلسوف نفسه فيصفه أفلاطون في محاورة «ثياتيتوس» بأنه:
«لا يوجد ويقيم في المدينة إلا جسده فقط، أما نفسه
فتعدُّ كل هذا هراءً وسخفًا، وبازدراء تذرع المكان كله،
«تحت الأرض»، على حد قول بندار، تقيس كل ما هو فوق سطحها،
و«فوق السماوات» تراقب النجوم وتستقصي بدقة طبيعة كل شيءٍ
موجود في مجمله، ولكن بغير أن تهبط بنفسها إلى مستوى أي
شيء من الأشياء التي في جوارها.»
وفي محاورة «الجمهورية» يعبر أفلاطون عن فكرة أن عظمة النفس
تتمثل بالضبط في هذا الموقف: «لأن صغر النفس هو أبعد الأمور عن
الروح التي تسعى دائمًا إلى الكامل والتام، الإلهي والإنساني معا.»
مثل هذه النفس، القادرة على الإحاطة بالزمان في كليته والمكان في
مجموعه، ليس لديها خوف حتى من الموت.
هنا لا بأس في أن نحاول أن نصوغ، على نحوٍ أكثر دقة، مفهومَين قد
عرضنا لهما: مفهوم الفلسفة كوسيلة لبلوغ الموت الروحي من جهة،
وفكرة الفلسفة كصعود للنفس إلى الأعالي السماوية من جهةٍ أخرى. وقد
طوَّر أفلاطون هذه الأفكار والمفاهيم في اتجاهٍ أفلاطوني على
الخصوص، غير أنها في ذاتها وبذاتها ليست أفلاطونية بالضرورة؛ فنحن
نجدها عند جميع المدارس الفلسفية القديمة، سواءٌ أكانت أبيقوريةً
أو رواقيةً أو كلبيةً.
وبعبارةٍ أخرى فإنه في جميع المدارس — باستثناء مدرسة الشُّكَّاك
— كانت الفلسفة تعتبر تدريبًا لتعلم النظر إلى كل من المجتمع
والأفراد الذين يُكوِّنون المجتمع من منظور الكلية. كانت الفيزيقا
أو نظرية الطبيعة تسهم جزئيًّا في هذا التدريب، ولكن الإسهام
الأكبر كان للتدريبات الأخلاقية والوجودية. كانت هذه التدريبات
تهدف إلى أن تُخلِّص الناس من الرغبات والانفعالات التي تزعجهم
وتضايقهم. هذه الحاجات والرغبات تفرضها على الفرد الأعراف
الاجتماعية واحتياجات الجسد. وكان هدف الفلسفة أن تنفيها حتى
يتسنَّى للمرء أن يرى الأشياء كما تراها الطبيعة نفسها، ولا يرغب
من ثم إلا فيما هو طبيعي. وإذا ضربنا صفحًا للحظة عن الاختلافات
الاصطلاحية والمفاهيمية، فإن بوسعنا أن نقول إنه ما من مدرسةٍ
فلسفيةٍ قديمة إلا وجعلت هدف الفلسفة العلوَّ بالجنس البشري من
الفردية والجزئية إلى الكلية والموضوعية. مثال ذلك أن الموت
الفلسفي عند الأفلاطونيين يتمثَّل في تخلُّص المرء من أهوائه حتى
يبلغ استقلال الفكر، والموت الفلسفي عند الرواقيين يتمثل في امتثال
المرء للعقل الكلي، اللوجوس المحيط بالكل، الداخلي
والخارجي.
في كل مدرسةٍ فلسفية، إذن، يطالعنا نفس التصور عن الفلسفة. وفي
كل مدرسةٍ فلسفية أيضًا نجد تصوُّر الطيران الكوني والنظر من فوق
هو الطريقة الفلسفية المثلى للنظر إلى الأشياء. تتفق في ذلك كل
المدارس القديمة، وبخاصة الأفلاطونية والرواقية والأبيقورية. لقد
اكتشفت هذه المدارس إلى جانب الفيزيقا النظرية فيزيقا معيشة Lived Physics تهدف إلى بلوغ
عظمة الروح، ووظيفتها أن تُعلِّم الناس ازدراء الشئون البشرية
وتحقيق السلام الداخلي.
كان أفلاطون قد ألمع بالفعل إلى تدريب الفيزيقا العملية في
محاورة «طيماوس»، حيث تحمل النفس على أن تجعل حركاتها الداخلية
متناغمة مع حركات الكل وتناغمه. ونجد الثيمة نفسها مرةً أخرى في
مجال المتيورولوجيا Meteorologia:
أي الحديث الذي — وفقًا لطريقة أبقراط كما يقول أفلاطون في
«فايدروس» — يضع النفس والشئون البشرية داخل منظور الكل. ويضيف
أفلاطون أن مثل هذا المنهج من شأنه أن يؤدي إلى نبل
التفكير.
الفيزيقا الأبيقورية أيضًا تفتح مجالًا واسعًا للطيران الفكري،
في لا نهاية المكان والعوالم اللانهائية العدد. وها هو لوكريتس
يقول: «لما كان المكان يمتد بعيدًا وراء حدود علمنا، إلى
اللانهاية، فإن عقلنا يريد أن يستطلع ماذا يكمن في هذه اللانهاية،
التي يمكن للعقل أن يصوِّب إليها نظرته كما يشاء، والتي يمكن
لأفكار العقل أن تحلِّق إليها في طيران طليق» (لوكريتس، «في طبيعة
الأشياء»). ويقول لوكريتس في موضعٍ آخر إن أبيقور قد «اقتحم بجسارة
بوابات الطبيعة المغلقة بإحكام» و«تقدم بعيدا وراء الأسوار
الملتهبة لعالمنا.» ويدَّعي لوكريتس أن أبيقور قد انطلق، في الذهن
والفكر، بسرعةٍ هائلة خلال اللانهائية كلها، لكي يعود مظفرًا
ويعلمنا ماذا يمكن، وما لا يمكن، أن يأتي إلى الوجود.»
هذا الغزو الروحي للمكان ألهب حماسة القرن الثامن عشر، الذي كان
يحلم بإنجاب لوكريتس جديد. وقد أراد أندريه شينير أن يحيي هذا
المثال في قصيدته «هرمس» Hermes
التي لم يكملها:
مزودًا بأجنحة
Buffon
ومستضيئًا بمشعل نيوتن،
كم أحلق، مع لوكريتس، وراء الحزام اللازوردي،
الذي يحزم الكوكب!
فأرى الوجود، والحياة، ومصدرهما المجهول،
وجميع العوالم التي تضطرب خلال الأثير،
وأتبع المذنب بذيله الناري،
والنجوم بثقلها وشكلها ومداها،
أترحَّل معها في أفلاكها الهائلة …
وأمام نظرتي المحدقة الحادة،
تنبسط «العناصر» المتعددة،
في نفورها وانجذابها، و«العلل»، واللانهائي.
وعَودًا إلى التحليقات الكونية الأبيقورية: ربما
يكون تحديق الحكيم الأبيقوري إلى اللانهاية مناظرًا لتحديق الآلهة
الأبيقورية. يقضي الحكماء الأبيقوريون، متخففين من الشئون الأرضية،
ومنغمسين في سكينتهم الأبدية المضيئة، يقضون عمرهم متأمِّلين في لا
نهائية المكان، والزمان، والعوالم المتعددة.
ونحن نصادف هذه السكينة نفسها في التعاليم الرواقية، وبخاصة في
نص فيلون السكندري المشار إليه أدناه بإسهابٍ أكبر، والذي يصف
الفلاسفة كما يلي:
«ولما كان هدفهم هو حياة سلام وصفاء، فإنهم يتأملون
الطبيعة ويتأملون كل شيء يوجد فيها؛ يستكشفون الأرض
بتيقُّظ، والبحر، والجو، وكل طبيعة توجد فيها. ويرافقون،
في الفكر، القمر والشمس وأفلاك النجوم الأخرى، الثابتة
منها والمتجولة. أجسامهم تبقى على الأرض ولكنهم يمنحون
أرواحهم أجنحة لكي تصعد في الأثير فتشاهد القوى التي تقيم
هناك، مثلما يليق بأولئك الذين أصبحوا مواطني العالم.»
(فيلون السكندري، «في القوانين الخاصة»)
وبالنسبة لماركوس أوريليوس، وحدها النظرة «الفيزيقية» إلى
الأشياء ما يمكنه أن يهبنا عظمة النفس. ولذا كثيرًا ما نجده يمارس
تلك التدريبات الروحية المتعلقة بالنظرة «الفيزيقية» إلى الأشياء.
يقول ماركوس في الكتاب التاسع من «التأملات»: «بوسعك أن تُنحِّي
الكثير من المنغِّصات غير الضرورية التي تكمن بأكملها في حكمك أنت.
عندئذٍ ستوفر لنفسك مكانًا رحبًا بأن تفهم الكون كله وتستوعبه في
عقلك، وبأن تتفكر في أبدية الزمان» (التأملات، ٩–٣٢). وفي الكتاب
السابع يعظ ماركوس نفسه كما يلي:
«تأملْ مسارات النجوم كما لو أنك تسير معها حيث تسير،
وتأمل دومًا تحولات العناصر بعضها إلى بعض. جديرة هذه
التأملات أن تغسل عنك أدران الحياة الأرضية. ثم عندما
تتحدث عن بني الإنسان فلتنظر إلى الأشياء الأرضية كأنك
تنظر إليها من نقطةٍ عالية.» (التأملات، ٧–٤٧، ٤٨)
وسوف نعود لاحقًا إلى العبارة الأخيرة. وفي موضعٍ آخر يصف ماركوس
الطريقة التي تغمد بها النفس نفسها في كلية المكان ولا نهائية
الزمن: «والروح العاقلة تجتاز العالم كله والخلاء المحيط به،
وتستكشف شكله، وتمد نفسها في لا نهاية الزمان، وتحيط بالتجدد
الدوري ﻟ «الكل» وتفهمه» (التأملات، ١١–١). إن هدف الفيزيقا
كتدريبٍ روحي هو إعادة وضع الوجود الإنساني داخل لا نهاية الزمان
والمكان، ومنظور القوانين الكبرى للطبيعة. هذا ما يعنيه ماركوس
بالتحول الشامل الذي يذكره،
٢ ولكنه يأخذ بالاعتبار أيضًا تناظر جميع الأشياء،
والتضمن المتبادل لكل شيء في كل شيءٍ آخر.
٣
وهنا، فيما أعتقد، نرى لماذا يعتبر جوته (في الفقرة المقتبسة
أعلاه) أن الشعر الحقيقي تدريبٌ روحي يتمثل في إعلاء المرء لنفسه
بعيدًا فوق الأرض؛ الشعر الحقيقي عند جوته هو نوع من الفيزياء،
بالمعنى الذي قلناه آنفًا: الشعر تدريبٌ روحي، عبارة عن النظر إلى
الأشياء من فوق، من منظور الطبيعة أو الكل، ومنظور القوانين الكبرى
للطبيعة. على أن نفهم «قوانين الطبيعة» لا على أنها التحول الشامل
ووحدة الأشياء جميعًا فحسب، بل على أنها تشمل أيضًا المبدأَين
الكليَّين اللذين يسميهما جوته «القطبية» Polarity و«الزيادة» Increase، واللذين كان يجب أن يشاهدهما في كلٍّ
من الطبيعة والحياة الإنسانية الفردية. وبوسعنا أن نكتشف إلهام
هاتين الفكرتَين لا في مجموعة جوته لشعر الشباب «الله والعالم»
فحسب، بل أيضًا في قصائد جوته الأكثر تواضعًا في شيخوخته. بهذا
التصور إذن يكون مقصد الشعر، شأنه شأن فيزيقا العصر القديم، هو أن
يبث في قرائه ومستمعيه عظمة النفس والسلام الداخلي.
وننتقل الآن إلى جانبٍ آخر من هذا التدريب الروحي. يمكن أيضًا
للنظرة من فوق أن توجَّه بلا هوادة إلى عيوب الجنس البشري ونقاط
ضعفه. وقد تناولت المدارس الفلسفية جميعًا هذه الثيمة بإسهاب،
ولكن، كما سوف نرى، لم يتناولها أحد بتلك النكهة الخاصة التي
تناولتها بها المدرسة الكلبية. في كتاب «التحولات» Metamorphoses لأوفيد نجد
صيغةٌ فيثاغوريةٌ جديدة للثيمة: «ما أبهج أن تطوف عبر السماء ذات
النجوم، وتترك الأرض من وراء ظهرك بأرجائها البليدة، لكي تمتطي ظهر
الغيوم، وتقف على أكتاف أطلس الركينة، لترى الناس، بعيدًا تحتكُّ،
يتجولون بلا هدف، وبلا عقل، مهمومين ومتوجسين من الآتي؛ كذلك
لتعظهم وتنشر كتاب القدر!» (أوفيد، «التحولات» ١٥). وفي بداية
الكتاب الثاني من «في طبيعة الأشياء» للوكريتس نصادف صيغةٍ
أبيقورية لهذه الثيمة: «ليس أبهج من أن يكون لديك ملاذاتٌ وطيدة
وآمنة، شيدتها تعاليم الحكماء، بوسعك أن تلقي منها نظرة من علٍ على
الآخرين وتشهدهم جميعًا تائهين هائمين على وجوههم يلتمسون سبل
الحياة» (لوكريتس، «في طبيعة الأشياء»، ٢–٧).
وتتخذ الثيمة لونًا رواقيًّا في كتاب سنكا «أسئلة طبيعية» Natural Questions. «إذ
ذاك تدرك روح الفيلسوف، ناظرة من أعالي السماوات، ضآلة الأرض وسخف
الحروب التي تشنُّها جيوش البشر— التي تشبه أسراب النمل — من أجل
آمادٍ جد ضئيلة من الأرض.» وعند ماركوس أوريليوس تظهر الثيمة في
شكلٍ واقعي بصفةٍ خاصة: «انظر إلى الأشياء الأرضية كأنك تنظر إليها
من نقطةٍ عالية — الجموع، الجيوش، المزارع، أحداث الزواج والطلاق
والميلاد والموت، صخب المحاكم، الصحاري، شتى الأمم الأخرى،
الاحتفالات، الجنازات، الأسواق — خليط كل الأشياء والاتحاد المنظم
للأضداد» (التأملات، ٧–٤٨). وفي موضعٍ آخر يهيب بنا ماركوس أن
«نأخذ نظرة من فوق — إلى ألوف القطعان والأسراب، وألوف الشعائر
والاحتفالات الإنسانية، وما لا يحصى من ضروب الترحال في العاصفة
والهدأة، وشتى المخلوقات الذين يولدون، ويلتقون، ويموتون»
(التأملات، ٩–٣٠). النظرة من فوق، إذن، تؤدي بنا إلى النظر في كلية
الواقع الإنساني، بكل جوانبه، الاجتماعية والجغرافية والعاطفية،
ككتلة محتشدة غفل Anonymous،
وتعلمنا أن نعيد وضع الوجود الإنساني داخل الأبعاد اللامحدودة
للكون. وكل ما لا يعتمد علينا (الأشياء التي يسميها الرواقيون
«اللافارقة» Indifferent) مثل
الصحة والسمعة والثروة وحتى الموت، ترد إلى أبعادها الحقيقية
(وتأخذ حجمها الحقيقي) حين تنظر من منظور طبيعة الكل.
عندما تتخذ النظرة من فوق هذا الشكل الخاص من ملاحظة الكائنات
البشرية على الأرض تبدو أقرب شيء من التعاليم الكلبية. ونحن نجدها
مستخدمة بفعاليةٍ خاصة عند لوسيان (لوشن) Lucian، أحد معاصري ماركوس أوريليوس، الذي كان
متأثرًا بشدة بالمذاهب الكلبية. في محاورة لوسيان المعنونة ﺑ
Icaromenippus أو إنسان السماء Sky-man، يُفضي منيبوس
الكلبي إلى صديقٍ له أنه محبَطٌ جدًّا من التعاليم المتضاربة
للفلاسفة في شأن المبادئ القصوى والعالم بحيث اعتزم أن يطير إلى
السماء ليرى بنفسه كيف تكون الأشياء. زود منيبوس نفسه بزوجَين من
الأجنحة — جناح نسر يسارًا وجناح عقاب يمينًا، وحلق عاليًا إلى
القمر، وما إن بلغ هناك حتى سجل: «توقفت، ناظرًا إلى الأرض من فوق،
ومثل زيوس هومر، مشاهدًا تارةً أرض التراقيين محبي الأحصنة، وتارةً
أرض الميسيين، ومشاهدًا للتوِّ متى شئت اليونان وفارس والهند؛ ومن
كل هذا أخذت كفايتي من المتعة الكاليدوسكوبية» (لوسيان، «رجل
السماء»). غير أن منيبوس ما إن تكيفت عيناه على الأحجام الضئيلة
للكائنات البشرية حتى بدأ يراقب بني الإنسان. وكان بوسعه أن يرى
«لا الأمم والمدن فحسب بل الناس أنفسهم بأعلى وضوحٍ ممكن: التجار،
والجنود، والمزارعين، والمتقاضين في المحاكم، والنساء، والحيوانات،
وباختصار؛ كل الحياة التي ترعاها الأرض الخضراء المباركة.» لم يكن
منيبوس قادرًا فقط على رؤية ما يفعله الناس في الهواء الطلق، بل
أيضًا ما يزمعون فعله في دُورهم، حيث يظنون أنْ ليس ثمة من
يلاحظهم.
وبعد أن تلا منيبوس قائمةً طويلة من الجرائم والخيانات التي رآها
تُرتكب داخل بيوت الناس، أوجز انطباعه الكلي: ما رآه كان مسرحية
خليطًا مزريًا متنافرًا. وكان أكثر ما وجده بينها جميعًا مدعاة
للاستهزاء هو أولئك الناس الذين كانوا يقاتلون على طول حدود مدنهم
ومقاطعاتهم الخاصة، حيث إن الأرض نفسها بدت له ضئيلةً وتافهة لدرجة
العبث. يقول منيبوس إن الأغنياء يتباهون بأشياءَ تافهةٍ تمامًا. إن
مقاطعاتهم لا تزيد على ذرة من ذرات أبيقور، وإن منظر مدن الإنسان
كان يُذكِّره بتلِّ نملٍ يضطرب ساكنوه هنا وهناك بلا هدف.
وما إن يغادر منيبوس القمر حتى يترحل بين النجوم حتى يصل إلى
مقام زيوس. هنالك أغرق في الضحك على التناقض العبثي لصلوات بني
الإنسان وأدعيتهم إلى زيوس.
٤
وفي محاورةٍ أخرى من محاورات لوسيان، بعنوان «شارون»، أو
«المراقبون»، يطلب شارون، وهو حادي الموتى، يطلب يومًا إجازة حتى
يمكنه أن يصعد إلى سطح الأرض ليرى ماذا عساه أن يكون هذا الوجود
الأرضي الذي يفتقده الناس بهذه الشدة بمجرد أن يصلوا إلى العالم
السفلي. يُكوِّم شارون، بمساعدة هرمس، جبالًا عديدة بعضها فوق بعض
كيما يمكنه أن يشاهد البشر من أعلى على نحوٍ أفضل. يتبع ذلك نفس
الصنف من الوصف الذي رأيناه للتوِّ عند ماركوس أوريليوس وفي
إيكارومنيبوس: يرى شارون راكبي البحر، والمحاكمات، والمزارعين،
وباختصار؛ كل ضرب من ضروب النشاط البشري، لكن يجمعها كلها قاسمٌ
مشترك: وجود مليء بالألم. يشهد شارون: «لو أمكن فقط للبشر أن
يدركوا صراحة منذ البداية أنهم سيموتون، أي سيكون عليهم بعد مكوثٍ
وجيز في الحياة أن يرحلوا عن هذه الحياة مثل حلم ويتركوا كل شيء
وراءهم على الأرض؛ هنالك سيخلق بهم أن يعيشوا أكثر حكمة ويموتوا
أقل ندمًا.» غير أن الإنسان لا يعقل؛ إنه أشبه شيء بالفقاقيع التي
ينثرها شلال ماء، والتي سرعان ما تنفجر بمجرد قدومها إلى
الوجود.
هذا النوع من النظر من فوق، كما قلنا، المتجه إلى الوجود الأرضي
لبني الإنسان، هو من المظاهر النموذجية للمذهب الكلبي Cynicism. يمكننا أن نرى
هذا بالالتفات إلى أن محاورة «شارون» تحمل العنوان اليوناني التحتي
Episkopountes («المراقبون»،
أو بالأحرى «الناظرون من أعلى»). كان الفيلسوف الكلبي يرى أن واجبه
هو أن يراقب أفعال رفاقه البشر، كأنه جاسوس من نوعٍ ما، يترصد
أخطاءهم حتى يبلغ عنها. مهمة الكلبي هي ملاحظة رفاقه البشر كأنه
رقيب عليهم يرصد سلوكهم من أعلى برج مراقبة. والحق أن كلمة
Episkopos أو
Kataskopos أو «جاسوس» — كانت
تستخدم في العصر القديم كُنية للكلبيين. وكان الغرض من النظر من
فوق عندهم هو شجب عبثية الحياة البشرية. وليس من قبيل الصدفة أنه
في إحدى محاورات لوسيان يكون شارون بالتحديد، حادي الموتى، هو من
يلعب دور مراقب الشئون البشرية من فوق؛ فهو، على كل حال، في موضعٍ
جد ممتاز لملاحظتهم من منظور الموت.
أن تراقب الشئون البشرية من فوق تعني في الوقت نفسه أن تراهم من
منظور الموت. وحده هذا المنظور ما يتيح الصعود الضروري بالروح
وتحريرها، ذلك الصعود الذي يقدم المسافة التي تلزم لنا لكي نرى
الأشياء كما هي في الحقيقة. لا يتوانى الكلبيون في شجب ضلالات
الجنس البشري؛ يتشبث الناس، متناسين الموت، بموضوعٍ ما ويعلقون
قلوبهم به — الأبهة أو السلطة، مثلًا — والذي هم تاركوه لا محالة
يومًا ما. من هنا يهيب الكلبيون بالبشر أن يخلصوا أنفسهم من
الرغبات الزائدة، وأن ينبذوا التقاليد الاجتماعية، وكل التمدن
المصطنع، باعتبار ذلك مصدرًا للهمِّ لا أكثر، ومصدرًا للكرب
والمعاناة. يهيب بنا الكلبيون أن نعود إلى طريقة للعيش بسيطة
وطبيعيةٍ خالصة.
ولنعد إلى لوسيان: نتعلم من مقاله القصير «كيف ينبغي للمرء أن
يكتب التاريخ» أن النظر من فوق ليس ملائمًا للفيلسوف وحده، بل
أيضًا للمؤرخ. وبتحديد أكثر: يجب أن تكون نظرة المؤرخ مثل نظرة
الفيلسوف؛ شجاعةً، خاليةً من التحيزات، غير مرتبطة بأي أمة بل على
مسافةٍ واحدة من الجميع، لا تميل بها صداقة ولا عداوة. هذا الموقف
يجب أن يتمثل في عرض المؤرخ لمادته. يقول لوسيان إن المؤرخ يجب أن
يكون مثل زيوس هومر؛ ينظر تارةً إلى أرض التراقيين، وطورًا إلى أرض
الميسيين.
لثالث مرة الآن نصادف ثيمةً هومرية لإله يصوِّب نظرته إلى الأرض
من تحته. غير أن المصدر الهومري هذه المرة مقتبَس لكي يكون نموذجًا
لتلك النزاهة (التنزُّه عن الغرض) التي يتعين أن تسِمَ التقرير
التاريخي، بفضل منظور الرؤية الفوقي الذي اختاره المؤرخ لنفسه. هذا
ما يسميه كاتب حديث ﺑ «منظور الشِّعْرى اليمانية»
Viewpoint of Sirius. هكذا نجد
إرنست رينان يكتب عام ١٨٨٠: «قلما تبلغ ثوراتنا، إذا نظرت من
النظام الشمسي، مدى حركات الذرات. وإذا نظرت من الشعرى اليمانية
ستبدو، بعدُ، أصغر.» أن تتخذ منظور الشعرى تعني، هنا أيضًا، أن
تؤدي التدريب الروحي الخاص بالسماح والتحفظ، كيما تحقق النزاهة،
والموضوعية، والحكم النقدي.
لم يتسنَّ لي أقدم هنا إلا بضع جوانب من تراثٍ ثري للغاية. إذا
شاء المرء (وأود أن أفعل يومًا ما) أن يكتب التاريخ الكامل لثيمة
النظر من فوق فإن نصوصًا أخرى كثيرة سوف يتعيَّن أن تؤخذ بعين الاعتبار.
٥ وهنا، في سبيل الختام وصفوة القول، سأقتصر على
الاستشهاد بقصيدة بودلير «سمو»
Elevation التي يصف فيها هذا الرمزي العظيم خبرة
الشاعر. فالشاعر عنده مخلوق لم يكن منذورًا لهذا العالم (كما عبر
عن ذلك في قصيدة «طائر
القطرس»
Albatross: «أجنحته الضخمة تمنعه من المشي»). غير
أن الشاعر، بفضل مواهبه الشعرية التي تتيح له أن يلحظ الأشياء من
فوق، هو أيضًا كائنٌ قادر على الإمساك بالتشابهات الخفية بين
الأشياء. ونحن بذلك نعود إلى ثيمة «الشعر الحقيقي» عند جوته، الذي
هو في الحقيقة ضرب من الفيزيقا، بالمعنى الذي عرفنا به هذا المصطلح
آنفًا: محاولة مركَّزة للانغماد في أسرار الطبيعة.
(١) سمو
فوق الغدران، فوق الأودية،
والجبال، والغابات، والسحب، والبحار،
فيما وراء الشمس، وفيما وراء الأثير،
تجوسين يا روحي برشاقة كبيرة،
مثل سباحٍ حاذق يألف البحر،
تمخرين بابتهاج خلال الأبعاد السحيقة،
في فرحٍ رجولي لا يوصف،
حلِّقي بعيدًا عن هذه الأدخنة السامة،
اذهبي طهِّري نفسك في الفضاء الأعلى،
وانهلي مثل شرابٍ سماويٍّ طهور،
اللهب الساطع الذي يملأ الفضاء الصافي،
ووراء الهموم والأسى العميم،
الذي ينيخ على حياتنا الغائمة كالصخر،
سعيدٌ ذلك الذي يُحلِّق بأجنحةٍ شديدة،
نحو الحقول الهادئة والمضيئة،
في الصباح تحلِّق أفكاره طليقة،
نحو السماوات مثل طيور القُبَّر،
ويحلق فوق الحياة ويفهم بغير عناء،
لغة الأزهار ولغة الأشياء البكماء.