مقدمة الطبعة الثانية

ذات صباحٍ في ربيع عام ١٩٦٣م، أهملتُ رواية كنت قد بدأت في كتابتها، واتجهت إلى رفوف المكتبات — العامة والخاصة — أحاول نسج أول دراسة تطبيقية في علم الاجتماع الأدبي. وكان لذلك دوافع عديدة، في مقدمتها: أن أتعرَّف — بجهدٍ علمي — إلى أبعاد الحياة المصرية، وأن أقرأ. كنت في حاجة إلى قدرٍ كبيرٍ من المعرفة السياسية والاقتصاد والفلسفة والتاريخ والاجتماع والجغرافيا وعلم النفس … إلخ، كنت في حاجة إلى قدرٍ كبيرٍ من الثقافة والقدرات التأملية، وهو ما تصورت أن دراسة تأثيرات القصة في المجتمع، وتأثيرات المجتمع في القصة، ربما أتاحته لي. كان الشعر ديوان العرب منذ عصور الجاهلية، ثم أصبحت الرواية والقصة ديوانًا ثانيًا منذ بدأت المطابع في إصدار الأعمال القصصية والروائية حتى الآن، وكان إقدامي على تأليف مصر في قصص كُتابها المعاصرين محاولة لتقليب هذا الديوان، والتعرُّف على أبعاد تأثُّره وتأثيره.١
ولأن الكتاب كان جهدًا غير مسبوقٍ، فقد واجه جزؤه الأول٢ تباينًا حادًّا، في تناول الأقلام النقدية؛ ثمة من اعتبره عملًا متميزًا، وأثنى عليه، وثمة من راعه أن يلوي ذراع الأدب ليعطي تفسيراتٍ اجتماعية وسياسية.
وعلى سبيل المثال، فقد كتب رفعت السعيد يشير إلى أنه إذا كانت النظرة إلى مصر بعينٍ واحدة دومًا، عين المؤرخ أو الكاتب أو الشاعر أو الجغرافي أو السياسي، فإن كاتب مصر في قصص كُتابها المعاصرين «حملق في وجه مصر، وتجرَّأ فنظر إليها بعينين اثنتين؛ عين الأديب وعين المؤرخ، فما أروع هذه الرؤية!»٣ ووصف صالح جودت الكتاب بأنه «ليس مجرد دراسة أدبية، بل هو عمل وطني ضخم، عمل جليل، نخرج منه بأن كُتاب القصة المعاصرين لم يكونوا مجرد أدباء مبدعين، وإنما كانوا — في الوقت ذاته — مؤرخين أمناء.»٤ ولاحظ نبيل راغب أن الكاتب يعتقد أن الهدف من دراسته هو الوصول إلى المجتمع المصري، مرورًا بالأعمال الأدبية، أي إنه يقوم بمهمة معاكسة للتي يقدِّم بها الناقد البحث، «فالوصول إلى المجتمع من خلال الأدب هو البحث عن المضمون من خلال الشكل، بينما الوصول إلى الأدب من خلال المجتمع هو البحث عن الشكل من خلال المضمون، وبما أنه يستحيل الفصل بين الشكل والمضمون، فنحن نعتقد أن دراسة محمد جبريل هي دراسة أدبية أساسًا مهما حاول أن يربطها بميدان الدراسات الاجتماعية.»٥ وذهب كمال النجمي في مقالة له أن الكتاب «لا يجلو للفكر صورة مصر المعاصرة وحدها، بل يقدم من صورتها امتداداتها في العصور الخوالي، وفي المستقبل بما وراءه من خبء مرهوب، أو غيب طيب مرهوب.»٦ وأثنى ماهر قنديل على ما بذله المؤلف من جهدٍ «حتى صدر هذا البحث القيم، بهذه الصورة التي إن دلَّت على شيء، فإنما تدل على الصبر الذي لا يتهيأ إلا لمن أوتي صفات الباحث عن الحقيقة، واجتهاد العالِم المخلص للعالَم وقضيته.»٧ أما حسن محسب فقد أشار إلى أن «هذا الكاتب يؤكد من جديدٍ، أن الأدباء هم ضمير أمَّتهم، ونبض حركتها التاريخية في مواجهة الأحداث، ويكاد يكون أول محاولة نقدية جادة لدراسة شخصية مصر في قصص كتَّابها القدامى والمحدَثين، وهي ليست مهمة سهلة أبدًا لأنها تحتاج من صاحبها إلى صبرٍ طويل، وقراءات عديدة ودقيقة، ويقظة عقلية حازمة، تقيس عواطف الأدباء وعشقهم لمصر بمقياسٍ علمي على ضوء مقومات حركة المد والجزر المتوالية في المجتمع المصري.»٨ والكتاب — في تقدير عبد العال الحمامصي — ليس تاريخًا كما تصوَّرت بعض الأقلام الناقدة التي اكتفت — والتعبير للحمامصي — بتقليب الصفحات، «إنه لوحة متعددة الزوايا، ومتكاملة الأبعاد، لمجتمعنا المصري بتراثه وتقاليده وتاريخه وتطور الحياة على أرضه، استقاها الكاتب، واستمدَّ تكوينها من خلال عشرات الأعمال الأدبية، بجانب مقارنتها بكتب تعرض للمجتمع المصري من جوانبه المختلفة.»٩
أما الناقد أحمد محمد عطية، فقد لاحظ أن الكتاب «يناقش الأدب كوثيقة تاريخية، فيؤرخ لمصر من خلال قصص أدبائها، ويفسر تاريخ مصر من خلال مضامين الروايات والقصص، وهو بذلك يجرد الأدب من أهم صفاته كشكلٍ فني متميز، وعالم قائم بذاته، ويحوِّله إلى وثائق للتاريخ، ومن ثَم يستخدم منهجًا حديثًا لقراءة التاريخ من خلال الأعمال الأدبية كتفسيرٍ أدبي للتاريخ، وهو يطابق تفسيره الأدبي بالرجوع إلى وقائع التاريخ، بل إنه يوظِّف وقائع التاريخ في نقد التفسير الأدبي له … إلخ»١٠ وأذكر أني كتبت ردًّا على هذه الكلمات: «كان همي في كتابي «مصر في قصص كُتابها المعاصرين» أن أعرض لمصرنا الطموح أبدًا، المنكوبة أبدًا، من خلال انتفاضاتها الثورية، التي ما تلبث أن تواجِه قوى الغدر والخيانة والتآمر، فيسكت صوتها حينًا — قد يطول — قبل أن تعد نفسها لانتفاضة جديدة، وتلك هي الدلالة الرائعة في استمرار الشعب المصري على أرضه منذ فجر الحياة الإنسانية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كانت الصورة البانورامية للحياة المصرية — معتقداتها وعاداتها وتقاليدها — كما انعكست في أعمال كُتابنا المعاصرين، فضلًا عن أدباء الفترات التي عرض لها الكتاب، بعدًا آخر، مهمًّا، حرصت على توضيحه ما أمكن … ذلك كله في إطار علم الاجتماع الأدبي الذي يناقش مسار الحياة في المجتمع من خلال الأعمال الأدبية. والحق أني كنت أطمح — وأنا أعد الآن الجزأين الثاني والثالث من هذه الدراسة المطولة — في الإفادة من الآراء النقدية التي قد تناقش الجزء الأول. كنت أدرك أن العمل الرائد يفتقر — في الأغلب — إلى الكمال، فضلًا عن أن الحركة النقدية كانت متأثرة — ما تزال — بالأفكار التي طرحها رشاد رشدي في كتابه «ما هو الأدب»، والتي اعتبرت العمل الأدبي كيانًا مستقلًّا في ذاته، لا صلة له بشيء آخر، لكنني لم أتوقع — وأعترف — أن يجري قلم أحد المشتغلين بالنقد، وبخاصة الصديق الناقد أحمد محمد عطية، على الورق، بكلماتٍ أعوزتها القراءة المتأنية للكتاب نفسه، فيذكر — على سبيل المثال — أني تناولت الأعمال الأدبية حتى عام ١٩٦٩م، وذلك لم يحدث لسببٍ بسيطٍ؛ أن الكتاب قدِّم إلى مشروع المكتبة العربية قبل ذلك بعامٍ في الأقل، ولعله اعتمد في ملاحظته على تاريخ المقدمة! أما المنهج الحديث الذي يرى أني ابتدعته لقراءة التاريخ من خلال الأعمال الأدبية، فلم يكن الكتاب — كما أتصور — تاريخًا خالصًا، فضلًا عن أن فكرته ليست بدعة، فعلم الاجتماع الأدبي له أساتذته وطلابه في معظم جامعات العالم، وليس ذنبي أن بعض نقادنا لم يسمع به، أو يقرأ عنه بعد. ولست أحب التكرار في التأكيد على نوعية الدراسة، وأما انهماكي في التجميع والنقل، فبافتراض ذلك، فإن «الاختيار» يشير إلى وجهة نظر، وإن كانت موافقتي على تلك الملاحظة قد تضع الخطأ في موضع الصواب، وتتجاهل الجهد الذي أشكر للناقد اعترافه به في استيعاب عشرات الأعمال الأدبية والتاريخية وكتب السياسة وعلم الاجتماع، ثم إفرازها في دراسة تحمل وجهة نظر، عاب البعض أنها كانت — أحيانًا — مرتفعة الرنين، مع أن الناقد قد افتقد وجهة نظري. والمسألة — باختصار — أن مثل هذه الكتب تحتاج إلى نقدٍ لا يكتفي بقراءة المقدمة، والتصفح السريع لبقية الصفحات، ثم يطلق أحكامًا عامة، بلا تدبُّر، ولا موضوعية، وبالمناسبة: فقد عاب عليَّ الصديق الناقد أحكامي العامة … الحادة!»١١
ثم حصل الكتاب — في عام ١٩٧٥م — على جائزة الدولة التشجيعية في النقد الأدبي، وأكد تقرير لجنة الجائزة أن الكتاب في جملته له موضوع واحد، وفكرة مركزية يدور عليها الكتاب كله بشكلٍ قوي متماسك، وأن كثرة التحليلات والمواقف التي تناولها الكتاب أصيلة وجديدة، وأن الجهد والدأب في الدراسة واضحان، والنهج سليم، وقد اكتملت للمؤلف أدواته، وملكها بالفعل، فاستخدمها استخدامًا طيبًا، وخرج بدراسة أهم ما فيها أنها جادة منسقة غير مدعية، أمينة في تحقيق الهدف الذي رسمه لها.١٢

•••

قرأتُ — فيما بعد — مقالات ممتازة، لم تشِر إلى كتابي من قريبٍ ولا بعيد، لكنها أشعرتني، بما تضمنته من وجهات نظر، أني قدمت جهدًا غير مسبوق، وأني لم أجرد الأدب من أهم صفاته كشكلٍ فني متميز، وعالم قائم بذاته. وعلى سبيل المثال، فقد أشار محمود العالم إلى أن «الأدب نص، ولكنه ليس مجرد نص، وإنما هو نص في سياقٍ ذاتي اجتماعي تاريخي.»١٣ وأكد أستاذنا يحيى حقي أن «فن القصة عندنا هو — في الوقت الحاضر — أهم مرجع لمن أراد أن يلمَّ بنوازع مجتمعنا اليوم.»١٤ ولاحظ حليم بركات أن «القارئ يمكنه فهم المجتمع من خلال الروايات المطبوعة أكثر من الدراسات الميدانية المتخصصة، وهي قليلة نسبيًّا في مجتمعنا العربي؛ لذلك عمدت — الكلمات لبركات — إلى الروايات التي صدرت في الوطن العربي، أقرؤها بدقة لأفهم من خلالها هذه المجتمعات التي أجادت تصويرها، وأحسنت التعبير عن واقعها وتطلعاتها، ورسمت — بأمانة — ما عانته من همومٍ. وجدت — مثلًا — أن من السهل فهم المجتمع المصري من روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبد الحليم عبد الله وغيرهم، أكثر من الدراسات الاجتماعية الموضوعة التي كتبت عن المجتمع المصري.»١٥ وكتب السيد يس عن علم الاجتماع الأدبي «ذلك العلم الحديث الذي يحاول عن طريق الاستعانة بالأطر النظرية المتعددة السائدة في علم الاجتماع، دراسة وتحليل وتفسير الظواهر الأدبية المختلفة.»١٦ وأشار السيد يس إلى سلسلة من الدراسات نشرها في مجلة «الكاتب» عرض فيها للمشكلات المنهجية والتطبيقية التي يثيرها علم الاجتماع الأدبي.١٧ ولما عدت إلى تلك الدراسات، وجدت أنها قد نُشرَت في عام ١٩٦٨م، وكنت — حينئذٍ — أضع لمسات الختام في دراستي المطولة، ومع ذلك فإني ربما تصورت في عناوين تلك الدراسات ما يخالف المضمون الذي كنت أنشده، فلم أتوقف أمامها طويلًا، وأهملت مصدرًا منهجيًّا مهمًّا، كان سيفيدني — بلا جدال — في وضع خطة البحث لكتابي الذي لم أكن نسبْتُه إلى علم محدد بعد! وعمومًا، فقد أسعدني وصف السيد يس لعلم الاجتماع في مقالته بأنه «ميدان بكر يحتاج إلى جهود الباحثين العلميين ونقاد الأدب والمهتمين بعلاقة الأدب بالمجتمع»، وأن الأدب ظاهرة اجتماعية، وهو ليس مجرد إلهامٍ كما حاولت النظرية المثالية أن تقنعنا به.١٨ الأدب ظاهرة اجتماعية متطورة وديناميكية، تتطور حسب تطور المجتمعات.١٩ لكنني — في الحقيقة — لم أكن أبحث عن «الوثيقة» في إطلاقها، وإنما كنت أبحث عن «الفن» ابتداءً. وكتب نبيل راغب يؤكد «استحالة الفصل بين الفن والمجتمع لصالح الاثنين معًا.» أما أمير إسكندر، فقد عرض لدراسات علم الاجتماع السياسي، لهؤلاء الذين يتخذون من التجارب الأدبية والفنية مادة أساسية لتلك الدراسات «انطلاقًا من أن السلوك السياسي للإنسان، هو أحد العناصر التي لا غِنى عنها في تلك التجارب.»٢٠ ثم لفت أمير إسكندر الانتباه إلى «مثل هذه المجالات الخصبة» وطالب بالاهتمام «بمثل هذا الفرع من العلوم الاجتماعية.»٢١ كما أسعدني قول فتحي غانم بأنه التقى بدارسين أوروبيين، ناقشوا أعماله من جانب فهم المجتمع، رجعوا إليها ليس باعتبارها نصًّا أدبيًّا، وإنما باعتبارها وثائق اجتماعية وسياسية.٢٢ وأشارت نيللي حنا — في دراستها عن ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية — إلى إفادتها من النصوص الأدبية لفهم السياق الثقافي، ومنها وسائل التعبير التي تستخدمها كل طبقة من طبقات المجتمع. وكان أهم النتائج التي توصَّلت إليها، أن كتب السِّيَر والتراجم — رغم أهميتها — لا تهبنا صورة كاملة عن الماضي.٢٣ الأعمال الأدبية — في تقدير نيللي حنا — تلعب دور المرآة التي تعكس هموم المجتمع، واهتماماته، وتعبِّر عن فئات المجتمع المختلفة، ومدى توظيفهم للكلمات والعبارات؛ بحيث توضع تلك الأعمال بعامة في سياقها التاريخي.٢٤ وأظن أن هذا هو ما حرصتُ عليه، فقد أرجعتُ النصوص الأدبية إلى البيئة الاجتماعية التي أنبتتها، ووجدت فيها — على نحوٍ ما — مصدرًا للتاريخ الاجتماعي، وليس مصدرًا لتاريخ الأدب. وبعد أن كان من غير المقبول تعبير الرواية عن صورة الحياة في المجتمع في بعض فتراته — أذكِّرك بمقال أحمد محمد عطية — لم يعُد مثيرًا التأكيد على أنه «ليس في إمكان المؤرخ الذي يتصدى لدراسة تاريخ الأسرة المصرية وعاداتها وحياتها اليومية، أن يتجاهل الرواية العربية، والثلاثية بصفة خاصة، كمصدرٍ من مصادره التاريخية المتعددة.»٢٥ واعتبر البعض تحديد مفهوم الرواية باعتبارها شكلًا نثريًّا قائمًا على السرد والتخيل، وتوظيف الشخصيات، وإدارة الحبكة … اعتبر ذلك فهمًا ناقصًا؛ لأن ما يميز الرواية هو خصوصيتها الاجتماعية والتاريخية.٢٦

مع ذلك، فإنه إذا كان هذا الكتاب يلتمس صورة الواقع المصري في الأعمال الإبداعية المصرية، فإنه من السخف تصوُّر أن الأدب نقلٌ حرفي للواقع، ثمة الفن الذي يعني الخيال واللغة والتكنيك وغيرها من الأبعاد التي تشكِّل — في مجموعها — عملًا إبداعيًّا.

•••

تبقى بعض الملاحظات، يجدر بي أن أشير إليها:

  • اخترت عام ١٩٩٠م تاريخًا نهائيًّا للإصدارات، فيما عدا استثناءات قليلة، فرضتها طبيعة الكتاب.

  • حاولت — في هذه الطبعة من الجزء الأول، وفي الجزأين الثاني والثالث — أن أفيد من كل الآراء، وبالذات تلك التي كان طابع البريد جسرَ اتصالي بأصحابها، أما الآراء التي لم أقتنع — لأسبابٍ موضوعية بالطبع — بما توصلت إليه، فقد حاولت أن أناقشها، وعلى سبيل المثال، فقد لاحظت فردوس عبد الحميد البهنساوي، أن النقد الذي نما في ظل مقولة أن الشعب هو الأستاذ، ولا ولاية للقلة من المثقفين عليه، يمثِّل أقسى مشكلات الحداثة في الأدب العربي، فقد اختل أسلوب تقييم الأدب والأدباء بما راج من مفاهيم نقدية خاطئة، ولا يخفى علينا الخلط في معايير الحكم على الأدب العربي الذي ساد وتحكَّم، فعلى سبيل المثال، يمكن أن نتأمل ما شاع من تفضيلٍ لأديبٍ على آخر بحكم نشأته الطبقية، وليس بالحكم على إنتاجه الأدبي حكمًا موضوعيًّا مجردًا؛ فالأديب من الطبقة البرجوازية أدبه أقل صدقًا لأنه — ونقلت الكاتبة نصًّا من «مصر في قصص كُتابها المعاصرين» — «لن يكون في مثل صدق الفنان الذي تنجبه الطبقة العاملة. وربما يؤدي افتقار الأديب العامل إلى التعليم الكافي، وقلة محصوله اللغوي، وظروفه النفسية والاجتماعية القاسية … ربما يؤدي ذلك إلى صعوبة تعبيره في حيوية وسلاسة، ولكن الأعمال التي يكتبها أدباء الطبقة العاملة أكثر صدقًا.»٢٧ وقد تفضَّل عز الدين إسماعيل رئيس تحرير مجلة «فصول» — آنذاك — فنشر لي ردًّا على مقال الدكتورة البهنساوي، أشرت فيه إلى أن الكاتبة نقلت الفقرة من كتابي للتدليل على صواب رأيها، وعقَّبَت على ما نقلَتْه بالقول إنه «قياسًا على ذلك انطمست معالم النقد الصحيح، واندثرت معاييره السليمة، وأطلقت التسميات على الأدباء، تقييمًا لهم لا لنتاجهم الأدبي … إلخ.» وأضفتُ القول: أيًّا كان رأي الدكتورة — البهنساوي — في نقدنا المعاصر، فهذا شأنها، وبوسع النقاد — في المقابل — أن يدافعوا عن همومهم واهتماماتهم ووجهات نظرهم، ومدى اقترابها، أو ابتعادها، من رأي الدكتورة البهنساوي، فقد كتبت «مصر في قصص كُتابها المعاصرين»، وقدمته إلى مشروع المكتبة العربية، وحصلت به على جائزة الدولة التشجيعية، بروح الفنان لا بحسِّ الناقد، وكما قلت في مقدمة الكتاب: أنا لا أتخذ موقف الناقد الذي وصفه تشيخوف بأنه أشبه بذباب الخيل الذي يعرقلها في أثناء حرثها للأرض. إن الآراء التي يضمُّها هذا الكتاب هي من قبيل الاجتهادات الشخصية، التي ربما كانت أخطاء محضة. مع ذلك، فقد ظلمتني الأستاذة الجامعية، ونسبت إليَّ ما لم أقله، ولوَت الحقائق ببراعة كنت أرجو لو أنها اتجهت بها إلى المناقشة الموضوعية والتحليل العلمي، وليس إلى اقتطاع الجمل التي تؤيد وجهة نظرها، دون أن يكون لها — في النص نفسه — صلة بما سبق وما لحق. لقد ذكرت في بداية فصل «الطبقة العاملة» أن كاتب الطبقة البرجوازية قد يعبِّر تعبيرًا صادقًا عن الطبقة العاملة بكل ما تنبض به من آلامٍ ومشكلات وتطلعات وأنماط حياة. ثم أبديت تحفظًا بأنه — أي أديب الطبقة الوسطى — لن يكون في مثل صدق الفنان الذي تنتجه الطبقة العاملة … إلخ، إذن فليس في الأمر مصادرة لحق الكاتب من غير الطبقة العاملة، أن يكتب عنها؛ ذلك تعسف لم أذهب إليه، وأرفضه في نفسي، ولعلم الأستاذة الدكتورة فإن كثيرًا من شخصيات أعمالي الفنية ينتسبون إلى الطبقة العاملة وطوائف الحرفيين وصغار الصناع عمومًا، مع أن الصحافة مهنتي منذ بدايات حياتي العملية، فضلًا عن أن ما ذهبت إليه من رأي في كتابي يتحدد في الأعمال التي تتناول بيئات عمالية، وليس العمل الفني في إطلاقه كما أشارت الدكتورة، وحسب اجتهادي الشخصي، فإن الأستاذة كان لها رأيها المسبَق الذي أرادت أن تدلِّل عليه، فتوخت الأسهل، بأن اقتطعت من كلماتي ما يؤكد رأيها. ثم أكدت أن الأدب لا ينبغي أن تحكمه إلا العوامل الجمالية والأسلوبية، وتناست الدكتورة أن علم الاجتماع الأدبي له كراسيه المعترف بها في معظم كليات المعارف الإنسانية بأنحاء العالم، وكما قلت، فإن من حق الأستاذة الجامعية أن يكون لها رأيها في «معالم النقد الصحيح» — والتعبير لها — ولكن ليس من حقها — بالنسبة لي في الأقل — أن تضع اجتهاداتي في غير الإطار الذي اخترته لها.٢٨
  • إن هذا العمل مما لا يطيقه شخص واحد، ومما لا يطيقه كاتب هذه السطور بوجه خاص، ولعلِّي أصارحك بأني كنت أفضِّل لو أن هذا الكتاب جاء جهد جماعة، وليس جهد فردٍ واحد … وإذا كان قد جانبني التوفيق، فمردُّ ذلك إلى أن المطمح صعب، أما إذا صادفني بعض التوفيق، فهو غاية ما كنت أرجوه.

  • وإذا كنت قد ضقت — أحيانًا — باتساع الموضوعات وتشعُّبها، وربما اختلاطها، فإني أفدت — في كل الأحيان — من متعة القراءة، لعشرات الإبداعات التي أضافت إلى وجداني.

  • إن للنقد مفاتيحه التي قد لا أحسن امتلاكها تمامًا، والإبداع عالمي الذي أوثره؛ فإذا طويت صفحات هذا الكتاب — بعد قراءته بالطبع — وقد أصبحت الأعمال التي عرض لها في حوزتك، فيتحقق بذلك تعريف كلينث بروكس للناقد، يمكنك — إذا شئت — أن تضمني إلى زمرة النقاد، وإن كنت أفضِّل لو اعتبرت المحاولة اجتهادَ صوفيٍّ يسعى لأن يلمس رداء معشوقته المقدسة: مصر!

    وبالمناسبة، فإني لم أتوجه — في مقدمة الطبعة الأولى — إلى النقد في إطلاقه. فإذا كان الإبداع هو وجه العملة الأول، فإن النقد — في تقديري — وجه العملة الآخر. النقد كما يقول ماركيث: مستوًى آخر للفعل، وبالتحديد، فإن كل النقاد ليسوا ذباب الخيل الذي تحدث عنه تشيخوف، إنما عنيت النقاد الذين يحملون العمل الفني بما لا يقوى على احتماله، يحددون للفنان مسارات يرَون أنه ينبغي أن يلتزم بالسير فيها، ويفرضون أيديولوجيات وأحكامًا مسبقة، ويخطِّئون من يغادرها، بصرف النظر عن القيمة — المضمونية والشكلية — لعمله الإبداعي. بالإضافة إلى ذلك، فقد حاولت أن أفيد من الآراء التي تتفق مع آرائي، أو تناسب وجهات نظري، لا شأن لذلك بنظرياتٍ قد أختلف معها، أو أيديولوجيات سياسية لا أومن بها. وبالطبع، فقد أفدت من قراءات ووجهات نظر لم يتح لي الاطلاع عليها في الطبعة الأولى، وهو ما دفعني إلى مراجعة معلومات أو اجتهادات، كنت قد تبنَّيتها فيما سبق، وثبت لي خطؤها، أو أنها كانت تحتاج إلى مراجعة.

  • أخيرًا، فقد كانت أيامي — لما يقرب من الأعوام التسعة — موزعة بين القاهرة ومسقط، أقضي في القاهرة عشرين يومًا، أو أكثر، وفي مسقط أربعين يومًا، أو أقل، لا أغادر — أو أكاد — مبنى جريدة «الوطن» في مسقط، أعمل وأعمل حتى أنهي العدد التالي، وأعدادًا أخرى تالية، يتيح لي إنهاؤها فرصة العودة إلى القاهرة، ولا أغادر — أو أكاد — بيتي في مصر الجديدة، أقرأ وأقرأ، وأضع العلامات بقلم الرصاص على الفقرات التي تعينني على ملء البطاقات، وأترك ما قرأت وديعة في يد فتاة جامعية خصَّصت لها راتبًا شهريًّا لتنهض بمهمة ملء البطاقات، ولأن فتاتنا الرقيقة لم تكن على دراية كافية بأسلوب ملء البطاقات فقد نسيت — أحيانًا — ذكر المراجع، أو تاريخ صدورها، وهو ما أعتذر عنه، ثم أضاف توالي السنين ارتباكات مماثلة، ومنها الرجوع إلى أكثر من طبعة، لدور نشر متعددة … وهو ما أعتذر عنه أيضًا!

كنت أمام أحد خيارَين: إما أن أستعين بتلك الفقرات، مع إهمال بعض ضرورات ذكر المراجع، أو أهمل تلك الفقرات تمامًا، ولأن هذا الكتاب أقرب إلى القراءة الإيجابية منه إلى الرسالة العلمية، فقد اخترت الحل الأول … ثم أكرر اعتذاري!

ولأن مدة تجميع مادة الكتاب قد طالت، فإن ما تم جمعه خلال تلك المدة، كان يكفي — بعد التخلص من الكثير — لملء العديد من المجلدات؛ لذلك فقد فضَّلت أن أقتطع من المواد ما يشكِّل كتبًا مستقلة، فصدر «نجيب محفوظ صداقة جيلين» و«آباء الستينيات» و«مصر من يريدها بسوء» و«قراءة في شخصيات مصرية» و«سقوط دولة الرجل» و«مصر المكان» و«مصر الأسماء والأمثال والتعبيرات» وغيرها.

•••

وبعد، فقد حرصت على أن يكون تناولي لمادة هذا الكتاب في مسارٍ تاريخي، لعدة أسباب:

  • أولها: أن التواصل التاريخي هو الأصدق تعبيرًا عن تغيُّر صورة الحياة في مجتمعٍ ما، وتلاحق المد والجزر في الحياة المصرية على وجه الخصوص، وقد تزامن انشغالي بهذا الكتاب، محاولة التعرُّف إلى خصائص البنية الثقافية المصرية، إلى الموروث الشعبي بكل أبعاده وقسماته وملامحه.
  • ثانيها: أن موضوعًا بمثل هذا الاتساع، يصعب أن يجاوز النتوءات والترهلات، ما لم تحكمه ضوابط منهجية، وقد تصورت أن التسلسل التاريخي هو الأقرب إلى تحقيق تلك الضوابط.
  • ثالثها: إن مصر الطموح أبدًا، المنكوبة أبدًا، هي «الشخصية» الأهم في كل ما حفل به هذا الكتاب من شخصياتٍ ونماذج وأنماط ومظاهر حياة، يعلو صوتها بألسنة عرابي والنديم ومصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وغيرهم، إلى جمال عبد الناصر، ويخفت — أو يغيب — بمؤامرات الداخل والخارج، سواء كانوا مستعمرين، أم حكامًا، أم أعوانًا لهؤلاء جميعًا … كلما تبدَّت الألوان — والظلال — في صورة المستقبل، أسدلت الستائر السوداء، بفعل قوًى شريرة ومستعمرة … ولكن الزهرة تنبثق في الصخر، والأمل في الحياة يبين في لحظات كأنها الموت، والمد يعقب الجزر دائمًا، والشخصية المصرية حية، وخصبة، وتدافع عن كينونتها بخصائص متفردة.

ذلك كله، هو ما أرجو أن يحققه الكتاب، بتوالي أجزائه وفصوله.

•••

ولأنه من المسموح أن يشكر الكاتب هؤلاء الذين عاونوه في أداء مهمته، فلعلي أخص بالشكر زوجتي زينب العسال، التي لم تضِق بطول مدة إعدادي لهذا الكتاب، مع أني كنت — أحيانًا — أضيق بذلك، وابنَي أمل ووليد اللذين تحمَّلا انشغال والدهما بأوراقٍ وكتبٍ عن طفولتهما وصباهما. وأوجه الشكر إلى أساتذتي وأصدقائي الذين كان لمناقشاتهم أثرٌ مباشرٌ في إثراء معلوماتي، وتوضيح ما غمض، وأخصُّ توفيق الحكيم ويحيى حقي ومحمود تيمور ومحمد مفيد الشوباشي ونجيب محفوظ وإبراهيم عامر وعبد الحميد جودة السحار وعبد المنعم الصاوي وسيد عويس وحلمي سلام ومحمود البدوي وسيد النساج وثروت أباظة ويوسف الشاروني والطاهر مكي، وأدعو بالرحمة للراحلين، وبطول العمر لمن يمتعهم الله بنعمة الحياة. كذلك فإني أشكر الأصدقاء رفعت السعيد وفتحي حمودة وعطية السيد، الذين أسهموا بمراجعة بعض الاجتهادات الأجنبية فيما تناولت من قضايا، وأشكر أيضًا الأصدقاء الذين سهَّلوا لي مهمة الرجوع إلى المصادر، سواء في مكتباتهم الخاصة أو سواها: الأب جاك جومييه ورفعت السعيد والمستشرق مارك شارتييه وعبد الفتاح الجمل وفهيم محمد شلتوت وسامي خشبة وفوزي سليمان ومحمد صدقي وهارون هاشم رشيد ونبيل راغب ومحمد عبد الفتاح وأحمد حسين الطماوي وإبراهيم سعفان وأحمد عبد الوهاب ورمسيس عوض وعاطف الغمري وفؤاد البلك وفخري فايد وفتحي الإبياري وحسن البنداري وصفوت عبد المجيد وغيرهم ممن لا تسعفني الذاكرة الآن بأسمائهم … بالإضافة إلى الأصدقاء العاملين في دار الكتب المصرية، ومكتبة معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكيين، ومكتبة نقابة الصحفيين.

ويهمني — ختامًا — أن أشكر القارئ الذي دفعني إقباله على الطبعة الأولى من الجزء الأول، إلى مواصلة الجهد لإتمام الأجزاء الثلاثة بصورة حاولتُ أن ترقى إلى مستوى تحمسه.

وأملي أن أكون قد وُفِقت.

محمد جبريل

هوامش

(١) أشار أحمد عبد اللطيف حماد، في بحثٍ قدَّمه إلى ندوة التاريخ بين التسجيل والإبداع الأدبي، التي نظمتها كلية الآداب بجامعة عين شمس (١٩٩٢م) إلى أن العهد الجديد — الجزء الأول من الكتاب المقدس — عبارة عن قصصٍ أدبية، تعبِّر عن الإطار الفكري لليهود في الزمان القديم، إنه يصور الظواهر الدينية والعقلية والاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك، «ولذا فقد لا نكون مغالين إذا قلنا إن العهد القديم يُعَد مرآة صادقة لحياة اليهود في عصورهم الأولى.»
(٢) صدر في ١٩٧٢م، مشروع المكتبة العربية.
(٣) الطليعة، أكتوبر، ١٩٧٣م.
(٤) الهلال، يوليو ١٩٧٢م.
(٥) الجديد، أول يناير ١٩٧٨م.
(٦) المصور، ب. ت.
(٧) حواء، أبريل ١٩٧٣م.
(٨) الإذاعة والتليفزيون، ١٠ / ١ / ١٩٧٦م.
(٩) الزهور، مايو ١٩٧٣م.
(١٠) أحمد محمد عطية، مصر في قصص كُتابها المعاصرين مجلة الإذاعة والتليفزيون ب، ت.
(١١) المرجع السابق.
(١٢) تقارير لجان فحص الإنتاج المقدَّم لنيل جوائز الدولة التشجيعية لعام ١٩٧١م.
(١٣) أريف الأرمنية، يونيو ٢٠٠٠م.
(١٤) يحيى حقي، أنشودة البساطة، مركز الأهرام، ١١٤.
(١٥) مجلة الكويت، العدد ١٠.
(١٦) السيد يس، الشهادات الواقعية للأدباء الشبان، الكاتب نوفمبر ١٩٦٩م، والملاحظ أني أنهيت كتابي قبل نشر تلك الشهادة.
(١٧) المرجع السابق.
(١٨) المرجع السابق.
(١٩) الأقلام، مارس ١٩٧٧م.
(٢٠) الوطن العربي، العدد ٦٣.
(٢١) المرجع السابق.
(٢٢) حسين عيد، حوار مع فتحي غانم، الحرس الوطني، يناير ١٩٨٢م.
(٢٣) نيللي حنا، ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية، الدار المصرية اللبنانية، ٥٢.
(٢٤) المرجع السابق، ٥٣.
(٢٥) محمد عفيفي، من أبحاث ندوة نجيب محفوظ — جامعة القاهرة ١٩٩٠م — ويقول نجيب محفوظ: «لن يبقى من فننا شيء، ولكن قد تبقى مصر لمن يحب مصر، ولمن يحب أن يراجع صفحاتها القديمة. ربما لهذا السبب — وحده — تبقى، أو تقترب من البقاء، الثلاثية، لا كعملٍ فني، ولكن كوجه من وجوه مصر.»
(٢٦) أقلام (مغربية)، العدد السادس.
(٢٧) فردوس عبد الحميد البهنساوي، عناصر الحداثة في الرواية المصرية، فصول، المجلد الرابع، العدد الرابع.
(٢٨) فصول، المجلد الخامس، العدد الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥