مقدمة الطبعة الأولى

بدأتُ مستكشفًا قلقًا، تهزني أفكار آخر كتاب قرأته، ولا أعانق فكرة واحدة أبدًا …

ثم حاولت أن أخرج من حيرتي، أن أبدي رأيًا وأدافع عنه، وكنت أحلم بأن أقدم للناس شيئًا أعظم من مجرد الاتجاه العام، أو التأملات، ولم أغادر — برغم صدق المحاولة — أسوار حيرتي.

وكنت أعلم أن المسألة غاية في التعقيد … فقد قضى فنان عظيم، هو كازنتزاكس، رحلة عمره وفنه، في البحث عن رؤيا شاملة، تفسر الوجود الإنساني: بدأ تلميذًا لنيتشه، لكنه فشل، ثم قضى ستة أشهر في جبل «آثوس» باليونان تحت نظام روحي قاسٍ، وذاق الفشل مرة ثانية، فعاد إلى دراسة نيتشه. ثم اكتشف البوذية، وأحس أنه قد أدرك الطريق الحق، لكن قراءاته للينين حوَّلته إلى شيوعي، وزار الاتحاد السوفييتي لمدة ستة أشهر … لكن ذهنه رفض أن تكون السياسة — وحدها — هي حل مشكلة المصير الإنساني، ولم يصل كازنتزاكس — حتى وفاته — إلى رؤيا واضحة محددة.

ثم حاولت أن أصادق شعب بلادي أولًا، أن أعرف ماضي بلادي وحاضرها، وأستشرف مستقبلها: ألم يقطع شاعر أمريكا الكبير والت وايتمان ثمانية آلاف كيلومتر، للتعرف على مدن بلاده وقراها وسواحلها وجبالها ووديانها؟ ألم ينصرف فلوبير — في استغراقٍ عجيبٍ — إلى قراءة عشرات المجلدات، لكي يلم بالبيئة الاجتماعية والجغرافية لأحد أبطال قصصه؟ ألم يضع زولا الخطوط الرئيسة لشخوص رواياته في تجواله بشوارع باريس وأزقتها، بيده كراسة يدوِّن فيها ملاحظاته؟ ألم يذهب تشيخوف العظيم إلى جزيرة سخالين في سيبيريا — وكان مصدورًا ينزف الدم من رئتيه — ليعاشر أبناء الجزيرة المسكينة، ويتعرف إلى مشكلاتهم؟

•••

ظلَّت أمنيتي — لفترة طويلة — أن أقرأ لواحدٍ من أدبائنا الذين طالما قدموا لنا نتاجهم من قصة ورواية، وعبَّروا عن مراحل متباينة من حياة المجتمع المصري التي تضرب آلاف السنين في أعماق التاريخ. أن أقرأ للحكيم ومحفوظ والسحار وتيمور والبدوي وحقي وغيرهم، قصص القصص الذي كتبوه، ومدى تأثُّرهم بالمرحلة من حياة المجتمع التي عاشوا فيها، وعبَّروا عنها.

•••

ظلَّت أمنية قراءة مثل هذه الدراسة في ذهني لفترة طويلة، ثم استحالت — لا أدري كيف — إلى أمنية للكتابة، أن أصوِّر من خلال تجاربي وقراءاتي وخبرتي — برغم ضآلتها جميعًا، بل وأخشى أن أصدك عن القراءة لو قلت: برغم افتقار نفسي المتشوفة إليها — أن أصور المرحلة من حياة المجتمع التي عبَّر عنها كل أديب في مجموع أعماله، ثم كيف استخلص الأديب من ثنايا التجربة والمعاناة العميقة المتصلة، موضوعات قصصه.

قضيتُ سنواتٍ خمسًا، أقرأ ما كتبه هؤلاء الأدباء، وما كُتِب عن الفترات الزمنية التي قدَّموا فيها نتاجَهم إلى المجتمع، فقرأ وتأثَّر بما قدَّموه. ثم حاولتُ أن أثير حوارًا في نبض هذه الأعمال، وكان ذلك الحوار من العوامل الهامة في استخلاص بعض الحقائق، التي لم أكن لأصل إليها لو اكتفيتُ بما قرأت.

ولم يكن اختياري لهؤلاء الأدباء اتفاقًا ولا مصادفة، وإنما كان قوام اختياري هو تكامل التعبير عن المجتمع المصري ومشكلاته، في مجموع ما أضاف هؤلاء الأدباء إلى المكتبة العربية من مؤلفاتٍ. وبمعنًى آخر، فإن الأعمال التي عنيت بتناولها، هي التي تدور حول محورٍ رئيسٍ: الوضع الاجتماعي في الفترة التي تنبض بها أحداث العمل الفني.

•••

وثمة حقيقة يجب أن نتفق عليها، هي أن النقد الذي يقيس الزوايا والأبعاد، ثم يصدر أحكامًا، ويدلِّل عليها، ليس محتوى هذه الدراسة ولا غايتها، أنا لا أتخذ موقفَ الناقد الذي وصفه تشيخوف بأنه أشبه بذباب الخيل الذي يعرقلها في أثناء حرثها للأرض. إن الآراء التي يضمُّها هذا الكتاب، هي من قبيل الاجتهادات الشخصية التي ربما كانت أخطاء محضة.

وليس يعنى هذه الدراسة — أيضًا — أن تقف أمام القضايا الأدبية العامة: قضية الشكل والمضمون — مثلًا — وما يتفرع عنها من قضايا الفن للفن، والفن للحياة، وإن كان الفن — في أبسط تعبيرٍ — شكلًا يحتوي على مضمون، والشكل مهم جدًّا؛ لأنه بدون الشكل لا يكون هناك موضوع فني. الشكل هو الذي يفرق بين شكوى في رسالة، وقصة في رسالة! لكن عناية الفنان بالشكل، دون المضمون الذي يعبِّر عنه عمله الفني، هو من قبيل رسم اللوحات التجريدية، ليس فيها سوى خطوط وألوان.

وقد تعمَّدتُ اختيار بعض الفقرات بصورة مطولة، من هذا العمل أو ذاك؛ لأن العمل الفني — بأسلوبه ونهجه الفني — يؤرخ لعصره، ويبرز قسماته وملامحه، وعلى حد تعبير سيزا قاسم، فإن «اللغة نفسها تحمل في طياتها أيديولوجية العصر» (سيزا قاسم، روايات عربية، قراءة مقارنة، شركة الرابطة بالدار البيضاء، ٦٣).

•••

إن تاريخ مصر الحديث يمكن أن ينقسم إلى مراحل أربع: أولاها الحملة الفرنسية وعهد محمد علي، وثانيتها عهود خلفائه إلى عام الاحتلال البريطاني (١٨٨٢م)، وثالثتها عهد الاحتلال إلى قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، أما المرحلة الرابعة فنحن نعيشها الآن.

وقد اخترت أعمال الكاتب العظيم نجيب محفوظ، لتكون أرضية لفصول الكتاب جميعًا، ذلك لأن الفترة التي عنيت بها هذه الدراسة — منذ عام الاحتلال إلى الآن — تتبدَّى واضحة في بين القصرين — ١٩١٧م وما قبلها — إلى السمان والخريف — ١٩٥٢م وما بعدها — ثمة إرهاصات للأحداث التي طرأت على المجتمع المصري قبل الحرب العالمية الأولى، ترجع إلى عام الاحتلال، وثمة استشراف إلى أدب المستقبل: شكله، ومضمونه، وموقف الفنان أمام عملية التحول الاجتماعي الهائلة التي نحياها الآن.

أما لماذا اخترت عام الاحتلال بداية للدراسة، فلأن الاحتلال — في رأيي — كان مقدمة طويلة ليوم الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٥٢م. وسبب آخر، هو أن الحقل الذي غرست فيه القصة المصرية بذورها، يجد بدايته الحقيقية في تلك الفترة.

وأملي أن أكون قد وُفقت.

مصر الجديدة، يناير ١٩٦٩م.

محمد جبريل

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥