القصة … هذا الديوان القديم للعرب

يُعَد أوجست كونت هو أول من استخدم كلمة «الاجتماع» في عام ١٨٣٩م، وإن أدرك منذ ١٨٢٢م — مع سان سيمون — ضرورة قيام هذا العِلم الجديد. كان يريد أن يسميه «الفيزياء الاجتماعية»، لكنه عدل عن هذه التسمية بعد أن بدأ العالِم البلجيكي أدولف كتليه في إجراء دراساتٍ إحصائية عن المجتمع، وسمَّى محاولته «الفيزياء الاجتماعية».١ ثم تعدَّدت تعريفات علم الاجتماع بتعدُّد علمائه ودارسِيه، وبتعدُّد النظريات والمذاهب التي طُرحَت في مجالات بحوثه المختلفة.
وقد جاوز علم الاجتماع — فيما بعد — أبعاده النظرية؛ عُني بظواهر الحياة، وتطوراتها، ومشكلاتها الآنية. خرجت من معطفه علومٌ جانبية لم تكن موجودة، ولا وردت في أذهان علماء الاجتماع القدامى، ثمة علم الاجتماع النفسي، وعلم الاجتماع الأسري، وعلم اجتماع التربية، وعلم الاجتماع الديني، وعلم اجتماع الشيخوخة، وعلم الاجتماع الريفي، والحضري، وعلم الاجتماع الصناعي، وعلم الاجتماع الاستعماري، وعلم الاجتماع السياسي، وعلم الاجتماع الأدبي. وإذا كان علم الاجتماع الأدبي قد وفد متأخرًا نسبيًّا، بل إن التحليل الاجتماعي للأدب لم يحقِّق سوى قدرٍ ضئيلٍ من التقدم مع بداية القرن التاسع عشر،٢ فإنه قد فرض نفسه — بقوة، فيما بعد — في الدراسات والرسائل الجامعية.
علم الاجتماع الأدبي — كما يقول لوسيان جولدمان Lucien Goldmann — ليس مجرد دراسة المؤثرات الاجتماعية في العمل الأدبي، أو الاستدلال عن طريق العمل الأدبي على صورة المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب، ومدى تأثُّره به، وتفاعله معه، أو مدى صدق الكاتب في التعبير عن أهم مظاهر مجتمعه وأشكاله؛ إذ إن هذه كلها أمورٌ بسيطة ميسَّرة، ليست جديرة بأن يعنى بها علم الاجتماع؛ لأنها لا تحتاج — في واقع الأمر — إلى تخصُّص دقيق، أو دربة معينة، بمناهج وفنون علم الاجتماع.٣

•••

الثابت — تاريخيًّا — أن أول معالجة حقيقية ومنظمة للعلاقة بين الأدب والمجتمع، قام بها الفيلسوف والناقد الفرنسي هيبوليت تين Hippolyte Taine (١٨٢٨–١٨٩٣م)، وإن سبقه إلى ذلك فلاسفة ومفكرون في عصور سابقة، بدءًا بأفلاطون (٤٢٧–٣٤٧ق.م.) الذي كان ينظر إلى الأدب باعتباره انعكاسًا للمجتمع، «إن هؤلاء الذين يروون القصص هم الذين يحكمون المجتمع.» ولكن التحليل الاجتماعي للأدب — نتيجة للتغيُّرات التي طرأت على الحياة الاجتماعية في القرنَين السابع عشر والثامن عشر — كان دافعًا لأن يقدِّم هيبوليت تين معالجته، وسنعرض لها في فقراتٍ تالية.
إن الأدب ظاهرة اجتماعية، وعلم الاجتماع الأدبي تَخاطب مع تلك الظاهرة، ودراسة لها، وتبيُّن لصلاتها بالسياسة والصناعة والتجارة، وغيرها من مناحي الحياة، وكما يقول ت. إس. إليوت، فمهما قيل في استقلال الفن، ومهما اجتهد أهله في الاكتفاء به غاية في ذاته، فإنه لا بد أن يمس الخُلق والدين والسياسة، على الرغم من استحالة تحديد الطريقة التي يمس بها هذه المسائل.٤
الفن — كما يقول لوكاتش — ليس إلا انعكاسًا صادقًا للحياة الإنسانية، بكل ما يحكمها من عوامل البيئة ومكوناتها، يضيف بليخانوف أن العقلية الاجتماعية لعصرٍ معين، تخضع لعلاقات هذا العصر الاجتماعية، ولا يتبدَّى هذا الأمر واضحًا في أي مكان أكثر مما يتبدى في تاريخ الأدب والفن، وثمة قول أفلاطون: «الفن نقل للواقع.» وقول تشيرنيشفسكي: «الفن تعبير عن الحياة.» وقول أرنست فيشر: «الفن رؤية عميقة للواقع، ولازم لتغيير العالم.» وقول فلاديمير كاربوسكي: «لا يمكن لأحدٍ أن ينكر أن أي عمل فني، إنما ينبثق عن الواقع، وأن له تأثيره على المجتمع.» وقول ماتيس: «كل الفنون تحمل بصمة الحقبة التاريخية التي أنجبتها، إلا أن أعظم الفنون هي تلك التي تظهر عليها هذه البصمة بعمقٍ أكبر.» وقول ريموند فيرث: «إن علينا ألَّا نقنع بدراسة القيم والمشاعر والوجدانات العامة فحسب، وإنما يجب أن ندرس — إلى جانب ذلك — الأوضاع الاجتماعية والثقافية التي لابست تلك الإبداعات الفنية، في ذلك المجتمع المعين، في تلك الفترة بذاتها.»٥ وقول ريتشارد هوجارت: «بدون الشواهد الأدبية الخصبة، يفقد دارس المجتمع حسَّه بثراء وخصوبة المجتمع.»٦ وقول جولدمان: «إن الرواية كانت في الجزء الأول من تاريخها سيرة حياة وعرضًا لمجتمع»؛ لذلك كان من الممكن دائمًا بيان أن العرض الاجتماعي يعكس — بدرجة أو أخرى — المجتمع في هذه الفترة، وقول روجر ب. هينكل إن الرواية «وسيلة لفهم البشر ومعايشتهم.»٧ وقول كولن ولسن: «إن تأثير الرواية على توالي العصور أكبر بكثيرٍ من تأثير نظريات ماركس وداروين وفرويد مجتمعة على الحضارة الإنسانية.» أما حسين فوزي — هذا الذي غاب عن حياتنا دون أن ندرك قيمة معطياته — فهو يرى أن الفن «صورة صادقة للمجتمع، بل هو الصورة الأجلى لتجارب الحضارة في عصر ما، تطالع فيها روح المجتمع مهما خلَّى به الزمن، كأنك تقرأ في كتاب مفتوح.»٨ والدلالة واضحة في معادلة محمود تيمور: «العمل الفني = كاتب + مجتمع + تعبير.»

•••

إن الأدب ظاهرة اجتماعية، وموضوعه — بعامة — هو الإنسان في العالم، وكما يقول لوسيان جولدمان، ﻓ «بقدر ما تتجه الأعمال الأدبية العظيمة إلى ما هو أساسي في الواقع الإنساني، في عصر من العصور، فإن دراسة هذه الأعمال يجب أن تزوِّدنا بمؤشراتٍ قيِّمة فيما يتصل بالبنية الاجتماعية النفسية للأحداث في هذا العصر.»٩ ويصف العقاد الروائيَّ أو القاصَّ بأنه ناقدٌ اجتماعي، ويقول جولدمان في كتابه «نحو علم اجتماع للرواية»: «إن النقد يصعب أن يقتصر على جمع الوقائع وتحليلها، ومهما كانت هذه الوقائع واضحة وحاسمة، فإنه يجب ربطها بصورة ديالكتيكية بكلية اجتماعية-تاريخية أكثر شمولًا. وفي تقدير روللو ماي أننا لو شئنا التعرف إلى المزاج النفسي والروحي لأية مرحلة تاريخية، فلا شيء أفضل من أن نتأمل فن تلك المرحلة. من هنا، يبدو الأثر الأدبي كلحظة فريدة ومميزة في مسارٍ تاريخي، يكشف عن أزماته وثرائه.» وحتى لا تقتصر استشهاداتنا على الاجتهادات الغربية، فلعلِّي أشير إلى تعريف طه حسين للأدب بأنه «مرآة لحياة العصر الذي يُنتَج فيه؛ لأنه إما أن يكون صدًى من أصدائها، وإما أن يكون دافعًا من دوافعها؛ فهو متصل بها على كل حال، وهو مصوِّر لها على كل حال.»١٠ الأديب ظاهرة اجتماعية — والقول لطه حسين — فلا يمكن أن يكون أدبه إلا ظاهرة اجتماعية.١١ وقد أرجعت غالبية الكتابات التي تناولت العلاقة بين الأدب وتأثُّره بالمجتمع، وتأثيره في المجتمع، محاولة المفكر الإيطالي جان بابتست فيكو Jean Baptiste Vico (١٦٦٨–١٧٤٤م) تقديم علم جديد يُعنى بدور الأدب في الحضارات، ويؤكد أن «المجتمع لا يقدم ببساطة مسرحيات وقصائد وروايات، لكنه ينمي أدبًا وأدباء يستخلصون أعمالهم ومهاراتهم الفنية ونظرياتهم منه.»١٢ ويذهب جي موريللي إلى أن مدام دي ستايل Madame De Stael (١٧٦٦–١٨١٧م) كانت أول من نبَّه إلى أهمية العلاقة بين الأدب والمجتمع، وبين الأدب والسياسة، في كتابها «الأدب وعلاقته بالأنظمة الاجتماعية». كان تقديرها أن «أدب أي مجتمع يجب أن ينسجم مع المعتقدات السياسية السائدة فيه»، وأنه «يجب أن يصور التغيرات المهمة في النظام الاجتماعي، خاصة تلك التغيرات التي تدل على الحركة نحو أهداف الحرية والعدالة.» أما الفيلسوف الفرنسي لوي دي بونال Louis de Bonald فقد أكد أنه بوسع المرء — من خلال القراءة الدقيقة لأدب أمة ما — أن يتعرَّف إلى بانورامية حياة هذه الأمة، أي أن الأدب يعكس تصويرًا لحياة الشعوب التي تبدعه.١٣ ولخَّص دي بونال ذلك المعنى في قوله: «إن الأدب هو التعبير عن المجتمع.» ثم تعدَّدت الاجتهادات، وتوزعت، وإن تلاقت جميعها في التأكيد على أن الأدب — في بعض أبعاده، إن لم يكن أهم تلك الأبعاد — هو مرآة عاكسة لأحوال المجتمع وتطورات الحياة فيه، بل إن العلاقة مؤكَّدة بين الشكل الروائي وبِنية البيئة الاجتماعية التي ظهرت فيها الرواية.
والحق أن مقولة «الأدب تعبير عن المجتمع» كانت — منذ القدم — وما تزال تحصيلَ حاصل، ورغم توالي المذاهب الفلسفية والأدبية والفنية، فإنه من الصعب — كما يقول جي موريللي بحق — أن نناقش الأدب بمعزلٍ عن اليونان القديمة، أو موسيقى لولي وفرنسا لويس الرابع عشر، أو تصوير ديلاكروا وفرنسا ١٨٣٠م.١٤ بل لقد اعتبر البعض أن القصص «أحد الأساليب التي حملها القرآن ليحاجَّ بها الناس، وليقطعهم عن الجدل والمماحكة، شأنه في هذا شأن ما جاء في القرآن من أساليب الاستدلال والمناظرة والتعجيز والوعيد والتهديد.»١٥ ولا شك أن علم الاجتماع الأدبي قد حقق أقصى إفاداته من الأعمال الأدبية في معطيات المدرسة الطبيعية، التي عُنيت بتأثير البيئة، وقوانين الوراثة … إلخ، وأشير إلى أعمال روائيِّي القرن التاسع عشر: فلوبير وبلزاك وزولا في فرنسا، وديكنز في إنجلترا، وديستويفسكي وتشيخوف وتولستوي في روسيا، وعشرات غيرهم كانت أعمالهم تعبيرًا عن المجتمعات التي عرضت لها في زمان بذاته، وأمكنة بالتحديد، وعلى سبيل المثال، فإن بلزاك لم يكن يستطيع — والقول لبيرسي لوبوك — أن يفكر في شخصياته بمعزلٍ عن البيوت التي يقطنونها. إن تخيُّل مخلوق بشري في أعمال بلزاك، إنما يعني تخيُّل المدينة، الحي، الشارع، البناية، الحجرة … إلخ، ويقول ألان سوينجوود إن الرواية — الجنس الأدبي الرئيس للمجتمع الصناعي — هي في واقعها محاولة صادقة ومخلصة لإعادة خلق العالم الذي تتجسد فيه علاقة الإنسان بأسرته، وبالسياسة، وبالدولة، وهي تصور دور الإنسان في المستويات المختلفة للعلاقات في المجتمع، وأنماط الصراعات والتوترات التي تنشأ بين الجماعات والطبقات الاجتماعية.١٦ بل إننا إذا جردنا الرواية من جوانبها الفنية والجمالية، ونظرنا إليها من الجانب الوثائقي البحت، أي لو اعتبرناها وثيقة، فسنلحظ أنها تعالج الكثير من الأبنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.١٧ وقد أكد إنجلز أنه استطاع أن يفهم المجتمع الفرنسي من روايات بلزاك، أكثر مما فهمه أو عرفه من كتب التاريخ وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد. لقد تمكَّنت روايات بلزاك — في تقديره — من فهم تاريخ فرنسا، في الفترة ما بين ١٨١٥–١٨٤٨م، أكثر بكثير من كافة الكتب العلمية الصادرة في نفس المرحلة، كما أكد إنجلز أنه تعلم الثورة الفرنسية من فلوبير لا من المؤرخين. وإذا كان المؤرخون وعلماء الآثار قد عابوا على فلوبير مآخذ كثيرة في رواية «سالمبو»، من بينها اختراع شخصيات، وتحريف شخصيات أخرى، فإن سالمبو هي الصورة الحية بعدُ لحضارة قرطاجنة، بينما بهتت اجتهادات المؤرخين وعلماء الاجتماع. ويشير روبرت د. جاكسون إلى أنه ليس في وسع المؤرخين أن يكتبوا عن صورة العالم في تسعينيات القرن التاسع عشر، أفضل مما تقدمه روايات هنري جيمس، وأن أفضل تعرف إلى طبيعة الشعب الروسي نجده في روايات تورجنيف وديستويفسكي. وبتعبيرٍ آخر، فإن مراحل التاريخ ربما تكون أقرب إلى الفهم، من خلال الأعمال الأدبية، وليس من خلال النصوص العلمية التي قد تعاني الجفاف.

•••

ولعل أبرز المحاولات في مجال الأدب الإنجليزي، تلك الدراسة المتميزة التي أعدَّها هيبوليت تين H. Taine، وحاول من خلالها التوصل إلى مقولة إن العمل الأدبي يتحدد بواسطة جملة من العوامل تمثِّل الحالة العقلية العامة والظروف المحيطة، وحدد ثلاثة تأثيرات في عملية الإبداع الفني هي: الجنس، والبيئة، والعصر. أما الجنس فهو يعني مجموعة من الأفكار عن الوراثة والأرض والمناخ، وأما البيئة فهي تشمل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافة، وأما العصر فهو يركز على جوانب الاستقرار والتغير في الحضارة.١٨ بل إن هيبوليت تين يرى أن الفنان كلما كان قادرًا على التعامل مع فنِّه بعمقٍ اقترب أكثر من عبقرية العصر الذي يعيش فيه، بينما لا يستطيع الفنان العادي أن يكون معبِّرًا عن عصره، على الرغم من أن عمل مثل هذا الفنان قد يحمل درجة من الصدق تجعله معادلًا للوثيقة الاجتماعية.١٩ ويرى ألان سوينجوود Alan Swingewood أن علم الاجتماع والأدب يشتركان في عاملٍ مهم، هو النظرة الشاملة؛ فجوهر علم الاجتماع الدراسة العلمية الموضوعية للإنسان في المجتمع؛ أي دراسة النظم الاجتماعية والعمليات الاجتماعية؛ بحيث يجيب عن أسئلة مثل: كيف يكون المجتمع ممكنًا؟ وكيف يعمل؟ ولماذا يستمر في الوجود؟٢٠ أما الأدب، فهو يُعنى — هو الآخر — بالعالم الاجتماعي للإنسان، وبتكيُّف الإنسان مع هذا العالم، وبرغبة في تغييره.
إن علم الاجتماع والأدب نظامان معرفيان يختلف كلٌّ منهما عن الآخر بصورة مؤكدة، لكنهما يتفقان في إمكانية دراسة المجتمع، وعلاقته بالنص الأدبي، وخصائصه الجمالية والفنية.٢١ العلاقة بين الأدب وعلم الاجتماع إذن أقرب إلى «التلاحم» أو «العضوية»، وإن كنت أوافق على التحفظ بأن الأدب غير مطالب بأن يترك إبداعاته الفنية والجمالية «ويلهث وراء القضايا والمشكلات الاجتماعية، فإذا كان الهدف الإنساني واحدًا بالنسبة لكلٍّ من علم الاجتماع وعلم الأدب، فإنهما يختلفان — فيما بينهما — في الوسيلة والمنطق والمنهج. صحيح أنهما يستفيدان من إنجازات بعضهما البعض في توسيع الأفق وتفتيح الذهن، لكن هذا لا ينفي وجود الاختلافات التي تجعل كلًّا منهما فرعًا متميزًا من فروع المعرفة الإنسانية.»٢٢ لذلك فإني أوافق على الرأي بأن التعامل مع النصوص الأدبية بوصفها مصدرًا للمعلومات إطلاقًا، قد يفرض على الباحث منهجًا محددًا؛ بحيث يتجاهل ما يجب أن يتميز به الأدب من استقلالية.٢٣ الروائي لا يكتب تاريخًا، وإلا فماذا يكتب المؤرخ …؟ الروائي يفيد من المعلومة التاريخية، من بعض أحداث التاريخ، في كتابة عملٍ روائي يشكِّل التاريخ بعضًا قليلًا أو كثيرًا من ملامحه، لكنه — بالتأكيد — لا يسم العمل كله، وليس من المطلوب كذلك أن يتحوَّل الفنان إلى عالم اجتماع، ذلك أبعد ما يكون عن الفن وعلم الاجتماع في آنٍ، بل إني أرفض تعريف صمويل جونسون للرواية بأنها «حكاية صغيرة عن الحب»، وأوافق فلوبير على عدم الإسراف بالمضمون الاجتماعي، مقابلًا لطمس ما تبقى من عناصر أخرى ربما اشتمل عليها العمل الإبداعي. المجتمع هو البُعد الأساس في العمل الفني، لكنه كل الأبعاد في علم الاجتماع. الفن تحكمه عوامل اجتماعية ونفسية وتاريخية ولغوية وجمالية وتشكيلية وغيرها، أما علم الاجتماع فإنه يتخذ منهجية علمية صارمة، يحاول التوصُّل من خلالها إلى نتائج محددة، حول بعض الظواهر الاجتماعية في موقعٍ ما، في زمنٍ ما. إن مهمة علم الاجتماع الأدبي هي «أن يقيم الروابط بين ما يصوِّره كاتب أدبي معين من شخصياتٍ ومشكلاتٍ ومواقف خيالية في أعمال روائية مثلًا، وبين الظروف التاريخية، أو المناخ التاريخي والاجتماعي الذي استمد منه هذا الكاتب الأدبي شخصياته ومواقفه.»٢٤

•••

العمل الفني — في تقدير كورييه — وثيقة اجتماعية، والرواية — كما يصفها بيرسي لوبوك — «صورة للحياة.»٢٥ وهي في تقدير أرنست بيكر «تفسير للحياة الإنسانية من خلال سردٍ قصصي نثري.» وهي — كما يقول ستاندال — «مرآة تسير في الشوارع.» وهي — في بعض التعريفات — انعكاسٌ مدرك وواعٍ للواقع الموضوعي. والروائي، في وصف الأرجنتيني أرنستو ساياتو: «رجل سياسة؛ فهو يعكس الوجدان العام، وهذه هي السياسة.» ويقول جراهام هو: «إن أي نقدٍ للرواية يهمل روابطها بالواقع التاريخي هو نقد يزيِّف القيم الحقيقية للرواية، هو نقد يفرِّغ ما يجب أن يكون ملآنًا.»٢٦ بل إن ميشيل بوتور — وهو من رواد الرواية الجديدة — يرى أن «الرواية هي أداة بحث»، وهو رأي — كما ترى — إلى جانب اجتماعية الرواية، وليس ضدها. ومع أن ماريو فارجاس يوسا معجب بالإبداعات المحلِّقة في الفانتازيا لبورخيس، فإنه لم يجد في عالم بورخيس انفصالًا عن الحياة، أو عن السلوكيات اليومية، ويؤكد يوسا أنه ما من عملٍ قصصي أدار ظهره إلى الحياة، أو كان عاجزًا عن إلقاء الضوء على الحياة قد حقق البقاء مطلقًا.٢٧ بل إن التجديد في التقنية والأسلوب لا يعني إهمال البعد الاجتماعي في الفن، حتى الواقعية السحرية التي تزخر بالغرائبية، ليس فيها سطر واحد — على حد تعبير جارثيا ماركيث — غير قائمٍ على أساسٍ من الواقع.٢٨ إن إبداعات ماركيث ويوسا وأراجيدس وفوينتيس وبورخيس وغيرهم، تعرِّي الواقع السياسي والاجتماعي الذي تحياه بلادهم، بالإضافة إلى الأزمات التي يعانيها العالم جميعًا.
أما القول بأن البُعد الاجتماعي للأدب قد أصبح — في ضوء النظريات النقدية الحديثة — على هامش الفكر النقدي، وأن الرواية الاجتماعية الواقعية — تحديدًا — فقدت ملامحها بسبب تيار الحداثة، ففقدَ الأدب قرَّاءه بالتالي،٢٩ فهو يحتاج إلى مراجعة. وإذا كانت الرواية — في تقدير الكثير من المبدعين والنقاد المحدَثين — بناءً اختلاقيًّا، إبداعيًّا، وليس مجرد مرآة تعكس صورة الواقع، فإن ذلك لا يلغي أن الفترات — منذ ظهور الرواية كنوعٍ أدبي، والقصة القصيرة كنوعٍ آخر تالٍ للرواية — ينطبق عليها إلى حدٍّ بعيد مقولة «الرواية مرآة المجتمع.» نحن نجد تطبيقًا لذلك في أعمال الواقعيين الطبيعيين، وكُتاب الواقعية باختلاف مراحلها. والأمثلة لا تعوزنا، وبتعبيرٍ محدد، فإن القول بأن البناء الروائي ليس مجرد مرآة تعكس صورة الواقع لا ينسحب على تاريخ الرواية في إطلاقه، لا ينسحب على تاريخ الرواية جميعًا، بل إنه على الرغم من أن التيارات الأدبية والنقدية الحديثة ترى أن غرض الرواية ليس وصف المجتمع، فإن الأدب — كما تذهب تلك التيارات — «أصبح، في بعض الحالات، التعبير الحقيقي الوحيد فعلًا، إن لم يكن المباشر، عن مشكلات المجتمع الملحة.»٣٠ وعلى حد تعبير دافيد لودج فإننا نعيش في عصر الأنماط الثقافية التي تكثر فيها المذاهب الأدبية، دون أن يتغلب أحدها على الآخر، فينسب العصر إليه، كما كان يقال عن الكلاسيكية أو الرومانتيكية.٣١ ولعلي أشير إلى قول جيمس هينجز إنه على الرغم من انتقاد المبدعين المحدَثين في أمريكا اللاتينية لمزاعم الواقعية! فإنهم «لا يزالون يطمحون في إنجاز ما يحاول الروائيون — بوجه عام — تحقيقه؛ ألَا هو تصوير العالم المُعاش.»٣٢ وحتى الآن، فإن الغربيين يفهمون روسيا من خلال أعمال ديستويفسكي الروائية التي تعرض للحياة الروسية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ولعل قراءة قصص تشيخوف — كما يقول هنري تروايا — تماثِل القيام برحلة في أرجاء روسيا، في أواخر القرن التاسع عشر برفقة دليلٍ رابط الجأش، صافي التفكير، يطلعك على كل ما هنالك، لكنه يتجنب التعليق.٣٣
وإذا كانت بعض الاجتهادات تذهب إلى استباق الرواية العربية للرواية الأوروبية، دليلها أن استخدام التكنيك المتعدِّد الطبقات، وتفتيت الزمن، والاهتمام بحياة الفرد في المجتمع — وهي كلها من الاهتمامات الرئيسة للرواية المعاصرة — كل هذه موجودة في ألف ليلة وليلة،٣٤ فإن الرواية — كما يقول نجيب محفوظ — تقوم أصلًا على معالم اجتماعية راسخة. وصورة المجتمع العربي في أذهان الكثيرين من المثقفين الأجانب الذين لم يُتَح لهم زيارة المنطقة، هي حواديت ألف ليلة التي تُرجمَت إلى اللغات العالمية، كأثرٍ عربي أدبي متفرد، وما تنبض به من خوارق الحكايات والأساطير والعادات والتقاليد والمعتقدات والغرائب، ولعلنا نذكر حديث فيديل كاسترو إلى جمال عبد الناصر عن التماسيح التي تسبح في نيل مصر. إن المئات من الأعمال الروائية والقصصية التي تصدرها المطابع «بلغتها، وبوصفها لحياة الناس وأحاديثهم ومعاملاتهم، تصلح — فيما بعد — أن تكون مرجعًا تاريخيًّا للعهد الذي نشأت فيه؛ فبعض القصص الحاضرة عندنا التي قد لا يرضى عنها بعض النقاد، أو على الأقل يدور حول قيمتها الفنية جدلٌ غير قليل، قد يسفر التحقيق عن أنها ستصبح — فيما بعد — المرجع التاريخي الذي يعين الباحث على دراسة تطور مجتمعنا وجيلنا الحاضر.»٣٥ وعلى سبيل المثال، فإن هز القحوف في شرح قصيد أبي شادوف للشيخ يوسف الشربيني — وقد عرضت لها في الجزء الأول — من أهم مصادر كتابة تاريخ الفلاح المصري في القرن التاسع عشر، أما روايات نجيب محفوظ، فهي وثائق بالغة الأهمية للتعبير عن المجتمع المصري — في أبعاده المختلفة — منذ مطالع القرن إلى أواخر الثمانينيات، ولا يخلو من دلالة قول نجيب محفوظ عن بواعث توقُّفه بعد قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م: «حينما ذهب المجتمع القديم، ذهبتْ معه كل رغبة في نفسي لنقده، وظننت أني انتهيت أدبيًّا، ولم يعُد لديَّ ما أقوله أو أكتبه، وأعلنتُ ذلك وكنت مخلصًا فيه، ولم يكن الأمر دعاية كما ظن البعض، وظللت على هذه الحالة من سنة ١٩٥٢م حتى سنة ١٩٥٧م، لم أكتب كلمة واحدة، وكنت أعتبر المسألة منتهية تمامًا حتى وجدتني أكتب «أولاد حارتنا»، وأنشرها سنة ١٩٥٩م.»٣٦

لقد استطاع الأدب المصري القديم أن يعكس صورة الحياة في مصر الفرعونية، من خلال الإبداعات التي وصل إلينا أقلُّها. مع ذلك، فإن علماء الآثار أفادوا من تلك الإبداعات في فهم طبيعة الحياة في مصر الفرعونية، والقول بأن الشعر ديوان العرب ينطوي على فهمٍ عميقٍ لصلة الأدب بالمجتمع، بسوسيولوجيا الأدب، من قبل أن تنشأ التسمية بمئات الأعوام. كان الشعر هو مرآة التطور في حياة الشعب العربي منذ أولى القصائد في تاريخ الإبداع العربي، وثمة إشارة إلى أن القُصَّاص في الجاهلية كانوا يصحبون المقاتلين، يحرضونهم على القتال، ويحمسونهم؛ فالقصة إذن ديوان قديم للعرب.

هوامش

(١) علم الاجتماع، ١٣.
(٢) المرجع السابق.
(٣) محمد علي الكردي، ألوان من النقد الفرنسي المعاصر، هيئة قصور الثقافة، ١٣.
(٤) محمد فتوح أحمد، تذوق العمل الأدبي، الثقافة، يناير ١٩٧٦م.
(٥) عالم الفكر، المجلد الخامس عشر، العدد الثاني، ١٦.
(٦) فتحي أبو العينين، نصوص مختارة في علم اجتماع الأدب، مكتبة سعيد رأفت، ١٨.
(٧) قراءة الرواية، ٢٣١.
(٨) الكاتب، يناير ١٩٦٤م.
(٩) فصول، يناير ١٩٨١م.
(١٠) طه حسين، تقديم كتاب «تاريخ آداب اللغة العربية» لناليتو، دار المعارف، ١٠.
(١١) المرجع السابق، ١٠.
(١٢) محمد حافظ دياب، النقد الأدبي وعلم الاجتماع، فصول، المجلد الرابع، العدد الأول.
(١٣) فتحي أبو العينين، مرجع سابق، ٢٩.
(١٤) اجتماعية الأدب، فصول، يناير ١٩٨١م.
(١٥) المجلة العربية للعلوم الإنسانية، جامعة الكويت، المجلد الثالث، العدد الثاني.
(١٦) فتحي أبو العينين، مرجع سابق، ١٧.
(١٧) المرجع السابق.
(١٨) محمد حافظ دياب، مرجع سابق.
(١٩) فتحي أبو العينين، مرجع سابق، ١٤٢.
(٢٠) المرجع السابق، ١٥.
(٢١) المرجع السابق، ١٣.
(٢٢) الشرق الأوسط، ١٠ / ٩ / ١٩٨٠م.
(٢٣) فتحي أبو العينين، مرجع سابق، ٣٢.
(٢٤) المرجع السابق، ٣٠.
(٢٥) صنعة الرواية، ١٩.
(٢٦) أقلام (مغربية)، العدد السادس.
(٢٧) عوالم بورخيس الخيالية، ت. خليل كلفت، هيئة قصور الثقافة، ٦٥.
(٢٨) حامد أبو أحمد، مقدمة من قتل موليرو لماريو فارجاس يوسا، هيئة الكتاب.
(٢٩) الثقافة العالمية، يوليو ١٩٨٧م.
(٣٠) سامية محرز، روايات عربية، قراءة مقارنة، شركة الرابطة، الدار البيضاء، ١١٠.
(٣١) ألان روب جرييه، لقطات، مقدمة عبد الحميد إبراهيم، هيئة الكتاب.
(٣٢) ت. سيد عبد الخالق، نوافذ، العدد الثاني.
(٣٣) هنري تروايا، أنطون تشيخوف، ت. حصة إبراهيم منيف، المجلس الأعلى للثقافة، ٤٥٦.
(٣٤) العربي، مايو ١٩٨٤م.
(٣٥) يحيى حقي، من دفترٍ قديم، المجلة، فبراير ١٩٦٨م.
(٣٦) ثمة رأي أنه: «من العسير على من يضطلع بكتابة تاريخ مصر المعاصر، إهمال روايات نجيب محفوظ بصفة عامة، والثلاثية على وجه الخصوص»، من أبحاث ندوة نجيب محفوظ، جامعة القاهرة، ١٩٩٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥