قيام دولة إسرائيل

في ١٤ مايو ١٩٤٨م أعلنت بريطانيا تنازلها عن الانتداب الذي كان مقررًا لها في فلسطين، وفي الرابعة بعد ظهر اليوم نفسه، قرأ بن جوريون من متحف تل أبيب قرارًا بإعلان قيام دولة إسرائيل، لم يحدد البيان حدودًا للدولة الوليدة، باعتبار أن الحدود تقررها النتائج العسكرية،١ ورُفِع رسميًّا — للمرة الأولى — علم الدولة الجديدة، وبادرت الولايات المتحدة إلى الاعتراف بالدولة الصهيونية، وتبعتها دول أخرى من المعسكرَين الغربي والشرقي، ودفعت الفرحة آلاف اليهود إلى الرقص في شوارع نيويورك ولندن ومدن أوروبية أخرى.

حدد حاييم وايزمان المخطط الاستراتيجي للصهيونية، بأنه «جعل فلسطين يهودية، مثلما أن إنجلترا إنجليزية»، وكانت تلك المقولة هي المنطلَق لعمليات التهجير والإبادة والتدمير للشعب العربي في فلسطين من قبل أن يعلن قيام دولة إسرائيل.

كانت الصهيونية قد استطاعت — في أعوام الحرب العالمية الثانية — أن تحقق الكثير من المكاسب، أهمها تحوُّل الشعب اليهودي إلى شعبٍ محارب، والتزوُّد بالسلاح والعتاد بما يحقق تفوق الجيش الإسرائيلي على الجيوش العربية مجتمعة، بالإضافة إلى ضمان الولايات المتحدة لهذا التفوق.

والحق أن كل الدول الكبرى، كلها بلا استثناء، مسئولة عن جريمة قيام دولة إسرائيل في قلب الوطن العربي، ساعدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الاعتداءات الصهيونية، وموَّلتاها، وأعلنتا الاعتراف بقيام الدولة الصهيونية، عقب إعلان قيامها بدقائق، وشكَّل إجراء الانتخابات في الولايات المتحدة، في العام ١٩٤٨م، عاملًا حاسمًا في موقف الرئيس الأمريكي ترومان الذي كانت تشغله جيدًا أصوات اليهود الأمريكيين، وحالت بريطانيا بين القوات العربية ونصرة المجاهدين الفلسطينيين، وساعدت العصابات الصهيونية على احتلال حوالي ٨٠٪ من أراضي فلسطين قبل وأثناء معارك ١٩٤٨م.

•••

كانت القوات المصرية قد تلقَّت أمرَ الاستعداد لدخول فلسطين قبل يومين فقط من دخولها! وكان الأمر مفاجأة خالصة، استقبل النقراشي قواد الأسلحة واحدًا واحدًا، قبل دخول الجيش المصري فلسطين بست وثلاثين ساعة.

– هل أنت مستعد لدخول الحرب؟

وكانت الإجابة الواحدة: لا! ومن المستحيل أن يدخل جيش ما حربًا في ساعات!

وعقب النقراشي على اعتذار القادة بقوله: ومع هذا سندخل الحرب أيها السادة، هذا أمرٌ مقررٌ، ولا مناقشة فيه!

كان الملك هو صاحب القرار، وكان النقراشي هو الواجهة.٢

ومع أن الملك ورَّط حكومة النقراشي في قراره باشتراك الجيش المصري في الحرب الفلسطينية، فإن النقراشي حصل على موافقة مجلس النواب في ١٢ مايو ١٩٤٨م بدخول القوات المصرية فلسطين، ارتكازًا إلى معلومات كاذبة، أكد فيها «أن كفاية الجيش المصري كاملة، وأسلحته وافية، وذخيرته متوافرة.» ولم يكن ذلك التصرف سوى انعكاس لحرص الأحزاب المصرية على البقاء في الحكم، بصرف النظر عن الوسائل والغايات، وربما النتائج أيضًا! فلو أن النقراشي قدَّم استقالة مسبَّبة، يرفض فيها الموافقة على دخول الحرب، ما انتهت الأمور إلى ما انتهت إليه.

بالإضافة إلى المعلومات الكاذبة، فلم يكن الجيش المصري — حين اتخذ قرار الحرب — قد خاض في الأعوام الخمسين السابقة — منذ مغادرته للسودان في اتفاقية ١٨٩٩م — أية معارك برية، عدا إسهامه المحدود للغاية في الدفاع الجوي، أثناء الحرب العالمية الثانية. ولم يكن الجيش المصري قد عرف نظام التشكيلات بعد، أي أنه كان أسلحة منفصلة، لا تنسيق فيها، ولا تجميع للقتال، وكان التدريب قاصرًا ومتخلفًا عن مناورات المعركة، ولم تكن طوابير الجيش تُشاهَد إلا في المحمل والجنازات.٣ أما السلاح البحري — أيامها — فلم يكن يعني أكثر من اليخت المحروسة المخصص للملك، وبضع قطعٍ بحرية أخرى.٤
إلى جانب ذلك، فقد كان وجود القوات البريطانية في منطقة القناة يضع جدارًا من السلبية — وربما من العذر! — وراء القوات المصرية الزاحفة من الشرق، وكان رأي القيادة العسكرية هو المعارضة لدخول الجيش النظامي حرب فلسطين، وإرسال قوات متطوعين بدلًا منها، مشابهة للقوات التي كان يتولى قيادتها الشهيد أحمد عبد العزيز.٥
تباينت مواقف الساسة المصريين بين تأييد ورفض دخول الجيش المصري فلسطين، فقد أعلن فؤاد سراج الدين — في مجلس الشيوخ — أن اليهود لا يزيدون عن ١٥ مليونًا في العالم أجمع، ومع ذلك فإنهم يملكون اقتصاد العالم، فاقتصادنا وحمايته لا يتأتى، ولا يكون، إذا أُنشئت هذه الدولة الصهيونية في فلسطين.٦ وأضاف سراج الدين — صراحة — «نحن في دفاعنا عن فلسطين، إنما ندافع عن مصر ذاتها.»٧
وكان إسماعيل صدقي هو الوحيد — من بين الساسة المصريين — الذي أعلن معارضته لدخول مصر الحرب،٨ أكد — من واقع خبرته كرئيس وزارة إلى أواخر ١٩٤٦م — أن الجيش المصري ينقصه السلاح والعتاد اللازم لخوض الحرب.

لكن النقراشي أكد عكس المعلومة، وأن الجيش المصري يملك من السلاح والعتاد ما يساعده على خوض الحرب أشهرًا طويلة.

وحسم الملك فاروق الأمر، حين أصدر أمره إلى وزير الحربية محمد حيدر باجتياز الحدود إلى داخل الأراضي الفلسطينية، دون أن يحيط رئيس الوزراء بذلك، ونفَّذ وزير الحربية الأمر دون مراعاة لمواد الدستور. وكما يقول محمد عودة، فقد «أديرت الحرب من مكتب وزير الحربية في القاهرة، وبتوجيهات القائد الأعلى، من مكتبه في عابدين، وبنفس العبث الذي أعلنت به، ولم يكن هناك مناص من الكارثة.»٩
ولعله يجدر بنا أن نشير إلى ما يرويه مرتضى المراغي — أحد أركان النظام الملكي — عن محمد حيدر، فهو لم يكن قائدًا حربيًّا، ولم تكن حياته العملية تؤهله لهذه المهمة الصعبة؛ لقد تخرج في المدرسة الحربية عام ١٩١٦م، وكانت مدة الدراسة سنة واحدة فقط، لكنه التحق بالبوليس بدلًا من الجيش، وبدأ نجمه في الصعود في أحداث ثورة ١٩١٩م، اشتهر بمطاردته للمتظاهرين، وعمل معاونًا مقربًا للحكمدار الإنجليزي راسل باشا، حتى اختاره الإنجليز ضابطًا بمصلحة السجون، فلما أراد الملك فؤاد استصلاح حوالي ٥٠ ألف فدان من الأراضي البور تملكها الخاصة الملكية، كلَّف حيدر بذلك، واستطاع حيدر — بتسخير السجناء — أن ينهض بالمهمة، فرُقي ترقية استثنائية، ثم أصبح مديرًا لمصلحة السجون. وبعد تولية فاروق اختار حيدر ياورًا شرفيًّا، ثم عيَّنه عام ١٩٤٦م رئيسًا لهيئة أركان الحرب، ثم قائدًا عامًّا للجيش ووزيرًا للحربية عام ١٩٤٨م، وهنا يكمن سر آخر من أسرار هزيمة ١٩٤٨م.١٠

وعلى الرغم من المواقف المبدئية التي عبَّر عنها حلمي سلام في أحداث ما قبل ١٩٥٢م، فإنه أصدر كتابًا بعنوان «جيشنا في فلسطين»، تملَّق به السلطة القائمة، والملك في مقدمتها، وصدَّره بكلمة لفاروق وصورة له في ميدان القتال، وحيَّا جهود وزارة الحربية «وهي تواجه حالة الحرب للمرة الأولى، فأحسنت القيام بواجبها، ولم تترك صغيرة ولا كبيرة من شئون الحرب، أو تدابير الحملات العسكرية إلا أدتها خير أداء.»

على الرغم من تلك الكلمات غير المسئولة، فإن الجيوش العربية دخلت فلسطين، دون أن يكون فيها نظام إداري من أي نوع، سواء على المستوى المدني أو العسكري، في حين كان اليهود قد أعدوا دولتهم التي نالت الاعتراف الدولي في أعقاب إعلان استقلالها، ومن هنا لجأ كل جيش عربي إلى إدارة المنطقة التي دخلها بالكيفية التي يراها، واستعان بموظفين من البلد الذي يتبعه، وفلسطينيين.

لقد أثبتت دراسات أكاديمية أمريكية أن ترويج إسرائيل — قبل نشوب المعارك، وخلالها — لمقاتليها القليلي العدد، الضعفاء، والمفتقرين إلى السلاح، يكذِّبه أن إسرائيل كانت متفوقة — منذ البداية — عسكريًّا وماليًّا وسياسيًّا.

بدأت الحرب وفي دولة فلسطين ٦٠٠ ألف يهودي، معظمهم مارس الحرب فعلًا، أو خدم فيها، أو عمل في حرفٍ مرتبطة بها، وكان حولهم ٤٠ مليونًا عربيًّا لم يعرفوا الحرب إلا في الصحف والإذاعات، وبالتحديد، فقد كان عدد اليهود الذين قاتلوا في صفوف البريطانيين، حوالي ستين ألفًا، ما بين ضابط وصف ضابط وجندي، استخدموا أحدث الأسلحة، وتلقَّوا أرقى التدريبات، وكان بن جوريون حريصًا على أن تكون حرب الاستقلال — كما سمَّاها — أول وآخر الحروب، لأن هزيمة اليهود — في تقديره — سوف تعني نهايتهم وخروجهم من التاريخ،١١ بينما لم يحشد العرب ضد إسرائيل في بداية القتال (١٩٤٨م) سوى عشرة آلاف جندي بلا أسلحة متطورة، ولا تدريبات، ولا اشتراك حقيقي في أية مناسبة إلا الاحتفالات والتشريفات.١٢ يضيف محمود رياض أن مجموع القوات العربية التي دخلت الحرب بلغ حوالي ١٤ ألف جندي، بلا قيادة عسكرية موحدة، ولا خطة مشتركة.١٣ ويقول عبد العظيم رمضان: «في ذلك الحين، لم يكن لدى إسرائيل هذا الجيش الذي تملكه الآن، وإنما كان مجرد عصابات مدرَّبة، أو مشروع جيش كان في وسع القوات العربية الإجهاز عليه قبل أن يستفحل، لكن هذه العصابات المدرَّبة استطاعت الانتصار على خمسة جيوش عربية، لأنها كانت خمسة جيوش عربية متنازعة، متخاصمة، متآمرة.»١٤
اتفقت الحكومات العربية — قبل القرار المفاجئ بدخول القوات النظامية أرض فلسطين — على «أن يكون أهل البلاد هم الأساس في الدفاع عن بلادهم، لمعرفتهم بالمواقع والمسالك والدروب، ولأنهم أول الناس تصميمًا، وإصرارًا، على الدفاع عن أهلهم ووطنهم وأموالهم، ولأنهم أقل نفقة من المتطوعين، أو القادمين من خارج فلسطين، على أن ترابط الجيوش العربية على الحدود تعزيزًا لمعنويات المقاتلين، ولإمدادهم — كلما احتاجوا — بالخبرة والسلاح والمال والوحدات الفنية.»١٥ ويقول مفتي فلسطين في مذكراته «إن خطة الدول العربية التي تقررت في اجتماع «عاليه» بلبنان في ٧ أكتوبر ١٩٤٧م، أن يكون المعول في حرب فلسطين على أبنائها، وأن تمدهم الدول العربية بالأسلحة والذخائر، على ألا تدخل الجيوش العربية النظامية فلسطين، بل تكتفي بالمرابطة على حدودها. وكانت الهيئة العربية العليا لفلسطين تطالب أيضًا بألا تدخل الجيوش العربية فلسطين، وأن تناط المعركة بالفلسطينيين والمتطوعين من أبناء الدول العربية.»١٦
ترتَّب على تدخُّل القوات العربية النظامية أمران هامان: الأول: أن الصراع لم يعُد مقصورًا على النزاع بين الفلسطينيين واليهود، وإنما امتد ليصبح حربًا، بين إسرائيل والدول العربية في مجموعها، والثاني: تعميق وصاية الدول العربية على القضية الفلسطينية، مما أضر بالقضية أشد الضرر، بسبب جو المزايدات واختلاف المصالح.١٧
ولا شك أن انتصار الدول العربية على العصابات الصهيونية، كان — قبل بداية المعارك — هو الاحتمال الوحيد، بل لقد تنبَّأ بيفن — وزير الخارجية الإنجليزي — بانتصار العرب، وتوقع أن يطلب اليهود من بلاده التدخل لصالحهم، بحيث تُتاح الفرصة لإعادة تقسيم فلسطين. كما صرح المارشال مونتجمري بأن اليهود أصبحوا عاجزين عن حماية مواصلاتهم، وأيَّد تصريحه تقارير عسكريين بريطانيين في القاهرة وعمان والقدس. وزاد السير جوردون ماكميلان، قائد القوات البريطانية في فلسطين، فأكد أن الجيوش العربية لن تجد مشقة في الاستيلاء على كل أراضي فلسطين،١٨ وأعلن بن جوريون أنه لا بد من معجزة، وإلا تبدَّد أي أمل في إقامة الدولة اليهودية.

لكن الوضع العربي كله كان أبعد ما يكون عن تحقيق انتصار عربي على العصابات الصهيونية، النزهة التي تنتهي باستعادة فلسطين، كانت وهمًا أجادت القيادة السياسية — والعسكرية أيضًا — رسمه في أذهان ضباط الجيش، تمثَّلت الحقيقة في الاحتلال البريطاني لمنطقة القناة، والسفير الذي يمثِّل قوات الاحتلال في قصر الدوبارة بأوامره ونواهيه للملك والحكومة، والأمير عبد الله في شرقي الأردن يتطلع إلى حكم ضفتَي النهر، والقائد العسكري للقوات الأردنية إنجليزي، هو جلوب باشا، ونوري السعيد رئيس وزراء العراق — والزعامة الفعلية هناك — لا يخفي عمالته للاستعمار البريطاني.

•••

لم يكن العرب جادِّين في حربهم ضد ما سُمِّي بالعصابات الصهيونية، ولا كانوا على استعدادٍ لمقاتلتها، ولم يسعَوا إلى تدعيم أنفسهم بما يكفي لدرء الاعتداءات الصهيونية، بل ولم يكونوا على بينة من خطورة الحرب.

وحين أبدت السيدة خوفها على شقيقها ضابط الفرسان، هوَّن زوجها الأمر بأن الحرب «مجرد نزهة للجيش المصري.»١٩
ويروي جلوب باشا في مذكراته أنه سأل عبد الرحمن عزام باشا عن مدى استعداد العرب للحرب، قبيل نشوب المعارك بأيامٍ قليلة، فقال له عزام باشا ببساطة إنه ذهب إلى صحراء ليبيا، وجمع بضع مئات من المجاهدين (!) وإنه سيحاول أن يشتري لهم أسلحة من مخلفات الحرب الثانية المتناثرة في صحراء ليبيا.٢٠
كانت الحركة الصهيونية تعلم أن أخطر معاركها، تلك التي تخوضها على الحدود الجنوبية مع مصر، وكان رأي بن جوريون أن المنطقة لا يمكن أن تسع قوتين كبيرتين.٢١ مع ذلك، فقد صرح اللواء عثمان المهدي رئيس أركان حرب الجيش المصري لكبار القادة: «أنتم ذاهبون إلى نزهة!» وكان من بين المعلومات غير الدقيقة، بل المضللة، ما أعلنه الفريق محمد حيدر في البرلمان بأن الحرب في فلسطين نزهة، لن تستغرق أكثر من أسبوعين، وأن ما لدى القوات المصرية من أسلحة يسد احتياجاتها لمدة ستة أشهر.٢٢
بل إن النقراشي — الذي تورَّط في إعلان قرار الحرب — أكد أن الجيش المصري يدخل فلسطين «لإعادة الأمن والنظام لسكان هذه الربوع، فهو لا يعلن حربًا، وليس أمامه دولة معترف بها، وإنما أمامه عصابات يجب عليه أن يطهِّر البلاد منها.»٢٣

وبلغ تفاؤل بعض الصحف العربية حد التصور بأنه «باقتراب الخامس عشر من مايو ١٩٤٨م سيستسلم اليهود، وأن العمل العسكري العربي لن يكون ضروريًّا!»

رغم كل تلك الكلمات الوردية، فإن النقراشي صارح أعضاء اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية (أكتوبر ١٩٤٧م)، أي قبل أن يورطه الملك بقرار دخول الحرب، بأنه يريد «أن يعلم الجميع أن مصر إذا كانت توافق على الاشتراك في هذه المظاهرة العسكرية — أي الحشد على الحدود — فإنها غير مستعدة أبدًا للمُضي أكثر من ذلك.»٢٤ ومع أن الدول العربية كانت قد اتخذت قرارًا في ٢٥ أبريل بالتدخل العسكري في فلسطين، فإنها (الدول العربية) لم تكن قد اتفقت على قيام قيادة موحدة لجيوشها، رغم تحركها الفعلي إلى الحدود الفلسطينية.
لكن السؤال يظل قائمًا: هل أرسلت حكومة السعديين قواتٍ من الجيش إلى فلسطين بضغطٍ من الملك، أو لأن الحكومة أرادت غسل هزيمتها في عرض قضية مصر على مجلس الأمن عام ١٩٤٧م؟٢٥

ثمة حوار بين الباشا وابنه الأصغر حلمي، يتبيَّن لنا منه أن مسئولية دخول الجيش المصري حرب فلسطين تقع بأكملها على الملك، وأن قرار النقراشي بإعلان الحرب لم يكن من صنعه.

«كيف قبِل النقراشي باشا أن يعلن الملك الحرب، وتدخل الجيوش فلسطين قبل أن يوافق البرلمان على ذلك؟ أعلم أن النقراشي باشا كان من رأيه ألا يزج بمصر في هذه الحرب والقوات البريطانية في القناة خلف ظهره.»٢٦
قال حلمي: «جميع السلطات الآن في يد الملك، تخطَّى رؤساء الوزارات في أكثر من مناسبة، فلم يثُر أحد منهم أو يفكر في الاستقالة، فاستمرأ الملك سلب السلطات، وجمعها في يده. دعا ملوك الدول العربية ورؤساءها إلى اجتماع أنشاص (٢٦ مايو ١٩٤٦م) دون علم الوزارة، ولم يحتج صدقي باشا أو يقدم استقالته، وأمر النقراشي باشا بحل أزمة البوليس حلًّا لا يتفق ورأي النقراشي باشا، فنفَّذ الرجل الأمر السامي الكريم، واليوم يشن حرب فلسطين ليتسابق هو والملك عبد الله على أيهما يكون له شرف الصلاة أولًا في بيت المقدس.»٢٧
من الصعب تفسير تصرف الملك فاروق غير المسئول بإشراك الجيش المصري في الحرب، في ضوء رأي محمد حسنين هيكل بأنه فعل ذلك «كي لا تتخلف مصر عن بقية الدول العربية، وتفقد مكانتها في العالم العربي، وخصوصًا مشرقها.»٢٨ ومما يدعو إلى التأمل قول حلمي سلام أن فاروق أمر بدخول الجيش فلسطين، دون استعدادٍ حقيقي لخوض الحرب، تنفيذًا لمخطط إنجليزي يهدف إلى تحطيم الجيش، وإضاعة ثقة الشعب بنفسه وبجيشه، وإضاعة ثقة الشعوب العربية بزعامة مصر، وترسيخ إيمان فاروق بأن الإنجليز هم القوة الوحيدة التي يمكنه الاعتماد عليها، والاحتماء بها.٢٩
وقد أكد اللواء محمد نجيب — فيما بعد — أن الملك فاروق كان هو المسئول عن مأساة ١٩٤٨م؛ لأنه أمر بدخول الجيش الحرب دون أن يستشير القادة، أو الحكومة، أو يتعرَّف إلى القدرات الحقيقية والأسلحة التي تمتلكها القوات المسلحة.٣٠ وحين أخبر أحد الوزراء النقراشي أنه علم بالخبر من الصحف، قال النقراشي: وأنا أيضًا علمته من الصحف، فقال الوزير: إذن عليك أن تستقيل.٣١
في تقدير أحمد حمروش، أن قرار دخول الحرب إنما كان لتصفية الموقف الداخلي المتفجر، والمتمثِّل في الإضرابات والمظاهرات وعمليات إلقاء القنابل، والاغتيالات السياسية.٣٢ كانت الأوضاع الداخلية قد تأزمت بصورة بالغة، وتصاعد المد الشعبي ضد السراي والحكومة متمثلًا في الإضرابات المتوالية والمظاهرات، حتى جهاز الأمن الداخلي (البوليس) لجأ — كما أشرنا — إلى الإضرابات تعبيرًا عن مطالبه، إضافة إلى فشل الحكومة في عرض قضية مصر على مجلس الأمن في ١٩٤٧م، فاضطر تحالف السراي والحكومة إلى دخول الحرب استهدافًا لكسب بعض الشعبية من ناحية، وللقضاء على المد الشعبي المتنامي من ناحية أخرى.
ولعل الحرب الفلسطينية كانت فرصة حقيقية — بالفعل — لاستعادة ناصية الأحداث، وذلك باتخاذ من خطر قيام دولة إسرائيل وسيلة لخنق النضال الوطني، ولتسلم الملك من جديد دور القائد الوطني،٣٣ بل إن محمد السيد الشناوي يجد في دخول الجيش فلسطين مؤامرة مدبَّرة، زجَّ فيها الملك بالجيش غير المسلَّح، خوفًا من هذا الجيش بعد زوال السردار الإنجليزي والبعثة الإنجليزية من السيطرة عليه. ويقول ابراهيم عبد الهادي في مذكراته «إن النقراشي لم يكن يريد الحرب، لكنه اضطر — مكرهًا — تحت تأثير الدعاية المكثَّفة، وخوفًا على الجيش المصري، الذي دفع به الملك بوصفه القائد الأعلى للجيش، ووزير الحربية حيدر، إلى الميدان، دون أن يأخذ رأي الحكومة، وأن يطعن الجيش من الخلف وهو في الميدان.» ويضيف عبد الهادي: «ما أعلمه يقينًا أن النقراشي باشا لم يكن راغبًا في الدخول بالجيش إلى فلسطين أبدًا، وربما الذي أفسد عليه تصميمه هذا، الدعاية المشتعلة حوله.»
أما المؤرخ السيد فهمي الشناوي، فيدين رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي بالمسئولية المباشرة عن خسارة الحرب، لأن «النقراشي من رجال الصف الثاني غير المؤهَّلين للزعامة، وكان أداة تنفيذ بغير تفكير ولا استشراف للتاريخ، وفجأة، وجد نفسه في كرسي الرجل الأول بعد اغتيال أحمد ماهر.»٣٤

والسؤال هو: إذا كان النقراشي قد رفض فكرة دخول الحرب، وأن إعلانها تم دون علمه … فلماذا لم يستقل بدلًا من أن يقف في مجلس النواب ليعلن أن «حكومته» هي التي أعلنت قرار دخول الحرب، وأن كل الاعتمادات قد دُبِّرت، وأن كافة الاحتياطات قد اتُّخذَت؟ لماذا دافع عن قرار خوض الحرب كأنه هو صاحب القرار؟

أما الرواية التي تدَّعي أن سر تحوُّل النقراشي من معارضة دخول الحرب إلى الموافقة، هو أن بريطانيا وعدته بالتزود بالسلاح الذي يكفل له النصر على اليهود، فلمَّا دخل الحرب فعلًا، وطالبهم بإنجاز ما وعدوا، رفضوا إلا إذا وقَّع تنازل مصر عن السودان!٣٥ هذه الرواية تبدو بلا قيمة، في إطار الاستقالة التي كان على النقراشي أن يدفع بها دون وقت محدد!

•••

ودَّع المصريون جنود الجيش إلى فلسطين، وكانت تلك — على حد تعبير الراوي — أول مرة تتردد فيها الهتافات من الشعب للجيش، منذ مظاهرة الجيش في ٩ سبتمبر ١٨٨١م بميدان عابدين،٣٦ لكن القوات كانت تعاني افتقاد الاستراتيجية والتكتيك والفهم الحقيقي لأبعاد القضية (ألم يخبرهم رئيس أركان حرب الجيش أنهم ذاهبون إلى نزهة؟!) بالإضافة إلى أن الروح المعنوية لغالبية أفراد الجيش كانت متأزمة، نتيجة للضغوط الاقتصادية والاجتماعية القاسية. ففي ديسمبر ١٩٤٧م — أي قبل دخول القوات النظامية فلسطين بأقل من ستة أشهر — قام صولات وضباط صف وجنود الجيش بمظاهرة لتقديم عريضة تتضمن مطالبهم، ونُشرَت العريضة في ٢٩ ديسمبر ١٩٤٧م بجريدة «صوت الأمة»، ومن فقراتها: «… تلك هي حالة صولات الجيش التي يعانونها، فمن ضآلة الراتب بالنسبة لأعمالهم، وما أُلقي عليهم من مسئوليات خطيرة، إلى حرمانهم من حقٍّ مشروع، وهو تدرُّجهم في رتب الضباط أسوة بجيوش العالم، إلى معاملات بقوانين عتيقة، وضعها الإنجليز تحقيقًا لقيام نظام الطبقات بين أفراد الشعب، فساءت بذلك حالتهم معنويًّا وماديًّا وأدبيًّا، بل ومن جميع الوجوه. كيف لا ومنهم من تجاوز سن الأربعين، وله عشرون سنة في الجيش، منها سبعة عشر عامًا في رتبة الصول، وأصبح رب عائلة كبيرة مسئولًا. أما مشكلة ضباط الصف والعساكر فهي أدهى وأمرُّ، إن جنديًّا واحدًا محفوفًا برعاية الحكومة والشعب، خير من مليون من الجنود قُتِلوا معنويًّا. إن زمن العبيد ولَّى وراح، وأصبحنا في عصرٍ يفهم فيه كل فرد معنى حقوقه الاجتماعية التي تتفق مع مبادئ الإنسانية الصحيحة والجندية السمحاء.»٣٧

وفي الخامس عشر من أبريل ١٩٤٨م — أي قبل إعلان الحرب بشهرٍ واحد — شهدت البلاد إضرابًا هو الأول من نوعه … فقد أضرب رجال البوليس في كل أنحاء البلاد، وسارت مظاهرات الضباط في القاهرة والإسكندرية تهتف بسقوط الظلم، وتضامن الشعب معهم في مظاهراتهم. وتطورت الأمور في الإسكندرية، حيث كانت مشاركة الشعب أكثر اتساعًا، وخرج عمال كرموز في مظاهرة اشترك فيها أكثر من مائة ألف، ورُفعت لافتات تطالب بالجمهورية. المعنى الذي يدل عليه هذا الإضراب — ومن قبله إضراب صف ضباط وجنود الجيش — هو أن الجبهة الداخلية — متمثِّلة في أهم ضمانات أمنها: الجيش والبوليس — كانت تغلي بالغضب على الأوضاع القائمة.

من هنا جاء قرار حكومة النقراشي — بعد دخول مصر الحرب — بإلقاء القبض على عدد من الماركسيين والوفديين، تحت شعار حماية الجبهة الوطنية.٣٨

•••

ظلَّت الدول العربية، إلى يوم ١١ مايو ١٩٤٨م، مقتنعة بأن قوات المتطوعين تكفي لمنع تنفيذ المخططات الصهيونية في فلسطين، وكان المتطوعون يسافرون إليها من الأقطار العربية المختلفة.

وفي ١٢ مايو ١٩٤٨م صدرت الأوامر من قيادة الجيش المصري إلى العميد أحمد عبد الله المواوي — بصفته قائدًا للحملة المصرية المنتظرة على فلسطين — بالتقدم إلى منطقة الحدود. وتقدمت بالفعل ثلاث كتائب من أصل ٩ كتائب كان يتألف منها الجيش المصري جميعًا، وقد أدرك الضباط — من خلال بيانات الحكومة — أن الحرب سياسية في الدرجة الأولى، وأن كل الدلائل والمؤشرات تؤكد هذا المعنى.

وفي الخامس عشر من مايو، بدأت الجيوش العربية التحرك داخل أرض فلسطين، وأعلنت الحكومة المصرية لحظة بدء العمليات٣٩ أن الهدف من التدخل هو إعادة الأمن والنظام في فلسطين، وحمايتها من العصابات الصهيونية الإرهابية، وأعلنت الحكومة المصرية بالتالي رفض الاعتراف بإسرائيل كدولة.
كما رفضت مصر — والأقطار العربية الأخرى — تقرير السويدي الكونت فولك برنادوت،٤٠ واستند الرفض إلى أن التقرير لم يأتِ بجديدٍ، وأن الحقوق لا يمكن نكرانها، وأن حقوق العرب في فلسطين لا يمكن أن تكون هدفًا للمساومة.٤١

وكان برنادوت وراء توقيع الأطراف المتحاربة على اتفاقية الهدنة الأولى في يونيو ١٩٤٨م، وهي الاتفاقية التي أفادت منها تل أبيب في تدعيم قواتها، واحتلال أراضٍ جديدة لم تكن في حوزتها، لكن الرجل واجه التصفية الجسدية بتصريحٍ قال فيه إنه ستكون مخالفة جسيمة لأبسط مبادئ القانون الدولي أن يُمنَع الضحايا الفلسطينيون الأبرياء من العودة إلى أراضيهم، بينما يُسمَح للمهاجرين اليهود بالنزوح إلى أراضي الفلسطينيين.

ومع بداية المعارك، هجر أبناء فلسطين مدنهم وقراهم، وعاشوا في انتظار النصر المرتقب … لكن رياح العمالة والخيانة ما لبثت أن عصفت بكل ما كان يفعم النفوس من آمال.

•••

تقدَّمت القوات المصرية سريعًا نحو غزة، واكتملت حشود القوات اللبنانية في منطقة رأس الناقورة تأهبًا لاقتحام «نهاريا»، بينما احتشدت القوات السورية في «فيق» لإنشاء جسر عبر نهر الأردن، وكانت مهمة الجيش العراقي أن يتقدم إلى قلب فلسطين، ويتولى تطهير منطقة أربد-جسر المجامع، أما مهمة الجيش الأردني فكانت الوصول إلى نابلس ورام الله، على أن تلتقي القوات جميعًا في تل أبيب.

يقول السادات: «لقد أُعلنت الحرب، وسواء أعلنها فاروق أم أعلنتها حكومة البلاد القائمة، وسواء أكان إعلانها خطأ أم كان إعلانها صوابًا، وسواء أكان الجيش مستعدًّا لخوضها، أم لم يكن مستعدًّا، فالحقيقة الوحيدة هي أن الضباط جميعًا لم يفكروا في شيء من هذا كله، لم يفكروا في الخطأ أو الصواب، لم يفكروا في احتمال النصر أو احتمال الهزيمة، لكنهم فكروا في شيء واحد فقط: أن حربًا أُعلنَت باسم مصر، وأن جيش مصر يجب أن يخوض هذه الحرب كأشجع ما تخوض الجيوش حروبها.»٤٢
حقق الجيش المصري انتصاراتٍ متوالية، ظن معها الكثيرون أن استعادة فلسطين لا تعدو نزهة خلوية بالفعل، وأنها مسألة أيام،٤٣ لكن الظلال القاتمة اقتحمت الصورة، حين فرض مجلس الأمن الهدنة الأولى، التي كانت بداية تغيُّر كامل لصالح العصابات الصهيونية.
ففي الحادي عشر من يونيو، كانت القوات المصرية على مسافة ٣٥ كيلومترًا من تل أبيب،٤٤ ومن الشرق كانت القوات الأردنية في اللد والرملة تبعد عن تل أبيب ٢٤ كيلومترًا، والقوات العراقية على مسافة ٢٠ كيلومترًا، ثم صدر — فجأة — قرار مجلس الأمن بالهدنة الأولى، فحين بدا أن الجيوش العربية — رغم ظروفها المعلَنة — أوشكت على اكتساح القوات الصهيونية، تدخلت الولايات المتحدة لفرض الهدنة الأولى،٤٥ وكانت المظاهرات قد اندلعت في تل أبيب، تطالب بإيقاف القتال، وبالتسليم، وخطب بن جوريون في المتظاهرين، يحاول تهدئتهم: «إن لديَّ وعدًا قاطعًا من الأمريكيين والإنجليز بفرض هدنة خلال ثلاثة أيام، وإذا لم يحدث هذا تعالوا واشنقوني!»٤٦
وبينما كانت القوات المصرية على وشك أن تجني ثمار النصر، صدرت التعليمات من الحكومة إلى قيادة الجيش: «بما أن الحكومة قد قبلت قرار مجلس الأمن الصادر في ٢٩ مايو ١٩٤٨م بوقف القتال في فلسطين لمدة أربعة أسابيع، وبما أن الحكومة قد قبلت أن تبدأ الهدنة المشار إليها اعتبارًا من يوم الجمعة ١١ يونيو، الساعة ٦٠٠ صباحًا بتوقيت جرينتش، فعلى جميع القوات البرية والبحرية والجوية وقف إطلاق النار ابتداء من الساعة ٦٠٠ صباحًا بحسب توقيت جرينتش، الساعة ٨٠٠ صباحًا طبقًا للتوقيت في مصر.»٤٧
وبصرف النظر عن القول الذي لم تثبت صحته، إن كبار الضباط هم الذين اقترحوا تلك الهدنة،٤٨ فإن تلك الهدنة كانت سببًا مباشرًا، تاليًا، في حصول الإسرائيليين على احتياجاتهم من المساندة المادية الفعالة، واستيلائهم على مساحاتٍ واسعة من الأراضي التي كانت في حوزة العرب، قبل فرض الهدنة، مقابلًا لمنع حصول القوات العربية على أسلحة وذخائر تعينها على مواصلة الحرب، أو — في الأقل — الدفاع عن الأرض التي بسطت ظلَّها عليها قبل إعلان الهدنة.

•••

لماذا كان القرار بدخول الجيش المصري فلسطين؟ ولماذا كان القرار بقبول الهدنة الأولى؟

لم يكن دخول القوات العربية فلسطين — منذ ١٥ مايو ١٩٤٨م، في تقدير الزعامات العربية — إلا نزهة عسكرية، أملتها استنتاجات فرضية، يغيب عنها الواقع الفعلي، فقد كان يكفي ﻟ «ردع» العصابات الصهيونية دخول جيش منظم كالجيش المصري، بالإضافة إلى التعاون المؤكد بين الدول العربية، كل دولة من ناحية الحدود الأقرب، والتعداد السكاني الذي يتفوق بأضعافٍ على تعداد يهود فلسطين، ومساندة العرب الفلسطينيين من الداخل.

في الكتاب الذي أصدره دومينيك لابيير ولاري كولينز بعنوان «أوه يا قدس»، يشير الكاتبان إلى أن فاروق لم يعلن الحرب إلا بعد أن أقنعه رياض الصلح بأنه سيكون خليفة المسلمين، بعد تحقيق الانتصار بالطبع! وأن الفريق محمد حيدر حدَّد للملك أسبوعين فقط لتكون القوات المصرية في تل أبيب. قال حيدر باشا: «على أية حال، لن تكون هناك حرب مع اليهود، بل استعراض غير محفوف بالمخاطر … وفي خلال أسبوعين، يدخل جيشنا تل أبيب.»

اصطبغت جبهات القتال بالوردية في بدايات المعارك، ثم تغيَّرت — في فترة الهدنة الأولى — صورة الوضع العسكري تمامًا، ظل العرب يعانون قلة السلاح، وقلة التدريب، وانعدام الخطط، وغياب النظرة الاستراتيجية، في حين تدفق إلى الجانب الإسرائيلي متطوعون وأسلحة من كل أنحاء العالم، وتدفقت الأسلحة الثقيلة التي كانت تنقص الإسرائيليين تمامًا، وتكررت عمليات اختراق الهدنة لاحتلال أراضٍ جديدة. ويقول الراوي (ضابط في الجيش المصري): «وزحفنا رغم ضعف أسلحتنا، وكنا أحيانًا نزحف بالفعل على بطوننا، حتى أصبحنا على بُعد ثلاثين ميلًا من تل أبيب، ثم فوجئنا بالهدنة، ويا لها من هدنة، لقد كانت فترة استعدادٍ للعدو، أما فرقتي، فقد عادت إلى القاهرة، واستُقبلَت في شوارعها بأكاليل الغار، وكانت هذه الأكاليل غصة في قلوبنا، كنا لا نريد أن نرجع، لكنها الأوامر العليا التي عكست الصورة إلى أسفل.»٤٩
وعندما استؤنف القتال — مع نهاية الهدنة الأولى — واجهت القوات العربية هزائم متلاحقة، فقد استولت القوات اليهودية على الجليل الغربي، واحتلت ١٤ قرية داخل الحدود اللبنانية، كما احتلت مدنًا أخرى في وسط فلسطين، أهمها اللد والرملة، ووسَّعت الممر المفضي من الساحل إلى القدس الجديدة، أما في الجنوب، فقد توغلت القوات الإسرائيلية حتى النقب،٥٠ وبلا سببٍ مقنع، انسحبت القوات الأردنية من اللد والرملة، فدخلتها القوات الإسرائيلية، ورفضت القوات العراقية استعادة المنطقة بدعوى أنه «ماكو» أوامر، فضلًا عن أنها — القوات العراقية — انسحبت من رأس العين، ومن بعض مناطق مرج أبي عامر.
يقول حلمي (الحصاد) «إنني لأعجب كيف قبلت الدول العربية أن يكون الملك عبد الله القائد الأعلى للجيوش؛ إن معنى ذلك وضع الأمر في يد جلوب باشا الذي سينفذ ما يراه الإنجليز.»٥١ ويتحدث الراوي (منزل من دورين) عن تسليم الملك عبد الله اللد والرملة الذي كشف ظهر الجيش المصري،٥٢ ويروي إبراهيم عبد الهادي في مذكراته أنه سئل عن موقفه من احتكاك الجيش الأردني بالجيش المصري في بيت لحم؟ فقال: «وماذا كنت أفعل يا إخواني؟ هل أروح عند الملك عبد الله، وقد ترك جيشه يفتح الطريق لليهود، ليستولوا على اللد والرملة، كان من الواجب أن يقف معنا، فوقف مع اليهود.»٥٣
أما جيش الإنقاذ، فقد انسحب من أنحاء الجليل الغربي الشمالية والوسطى، فاستولى اليهود على صفد والناصرة وشفا عمر، وامتدت عملياتهم إلى مناطق أخرى، وتركزت معارك القوات الإسرائيلية ضد القوات المصرية في النقب، حتى لم يعُد في حوزة تلك القوات سوى خان يونس وغزة.٥٤
وكتبت «الأوريان»: «عشية الخامس عشر من أيار (مايو) كانت التصريحات العربية تفسح المجال للاعتقاد بأن جيوشنا في فلسطين سوف تقوم برحلة عسكرية ترفيهية، واليوم لا مجال للسؤال حول تلك الرحلة الترفيهية.»٥٥ ومن هنا يبين قول الأرملة الفلسطينية عن دلالاته: «وكانت خيانات الملوك.»٥٦

•••

في تقديري، أن أخطر الأدوار السلبية في حرب ١٩٤٨م ما قام به الملك (الأمير) عبد الله، كل الوقائع والملابسات والروايات التاريخية الصحيحة، أثبتت أن الاستيلاء على الضفة الغربية مثَّلت له هدفًا، بحيث يضم إليها شرق الأردن، وينشئ المملكة الأردنية الهاشمية. التقى الرجل — في سبيل تحقيق هذا الهدف — مسئولين إسرائيليين، زاروه في عمان، ومنهم جولدا مائير التي تعدَّدت زياراتها إلى عاصمة إمارة شرق الأردن، وهي تلتف بعباءة عربية لتشارك الأمير وضع التصورات المشتركة.

بدأ الهجوم الإسرائيلي — نقضًا للهدنة — في منتصف أكتوبر ١٩٤٨م، ثم تجدد في ٢٢ ديسمبر ١٩٤٨م، واجتمع الجنرال جلوب قائد جيش شرق الأردن بضباطه، وشدَّد عليهم بعدم خرق الهدنة لأي سبب، وبصرف النظر عن طبيعة الأوضاع في جهات الجيوش العربية الأخرى، فلما طلب قائد الجيش المصري — رسميًّا — من الملك عبد الله أن يأمر قواته بالتدخل لمناوشة القوات الإسرائيلية بهدف تحقيق الضغط على القوات المصرية، رفض الملك الأردني، بل وحال دون إرسال فوجَين سوريَّين عبر شرق الأردن إلى جبهة القتال لتخفيف الضغط على المصريين، رغم أن انشغال الإسرائيليين بالهجوم على القوات المصرية كان سيتيح للجيوش العربية أن تسترد الأراضي التي احتلتها منها إسرائيل.

يضيف عبد العظيم رمضان أنه «على العكس من ذلك تمامًا، شجع الملك عبد الله الإسرائيليين على الهجوم على القوات المصرية، فسحب قواته من المناطق الأمامية من خليج العقبة، عندما احتل الجيش الإسرائيلي بير سبع، وترك تلك المناطق لهم، فاحتلوها يوم ٢ نوفمبر، مما مكَّنهم من الوصول إلى البحر الأحمر في وقتٍ قصير، وتأسيس ميناء إيلات. وقد اعترف ديان قائد الحملة بأن الجيش الأردني انسحب من هناك عن قصدٍ وتصميم.»٥٧
ولا شك أنه من الصعب — مهما حسنت النيات — إغفال الدور السلبي الذي قامت به حكومة شرق الأردن — قبل أن تبدأ الحرب النظامية — لضم الضفة الغربية «كان يطمع في فلسطين، حتى أولئك الذين كانوا يدَّعون أنهم يحافظون عليها.»٥٨

وفي الربع الأخير من ١٩٤٨م تصاعد الغضب ضد التصرفات «الشرق أردنية» لتوحيد الضفتين الشرقية والغربية تحت سيادة التاج الهاشمي، وشجعت الدول العربية المجاورة لشرق الأردن، قيادات الشعب الفلسطيني على تشكيل حكومة فلسطينية، عاصمتها غزة، لإحباط المحاولات التوسُّعية لحكام شرق الأردن. وكانت مصر — تحديدًا — في مقدمة الدول المؤيدة لحكومة عموم فلسطين، التي تشكَّلت في ٢٠ سبتمبر ١٩٤٨م برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي.

انتهت المفاوضات التي أُجريت بين الملك عبد الله والمسئولين الإسرائيليين بإبرام اتفاقية الشونة في ٣٠ مارس ١٩٤٩م، وأعطت لإسرائيل — كما قال عبد الله التل في مذكراته — ما يزيد على ٤٠٠ ألف دونم من الأرض الفلسطينية الخصبة، وجاءت هذه الاتفاقية جزءًا من اتفاقية الهدنة الدائمة التي وُقِّعت برودس في ٣ أبريل ١٩٤٩م.٥٩

ولعله يجدر بنا أن نشير إلى ما قاله الأمير (الملك فيما بعد) عبد الله، في ١٩٢٣م، لمندوب وكالة تلجرافيك اليهودية: «إن بلفور قد وعدكم بقطعة أرض ليست ملكًا له، أما أنا فإنني أعدكم بقطعة أرض هي ملكي.»

وعلى الرغم من الخيانة المعلَنة للملك عبد الله، فإنه قد صرح — فيما بعد، وقبل أن يغتاله شاب فلسطيني — للصحفي المصري زكريا لطفي جمعة: «هل تقول لي أين حارب جيشكم؟ عفوًا، بل جيش فاروق في ١٩٤٨م؟ لقد دخلتم غزة وهي مدينة عربية ليس فيها يهودي واحد، ثم وقفتم عند مجدل عسقلان حتى جاء اليهود وأخذوها منكم، وجعلتم من قائد جيشكم الضبع الأسود أسطورة عسكرية، بينما هو لم يخُض معركة واحدة، ولم ينتصر على اليهود في اشتباكٍ واحد.»٦٠

•••

يقول التومرجي جودة (نحن لا نزرع الشوك) في ضيق — عقب تطبيق الهدنة الثانية: «أُوقِف القتال، بعد أن وصل اليهود إلى العريش … لو تركنا أول مرة لوصلنا إلى تل أبيب.»٦١
كانت الولايات المتحدة هي التي فرضت الهدنة الثانية، حتى تنتهي القوات الصهيونية من استجلاب المزيد من الأسلحة والخبراء لتحقيق النصر النهائي على القوات العربية.٦٢ اتخذ مجلس الأمن — كالعادة — قرار الهدنة في ١٨ يوليو ١٩٤٨م، دون تحديد موعد لانتهائها، وأفلحت القيادة الإسرائيلية — في ظل الهدنتين الأولى والثانية — في تدعيم قواتها بالسلاح، وجلب آلاف المتطوعين المدرَّبين على القتال، وتحويل مسار بعض سفن الأسلحة، لتصب في المواني الإسرائيلية، فضلًا عن الجسر الجوي من الطائرات البريطانية والأمريكية.٦٣
ثم قامت القوات الصهيونية بخرق الهدنة الثانية، وشن هجوم ضد القوات المصرية في فلسطين، وفق نظرية مؤداها أن «حدود الدولة ترسم في ضوء الوضع في ميدان القتال». وحققت القوات الإسرائيلية نجاحاتٍ مؤكدة، نتيجة لتفوقها في العتاد، وفي المقاتلين من ناحية، ولعنصر المباغتة من ناحية ثانية، ولتردد القائد المصري اللواء أحمد علي المواوي في اتخاذ القرارات الحاسمة التي تكفل صد الهجوم من ناحية ثالثة،٦٤ وهو ما دفع بن جوريون إلى الإعلان أن «هدف حرب التحرير تنفيذ قرار الأمم المتحدة باحتلال المناطق التي خُصصَت لنا وفق قرار التقسيم، وضمان سلامة المستعمرات التي أُعدَّت لتقام خارج حدود الدولة اليهودية، وفي مرحلة لاحقة من الحرب عندما أتاحت القوة المعزِّزة للجيش الإسرائيلي توسيع حدود الدولة، ثم توسيع أهداف الحرب، لتشمل أيضًا احتلال مناطق لم تكن مخصَّصة لإسرائيل في قرار التقسيم، من خلال الافتراض أن الحدود النهائية للدولة ستتحدد — في نهاية الأمر — في ضوء الواقع في ميدان القتال.»٦٥

ثم أصدر مجلس الأمن قراره في ٢٢ أكتوبر ١٩٤٨م بالهدنة الثالثة، بعد مهلة أسبوع مُنحَت لإسرائيل، منذ خرقها للهدنة الثانية، التي استطاعت فيها إحداث شروخ عميقة في الدفاعات المصرية، حتى أصبحت القوات المصرية في الخليل وبيت لحم تعتمد في تموينها — بعد سقوط بئر سبع — عن طريق شرقي الأردن، كما تم سحب القوات التي كانت تحتل منطقتَي أسدود ونيتسانيم إلى غزة يومَي ٢٧ و٢٨ أكتوبر، وانسحبت قوات المجدل ودير سنيد يومَي ٣ و٤ نوفمبر.

بذلك، أصبحت القوات الموجودة في قطاع الفالوجا تحت الحصار، وهو يمتد من عراق المنشية إلى الفالوجا، وإلى عراق سويدان.

يقول جمال عبد الناصر في ذكرياته: «كان الموقف أكثر من خطير، وكان العدو نشيطًا إلى حدٍّ يفوق طاقة الاحتمال. بدأت الغارات الجوية على مواقعنا تزداد كثرة وشدة، واختفى طيراننا تمامًا، فلم نعُد نراه، وراحت مدفعية العدو تصب الحمم فوق رءوسنا، لا تهدأ لحظة ولا تتركنا نهدأ، وكان أكثر ما يضايقني أنه كان بين قواتنا عددٌ كبيرٌ من الجرحى، وكان الذي أتمناه أن نجد طريقًا نستطيع منه إخراج الجرحى إلى حيث نضمن لهم العلاج، فقد كان بقاؤهم بيننا يضغط على مشاعرنا ضغطًا عنيفًا قاسيًا، وكان هناك بعض المرضى، ولقد دخلت في الصباح أزور صديقًا، فإذا هو يتلوى من الألم، وإذا الفحص يثبت أنه يعاني أزمة عنيفة في المصران الأعور، وأن من الضروري أن تُجرى له جراحة عاجلة وإلا انفجر المصران، ولكن كيف يمكن أن تُجرى له العملية الجراحية؟ وخرجت ثائرًا أطلب إلى حملاتنا أن تخرج لاستكشاف طريق آخر للوصول إلى بيت جبرين، وهممت في ذلك اليوم أن أرفع جهاز اللاسلكي، وأضربه في الأرض لأحطمه وأستريح من الهراء والهذر الذي كان ينصبُّ علينا بواسطته، فقد جاءتنا الأخبار أن مجلس الأمن عاد فأمر بوقف القتال، الآن تحرك مجلس الأمن؟ أين كان؟ وأين كان الخطباء فيه؟ لقد تحرك العدو يوم ١٥ أكتوبر، ولكن مجلس الأمن أغلق عينيه، وسد أذنيه، وحبس لسانه. ومضت أيام ١٧ و١٨ و١٩ و٢٠، وفيها استطاع العدو أن يقطع خطوطنا، وإذا مجلس الأمن يفتح عينيه وأذنيه، ويُصدِر أمرًا بوقف القتال، هي خطة مرسومة، هي مؤامرة علينا، هو لعب بأقدارنا ومصائرنا وأعمارنا، هو هزل وعبث والنار المصوَّبة فوقنا، والطريق المحاصرة حولنا لا تسمح لنا أن نشترك فيه.»٦٦

•••

حوصر في قطاع الفالوجا حوالي ٤٠٠٠ ضابط وجندي، واستمر الحصار ١٢٥ يومًا متصلة، دون اتخاذ موقف سياسي أو عسكري لإنقاذ القوات المصرية. كان كما وصفه جمال حماد «ملحمة خالدة من ملاحم الجيش المصري، وواحدة من أعز أمجاده ومفاخره التاريخية.»٦٧ وحين تولى اللواء فؤاد صادق القيادة العامة للقوات المصرية في فلسطين — بدلًا من اللواء المواوي — أعلن أنه ليس في قاموسه العسكري كلمة «تسليم»، وإنما الدفاع لآخر طلقة، وآخر جندي. وقد عقَّب العميد سيد طه على كلمات فؤاد صادق بقوله: «الآن ارتفعت أرواحنا المعنوية، وسوف ندافع لآخر طلقة وآخر عسكري.»٦٨
وفي ٧ يناير ١٩٤٩م تقدم اليهود — في ظل اتفاقيات الهدنة — فاحتلوا موقعًا في أرض مصرية على طريق رفح-العريش، ووضعوا ألغامًا فوق الطريق ومدافع ٦ رطل، وهدَّدوا المواصلات الحديدية، والطرق المصرية عمومًا، وهدَّد اللواء فؤاد صادق بإجراء عمليات تطهير خلال ثماني وأربعين ساعة، حتى لا تتعرض سلامة القطارات القادمة من القاهرة للخطر، وخضعت قوات اليهود للتهديد المصري، وسحبت قواتها بالفعل قبل التاسع من يناير ١٩٤٩م.٦٩
ويكشف اللواء صادق، في المرحلة الأخيرة من حرب فلسطين، عن جانب في الخيانة «العربية» أثناء المعارك، فقد بدأت القوات اليهودية — في المدة من ٢٣ ديسمبر ١٩٤٨م إلى ٧ يناير ١٩٤٨م — هجومها في كل الجبهات: بيت لحم، الخليل، عراق المنشية، غزة، رفح، ثم التقدم إلى العريش، وكان الهدف هو إرباك مخ القيادة المصرية، والتمويه عن الغرض الحقيقي.٧٠ واستطاعت قوات بيت لحم الصمود، بعكس ما حدث في عراق المنشية؛ حيث دخلها اليهود بسبب انسحاب قوات متطوعة من دولة عربية. وأسرعت قوات من الفالوجا — بقيادة المقدم جمال عبد الناصر — إلى عراق المنشية، وأدارت هجومًا ليليًّا، خرج اليهود — على أثره — من البلدة، وكانت خسارتهم ١٢٤ بين قتيل وجريح.٧١

واستمرت عمليات العدو — والرواية لفؤاد صادق — في قطاع غزة-رفح، فلما واجهته مقاومة شديدة، تحوَّل إلى العسلوج-العوجة، واستولى على كل المواقع هناك، ثم تقدَّم إلى الأراضي المصرية في أبو عجيلة، ومنها إلى الموقع المُعَد في الخلف على مرتفعات بيت لحفن.

نظمت القوات المصرية نفسها في الموقع للدفاع عن العريش، وكانت الخطة الإسرائيلية تستهدف إجبار الجيش المصري على الانسحاب من فلسطين، وقصْر دفاعاته على سيناء «وبذلك تنجح العملية الأصلية، وهي طرد الجنود المصريين من فلسطين.»٧٢ لكن القوات المصرية استطاعت أن تأخذ موقف الهجوم، فدفعت قوات اليهود إلى الوراء، واستردَّت أبو عجيلة في ٤ يناير ١٩٤٩م، وفي اليوم التالي كانت قد استردَّت كل الأراضي المصرية.

أفلحت القوات المصرية في رد كل الهجمات البرية والجوية، وتناقل الإعلام العالمي أنباء بطولات مقاتليها، ثم غادروا الفالوجا في ٢٦ فبراير ١٩٤٩م بكامل أسلحتهم، وانضموا إلى القوات المصرية في غزة.

•••

انتهت الحرب في يناير ١٩٤٩م، وإطلاق اسم «النكبة» على ما حدث يبين عن النتائج التي أفرزتها، أسفرت الحرب — بفضل اتفاقيات الهدنة، وبالعجز العربي — عن قيام دولة لليهود في فلسطين، قوامها ٧٧٫٤٠٪ من مساحة الأراضي الفلسطينية؛ أي بزيادة قدرها ٢١٪ من النسبة التي حدَّدها قرار التقسيم،٧٣ وبلغ عدد المدن والقرى التي طُرِد منها الفلسطينيون نحو عشرين مدينة وأربعمائة قرية، واستُشهد أكثر من عشرة آلاف فلسطيني، وأصيب بجروحٍ ثلاثة أضعاف ذلك العدد، وتحوَّل ٦٠٪ من أبناء فلسطين (٩٠٠ ألف شخص) إلى لاجئين، ولا يسمح لهم بالعودة إلى بلادهم.٧٤
لخصت الدعاية الصهيونية ما حدث بأنه «حرب اليهود في فلسطين ضد القوات البريطانية!»٧٥ أما العرب فإنهم «جيوش معتدية، حاولت سلب اليهود استقلالهم، فحاربوهم وهزموهم، وحققوا استقلال إسرائيل.»٧٦ وكانت القيادات الصهيونية قد أطلقت على الحرب العربية الصهيونية اسم «حرب الاستقلال»، وحلَّت تسمية الرواد، بدلًا من المستعمرين للموجات الأولى من المهاجرين اليهود الذين وفدوا من بلادهم إلى فلسطين.

وكما ترى، فإن من أهم الأسباب التي أفضت إلى هزيمة الجيوش العربية حتى السابع من يناير ١٩٤٩م — عندما أعلنت الهدنة الثالثة والأخيرة — هي:

  • خيانة بعض الزعامات العربية بصورة سافرة، إلى حد تسليم مساحاتٍ واسعة من الأرض دون قتال، إلى القوات الصهيونية. يقول هاشم (منتهى): «تبادلنا رحى الهزيمة تحت رحى الخيانة، وانفجرت في صدورنا أسلحتنا، وحوصرنا مائة وستة وثلاثين يومًا، والمعاهدات تجرى في الخفاء، وبعضهم عقد هدنة مستديمة حتى ينصِّبوه ملكًا.»٧٧
  • التواطؤ الإنجليزي مع اليهود، بالخروج من بعض المناطق ليحتلها اليهود بدلًا منهم.

  • الضغوط الأمريكية والغربية عمومًا، داخل الأمم المتحدة وخارجها.

ويقول عبد المنعم الصاوي إن بريطانيا هي التي أوحت للمسئولين المصريين بمشاركة الجيش المصري في حرب فلسطين، توصلًا للقضاء على معنويات أفراده، والقضاء على طموحهم؛ فقد كان الجيش بلا استعداد، سواء من حيث التدريب، أو السلاح.٧٨
وثمة رواية، أن الجيش دخل الحرب ولديه ما يكفي ثلاثة أيام فحسب من الإمدادات والتموين، وعندما وصل غزة كانت الذخيرة قد نفدت.٧٩
والثابت تاريخيًّا أن مصر تحمَّلت ثلاثة أرباع نفقات حرب فلسطين عسكريًّا (تكلفت الحرب حوالي ٨٠ مليونًا من الجنيهات، في الوقت الذي لم تكن فيه ميزانية مصر كلها قد بلغت المائتي مليون)،٨٠ وقدمت نصف عدد الشهداء العرب غير الفلسطينيين في تلك الحرب، وحاربت بما يصل إلى عشرة آلاف جندي، احتلوا في الأسابيع الأولى من بدء القتال أشد الحصون الإسرائيلية مناعة في أسدود ودير سنيد وبيت سالم.٨١
ويقول أحمد بهاء الدين: «كان الملك والحاشية يُصدِرون الأوامر من القصر إلى القوات المحاربة في الميدان رأسًا، وكان التقدم والتقهقر وقبول الهدنة واستئناف القتال، كلها مسائل يقررها فاروق وحيدر والحاشية!»٨٢ وكان كريم ثابت — المستشار الصحفي للملك — يتوسط — لقاء مبالغ ضخمة — للإفراج عن بعض اليهود المعتقلين، ولرفع الحراسة عن بعض اليهود المعتقلين، ولرفع الحراسة عن ممتلكاتهم.٨٣
وتقول حنيفة هانم (واحترقت القاهرة) — في صراحة — لوصيفة الملكة نازلي: «إنكِ تعرفين ما أصبح يُقال ويُردَّد، من أننا لا نفعل شيئًا إلا أن نقيم الحفلات، ونظهر في الصور، ونتحلَّى بالألقاب العسكرية!»٨٤
وكانت سعادة الأب عندما أسقطته القرعة في ١٩٤٨م، لا لأنه تخطَّى سن التجنيد، وحصل على الإعفاء، وإنما لأنه «نجا من رائحة الحرب الفاسدة التي أطلقها أعداء الوطن.»٨٥ ويقول حمزة (قبل أن تفيض الكأس) إن حرب فلسطين أشعلت الفتيل، وستنفجر القنبلة، لا بُدَّ من الانفجار!٨٦

ولا يخلو من دلالة أن مصرع النقراشي حدث في الوقت الذي كانت القوات المصرية تحيا مأساة حصار الفالوجا!

هوامش

(١) الأخبار، ٣٠/ ٤/ ١٩٨٨م.
(٢) عبد المنعم الصاوي، أسرار معركة ١٩٤٨، كتاب الجمهورية.
(٣) مصر والعسكريون، ١٣٣.
(٤) إحسان عبد القدوس، أضيئوا الأنوار حتى نخدع السمك، الهزيمة كان اسمها فاطمة، مكتبة مصر.
(٥) جمال حماد، لماذا تدخَّل فاروق في قضية الأسلحة الفاسدة؟، أكتوبر، ٢٥/ ٢/ ١٩٩٠م.
(٦) المرجع السابق.
(٧) صلاح الشاهد، ذكرياتي في عهدين، ١٧٧-١٧٨.
(٨) كيف سقطت الملكية في مصر، ١٦٩.
(٩) أكتوبر، ١١/ ٥/ ١٩٨٦م، والغريب — والمؤسف — أن الرجل ألقى — فيما بعد — بمسئولية مشاركة الجيش المصري في الحرب على الملك والنقراشي!
(١٠) جيشنا في فلسطين، ١٠، ولعله يجدر بنا أن نشير إلى المبالغة الإنشائية التي وصف بها محمد حسنين هيكل استعراضًا للجيش المصري إبان قيادة حيدر له، وأنهى هيكل كلماته بالدعوة إلى إقامة تمثال لحيدر!
(١١) أكتوبر، ١٥/ ٧/ ١٩٩٠م.
(١٢) الدوحة، فبراير ١٩٨٤م.
(١٣) محمود رياض، أمننا مهدَّد ونحن عاجزون عن حمايته، الاتحاد، ١٩/ ٨/ ١٩٩٠م، كان للإخوان المسلمين ست كتائب، اشتركت في حرب فلسطين منذ بدايتها في ١٥ مايو ١٩٤٨م.
(١٤) أكتوبر، ١٨/ ١١/ ١٩٩٠م.
(١٥) كيف سقطت الملكية في مصر؟، ١٧٣.
(١٦) مذكرات الحاج أمين الحسيني.
(١٧) محمود رياض، الاتحاد، ١٩/ ٨/ ١٩٨٥م.
(١٨) العربي، ديسمبر ١٩٧٨م.
(١٩) توفيق عبد الرحمن، منزل من دورين، البستاني، ٢٦.
(٢٠) الدوحة، فبراير ١٩٨٤م.
(٢١) كيف سقطت الملكية في مصر؟، ١٩٤.
(٢٢) يصف إبراهيم عبد الهادي محمد حيدر بأنه ملازم أول، كانت مؤهلاته مطاردة ثورة ١٩١٩م، فلما أراد الإنجليز إبعاده من سلك البوليس، عيَّنوه وكيل محافظة، وبعد هذا، جعلوه قائدًا للجيش، وألبسوه بدلة قائد الجيش (مذكرات إبراهيم عبد الهادي، روز اليوسف، الحلقة العشرون).
(٢٣) الطليعة، مارس ١٩٧٥م.
(٢٤) مذكرات الحاج أمين الحسيني.
(٢٥) طارق البشري، يومان تاريخيان في حياة الثورة، الطليعة، يوليو ١٩٦٥م.
(٢٦) الحصاد، ٢٨٩.
(٢٧) المصدر السابق، ٢٩٠–٢٩٨.
(٢٨) محمد حسنين هيكل، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، ٢٥٠-٢٥١.
(٢٩) أيامه الأخيرة، ١٥٧.
(٣٠) الشرق الأوسط، ١٧/ ١/ ١٩٨٣م.
(٣١) معركة نزاهة الحكم، ١٢١-١٢٢.
(٣٢) مصر والعسكريون، ١٢٧.
(٣٣) محمود حسين، الصراع الطبقي في مصر، ٩٠.
(٣٤) الدوحة، فبراير ١٩٨٤م.
(٣٥) المرجع السابق.
(٣٦) مذكرات منسية، ٢٠.
(٣٧) صوت الأمة، ٢٩/ ١٢/ ١٩٤٧م.
(٣٨) مذكرات إنجي أفلاطون، ١٠٣.
(٣٩) كانت أول كتيبة دخلت أرض فلسطين محمولة على عربات أوتوبيس يملكها أحد المقاولين! (مصر والعسكريون، ١٣٥).
(٤٠) أودع تقريره في الجمعية العامة في ١٦ سبتمبر، واغتيل في ١٧ سبتمبر، ونُشِر التقرير في ٢٠ سبتمبر ١٩٤٨م!
(٤١) الأهرام، ٢٣/ ٩/ ١٩٤٨م.
(٤٢) أسرار الثورة المصرية، ٢٠٥.
(٤٣) سقط قائد السرب محمود محمد بركة بطائرته بعد إغارته الثانية على مطار تل أبيب في منتصف الساعة التاسعة من صباح ١٥ مايو، فكان الأسير العربي الأول بعد إعلان دولة إسرائيل، وقال اليهود إنه أول أسير يقع في أيديهم منذ عشرات القرون، ولهذا سوف تُوضَع صورته في السجلات الرسمية الصهيونية (كنت أسيرًا، ٦١).
(٤٤) يقول حلمي سلام: «كنا متلهفين على أن نذيع في كل يوم نبأ نصر جديدًا، حتى كادت اللهفة على النصر أن تودي بنا إلى أشنع الفشل.» (دقات الأجراس، ٣٣).
(٤٥) ميلاد ثورة، ١٨.
(٤٦) كيف سقطت الملكية في مصر، ١٨٨.
(٤٧) من قرارات مجلس الوزراء المصري في ١٩٤٨م.
(٤٨) عمالقة وأقزام، ١١٥.
(٤٩) مذكرات منسية، ٢١.
(٥٠) شئون فلسطينية، مايو ١٩٧٢م.
(٥١) الحصاد، ٢٩٠.
(٥٢) توفيق عبد الرحمن، منزل من دورين، دار البستاني، ٤٨.
(٥٣) روز اليوسف، ٢٧/ ٩/ ١٩٨٢م.
(٥٤) أكتوبر، ١٨/ ١١/ ١٩٩٠م.
(٥٥) الأوريان، ٨/ ٩/ ١٩٤٨م.
(٥٦) عبد الحميد جودة السحار، امرأة من فلسطين، الكتاب الذهبي.
(٥٧) أكتوبر، ١٨/ ١١/ ١٩٩٠م.
(٥٨) شئون فلسطينية، مايو ١٩٧٢م.
(٥٩) أكتوبر، ١٨/ ١١/ ١٩٩٠م.
(٦٠) المرجع السابق.
(٦١) نحن لا نزرع الشوك، ٧٢٣.
(٦٢) ميلاد ثورة، ٨٨.
(٦٣) مصطفى بهجت بدوي، كلام عنا وعن إسرائيل، كتاب الجمهورية.
(٦٤) جمال حماد، حصار الفالوجا كما وصفه جمال عبد الناصر، أكتوبر، ٢٧ أكتوبر ١٩٩١م.
(٦٥) تسفي لاز، الغايات السياسية والأهداف العسكرية لحروب إسرائيل، مجموعة باحثين، تطور العقيدة العسكرية الإسرائيلية خلال ٣٥ عامًا، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، نيقوسيا ١٩٨٣م، ٣٥.
(٦٦) أكتوبر، العدد ٧٨٣.
(٦٧) أكتوبر، ١٧/ ١١/ ١٩٩١م.
(٦٨) المرجع السابق.
(٦٩) المرجع السابق.
(٧٠) من مذكرة غير منشورة للواء أحمد فؤاد صادق.
(٧١) المرجع السابق.
(٧٢) المرجع السابق.
(٧٣) الحرب والسلام في غرب آسيا، ٤٣.
(٧٤) هدى الصدة وأخريات، زمن النساء والذاكرة البديلة، ملتقى المرأة والذاكرة، ٣٢١.
(٧٥) المرجع السابق.
(٧٦) المرجع السابق.
(٧٧) هالة البدري، منتهى، ٢١٩.
(٧٨) الجمهورية، ١١/ ١٠/ ١٩٧٥م.
(٧٩) عادل ثابت، الملك الذي غدر به الجميع، أخبار اليوم، ١٧٧.
(٨٠) راشد البراوي، حقيقة الانقلاب الأخير في مصر، ٧٧.
(٨١) أكتوبر، ١٨/ ١١/ ١٩٩٠م.
(٨٢) أحمد بهاء الدين، فاروق ملكًا، روز اليوسف، ٣٨.
(٨٣) محكمة الثورة، ٢: ٤٠.
(٨٤) واحترقت القاهرة، ٢٩٨-٢٩٩.
(٨٥) خيري عبد الجواد، التوهمات، ٩٠.
(٨٦) كامل سعفان، قبل أن تفيض الكأس، مطبعة حسان، ١٨٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥