طريق العودة

شكَّل الإبداع المصري الذي تناول تطورات الأوضاع في فلسطين بضع روايات وقصص قصيرة، لا يشكِّل غالبيتها ما يضيف إلى وعي القارئ، ولا إلى الفن الروائي والقصصي.

ولعلنا نجد في رواية «طريق العودة» ليوسف السباعي مغايرة من حيث القضايا التي تطرحها، وإن اتَّسمت الرواية بالرومانسية الساذجة التي تسم معظم أعمال السباعي.

الرواية تبدأ في خريف ١٩٤٨م، قبيل المعارك الحاسمة التي انتهت إليها عمليات القتال الأولى في فلسطين.

الإدانة هي السِّمة العامة التي تلف شخصيات الرواية، حتى تلك التي لا تبدو في صورتها الظاهرة.

اليوزباشي مراد يقضي ثلاثة أيام في القاهرة مع أسرته، وثلاثة أيام في الإسماعيلية مع عشيقته، ويومًا سابعًا ﻟ «الخبص المنفرد» على حد تعبيره.١
كان التحاقه بالقوات المصرية في فلسطين، فرارًا من حياته في القاهرة، لكن ظروف الحرب وتوقعاتها، مثل الأَسْر أو الإصابة أو الاستشهاد، لم تخطر في باله على الإطلاق. من هنا، فقد لخص خطته — لم تكن لديه خطة بديلة — في أن يعيد ترتيب حياته في العريش، ويدبِّر أمر مستقبله على أساس إعادتها مرة أخرى في القاهرة.٢
كانت الحرب بالنسبة لإبراهيم — الضابط بسلاح المهندسين — عملية تصفية وهروب واستجمام؛ فقد باع سيارته، وصفَّى أعماله، وحوَّلها إلى دين واحد يمكنه سداده على أقساطٍ يوفِّرها من مرتبه المضاعف الذي سيحصل عليه (التعبير الذي استخدمه الفنان: سيستولي عليه!) في الميدان، ومن عمليات التوفير التي سيجريها في حياته بعد أن يترك بيته، ومن المبلغ الذي سيحصل عليه من إيجار البيت.٣ كانت فكرة الحرب إذن أبعد ما يدور في خاطره، وكان كل ما يعنيه تصفية مشكلاته، والتخلص من مصروفاته، والحصول على مرتب الميدان الذي يمكِّنه من تسوية ديونه، وكان انتقاله إلى العريش مسألة اقتصادية خالصة، يفضُّ بها مشكلاته المالية، ثم يعود إلى القاهرة ليبدأ من جديد.٤
ولعله يمكن القول إن إحساس إبراهيم بالمشكلة الفلسطينية، لم يختلف عما أحسَّه الكثير من المصريين حينذاك، فهو يتابعها في عناوين الصحف والأخبار والمقالات، ثم ينصرف عنها إلى مشكلات أخرى، عامة وخاصة.٥ كان واحدًا من المثقفين المصريين الذين لم يكونوا يشعرون بالمشكلات العامة، إلا بقدر تأثيرها على محيطهم الخاص «ولم تنَل مشكلة فلسطين من تفكيره أو إحساسه إلا بالقدر الذي تناله مآسي الغير التي نمرُّ على عناوينها بالصحف، فنمصمص شفاهنا، أو نهز رءوسنا أسفًا، ثم نجتاز إلى مشكلاتنا الخاصة العادية التي تكتظ بها حياتنا.»٦
بالإضافة إلى ذلك، فقد ذهب إبراهيم إلى ميدان القتال دون أن يعرف عن طبيعة المعارك شيئًا: ما قدرة القوات المصرية؟ ما طبيعة عملها؟ أين مواقعها؟ وفرص النجاح المتوفرة؟ والعدو: هل هو عصابات إرهابية أو جيش منظم؟ وما مواقع قواته بالتحديد؟ أسئلة لم يعنَ بها على الإطلاق.٧
ويُفاجَأ إبراهيم — في اللحظة التي يصل فيها إلى العريش — أن مبنى رياسة المهندسين يخلو من الضباط تمامًا، حتى الضابط النوبتجي ذهب للغداء.٨ وحين أعد إبراهيم بيته الساحلي الأنيق لاستضافة زوجته وابنه، فقد كان الإحساس الذي يملؤه، أنه يدعوهما لمصيفٍ، وليس في ميدان قتال.٩ حتى الزوجة، لم تُحضر الخادمة معها إلى العريش، فليس ثمة ما يدعو إلى إطالة البقاء، وحددت فترة الإقامة في العريش بأسبوعين.١٠

كانت الخمر بأنواعها هي المشروب المفضَّل لدى غالبية الضباط، يشربونها في أي وقت، وفي أي مكان، حتى من قبل بداية المعارك!

ويسأل إبراهيم: كم لديكم من دبابات؟

يجيب مراد: قال يا جحا عد غنمك … واحدة نايمة … والتانية برضه نايمة.١١

ولعلنا نجد تلخيصًا لذلك كله، أو لعل ما كتبه الفنان تعبير فني عن هذه الكلمات التي روى فيها جمال عبد الناصر ما حدث في الأيام الأولى لقيام الحرب: «الإحساس بالفجوات المنذِرة بالخطر لم يلبث أن عاد إلينا، عندما وصل القطار بنا إلى العريش، ولم نكن ندري أين مواقع وحداتنا بالضبط، حتى نستطيع اللحاق بها، ولم نجد مَن يرشدنا إلى هذه المواقع. وأخيرًا، ذهبنا إلى رياسة المنطقة ونحن نتصورها خلية نحل تئز بالحركة الدائبة، ولكن رياسة المنطقة لم يكن بها أحد على الإطلاق. وحين عثرنا على أركان حرب المنطقة، كان الشاب يبحث عن عشاء لنفسه، واستضفناه على ما تبقَّى معنا من طعام، وجاءتنا الأخبار بعد العشاء بمواقع كتائبنا على وجه التخمين. وذهبت إلى الكتيبة السادسة، ووجدت الجو فيها عجيبًا للغاية؛ فقد أحس الضباط من خلال بيانات الحكومة أن الحرب حرب سياسية، وكان لهذه النغمة ما يؤيدها، ويتناسق معها، من كل ما رأوا حولهم، ولم يكن معقولًا أن تكون هذه حربًا؛ لا قوات تُحشَد، لا استعدادات في الأسلحة والذخائر، لا خطط، لا معلومات، ومع ذلك، فهم في ميدان قتال.

إذن فهي حرب سياسية، هي إذن حرب ولا حرب.»١٢

•••

نهى، فتاة من نابلس، فقدت ذويها أثناء اعتداءات العصابات الإرهابية الصهيونية، صادفها الضابط المصري عبد الرحمن في أحد معسكرات اللاجئين، وأعجبه فيها طيبتها وهدوءها، فسألها أن تعيش مع أسرته لتؤنس وحدة زوجته، وترعى معها شئون البيت والأولاد.١٣

تعبِّر نهى عن موقف الفلسطينيين بقولها: كان معنا عصا، وكان معهم مدفع … والمدفع يغلب العصا!

تضيف مؤكدة: إذا كان معي مدفع، فلن أضل أبدًا، سيكون طريق العودة إلى بيتي واضحًا.١٤
وكانت نهى هي الهزة التي صحا بتأثيرها إبراهيم على حقيقة القضية الفلسطينية؛ إنه يحارب إسرائيل، ليساعد الآلاف من الفلسطينيين — ومن بينهم فتاته — على العودة إلى بلادهم.١٥
ولعلِّي أوافق على أن نهى كانت تمثِّل الضمير العام في الرواية «فقد كان وجودها بين الضباط نفيرًا يدوي ولا يُسمَع في وقتٍ واحد، وفي اللحظات الأخيرة للمعركة، صرخت تطلب سلاحًا لتقتل به مَن سلبوها وطنها.»١٦
وحين تكشف الحرب عن أبعادها المأساوية، وأنها لم تكن نزهة ولا إجازة قصيرة، يقول إبراهيم لمراد في صراحة: هل تصدق أني لم آت إلى هنا إلا لأحل أزمتي المالية بمرتب الميدان المضاعَف، وأني لم ألمس حقيقة المأساة التي نحارب من أجلها إلا منذ أن لقيتُ نهى، ولمست آلامها، وأحسست بمشاعرها.١٧
وكان تصور مراد — في المقابل — أنه لو انطلق بنفيسة (الاسم الذي أطلقه على دبابته) فلن يقف إلا في تل أبيب، لكن الدبابة كانت تقف على خط القناة ببطارية فارغة.١٨ حتى أبسط الأشياء — كوب الشاي مثلًا — يعجز مراد عن الحصول عليها، يعتذر له «المراسلة» بأنه «لا يوجد جاز ولا مؤاخذة لعمل الشاي.»١٩ ويتمتم في أسًى: أهذه حال؟ لا يستطيع الإنسان حتى أن يشرب فنجانًا من الشاي، طبعًا ما داموا هم يستريحون في قياداتهم، لماذا لا يفعلون بنا هذا؟! لماذا يرموننا في المواقع ويحرِّمون علينا مغادرتها؟ إلى متى سنبقى في مواقعنا؟ ولماذا؟٢٠

•••

يتلقَّى مراد أمرًا من قائده بطرد القوات اليهودية من تبة تقطع الطريق إلى غزة، وتعزل القوات المصرية الموجودة في الشمال، ويسأل مراد عن قوات المشاة المساندة، ليفاجأ بتأكيد القائد أن الدبابات بمفردها ستسترد المواقع، وعبثًا يحاول مراد إقناع قائده بصعوبة ذلك، إن لم يكن باستحالته، لكن القائد يصرفه مؤكدًا وجوب استعادة التبة بأي ثمن.

يتمم مراد على دباباته، وعلى البطاريات والإمداد والتموين، ثم يُصدر أوامره بالتحرك، وفي أعماقه إحساس بالمرارة، فلا نظم، ولا قواعد، والارتجال يبسط ظله على كل شيء. حتى التفاصيل المطلوبة لم يكن يعرفها: عدد قوات العدو، مواقعها، تجهيزاتها … لم يكن يعرف إلا أن اليهود قد احتلوا التبة ٨٦، وأن على كتيبته أن تطردهم منها. وما تكاد الدبابات تتجه صوب التبة حتى انهالت عليها القذائف، فأوقفتها واحدة بعد أخرى، ولم يجد مراد بدًّا من إعطاء الأمر بالانسحاب.

يدور السائق بالدبابة نصف دائرة، ثم يتوقف تمامًا؛ لقد نفدت الكهرباء، ونفدت الذخيرة، ويقفز من برج الدبابة في ذهول، ويصيح ببقية الطاقم أن يتبعوه، ويحرق الدبابة، ويستدير عائدًا على قدميه «بلا كتيبة ولا جنود ولا ضباط ولا حتى دبابة.»٢١

وفي مقر القيادة يُفاجأ مراد بأن التبة قد سقطت، بعد أن استطاعت كتيبته تدمير المواقع اليهودية، ثم تقدمت كتيبة الضابط مرسي، واحتلت التبة دون أن تُطلِق رصاصة واحدة!

ويلخص مراد ما حدث بقوله: «لقد أوقعتُ بقوات اليهود أشرَّ مما أوقعوه بي، لقد أفنى كلٌّ منا الآخر، ولكن الذي جنى ثمرة المعركة، والذي فرَّت بقايا اليهود أمامه دون أن يُطلِق طلقة واحدة، هو مرسي … لقد خسرتُ أنا كتيبتي … ولكن الآلاي كسب المعركة … هل فهمت؟»٢٢
ثم تبلغ المأساة ذروتها، لما توافق القيادة العليا على طلب قائد الفرقة بترقية الضابط منصور قائد الآلاي إلى رتبة القائمقام، والإنعام على الضابط مرسي بنيشان النيل «لما أبدياه في معركة التبة».٢٣

•••

يُفاجأ مراد بأمر جديد بالتحرك.

– إن اليهود يهدِّدون العريش.

– غير معقول! لا يمكن أن تبلغ بهم الجرأة هذا الحد؟!

– إنهم يتجهون إليها عن طريق العوجة، متقدمين من بير سبع.

– وماذا سنفعل نحن؟

– ستتحرك كتيبتك لتكون قبل سقوط الظلام في العريش، لتعاون القوة المدافعة.

– كيف سنتحرك؟ إننا نحتاج إلى وقتٍ طويل.

– ستُنقل الكتيبة بالسكة الحديد، لقد أُعدت العربات، وستكون بعد نصف ساعة جاهزة للتحرك بالدبابات، يجب علينا الآن أن ننقل الدبابات إلى الرصيف.

– هذه ليست مشكلة.

– ما هي المشكلة إذن؟

– إن نصف الدبابات عاطلة.

– ولم؟

– أعطال صيانة.

– يا أخي نصلحها، إن الصيانة كلها ستكون تحت أمرك، هيا البِس ثيابك بسرعة، مشكلة أخرى.٢٤
ويُعِد مراد سريته للقتال، لكن قائد الآلاي يصل، ويعلن أنه سيتقدم المعركة: «سأسبقك إلى الانتحار أيها الرجل الطيب الجريء.»٢٥ ويحس مراد أنه قد ظلم قائده، وتحتدم المعارك، ويشعر الضابط المهندس إبراهيم أنه يجب أن يكون هناك في قلب المعركة. لقد أتمَّ المهمة التي كُلِّف بها، وهي أن يعزز حقول الألغام على جانبَي الطريق، ويرتدي بذلته، وينطلق بالسيارة إلى حيث المعركة الدائرة، ويشارك فيها بالفعل، ويستطيع إنقاذ مراد الذي احترق في داخل دبابته، ولكن ما يكاد ينطلق بالعربة التي تقله ومراد حتى تصرعه طلقات دبابة إسرائيلية.
ويتمتم مراد: «لقد أنقذ حياتي، ثم مات، إني لا أستحق، لقد كان خيرًا مني!»٢٦

•••

الرواية تفجر قضية الأسلحة الفاسدة، وأنها هي السبب المباشر في هزيمة القوات المصرية (وهو ما اعتبرته معظم الأعمال الإبداعية التي تناولت حرب فلسطين سببًا مباشرًا في نتائجها السلبية)، يقول مراد: إن نصف قنابلنا ينفجر من الخلف، لقد أصبحنا نخاف من مدافعنا أكثر مما نخاف مدافع العدو.٢٧

ويتهم مراد السراي — صراحة — بأنها وراء توريد السلاح الفاسد، عندما تقول الصغيرة نادية إنها ستطلب من جدتها في القاهرة شراء مدفع وقنبلة لطرد اليهود، فيسألها مداعبًا: هل لها — الجدة — قريب في القصر؟

– القصر العيني؟

– لا … القصر الملكي.

وتدخَّل إبراهيم متسائلًا: القصر الملكي؟

– أجل … إذا كانت ستشتري المدافع والقنابل بواسطة القصر، فعلينا العوض.٢٨

هوامش

(١) يوسف السباعي، طريق العودة، الشركة العربية للطباعة والنشر، ١٩٥٦م.
(٢) المصدر السابق، ١٨.
(٣) المصدر السابق، ١٦.
(٤) المصدر السابق، ٣٧.
(٥) المصدر السابق، ٨١.
(٦) المصدر السابق، ٨١.
(٧) المصدر السابق، ٨٤.
(٨) المصدر السابق، ٣٩.
(٩) المصدر السابق، ٤٦.
(١٠) المصدر السابق، ٦١-٦٢.
(١١) المصدر السابق، ٨٧-٨٨.
(١٢) آخر ساعة، العدد ١٥٨٥.
(١٣) طريق العودة، ٦١.
(١٤) المصدر السابق، ٧١-٧٢.
(١٥) المصدر السابق، ٨٣.
(١٦) محمد عبد الحليم عبد الله، الوجه الآخر، مكتبة مصر، ١٢٥-١٢٦.
(١٧) طريق العودة، ١٣٦.
(١٨) المصدر السابق، ٣٥-٣٦.
(١٩) المصدر السابق، ٣٥٠.
(٢٠) المصدر السابق، ٣٥٠.
(٢١) المصدر السابق، ١٩٨.
(٢٢) المصدر السابق، ٢٢٧.
(٢٣) المصدر السابق، ٢٤٠.
(٢٤) المصدر السابق، ٣٥٣.
(٢٥) المصدر السابق، ٣٨٠.
(٢٦) المصدر السابق، ٤٤٠.
(٢٧) المصدر السابق، ١٤٥.
(٢٨) المصدر السابق، ١٤٦-١٤٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥