هل كان السلاح فاسدًا؟
تقول ليلى (قبل أن تفيض الكأس): «إن بعض الصحف تشير إلى وجود أسلحة فاسدة، استُوردَت
من إيطاليا،
وقد ذهب ضحيتها الكثيرون من الجنود والضباط.»
١ ويقول أشرف (الحب يأتي مصادفة): «إني حاربت في ٤٨، وكانت أسلحتنا فاسدة، ولكننا ما خفنا
وما
تراجعنا، لقد تقدَّمنا كثيرًا، ولكن منهم لله من كانوا السبب في الخراب والمسخرة.»
٢ ويبعث أشرف (قبل أن تفيض الكأس) إلى ابن خاله حمزة رسالة يقول فيها: «لقد قتلت الأسلحة
الفاسدة منا الكثيرين.»
ويعقب حمزة على الرسالة بالقول: «الجميع يتحدثون عن بيعنا لليهود بثمنٍ بخس، لقد
تكررت مأساة
عرابي، الأتراك والشركس يتاجرون بالأحرار في سوق النخاسة، إن جماعات من الضباط بدءوا
يتناولون القضية
على طول خط المعركة، المنشورات تملأ المعسكرات بالاحتجاجات والاتهامات.»
٣
ويقول قدري رزق الضابط بسلاح الفرسان: لقد ضحَّى بالجيش بطريقة دنيئة، قصد بها القضاء
على كرامته وأرواح رجاله!
يضيف في ضيق: لا يمكن أن يمر ذلك بلا ثمن!
٤ المرايا، ٣٣٩.
تطوع صابر في الحرب، يدفعه إيمان وشجاعة، لكن الرصاصة انطلقت من البندقية التي كان
يضعها على
صدره، ويصوِّبها إلى العدو، فكادت تصيبه في عينه،
٥ بل إن كلمات مشابهة لتلك التي قالها الشهيد أحمد عبد العزيز لكمال الدين حسين: «معركتنا
الحقيقية داخل مصر، وليس خارجها» قالها صابر بعد عودته من الحرب مصابًا برصاصة في عينه
«المعارك الأولى
يجب أن تتم هنا، في القلب أولًا.»
٦ وطالما تحدث الجندي مجاهد (أنا الشعب) عن القنابل «الرفَّاسة» في حرب فلسطين، التي كانت
تضرب دائمًا إلى الوراء كأنها بغال خبيثة.
٧ ويقول الراوي: «حينما صرع السلاح الفاسد زملائي، ضربت الأرض حنقًا وغيظًا، وانطلقت عائدًا،
وفي أثناء هروبي، عودتي، أصابتني رصاصة في ذراعي، فبترها الأطباء، هذا كل ما في الأمر،
سلاح فاسد مكتوب
عليه أنه موضوع في بلاد أجنبية.»
٨ ويقول لمحدِّثه: «أترى ذراعي المبتورة؟ من الأسلحة الفاسدة التي تسلَّمناها في فلسطين،
لذلك
هُزِمنا هناك.»
٩
ومتأخرًا، اكتشف الراوي أن جارته الحزينة دومًا، والتي اختفت بلا سبب، كانت زوجًا
لضابطٍ قُتِل منذ
ثماني سنوات في حرب فلسطين، فتطوعت في الهلال الأحمر، وسافرت إلى غزة لتعيش هناك بجوار
قبره.
١٠
لم تكن نكبة فلسطين إذن — كما تشير هذه الروايات — نتيجة لعدم شجاعة المقاتل المصري،
أو لنقصٍ في
الكفاية والتدريب، لكنها كانت نتيجة «لأحقر مؤامرة عُرفَت في تاريخ مصر الحديث، وهي تزويد
الجيش المحارب
بالأسلحة الفاسدة التي كانت ترتد إلى أبنائنا الأبرياء، فتقتلهم.»
١١
•••
يعتبر أحمد بهاء الدين قضية الأسلحة الفاسدة «أول ضربة قاصمة تُوجَّه إلى الملك وتزعزع
عرشه.»
١٢ ويقول الكاتب: «في أوروبا كان عملاء الملك يعقدون صفقات السلاح الفاسد، ويرسلونه إلى
فلسطين
ليتفجر في أيدي الجنود وقلوبهم، وكانت هذه العملية الجهنمية تدر مئات الألوف ربحًا، وكان
وزير الحربية —
حيدر — يعرف، والوزارة كلها تعرف، ولكنها كانت تلوذ بالصمت لأن التاجر هو الملك.»
١٣
ثم شهدت القضية تطوراتٍ مهمة، حين بدأ إحسان عبد القدوس نشر مقالاته في «روز اليوسف».
يروي إحسان عبد القدوس قصة اهتمامه بقضية الأسلحة الفاسدة، يقول: «في يوليو سنة ١٩٤٩م
كنت في
إيطاليا، وسمعت هناك عدة أحاديث عن صفقات الأسلحة التي عقدها مندوبو الجيش المصري ووكلاؤه،
وكانت هذه
الأحاديث تشمل تفاصيل دقيقة، وتشمل أرقامًا وتواريخ، وكان يهمس بها في أذني رجالٌ أثق
في معلوماتهم بحكم
مناصبهم الرسمية، ورغم ذلك فقد كانت مجرد أحاديث قد تُقال في صالون، ولكنها لا تصلح للنشر،
لأنه يعوزها
المستندات والأدلة. وهالني بعد ذلك أن هذه الأحاديث لا تدور في أوساط محددة، بل إنها
تدور في كل مكان،
وعلى لسان كل إنسان، وكان يكفي أن تجلس في مقهى «الدونيه» في روما، أو تطوف بميدان «الدوم»
في نابولي،
ويُعرَف عنك أنك مصري، حتى تسمع قصة صفقة من صفقات الأسلحة والذخائر. وأرسلت من روما
برقية إلى روز
اليوسف، ألفت نظر الحكومة المصرية إلى هذه الأحاديث التي تؤذي سمعة مصر وسمعة جيشها،
وأطالبها بإجراء
تحقيق في هذه الصفقات، ومحاكمة المسئولين عنها، وقد نشرت هذه البرقية تحت عنوان «محاكمة
مجرمي حرب
فلسطين»، واعتقدت بذلك أني قد أديتُ واجبي، وانتهيت. وعدت إلى مصر في شهر أغسطس، فتبيَّنت
أني كنتُ مغرورًا
عندما اعتقدت أن برقية واحدة تكفي كي تتحرك الحكومة المصرية بجلالة قدرها للتحقيق في
حادثٍ ما، حتى ولو
كان هذا الحادث يمس سمعة مصر وكرامتها وهيبتها، فبدأت أكتب في كل مكان أستطيع أن أكتب
فيه، وكنت أكتب
تلميحًا لا تصريحًا، وأحرص على ذلك: الجيوش العربية، بدلًا من تحديد الجيش المصري بالذات،
ولكن كان قلمي
أضعف من أن يلفت نظر أحد المسئولين رغم كثرة خطابات التأييد التي كنت أتلقَّاها من غير
المسئولين، ولم
يهتم بي أحد، ولم يصدر بلاغ بتكذيب ما لمَّحت إليه في مقالاتي رغم أن بعض هذا التلميح
كان أقرب إلى
التصريح، إلى أن انتهى الأستاذ محمود محمد محمود رئيس ديوان المحاسبة السابق من وضع تقريره،
وأشار فيه
إلى بعض صفقات الأسلحة والذخائر إشارة صريحة مدعَّمة بالوثائق والمستندات. ولكن تقرير
الديوان لم ينته
إلى التحقيق مع المتهمين، وإخراجهم من مناصبهم — على أقل تقدير — بل انتهى بخروج رئيس
الديوان واضع
التقرير، فقد طُلِب منه أن يحذف من تقريره ما جاء خاصًّا بصفقات الجيش، فأبت عليه كرامته،
وفضَّل أن يستقيل.
وهنا تبينت أن الذين يقفون وراء هذه الصفقات أقوى مما كنت أعتقد، وأقوى من أن ينتصر عليهم
قلم، بل أقوى
من الرأي العام.»
١٤ كما انتهى استجواب مصطفى مرعي بخروجه من مجلس الشيوخ.
١٥
•••
ثمة روايات تؤكد أنه لما سافر ضباط الجيش إلى ميدان القتال — كمتطوعين — كانت الصدمة
الأولى التي
واجهتهم، أن كشوف الأسلحة كانت تضم ما لا يوجد في الحقيقة، بل كانت الكشوف تتضمن أصناف
الأسلحة والمعدات
الموجودة بالفعل في أيدي الجنود، ذلك لأن البعض وجدها فرصة لتغطية ما تعانيه «العُهَد»
من نقصٍ مروع، وقام
بعض أصحاب «العُهَد» بإعادة جرد ما لديه، وأتمَّ حصر الناقص منها، وسدَّده في كشوف الأسلحة
والذخائر المرسَلة
إلى ميدان القتال.
في كتابه «دقات الأجراس» يروي حلمي سلام أن مصر دفعت ٥٠ ألف جنيه ثمنًا لسبعٍ وعشرين
طائرة تعليم،
وعندما وصلت هذه الطائرات إلى مصر، اكتشف الخبراء التعليم أنها تصلح لكل شيء إلا التعليم.
١٦ ويشير الكاتب إلى أن الخبراء الذين قدِموا إلى مصر لتركيب الطائرات «السوكول» من عملاء
اليهود، وسافروا من مصر، بعد انتهاء مهمتهم فيها، إلى روما، ومنها إلى تل أبيب.
١٧
يقول حلمي سلام: «يجب أن نعترف بأننا خُدعنا في أكثر الأسلحة التي أردنا شراءها عندما
انفرد بنا
الميدان، وأصبحت المعركة معركتنا وحدنا. كانت ذخائر «الهاون ٨١» يعلوها الصدأ، وقد دُهنَت
بطلاءٍ آخر لطلاء
هذا الصدأ، وذخيرة أخرى كانت فارغة تمامًا، وأخرى مُعبَّأ نصفها، إلى جانب ٢٠٠٠ قنبلة
يدوية إيطالية، و١٥٨
دانة، ومواسير، ومدافع ٢٥ رطلًا، كانت كلها غير صالحة … وردت من الميدان كما أُرسلَت
إليه، دون أن يكون لها
شرف التلوث بترابه.»
١٨ ويلقي حلمي سلام مسئولية الهزيمة في الحرب على الملك فاروق؛ لأنه كان يتاجر في أسلحتها
«التي كانت في معظمها فاسدة، تنفجر في جنود مصر قبل أن تنفجر في أعدائهم، وترتد إلى صدور
هؤلاء الجنود،
قبل أن تمضى إلى صدور أولئك الذين كانوا يقفون في مواجهتهم.»
١٩ ويحدد حلمي سلام ضحايا الأسلحة الفاسدة بأنهم عشرات الآلاف من أبناء الشعب، الذين دفعوا
أرواحهم ثمنًا لخيانة الملك.
٢٠
ويؤكد جلال الدين الحمامصي أن أحاديث الضباط عند عودتهم من الجبهة، كانت تتناول الأسلحة
الفاسدة،
وتكشف عن دور الملك وحاشيته في ذلك المجال، بما يفتح بابًا عريضًا من أبواب الثراء، وأن
فلسطين العربية
كانت آخر ما فكر فيه.
٢١
•••
في ٦ يونيو ١٩٥٠م كتب إحسان عبد القدوس أولى مقالاته في «روز اليوسف» حول الأسلحة
الفاسدة: «كان
استجواب الأستاذ مصطفى مرعي عن أسباب استقالة رئيس ديوان المحاسبة السابق من منصبه، شهادة
مجدٍ وفخار
لضباط وجنود الجيش المصري، فقد أثبت المستجوب أن هؤلاء الضباط والجنود لم تهزمهم جرأة
العدو وحنكته،
إنما هزمتهم جرأة موردي السلاح والذخيرة الذين تعاملتْ معهم وزارة الدفاع. وأذكر أنني
سألت المرحوم أحمد
عبد العزيز — قائد الفدائيين في حرب فلسطين — عن اليوم الذي لا ينساه من أيام القتال،
فأجابني، والدموع
تملأ عينيه: إنني لا أستطيع أن أنسى يوم كان الباشجاويش يُطلِق مدفعه على مواقع العدو،
وقد وقف من حوله
طاقم المدفع من الجنود، فإذا بإحدى القنابل تنفجر إلى الوراء، فتحطِّم المدافع، وتقتل
الباشجاويش وجميع
رجاله، فيخرون صرعى فوق حطام المدفع، وابتسامة الاستشهاد تضيء وجوههم. ولقد سبق أن أشرت
أكثر من مرة إلى
أن حديث صفقات الأسلحة التي عُقدت في إيطاليا لم يعُد سرًّا، وأنه حديث تستطيع أن تسمعه
في كل شارع من
شوارع روما ونابولي وميلانو، كما أشرت إلى أن هناك مندوبًا خاصًّا لا يزال يقيم في إيطاليا،
وأكتفي بأن
أقول إن اسمه «أمين» يستطيع أن يتحدث طويلًا عن هذه الصفقات التي كان اليهود أنفسهم يحاولون
بيعها إلى
الجيش المصري ليحاربهم بها. كذلك أشرت إلى أن هذا المندوب الخاص قاسى الأمرَين وهو يحاول
أن يؤدي واجبه
بصدقٍ وشرفٍ، ولم يقاس ما قاساه من عملاء دولة إسرائيل، بل من عملاء مصر الذين يشترون
السلاح باسمها،
والذين كان كلٌّ منهم يتستر على الآخر، وكل منهم يدافع عن شريكه في الإثم.»
٢٢
كان مصطفى نصرت وزير الحربية في حكومة الوفد، هو الذي تقدم إلى النيابة في منتصف
يونيو ١٩٥٠م، يطلب
التحقيق في الوقائع التي نشرتها الصحف عن قضية الأسلحة الفاسدة، وكما قال مصطفى نصرت،
فقد أيَّد الفريق
محمد حيدر القائد العام للقوات المسلحة وجوب إبلاغ النيابة العامة «حرصًا على كرامة الجيش
وضباطه.»
٢٣
وبدأت النيابة العامة التحقيق في قضية الأسلحة الفاسدة منذ منتصف ١٩٥٠م، وشدَّت دائرة
الاتهام إليها
معظم أفراد الحاشية الملكية، حتى اضطر النائب العام إلى طلب إبعاد الفريق محمد حيدر القائد
العام للجيش،
والفريق عثمان المهدي رئيس هيئة أركان حرب الجيش عن منصبيهما، حرصًا على سير التحقيق،
٢٤ لكن الملك حفظ التحقيق — فيما بعد — بالنسبة لرجال الحاشية، وأعاد حيدر والمهدي، الواحد
تلو
الآخر، إلى منصبيهما.
وانتهت النيابة — في أوائل ١٩٥١م — من تحقيق معظم الوقائع الخاصة بالقضية، وكان قد
تم استجواب
عشرات المتهمين، وسماع مئات الشهود، وبلغ عدد صفحات التحقيق ١٦ ألف صفحة.
٢٥
قالت مذكرة النيابة إنه خلال حرب ١٩٤٨م اشترك بعض المتهمين (حددتهم بالاسم) بطريق
المساعدة مع
الكونت بانزوليني مدير شركة كاسترو زيدني في إساءة صنع ذخائر مما يُستعمَل في الدفاع
عن البلاد، وقد أدى
ذلك إلى تعريض القوات المسلحة لإضرارٍ جسيمة.
٢٦
ثم نظرت القضية أمام محكمة الجنايات، ومحكمة النقض، عامَي ١٩٥٢م و١٩٥٣م (أي بعد قيام
الثورة).
•••
يروي النائب العام محمد عزمي في مذكراته أن كامل القاويش — رئيس نيابة النقض الجنائي
آنذاك — زاره
في مكتبه، وطلب منه — باسم الملك — أن يحفظ التحقيقات في قضية الأسلحة الفاسدة!
عاد الملك من رحلة اصطياده بأوروبا في أكتوبر ١٩٥٠م، وبدأت الضغوط والتدخلات على النائب
العام من
القيادات الحكومية ورجال الحاشية، وأثيرت ضده حملة من الشائعات أكدت قرب إقالته، واضطر
الرجل لتقديم
استقالته بالفعل، ثم طلب من مصطفى النحاس رئيس الوزراء التدخل لحمايته!
ويشير حلمي سلام إلى أن النائب العام بدأ شجاعًا، ثم تخلَّت عنه شجاعته لأسبابٍ عديدة،
فأصدر — عقب
فراغه من تحقيق القضية — أمرًا بحفظ التحقيق بالنسبة لرجال الحاشية الذين شملتهم قائمة
الاتهام، ثم
اصطحب معه رجال النيابة الذين كانوا يعاونونه في التحقيقات، ليقيِّد الجميع أسماءهم في
دفتر التشريفات
الملكية، مؤكدين ولاءهم للملك!
٢٧ وكما يقول حلمي سلام فقد تصور النائب العام أن الملك سيقتله، فيما لو استمر في تحقيق
هذه
القضية حتى نهايتها المحتومة، فقعد به الخوف من الموت عن الاستمرار في طريقه.
٢٨
وقد أبلغ النحاس مجلس الوزراء في سبتمبر ١٩٥١م، أن إلياس أندراوس جاء من كابري يحمل
أمرًا صريحًا
من الملك بأن تُصدِر الوزارة مرسومًا بإلغاء مجلس الدولة، وكان الهدف — بالطبع — هو عقاب
المجلس على ما
أصدره من أحكام.
٢٩
أما مقالات الأستاذ علي مختار (أنا الشعب) عن الأسلحة الفاسدة — بعد أسابيع من حريق
القاهرة
٣٠ — فمن الصعب تصور أنه قد نُشرَت حينذاك، لأن الأحكام العرفية كانت أُعلنَت، ولم يعُد
من السهل نشر
مثل تلك المقالات.
•••
أعلن جمال عبد الناصر أنه بينما كان ورفاقه يحاربون في فلسطين «كان السياسيون المصريون
يكدِّسون
الأموال من أرباح الأسلحة الفاسدة التي اشتروها رخيصة، وباعوها للجيش.»
٣١
والثابت تاريخيًّا أن الجيش المصري كان يعاني — بالفعل — عجزًا خطيرًا في الأسلحة
والذخيرة، فأصدر
مصطفى نصرت وزير الحربية قرارًا في ١٣ مايو ١٩٤٨م بتكوين لجنة تتولى شراء احتياجات القوات
المسلحة،
برئاسة اللواء إبراهيم سعد المسيري مدير سلاح المهندسين، وعضوية البكباشي مهندس محمد
صدقي سليمان (وزير
السد العالي ورئيس الوزراء في عهد عبد الناصر) والبكباشي مصطفى شديد. تحددت مهمة اللجنة
في شراء
احتياجات القوات المسلحة من الأسواق الأوروبية، بصرف النظر عن الوسيلة والثمن، ودون التقيد
باللوائح
والإجراءات العادية.
تفرَّعت عن لجنة الاحتياجات لجان فرعية، برئاسة عدد من الضباط، أُرسلَت إلى الأسواق
الأوروبية، في
محاولة لتخطِّي حواجز الحظر التي أقامتها الحكومات تنفيذًا لقرار الأمم المتحدة بمنع
تصدير الأسلحة إلى
أطراف النزاع في الشرق الأوسط، واضطرت اللجان — في محاولة للتحايل على قرار الحظر — إلى
الاتفاق مع بعض
الوسطاء من المصريين والأجانب لعقد الصفقات بأسمائهم مع شركات الأسلحة، وتمريرها إلى
مصر، دون تقيد
بالأسعار العالمية، أو التدقيق في المواصفات، وكان ذلك الإجراء فرصة لتسلل العمولات والصفقات
المريبة،
مما أنشأ قضية الأسلحة الفاسدة.
٣٢
كانت معظم القنابل لا تنفجر، وكان اليهود يتندرون، ويتهكمون بالقوات المصرية، وهم
يقولون: ارم يا
مصري من ده كمان!
٣٣ وحين أراد قائد الحملة اللواء فؤاد صادق، أن يتأكد من الشكاوى العديدة التي وصلته ضد
تلك
القنابل، أمر بإجراء تجربة، وأجريت التجربة فعلًا، فانطلقت الشظايا إلى الخلف، فأمر بإيقاف
استخدامها
على الفور.
٣٤
فهل كانت هناك أسلحة فاسدة بالفعل؟ أو أن الأسلحة الفاسدة ليست سوى أسطورة أثبت القضاء
كذبها قبل
قيام الثورة، وبعد قيامها؟
٣٥ هل كانت قضية بغير قضية؟ وهل كانت مجرد دعاية من قيادات ثورة يوليو ضد الملك فاروق ونظام
حكمه؟
٣٦
«الشارع الجديد» — رواية عبد الحميد جودة السحار — تأخذ موقفًا مناقضًا من حيث الأسباب
والنتائج، فإدانات
الأعمال الأدبية التي تتناول حرب فلسطين ترتكز إلى الأسلحة الفاسدة، أما «الشارع الجديد»
فإنها تشير إلى
أسباب أخرى، لا تقل خطورة، تمخضت عنها أسباب أشد خطرًا.
٣٧
فقبل إعلان الحرب رسميًّا، قال خالد قائد محطة الدخيلة الجوية لمدير سلاح الطيران:
في الصحراء
الغربية، قنابل ألمانية مبعثرة، وأرى أن يسمح لي سعادة الباشا بجمعها وتخزينها في السلاح،
فقد نحتاج
إليها يومًا.
قال المدير في انزعاج: هذه مسئولية خطيرة، أرجو منك ألا تتحدث في هذا الموضوع مرة
ثانية.
٣٨
ولكن دخول القوات المصرية أرض فلسطين، دون أن تضع السلطات الحاكمة تخطيطًا علميًّا
لحسابات
المعركة، وما تبع ذلك من صعوبة موقف القوات المصرية، خاصة بعد أن توالت المساعدات من
أمريكا، ومن دول
أوروبا الشرقية والغربية، ذلك كله كان دافعًا لأن يتذكر مدير سلاح الطيران حديث قائد
محطة الدخيلة
الجوية، واتصل به ليبلغه شدة حاجته إلى هذه القنابل «فقم من فورك لجمعها.»
٣٩
وكان سلاح الجو المصري بالذات، في مسيس الحاجة إلى أي نوع من القنابل، بدلًا من تلك
التي كانت
تلقيها الطائرات المصرية على مواقع الأعداء، فلا تترك أثرًا حقيقيًّا اللهم إلا ما قد
يدل على أن
الطائرات المصرية مرَّت من هنا «… وراح السلاح الجوي المصري يشن على الأعداء غارات متواصلة،
كان يبذل
مجهود الجبابرة، لكن القنابل التي كان يلقيها على الأعداء قنابل صغيرة، لا تخلِّف إلا
آثارًا تدل على أن
الطائرات المصرية مرَّت من هنا.»
٤٠
•••
المشكلة الأهم كانت في الحظر على جميع الأسلحة والذخائر من كل أنحاء العالم للدول
العربية، وقصر
الإمداد على إسرائيل. وكما يقول الراوي (رسالة من الميدان) «كنا نحارب عدوًّا جلب أحدث
الأسلحة وأشدها
فتكًا بذخيرة فاسدة.»
٤١
ثمة رواية أن الأمر صدر في ١٩٤٨م من بعض قيادات الجيش، بجمع القنابل اليدوية الإيطالية
من مخلفات
الجيش الإيطالي التي تركها في معارك ١٩٤٠-١٩٤١م. وبلغ ما جُمِع من تلك القنابل — حسب
بيانات الجيش — في
الفترة من ٢٧ مارس ١٩٤٨م إلى ٣ نوفمبر ١٩٤٨م، ٩٢٦٠٠٠ قنبلة،
٤٢ لكن القائمقام (العقيد) عبد الغفار عثمان، المتهم في قضية الأسلحة الفاسدة، أشار إلى
أن
القنابل القديمة كانت تُجمَع من حوش عيسى وبني غازي، وتُسلَّم للوحدات رأسًا،
٤٣ ونفى القائمقام عثمان أن القنابل فاسدة، وقال إنها «مكسب للجيش.»
٤٤ وأضاف: إن كان ولا بد من المحاسبة، فليُحاسَب أولئك الذين جمعوا الأسلحة الفاسدة العتيقة
من
الصحراء!
٤٥
وواجه القائمقام عثمان اتهامًا بأنه «أتى أفعالًا تُعتبَر خيانة للوطن وضد سلامته،
وذلك أنه في غضون
عام ١٩٤٨م تعاقد على صنع ٢٥٠٠٠٦ قنابل يدوية للجيش المصري، لاستخدامها في حرب فلسطين،
واشترك مع الشركة
الصانعة في إساءة صنع هذه القنابل عمدًا، فورَّدتها غير صالحة للاستعمال، وقد ترتب على
استعمالها في
ميدان القتال أضرار جسيمة بالجيش، كان لها أثرها البيِّن في مجرى الأمور.»
٤٦ وكان قد أصيب من تلك القنابل بالفعل ضابطان هما: فؤاد البرعي وأحمد مختار دسوقي، وكانت
الإصابة في أيديهما،
٤٧ واستعان الدفاع في قضية القائمقام عثمان بتقارير لجان المواوي وفؤاد صادق ومحمود عمر
وسلامة
يوسف، التي أجمعت على أن تلك القنابل مأمونة الجانب، ولا يمكن أن تنفجر في يد صاحبها:
«إذا كانت الأرض
رملية بتكدب، يعني لا تنفجر، أما إذا كانت الأرض صلبة واللي بيرميها راجل متدرب فما تكدبش
… وهي ما كنتش
تنفجر في اليد، لأن وسائل الأمان اللي فيها من أحسن ما يكون.»
٤٨
قال لي محمد فرج: كنا في حرب، وفي حاجة إلى السلاح، ولم يكن أمامنا — لقلة الموارد
— إلا
المجازفة؛ لذلك اشترينا أسلحة قديمة، ومستهلَكة، ولم يكن أمامنا غير ذلك. إن مدافع الميدان
التي استُخدمَت
في الحرب لم تكن سوى مدافع بريطانية تسلَّمها الجيش المصري بعد الحرب العالمية الأولى،
وهي مدافع ٢٥
رطلًا، وكان في حوزة سلاح الطيران عدد محدود من مدافع ٢٥ رطلًا، و١١٢ رطلًا. اشترينا
من إيطاليا في ١٩٥٠م
مدافع أقرب إلى ٢٥ رطلًا، قيل لنا إن عمر ماسورة المدفع ٢٠٠ طلقة فقط، بحيث ينبغي تغييرها
بعد إطلاق هذا
العدد من الطلقات. والمسلَّم به — عالميًّا — أن ذلك النوع من المدافع يُصنَع من أقوى
المعادن والخامات، لكن
المفروض أن تستبدل الماسورة بعد إطلاق عدد محدد من الطلقات، وهو ما لم يحدث قَطُّ في
أثناء حرب فلسطين،
لعدم وجود قطع غيار بدلًا من المستهلكة، فإذا انفجرت ماسورة — في ضوء تلك الحقيقة العلمية
— فهو أمر
طبيعي، وغير مستغرب، فإذا أضفنا إلى ذلك ما زُوِّد به الجيش من مخلفات جيوش الحلفاء في
الحرب الأولى، أيقنا
أن المدفع لا بد أن يتعرض للذوبان قبل استخدامه!
أما معظم الذخائر التي استُعملَت في تلك الحرب، فهي من مخلفات الجيوش في الصحراء،
وأهم ما عثرنا
عليه قنابل الطائرات الألمانية التي كانت تتراوح أوزانها من ٥٠ إلى ١٠٠ كيلو للواحدة.
المشكلة أن مفجر
الطائرة كان يعمل بشحنة كهربائية تُنقَل للقنبلة، وكان ذلك ما يحرص عليه الألمان، لكن
الطائرات التي
تسلَّمناها خلت من هذا الجهاز، وكان علينا تغيير جهاز التغيير إلى جهاز يعمل آليًّا،
وصمم ضابط مصري هذا
الجهاز، ونفَّذه، وحاربنا به في فلسطين طيلة فترة الحرب، عقب الهدنة الأولى، دليلًا على
أنه لم يكن لدينا
سلاح حقيقي، وقد طال بحثنا في الصحراء، ما نراه نجري له «تست» بمعرفة الضباط المختصين
لاستغلاله في
المعارك.
ويومًا، وجدنا عدة طلقات من نوع أشبه بالبازوكا، أخذناه من مرسى مطروح إلى المختصين
لاختياره، مات
البكباشي عبد العليم مهران وهو يتولى اختبار هذا السلاح الغريب بالنسبة له، كل ما وجدناه
في الصحراء
حاولنا اختباره، واستخدامه بالتالي، كل ما وجدناه في المخازن.
كانت طرق الإمداد مغلقة في جميع دول أوروبا، عدا دولة وحيدة هي إيطاليا، باعت لنا
طائرات في صفقة
لها قيمتها، في وقت لم تعُد هناك طائرات لدى سلاح الطيران المصري. وكنا نستخدم المخلفات
كقطع غيار،
وأحيانًا كان يعاد تركيب الطائرة. وترتيبًا على ذلك، يجب تحية ضباط عظام بالفعل، أذكر
منهم محمد محمود
إبراهيم، أعادوا تركيب طائرة «السبت فاير» من جديد. التقيت في إنجلترا بكبير مهندسي الشركة
المنتجة
للسبت فاير، واقترحت عليه إجراء تعديلات على الطائرة، قام بها بالفعل، وجُربَت في إنجلترا
قبل أن نوافق
على تسلمها.
طالبت المحكمة إحسان عبد القدوس أن ينشر في «روز اليوسف» ما زاد على الميزانية العادية،
وهو ٧٫٥
مليون جنيه فقط، تم بها شراء طائرات جديدة «فيات» و«ماكي» لا تقل في مستواها عن «السبت
فاير»، وقد
استُخدمَت تلك الطائرات في دحر الهجوم الإسرائيلي الذي بدأ من «القسيمة» في اتجاه العريش
للاستيلاء عليها،
في أواخر ١٩٤٨م وأوائل ١٩٤٩م. وقام سلاح الطيران في تلك المعركة بأكبر عملياته، منذ بداية
إنشائه حتى الآن
(أجريت الحوار مع اللواء محمد فرج في بيتي بمصر الجديدة، في ١٤ يونيو ١٩٦٦م) وقضى على
الطابور المصفح
الإسرائيلي، ثم توقف القتال، وبدأت الهدنة الطويلة.
وفي أثناء معرض الطيران الدولي بباريس في يونيو ١٩٥١م، اتصل مدير تموين سلاح الطيران
الذي كان في
زيارة للمعرض — بحكم وظيفته — بعددٍ من بيوت الأسلحة والذخائر. ثم اتصل — بواسطة السفير
المصري —
بمسئولين في وزارة الخارجية الفرنسية، واشترط هؤلاء المسئولون أن تُوقِف الإذاعة المصرية
تأييدها لثوار
الجزائر، وللشمال الأفريقي بعامة، وقال لهم الضابط المصري: ليس لي الحق في أن أعد، لكنني
سأبلغ
المسئولين بالقاهرة.
أبلغ الضابط المصري رؤساءه (كانت وزارة النحاس الوفدية هي التي تتولى الحكم) بما عُرض
عليه،
فرفضوا تمامًا، لأن تأييد الثورة في المغرب العربي مقرر ضمن سياسة الدولة المعلَنة، ولا
يمكن الرجوع عنه
(أضاف محمد فرج أن موافقة حكومة النحاس على إمكانية التسليح الكامل بواسطة فرنسا، كان
سيتيح تفادي أحداث
١٩٥٦م).
ولقلة الذخيرة الصغيرة (٣٠٣) نتيجة كثرة استهلاك الجنود على الجبهة، فقد طلبت قيادة
الجيش من
سلاح الطيران ذخيرة من هذا النوع. وكان لدى سلاح الطيران أربعة ملايين طلقة ذخيرة حارقة،
وهي ذخيرة كانت
تُستعمَل ضد الطائرات لإحداث حرائق بها. كان القماش يدخل في تكوين الطائرات، بحيث كان
للذخيرة تأثيرها في
إصابة القماش، وإحراق الطائرة بالتالي، لكن استعمال تلك الذخيرة في البنادق كان في منتهى
الخطورة. مرور
المادة الحارقة في الماسورة كان يترك آثارًا بالغة، ومثَّل العامل النفسي لدى الجنود
خطرًا مضاعفًا، فاضطر
سلاح الطيران إلى تسليم هذه الذخيرة إلى قوات الجبهة؛ كان خطر الذخيرة على الجنود نفسيًّا
أكثر منها
خطرًا ماديًّا.
وكان ضباط الطوبجية من أكفأ الضباط، وأشجعهم، في جميع الأعمال التي شاركت فيها المدفعية،
كانت
نسبة الإصابة ١٢٪، وهي نسبة عالية للغاية إذا علمنا أنه لم يكن الرادار قد دخل حياتنا
بعد.
وجهت المحكمة التي نظرت قضية الأسلحة الفاسدة، شكرًا خاصًّا للواء المهندس محمد سعد
الدين المسيري
الذي أشرف على تسليح الجيش المصري آنذاك، وهو من أوائل خريجي الهندسة في العشرينيات.
ناقشت المحكمة ظروف
قضية الأسلحة الفاسدة جيدًا، ثم قدمت للرجل الشكر على ما أدَّاه للدولة من خدمات، فلم
تتعدَّ المصروفات في
الفترة الأولى من الحرب — إلى جانب الميزانية العادية — ٧٫٥ مليون جنيه.
•••
حاول الجيش المصري تعويض نقص المؤن والذخيرة، عن طريق سرقة القطارات الحربية
الإنجليزية المتوجهة إلى القاعدة البريطانية في التل الكبير، تم الأمر في أحواش الفرز
بالسكة الحديد،
حيث تُفصَل العربات المحملة بالذخائر والمعدات من القطارات المتوجهة إلى المعسكرات، وتُرسَل
إلى
القاهرة.
٤٩
والملاحَظ أن جميع المصادر والمراجع تخلو من هذه المعلومة، رغم خطورتها، ويذهب اللواء
محمد فرج إلى
أنه لم يكن — في الجانب المصري — تقدير سليم للموقف، وعلى حد تعبيره، فقد قادتنا العاطفة
وليس
العقل.
الغريب — والمؤسف — أنه في ١٩٥١م، تعاقدت حكومة النحاس على شراء أسلحة من الاتحاد
السوفييتي، عن
طريق تشيكوسلوفاكيا، وسافرت بعثة من مصطفى نصرت وزير الحربية، وعضوية عبد الرحمن الساوي
وعبد العزيز
ناصر وطه عبد الوهاب، بالإضافة إلى مجموعة من الضباط. وعندما وصلت البعثة إلى استوكهلم،
أصدر وزير
الحربية أمرًا إلى اثنين من كبار الضباط، أحدهما من الطيران هو الفريق محمد فرج، والثاني
هو الفريق محمد
حليم إمام، بالسفر إلى تشيكوسلوفاكيا لإنهاء الصفقة، وكتبت الصحف الإنجليزية «رجال الملك
فاروق يعبرون
الستار الحديدي»، ورغم ذلك — كما يقول اللواء فرج — فقد وصلنا براغ، وتفاوضنا، وقدمنا
الطلبات، وعدنا
بعد ثلاثة أسابيع، وقدمنا تقرير اللجنة. ثم أصدر وزير الحربية أمره لي بالعودة إلى براغ
في أواخر ديسمبر
١٩٥١م، وسافرت إلى براغ بالفعل، والتقيتُ وزير الخارجية التشيكوسلوفاكية الذي طلب أن
نوقِّع الاتفاق خلال
خمس سنوات، لأن بلاده مشغولة بإنشاء الصناعات الثقيلة، وبمجرد الانتهاء منها، ستكون براغ
على استعدادٍ
لتزويدنا بما نريده من أسلحة.
هوامش