أسباب أخرى للهزيمة
في «مرايا» نجيب محفوظ تغيب قضية الأسلحة الفاسدة، ويطرح الفنان من خلال حوار شخصياته
أسبابًا أخرى
لهزيمة الجيش في فلسطين.
قال الضابط قدري رزق: لقد ضحَّى بالجيش بطريقة دنيئة قصد بها القضاء على كرامته وأرواح
رجاله.
وهز رأسه بضيقٍ، وقال: لا يمكن أن يمرَّ ذلك بلا ثمن!
– لكننا لم نُهزَم … الفالوجة نصر مبين.
فقال بحدة: بل هُزمنا، وحُوصرنا بين عدوَّين … عدو في الخارج، وعدو في الداخل.
وقال رضا حمادة: كل ذلك نتيجة لحكم أحزاب الأقلية الذي مكَّن لطغيان الملك.
فقال قدري رزق: ونتيجة أيضًا لضعف الوفد الذي عجز عن تحقيق الإرادة الشعبية.
فاستاء رضا حمادة، وقال: الوفد اعتمد دائمًا على ثورية الشعب، ولكن الشعب تخلَّى عن
ثوريته.
فقال قدري رزق (وكان وفدي الميول): الوفد هو المسئول عن تخلي الشعب عن ثوريته!
١
ويتحدث الفنان (الحصاد) عن انعكاسات تطورات الحرب على المجتمع المدني داخل مصر؛ فالناس
يتدافعون
بالمناكب في شارع فؤاد بعد الغروب، وأضواء المحال التي تتألق والأنوار الحمراء والخضراء،
والوجوه
الهادئة الناعمة السعيدة، كأنما البلاد لا تخوض حربًا دفع بها إليها — دون تسليح — ملك
متهوس.
٢ ولم يكن المقاتلون يخفون تألمهم عندما يهبطون إلى القاهرة، ليشاهدوا «الأنوار والأضواء
والملاهي والمواخير والمراقص الدائرة.»
٣
والملاحَظ أنه بينما كانت المؤسسة العسكرية الصهيونية ترسخ بين اليهود شعارًا، ترجمته:
«إما أن
تكسب الحرب، أو تُرمى في البحر المتوسط، أنت وأمتك كلها.»
٤ فإن الفنان (واحترقت القاهرة) يلخص أحد الاجتماعات الجماهيرية لمناصرة شعب فلسطين: كانت
تنهمر آيات القرآن وقصائد الشعر، وأوصاف اليهود، ابتداء من القردة والخنازير، حتى الفئران
والسحالي!
٥ يقول محمد عزة دروزة: «… فاليهود في فلسطين أعلنوا حالة الحرب، وطبَّقوها بحذافيرها،
وبكل
جد، فجنَّدوا كل قادر على الحرب والعمل من الرجال والنساء، وأصحاب المهن المتنوعة، حتى
لم يكد يُرى أثناء
الحرب أحد من هؤلاء في الشوارع، وحتى بلغ المجندون في الجيش فقط ١٥٪ من مجموع السكان،
وحصروا كل نشاطهم
في الحرب ومقتضياتها في الميادين والمصانع والخدمات المتنوعة الأخرى، وفرضوا نظام البطاقات
في التموين
بكل دقة وشدة، وخاصة في المواد المتصلة بأغراض الحرب، وأخذوا نحو ٧٥٪ من دخل الناس، وطرحوا
ضرائب فوق
العادة على الثروات … إلخ، في حين أن العرب لم يكادوا يفعلون شيئًا من هذا، ولم يكد الغريب
يحس أن هذه
البلاد في حالة حرب، بما كان من حياة عادية في كل شيء، بما في ذلك اللهو واللعب، حتى
كان هذا موضع تندر
مراقبي الهدنة، وهم يقايسون بين حالة اليهود وحالة البلاد العربية.»
٦
•••
مصطفى بهجت بدوي واحد من المشاركين في حرب ١٩٤٨م، نفى أن تكون الهزيمة مبعثها أسلحة
فاسدة، وكتب:
«لستُ أغالي إذا قلت إننا لو سألنا أي ضابط أو جندي ممن حاربوا في فلسطين سنة ١٩٤٨م،
وبالتحديد من ١٥ مايو
حتى النصف الأول من يناير ١٩٤٩م، إذا سألناه عن حقيقة الأسلحة الفاسدة، فلسوف يجيب بضميرٍ
خالص: لم تكن
ثمة أسلحة فاسدة في فلسطين. إن ما نذكره عن أسطورة الأسلحة الفاسدة التي شاركت في تلك
المعركة، وارتدت
إلى صدور المقاتلين المصريين، هو حادث واحد — فيما أحصى — لمدفع ميدان ٢٥ رطلًا، عند
الهجوم على مستعمرة
«بيت حانون» أو «نجبا»، لا أتذكر بالتحديد، حين انصهر المدفع من الضرب المتواصل، وغير
هذا لا شيء، ولا
يحسبن أحد أني أنفي بذلك أن أسلحة فاسدة لم تُشتَر، بل اشتريت على نطاق إجرامي واسع،
لكن هذا حدث بعد
توقيع اتفاقية رودس في فبراير ١٩٤٩م، وبالتالي لم تدخل معركة ٤٨، ولم تتسبب في خسارتها.»
٧
فإذا أهملنا الأسلحة الفاسدة باعثًا لحدوث النكبة — وهي التسمية التي ارتضيناها لما
حدث في ١٩٤٨م،
مثلما كانت «النكسة» هي التسمية التي ارتضيناها — فيما بعد — لأحداث ١٩٦٧م — فإن السؤال
الذي يطرح نفسه:
ما البواعث الحقيقية ﻟ «نكبة» ١٩٤٨م؟
في دراسته عن «إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيلي»، يؤكد إيجال ألون أن «التفوق العربي
في العدد
والعتاد كان شديد الوضوح، وكان للغزو — غزوناهم؟! — أثر نفسي مثبط لا يقل عن أثر تفوق
القوة العسكرية
للعدو.»
٨
خاضت إسرائيل الحرب ضد الجيش المصري بعتادٍ لا يزيد كثيرًا عن عتاد العصابات المنظمة:
١٦٢ مدفعًا
ثقيلًا – ٢٠ مدفعًا رشاشًا – ٦ مدافع مورتر – مدفع واحد من طراز «بيات» المضاد للدبابات
– ٢٠٠٠ قنبلة
يدوية – ١٥٠٠ قنبلة مولوتوف،
٩ ولاحظ قائد الأسراب عبد الرحمن عنان — إبان فترة وقوعه في أسر القوات الصهيونية — أن
الجنود
الذين أَسروه كانوا حديثي السن بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة، وأنهم يرتدون مختلف الملابس
العسكرية بلا
نظام ولا قاعدة، ويحملون أسلحة منوعة، معظمها مدافع «ستن».
١٠
من هنا — كما يقول ألون — كانت موافقة إسرائيل على الهدنة الأولى، لأنها لم تكن بعد
على استعدادٍ
لشن هجومٍ كبير.
١١
كانت الهدنة إذن مرحلة استعدادٍ لشن هذا الهجوم الكبير، وكانت كذلك مرحلة هجوم فعلي،
حصلت به
القوات الإسرائيلية على مواقع جديدة، رغم أن الجيش الإسرائيلي الوليد ظل لمدة ستة أشهر
بلا رواتب، سواء
للضباط أو صف الضباط، وكان كل جندي — كما يقول عبد الرحمن عنان — يطمع في أن يكون ضابطًا
لسببٍ أو لآخر،
فهذا كان يشغل منصبًا مدنيًّا ممتازًا، وذاك كان جاويشًا له ماضٍ في اللواء اليهودي إبان
الحرب العالمية
الثانية، وآخر يفخر بما قام به ضد القوات البريطانية من أعمال، عندما كان أحد أفراد المقاومة
السرية.
أما من كانوا ضباطًا في اللواء الصهيوني، أو في الجيش البريطاني، فقد سرح بهم الخيال
إلى رتبٍ عالية ظلوا
يتوقعونها، واثقين من الفوز بها.
١٢
•••
ويظل السؤال قائمًا: ما بواعث «نكبة» ١٩٤٨م؟
أورد مصطفى بهجت أسبابًا أخرى — غير سبب الأسلحة الفاسدة الذي رفضه — وجد أنها كانت
الباعث
الحقيقي للهزيمة، وفي مقدمتها قبول الهدنة الأولى والهدنة الثانية، مما مكَّن إسرائيل
من التسلح، وخيانة
بعض الحكام العرب، وبالذات الملك عبد الله، وتفسُّخ المجتمع المصري في الداخل، وبالتحديد
كوادره الحاكمة
التي كانت في وادٍ، بينما القوات المسلحة في وادٍ آخر، وافتقاد الجيش المصري إلى سلاح
الدبابات،
١٣ وأشار إلى رفض إسماعيل صدقي رئيس الوزراء ووزير المالية في ١٩٤٦م، صفقة عرضتها عليه
الحكومة
البريطانية لشراء مائة دبابة شيرمان، وكانت هذه الصفقة لو تمت — حسب تعبير الكاتب — فرصة
العمر لأنها
كانت أضخم وأفضل دبابة في تلك الآونة، ولعلها أن تكون من بين العوامل التي رجَّحت النصر
للحلفاء في نهاية
الحرب العالمية الثانية.
١٤
يرد حافظ محمود على هذه النقطة بأن الكلام من حيث المبدأ سليم، لكن الحقيقة التي
قد لا يعلمها
الكثيرون، أن هذه الدبابات المائة التي عرضت بريطانيا علينا شراءها سنة ١٩٤٦م كانت من
مخلفات القاعدة
البريطانية في قناة السويس، وقد أدرك إسماعيل صدقي أنه لا يجوز أن يدفع شيئًا من مال
مصر في أسلحة
مرتجعة،
١٥ وأدان الكاتب موافقة الحكومة المصرية — دون تبصر — على الهدنتين الأولى والثانية، مما
أتاح
لإسرائيل أن تضيف إلى استعداداتها، وأخيرًا، خيانات الحكام العرب، وأبرزهم عبد الله ملك
شرقَي الأردن،
الذي أمر قواته بالانسحاب دون قتال من اللد والرملة.
١٦
ومما يُروى عن أوضاع القوات المصرية في الحرب أن إدارة المخابرات الحربية أرادت أن
تعرف اسم القائد
المصري في ميدان القتال، فأرسلت إشارة مفتوحة تقول: من القائد؟ أفِد!
١٧ ويقول حلمي سلام: «كانت معركتنا التي لم تنته إلى صلح بعدُ مع هؤلاء الناس، سلسلة من
الأخطاء
والهفوات … كانت المعركة عسكرية، ولكن قادتها كانوا سياسيين، فضاعت المعركة منهم، وأضاعوها
من
العسكريين.»
١٨
من أسفٍ أن الحكومة المصرية دخلت الحرب، ترتيبًا على تقدير خاطئ، وغريب، بالشك في
إمكانية اشتراك
قوات كبيرة من اليهود في عملية حربية منظمة، ومن ثَم فإن دخول القوات المصرية مجهزة بكمياتٍ
ضخمة من
الأسلحة الآلية والأسلحة المعاونة، كالمدفعية ووحدات المهندسين وغيرها سيتيح لها فرصة
التفوق المؤكَّد على
العدو في قوة النيران، فضلًا عن التزام خطة بأن أقل تشكيل «يجب أن يشترك في القتال مجموعة
لواء مشاة
مستقل، متماسك، حتى لا يتعرض لأخطارٍ لا مبرر لها من أعمال تلك العصابات.»
١٩
وللأسف أيضًا، فقد قام الرجل القومي الطيب عبد الرحمن عزام بدورٍ سلبي — حُسن النية
لا يلغي خطورته
— في إقناع الملك فاروق بقرار الحرب، مستندًا إلى تصور بأن العصابات الصهيونية لا تجاوز
تسميتها، وأنه
يكفي — لتأديبها — إلى أعداد من بدو ليبيا، يستقدمهم عزام بديلًا للجيوش العربية.
لذلك كانت الحماسة الكبيرة التي رافقت القوات المصرية في دخولها أراضي فلسطين، ارتكازًا
إلى الوهم
الكبير الذي حرص المسئولون على تأكيده، وهو أنه ليس لدى إسرائيل جيش، وأن كل ما تملكه
الدولة الوليدة
بضع شراذم من مشردي الأرض، ليس لديهم طائرة ولا دبابة ولا مدفع، ثم فوجئت القوات المصرية
في ساحة
المعركة بمحاربين من كل بقاع الأرض، مزوَّدين بسلاحٍ من الشرق والغرب على السواء.
٢٠
وقد أثبتت الوثائق السرية — فيما بعد — أن جميع الطيارين الذين خدموا في سلاح الجو
الإسرائيلي،
أثناء حرب ١٩٤٨م، كانوا من المتطوعين الأجانب، وأن إسرائيل لم تكن — آنذاك — تملك سلاحًا
جويًّا.
٢١
وإذا كانت الأسلحة الفاسدة تعاني الرفض، وعدم الصحة في تقدير غالبية الروايات، فلعله
من الصعب
إنكار أن الجيش المصري دخل حرب فلسطين، دون أن يمتلك مخزونًا من الأسلحة والذخيرة، يكفيه
لأيامٍ قليلة
قادمة. وحين تبدأ قيادات الجيش — آنذاك — في البحث عن أسلحة في الصحراء الغربية، مما
خلَّفته الحرب
العالمية الثانية، فإن المعنى هو افتقاد السلاح الذي يواصل به الجيش المصري عملياته في
فلسطين، ولعل
فساد بعض تلك الأسلحة كان هو السبب الحقيقي لنشوء ما سُمِّي بقضية الأسلحة الفاسدة.
ومع أن أحمد حسين يعترف بجريمة الأسلحة الفاسدة، فإنه وجد فيها «قضية دعاية أكثر منها
قضية مخالفة
للقانون، وقضية إثارة أكثر منها قضية اختلاس وسرقة، والأقلام التي انجذبت إليها صوَّرتها
على أساس أنها
قضية رئيسة في هزيمة الجيش، وقضية تمس صلب النظام الحاكم، وقدرته على تعبئة طاقات الجماهير
بما فيها
القوات المسلحة.»
لم يكن القبول بالهدنتين الأولى والثانية عاملًا مباشرًا في تحوُّل المواقف في جبهات
القتال لصالح
القوات الإسرائيلية، كما لم تكن الأسلحة الفاسدة هي السبب في هزيمة الجيش المصري في حرب
فلسطين، لكنها
كانت بقعة سوداء، ضِمن بقع كثيرة لطخت وجه النظام، وأساءت إلى قدرة الجيش، وأثارت خلال
فترة النشر
والتحقيق مشاعر الجماهير ضد الملك ورجال الحاشية، لأنهم ربطوا بين السرقات وهزيمة الجيش،
واعتقال
الوطنيين الأحرار.
٢٢
الفنان في «واحترقت القاهرة» — وهو أحمد حسين نفسه — يعرض لنا جوانب أخرى، أسهمت
— في تقديره — في
صنع الهزيمة، ثمة أوامر تلقَّاها الضابط بهاء عبد القادر من قيادات الجيش في القاهرة،
بأن تستولي كتيبته
على مستعمرة «جوليس»، ويهز الضابط رأسه في مرارة وأسًى؛ فالحرب بقرارٍ من وراء المكاتب
بواسطة أشخاص لا
يعرفون شيئًا في أمور القتال «كيف يمكن للكتيبة السادسة أن تستولي على مستعمرة جوليس
خلال أربع وعشرين
ساعة، وليس لدى الكتيبة أية فكرة عن هذه المستعمرة، فضلًا عن مئات التفاصيل الدقيقة التي
يجب أن تُعرف عن
قوة العدو قبل شن أي هجوم عليه؟ ما عدد المدافعين عن المستعمرة؟ أين مراكز القوة فيها،
ومواطن الضعف؟
مدى فاعلية مدفعيتها؟ ما العقبات والتحصينات التي تعترض سبيل المهاجمين؟ إلى آخر هذه
المعلومات التي يجب
أن تتوفر لدى المهاجمين لأي موقع من مواقع العدو. أما أن يطلب من الكتيبة السادسة، هكذا
وبدون مقدمات،
وبعد هذا الركود الطويل في العمليات الحربية، أن تستولي على مستعمرة جوليس في خلال أربع
وعشرين ساعة،
فهذا هو الشيء الجديد الذي اخترعته القاهرة في الفنون العسكرية، القاهرة اللاهية، الساهرة
في الكباريهات
والمقاهي والسينمات.»
٢٣
وأقنع بهاء عبد القادر قائد الكتيبة بضرورة الحصول على المزيد من المعلومات قبل أن
يبدأ الهجوم،
وحين اطلعا على الصور التي تحتفظ بها القيادة العامة للمستعمرة من الجو، والتقارير التي
تكشف عن ضخامة
عدد المدافعين عن المستعمرة، وقوة أسلحتها، وسهولة وصول النجدات من المستعمرات المجاورة
التي تتصل بها
بواسطة سراديب أرضية، لم يملك قائد الكتيبة إلا أن يصرخ في قائد الحملة: إذا كان هذا
هو الوضع يا سيدي
القائد، فعلى أي أساس صدر لنا الأمر بالاستيلاء عليها في خلال ٢٤ ساعة؟! واتصل القائد
بالقاهرة، وأفاض في
شرح الموقف من كل جوانبه، حتى وافق قادة القاهرة على إرجاء الاستيلاء على المستعمرة!
٢٤
رفض محمد نجيب كذلك «تعليق عدم انتصارنا في حرب فلسطين على مشجب الأسلحة الفاسدة،
وهي القضية التي
استُخدمَت للدعاية ضد النظام القائم حينذاك، لكنها انتهت إلى الحكم بالبراءة في عهد الثورة.»
كان رأي محمد نجيب أن «المشكلة أعمق من أسلحة فاسدة، وإنما كانت تجميعًا لأخطاء كثيرة،
الاستعمار
هو السبب الأصلي فيها، والحكومات والسراي المتعاونة معها هي الأداة التي جعلتنا نجتر
المأساة كل ليلة في
أرض فلسطين.»
٢٥ أكد هذا الرأي حكم محكمة الجنايات التي تشكَّلت عقب قيام الثورة (١٠ يونيو ١٩٥٣م) ببراءة
جميع
المتهمين في قضية الأسلحة الفاسدة.
٢٦
ويحدد أنور السادات بواعث الهزيمة فيما يلي:
-
سافر الضباط المصريون إلى ميدان القتال ينقصهم عاملان: المعلومات الحقيقية، أو شبه الحقيقية،
عن
العدو، والاطمئنان إلى حسن استعداد الجيش نفسه.
-
اتضح — في أرض المعركة — أن كل ما يحتاجه الجيش — أو غالبيته في الأقل — غير موجود، فلا
سلاح
ولا ذخيرة ولا طرق مواصلات حقيقية.
-
أسلوب إدارة المعارك كان غريبًا للغاية، بل إنه أسلوب لم يسبق له مثيل في تاريخ المعارك
الحربية
في العالم، فقيادة الجيش تُصدِر أوامرها من القاهرة لتنفِّذها القيادات التنفيذية في
أرض المعركة، دون تقيُّد
حقيقي بأصول الحرب، أو بمقدرة الجيش نفسه.
-
خيانة الإنجليز في نكوصهم عن الوعد الذي قطعوه على أنفسهم لحكومة النقراشي، بمساعدة القوات
المصرية بكل ما تحتاجه من سلاح وذخيرة.
-
خيانات أخرى للإنجليز، أخطرها تدخُّل الحكومة والمخابرات البريطانية لدى عدد من الحكام
العرب، لكي
ينظِّموا سلسلة من المؤامرات ضد الجيش المصري.
-
في بداية الحرب، وعند وصول القوات المصرية إلى غزة، التي لم تكن قد نُشبَت فيها المعارك
بعد، وصلت
الأوامر من القاهرة بإنشاء استراحة هناك باسم «ركن فاروق بغزة»، وكان لذلك تأثيره السيئ
في نفوس الضباط
والجنود المصريين.
-
لم تكن هناك قيادة فعلية للقوات المسلحة المصرية، ويضغط السادات على حقيقة أنه لو وُجِد
أي نوع من
القيادة الحقيقية لما أمكن أن يُهزَم جيش مصر أبدًا، رغم النقص البالغ الذي كان يعانيه
في سلاحه
وعتاده.
وفي كتابه «دقات الأجراس» يؤكد حلمي سلام أن اليهود كانوا يعرفون كل شيء عن الضباط
المصريين:
يعرفون الشجاع، ويعرفون الجبان، يعرفونهم بالاسم، وبالثقافة، وبتاريخ الميلاد.
٢٧ ويشير الكاتب إلى أن موشي ديان دخل حدود مصر مرتين، دون أن يعلم المسئولون، المصادفة
وحدها
هي التي كشفت الأمر.
٢٨
وقد عُقد بالقاهرة — في أثناء المعارك — مؤتمر لرؤساء هيئة أركان حرب الجيوش العربية،
كان — كما
وصفه حلمي سلام — نكبة فادحة علينا، فقد تكلمت مصر «بالصراحة المأثورة عنها»، فحددت عدد
طائراتها
ومدافعها وبنادقها، وعدد الأيام التي تستطيع أن تصمد للحرب خلالها، ووصل التقرير — بطريقة
ما — إلى أيدي
اليهود، تعلَّموا منه أنه ليس أمامهم من قوة إلا قوة مصر، فاتجهوا إليها بكل جموعهم،
وتخلوا عن الدول
الأخرى، فكانت المعركة التي بدأت في ٢٥ ديسمبر، وانتهت في ٢٧ ديسمبر ١٩٤٨م، وهي المعركة
التي يمكن القول
إنه لم يحدث في فلسطين معركة حقيقية سواها «وحمل اليهود في هذه المعركة من الخسائر ما
لم يتصوروا أنهم
سيتحملونه، بالرغم من علمهم أن مصر قد يعوزها السلاح الذي تقاتل به، ولكنها لن يعوزها
الرجال الذين يرفعون
رأسها.»
٢٩
ويتساءل الراوي (سأعود متأخرًا هذا المساء): القائد أحمد عبد العزيز قتلوه لأنه لم
يعرف كلمة
السر … هل في الأمر رائحة خيانة؟!
٣٠
وكان الفدائيون المصريون — بقيادة أحمد عبد العزيز — قد قاموا بالعديد من العمليات
القتالية
الناجحة، ضد العصابات الصهيونية.
٣١
وقد غادر الطيار عبد الرحمن عنان معسكر الأسرى في طريقه إلى مصر وهو يتساءل: هل تغيَّرت
مصر وانصهرت
في بوتقة الحرب القاسية، فخرجت قوية موحدة تجدُّ لتحقيق أهدافها الواضحة؟ هل كتبت دماء
الضحايا صفحة
جديدة في تاريخ بلادنا، فخسئت الخيانة، وانمحت الديانة، وانعدمت الحزبية، وفُني الفرد
فداء للوطن؟ ولكنه
يُصطدم — بعد وصوله القاهرة — بالمفاجأة: «لقد استشرى الفساد حتى عمَّ البلاد، وعمَّت
الفوضى جهاز الحكم،
وسرى الطغيان في بنيان الدولة كالسم الزعاف. إن مصر تسير بخُطى سريعة نحو الهاوية والخراب،
إن مصر تنادي
كل حر أن يتجرد من أنانيته ويهب لنجدتها؛ إنها تستغيث وقد عزَّ الغيث.»
٣٢
•••
يقول الراوي (المساكين): «كانت حرب فلسطين قد انتهت بالهزيمة، وانسحاب جيوش العرب
السبعة من أرض
فلسطين، إثر انسحاب جيش الملك عبد الله من ساحة القتال، وانكشاف كل الجبهات.»
٣٣
وبالطبع، فقد كانت أحداث ١٩٤٨م وما بعدها — إرهاصًا مؤكدًا بثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م،
وفي تقدير أحد
الآراء أن تلك الحرب بما صاحبها من ملابسات، وبما لازمها من أخطاء وخيانات، «كانت هي
الضوء الباهر الذي
كشف للأمة — شعبًا وجيشًا — عن حقيقة ذلك الواقع الأليم الذي كانت تعيشه.»
٣٤
كانت هزيمة القوات المسلحة المصرية في فلسطين، دافعًا لأن يبدأ الضباط الأحرار عملهم
— فور عودة
القوات المصرية من فلسطين — وأن يكون ذلك نقطة الانطلاق في العمل السري الكامل، سعيًا
وراء تغيير
الأوضاع في البلاد،
٣٥ والتهيؤ — بصورة حاسمة — للاستيلاء على الحكم، وذلك ما سنتناوله — تفصيلًا — في فقرات
تالية.
ولعلي أوافق حلمي سلام بأنه إذا كانت إرهاصات ثورة ٣٢ يوليو قد بلغت ذروة اكتمالها
وعنفها خلال
سنتَي ١٩٥٠م، ١٩٥٠م، فالصحيح إذن أن هذه الإرهاصات نفسها كانت قد أخذت تلُوح في أفق حياتنا
مع بداية حرب
فلسطين «ولعل القول الأكثر دقة — والكلام لحلمي سلام — أن هذه الحرب، بما صاحبها من ملابسات،
وبما
لازمها من أخطاء وخيانات، كانت هي الضوء الذي كشف لها عن حقيقة ذلك المنحدر السحيق الذي
هبط إليه، أو
سقط فيه، أكثر أولئك الرجال الذين كنا نعتبرهم قادتنا زعماءنا.»
٣٦ ويعلو صوت حلمي سلام — في مرارة — «إننا نتحدث باسم سنين طويلة من الصمت، فمنذ سنين
مضت وفي
الجيش رجال يتألمون، ولا يملكون حق الكلام، بل ولا يُسمَح لهم بالآهة تنطلق من صدورهم.
لقد تألموا طويلًا،
وصمتوا طويلًا، فلما انكشف الستار عن الخبايا بدءُوا يتكلمون، وبدأنا نتكلم باسمهم، وننطق
بشكاياتهم التي
كانت تغلي في صدورهم، ونخرجها صيحة غضب لن يستطيع إنسان أن يكتمها.»
٣٧
لكن حرب فلسطين — في الحقيقة — لم تكن هي المنعطف الأساس في طريق ثورة ٢٣ يوليو،
فمع أن جمال عبد
الناصر يشير — صراحة — في «فلسفة الثورة» إلى أن «رصاصنا كان يتجه إلى العدو الرابض أمامنا
في خنادقه،
ولكن قلوبنا كانت تحُوم حول وطننا البعيد الذي تركناه للذئاب ترعاه.»
٣٨ فإنه يؤكد — بالصراحة نفسها — أنه «لو كان ضباط الجيش حاولوا أن يثوروا لأنه قد غُرِّر
بهم في
فلسطين، أو لأن الأسلحة الفاسدة أرهقت أعصابهم، أو لأن اعتداء وقع على كرامتهم في انتخابات
نادي ضباط
الجيش، لما كان الأمر يستحق أن يكون ثورة، ولكان أقرب الأشياء إلى وصفه أنه مجرد تمرد،
حتى وإن كانت
الأسباب التي أدت إليه منصفة عادلة في حد ذاتها، لقد كانت هذه كلها أسباب عارضة.»
٣٩
وفي تقريرٍ بعثت به السفارة البريطانية بالقاهرة إلى وزارة الخارجية البريطانية،
قالت بالنص: «أظن
أن في إمكاننا أن نفترض أن أصل الانقلاب العسكري في مصر، كان نفاد صبر الجيش من الطريقة
التي جرت بها
حرب فلسطين.»
٤٠ لكن كاتب التقرير ما يلبث أن يؤكد في تقريرٍ تالٍ: «لا بد أن أقول إن الهزيمة المفاجئة
في
فلسطين، والفضيحة المتصلة بإمدادات المعدات العسكرية، كانتا سببًا واحدًا فقط من أسباب
الانقلاب؛ إذ إن
عدم رضا الجيش وخيبة أمله من المعاملة التي لقيها من الحكومة والساسة، بدأت منذ ذلك الحين،
ولكن من
المحتمل أن الانقلاب نفسه نجم — بصورة مباشرة إلى حدٍّ أكبر — عما تلا ذلك من تراكمٍ
للمظالم في
الجيش.»
٤١
لم تكن حرب فلسطين هي الانطلاقة نحو قيام الثورة، وإن شكَّلت معلَمًا مهمًّا في تلك
الانطلاقة، حتمت
نتائج الحرب ضرورة الثورة، لكن دواعي الثورة كانت قائمة أصلًا ضد الاستعمار أولًا، وضد
السراي، وضد كل
المؤسسات الحكومية … إلخ، وعندما تعالت شكاوى الناس من الغلاء، أرجع البعض السبب إلى
حرب فلسطين،
٤٢ بل إنه — على المستوى العربي — قام حسني الزعيم — في ٣ مارس ١٩٤٩م — بأول انقلاب عسكري
ناجح
في سوريا، ولم تكن الدول العربية قد عرفت هذا النوع من الانقلابات قبلًا، في تاريخها
المعاصر على الأقل،
عدا انقلاب بكر صدقي في العراق سنة ١٩٣٦م، الذي لم يقدَّر له النجاح. وفي ١٤ أغسطس ١٩٤٩م
أطيح بحسني الزعيم
في انقلابٍ قاده سامي الحناوي، وقد أُعدم الزعيم — وعدد من أعوانه — في اليوم نفسه، واتهمت
حكومة إنجلترا
بأنها كانت وراء الانقلاب الذي قام به الحناوي،
٤٣ ثم قام أديب الشيشكلي — فيما بعد — بانقلابٍ مماثل.
•••
يطرح مصطفى بهجت بدوي سؤالًا مهمًّا: لماذا لم تُدرك مصر والبلاد العربية عامة في
العشرينيات، أبعاد
مخاطر قيام دولة إسرائيل، أي لماذا لم نسبق بفكرنا وتصورنا الموقف قبل قيام دولة إسرائيل
بربع قرن، مع
أن بوادر المخطط الصهيوني الإسرائيلي لتهويد فلسطين كانت قد نجحت؟ بالإضافة إلى أن فكرة
العروبة — قبل
١٩٤٨م — لم تكن قد نضجت النضوج الكافي مع بداهتها — والكلام لمصطفى بهجت بدوي — لذلك
فقد اكتفينا
بالتعاطف مثلما تعاطفنا مع الحبشة إذ دهمها الغزاة الفاشيست، أو — للإنصاف — كنا أكثر
تعاطفًا بحكم
الجوار.
٤٤
مصطفى بهجت بدوي يجيب عن السؤال، بأن مصر والبلاد العربية كانت تشغلها قضايا استقلالها
الوطني،
ونضالها ضد الاستعمار، لكنه يضيف أن «التصدي كان ممكنًا ومجديًا، سواء من الناحية السياسية
أو الشعبية
أو النضالية، لو أن قضية فلسطين كانت تمثِّل لدينا من النظرة العربية — بل حتى الإقليمية
الوقائية —
جانبًا ولو جزئيًّا مما كان ينبغي أن تتضح به أمامنا.»
٤٥
لقد دعت بعض الأقلام — نتيجة للهزائم المتتالية — إلى إلغاء الجامعة العربية، باعتبارها
أداة فشل
وهزيمة، وليست وسيلة انتصار، وأنها يجب أن تُدفَن حتى لا تعرف الأجيال العربية في المستقبل
كم كانت ضعيفة
هذه الجامعة.
٤٦ وكتب أحد المعلقين في سخرية لاذعة: «دعنا نعترف بأن السخيف في الشرق لا يُقتل أبدًا،
ولو كان
للسخافة أن تقتل، لكان عبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة العربية قد مات ١٠٧ مرات.
كان عبد الرحمن
عزام رجلًا ميتًا في كل مرة أفنى فيها إسرائيل بكثرة الكلام المغرق في عاطفته، وفي كل
مرة كان يعلن
للعالم المقررات السرية، والقرارات الخفية لمجلس الجامعة، وللجنة السياسية، ولا يبدو
أن عبد الرحمن عزام
وسادة الجامعة العربية قد تعلموا أي شيء، لم يتعلموا على أية حال أن النصر في فلسطين
لم تقرره العوامل
الأجنبية، بل كان أيضًا، وإلى حدٍّ بعيد، يعود إلى تفكك سياستهم الخارجية.»
٤٧
أما القول بأن «الفكرة العربية في مصر قد تعرضت — بعد الحرب الفلسطينية — لردَّة
عادت بها إلى
مراحلها الأولى»، هذا القول أميل إلى الخطأ لأن نكبة ١٩٤٨م — رغم فداحتها — كانت تعميدًا
بالدم للانتماء
القومي لمصر العربية، وكانت تعبيرًا بالغ الدلالة عن المصير المشترك، والخطر الماثل في
الحدود، على
الرغم من دعوة البعض — أحمد حسين مثلًا — إلى الانكفاء على النفس، ومعالجة القضية المصرية
أولًا، وقوله:
«لقد ضحَّينا بقضيتنا الخاصة من أجل فلسطين، فلما جدَّ الجد تخلَّى عنَّا هؤلاء الذين
سيضارون بما حدث في
فلسطين في الدرجة الأولى، فأصبح من الواجب علينا أن نعود إلى قضيتنا الأولى، وأن ننظر
إلى مصر
أولًا.»
٤٨ وكذلك بعض الصيحات التي تعالت — والخطر الصهيوني يبين عن أبعاده: ما لنا نحن
وفلسطين؟
٤٩
والدلالة واضحة، وإن كانت غير صحيحة (ولو بالمُنى!) في قول أحد المعلِّقين السياسيين
العالميين: «إن
النتيجة الرئيسة لحرب ١٩٤٨م كانت أن العرب قد خسروا فلسطين، لكنهم ربحوا مصر.»
٥٠
هوامش