الفلسطينيون يدفعون الثمن
في ١٩٤٩م، قدمت إسرائيل طلبًا للانضمام إلى عضوية الأمم المتحدة، وأيَّدتها في طلبها
الولايات
المتحدة والاتحاد السوفييتي، ومارستا ضغوطًا معلَنة وسرية، انتهت بقبول الجمعية لدولة
قامت على أشلاء
شعب.
كانت الولايات المتحدة — في الحقيقة — وراء كل الخطوات التي أفضت إلى قيام دولة إسرائيل،
وبقائها،
فهي أول دولة اعترفت بقيامها، وهي التي فرضت الهدنة الأولى حينما توضَّح أن الجيوش العربية
على وشك تحقيق
الانتصار، وهي التي أمدت إسرائيل بالمتطوعين والأسلحة، وهي التي فرضت الهدنة الثانية
بعد أن استعادت
الجيوش العربية بعض توازنها، وأوشكت أن تميل بكفة الميزان لصالحها.
يقول أحمد حسين: «لقد أدركتُ أننا سنخسر قضية فلسطين، لا لأن الأمريكان يعطفون على
اليهود كما
يتصور كثيرون من السذج، ولكن لأن أمريكا تتخذ من اليهود، ومن إنشاء دولتهم الجديدة سلَّمًا
تصل به إلى
تحقيق أغراضها في الشرق الأوسط، الذي تعمل على بسط نفوذها عليه.»
١
حرصت إسرائيل — منذ إعلان وجودها — على إقامة علاقات طيبة مع الدول الصغيرة، وبخاصة
الدول
الآسيوية والأفريقية ودول أمريكا اللاتينية.
ومن المهم أيضًا أن نشير إلى ما بذلته إسرائيل لإقناع العالم الاشتراكي والماركسي
بأن دولة
اشتراكية قد نشأت في منطقة الشرق الأوسط (لم تعُد شرقًا عربيًّا!) التي تدين بالتخلف
والرجعية والإقطاع
المهترئ، ومن ثَم فقد حصلت على معوناتٍ مادية يصعب إغفالها من المعسكر الاشتراكي، بالإضافة
إلى مساعدات
المعسكر الغربي.
رفضت مؤتمرات الدولية الثالثة في موسكو، بين عامَي ١٩١٧م و١٩٢٠م، فكرة الصهيونية،
واعتبرتها ظاهرة من
ظواهر الاستعمار الأنجلو سكسوني، ونتيجة مباشرة لوعد بلفور القائم على فرض التسلُّط واغتصاب
الحقوق … لكن
الحكومة السوفييتية غيَّرت مواقفها جميعًا، عقب بعثاتٍ متتابعة إلى المنطقة في عامَي
١٩٤٣م و١٩٤٥م، وأعلن
جروميكو مندوب الحكومة السوفييتية في الجمعية العامة للأمم المتحدة — في مايو ١٩٤٧م —
تأييد بلاده لقيام
دولة يهودية مستقلة في فلسطين.
٢
وإذا كانت المصالح الإمبريالية هي التي أملت على إنجلترا، ثم الولايات المتحدة، موقفهما،
فلعل
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا اتخذ الاتحاد السوفييتي موقفًا لا يقل مناصرة لإسرائيل
عن الموقف الذي
اتخذته الدولتان الاستعماريتان؟
•••
يقول حلمي (الحصاد): الشيوعيون لا يوافقون على قتال إسرائيل.
يقول الباشا: لأنهم يتلقون الأوامر من موسكو، وموسكو اعترفت بإسرائيل.
٣
وفي ٢٥ مايو ١٩٥٠م صدر البيان الثلاثي عن فرنسا وبريطانيا وأمريكا، يؤكد ضمان سلامة
حدود جميع
بلدان الشرق الأوسط. وأحدث ذلك البيان انقسامًا جديدًا في الجبهة العربية، فقد أيَّدته
بعض الدول كالأردن
ولبنان، بينما رفضته دول أخرى كمصر وسوريا.
وإذا كانت الموافقة على البيان قد جاءت من الرغبة في ضمان الحدود القائمة، فإن الرفض
كان مبعثه أن
البيان الثلاثي ليس أكثر من صورة حديثة لوعد بلفور، وترسيخ نهائي لحدود اسرائيل، ومحاولة
لتصفية الوجود
الفلسطيني بإيجاد ذريعة لذلك.
٤ وكما يقول محمود رياض، فإن بريطانيا تراجعت عن السياسة التي أعلنتها في ١٩٣٩م (الكتاب
الأبيض) بمنح فلسطين استقلالها خلال عشر سنوات، ورفض محاولات التقسيم. تراجعت بريطانيا
عن تلك السياسة
المعلَنة، واستجابت — في الوقت نفسه — لضغوط الولايات المتحدة — لسببَين، أولهما: أنها
لم تعُد في حاجة إلى
مساندة الشعوب العربية لها أثناء الحرب، بعد خروجها منتصرة، وثانيهما: أنها كانت في حاجة
إلى مساندة
الولايات المتحدة اقتصاديًّا.
٥
دخلت الجيوش العربية أرض فلسطين لإنقاذها، «وكانت خيانات الملوك (أرملة من فلسطين)
فسقطت القدس
الجديدة في أيدي الصهيونيين، وكان علينا أن نترك الدار التي نشأت فيها، ونفر من الموت
الذي يتعقبنا،
وهِمنا على وجوهنا مرعوبين، وأصبحنا لاجئين بعد أن كان لنا بيت، وأهل، ووطن.»
٦
والحق أنه كان من غير المتصوَّر إحراز القوات العربية نجاحًا فعليًّا في معاركها ضد
العصابات الصهيونية،
في ظل السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية البريطانية، التي شملت العديد من الأقطار
العربية،
وبالذات تلك التي تلاصق حدودها حدود فلسطين، مثل مصر وشرق الأردن.
وكما أشرنا فإن الإنجليزي جلوب كان هو قائد قوات شرق الأردن، تعاونه هيئة أركان بريطانية،
بينما
كان يرابط في ظهر القوات المصرية، وعلى أرضها، ٨٠ ألف جندي بريطاني!
وقبل جلاء القوات الإنجليزية عن فلسطين، كان لها مخازن هائلة للدبابات في رفح، وعرضت
الحكومة
المصرية أن تدفع نصف مليون جنيه مقابلًا للدبابات، وتم الاتفاق بالفعل، لكن القائد الإنجليزي
اعتذر —
عند الاستلام — بأوامر حكومته، وسلَّم الدبابات بدون مقابل للعصابات الصهيونية.
٧
وبينما كانت الشعوب العربية تعلن عزمها على إنقاذ فلسطين بكل الوسائل، وتبذل جهودًا
حقيقية في هذا
السبيل، فإن إمارة شرق الأردن أبدت حماسة لاستلاب أجزاء من القسم العربي الذي نص عليه
قرار التقسيم،
تفوق حماستها لعرقلة قيام الدولة الصهيونية. تقول فاطمة: ولكن كارثتنا الكبرى جاءت من
الملك عبد الله
ملك الأردن وخيانته وتآمره مع الصهيونيين.
٨
كانت المشكلة الأساسية هي تطلُّع الأمير عبد الله — الملك فيما بعد — إلى ضم الأراضي
التي تدخلها
قواته، لتكتمل دولة باسم الأردن، يصبح هو ملكًا لها.
ويروي محمد عودة ظروف اللقاء العاصف بين الشهيد عبد القادر الحسيني واللجنة العسكرية
للجامعة
العربية، فقد أهمل أعضاء اللجنة استغاثته بهم لمدِّه بالمال والسلاح، ولم يتردد الحسيني
في أن يوجِّه إليهم
تهمة الخيانة، ويحمِّلهم مسئولية ضياع فلسطين، ثم استُشهد الرجل في معركة القسطل، بداية
لتفكك قواته.
ويقول محمد عودة إن تقاعس اللجنة لم يكن مجرد إهمال أو تصور، فقد كانت الأولى تريد الشطر
الغربي من
فلسطين بعد التقسيم تكملة لمشروعها في سوريا الكبرى، وكانت الثانية تريد الشيء نفسه لتحقيق
مشروع الهلال
الصليب.
٩
وفي ٤ مارس ١٩٥٠م نشرت «أخبار اليوم» منشورًا يفضح الاجتماعات السرية بين الملك عبد
الله والقادة
الإسرائيليين. وفي ١٨ مارس من العام نفسه، نشرت الجريدة نسخًا طبق الأصل عن الرسائل التي
تبادلها الملك
عبد الله مع القادة الإسرائيليين، وقد خاطب في إحدى الرسائل وزير خارجية إسرائيل — موشيه
شارتوك — بكلمة
«عزيزي».
وثمة خبران متزامنان لا يخلوان من دلالة، فقد أرسلت جماعة أرجون الصهيونية إلى الولايات
المتحدة،
تطلب اعتبار شرقَي الأردن جزءًا من فلسطين، وعلَّق عضو بالكونجرس الأمريكي على النبأ
بقوله إن شرقي الأردن
ليس أكثر من مستعمرة بريطانية. وفي الأسبوع نفسه، نشر ملك شرقي الأردن كتابه الأبيض،
مطالبًا بمشروع
سورية الكبرى، ويدخل في ذلك المشروع — بالطبع — ضم ما تبقَّى من فلسطين إلى الأردن.
١٠
شنَّت الصحف المصرية حملاتٍ عنيفة على سياسة شرق الأردن، وحذَّرت من أن الإقدام على
ضم الضفة الغربية
إلى إمارة شرقي الأردن، سيؤدي إلى تصدُّع شديد في الجبهة العربية المتماسكة — ظاهريًّا
— في مواجهة الأطماع
الصهيونية في فلسطين.
١١
وعلى الرغم من كل الحملات الرسمية والإعلامية، فقد اجتمع البرلمان المؤلَّف من ساسة
فلسطين وشرق
الأردن بالعاصمة عمان في أبريل ١٩٥٠م، وتمت المصادقة على اتحاد ضفَّتَي نهر الأردن تحت
اسم «المملكة
الأردنية الهاشمية».
ونتيجة لتعاون شرق الأردن وإسرائيل في اقتطاع الأرض الفلسطينية، فقد اعتبرتهما بعض
الصحف العربية
حليفين، لأنهما اقتسما الأرض المقدسة بينهما كصديقين قديمين، ونتيجة لذلك التصرف الماكر
فقد اختفت
فلسطين.
١٢ مع ذلك، فإنه كان من بين دعاوى الصحف الأردنية لتبرير ضم فلسطين إلى شرق الأردن، أن
البلاد
العربية قد باعت الفلسطينيين، والبلد الوحيد الذي كان قادرًا على أن يحفظ للفلسطينيين
قدرًا من الكرامة
هو شرق الأردن.
١٣
ورغم العداء المؤكد بين مصر وإسرائيل، والحرب المتوقفة بهدنة، فإن إسرائيل حاولت
أن تفيد مما
يمكنها الإفادة منه، خصَّصت الجامعة العبرية كرسيًّا لصحراء سيناء،
١٤ وأفلحت إسرائيل — أحيانًا كثيرة — في تصريف بضائعها إلى مصر، يتسلَّمها أعوانها، ويتولون
توزيعها في المدن المصرية،
١٥ كما استطاع أعوان إسرائيل في مصر — وهم بالطبع من اليهود — جمع الحديد الخردة من الصحراء،
وتخزينه في غزة بعيدًا عن الجمارك المنتظمة في مصر، وتهريبه بالتالي عبر الحدود إلى داخل
إسرائيل،
لاستخدامه في صنع الأسلحة والذخائر الإسرائيلية.
١٦
وفي أثناء الحرب نفسها، كان اليهود المصريون يهرِّبون أموالهم من مصر بكل الوسائل،
لا كمجرد تهريب
نقدي، ربما يسبق تصفية المصالح، والهجرة، لكنهم كانوا يمارسون أنشطتهم الاقتصادية بالكامل،
ويهرِّبون
الناتج الأكبر من عائدها إلى الخارج، لتموين الدولة الوليدة بالبضائع المختلفة من الأسواق
الأوروبية،
ومدِّها بمعدات القتال أيضًا.
كانت المبالغ المحوَّلة تصل من مصر إلى السودان، فيعمد أصحابها — بواسطة بعض العملاء
— إلى تحويلها
إلى أي بنك في الخارج، ومن هناك تُنفَق في شراء المعدات والبضائع، وتُرسَل إلى إسرائيل.
١٧ واكتُشِف — بالمصادفة — في أوائل ١٩٥٠م — أن القطن المصري كان يُصدَّر إلى إسرائيل.
١٨
وحتى قيام ثورة يوليو، كان أحد كبار الماليين المصريين يمتلك مصنع «شمشون» الإسرائيلي
للأسمنت،
وكان بعض رجال المال اليهود المصريين الآخرين يمتلكون شركات للفنادق في إسرائيل، بل لقد
نجح اليهود
المصريون في تنمية نبات في الأرض المصرية، وتصديره إلى إسرائيل، كي يُستخدَم في صناعة
بعض أنواع الزيوت
والعطور في المصانع الإسرائيلية. وكان عدد كبير من اليهود المصريين يمتلكون أسهمًا في
غالبية الشركات
الإسرائيلية، بل أقاموا «بورصات» داخلية — في مصر — لتداول تلك الأسهم، والمضاربة فيها.
كانت القوانين المصرية — للأسف — تقف عاجزة أمام تلك المؤامرات التدميرية التي لا
تعني تخريب
الاقتصاد المصري فحسب، إنما تعني عبثية التدخل العسكري المصري في فلسطين، وتعني أيضًا
بإسهام الاقتصاد
المصري في ضياع الأرض الفلسطينية!
١٩ وأجاد اليهود المصريون إقامة شبكة واسعة في المدن المصرية للسوق السوداء، همها الأساس
تهريب العملات المصرية والذهب إلى إسرائيل.
٢٠
أدَّت عمليات التهريب إلى خفض قيمة الجنيه المصري في الأسواق العالمية، تطبيقًا لقانون
العرض
والطلب؛ فقد زاد عرضه للبيع عند إجراء التحويلات من مصر إلى الخارج.
٢١ إضافة إلى ذلك، فقد استغل اليهود المصريون بدائية النظام الاقتصادي المصري، في تهريب
أموالهم إلى أوروبا مباشرة، دون الالتجاء إلى السوق السوداء، وقُدِّرت المبالغ التي حُوِّلت
من مصر بقصد
استيراد بضائع إليها، ولم يثبت ورودها — فعلًا خلال الحرب الفلسطينية — بحوالي ٢٠٠ مليون
جنيه، اتجهت
كلها لتدعيم الكيان الصهيوني الوليد.
٢٢
وأصدر الحاكم العسكري العام في ١٩٤٩م، أمره إلى الجهات المسئولة بعدم التعرض لواردات
الترانزيت عن
طريق مصر برسم إسرائيل. وكانت المواني المصرية تستقبل بصورة دائمة بضائع من وإلى إسرائيل،
دون أن تتخذ
السلطات المصرية إجراءات من أي نوع، بحجة أن مصادرة البضائع — حتى لو كانت إسرائيلية
— تُعَد مخالفة
لأحكام القانون الدولي.
٢٣
•••
يعتبر البعض فشل ثورة ١٩٣٦م في المدن الفلسطينية، بداية الانحدار إلى نكبة ١٩٤٨م،
فقد كانت تلك
الثورة حرب الاستقلال الحقيقية من الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني، لكن القيادات
العربية دعت إلى
صمت الثورة، كي يُتاح التصرف الحكيم لتلك القيادات، وكان فشل الثورة طريقًا وحيدًا لنكبة
١٩٤٨م.
وفي ١٩٤٨م أعطت الجيوش العربية الشعب الفلسطيني إجازة من النضال، بمجرد دخولها الحرب،
في حين أنه لم
يتوقف عن نضاله يومًا، منذ تبدَّت المطامع الصهيونية في وطنه، وكانت تلك «الإجازة» الإجبارية
ذروة
النتائج الخطيرة التي عاناها الشعب الفلسطيني، بحيث لم يسترد زمام المبادرة — ثانية —
إلا بعد انتهاء
الهدنة الثالثة بأكثر من عشر سنوات!
كان حوالي المليون فلسطيني قد أُجبِروا على مغادرة ديارهم، وكانت إسرائيل قد أحكمت
سيطرتها على أراضٍ
تفوق ما أتاحه لها مشروع التقسيم، واستطاعت قواتها أن تصل إلى خليج العقبة في قرية أم
الرشراش — إيلات
فيما بعد — لتطل من هناك على البحر الأحمر. وفي الأعوام التي تلت إعلان قيام دولة إسرائيل،
هاجر إلى
فلسطين ما يزيد عن نصف مليون يهودي، من عشر دول عربية.
والثابت تاريخيًّا أن الجالية اليهودية في فلسطين — قبل طرد الشعب الفلسطيني من أرضه
في ١٩٤٨م —
كانت تملك ٦٪ فقط من مجموع الأرض الفلسطينية، وأن جزءًا من هذه النسبة منحته سلطات الانتداب
البريطاني
لليهود كأرضٍ أميرية.
٢٤
بلغ مجموع ما أنفقته الصهيونية في عملية إنشاء الوطن القومي حتى عام ١٩٤٨م حوالي ١٥٠
مليون جنيه،
لكن اليهود استطاعوا في سنة واحدة (١٩٤٨م) أن يستولوا على عقارات وأراضٍ للعرب، تبلغ
قيمتها أضعاف الأموال
التي وظَّفوها في عملية إنشاء الدولة، ووصف وايزمان هجرة العرب خارج مدنهم وقراهم وبيوتهم
في ١٩٤٨م بأنه
«معجزة سهَّلت مهام إسرائيل.»
وظلَّت العملة الفلسطينية هي المتداوَلة في الأسواق، لفترة طويلة، حتى طُبعَت عملة
إسرائيلية، حلَّت
محلها شيئًا فشيئًا، ثم أُبطل استعمال النقد الفلسطيني، واختفى — فيما بعد — تمامًا،
٢٥ وبالذات بعد أن ضم الملك عبد الله الضفة الغربية إلى إمارته، ليشكِّل دولة الأردن، وتولَّت
مصر
إدارة قطاع غزة.
•••
اعتمدت العصابات الصهيونية — منذ البداية — الإرهاب أسلوبًا وحيدًا لتحقيق مطالبها،
إلى حد أنه
لمَّا تعرَّض الضابط المصري الأسير عبد الرحمن عنان لخطر الموت، خطر له أن عصابة شتيرن
قد استولت على الحكم،
وجاء بعض أفرادها لقتل الأسرى.
٢٦
شُغِل اليهود — بعد استيلائهم على كل مدينة أو قرية — بتدمير البيوت والمزارع وكل
شيء، حتى
الأشجار، ذلك لأنهم كانوا يعملون وفق خطة مدروسة، تضع في تقديرها كل الاحتمالات؛ فالمكان
— بالنسبة
لصاحبه — ذكرى، وكان المطلوب إلغاء الذكريات من أذهان العرب، إلغاء مضمون الذكريات، محو
المكان بما
يعنيه من خصوصية، وإحلال مضامين أخرى جديدة، يمتلكها الآخرون.
كان الهدف الذي خطط له قادة العصابات الصهيونية — بعناية — هو إلغاء حق العودة للعرب
بمحو مضمون
ذكرياتهم، بتغيير التفصيلات الجغرافية للتاريخ الذي رافقوه، وصادقوه. وأسفرت المذابح
الصهيونية ضد
المواطنين الفلسطينيين، عن موجات هجرة جماعية من القرى والمدن العربية، ليس إلى مناطق
أخرى من فلسطين
فحسب، وإنما إلى خارج الحدود. تقول السيدة: «وفجأة وجدنا أنفسنا فرعًا بلا أصول، عضوًا
أبتر انفصل عن
الجسد، وكنا على الرغم من الشقاء الذي نتجرعه، أسعد حالًا من إخواننا، كانت جنسية أبى
جواز المرور لنا،
فانطلقنا إلى مصر، وحططنا رحالنا في الإسماعيلية.»
٢٧
وكان الأب معدمًا — عندما هاجر من وطنه الأصلي فلسطين — بعد أن احتله اليهود، وطاب
له العيش في
القاهرة، وتزوج من سيدة تحيا في مدينة دمنهور، واشتغل بتجارة الجيش ومخلفات محالج الأقطان
كالبذرة
والوبرة، يبيعها في الأسواق البعيدة.
٢٨
وقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في الحادي عشر من ديسمبر ١٩٤٨م، قرارها رقم
١٩٤، الذي ينص
على وجوب السماح — في أقرب وقتٍ ممكن — للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى بلادهم، وتعويضهم
عن الأضرار
المادية والنفسية التي لحقت بهم، نتيجة الاعتداءات الصهيونية، لكن القرار ظل — مثل قرارات
أخرى تالية —
صدرت لصالح الفلسطينيين — داخل ملفات الأمم المتحدة.
إن هزيمة ١٩٤٨م — كما يقول أحمد بهاء الدين — هي التي أقنعت العرب زمنًا طويلًا،
بعدم جدوى القانون
أمام السيف، مهما كانت القضية عادلة.
٢٩
هوامش