ذلك الجيل … والتنظيمات السياسية
كان النشاط الحزبي هو الصورة السياسية للمجتمع المصري، وكان نشاط الأحزاب — منذ نيْل
الاستقلال
الجزئي في عام ١٩٢٢م — متجهًا نحو المناقشات العقيمة، والتُّهم التي يوزعها كل حزب على
الأحزاب الأخرى. لكن
جيلًا جديدًا بدأ يأخذ طريقه إلى الحياة السياسية في الثلاثينيات، وكانت جامعة القاهرة
هي الأرض التي
نما فيها وصلب عوده، ونشأ ذلك الجيل، واكتسب وعيه، في ظل ركود الحركة الوطنية، وتحوُّلها
من معركة ثورية
شعبية إلى قضية سياسية.
في تلك الفترة، كانت الثورة قد تحوَّلت إلى صراع سياسي، ثلاثي، بين القصر والوفد والاستعمار،
أو إلى
صراع حزبي بين أحزاب الأقلية وحزب الأغلبية، وتوزَّع ذلك الجيل في بحثه عن مخرج من أزمته،
بين أحزاب
جديدة، واتجاهات جديدة، بعضها يهدف إلى بعث الإسلام، أو مجد الدولة العربية، وأحزاب أخرى
فاشستية تجد في
ديكتاتورية هتلر وموسوليني مثلًا يُحتذى، وأحزاب ثالثة متطرفة تريد نقل النظريات الغربية
إلينا،
وتطبيقها.
كانت الحيرة هي وقفة ذلك الجيل أمام التيارات العنيفة الهوجاء، القاسية، التي كانت
البلاد تعانيها
في تلك الأيام. ثمة من اتجه إلى التنظيمات اليسارية، وثمة من تعاطف مع المنظمات الفاشية،
وانتهى
الكثيرون إلى الوفد باعتباره حزب الجماهير المصرية، والبعض طاف بأحزاب المعارضة، وهي
أحزاب يصفها وسيم
خالد بأنها «رجعية بطبيعتها، خلقتها السراي لمجرد مقاومة حزب الوفد الشعبي. وكانت الجموع
البسيطة تدرك
أن الدستوريين يمثِّلون باشوات الأرض، وأن السعديين يمثِّلون بعض عناصر طبقة الأفندية
التي استعادت حسابها
من مكاسب ثورة ١٩١٩م، حتى تحوَّلت داخل حزب الوفد إلى نوعٍ من العناصر الرأسمالية الكبيرة،
فانفصلت عنه لتصبح
ظلًّا للاحتكاريين المتعاونين مع الاحتكار الأجنبي.»
١
عبَّر أفراد من الشباب عن حيرتهم بعمليات اغتيال فردي ضد ضباط وجنود الاحتلال من
ناحية، وضد
القيادات السياسية المحلية من ناحية ثانية. يقول كامل رؤبة لاظ (السراب): «وكأني لست
من هذا المجتمع،
فلا أدري شيئًا عن آماله وآلامه، قادته وزعمائه، أحزابه وهيئاته. ولَكَم طرقت أذني أحاديث
الموظفين عن
الأزمة الاقتصادية، وهبوط أسعار القطن، وتغيير الدستور، فلم أكن أفقه لها معنى، أو أجد
لها في نفسي صدًى.
لا وطن لي ولا مجتمع، لا لأني أسبق الوطنية، ولكني لم أدركها بعد.»
٢
وقد كشفت ردود أفعال الأحزاب القائمة من مقتل أحمد ماهر، عن الخوف المتعاظم من الحركات
الساخطة،
والمتمردة، بين الأجيال الطالعة.
يقول محمد ناجي (الرجل الذي فقد ظله) لشهدي باشا بعد سماع النبأ: إيه رأيك يا باشا؟
– رأيي إيه وبتاع إيه؟ البلد بقت فوضى … ده جنون … لعب عيال.
– موش ده المهم … نكتب الخبر إزاي؟ إنت عمرك ما حبيت أحمد ماهر.
– ما فيش يا محمد حب ولا كره دلوقت … إحنا كلنا في خطر.
٣
ويعبِّر الراوي (نفوس مضطربة) عن الحيرة التي تملَّكت الشباب آنذاك في قوله: «لقد
زهق الشباب من جدل
الأحزاب، وهذه الفتنة الضاربة بين الزعماء، لماذا توجد في البلاد أربعة أو خمسة أحزاب؟
لماذا يكون عشرة
أو عشرون زعيمًا؟ وما هي سياسة كل حزب؟ وما هدف كل زعيم؟ لا أحب تكوين الأحزاب بحالتها
الراهنة؛ إذ لا
مبادئ مرسومة لها، ولا سياسة موضوعة، ولا برامج للإصلاح الاجتماعي، إنما هو زعيق وصياح
وسباب.» ويقول
الراوي (العسكري الأسود): «تفتقت عنا الحرب العالمية الثانية، لنجد أنفسنا هكذا زملاء
في كلية أو جامعة
واحدة، بنزعاتٍ سياسية وآراء في الناس والحياة، لا يمكن أن يربط بينها رابط. كنا جميعًا
نؤمن — رغم
اختلاف طرقنا ووسائلنا — أن لنا رسالة واحدة نحن مبعوثو العناية لتحقيقها: إنقاذ بلادنا،
وتغيير مصير
شعبنا تغييرًا جذريًّا، وإلى الأبد.»
٤
ويتحدث الراوي عن الكلية التي كان طالبًا بها، كانت تموج بالتيارات السياسية والمدارس
الفكرية:
الوفد، السعديين، مصر الفتاة، الحزب الوطني، الإخوان المسلمين، الشيوعيين، بالإضافة إلى
المبدعين الذين
يدافعون عن مذاهب العبث والعدمية.
٥
وعندما يدلف محسن (الدرس الأول) من باب الكلية، يبلغ سمعه صوت جلبة وغوغاء، فيحسب
أن الطلبة
يتأهبون للإضراب، ويتساءل عمَّ يدعوهم إلى الإضراب؟ ويجيب عن تساؤله: «وهل لا بد من سببٍ
للإضراب؟ لَكَم
أضربنا في السنوات الثلاث الماضية التي قضيتها في الكلية بلا سببٍ، أو لأتفه الأسباب.»
٦ ويتساءل شوقي (الرجل الذي فقد ظله) «شوقي شيوعي، لكن أنا إيه؟ عايز إيه؟»
٧
تعاظمت القوى الراديكالية في السياسة المصرية، ممثَّلة في اليساريين والماركسيين
والإخوان ومصر
الفتاة وغيرهم، حتى إن إسماعيل صدقي يروي في مذكراته قوله للسفير البريطاني في ١٨ أبريل
١٩٤٦م «بالبلاد
الآن هيئات متعددة متنوعة، وكلها في حالة تحفز، ومن هذه الهيئات ما هو سياسي، ومنها ما
هو لَطوائف صاخبة
كالطلبة والعمال، ومنها هيئات متعددة اشتراكية واجتماعية من أولئك الراغبين في تحسين
أحوال الطوائف
الفقيرة، ومنها الهيئات السرية للشيوعيين وغير الشيوعيين … كل هذا ينذر بانفجارٍ إذا
لم تُجَب مطالب
البلاد.»
٨
أُضيف إلى القضية بُعد اجتماعي واضح، فهي لم تعُد مجرد إصرار على إخراج الإنجليز
من مصر والسودان،
إنما لازمها إصرار على إحداث تغيير في هيكلية المجتمع الطبقية، وبروز التيارات الراديكالية
سواء في
تنظيمات بعيدة عن الأحزاب التقليدية، أو في داخل الأحزاب نفسها، حتى حزب الوفد نفسه،
أفرز ما سُمِّي
بالطليعة الوفدية التي كان من بين قياداتها محمد مندور وعزيز فهمي وأحمد أبو الفتح وغيرهم.
وكان بيت
الراوي (الثعبان والنهد الخئون) يتقاسم الولاء لمصطفى النحاس من ناحية، ومصر الفتاة،
أو الأمير عباس
حليم من ناحية ثانية.
٩
وكان تكوين اللجنة التنفيذية للطلبة والعمال (١٧ فبراير ١٩٤٦م، وهو اليوم نفسه الذي
ألَّف فيه
إسماعيل صدقي حكومته) قد «وقف بالبلاد بين يوم وليلة على حافة الثورة»،
١٠ ذلك لأن اللجنة جمعت — للمرة الأولى — بين ممثلين عن اتحاد الجامعة، وممثَّلين عن نقابات
العمال، وكانت القيادة لعناصر تنتمي إلى الماركسيين والطليعة الوفدية، وإن كوَّن إسماعيل
صدقي — في
مواجهتها — «اللجنة القومية» من الإخوان المسلمين ومصر الفتاة وجبهة مصر،
١١ وظهرت قيادات سياسية جديدة، ترى أنه «يجب على الطبقات الشعبية أن تقوم اليوم بالدور
الرئيسي
في الحركات الوطنية، لأن الطبقات الحاكمة الحالية تتعاون مع الاستعمار.»
١٢ وعرض توفيق الحكيم لأحزاب البلاد الأجنبية، وأنها ذات مبادئ مقررة، كلٌّ منها يدافع
عن حقوق
طبقة من طبقات الأمة، بحيث مثَّلت الطبقات المختلفة على نحوٍ يكفل التوازن بين المصالح،
في حين أن الأحزاب
المصرية — على تعدُّدها وكثرتها — لا تمثِّل سوى طبقة واحدة، هي طبقة الملَّاك، التي
يعلو صوتها في البرلمان،
وأخذت لنفسها صفة القوامة على الطبقات الأخرى، وحاولت أن تمنع وتحرم الطبقات الأخرى حتى
من حق الاعتراف
بنقاباتها التي تنظم شئونها، وتدافع عن حقوقها.
١٣
وفي ١٠ نوفمبر ١٩٤٦م أسس علي ماهر «جبهة مصر» باعتبارها — على حد تعبيره — ليست حزبًا،
لكنها جبهة
للمصريين جميعًا، تسعى إلى تجميع القوى الحية في البلاد — أفرادًا وجماعات — حول مبادئ
رئيسة للسياسة
الخارجية والداخلية، والسياسة الاجتماعية والاقتصادية.
•••
نحن نلحظ أن الثلاثي علي طه اليساري، ومأمون الإخواني، ومحجوب عبد الدايم الذي يعتنق
الوصولية،
يتكرر في الثلاثي أحمد شوكت وعبد المنعم شوكت ورضوان ياسين (ثلاثية بين القصرين)، كانوا
إعادة تقديم
وصياغة لشخصيات واتجاهات علي طه ومأمون رضوان ومحجوب عبد الدايم. واللافت أن أحداث «القاهرة
الجديدة» دارت
في الفترة التي تلت مظاهرات ١٩٣٥م.
أما «السكرية» — الجزء الأخير من «الثلاثية» — فقد دارت في الفترة من ١٩٣٤م إلى ١٩٤٤م،
أي الفترة نفسها
تقريبًا.
الفنان في «السكرية» يضعنا في مواجهة التيارات المتناقضة التي تنازعت شبابنا المثقف
في تلك الفترة،
وقد استطاع بنماذجه الثلاثة: أحمد شوكت وعبد المنعم شوكت ورضوان ياسين، أن يلخص التيارات
الفكرية
والاجتماعية التي كانت تنبض بها الحياة المصرية في الثلاثينيات، أو أبعاد مهمة منها في
الأقل.
لم يكن اختيار الفنان لثلاثي «السكرية» وليد ذاته ولا اعتباطًا، لكنه كان يرافقهم
منذ فترة شبابهم
المبكر التي تُعَد إرهاصًا باتجاهاتهم الفكرية والسياسية «وزعت أمينة فناجيل القهوة،
واتجهت أعين الشباب
إلى حيث جلست نعيمة لصق أمها. قال رضوان ياسين لنفسه: «بنت لطيفة وجميلة، ليته كان في
الإمكان أن
أصادقها وأزاملها، لو مشينا في الطريق معًا لاحتار الرجال أيُّنا الأجمل.» وقال أحمد
شوكت لنفسه أيضًا:
«جميلة جدًّا، ولكنها كأنما هي ملزوقة في خالتي بالغرا، ولا حظَّ لها من الثقافة.» وقال
عبد المنعم شوكت:
«جميلة وست بيت وشديدة التقوى، لا يعيبها إلا ضعفها، وحتى ضعفها جميل.».»
١٤
وصعد الثلاثة إلى مكتبة كمال عبد الجواد لاستعارة بعض الكتب، فاختار عبد المنعم كتاب
«محاضرات في
تاريخ الإسلام»، بينما جاء أحمد بكتاب «مبادئ الفلسفة». وقال أحمد: «لن أقرأ كما أحب
حتى أتقن لغة
أجنبية واحدة على الأقل.» كان أحمد شوكت وعبد المنعم شوكت تعبيرًا عن أهم تيارَين في
سني الحرب العالمية
الثانية، والسنوات التي أعقبتها، وهما الإخوان المسلمون والشيوعيون.
يقول عبد المنعم لشقيقه وهما في السجن: أيُزَج بي إلى هذا المكان لا لسبب إلا لأنني
أعبد الله؟
فيهمس أحمد في أذنه باسمًا: وما ذنبي أنا الذي لا أعبده؟!
١٥
أما رضوان ياسين، فقد اختار — بالإضافة إلى مواهبه الجسدية — أن ينضم إلى أحد الأحزاب
التقليدية
القائمة.
ولعله يمكن تقسيم أهم التيارات السياسية القائمة إلى: التيار الليبرالي (الوفد)، التيار
الفاشي
(مصر الفتاة)، التيار اليساري (الشيوعيين)، التيار الديني (الإخوان المسلمين).
ويلخص شهدي باشا (الرجل الذي فقد ظله) ذلك كله بالقول: «البلد فيها دلوقت شيوعيين
واشتراكيين
وإخوان مسلمين وعفاريت زرق، ما كنَّاش بنسمع عنهم قبل الحرب، ولو سبنا محمد ناجي لوحده
حيخسر المعركة،
منطقهم بيقنع الأولاد اللي في الجامعة، أنا عايز واحد زيك — يوسف عبد الحميد السويفي
— يعرف يتكلم
بلغتهم.»
١٦
ويروي رفعت السعيد عن حملات الملصقات، والكتابة على الجدران التي كان طرفَا المنافسة
فيها الإخوان
المسلمون ومصر الفتاة، شعارات الإخوان: الله أكبر ولله الحمد … القرآن دستورنا … الرسول
زعيمنا، وشعارات
مصر الفتاة: يا شباب ٤٦ كن كشباب ١٩ … يسقط الاستعمار … عاشت وحدة وادي النيل … الله
أكبر والمجد
لمصر.
١٧
والمؤسف — على حد تعبير وسيم خالد — فشل القيادات الجديدة التي حاولت أن تتصدى لقيادة
الجيل
الحديد، بعد أن تحوَّل إلى الخروج على جيل ١٩١٩م، منذ توقيعه معاهدة ١٩٣٦م، وهي: مصر
الفتاة، والإخوان، ثم
الشيوعيون.
١٨
واللافت تعدُّد الحركات والتنظيمات الدينية التي تعمل بالسياسة، وهو ما يرجعه البعض
إلى فشل الطرق
الصوفية — أهم التنظيمات الدينية الشعبية — في مسايرة التغيُّر الاجتماعي، وعدم اهتمامها
بالجانب
السياسي.
١٩
ولعل مبعث إقبال أعداد من الشباب المسلم، المتدين، على كلمة «اليمين» أن أصحاب اليمين،
أي أصحاب
اليقين الديني، سيحملون كتابهم بيمينهم، ويدخلون الجنة بسلام،
٢٠ وبصرف النظر عن أن «اليمين» هنا له مدلوله السياسي، فقد اختلط — في نظر الكثيرين — بالمفهوم
الاجتماعي، وبالذات لأن الماركسية — والمفهوم أنها مذهب لا ديني — تنتسب إلى «اليسار»!
•••
يقول صبحي (نحن لا نزرع الشوك): «إن الوفد هو ممثِّل الشعب»، فيقول رءوف: «الشعب
غلبان يا صبحي، أنت
لا تعرف عنه شيئًا، اسألني أنا عنه في بلدنا … في كفر مجور … لا تعرف ماذا يأكل، وماذا
يشرب، وأين يسكن.
في حكم الوفد، وفي حكم الأحرار، يأكل البتاو والسريس، ويشرب الماء العكر، وينام بجوار
الجاموسة.»
٢١ ويؤكد عبد المنعم شوكت (السكرية) أن «الوفد أفضل الأحزاب بلا ريب، ولكنه في ذاته لم
يَعُد
مقنعًا كل الإقناع.»
٢٢
وعندما أراد سليم علوان (زقاق المدق) أن يعمل بالسياسة حتى يحصل على البكوية، اعترض
ابنه المحامي
عارف متسائلًا: «أي حزب تختار؟ إذا اخترت حزبًا غير الوفد أضعفت مكانتك في الوسط الذي
تعمل فيه، وإذا
اخترت الوفد لم تأمن رئيس وزارة كصدقي باشا يجعل تجارتك هشيمًا تذروه الرياح.»
٢٣
ومع أن أحمد حسين كان رئيسًا لحزب، فإنه قد هاجم الحياة الحزبية «التي أتلفت كل شيء
في البلد.»
ذلك ما أعلنه في دفاعه عن المتهمين في قضية مقتل النقراشي.
٢٤ وحين أزمع علي طه (القاهرة الجديدة) أن ينضم إلى حزب سياسي، فإنه ما لبث أن طرد هذه
الفكرة
من رأسه، لأنه لم يجد حزبًا ذا مبادئ اجتماعية، بحيث يحاول الاشتراك فيه.
٢٥
لم يكن يسهل على المرء أن يتخيَّر الحزب الذي يريد الانتماء إليه، والعمل على نجاحه؛
إذ لم يكن هناك
عنصر من العناصر التي تحقق اختيارًا معقولًا، أو مبدأ من المبادئ التي ترتكن عليها العقيدة
السياسية،
وكيف تتكوَّن عقيدة سياسية إذا اقتصرت على المقارنة بين الأحزاب على التهم الموجهة من
حزب إلى آخر، ومن
جريدة إلى أخرى.
٢٦ ويقول الراوي (الأيام الحلوة): «في بعض الأيام، كنا نصل إلى المدرسة لنجد أن الزعماء
قد
دبَّروا مظاهرة، ومع أننا كنا نفهم معنى الوطنية، إلا أننا كنا نعلم أيضًا أن المظاهرات
مدبَّرة لصالح حزب
من الأحزاب الحاكمة، أو المعارضة، ولم يكن هناك بدٌّ من الاشتراك في المظاهرة وإلا اتُّهمنا
بالجبن
والخيانة.»
٢٧ أما الساعاتي (الغائب) فقد كان فهمه للسياسة أن يصادق هذا وذاك، ويردد بعض الشعارات
بنبرة
فصيحة!
٢٨
ويهبنا الفنان في «لا تطفئ الشمس» شخصية الراوي الذي ظل يبحث عن دور البطل، أن يصبح
بطلًا في أعين
زملائه، فهو يقرأ في الصحف عن الاجتماعات التي يعقدها الطلبة الحزبيون، فيذهب إلى تلك
الاجتماعات ويحشر
نفسه فيها، بصرف النظر إن كانت لطلبة وفديين أم إخوان مسلمين أم اشتراكيين. كانت القضية
التي تشغله أن
يفرض وجوده في كل اجتماع، فيعلي من صوته، ويخطب، ويناقش، ويعارض، ويصفق، ويبدي استياءه
دومًا. ثم اختار
— لتأكيد زعامته — أن ينضم إلى حزب الأغلبية، ليغادره — فيما بعد — إلى الحزب الوطني
الذي سرت فيه دماء
شابة، واكتشف أن قيادة الحزب الوطني الحقيقية في أيدي مجموعة من الشبان الإرهابيين، وربما
مارس
الشيوعيون العمل السري، لكنهم — بالقطع — ليسوا إرهابيين، وقرر أن يكون شيوعيًّا. انتقل
— ببساطة — من
اليمين إلى اليسار، وكلَّفته عملية البحث مستقبله التعليمي، فقد طردته الجامعة لتكرر
سنوات الرسوب، واتجه
إلى الصحافة باعتبارها المهنة الراقية الوحيدة — آنذاك — التي لا تشترط مؤهلًا دراسيًّا،
وكتب مقالات
ملتهبة، لم تحقق له البطولة التي كان يتمناها، حتى قامت ثورة يوليو، ولم يكن له مكان
فيها.
ويقول أحمد شوكت لنفسه في قسم البوليس، بعد القبض عليه هو وشقيقه: «إن موقفًا إنسانيًّا
واحدًا هو
الذي جمعنا على اختلاف مشاربنا في هذا المكان المظلم، الرطب، الأخ والشيوعي والسكير والسارق
على السواء،
كلنا واحد على تفاوت في قوة المناعة ولون الحظ.»
٢٩ وبرر السيد سليم علوان (زقاق المدق) صاحب وكالة العطارة بزقاق المدق، عزوفه عن العمل
السياسي بقوله: «السياسة حقيقة بأن تخرب بيتنا، وتلتهم تجارتنا. ستجد نفسك ملزمًا بالإنفاق
على الحزب،
أضعاف ما تنفق على نفسك وأهلك وتجارتك، وعسى أن تُرشَّح للبرلمان فتستغرق الانتخابات
من أموالك دون جدوى،
ثمنًا لكرسي غير مضمون، وهل البرلمان في بلادنا إلا كمريضٍ بالقلب تهدِّده السكتة في
أية لحظة؟»
٣٠
وقد وجدت الشخصيات الانتهازية في الحياة الحزبية، سُبلًا ملائمة لتحقيق طموحاتها؛
رضوان ياسين في
«السكرية»، ومحجوب عبد الدايم في «القاهرة الجديدة»، ويوسف السويفي في «الرجل الذي فقد
ظله»، وعيسى الدباغ في
«السمان والخريف» … كل هؤلاء — وغيرهم — توسَّلوا بالحياة الحزبية، وما تحفل به من فرصٍ
شرعية وغير شرعية،
وقيادات سوية ومنحرفة، إلى تحقيق طموحاتها.
هوامش