الوفد … صراع القيادات

تألَّف الوفد — في بداياته — من مجموعة من الزعماء السياسيين، لا بهدف تأليف حزب سياسي، ولكن لحمل وجهة النظر المصرية إلى مؤتمر السلام في باريس، وإلى الحكومة البريطانية.١ فلما أصبح الوفد حزبًا، عني — في الدرجة الأولى — بتحقيق الاستقلال، وليس المناداة بمطالب اجتماعية من أي نوع. اعتبر الوفد نفسه — منذ بداية تكوينه — ممثلًا لكل فئات الشعب وطوائفه، وليس ممثلًا لفئة أو طبقة بعينها، بعكس الأحرار الدستوريين — مثلًا — الذين كانوا يمثِّلون أصحاب المصالح الحقيقية، وهم كبار الملاك!
وعلى الرغم من كل الاتهامات التي يصح توجيهها إلى الأحرار الدستوريين، فإنه مما يُذكَر لبعض قياداته الفكرية إسهامها الجدي في تحقيق المعادلة الصعبة: أن تتخلق في مصر تقاليد جديدة، بحيث «تذوب قوى الماضي في القوى التي تولَّدت عن الاحتكاك بالغرب في تناسقٍ تام.»٢
كانت التوكيلات الشعبية هي الأساس الذي استند إليه الوفد في تحركاته السياسية، وفي تكوينه كحزبٍ سياسي. ومع أن قاعدة الوفد كانت مؤلَّفة من العمال والفلاحين والطبقة الوسطى الصغيرة، ومع أنه مال إلى مهادنة الملك — أحيانًا — فإنه قدَّم الكثير من الأعمال التي تستهدف صالح قاعدته الشعبية، ربما لأنها كانت القوة الوحيدة التي يمكن أن تقف إلى جانبه في حالة نشوب مواجهة من أي نوع بينه وبين القصر. ويحدد محمد عودة فترات حكم الوفد بأنها كانت «هي عادة فترات التفتح والممارسة الديمقراطية والسياسية الوحيدة.»٣
ولا شك أن الانقسام كان واضحًا في قيادة الوفد، منذ اللحظة الأولى لتأليفه، بين الأرستقراطية الزراعية، وممثِّلي الرأسمالية الوطنية الذين تتعارض مصالحهم مع مصالح الاستعمار، فهو ينافسهم في سوقهم المحلية. وثمة رأي، أن الانقسامات داخل الوفد كانت تقوم عادة على المصالح الشخصية، وكان الذين ينفصلون عن الوفد أقل منه وطنية وثورية، وأكثر ميلًا إلى الانتهازية السياسية ومهادنة القصر والاستعمار.٤

كان أول انقسامات الوفد، عندما خرجت مجموعة برئاسة إسماعيل صدقي في أواخر عام ١٩١٩م، وفي ١٩٢١م خرجت مجموعة من كبار الملَّاك الزراعيين، ألَّفوا في ١٩٢٢م حزب الأحرار الدستوريين، ليخدم — كما قال مؤسِّسوه — أصحاب المصالح الحقيقية، فهم — على سبيل المثال — يرَون أن الانتخاب والتمثيل النيابي وظيفة وليست حقًّا، وأن الانتخاب والتمثيل النيابي يجب أن يتحدَّدا في أولئك الذين تؤهلهم مصالحهم الاقتصادية لذلك.

وكان الحزب بعامة أقرب إلى مهادنة الإنجليز، ثم خرجت في ١٩٣٢م المجموعة المسماة حزب السبعة ونصف، وكانت تمثِّل قطاعات من الرأسمالية الاحتكارية والقبلية. وفي ١٩٣٧م خرجت المجموعة التي شكَّلت حزب السعديين، وكان أفرادها من أصحاب المصالح الصناعية. وكما يقول محمد أنيس، فإن خروج هذه الجماعات كان — في الحقيقة — تطهيرًا للقيادة الوطنية أكثر منها انقسامًا في صفوفها، فخروجها جعل القوى المركزية، المسيطرة في الوفد، تنتمي إلى الطبقة الوسطى، الأمر الذي ساعد — بالتالي — على تقارب قيادة الوفد مع قواعده الجماهيرية، مع ذلك، فقد تعرَّض الوفد — كقيادة مركزية في قيادة الحركة الوطنية — لتدهورٍ شديد.٥

خاضت حكومات الوفد معارك ضارية في ثلاث جبهات: أولاها: جبهة الاحتلال البريطاني، والثانية: جبهة السراي، والثالثة: أحزاب الأقلية.

يشير شهدي عطية وعبد المعطي الجبيلي في كتابهما «أهدافنا الوطنية» إلى أن الاستعمار الإنجليزي حارب حزب الوفد، لأن الوفد هو أقل الأحزاب تهادنًا مع الاستعمار. وعلى حد تعبير شهدي عطية، فقد كان الاستعمار ضيق الصدر بالوفد، كثير التنكُّر له؛ إذ يرى في محاربته محاربة للحركة الوطنية، لأن الوفد أقل الأحزاب الحالية تهادنًا مع المستعمر، وأكثرها استنادًا إلى الشعب.٦ وكان كلٌّ من الملك والوفد ينطلق من مبدأ مناقض لمبدأ الآخر، فالملك يسعى لأن تكون كل السلطات في يده، بينما كان الوفد يؤمن — كحزب الأغلبية — أن الأمة يجب أن تكون مصدرًا للسلطات.

والملاحَظ أن الوفد أمضى في المعارضة ما يزيد على السنوات السبع، لم يجلس خلالها على مقاعد الحكم إلا مرة واحدة في سنة ١٩٣٠م، ولم يطل جلوسه عليها أكثر من ستة أشهر تقريبًا، كانت هدنة بين انقلابَي محمد محمود في ١٩٢٨م، وصدقي في ١٩٣٠م.

وفي رأي بعض المؤرخين أن الوفد «نجح كمعارضة أكثر من نجاحه كحكومة وإدارة سلطة، وأن قدرات كوادره كانت تبرز في المعارضة أكثر من بروزها في الحكم، وأنه كحزبٍ كان يوحِّد صفوفه في المعارضة، بينما تبدأ الانشقاقات تنهشه وهو في الحكم.»٧

•••

في الرابع من أكتوبر ١٩٢٩م ألَّف عدلي يكن الوزارة، وأعلن أن مهمته الأساسية هي إعادة الحياة الدستورية، وإجراء الانتخابات، وفي ٣١ أكتوبر استصدرت الوزارة أمرًا ملكيًّا بإنفاذ أحكام الدستور، والعمل بالمواد المعطَّلة، وإجراء انتخابات مجلس النواب.

أُجريَت الانتخابات في ٢١ ديسمبر ١٩٢٩م، وأُنهيت في ٢٩ من الشهر نفسه، وفاز الوفد ﺑ ٢١٢ مقعدًا في مجلس النواب من ٢٣٥ مقعدًا، بينما حصل الحزب الوطني على خمسة مقاعد، وحزب الاتحاد على ٣، وحصل المستقلون على بقية المقاعد، ولم يدخل الأحرار الدستوريون الانتخابات لثقتهم في استحالة الفوز فيها، لاجترائهم — قبلًا — على الاعتداء على الدستور.٨
وقد أعلن الرافعي اعتزازه بفوزه في تلك الانتخابات في مركز المنصورة، رغم معارضته لمرشح الوفد!٩
بعد أن أُعلنَت نتائج الانتخابات، قدمت الوزارة استقالتها في ٣١ ديسمبر ١٩٢٩م، وكان ذلك — في تقدير بعض المؤرخين — أعظم أدوار عدلي يكن السياسية.١٠

•••

كان إلحاح الوفد على إعادة دستور ١٩٢٣م، بهدف إجراء انتخابات جديدة، تكفل أغلبية وفدية تتيح له تولي الحكم، بينما كانت أحزاب الأقلية تجد في الدعوة لدستور ١٩٢٣م مجرد مؤامرة وفدية.١١
ثمة رأي أن الوفد اعتمد في تحركاته على مشاعر الجماهير التلقائية، وارتباطها به، وبالدعوة إلى الاستقلال أكثر من اعتماده على قوة التنظيم.١٢ يقول رياض قلدس (السكرية): «إن الأقباط جميعًا وفديون، ذلك أن الوفد حزب القومية الخالصة، حزب القومية التي تجعل مصر وطنًا حرًّا للمصريين على اختلاف عناصرهم وأديانهم. إني حر وقبطي في آنٍ، بل إني لا ديني وقبطي معًا. أشعر — في أحايين كثيرة — بأن المسيحية وطني لا ديني، وربما إذا عرضتُ هذا الشعور على عقلي اضطربت، ولكن مهلًا … أليس من الجبن أن أنسى قومي؟ شيء واحد خليق بأن يُنسيني هذا التنازع، ألا وهو الفناء في القومية المصرية الخالصة.»١٣

•••

تولى الملك فاروق سلطته الدستورية — كما أشرنا — في ٢٩ يوليو ١٩٣٧م، وبدأ فاروق عهده بتعيين علي ماهر رئيسًا للديوان الملكي، دون استشارة الحكومة الوفدية، الأمر الذي أغضب مصطفى النحاس، بداية للخلافات التي انتهت بإقالة الوزارة الوفدية في ٣٠ ديسمبر ١٩٣٧م، وتعيين محمد محمود رئيسًا لوزارة جديدة، عناصرها من أحزاب الأقلية.

في نهاية الشهر — يوليو — قدَّم مصطفى النحاس استقالة وزارته، طبقًا للتقاليد الدستورية، وكلَّفه الملك بإعادة تأليف الوزارة، وألَّف النحاس وزارته بالفعل في الثالث من أغسطس، وتضمَّنت أسماء الوزراء مفاجأة، أذهلت الرأي العام، فقد خرج أربعة وزراء من بينهم محمود فهمي النقراشي، بدعوى غياب الانسجام، لميل النقراشي إلى المعارضة المستمرة، وهي معارضة كانت مقتصرة على تصرفات الوزارة «وأيقن الواعون أن الوفد بدأ ينزلق إلى المنحدر الخطر الذي يودي به إلى الهاوية.»١٤

وفي ١٣ سبتمبر ١٩٣٧م فصل الوفد النقراشي من عضويته، وتبِعه أحمد ماهر وعدد من قيادات الوفد، لتضامنهم مع النقراشي، وعدم اعترافهم بقرار فصله. وقد ألَّفوا حزبًا سياسيًّا جديدًا ترأسه أحمد ماهر باسم الهيئة السعدية، بمعنى أن الخروج عن قيادة الوفد الحالية، وليس عن زعامة سعد زغلول.

ضم الوفد — في خطوة تالية — أعضاء جددًا هم: محمد صبري أبو علم، عبد الفتاح الطويل، يوسف الجندي، محمد سليمان الوكيل، محمد المغازي عبد ربه، بشرى حنا، محمد الحفني الطرزي، كمال علما، أحمد مصطفى عمرو، فهمى ويصا، سيد البهنسي.

وفي ٣٠ ديسمبر ١٩٣٧م أقال الملك فاروق حكومة النحاس، بعد تفاقم الخلاف بين السراي والوزارة في عدة أمور، منها الخلاف على تعيين عضو بالذات في مجلس الشيوخ، وطلب السراي حل جماعات القمصان الملونة، وإصرارها أن يكون لها اليد العليا في العديد من المسائل الدستورية والتنفيذية، وفي اليوم نفسه، عهد الملك إلى محمد محمود بتأليف الوزارة الجديدة.

كانت تلك هي الإقالة الأولى لوزارة الوفد في عهد فاروق. تضمن خِطاب الإقالة عبارات قاسية، وحلَّت — بدلًا منها — حكومة برئاسة خصم النحاس منذ أواخر العشرينيات، هو محمد محمود رئيس حزب الأحرار الدستوريين (من ديسمبر ١٩٣٧م إلى أبريل ١٩٣٨م). وحين سأل الدفاع مصطفى النحاس في قضية مقتل أمين عثمان: هل تذكر رفعتك سبب إقالتك من الحكم سنة ١٩٣٧م، طلب النحاس تذكيره بسبب الإقالة، فقال المحامي علي أيوب إنها كانت بسبب الاعتداء على الحريات، ونزاهة الحكم، والقمصان الزرق؛ فاعترض النحاس على السؤال.١٥
وثمة رأي أن وزارة الوفد أقيلت بعد أن أنهت المهمة المطلوبة منها، وهي عقد معاهدة ١٩٣٦م،١٦ ذلك ما يشير إليه محمد عودة في عودة الوفد بعد توقيع المعاهدة، سعيدًا، مبتهجًا، بأنه خسر المعاهدة، ولكن كسب صداقة الإنجليز، في الوقت نفسه الذي اتفق فيه العمال والمحافظون على أن الوفد حجر عثرة، ولن يتغير، ولا بد أن يذهب، لا من السلطة فحسب، ولكن من حياة مصر السياسية.١٧

يسأل رفعت (الحصاد): ولماذا أقيلت الوزارة إذا لم تكن إقالتها لتفشي المحسوبية واستغلال النفوذ؟

– يقول الباشا إن حاشية الملك الفاجر أرادت أن تتملَّقه، وتتودَّد إليه، وتكسب رضاه، فزيَّنت له أن يكون تتويجه دينيًّا، أن يضع الشيخُ الأكبر التاجَ على رأسه، وصادفت الفكرة هوًى في نفسه، فطلب من وزارته أن تُعِد العدة لذلك التتويج، ولكن رفعة الباشا رفض ذلك، وأمعن في الرفض، فكانت الأزمة وكانت الإقالة، وكانت الأسباب التي اختُلقَت، وأصبحت المادة التي تلوكها صحف المعارضة صباح مساء.

ويقول رفعت: وما كان يضير رفعة الباشا لو قبِل التتويج الديني؟

يقول عبد الخالق: كان ذلك يجر البلاد إلى متاعب لا قِبَل لها بها، سيشجع ذلك الملك الشاب على الظن بأنه حاكم ديني، وسيجعله يحلم دائمًا بأنه خليفة المسلمين، وسيأتي من الأفعال ما ينفِّر الدول الإسلامية كلها منا، والبعد عنا.١٨
ويقول رياض قلدس (السكرية): «انتهت الأزمة الدستورية بهزيمة الشعب، فليست إقالة النحاس إلا هزيمة للشعب في نضاله التاريخي مع السراي.»١٩
أما عبد العظيم رمضان، فيؤكد أن الوفد قد اتجه بالفعل إلى تنفيذ بنود معاهدة ١٩٣٦م الخاصة بجلاء القوات البريطانية عن المدن المصرية إلى مدن القناة، فضلًا عن تقوية الجيش المصري، ورفع كفايته، ليصبح وحده قادرًا على الدفاع عن قناة السويس، لولا أنه طُرِد من الحكم في نهاية سبتمبر ١٩٣٧م.٢٠
من الغريب أن عبد العظيم رمضان — التزامًا بخطٍّ سياسي مناصر للوفد — يبرر الخطأ بالخطأ، فقد كان لأحزاب الأقلية أخطاؤها الفادحة، وارتكازًا إلى تلك الأخطاء «أخذ الوفد يسير في الحكم سيرة حزبية، ويعمل على تدعيم مركزه ونفوذه في أنحاء البلاد.»٢١ ففي الفترة من ٩ مايو ١٩٣٦م إلى ٢٩ ديسمبر ١٩٣٧م فصل ١٧٣ عمدة، وأحال مجموعات من الضباط إلى المعاش، وألَّف، ودعم، فِرق القمصان الزرقاء، وأغدق على أنصاره الرتب والترقيات والمناصب، بحجة تعويضهم عما لحقهم من آثار الجهاد والنضال في سبيل الدستور والاستقلال.٢٢

وكما أشرنا، فإن الوفد لم يحصل على فرصة حقيقية للحكم، سواء في عهد سعد زغلول، أو في عهد خَلَفه مصطفى النحاس، فخلال ما يقرب من ٣٠ عامًا لم يتولَّ الوفديون السلطة إلا لأكثر قليلًا من سبع سنوات، وكانوا يخرجون — في كل مرة — لأسبابٍ قهرية، من القصر، أو من الإنجليز، ومن سبع وزارات ألَّفها النحاس، أقيلت أربع وزارات.

•••

يحدد محمد أنيس الأسباب التي أدَّت إلى تدهور نفوذ الوفد، وضعف قدرته على خوض معركة الاستقلال فيما يلي:

  • لم يكن أسلوبه ثوريًّا، مما أفقده القدرة على مواجهة السراي والإنجليز.

  • توقيع معاهدة ١٩٣٦م، وحادثة ٤ فبراير ١٩٤٢م، وكان لهما تأثير في غاية السلبية على مكانة الوفد بين الجماهير المصرية.

  • أهمل الحزب وضع برنامج اجتماعي من أي نوع، بديلًا، أو استمرارًا، لكفاحه في طلب الاستقلال بما يعطي لوجوده تبريرًا عقب توقيع معاهدة ١٩٣٦م.

  • تسرَّب الكثير من العناصر شبه الإقطاعية إلى قيادة الوفد؛ مما أدى إلى صراع داخلي حول زعامة الوفد، كما ابتعدت الزعامة — بالضرورة — عن القواعد الجماهيرية.٢٣

يعيب محمد أنيس على الوفد أنه ضيَّع من حياته، الفترة منذ وقَّع مصطفى النحاس معاهدة ١٩٣٦م، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، فهو لم يحاول — وربما لم يفكر — في وضع برنامج عمل وطني يعمل في إطاره، وكانت حادثة ٤ فبراير تعرية حقيقية للوفد، وللنحاس بصفة خاصة، وكان من الواجب تجاوز ذلك المأزق بالعودة إلى روح الوفد، من خلال تشريعات ومواقف، كانت تحتاج إليها الملايين من أبناء الشعب المصري، وحتى بعد أن أصدر مكرم عبيد كتابه الأسود، وأصدرت حكومة السعديين تقريرها الذي حاول وضع السخام فوق تصرفات النحاس الشخصية، ظل الوفد ساكتًا أمامه، واكتفى بالردود الإعلامية، دون أن يتجاوز إلى تصور مستقبل الوطن، في ظل سيطرة الإنجليز والسراي وأحزاب الأقلية.

•••

كان قوام الوفد أربع قيادات تاريخية، هي: الرئيس مصطفى النحاس، السكرتير العام مكرم عبيد، رئيس مجلس النواب أحمد ماهر، العضو القيادي محمود فهمي النقراشي. نشب الخلاف — لأسبابٍ متعددة — بين النحاس ومكرم من ناحية، وماهر والنقراشي من ناحية ثانية، وأفضى الخلاف إلى استبعاد النقراشي من الوزارة النحاسية الرابعة التي تشكَّلت في أول أغسطس ١٩٣٧م، وانضم إليه، وسانده، أحمد ماهر، وهو ما أسفر — في النهاية — عن تشكيل الحزب السعدي بقيادة ماهر والنقراشي.

حاول النحاس أن يزيل بواعث الخلاف، نظرًا للمكانة التي يحتلها النقراشي في الحياة السياسية المصرية، وعرض على النقراشي منصب أحد العضوَين المصريين في مجلس إدارة قناة السويس، وأبدى النقراشي — في البداية — استعداده لتولي المنصب، لكن القوى المناوئة أفلحت في إذكاء نيران الفرقة.

وفي ٦ يوليو ١٩٤٢م أصدر رئيس الوفد قرارًا بفصل مكرم عبيد وراغب حنا من الوفد، ومن الهيئة الوفدية، وحلَّت — بدلًا من القادة المفصولين — قيادات جديدة، وفي مقدمتهم — بالطبع — فؤاد سراج الدين، الذي لم يكن يتمتع برصيدٍ شعبي مماثل لما كان تتمتع به القيادات المستقيلة من الوفد.

والحق أن الوفد لم يكن في عام ١٩٤٥م وما تلاه، هو الوفد الذي كان في عام ١٩١٩م؛ فقد تسربت إلى قيادته عناصر إقطاعية، فضلًا عن أنه فقد الكثير من جماهيريته لعقد معاهدة ١٩٣٦م، ولموقفه الاستسلامي شبه المطلق للاحتلال البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية. وعلى حد تعبير وسيم خالد، فقد أفلح كبار ملاك الأراضي الذين انضموا إلى الوفد — عقب توقيع معاهدة ١٩٣٦م — في تمييع سياساته.٢٤ ويقول الراوي (بيرة في نادي البلياردو) إن الوفد كان يدفع جيدًا، بشرط أن يكون المرء خطيبًا، أو منظم مظاهرات جيدًا.٢٥
وإذا كان الفنان قد وصف عيسى الدباغ بأنه «مخلوق سياسي قبل كل شيء»٢٦ فإن عيسى الدباغ كان — في الحقيقة — سياسيًّا فاسدًا، لا يشفع له كل ادعاءاته بالبراءة والثورية والطهر، وأحد دلائل إدانته إقدامه على منح العلاوات والترقيات — بلا مسوغ — لأزواج شقيقاته في عهد نفوذه.٢٧

بدأ عيسى حياته السياسية مخلصًا في انتمائه وتوجُّهه، وعمل — لفترة — مديرًا لمكتب وزير وفدي سابق، ثم جرفته الحياة الحزبية، فعرف السجن لقاء تعصُّبه لمبادئ حزبه، ثم — تعويضًا لما أصابه! — عرف الرشوة واستغلال النفوذ، وانتهى به الأمر مطرودًا بقرارات لجان التطهير التي شكَّلتها حكومة الثورة.

حتى رضا حمادة (المرايا) الوفدي الصميم «كانت تعتريه نوبات حزن شديد كلما شعر بأن الوفد لم يعُد على المستوى الرفيع الذي طالما تربَّع عليه بجدارة، أو أنه تسلل إليه خور في الإرادة والاستقامة، وفتر حماس الشعب له.»٢٨ وأعلن النبيل عباس حليم أن النحاس هو العجل أبيس، وأن المصريين يجب أن يكفُّوا عن عبادة العجل أبيس.٢٩
وكتب اللورد كيلرن عن ظهور واحدٍ من أهم القيادات الوفدية الجديدة، هو فؤاد سراج الدين، في الحياة السياسية للمرة الأولى بقوله: «فؤاد سراج الدين، وهو إقطاعي شاب صديق للنحاس، خلَّف وزير الزراعة بعد انتخاب هذا الأخير رئيسًا لمجلس النواب. وقد أثار تعيين سراج الدين نقدًا بالغًا في الرأي العام الذي يعتقد أنه لا يستحق هذا المنصب، وبين الوفديين الذين يرَون من هو أحق منه بهذه المكافأة.»٣٠

بدأ فؤاد سراج الدين حياته العملية وكيلًا للنيابة، فلما اشتغل بالحياة السياسية استطاع في فترة زمنية قصيرة — نسبيًّا — أن يصل إلى منصب سكرتير عام حزب الوفد، متخطيًا بذلك قيادات وفدية مهمة، مثل أحمد ماهر والنقراشي ومكرم عبيد وغيرهم.

انضم سراج الدين إلى الهيئة الوفدية في ١٩٣٦م، وتمكَّن — في مدى سنوات قلائل — من إبعاد كل المنافسين له من قيادات الوفد، واحتواء مصطفى النحاس، حتى أصبح سكرتيرًا عامًّا للحزب. ومما يثير التأمل أن فؤاد سراج الدين — الابن المخلص للأرستقراطية المصرية — شغل — في ١٩٤٣م — منصب وزير الشئون الاجتماعية، وهي الوزارة التي كانت العلاقات العمالية من بين مهامها.

منذ منتصف الثلاثينيات، بدأت العناصر الطلابية تنصرف عن قيادة الوفد، نتيجة لتهاونها مع حكومة توفيق نسيم التي كانت ترفض إعادة دستور ١٩٢٣م، وإن كان ينبغي التأكيد على أن صبر الوفد، وبقية الأحزاب، طال على حكومة توفيق نسيم لتنفيذ وعدها بعودة العمل بدستور ١٩٢٣م، لكن الصبر — بتوالي الأيام — بدأ في النفاد، وهو ما انعكس في الهجوم الذي شنَّته الأحزاب المختلفة ضد الوزارة النسيمية، وتمثَّلت ردود الأفعال — وبخاصة بعد خُطبة مصطفى النحاس في مناسبة عيد الجهاد، يوم الأربعاء ١٣ نوفمبر ١٩٣٥م، في مظاهرات صاخبة، اجتاحت القاهرة، ومدن مصر بعامة، وحدثت مصادمات بين المتظاهرين والبوليس، وقُتِل وأصيب العشرات من المتظاهرين، واعتُقل أعداد أخرى،٣١ ووجدت الأزمة مخرجًا — مؤقتًا — في استقالة وزارة توفيق نسيم في ٣٠ يناير ١٩٣٦م.

بدأت التنظيمات السياسية والأيديولوجية الأخرى في استقطاب مجموعات الطلاب، مثل الإخوان المسلمين الذين كانوا يضغطون على العامل الديني، والساسة الذين رفعوا شعار القومية المصرية، والشيوعيين الذين عنوا بالبنية الاجتماعية، ثم تزايدت عوامل ضعف الوفد نتيجة لتسلل بعض العناصر الانتهازية إلى قياداته، وانتقال معظم قياداته القديمة التي تنتمي إلى بيئاتٍ شعبية وفقيرة، إلى طبقة أعلى، فانعزلت عن قواعدها، وغياب مبدأ الانتخاب، حيث كان كل شيء يتم بالتعيين، وبداية إيمان زعامة الوفد بمبدأ المساومة للبقاء في الحكم أطول فترة ممكنة.

ويقول عيسى الدباغ (السمان والخريف) لصديقه الشيخ عبد التواب السلهوبي عضو الشيوخ السابق: «كنا حزب المثل الأعلى، حزب التضحية والفداء، حزب كلَّا، ثم كلَّا أمام كافة المغريات والتهديدات، كنا كذلك حتى قبيل ١٩٣٦م، فكيف أدركت روحنا الطاهرة الشيخوخة؟ كيف تدهورنا رويدًا رويدًا حتى فقدنا جميل مزايانا؟»٣٢

دعا الوفد — كي لا يتزايد معدل تدني نفوذه الجماهيري، وفي محاولة لإعادة تنظيم صفوفه — إلى عقد مؤتمر موسَّع في ٩-١٠ يناير ١٩٣٥م، حضره ما يقرب من ٣٠ ألف مندوب يمثِّلون لجان الوفد الفرعية، ناقشوا — للمرة الأولى — قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية، تهم مجموع الشعب المصري.

ولا شك أن الجماعات السياسية المتطرفة — يمينًا ويسارًا — بالإضافة إلى سقوط عددٍ من الإقطاعيين وكبار الرأسماليين على المواقع القيادية في الوفد، ذلك كله أسهم في تقليص حجم الوفد بين الرأي العام المصري،٣٣ لكن الأمر الراجح تاريخيًّا — على حد تعبير علي الدين هلال — أن الكثير من الاتهامات التي وُجهَت إلى قيادة الوفد كان مبالغًا فيها، فقد كان عدد الاستثناءات التي تمت في حكومات الوفد، من حيث الترقيات، أقل مما كان يحدث — عادة — في عهود حكومات الأقلية، وكان أغلبها بقصد رفع الظلم الذي وقع على الوفديين خلال عهود وزارات القصر «وكان بعض هذه الاتهامات مختلَقًا من الأساس.»٣٤

أخذت «الأرض» و«الشمندورة» و«بين القصرين» وغيرها، اتجاهًا منحازًا إلى حكومة الوفد، وضد حكومات الأقلية — وحكومة صدقي بالذات — ومن الصعب القول بأن المنطلق الذي صدرت عنه كل تلك الروايات كان رجعيًّا، لأن الوفد — رغم كل التناقضات التي تحيفته — كان حزب الجماهير المصرية فعلًا. حتى قادة اليسار المصري الذين وجدوا في الوفد — في البداية — حزبًا رجعيًّا، ما لبثوا أن تبيَّنوا خطأ رأيهم، واعتبروا عدم تحالف اليسار المصري مع حزب الوفد خطأ جسيمًا، أفضى إلى عزلة اليسار عن الجماهير المصرية، التي كانت تجد يقينها السياسي والاجتماعي في الوفد.

•••

سأل أحد الناخبين زكريا (الشارع الجديد): أترشح نفسك على مبدأ الحزب السعدي؟

قال في دهشة: أتريد أن أتخلى عن مبدئي؟

– إذا تمسكت بسعديتك فلن تفوز.

– لماذا؟

– الشعب كله ناقم على السعديين! اسمع نصيحتي، ورشح نفسك مستقلًّا، إذا لم تنضم للوفديين.

– وما سبب كل هذه النقمة؟ لأن إبراهيم عبد الهادي اعتقل الإرهابيين؟ ماذا كان يفعل بعد أن أفزعت الناس موجة القتل والإرهاب.

قال شاب: كان يضرب على أيدي المفسدين بيدٍ من حديد، دون أن يترك الشعب كله فريسة لرجال القلم السياسي الجلادين، ماذا فعل الإخوان المسلمون ليضطهدهم، وينكل بأقاربهم وذويهم، لا لشيء إلا لأنهم أقارب لأناس ساقهم سوء الطالع في طريق القلم السياسي.٣٥
وعلى الرغم من المكاسب التي كان زكريا (الشارع الجديد) قد حققها لأبناء دائرته في الفترة التي تولَّى فيها النيابة، وعلى الرغم من الخدمات التي بذلها، والوعود الجديدة التي قطعها على نفسه، فقد أسفرت نتائج الانتخابات عن فوز منافسه الوفدي. رفض أبناء الدائرة إعادة انتخاب زكريا، برغم أنه ثار لموظفي السكة الحديد وعمالها حتى ردَّ لهم حقوقهم، وكافح من أجل الصيادين الفقراء، حتى يرفع القيود المفروضة على الصيد في المناطق الممنوعة، وطالب بتعويض منكوبي الغارات الجوية، وكان بعضهم من ضحايا الغارات، وثار في وجه الحكومة لأنها تريد أن تعطي ملايين الجنيهات إعانة لشركات الغزل، وما كانت تلك الشركات في حاجة إلى عون … إلخ،٣٦ لا لأن الانتخابات بوليس وأموال. ربما يكون هذا سببًا، لكنه سبب جانبي جدًّا، والحقيقة أن الناخبين تخلوا عنه كمرشح بعد أن سام إبراهيم عبد الهادي الشعب العذاب، وسلَّط عليهم البوليس السياسي، ونكَّل حتى بالأهل والأقارب، لا لشيء إلا لأنهم أقارب لأناس ساقهم سوء الطالع في طريق رجال البوليس السياسي.٣٧
كان العسكري الأسود يقوم بالدور نفسه الذي كان يقوم به إبراهيم أغا توتونجي مع أبطال الثورة العرابية. يصفه الفنان بأنه «عسكري أسود من قنا، أشيع أنه على استعدادٍ للتعامل مع مؤخرات المعتقلين السياسيين إذا هم أصرُّوا على إنكار ما نُسِب إليهم من اتهام.»٣٨
ويؤكد إبراهيم عبد الهادي في مذكراته، أن نتيجة الانتخابات كانت بتدبيرٍ بين حسين سري والإنجليز من جهة، والوفد من جهة أخرى، لإسقاط الوزارة الائتلافية، حين تولى حسين سري الوزارة، وأجرى الانتخابات، فحصل الوفد على الأغلبية المطلقة تنفيذًا لرغبة الإنجليز.٣٩
ويشير الرافعي إلى أن من بين أسباب فوز الوفد انضمام الإخوان المسلمين والشيوعيين له، كراهية منهم للسعديين بعد أن واجهوهم بالاعتقالات والمصادرات، يضيف أن الوفديين وجدوا أيضًا «معاونة من معظم رجال البوليس والإدارة في الدوائر الانتخابية؛ إذ كانوا حاقدين على النقراشي عدم استجابته إلى كثير من مطالبهم، وسلوكهم حيالهم مسلك الحزم والخشونة، فاتفقوا على أن ينتقموا من خصوم الوفد، وأكثرهم من السعديين وحلفائهم، وكانوا حربًا عليهم في الانتخابات. وقد تجلَّت مساعدتهم للوفديين على الأخص في العواصم، وأهمها القاهرة والإسكندرية؛ إذ تركوا الوفديين يجمعون حول لجان الانتخابات عصابات من البلطجية والأشرار يتهدِّدون الناخبين، ويمنعون كل من يرشد عنهم الوفديون أنهم ليسوا من أنصارهم، من دخول اللجان.»٤٠
أما حافظ محمود، فقد أرجع نجاح الوفد إلى رغبة الإنجليز، وتزوير حكومة حسين سري، فقد كان ثمة اتفاق بين الأحزاب، عدا الوفد — والرواية لحافظ محمود — أن تكون نتيجة الانتخابات متوازنة بينها، ومع حزب الأغلبية، حتى لا تظل الأغلبية في جانب واحد. ولما مرَّ بيفن — وزير خارجية بريطانيا آنذاك — بقناة السويس، طلب مقابلة رئيس الوزراء «وفي هذه المقابلة أشار بيفن إشارات عابرة إلى الانتخابات البرلمانية والوفد والأحزاب، وقرأ سري باشا أفكاره، فإذا بنتيجة الانتخابات أغلبية ساحقة للوفديين.»٤١
ويؤكد جلال الحمامصي تدخُّل حكومة حسين سري لإنجاح الوفد، بل وتحرك السفارة البريطانية لفرض نجاح الوفد. وفي صباح يوم التصويت — والرواية للحمامصي — انسحب رجال البوليس — بإيعازٍ من الإنجليز ورجال الإدارة — من أمام المراكز الانتخابية في القاهرة والإسكندرية، وتركوا حراستها للشباب الوفدي فكان لا يسمح لغير الوفديين بالتصويت.٤٢ ويرجع الحمامصي موقف رجال البوليس من مرشحي الحزب الوطني — وهو موقف مضاد في تقديره — إلى الإجراءات التي اتخذها النقراشي ضدهم، عندما قاموا بالإضراب في أثناء توليه رئاسة الوزارة.٤٣ ودافع الحمامصي عن أحزاب الأقلية بأنها كانت — إلى حدٍّ كبير — أنزه من حزب الغالبية، وكانت أخطاؤها في الحكم أقل بكثير، بل إنها تكاد تكون معدومة إذا قيست بالأخطاء الجسيمة التي كان يرتكبها حزب الأغلبية، وزعيمه، وزعيمته (يقصد السيدة زينب الوكيل).٤٤
ولا شك أن ما ذهب إليه كلٌّ من الرافعي وحافظ محمود وجلال الحمامصي ينطوي على معلومات مغلوطة، فقد قاربت الآراء حد الإجماع على نزاهة انتخابات ١٩٥٠م، التي أسفرت عن فوز الوفد، حتى المرشح المستقل كان يحرص على إعلان أنه يستظل بمبادئ سعد الحقيقية.٤٥ وثمة شعارات عكست الوضع الاجتماعي، أو الطبقي، مثل: الأعيان أعوان الطغيان، متى يُسقِط البرلمان حكومة؟ برلمان الأعيان بناء من القش!٤٦

كان الوفد هو أصلح القوى السياسية لمواجهة العسف السعدي، برغم ما كان يعانيه هو نفسه من ضعف وتمزقات، فلم تكن الحركات اليسارية ذات تأثير يُذكَر. وكان وجود «مصر الفتاة» — الاشتراكي — الإعلامي يفوق الوجود الفعلي، وكان الإخوان المسلمون يحيون مرحلة انعدام الوزن في أعقاب اغتيال مرشدهم العام.

كان البديل لحكم الوفد — الذي يمكن أن يفتح، أو يوارب، نافذة ديمقراطية — هو حكم أحزاب الأقلية — السعديين تحديدًا — بكل ما أحدثوه في البنية السياسية والاجتماعية لمصر من تشوُّهات.

من هنا، جاء قول محمود أبو الفتح — تعليقًا على فوز الوفد في الانتخابات — بأنه «ثورة أمة ذاقت أنواع الظلم والعنت والإرهاق.»

كان الوفد المصري هو الحزب السياسي الوحيد الذي يُفْصَل الموظفون من جراء انضمامهم إليه، وقد واجه مرقص أفندي الموظف بوزارة الحربية (المرايا) عقوبة الفصل، بعد أن ظهرت صورته وسط المهنئين للنحاس ببراءته في قضية سيف الدين، ولم يحتمل الرجل قسوة العقوبة، فأصيب بالشلل، ومات.٤٧

لكن المظاهرات المؤيدة للوفد لم تكن تتوقف، وكانت تردد الهتاف الطريف الذي لا يخلو من دلالة: يحيا الوفد … ولو فيها رفد!

وعلى الرغم من تأثيرات حادثة ٤ فبراير، والكتاب الأسود، وكل محاولات الإساءة والتشويه التي أرادت بها المعارضة أن تنال من الوفد، ومن مصطفى النحاس، فقد استطاع الحزب أن يكتسح غالبية الدوائر في انتخابات عام ١٩٥٠م، ويحقق فوزًا ساحقًا. وكانت المظاهرات قد خرجت تنادي — في مواجهة الحملة الشرسة التي حاولت بها أحزاب الأقلية أن تنال من شخصية النحاس — حرامي … حرامي … لكن بنحبه!

ويقول إسماعيل قدري (قشتمر): في مصر أربعة أديان: الإسلام والمسيحية واليهودية والوفد.

فيقول طاهر عبيد ساخرًا: والدين الأخير أعظمها انتشارًا.٤٨
ويشير أحمد أبو الفتح إلى أوامر كان قد أصدرها الملك لحسين سري، بألا تزيد نسبة نجاح الوفد — وكان نجاحه متوقعًا — عن ٤٥٪ حتى لا يتولى الوزارة منفردًا، لكن جريدة «المصري» قضت على المحاولة، حين نشرت حديثًا للنحاس، يحذر فيه — بشدة — من أية محاولة لتزييف الانتخابات.٤٩
ولا شك أنه كان للوفد دور يصعب إغفاله — بفضل شعبيته الغلَّابة — في وقف تيار التعصب الديني، والاتجاهات الفاشية، فضلًا عن التصدي لمؤامرات المحور الذي كان يبحث له عن عملاء بين المشتغلين بالعمل السياسي في مصر.٥٠
وقد صدر في عهد حكومة الوفد العديد من التشريعات والقوانين، مثل قوانين العمال، وقانون النقابات، وعقد العمل الفردي، واستعمال اللغة العربية في الشركات، ومجانية التعليم الابتدائي والثانوي، ورفع الضريبة عن صغار الفلاحين، ورفع أسعار المحاصيل، وقانون استقلال القضاء … وغيرها.٥١
بالإضافة إلى ذلك، فقد تحوَّلت الفترات التي حكم فيها الوفد، إلى فترات محاكمة لأجهزة الدولة التي أساءت استخدام السلطة، مثل جرائم البوليس السياسي في تعذيب الإخوان المسلمين والشيوعيين والتنظيمات السياسية الراديكالية الأخرى، «وكان ذلك يجعل هذه الأجهزة تطوي صدورها على حقدٍ شديدٍ تجاه تلك الفترات، وتجاه حكومة الوفد.»٥٢

•••

كان الحزب الوطني هو الذي كوَّن فِرق القمصان الزرق، ثم بدأ الوفد في تكوين فِرق مماثلة بالاسم نفسه٥٣ في يناير ١٩٣٦م، فاعتبرتها الأحزاب المعارضة عملًا عدائيًّا من الوفد، رغم الائتلاف القائم آنذاك.
الغريب أن مكرم عبيد كان قد هاجم فكرة القمصان، وأنها تصرِف الشباب عن السياسة، ثم طبَّق الوفد الفكرة على الشباب من أعضائه.٥٤ ويقول الفنان (أزهار) إن الوفد ألَّف كتائب القمصان الزرقاء، فزاد عدد المنضمين إليها على بضعة ألوف في القاهرة وحدها، وثبت — في مدى فترة قصيرة — أن «الأقمِصة الزرقاء هي أكبر نكبة حاقت بحزب الأغلبية، فقد اندسَّ بين صفوفها كلُّ عاطل، وكل متشرد، وكل مجرم؛ إذ وجدوا في هذه الكتائب ما يحميهم من تدخل البوليس، ويجعلهم في منأى عن مطاردته لهم. وسرعان ما أصبحت هذه الكتائب علمًا على الفوضى والانتهاك الصارخ للقانون والأمن العام، وتحوَّل البوليس إلى أكبر ناقمٍ على هذه الفِرق الزرقاء، وكان من شأن ذلك أن ارتفعت أسهم الكتائب الخضراء التي كانت تضم الشباب الجامعي المثقف المؤمن، والذى يؤمن بسيادة القانون والنظام وتقديس حقوق الفرد والإنسان.»٥٥

وقد عاب البعض على أفراد القمصان الزرقاء أنهم كانوا يقتحمون الدواوين، ويملون إرادتهم على الموظفين، ويعتدون على الأصوات المعارضة، تحت سمع البوليس وبصره.

ولم تجد حكومة الوفد — لكي تضع حدًّا للاضطرابات التي عمَّت البلاد بين ذوي القمصان الزرقاء والخضراء — إلا أن تُصدِر أمرها بإغلاق دور الجماعة في المدن المصرية، وأغلقت المركز العام في القاهرة، وصادرت مجلة الجماعة، وفصلت بعض الموظفين، ونقلت البعض الآخر إلى أماكن بعيدة، ونقلت مصطفى الوكيل من عضوية البعثة في لندن.٥٦

•••

هل كان الوفد أداة إضافية للسلطة، يتحمَّلها الإنجليز، أو يستدعونها، حينما يبدو لهم أن الوضع السياسي يستلزم شكلًا من الحكم غير الشكل الديكتاتوري الذي كان يمارسه الملك؟

ذلك ما يطرحه محمود حسين في كتابه «الصراع الطبقي في مصر».٥٧
يبرر عبد العظيم رمضان «ابتلاع» الوفد تهديداته ضد بريطانيا قبل نشوب الحرب، بأن المسألة كانت أكبر من العلاقات بين مصر وبريطانيا، فقد كانت مسألة خيار بين الديمقراطية والفاشية.٥٨

ويرجع حلمي سلام فشل محاولات الوفد — حين كان يعانق أماني الجماهير — في فرض إرادة الدستور على الملك فاروق إلى عاملَين: أولهما تلهفه — مثل بقية الأحزاب، ورغم أنه حزب الأغلبية — على الحكم. وكان هذا التلهف مبعث ضعف، لم يتحمَّل — بتأثيره — مؤامرات الإنجليز والملك وأحزاب الأقلية. أما العامل الثاني، فقد تمثَّل في تلك الكراهية التي كان يضمرها — ويعلنها — فاروق للدستور، مقتديًا في ذلك بوالده الراحل فؤاد، مسترشدًا تعاليم رجال القصر، بدءًا بأحمد حسنين وعلي ماهر، وانتهاءً بالشماشرجي محمد حسن!

عاد الوفد إلى الحكم سنة ١٩٥٠م، وفي يقين قياداته أن معاداة الملك ستعيده إلى صفوف المعارضة من جديد؛ لذلك كان حرص زعامة الوفد أن تعلن — منذ اللحظة الأولى — ولاءها التام والعميق «لجلالة الملك».

وفي رواية لكريم ثابت، أنه هو الذي أقنع الملك بإسناد الوزارة إلى النحاس، بعد أن كان يرفض إشراكه — شخصيًّا — في أي تشكيل وزاري. وشارك فؤاد سراج الدين في تهيئة الجو لذلك، بالإيعاز للنحاس كي يعدل لهجته في خُطبه، ويوجِّه التحية إلى الملك، وهو ما أفضى إلى قبول الملك بالنحاس رئيسًا للوزراء.

ويروي الفنان في «الحصاد» واقعة تكررت في كتب التاريخ الحديث، وفي تراجم عدد من المؤرخين، وهي طلب مصطفى النحاس من الملك فاروق — فيما يشبه المفاجأة — أن يأذن له بتقبيل يده!٥٩
يؤكد حلمي سلام هذه الواقعة في كتابه «أيامه الأخيرة»،٦٠ كما يؤكدها جلال الدين الحمامصي، وأن النحاس «رفس الثقة الشعبية بقدمَيه، وتقدَّم إلى الملك معترفًا له بأنه فوق الشعب، وطلب منه أن يقبِّل يديه، وتقدم النحاس ليقبِّل يدَ الملك وش وضهر ثلاث مرات، لا مرة واحدة.»٦١
وتهمة حرص النحاس على تقبيل يد الملك فاروق، تتكرر في حادثة مشابهة، عندما اتُّهم طه حسين بتقبيل يد الملك، وهو ما نفاه طه حسين بشدة «والله يشهد ما قبَّلت يد فاروق، ولا يد أبيه، ولا يد عمه السلطان حسين، ولا يد ابن عمه عباس حلمي الثاني، حين كان أميرًا لمصر، ولا يد ملك من الملوك الذين لقيتهم قَطُّ، والله يشهد أنني ما قمتُ بتقبيل يد أحد من الناس، إلا أن تكون يد أبوي، أو يد بعض شيوخنا في الأزهر، رحمهم الله، لا أستثني يد سيدة أجنبية كانت ترفع يدها إذا لقيتني في بعض المحافل، فتلصقها بشفتي إلصاقًا، واضحك من ذلك إن شئت، واعبث به إن أحببت، فليس عليك من الضحك والعبث جناح.»٦٢

وبالطبع فإنه إذا صحَّت تلك الرواية، فإنها تمثِّل خسارة فادحة لشخصية وطنية بارزة، هي مصطفى النحاس، لكن الواقعة تغيب في روايات مَن حضروا اللقاء — حسين سري في مقدمتهم — بل إنهم أكدوا عدم صحتها، وأنها ليست سوى زعم سياسي باطل، وتظل الواقعة في دائرة الشائعة السخيفة، لا في دائرة الحدث المؤكَّد.

ولعلي أميل — شخصيًّا — من استقرائي لتاريخ مصطفى النحاس النضالي، ومواقفه، إلى تصديق النفي، يؤيدني ما ذكره عبد الفتاح حسن في ذكرياته السياسية من أن حسين سري رئيس الديوان الملكي، نقل إلى النحاس في المشاورات التي سبقت تشكيل وزارة الوفد في ١٩٥٠م، اعتراض الملك على شخص واحد هو طه حسين الذي رُشِّح وزيرًا للمعارف، وبرر الاعتراض بأن الملك يرى أن طه حسين يساري الاتجاه، لكن النحاس أصر على ترشيحه، وهدَّد بعدم تشكيل الوزارة، فنزل الملك على إرادة النحاس، وتشكلت الوزارة في ١٢ يناير ١٩٥٠م، وطه حسين وزيرًا للمعارف فيها.٦٣ كذلك فقد كان يقين الملك أن مجيء الوفد إلى الحكم سيصعِّب من مهمته، من هنا كان طلبه لحسين سري أن يتولى رئاسة الديوان. وكما قال سري في شهادته أمام محكمة الثورة، فقد حمَّله الملك مسئولية عودة الوفد إلى الحكم «رجعت الأغلبية الوفدية، ودول حاييجوا يعاكسوني، فأنا عاوزك تيجي رئيس ديوان علشان تتقبَّل الصدمات.»٦٤

وعلى الرغم من تأييدنا لنفي النحاس واقعة تقبيل يد الملك، فإن محاولة النحاس اكتساب ود الملك — عقب تأليف الوزارة — سعيًا منه لكي تمارس وزارته سلطاتها في الفترة الدستورية لها، كانت خطأ فادحًا ولا مبرر له، ذلك لأنه كان قد أقدم على المحاولة نفسها، وهي تأكيد الولاء المبالَغ فيه للسراي في وزارة ٤ فبراير الشهيرة، إلى حد حشد أنصاره في ١١ فبراير، في ساحة عابدين والشوارع المحيطة بها، لتهنئة الملك بعيد ميلاده.

لكن الملك لم يفلت الفرصة السانحة لطرد وزارة النحاس من الحكم، بالإضافة إلى أن إقالة ١٩٣٧م لم يكن قد نسيها النحاس بعد.

يقول سليم باشا شلبي (الحصاد): «إننا إذا عُدنا هذه المرة إلى الحكم — وسنعود قريبًا — فلن نقف للملك في التفاهات، قال لي سراج الدين باشا إن رأيه، ورأي رفعة الهانم، أن يعمل الوفد على أن يبقى في الحكم طويلًا، ولن يستطيع أن يحقق ذلك إلا بمهادنة الملك، هذه سياسة حكيمة، وقد أيدتها وباركتها، وهنَّأت سراج الدين باشا على سداد رأيه، وقد قال لي إنه لن يسمح بأي صدام بين الوفد والسراي.»٦٥
ويضغط الدكتور محمد صلاح الدين على حقيقة مهادنة وزارة الوفد للملك، بأنها كانت تستهدف التخفيف من طغيانه، فضلًا عن إزالة التصور الذي يملأ رأسه عن النحاس، وأنه رفع علمًا على بيته ليساوي الملك في الأهمية، وأنه لا يعمل له حسابًا، ويريد الجمهورية.٦٦

ويقول الأب (الباب المفتوح): على العموم الوفد أحسن من غيره.

فيقول الابن: لأن الشعب كان بيثق في الوفد، والوفد خان الثقة دي.٦٧
ويعتبر حلمي سلام عام ١٩٥١م بداية النهاية بالنسبة للوفد وللملك في آنٍ، فقد جاء الوفد إلى الحكم في ١٩٥٠م ليلبي كل طلبات الملك، ويخضع تمامًا لمشيئته — تاني! — بل إنه راح يضيف إلى تلك الطلبات من عنده، مثل موافقته على مبلغ المليون جنيه الذي كان طلبه فاروق لإصلاح اليخت المحروسة، ورفضه النقراشي، ثم ماطل في تنفيذه إبراهيم عبد الهادي حتى انتهت وزارته. كذلك ربما حالت فترة وزارة حسين سري القصيرة دون أن تضع طلب الملك موضع التنفيذ، وجاء الوفد — بأغلبية شعبية ساحقة — ليوافق على المليون جنيه، وليضيف إليها أيضًا ٢٠ ألف جنيه «فرق العملة الذي نشأ نتيجة لتخفيض قيمة الجنيه المصري.»٦٨

في منتصف ١٩٤٩م تبيَّن أن حكم السعديين لا يمكن أن يستمر، وأن سخط الجماهير ينبئ بالخطر، وأنه لا بد من تغيير صورة الحكم القائم إذا أريد للنظام أن يطول أجله. وهكذا خرجت وزارة السعديين التي كان يرأسها إبراهيم عبد الهادي (يوليو ١٩٤٩م)، وجاء حسين سري على رأس وزارة ائتلافية، شارك فيها الوفد والسعديون والأحرار الدستوريون والحزب الوطني، وبدأت في الإعداد لانتخابات برلمانية جديدة، ثم تحوَّلت الوزارة من ائتلافية إلى محايدة.

ويقول رفعت (الحصاد): «حيَّرت استقالة إبراهيم باشا عبد الهادي الناس، استقال قبل العيد بثلاثة أيام، ولم يكن هناك سبب وجيه للاستقالة، أو لعدم تأجيلها إلى ما بعد العيد، فإبراهيم باشا نفَّذ سياسة النقراشي، ملأ بالإخوان وبالشيوعيين السجون والمعتقلات، وقتل الشيخ حسن البنا في مستهل حكمه، ومما زاد في غرابة الأمر أن الملك أعلن أن الوزارة القومية التي شكَّلها سري باشا من الأحزاب جميعًا، هي هدية الملك إلى شعبه في العيد، كأنما يعلن بطريقٍ مستترة أن وزارة إبراهيم باشا هي الضحية التي ضحَّى بها، إنه يحب دائمًا أن يخرق الناموس والتقاليد، ضحَّى بالوزارة في عيد الفطر بدلًا من عيد الأضحى.»٦٩

وكما ترى، فإن وجه الغرابة في الاستقالة، أنها جاءت احتجاجًا على موقف الملك في حرب فلسطين.

أجرت حكومة حسين سري انتخابات مجلس النواب في ٣ يناير١٩٥٠م، وأسفرت عن انتصارٍ كاسحٍ للوفد (٢٢٨ مقعدًا من ٣١٩ مجموع عدد المقاعد).

وبعد أن ألَّف النحاس وزارته في ١٣ يناير ١٩٥٠م، كان أول ما فعلته الحكومة هو إلغاء الأحكام العرفية التي كانت سائدة منذ بداية الحرب العالمية الثانية، بحيث أُلغيَت القوانين الاستثنائية والمحاكم العسكرية، والرقابة على الصحف والمطبوعات.٧٠
رغم ذلك، فقد دفع النحاس ثمن مهادنته كاملًا ليلة السادس والعشرين من يناير ١٩٥٢م، بعد أن ترك له فاروق إعلان الأحكام العرفية! بل إن الوفد أسدل على نفسه ستارًا مأسويًّا، حين أضاف إلى إعلان الأحكام العرفية ولاءه للنظام الملكي، وتأييد الوزارة الجديدة التي جاءت لتصفية المقاومة المسلحة، ثم طار النحاس وسراج الدين إلى أوروبا لقضاء الصيف هناك حتى قيام ثورة يوليو. ولعلِّي أذكِّر بقول فؤاد سراج الدين (١٩٥١م): «لقد بقي الوفد في الشارع عشر سنوات، كاد يُقضى عليه فيها، ولنا من ذلك كل العذر عند الاتفاق مع القصر وسياسته.»٧١ وكان يقين فؤاد سراج الدين أن عرش فاروق أصبح رهينًا ببقاء وزارة الوفد في الحكم.٧٢

الرأي الأقرب إلى الصواب هو أن الوفد كان يلبي كل ما يطلبه الملك، لأنه كان حريصًا على عدم الابتعاد عن الحكم مرة ثانية — ألم يصرح فؤاد سراج الدين علانية بذلك؟ — من هنا كان أسلوب المداهنة والمسايرة.

أما الرأي بأن قيادة الوفد كانت تهدف من مسارعتها تلبية رغبات الملك إلى تعريته وكشفه أمام الجماهير، فهو يفتقر إلى الركائز التي يستند إليها. ولعل مواقف الحكومة من التيارات الشعبية المتدفقة أبلغ دليل على ذلك، مثل وقوفه وراء فصل ١٧ عضوًا من مجلس الشيوخ لاتخاذهم موقف المعارضة من الملك، وتقديمه لعشرات الكُتاب إلى المحاكمة، وسعيه لإصدار قانون الرقابة على الصحف … إلخ.

•••

لعل مشروع قانون الرقابة على الصحف هو أخطر الإساءات التي أساءت بها حكومة الوفد إلى نفسها.

فلماذا أقدم الوفد على تقديم مشروعات تلك التشريعات؟

ملخص ما حدث أن القصر أحس بالخطر من هجوم صحف المعارضة، وثار على الوزارة، وأنذرها بضرورة إغلاق الصحف التي تهاجمه، وأوعز إلى الحكومة بإعداد مشروع قانون إلى مجلس النواب، فأوعزت إلى النائب الوفدي إسطفان باسيلي بتقديم تشريعات الصحافة، وتظاهرت بأنها مهتمة بإقرارها، وأوعزت — في الوقت نفسه — إلى الصحافة الوفدية والنواب الوفديين بمهاجمة التشريعات، ورفض الموافقة عليها.

كان في مقدمة النواب الذين تصدوا للمشروع وقاومه بضراوة عزيز فهمي، أحد أهم القيادات الوفدية الشابة، وأكد قادة الوفد أنهم تحمَّلوا كل هذا العناء لسببٍ واحد، أنهم كانوا يعدون لإلغاء المعاهدة.٧٣
بدأت حكومة الوفد بإصدار قانون يحظر على الصحف نشر أخبار الجيش، ثم تبعته — في أغسطس ١٩٥٠م — بقانون آخر يحظر نشر أخبار القصر. ثم بدأت الحكومة في العمل على تعديل المادة ١٥ من الدستور التي تنص على حرية الصحافة، وإصدار تشريعات تعطي مجلس الوزراء حق مصادرة الصحف وتعطيلها، بغير الرجوع إلى القضاء.٧٤ ويؤكد الوزير حامد زكي مشروعات التشريعات بقوله في تصريح للصحف: «إن هذه التشريعات يجب أن تصدر؛ إذ ليس في استطاعة وزارة بيضاء أن تحكم شعبًا أحمر، إنها ضرورية كأساسٍ للقضاء على الصحف التي تدعو إلى تقويض النظام الاجتماعي في مصر.»٧٥

وفي أواخر يوليو ١٩٥١م قدم النائب إسطفان باسيلي مشروعات القوانين التي تهدف — في مجموعها — إلى تقييد حرية الصحافة، والحد من حقها في نشر الأنباء، ونقد الأسرة المالكة. ويؤكد إبراهيم طلعت أن إسطفان باسيلي قدَّم تلك القوانين بتحريضٍ من القيادات الوفدية لإثارة رأي عام برلماني ضدها، بحيث تُناقش وترفض من غير الطريق التي كان الملك فاروق قرر أن يسلكها.

وصلت مشروعات القوانين إلى أيدي القيادات الوفدية من قبل أن تدفع بها إلى النحاس، ليقدمها بدوره إلى البرلمان للموافقة الفورية عليها.

وحدث ما توقعته قيادات الوفد فعلًا، فقد ثارت ضجة لمجرد تقديم مشروع القوانين إلى البرلمان، ودخلت فئات الشعب المختلفة المعركة بالمظاهرات والمنشورات، وشنَّت الصحف حملة ضارية ضد إسطفان باسيلي، وضد الذين أوحوا إليه بتقديم مشروع القوانين، وشملت الاتهامات أسماء كبيرة، بدءًا بالملك، مرورًا بالنحاس، وانتهاءً بأعضاء الوزارة الوفدية وكبار رجال الوفد.٧٦ وكتب أحمد أبو الفتح في «المصري»: «كيف يمكن أن يقال إن الصحافة تحتاج إلى قيدٍ جديدٍ، والصحافة في مصر تعاني من القوانين ما يعرِّض الصحفيين للحبس والاعتقال، والصحف للمصادرة … الله أكبر! الله أكبر على من طغى وتجبَّر! الله أكبر على من ضلَّ سواء السبيل! فرأى في إقامة دعائم الظلم حائلًا دون تفشي السخط.»

بدأت «المصري» في الصدور عام ١٩٣٦م، وشارك في تأسيسها محمود أبو الفتح ومحمد التابعي وكريم ثابت، وكانت — كما يصفها رجاء النقاش — جريدة هادئة، أقرب إلى المحافظة منها إلى التطرف، تميل إلى مهادنة القوى المسيطرة، مثل السراي والإقطاع والشركات الرأسمالية، لكن «المصري» خاضت معركة إلغاء تشريعات الصحافة بضراوة أقلام كُتابها.

ثم اضطرت الحكومة — في مواجهة المعارضة العنيفة من أفراد الشعب والصحف وأعضاء البرلمان — إلى الإيعاز للنائب إسطفان باسيلي بسحب تلك التشريعات من مجلس النواب.٧٧

•••

كان الوفد — بعد الحرب العالمية الثانية — مرآة عاكسة للحياة السياسية في مصر، ففي المقابل من تسلُّل عدد من ممثلي الإقطاع والرأسمالية إلى قياداته، قام فيه جناح يساري من القيادات الشابة، عزيز فهمي ورفيق الطرزي وأحمد أبو الفتح وغيرهم، أطلقوا على أنفسهم — فيما بعد — اسم «الطليعة الوفدية». وقد تحدد أمل المتطلعين إلى التغيير من قيادات الوفد الشابة، أن يطور الوفد نفسه، فيصبح حزبًا اشتراكيًّا، أو راديكاليًّا في أقل تقدير.٧٨ ولعبت الطليعة الوفدية دورًا في التأثير على سياسة الحزب الراديكالية، بما فيها تغيير القوانين العُمَّالية، وهو ما حقَّق كسبًا في الاتجاه نحو اليسار.٧٩
كانت غالبية قيادات الوفد من الطبقة الوسطى، التي أسهمت بدورٍ مؤثرٍ في أحداث ثورة ١٩١٩م، وكان من بين قيادات الوفد كذلك، أعداد من ممثِّلي المصالح الزراعية الكبيرة — الإقطاع — وكانوا — بحكم مصالحهم ونشأتهم —«أقرب إلى قبول فكرة التهادن مع الاستعمار والحكم المطلق.»٨٠ وهو ما يتفق مع حديث النحاس — في مناسبة عشرة أعوام على تأسيس حزب الوفد — عن إصرار الحزب على عدم فتح الباب أمام الصراع الطبقي، لأنه — في تقديره — «يقود الشعب إلى الهاوية والهلاك.»٨١
في كتابه «نعلم من هنا» أدان محمد الغزالي حزب الوفد، وذهب إلى أنه «ليس في تاريخ مصر — قديمه وحديثه — حزب أساء إلى سمعة الحكم، داخل البلاد وخارجها، كحزب الوفد»٨٢ ويشير حلمي سلام إلى ما قاله مصطفى النحاس في مناسبة عيد جلوس الملك (٦ مايو ١٩٥١م): «إن أبناء الشعب جميعًا يشعرون بأن مليكهم قد أصبح جزءًا لا يتجزَّأ من حياتهم، له في كل قلب من قلوبهم مكان الحب والإجلال وعاطر الذكر، وهل تنسى مصر أنها من يدي أبي الفاروق تلقَّت دستورها، ثم أودعته بين يدي الفاروق الحانيتين.»٨٣
أما عبد العظيم رمضان، فقد أدان الضعف الشديد للقيادات الوفدية، واتهمها بأنها كانت مسئولة عن تصفية معركة القناة،٨٤ بينما ذهب أحمد عباس صالح إلى أن قيادة الوفد وقعت في تناقض؛ فهي تعلن الكفاح، لكنها لا تعمل من أجل هذا الكفاح شيئًا.٨٥
كان الشعب هو الذي يأتي بالوفد إلى الحكم، لكنه لم يكن يستطيع حمايته من الإقالة إن غضب عليه الملك «لا بسبب قدرته، ولكن لأن الوفد كقيادة كان يقف دائمًا دون وصول المد الشعبي إلى ما يهدِّد أسس النظام السياسي القائم، كان يقف به دائمًا دون الثورة.»٨٦ ويقول محمود (الباب المفتوح): «الوفد أزفت من غيره، لأن الشعب كان بيثق في الوفد، والوفد خان الثقة دي.»٨٧
مع ذلك، ورغم ما أدين به الوفد من أخطاء، ومنها تهادنه وتذبذبه وضعفه السياسي — كما يقول شهدي عطية الشافعي — فإن الشعب كان يعود به إلى الحكم في كل انتخابات حرة نسبيًّا. «وكان الشعب سليمًا في عمله هذا؛ إذ أدرك — بخبرته الذاتية — أنه كان يستطيع التنفُّس في ظل الوفد، وتحقيق مكاسب جزئية محدودة يستحيل عليه تحقيقها على يد السعديين والدستوريين، كما أنه لم تكن قد ظهرت بعدُ حماية شعبية مخلصة، لها من النفوذ الجماهيري ما تستطيع معه أن تضم العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين وصغار التجار والحرفيين والرأسمالية الوطنية، في جبهة وطنية موجَّهة ضد الاستعمار والإقطاع والاحتكار، فلم يكن أمام الشعب المصري سوى حزب واحد، يستطيع أن يطمئن إليه بعض الاطمئنان، ألا وهو حزب الوفد.»٨٨ ويقول كامل رمزي (المرايا): «قل في الوفد ما شئت، ولكن لا تنسَ أنه كان حزبًا شعبيًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وأنه كان يغيِّر سياسته — أحيانًا — إذعانًا لمشيئة التلاميذ بالمدارس الثانوية.»٨٩
والدلالة واضحة في قول مرسي (قلوب خالية) عندما يتأخر وصول الصحف: «ساعات الجرائد تتأخر علشان الرقابة بتأخرها … ما احنا في عهد حكومة الوفد … لازم القيادة الإنجليزية توافق على كل ما يُنشَر!»٩٠ وبلغ هوس الجماهير بالوفد حدَّ إعلان الشيخ الغاياتي في خِطاب له: إذا رشَّح الوفد حجرًا، وجب انتخابه!٩١
وقد فاز طلاب كثيرون في انتخابات الجامعة، لا ميزة لهم إلا أنهم أعلنوا عن أنفسهم بالانتماء للحزب الغالب، كان مجرد الانتساب إلى هذا الحزب وليس الكفاءة، هو الذي يقدم للبلاد العناصر التي تتولى قيادتها، والكلمات للفنان في «أزهار».٩٢ ولأن إبراهيم الأسواني (حديث الصباح والمساء) كان وفديًّا، فقد افتضحت عواطفه في تراخيه بالقيام بواجبه في عهود الديكتاتوريات، وفُصَل — لذلك — من عمله.٩٣ وعانى الأب (وكالة عطية) نتيجة لإصراره على عضوية الوفد، تكرُّر مرات الفصل فور سقوط الوزارة الوفدية.٩٤ وقال عيسى الدباغ (السمان والخريف) — عقب إقالة حكومة الوفد في حريق القاهرة: «من العجيب أننا لا نكاد نستقر في الحكم عامًا، حتى يُقذَف بنا خارجه أربعًا، ونحن نحن الحكام الشرعيون، ولا حكام شرعيين غيرنا في البلد.»٩٥ وقال الفنان (١٩٥٢) إنه إذا أجرت الانتخابات حكومة وفدية، فاز الوفد في معظم الدوائر، وإن أجرتها حكومة أقلية، سقط النحاس في دائرته!٩٦
والثابت أن أحزاب الأقلية لم تكن تستطيع — في كل الأحوال — أن تبرم أمرًا في القضية المصرية، دون أن تعود إلى قيادة الوفد، وإلى مشورتها، باعتبار أن الوفد هو «مفوض الأمة ووكيلها».٩٧
ولا شك أن المذكرة التي قدمها الوفد إلى اللورد هاليفاكس وزير الخارجية البريطانية في أبريل ١٩٤٠م، جاءت دليلًا على أن جسد الوفد — كحزب جماهيري — لم تكن الحياة قد فارقته بعد، وأن غالبية قياداته التي ازدوجت فيها مهادنة الاستعمار، وتحقيق المصلحة الشخصية، أخفقت في أن تكون لها وحدها السيطرة على مقدرات حزب الجماهير المصرية. وكان الوفد هو صاحب القرار ببيع أكبر جزء ممكن من أراضي الدولة لصغار المزارعين، وتقديم القروض لشركات التعاون، تنشيطًا للحركة التعاونية.٩٨

اتجهت مشاعر الجماهير نحو الوفد بعد أن أعلن النحاس — في خِطابه الشهير برأس البر — ضرورة إلغاء معاهدة ١٩٣٦م، وإعلان استقلال مصر، وضمَّن خِطابه كذلك مطالب اقتصادية، وأعلن أنه على الحلفاء أن يشتروا القطن المصري بأية طريقة، وكان تصديره قد توقف بسبب انقطاع الملاحة.

ومما يُحسَب لحكومة الوفد أيضًا، موقف الحياد الذي اتخذته في تطورين مهمَّين: الأول عندما امتنعت عن المشاركة في القوات التابعة للأمم المتحدة في الحرب الكورية-الكورية، وهي الفكرة التي دعت إليها، وتبنَّتها، الولايات المتحدة، بدعوى رد الفعل الشيوعي ضد كوريا الجنوبية الحليفة للغرب. أما التطور الثاني، فهو رفض النحاس لمشروع حلف غربي عرضته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا في نوفمبر ١٩٥١م، أي عقب إلغاء معاهدة ١٩٣٦م.

ويقول أحمد بهاء الدين: «يجب أن نعترف بأن الوفد أطلق الحريات، وبأن الصحف كتبت في سنتَي ١٩٥٠م و١٩٥١م ما لم تكتبه قَط، وإن كان لمجلس الدولة في ذلك فضل كبير.»٩٩ ففي مايو ١٩٥٠م، اضطرت الحكومة — بعد تردد خمسة أشهر — إلى إلغاء الأحكام العرفية، وحدث ما كانت تتوجس منه. انطلقت الصحافة الشعبية، وطفت المشكلات الاجتماعية والسياسية، وارتفع صوت الشعب يطلب العمل والقوت والحرية، واشتد الهجوم على الغلاء وسوء توزيع الأرض والإسراف والفساد واستبداد الملك، وظهرت صحف جديدة متحررة تمثِّل تيارات شعبية ووطنية، وهاجمت البوليس السياسي، وكتبت عن سوء أحوال الفلاحين والعمال، وركزت الهجوم على الملك، وكشفت ملابسات الأسلحة الفاسدة، وطالبت بتقديم المسئولين عن الجريمة إلى المحاكمة.
وبالنسبة للنقطة الأخيرة، فقد كان الخوف من إقالة الملك لوزارة الوفد هو الباعث للموقف الغريب الذي اتخذه النحاس وفؤاد سراج الدين وعبد الفتاح الطويل حتى يبتعد التحقيق عن الملك!١٠٠

ولعله ينبغي التأكيد — ربما إنصافًا للوفد — أن السفارة البريطانية والسراي وأحزاب الأقلية — لم تُتِح له أن ينفِّذ معظم برنامجه الوطني. تعدَّدت المؤامرات، والانقلابات الدستورية، ومراسيم الإقالة، والإجهاز على ما تم تنفيذه. وتعطَّلت — على سبيل المثال — مراسيم مهمة، فلم يُتَح لها الخروج إلى النور، مثل محاكمة الوزراء، وقانون الاجتماعات، وقانون زيادة عدد أفراد الجيش المصري … إلخ.

وإذا كان عدد من ممثِّلي الإقطاع والرأسمالية قد استطاعوا أن يجدوا لأنفسهم مكانًا في قيادة الوفد، فإن أعدادًا من الشباب التقدمي استطاعوا أن يحققوا لأنفسهم مكانة متميزة في كيان الحزب ككل، وأصبح لهم صوت واضح ومؤثر، وإن لم يستطيعوا أن يجدوا لأنفسهم مكانًا في قيادة الوفد التي دانت تمامًا للقيادات التقليدية. يقول قاسم (طريق النسر) إن حزب الوفد — رغم تعبيره عن البرجوازية — فيه طلائع تقدُّمية تعكس أهدافها على قياداته التقليدية.١٠١
من هنا، جاء وصف صلاح الشاهد لحزب الوفد بأنه «كان حزبًا أقرب إلى الاشتراكية الصحيحة المعتدلة.»١٠٢ أفلحت الانتهازية والرجعية في السيطرة — بصورة ما — على قيادة الوفد، ولكن تسللت إلى قواعده أيضًا عناصر تقدمية، حتى إن حسن البنا كتب في مذكرة شهيرة إلى مصطفى النحاس: «إن الوفد — في أيامه الأخيرة — قد تخللت صفوفه طوائف وأفواج من ذوي الآراء الخطرة، والمبادئ الهدَّامة، الذين لا يدينون بغير الشيوعية مذهبًا، ولا يؤمنون بغير موسكو قيادة وتوجيهًا، ونظرة دقيقة من رفعتك إلى حضرات المحررين في «صوت الأمة»، وفي رابطة الشباب، أو الطليعة الوفدية، وفي هيئة تحرير «الحوادث»، و«الجماهير»، وفي ممثلي الطلاب الوفديين في المدارس والمعاهد، تكشف لك عن أن هؤلاء جميعًا ليس فيهم من الوفدية إلا اسمها الذي يتبرمون به في مجالسهم الخاصة.»١٠٣
وعلى الرغم من كل المحاذير والمعوقات، فقد بدأ الحزب — بواسطة قياداته الشابة الجديدة — يستعيد الكثير من مكانته القديمة، في مقابل الظواهر السلبية التي بدأت ترين عليه.١٠٤
وفي تقدير محمد عودة أن فترات حكم الوفد كانت — عادة — فترات التفتُّح والممارسة الديمقراطية؛ تدفقت كل الآراء، وطُرحَت كل الحلول، ورُفعَت كل الشعارات، ودار الحوار — والصراع — على كل المنابر، وبين كل المذاهب والأيديولوجيات الديمقراطية والقومية والماركسية والاشتراكية والإسلامية، وضد مظاهر الإمبريالية البريطانية الغاربة، والإمبريالية الأمريكية الطالعة.١٠٥ وكتب محمد مندور في ١٩٤٦م أنه «لا مجال للشك في أن الوفد — في جملته — يمثِّل الآن في السياسة المصرية الجناح الأيسر على النحو المعروف في أوروبا.» وأكد المعنى نفسه عندما ذهب إلى أن الوفد «يلعب في رقعة مصر السياسية ذلك الدور الذي يلعبه حزب العمال الاشتراكي في إنجلترا.»١٠٦ ويقول كامل رمزي (المرايا): قل في الوفد ما شئتَ، ولكن لا تنسَ أنه كان حزبًا شعبيًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وأنه كان يغيِّر سياسته — أحيانًا — إذعانًا لمشيئة التلاميذ بالمدارس الثانوية.١٠٧ وفي «تربية سلامة موسى»: «الاشتراكي المصري يجد نفسه في صفٍّ واحد مع الوفد، لأن الوفدية هي في صميمها الدعوة إلى الاستقلال، ولا يمكن — اشتراكيًّا — أن يفكر في أي برنامج اشتراكي ما لم يكن الاستقلال محققًا ناجزًا.»١٠٨ وفي مقالٍ بعنوان «الوفد والاشتراكية» كتب محمد زكي عبد القادر (٦/ ٧/ ١٩٤٦م) عن إنجازات حكومة الوفد في تلك الفترة، فقال «إنها كانت اتجاهًا مباشرًا نحو الاشتراكية المعتدلة، التي أخذت بها إنجلترا، عندما أسلمت قيادها — في أخطر وأهم سني التحول السياسي والاقتصادي — إلى الحزب الاشتراكي فيها، وهو حزب العمال، وإنه ليس بدعًا أن يتجه الوفد المصري إلى الاشتراكية وهو يمثل أغلبية فقيرة محرومة، تتسم بالجهل والفقر والمرض، فقد كان هذا اتجاه الوفد، وكانت هذه مجاوبته للشعور المصري الذي يجد في سياسة الوفد الاقتصادية والسياسية صدًى صحيحًا مطردًا له.»١٠٩

وكتبت جريدة «الجماهير» اليسارية، صراحة: «إن التحالف بين الحركة العمالية وطليعتها الواعية، وبين الوفد، أساس لاستعادة حريات الشعب المسلوبة، والكفاح المشترك للعمال والجماهير الوفدية في المدن والقرى، هو الطريق الوحيد لتحطيم القيود التي تخنق حرياتنا الديمقراطية.»

أضافت الجريدة: «يجب أن يستند هذا التحالف إلى برنامج وطني مشترك، يقوم على أساس حكومة ديمقراطية، تعمل على تحقيق الجلاء التام فورًا عن وادي النيل، دون أن تتحالف مع الاستعمار، التوسُّع في الحريات الديمقراطية كجزء لا يتجزأ من الاستقلال، تأهيل الصناعات الكبرى، وتوزيع الملكيات الزراعية الكبيرة المتعاونة مع الاستعمار … ومثل هذا البرنامج ضروري لتوحيد أهداف الجماهير الشعبية» … «إن توحيد صفوف الطبقة العاملة المصرية، بقيادة حزبٍ سياسي جديد، ودخوله في جبهة ديمقراطية مع الوفد، مستندة إلى كفاح الجماهير، هو الضمان الوحيد للقضاء على الفاشية، عدوة الشعب، ربيبة الاستعمار» … «إن تكوين جبهة قوية من حزب الطليعة العمالية والوفد، إنما يعكس ويعبِّر عن أماني الملايين من العمال والفلاحين، ويقوي وحدة الشعب في الكفاح من أجل الحرية والديمقراطية والاستقلال.»١١٠
أما رأي عبد العظيم رمضان، فهو أن «موقع الوفد الأيديولوجي إما وسط اليمين، أو يسار اليمين.»١١١

ويعدِّد الكاتب اختلافات الوفد عن بقية الأحزاب فيما يلي:

  • أن الوفد تألَّف لا ليمثِّل طبقة، وإنما ليمثِّل كل طبقات الأمة وفئاتها، فقد كان أساس تأليفه هو التوكيل الشعبي الذي وقَّعت عليه مختلف طوائف الشعب.

  • إن تحقيق الاستقلال كان هو الهدف الأول الذي أنشئ من أجله الوفد المصري.

  • إن زعامة الوفد لم تكن تستمد قوتها من تأييد طبقة، وإنما كانت تستمد قوتها من تأييد غالبية أفراد الأمة بكل طبقاتها، ولم يكن زعيم الوفد مجرد زعيم حزب لكنه كان زعيم أمة.

  • إن قيادة الوفد كانت تنتمي — في مجموعها — إلى طبقة كبار الملَّاك والطبقة البرجوازية، في حين قل نفوذ طبقة الرأسمالية الكبيرة١١٢

ويقول الراوي (المرايا): اشتراكية تجيء عن طريق البرلمان، هذا ما أحلم به.

يقول سالم جبر — الوفدي — متحديًا: أنا عدو للوفد.

– أنت تقول ذلك؟

– ونصير للملك وأحزاب الأقلية.

يستطرد: الوفد أفيون الشعب.

ثم وهو يضرب مكتبه بقبضة يده: الوفد هو المسئول عن استسلام الشعب لأحلام لن تتحقق أبدًا، وسيعجز دائمًا عن تقديم أي خدمة حقيقية للشعب، أما إذا سيطر الملك وأحزابه، واستشرى الفساد واستوطن، يئس الشعب وتوثب لثورة حقيقية.

– وما جدوى ذلك والإنجليز يكتمون أنفاسنا؟

– توقع المعجزات عند اليأس.١١٣
وثمة رأي أن الوفد أضاع من حياته الفترة من ١٩٣٦م إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، دون أن يضع برنامجًا اجتماعيًّا يعمل في ضوئه، ثم تفاقمت خسارته بسبب قبوله الحكم تلبية لطلب الإنجليز في ٤ فبراير ١٩٤٢م.١١٤ ويقول أنور السادات: «لو أن الوفد قبِل أن يكون الشرارة التي تطلق الثورة، لتغيرت ملامح كثيرة من تاريخ مصر الحديث، لكنه لم يقبل.»١١٥
أما طه حسين، فقد كان دائم الانتقاد للوفد، ولسعد زغلول، وكان يدافع عن الأحرار الدستوريين؛ لأن الوفد — في رأيه — يمثِّل الجهل والأمية السياسية والثقافية، ثم تحوَّل طه حسين عن عدائه للوفد، وأصبح الحزب الأقرب إلى قناعته بعد أن أيَّده في مشروعات التعليم.١١٦

هوامش

(١) ثورة ١٩١٩، ٢٠-٢١.
(٢) تطور مصر، ٤٩.
(٣) ميلاد ثورة، ٦٧.
(٤) رجاء النقاش، أدباء معاصرون، ١٢٨.
(٥) الكاتب، سبتمبر ١٩٦٥م.
(٦) أهدافنا الوطنية.
(٧) علي الدين هلال، السياسة والحكم في مصر، ١٤٧.
(٨) الدستور والاستقلال، ٢٣.
(٩) المرجع السابق، ١٣-١٤.
(١٠) ثورة ١٩١٩، ١٦٤.
(١١) تاريخ المنظمات اليسارية المصرية، ٧٤-٧٥.
(١٢) السياسة والحكم في مصر، ١٥١.
(١٣) السكرية، ١٤٨.
(١٤) حقيقة الانقلاب الأخير في مصر، ١٤٨.
(١٥) المحاكمة الكبرى، ٥٤.
(١٦) الحركة الوطنية المصرية، ٨١.
(١٧) روز اليوسف، ٢٢/ ٥/ ١٩٨٩م.
(١٨) الحصاد، ٢٨.
(١٩) السكرية، ١٧٤.
(٢٠) تطور الحركة الوطنية في مصر، ١: ١٠.
(٢١) المرجع السابق، ١: ٤٧.
(٢٢) المرجع السابق، ١: ٤٧.
(٢٣) الكاتب، سبتمبر ١٩٦٥م.
(٢٤) الكفاح السري ضد الإنجليز، ٤٣.
(٢٥) وجيه غالي، بيرة في نادي البلياردو، ت. هناء نصير، مراجعة ماهر شفيق فريد، دار العالم الثالث، ٢٠٠٦م، ٨٢.
(٢٦) السمان والخريف، ٢٩.
(٢٧) المصدر السابق، ٨٠.
(٢٨) المرايا، ١١٤.
(٢٩) لويس عوض، الحرية ونقد الحرية، الهيئة العامة للتأليف والنشر، ١٩.
(٣٠) الأخبار، ١٥/ ٣/ ١٩٧٣م.
(٣١) أصدر عبد الحميد محمد المشهدي كتابًا بعنوان «صحيفة سوابق» عدَّد فيه سوابق توفيق نسيم والنحاس ضد الشعب ومصالحه!
(٣٢) السمان والخريف، ١٦٩.
(٣٣) تاريخ المنظمات اليسارية المصرية، ٧٤-٧٥.
(٣٤) السياسة والحكم في مصر، ١٨٠.
(٣٥) الشارع الجديد، ٥١٨.
(٣٦) المصدر السابق، ٥٢٢.
(٣٧) المصدر السابق، ٥٢٤.
(٣٨) يوسف الشاروني، القرف المضحك، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب، ١٩٩٩م.
(٣٩) مذكرات إبراهيم عبد الهادي، روز اليوسف.
(٤٠) في أعقاب الثورة، ٣: ٢٩٠.
(٤١) الجمهورية، ٥/ ٢/ ١٩٧٣م.
(٤٢) معركة نزاهة الحكم، ١٣٩.
(٤٣) المرجع السابق، ١٣٨.
(٤٤) المرجع السابق، ٢٤.
(٤٥) زقاق المدق، ١٨٩.
(٤٦) أنا الشعب، ١٤١.
(٤٧) المرايا، ٣٨٠.
(٤٨) قشتمر، ٢٩.
(٤٩) الوفد، ٩/ ٤/ ٢٠٠٢م.
(٥٠) تاريخ المنظمات اليسارية المصرية، ٨٩.
(٥١) كيف سقطت الملكية في مصر؟، ١٠٥.
(٥٢) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٥١٥.
(٥٣) مصطفى الحفناوي، السفر الخالد، ١٩٣٧م، ١: ٥.
(٥٤) المرجع السابق، ١: ٦.
(٥٥) أزهار، ٤٧٧.
(٥٦) المصدر السابق، ٤٩٦.
(٥٧) محمود حسين، الصراع الطبقي في مصر، ٨٦.
(٥٨) تطور الحركة الوطنية في مصر، ٢: ٣٣.
(٥٩) الحصاد، ٣٣٠.
(٦٠) حلمي سلام، أيامه الأخيرة، كتاب الهلال، ١٩٧٣م، ٢٧.
(٦١) معركة نزاهة الحكم، ١٤١–١٤٥.
(٦٢) روز اليوسف، ١٩/ ٣/ ١٩٥٤م.
(٦٣) عبد الفتاح حسن، ذكريات سياسية، دار الشعب.
(٦٤) أمين حسان كامل، محكمة الثورة، الطبعة الأولى، ٢: ٢٥.
(٦٥) الحصاد، ٣٢٥.
(٦٦) محكمة الثورة، ٢: ٢٤٣.
(٦٧) الباب المفتوح، ٢٧.
(٦٨) أيامه الأخيرة، ١٥١.
(٦٩) الحصاد، ٣١٤.
(٧٠) مذكرات إبراهيم طلعت، ٢٨٦.
(٧١) أيامه الأخيرة، ٧٣.
(٧٢) واحترقت القاهرة، ٣٦٤.
(٧٣) فاروق ملكًا، ٤١.
(٧٤) أيامه الأخيرة، ١٧١.
(٧٥) المرجع السابق، ١٨٤.
(٧٦) مذكرات إبراهيم طلعت، روز اليوسف، ١٩ /٢/ ١٩٧٧م.
(٧٧) أيامه الأخيرة، ١٨٦.
(٧٨) العنقاء، ٢٤.
(٧٩) أحمد عباس صالح، عمر في العاصفة، هيئة الكتاب، ٤٢.
(٨٠) حقيقة الانقلاب الأخير في مصر، ١٣١.
(٨١) اليسار المصري، ٩٧.
(٨٢) نعلم من هنا، ٥.
(٨٣) حلمي سلام، أيامه الأخيرة، كتاب الهلال، ٢٢.
(٨٤) الحركة الوطنية المصرية، ١٢٧.
(٨٥) الكاتب، فبراير ١٩٧٠م.
(٨٦) الطليعة، يوليو ١٩٦٥م.
(٨٧) الباب المفتوح، ٢٧.
(٨٨) تطور الحركة الوطنية المصرية، ٦٧–٧٦.
(٨٩) المرايا، ٣٥١.
(٩٠) قلوب خالية، ٧٢.
(٩١) معارك العقاد السياسية، ١٠٤.
(٩٢) أزهار، ٧٠.
(٩٣) حديث الصباح والمساء، ٤٦.
(٩٤) وكالة عطية، ٤٩.
(٩٥) السمان والخريف، ١٩.
(٩٦) ١٩٥٢، ٢١٦.
(٩٧) الجمهورية، ٢٠/ ٣/ ١٩٦٩م.
(٩٨) تطور الحركة الوطنية المصرية، ٤٦٥–٤٦٧.
(٩٩) فاروق ملكًا، ٤٠.
(١٠٠) محكمة الثورة، ٢٢٨.
(١٠١) طريق النسر، ٢٠٧.
(١٠٢) ذكرياتي في عهدَين، ١٠٤.
(١٠٣) الجماهير، العدد السادس.
(١٠٤) إحسان عبد القدوس، إنهم يصفقون لي، بنت السلطان، مكتبة مصر.
(١٠٥) ميلاد ثورة، ٦٧.
(١٠٦) الكاتب، يونيو ١٩٧٣م.
(١٠٧) المرايا، ٣٥١؛ ويقول نجيب محفوظ: طول ما كان الوفد موجودًا، لم يكن هناك ضياع أو حيرة، أنا كل أملي أن ترجع الحياة السياسية بإيجابيات الوفد.
(١٠٨) تربية سلامة موسى، ١٦٦.
(١٠٩) المصري، ٦/ ٧/ ١٩٤٦م.
(١١٠) الجماهير، السنة الأولى، العدد السادس.
(١١١) الكاتب، يونيو ١٩٧٣م.
(١١٢) المرجع السابق.
(١١٣) المرايا، ١٤٤.
(١١٤) محمد أنيس والسيد رجب حراز، التطور السياسي للمجتمع المصري الحديث، دار النهضة العربية، ١٩٨.
(١١٥) أسرار الثورة المصرية، ٢٣٦.
(١١٦) فتحي غانم، الفن في حياتي، ٥٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥