مصطفى النحاس: زعامة بريئة أم مُدانة؟
يصف أحمد أبو الفتح، خليفة سعد زغلول بأنه الأب الحقيقي للوفد بعد وفاة سعد، ويعتمد
هذا الخط في
التشدد في الرأي، وعدم تغيير الطريق مهما بلغت الصعاب.
١
لخَّص مصطفى النحاس أزمة الوفد بأن «رئيس الوفد معناه الوفد.»
٢ وقد تولى النحاس رئاسة الوزارة سبع مرات، وهو ما لم يتوافر لزعيم آخر.
بدأ النحاس حياته السياسية، عندما ذهب إلى سعد زغلول — عقب انتهاء الحرب العالمية
الأولى — وطالبه
بالعمل على تحقيق استقلال البلاد، ولم يكن يعلم أن الرجل كان يُعِد لتأليف الوفد. وظل
النحاس عضوًا في
الوفد منذ بداياته الأولى في نوفمبر ١٩١٨م، وقرَّب سعد النحاس إليه منذ ذلك الحين، حتى
أصبح سكرتيرًا
للوفد، ونُفي مع زعيمه إلى سيشل في ديسمبر ١٩٢١م، وعين وزيرًا للمواصلات في وزارة سعد
الأولى، في يناير
١٩٢٤م.
٣ ثم انتُخِب وكيلًا لمجلس النواب في ١٩٢٦م، وكان سعد زغلول رئيسًا للمجلس، ثم تولى رئاسة
المجلس
بعد وفاة سعد في ١٩٢٧م، وفي ١٤ سبتمبر ١٩٢٧م انتُخِب النحاس رئيسًا للوفد خلفًا لسعد
زغلول، وانتُخب مكرم
عبيد سكرتيرًا عامًّا للوفد خلفًا للنحاس، ووافقت الهيئة الوفدية على ذلك في ٢٦ سبتمبر.
تولى النحاس —
بعد ذلك — رئاسة الوزارة في ١٧ مارس ١٩٢٨م بصفته رئيسًا للوفد المصري صاحب الأغلبية في
مجلس النواب، وكانت
الوزارة الائتلافية من حزبَي الوفد والأحرار الدستوريين، وهو الائتلاف الذي بدأ في يناير
١٩٢٦م.
٤
ثم دُبِّرت مؤامرة بين دار المندوب السامي والملك والأحرار الدستوريين، لإخراج الوفد
من الحكم،
استقال محمد محمود من الوزارة الائتلافية، وتبِعه وزراء آخرون، فأقال الملك فؤاد وزارة
النحاس بدعوى
تصدُّع الائتلاف، لتحل — بدلًا منها — وزارة من حزبَي الأحرار الدستوريين والاتحاد.
٥
عبَّر الرجل (بداية ونهاية) عن رفض المثقفين، والشعب بعامة، للأحرار الدستوريين،
في قوله: «الوطني
هو الوفدي، وما الأحرار الدستوريين إلا إنجليز بطرابيش، بصرف النظر عما يقال عن الائتلاف
وفوائده!»
٦
وحين عرض الملك فؤاد على النحاس أن يتولى رئاسة الوزارة، خلفًا لوزارة محمد محمود،
أصر النحاس أن
يسبق ذلك إجراء انتخابات نيابية، تُشرِف عليها حكومة محايدة. وبرر النحاس شرطه بأن كتاب
إقالة وزارته
السابقة ذهب إلى أنه لا يمثِّل البلاد، فأصبح من المطلوب أن تُجرى انتخابات جديدة، يُعلِن
فيها الشعب مشيئته،
وتتولى إجراء تلك الانتخابات وزارة محايدة، منعًا للأقاويل.
٧
تألَّفت بالفعل وزارة محايدة، ترأَّسها عدلي يكن، أشرفت على إجراء انتخابات جديدة،
عاد بها الوفد إلى
الحكم بوزارة اقتصرت على أعضائه.
•••
كانت «روز اليوسف» هي التي رشَّحت مصطفى النحاس لخلافة سعد زغلول، وقالت: «إنه ليس
هناك بين الذين
رشحوا أنفسهم، أو رشحهم غيرهم، من هو أنقى منه صفحة وأطهر ذيلًا.» وتناولت مواقف الرجل
المشرِّفة مع مصطفى
كامل، ثم مع سعد زغلول، وأكدت أنه «رجل نزيه جدًّا، صعب جدًّا فيما يراه حقًّا، صريح
جدًا.»
ورغم الهجوم الضاري الذي شنَّه أحمد حسين على النحاس، فإنه قد وصف اسمه — النحاس
— بأنه «تتمثَّل فيه
كرامة أمة بأسرها.» وأنه «أطهر اسم في البلاد وأقدسه.»
٨ ويحسب السياسي القبطي المصري فكري مكرم عبيد للنحاس، أنه كان يحرص على أداء فروض الصلاة
في
أوقاتها.
٩
الرأي نفسه — تقريبًا — يأتي في قول عجلان ثابت (المرايا): «كان سعد زغلول عبقريًّا،
أما مصطفى
النحاس فإرادة نقية.»
١٠ ويقول كامل رمزي (المرايا): «لقد عبدنا مصطفى النحاس يومًا، لا لشيء إلا لنزاهته وصلابته
في
الحق، وهما صفتان جديرتان بكل مواطن عادي، ولكن لندرتهما جعلنا منهما دعامتَين أساسيتَين
لزعامة
شعبية!»
١١
اختير مكرم عبيد — في الوقت نفسه — سكرتيرًا عامًّا للحزب، تعبيرًا عن فكرة الوحدة
الوطنية التي
كان الوفد يحرص عليها.
ومع أن ترشيح النحاس لخلافة سعد لقي ترحيبًا طيبًا، فإن قسمًا لا بأس به من أعضاء
الوفد لم يكونوا
راضين تمامًا عن اختيار النحاس، وتشير فاطمة اليوسف في ذكرياتها إلى ما نشرته في «روز
اليوسف» في ٢٩
سبتمبر ١٩٢٧م، ويحمل تنبؤًا بمستقبل النحاس السياسي: «ليس هناك بين الذين رشحوا أنفسهم،
أو رشحهم غيرهم،
من هو أنقى صفحة وأطهر ذيلًا من مصطفى النحاس، فتاريخه معروف، ومواقفه المشرِّفة مع مصطفى
كامل أولًا، ومع
سعد زغلول ثانيًا، معروفة للجميع. ومصطفى — النحاس — فوق هذا رجل نزيه جدًّا، صعب جدًّا
فيما يراه حقًّا،
صريح جدًّا، أو كما يقولون إن كلمته على طرف لسانه. ولكنهم يقولون أيضًا أن مصطفى النحاس
متسرع جدًّا،
والكلمة التي تستعملها الدوائر السياسية للتعبير عن صفة التسرع هي كلمة «مدب»، وهم من
أجل ذلك يقولون
إنه ليس من المستحيل أن يكثر وقوع التصادم بين النحاس باشا والحكومة، وبينه وبين أعضاء
الوفد نفسه،
ولكننا نعتقد أن مصطفى النحاس غدًا سيكون غيره بالأمس، وأن ثقل واجبات الرئاسة التي ألقيت
على عاتقه سوف
يهدئ من حدة تسرُّعه، وأن شعوره بضخامة المسئولية كفيلٌ بحمله على التفكير مرتين قبل
أن يتكلم.»
١٢
حاول إسماعيل صدقي أن يحارب مصطفى النحاس حتى في معاشه كقاضٍ، فينقص منه، لكن النحاس
حصل — بحكم
قضائي — على معاشه كاملًا، ورفض تحذيرات حكومة إسماعيل صدقي بعدم زيارة الدقهلية، وسافر
— في ٨ يوليو
١٩٣٠م — وعدد من قيادات الوفد بالقطار إلى المنصورة، واستقبله أبناء الدقهلية استقبالًا
حافلًا.
وفي أثناء اجتياز سيارة النحاس صفَّين من الجنود المسلحين، في طريقها إلى مكان الاجتماع،
هاجم
الجنود السيارة، وسدَّد أحدهم السونكي إلى ظهر النحاس، فتلقَّى سينوت حنا الطعنة في ذراعه،
كما تلقَّى نجيب
الغرابلي طعنة أخرى، وأصيب آخرون بجراحٍ حين احتضنوا النحاس ليحموه من الطعنات.
١٣ وظل سينوت حنا متأثرًا بطعنة السونكي قبل أن يموت في ٢٤ يوليو ١٩٣٣م،
١٤ وخطب النحاس في الجماهير قائلًا: «لقد أرادوا أن يشفوا غليلَهم من ضعيفٍ غير مسلح، ولكنه
قوي
بالحق، قوي بأمته، فقد رأيتم كيف أنهم كانوا يقصدونني ويتعطشون إلى دمي لأني أدافع عنكم،
فاعلموا أني
مضحٍّ بنفسي قبلكم، ووصيتي لكم من قبلي، ووصيتي لكم من بعدي، أن يقوم كلٌّ منكم مدافعًا
عن دستوره واستقلال
بلاده، حتى يوقن كل فرد بأن مصر هي الخالدة.»
١٥
وعلى الرغم من المعاملة القاسية التي لقيها النحاس من قوات البوليس في زيارته لمديرية
الدقهلية،
فإنه قام برحلة تالية، مماثلة، إلى مديرية بني سويف في ٦ أبريل ١٩٣١م للتحريض على مقاطعة
الانتخابات التي
دعا إليها صدقي، ومنعت قوات البوليس مصطفى النحاس، ومن معه، من مغادرة محطة بني سويف،
ووجهت فوهات
البنادق إليهم، فتمدد النحاس على أحد مقاعد المحطة، حتى أرسل إسماعيل صدقي قطارًا خاصًّا،
حمل النحاس —
بالقوة — إلى القاهرة.
وواصل النحاس جولاته التحريضية في العديد من المديريات والمدن، وظل حريصًا على الالتقاء
بالجماهير
في كل مكان يذهب إليه، بصرف النظر عن اعتبارات الأمن — حتى إنه كان يعنِّف حراسه الشخصيين
إذا حالوا بينه
وبين الجماهير. ويروي صلاح الشاهد أن النحاس وبَّخ أحد الضباط لأنه عامل الجماهير المحتشدة
حوله بقسوة لا
مبرر لها، ثم اعتذر النحاس للضابط فيما بعد، كان الرجل يرى نفسه أكبر من رئيس حزب «ما
كنت في يوم من
الأيام رئيس حزب أو هيئة، وإنما زعيم أمة بأسرها.»
١٦
ويقول كريم ثابت إن النحاس كان هو السياسي الوحيد الذي يحسب له فاروق حسابًا في مصر
كلها،
١٧ بل إن اللورد كيلرن يذهب إلى أن مصطفى النحاس كان عدو الملك فاروق رقم واحد!
١٨ ويعدِّد كريم ثابت أسباب كراهية فاروق للنحاس بالماضي السلبي لعلاقة الوفد والنحاس مع
أبيه،
وأن النحاس — منذ تولي فاروق العرش — كان يزدريه، ويعامله كصبي، أشبه بمعاملة برجوان
للحاكم بأمر الله
في صباه، وأن اللورد كيلرن فرض النحاس عليه في حادثة ٤ فبراير، وأن النحاس كان يحرص أن
ينال من مقام
الملك ونفوذه.
وثمة سبب آخر، يشير إليه كريم ثابت، وهو أن النحاس كان يمني نفسه بأن يصبح أول رئيس
جمهورية
للبلاد، يعينه على ذلك حب الناس الجارف، مقابلًا لمظاهر الكراهية التي كانوا يعلنونها
لفاروق.
١٩
صارح النحاس السفير البريطاني بأن الملك يزداد غطرسة ووقاحة كل يوم، وأن سير العمل
في الحكومة قد
أوشك أن يتوقف، وأن الملك غير قابل للإصلاح، وهدَّد بدعوة مجلسَي البرلمان للاجتماع،
ليعلن أمام المجلس
المشترك استحالة التعاون مع الملك.
٢٠ ويرى كيلرن في مذكراته أن الملك فاروق حاول — في يونيو ١٩٤٠م — جس نبض النحاس ليتولى
الوزارة، لكن النحاس تقدَّم ببرنامج سياسي وصفه الملك بأنه برنامج بلشفي. واعتذر النحاس
عن تولي الحكم،
وهكذا وجد فاروق نفسه مضطرًّا أن يختار الرجل الذي قد ترضى عنه لندن، وهو حسن صبري، كما
أنه ضم إلى
الوزارة رجالًا معروفين بولائهم لبريطانيا، لكن فاروق كان يخشى ضعف الحكومة الجديدة،
رغم ميولها
البريطانية المعلَنة.
٢١
•••
في ١٢ يونيو ١٩٣٤م — قبل بلوغه الخمسين بيومين — عقد مصطفى النحاس قرانه على زينب
الوكيل، وكانت
تصغره بسبعة وعشرين عامًا. ويُعِد معظم المؤرخين ذلك الزواج — قبيل توقيع معاهدة ١٩٣٦م
— بداية دور محزن في
تاريخه، إنه — على حد تعبير حسين مؤنس — بداية انحدار النحاس.
٢٢ بل إن جلال الدين الحمامصي يجد أن زواج النحاس هو العامل التاريخي الكبير الذي كان له
أكبر
الأثر في كل الأحداث التي مرَّت بالبلاد
٢٣ «أجزم، وأتمسك بهذا الجزم، بأن قرينة الرئيس السابق مصطفى النحاس كانت هي العامل الأول،
أو
العامل الهام، فيما تطورت إليه نزاهة الحكم بصورة بشعة، أدَّت إلى قيام الجيش بثورته
الكبرى.»
٢٤
كان زواج النحاس — في تقدير محمد أنيس — كارثة على الرجل، وعلى الوفد، وعلى العالم
العربي
كله،
٢٥ فقد تزوج النحاس في العاشر من يونيو ١٩٣٤م، حتى يتجاوز سلبيات القانون الذي أصدرته وزارة
صدقي بمنع ميراث المعاشات عن ورثة مَن يتزوجون بعد الخامسة والخمسين من العمر، وكان النحاس
سيبلغ تلك
السن في منتصف يونيو من العام نفسه.
٢٦ وأسلم النحاس قياده لزوجته، وكانت ذات طموح معلَن إلى المال والجاه،
٢٧ وكانت تتصل بالوزراء — مباشرة — لتعيين أقاربها، أو ترقيتهم.
من هنا، واجه النحاس إلحاح الاتهام بأنه قد حرص — بعد توقيع المعاهدة، وتوليه رئاسة
الوزارة — على
المحسوبية الحزبية والعائلية، حتى في الرتب والنياشين. ويقول الخفير الخاص أحمد أبو فاضل
(قبل وبعد)
«النحاس راجل عجوز غلبان، ما يقدرش عليها، زينب الوكيل دي عايزة لها راجل بخيره، وياخد
لها سنة
أفيون.»
٢٨
وفي تقدير البعض أن النحاس شعر — بعد توقيع معاهدة ١٩٣٦م — أنه قد وضع نهاية لنضاله،
كما بدأ الوفد
ينحدر سريعًا، حتى وصل به الأمر إلى قبول تولي الحكم من يد الإنجليز في ٤ فبراير ١٩٤٤م.
٢٩
ولعل من المآخذ التي انتُقِد بها النحاس، قوله عن الخُطبة التي تحدَّث فيها أمين
عثمان عن العلاقة
الزوجية بين مصر وإنجلترا، إنه — النحاس — معجب بتشبيه أمين باشا،
٣٠ وقوله إن رابطة النهضة، التي تزعَّمها أمين عثمان، تألَّفت برضائه.
٣١
•••
في ٨ أكتوبر ١٩٤٤م أُقيلت وزارة النحاس بصورة مفاجئة للنحاس نفسه، وللأحزاب جميعًا،
ولأبناء
الشعب.
٣٢ كان السبب — كما جاء في خِطاب الإقالة — أن الحكومة لم تمارس الأسلوب الديمقراطي، ولم
تطبق
أحكام الدستور، أو تسوي بين المصريين في الحقوق والواجبات، وتوفِّر الغداء والكساء لطبقات
الشعب.
٣٣
اتهامات بالغة الخطورة كما ترى!
والحق أن محاولات الملك لإقالة وزارة النحاس تكررت في أبريل ١٩٤٤م، بعد فشل محاولته
الأولى في
أبريل ١٩٤٣م، ثم نجح في محاولته الثالثة في أكتوبر ١٩٤٣م، وما بين الفشل والنجاح كانت
القوة العسكرية
الألمانية — في كل الميادين — تشهد انحسارها النهائي، وتلاقت رغبة الملك في إقالة النحاس،
في انتهاء
المبرر لوجوده عند الإنجليز، فضلًا عن تخوُّف الحكومة البريطانية من مطالبة حكومة الوفد
بمقابل المساعدات
التي حصل عليها الحلفاء طيلة أعوام الحرب؛ لذلك أقدم فاروق — ببساطة — على إقالة النحاس.
حلَّت — بدلًا من وزارة النحاس — حكومة أقليات من السعديين والأحرار الدستوريين والحزب
الوطني وحزب
الكتلة، ومضت الصحف تنشر — كل يوم — أسماء المئات، والآلاف، من المثقفين الذين انضمُّوا
إلى أحزاب
المعارضة، «ذلك لأن ناقوس الانتخابات مضى يدوي في الآذان، ويدق في القلوب.»
٣٤ وصدرت في تلك الفترة جريدة «أخبار اليوم» لتناصر السراي ضد الوفد، ونشرت سلسلة من المقالات
بعنوان «كيف فسدت العلاقة بين الوفد والسراي» تُدين فيها الوفد، وتشيد بالملك الصالح،
والعامل الأول،
والتقي الأول، وتسرف في مناصرة الملك.
وفي ٢٨ أكتوبر ١٩٤٤م أصدر مجلس الوزراء قرارًا بتأليف لجنة للتحقيق في الوقائع التي
نسبها مكرم
عبيد إلى الوزارة النحاسية السابقة، وعُقدت اللجنة التي كانت برئاسة مكرم عبيد بصفته
وزيرًا للمالية،
وعضوية طه السباعي وزير التموين وعبد الرحمن الطوير النائب العمومي لدى المحاكم الأهلية
وطه السيد نصر
المستشار الملكي المساعد بأقسام قضايا الحكومة؛ عدة جلسات خلال الأشهر الأربعة التالية
لصدور قرار مجلس
الوزراء، راجعت فيها الوثائق والمستندات، واستمعت إلى عشرات الشهود من الوطنيين والأجانب،
وإن كانت قد
استندت — بصفة أساسية — إلى الكتاب الأسود، واعتبرته أول نذير بفضائح ذلك العهد. وأشارت
اللجنة إلى أن
الوزارة السابقة قد عمدت إلى تكذيب الفضائح المسنَدة إليها في أجوبتها البرلمانية التي
جمعتها في كتاب
أبيض، ورأت اللجنة أن تحقق تلك الوقائع في ضوء الإثبات والتكذيب، فرجعت إلى المستندات
التي اعتمد عليها
الكتاب الأسود، وزادت، فاستحضرت الملفات الحكومية المتصلة بتلك الموضوعات، ودرستها دراسة
وافية، انتهت —
على حد تعبير اللجنة — إلى أن جميع الوقائع الماسَّة بنزاهة الحكم كانت صحيحة وصادقة
تمامًا، وأنه إذا كان
هناك نقص في بعض الوقائع، فلأن اللجنة لم تلم «بجميع المساوئ المحيطة بها، كما دلَّت
على ذلك الملفات
الحكومية التي اطلعت عليها اللجنة، ولم يكن ميسورًا لواضع الكتاب الأسود في ذلك الوقت
أن يطَّلع
عليها.»
٣٥
وانتهت اللجنة إلى تحديد تهمتَين جنائيتَين، إحداهما ضد مصطفى النحاس، والثانية ضد
زينب الوكيل،
بالإضافة إلى تهم جنائية أخرى ضد بعض المسئولين في العهد النحاسي.
وقد أعلن حافظ رمضان في محاكمة حسين توفيق أن النية كانت متجهة إلى محاكمة النحاس
على ما ورد في
الكتاب الأسود، وأنه كان موافقًا على المحاكمة، لكن إيدن وزير الخارجية البريطانية طلب
عدم محاكمة
النحاس لأنه «صديق لنا ونفعنا أيام الحرب.»
٣٦
•••
كان لزامًا على الوزارة الجديدة أن تحل مجلس النواب القائم حينذاك، وهو مجلس يضم
أعضاء جميعهم من
الوفديين، والوزارة الجديدة تريد أن تعتمد على مجلس يضم أنصارها، فيجب إذن حل المجلس
وإجراء انتخابات
جديدة، وأن تتمخض هذه الانتخابات عن نواب يؤيدون الوزارة الجديدة.
٣٧ لكن الجماهير المصرية ردَّت — في انتخابات ١٩٥٠م — على اتهامات أحزاب الأقلية ضد مصطفى
النحاس
بالهتاف: «حرامي حرامي … لكن بنحبه.»
٣٨ وعلى حد تعبير عبد العظيم رمضان، فقد كان حب الجماهير هو الثروة الوحيدة التي ملكها
النحاس
طيلة حياته.
٣٩ بل إن أحمد حسين — أحد أعداء النحاس — يصف الوفد بأنه حزب الأغلبية، وأن أية انتخابات
حرة
لا بد أن ينتصر فيها.
٤٠ وكانت أغلى ذكريات الحاج بخيت البشري (النظر إلى أسفل) ضياع عمامته في المظاهرات التي
استقبلت مصطفى النحاس في عودته من أوروبا. عاد إلى بيته، فاكتشف ضياع العمامة في انشغاله
بالهتاف بحياة
الزعيم.
٤١
فلما أُجريَت الانتخابات في ٣ يناير ١٩٥٠م كانت النتيجة انتصارًا للوفد لم يكن متوقعًا،
وكان الوفد
نفسه — كما يقول محمد عودة — آخر من يتوقعها.
٤٢ حصل الوفد على ٢٢٨ من ٣١٩ مقعدًا في مجلس النواب، وحصل السعديون على ٢٨ مقعدًا، والأحرار
الدستوريون على ٢٦ مقعدًا، والحزب الوطني على ستة مقاعد، والحزب الاشتراكي على مقعد واحد،
والمستقلون
على ٣٠ مقعدًا، وكان فوز الوفد — على حد تعبير كريم ثابت في «محاكمات الثورة» — استفتاء
ضد
الملك.
٤٣
وفي ١٣ يناير ١٩٥٠م ألَّف الوفد حكومته، وكان أول ما اتخذته الحكومة الجديدة إلغاء
الأحكام العرفية،
وما رافقها من القوانين الاستثنائية والمحاكم العسكرية، كما أُلغيَت الرقابة على الصحف
والمطبوعات.
وقال عباس أبو حميدة (١٩٥٢) لنفسه: «إذا كان ٨ أكتوبر (إعلان إلغاء معاهدة ١٩٣٦م)
بداية المعركة ضد
الإنجليز، فإن ٣ يناير بداية المعركة ضد الملك، والعمل على تقويض عرشه بشكلٍ سافر وعلني.»
٤٤
•••
هل انتهى الوفد بوفاة سعد زغلول في ٢٣ أغسطس ١٩٢٧م؟
ذلك ما يؤكده بعض المؤرخين، ارتكازًا إلى أن سعد زغلول كان هو المؤسس الحقيقي للوفد،
وكان وراء
خطته وتنظيمه، فضلًا عن أنه كان أكثر الزعماء المصريين احترامًا وتقديرًا من الأمة، فهو
الزعيم الذي
اعتبرته تجسيدًا لآمالها في الاستقلال والدستور، ومن ثَم فقد كان موته ضربة قاسية للوفد،
وانفراجة الباب
للأزمات التالية.
٤٥
كانت الانقسامات الداخلية بين قيادات الوفد من ناحية، وضربات القصر وسلطات الاحتلال
من ناحية
ثانية، كان ذلك كله كفيلًا بأن يقلِّص حجم الوفد، ويشحب من دوره، بل ويُسهِم — بصورة
مباشرة — في نشوء
أحزاب مناوئة، مثل الأحرار الدستوريين الذي تكوَّن — كما أشرنا — في ١٩٢٢م، من بعض القيادات
الإقطاعية
والبرجوازية الكبرى، ثم الحزب الهيئة السعدية، أو الحزب السعدي (١٩٣٧م) الذي أعلن رفضه
لسياسة الوفد
التي تتسم بالاعتدال، ثم أحزاب أخرى تالية، أهمها الكتلة الوفدية في أواخر ١٩٤٢م.
وكان سعد والوفد هما النهر الذي حاولت الأحزاب التي انفصلت عنه أن تؤكد صلتها بالنبع
مباشرة،
ورفضها تلوث مياهه، من خلال زعامة مصطفى النحاس، ولعلي أذكر هنا بالذات حزب السعديين
والكتلة
الوفدية.
يقول صبحي (نحن لا نزرع الشوك): الوفد ينادي بإخراج الإنجليز.
يقول رءوف: كان زمان، قبل أن يموت سعد.
– واليوم؟
– تشغله أشياء كثيرة غير الإنجليز، الدستور والحكم.
٤٦
ويقول رضا حمادة: أصبح الوفد كزعيمه، فهو شيخ هرم، طيب، يزحف إليه العجز والتدهور.
٤٧
وبعد أن كان الوفد — في تقدير البعض — أفضل الجميع، قال سالم جبر: الثورة أفضل من
الوفد.
٤٨
ولعله يمكن القول إن الوفد كان يحمل في داخله التناقضات ذاتها التي تحملها — في داخلها
— الأمة
المصرية، فقد كان أعضاؤه من عنصرَي الأمة، وكانوا يمثِّلون مختلف طبقات الشعب، بدءًا
بالأرستقراطية
الزراعية، وانتهاء بالفلاحين وصغار الحرفيين والعمال والطلبة، بما تمثِّله كل فئة من
اتجاهاتٍ متباينة فيما
بينها من ناحية، وبينها وبين الفئات الأخرى من ناحية ثانية.
وكان احتدام الثورة — في أعوامها الأولى — كفيلًا بسد أية ثغرة يمكن أن يتسلل منها
أي خلاف، لكن
الشروخ ما لبثت أن ظهرت وتوضحت، وانهار البناء في مواضع منه نتيجة للصراعات الاجتماعية،
وتنافر المصالح
الطبقية، واختلاف وجهات النظر، وبروز التنافس الشخصي … إلخ، ويصرح فؤاد سراج الدين —
في أعوام الأغلبية
الوفدية — أن نواب حزب الأغلبية كلهم اشتراكيون. ويسأل الملك زعيم الأغلبية: ما هي حكاية
وزيرك شمس
الدين — سراج الدين — عندما يقول في مجلس النواب ردًّا على إعلان شكري — إبراهيم شكري
— لاشتراكيته، إنه
لن يكون النائب الاشتراكي الوحيد، فإن المائتين وعشرين نائبًا من حزب الأغلبية كلهم اشتراكيون.
ويجيب الزعيم: «إنها مناورة برلمانية.»
٤٩
وكما يقول الفنان في «العنقاء»، فقد انفضت مغاليق حزب الوفد، وتشقَّقت وحدته «فتكشَّف
عن جناحَين، ميمنة
سافرة، وميسرة سافرة، لولا قوة الوسط والرأس لتفرقوا.»
٥٠
•••
اختلف أسلوب المعركة التي خاضها النقراشي، عن الأسلوب الذي اتَّبعه — فيما بعد —
مكرم عبيد في
المعركة المشابهة التي خاضها ضد النحاس. فضَّل النقراشي أن يقصر الأرضية التي تدور عليها
معركته مع
النحاس على مدى السلطة التي يتمتع بها الزعيم: الديمقراطية، والديكتاتورية، والزعامة
المقدسة. وقال
النقراشي في إحدى خُطبه: «إن ما يراه اليوم هو فرض جو على البلاد، لا يُسمَع فيه صوتٌ
يخالِف صوت الزعيم، ولا
رأي بغير مشيئته، ومثل هذا الجو لا يعيش فيه غير الإمعات، ولا تترعرع في ظله المواهب
الصالحة، وهيهات أن
تخضع له مصر، وهيهات أن تَدين الأمة إلا للحياة الدستورية الحرة الصحيحة.»
٥١
وفي الثالث من أغسطس ١٩٣٧م، أخرج النحاس محمود فهمي النقراشي وعددًا من قيادات الوفد
الشابة من
وزارته الرابعة، ومن الحزب، وأصيب الرأي العام بدهشة، رغم أن الخلاف ظل معلنًا لأشهرٍ
طويلة، حتى إن صفية
زغلول هدَّدت بإغلاق بيت الأمة في وجه الوفد ومصطفى النحاس إن استمر الخلاف، وهو ما حدث
بعد ذلك ببضعة
أشهر.
٥٢ ويقول رجل (السكرية): «شد ما فوجئ الرأي العام وهو يطلع على أسماء الوزراء الجدد، فلا
يجد
بينهم النقراشي.» ويقول عبد الرحيم باشا عيسى: «توقعنا عند الاستقالة أمرًا، خاصة وأن
الاختلاف كان قد
ذاع حتى تحدثت به المقاهي، ولكن النقراشي ليس كغيره من أعضاء الوفد. لقد فَصَل الوفد
من قبلُ كثيرين فلم
تقم لهم قائمة، أما النقراشي فله شأن آخر، ولا تنسوا أن النقراشي معناه أحمد ماهر أيضًا،
هما الوفد،
الوفد المجاهد المناضل المحارب.»
٥٣ أما نادر برهان (المرايا) فقد أظهر حزنه في القول: «لم أحزن في حياتي، مثلما حزنت للخلاف
بين مصطفى النحاس والنقراشي، كان النحاس زعيمي، وكان النقراشي أبي الروحي؛ ولم أتصور
الدنيا صالحة
للحياة مع وجود عداوة بين الرجلين.»
٥٤ وأكد زوار قصر عبد الرحيم عيسى باشا أن النقراشي استُقبِل في محطة سيدي جابر استقبالًا
شعبيًّا
حماسيًّا، وأن الجماهير المثقفة هتفت من الأعماق: يحيا النقراشي النزيه … يحيا النقراشي
ابن سعد. وهتف
البعض: يحيا النقراشي زعيم الأمة!
٥٥ ويذهب محيي (أزهار) إلى أن «هذا التصدع الخطير الذي حاق بحزب الأغلبية هو نهاية حزب
الأغلبية وزعامة رئيسه.»
٥٦
كانت حجة النحاس — كما أسلفنا — أن النقراشي كثير المعارضة داخل الوزارة، وأن سير
العمل يقتضي
تجانسًا وانسجامًا داخل هيئتها. ويقول الرافعي: «إن إخراج النقراشي من الوزارة كان نقطة
التحوُّل في سياسة
الوفد في الحكم، فقد أخذ بعد ذلك يسلك فيه سبيلًا لا يتفق مع الروح القومية، ولا مع الاستقامة
والنزاهة.»
٥٧
ولا يخفى أن زعامة الوفد — سواء في عهد سعد زغلول أو مصطفى النحاس — كانت تتصرف كأن
التوكيل الذي
منحته الأمة للوفد المصري في ١٩١٩م أبديًّا؛ فقد فصل سعد زغلول في ١٩٢١م عشرة من الأعضاء،
ولم يتبقَّ معه من
المؤيدين سوى أربعة، وفصل النحاس ثمانية أعضاء، وبقي معه ثلاثة فقط.
وبصرف النظر عن التأييد الشعبي الواضح الذي كان ربما يعكس رأي القاعدة الشعبية، فمن
المؤكد أن
قيادة الوفد كان تعاني افتقادها للديمقراطية في التعامل مع القيادات التالية. ويضيف محمد
خطاب عاملًا
ثانيًا، ينسحب على كل الأحزاب القائمة، يتمثَّل في عدم تجديد الانتخاب لرؤساء الأحزاب،
وهو المبدأ الوحيد
الذي اتفق عليه الرؤساء، وقد نشأ عن ثبات الرئاسة في الأحزاب أن حلَّت في داخلها ديكتاتورية
معلَنة،
و«أصبحت هناك ديكتاتوريات متعددة في مصر، تنادي بالديمقراطية، وتحكم باسم الديمقراطية.»
٥٨
وإذا كان الوفد قد لجأ إلى الشعب في ١٩١٨م للحصول على توكيل منه، فإن ذلك الأسلوب
قد اختفى تمامًا،
بعد أن أصبح الوفد تنظيمًا؛ فالقيادات والكوادر تُعيَّن من القمة. لم تحدث انتخابات طيلة
عهود الوفد، كان
الاختيار يتم من فوق، وكان لذلك تأثير مباشر في اتجاه عدد من الأعضاء إلى اليمين في العشرينيات،
واتجاه
عدد آخر إلى اليسار في الأربعينيات.
•••
خرج محمود فهمي النقراشي من الوفد في سبتمبر ١٩٣٧م، وكوَّن حوله تجمعًا من بعض الوفديين
الذين كانوا
يعارضون سياسة النحاس، ثم تألَّف من هذا التجمع حزب جديد هو الهيئة السعدية برئاسة أحمد
ماهر، وكان قوامه
بعض عناصر الأفندية التي نشأت ونمت داخل الوفد، وكان انفصالها عنه — للأسف — بداية تحوُّل
سلبي في
اتجاهاتها، لتصبح — في أحيان كثيرة — تعبيرًا عن مصالح الاحتكارات المتعاونة مع الاحتكارات
الأجنبية.
مع ذلك، فإنه مما يُحسَب للنقراشي مواقفه الوطنية، ومنها دوره الإيجابي في انتخاب
مصطفى النحاس
خليفة لزعيم الوفد الراحل سعد زغلول، نظَّم مظاهرة أمام المكان الذي تم فيه الانتخاب،
ودعا إلى اختيار
النحاس، وكانت المنافسة بين النحاس وفتح الله بركات، قريب سعد زغلول. كما رفض النقراشي
فتح اعتماد
بإصلاح اليخت «المحروسة»، وقال في رسالة إلى الخاصة الملكية: «في الوقت الذي تفتك فيه
الشيوعية بعقول
الشباب المصري، ويشتد التذمر من الفاقة التي تحيط بأفراد الشعب، فإن الناس لن يقبلوا
منا التفكير في مثل
هذا العمل، ولهذا فإني لا أستطيع، ما دمت رئيسًا للوزارة، أن أوافق على طلب كهذا، واستقالتي
بين يدَي
جلالتكم.»
٥٩ كان النقراشي في صميمه — كما يصفه الفنان (العنقاء) رجلًا وطنيًّا، وإن «كان معروفًا
للخاص
والعام أنه لم يكن يمثِّل الشعب، وإنما كان يمثِّل فئة قليلة العدد من أوساط الرأسماليين.»
٦٠
وفي ٧ سبتمبر ١٩٣٧م أصدر النقراشي بيانًا، أوضح فيه سلامة موقفه من معارضة تنفيذ
مشروع كهربة خزان
أسوان بدون مناقصة، ودعا حكومة الوفد إلى المساواة بين المصريين، واحترام حرياتهم، وطالب
بحلِّ جميع فِرق
القمصان على اختلاف أنواعها.
٦١
أصبح الحزب الجديد — على نحوٍ أو آخر — تمثيلًا لمصالح الرأسماليين الكبار الذين سيطروا
على
المؤسسات الصناعية المصرية الهامة، وفي مقدمتها شركات بنك مصر، والذين وجدوا في المعاهدة،
وفي إلغاء
الامتيازات الأجنبية، حصولًا على كل ما ينبغي بالنسبة للمسألة الوطنية.
ودار نقاش بين الأصدقاء في «السكرية»، فقال علي مهران: يتهامسون في بار الأنجلو عن
وزارة قومية
قريبة برئاسة النقراشي.
فتساءل رضوان ياسين: على أي أساس؟ طبعًا لا أستطيع أن أتصور أن يقوم النقراشي بانقلابٍ
سياسي
كمحمد محمود، أو إسماعيل صدقي؟
قال علي مهران: انقلاب! كلا، المسألة تنحصر الآن في إقناع أكثرية الشيوخ والنواب،
ولا تنسَ أن
الملك معنا، فعلي ماهر يعمل بحكمة وأناة.
تساءل رضوان في كآبة: أنكون في النهاية من رجال السراي؟
قال عبد الرحيم باشا: العبارة واحدة، ولكن المعنى تغيَّر، فاروق غير فؤاد، والظرف
غير الظرف، الملك
شاب وطني متحمس، وهو مجني عليه أمام هجمات النحاس الجائرة.
٦٢
وقال علي عبد الرحيم: أهذا يصح؟ أعني ما فعله النقراشي؟
قال أحمد عبد الجواد: كم أملنا أن تعود المياه إلى مجاريها، أستغفر الله العظيم.
أضاف: لم أحزن لشيء كما حزنت لخروج النقراشي، ما كان ينبغي أن يذهب به الخصام إلى
هذا الحد.
وأجاب عن السؤال: ترى ما النهاية التي تنتظر النقراشي؟ قال: النهاية المحتومة، أين
إلياس والشمسي؟ لقد قضى الرجل المجاهد على نفسه، وأخذ في رجليه أحمد
ماهر.
٦٣
كان رأي البعض أن ما حدث بتدبيرٍ من مكرم عبيد، فهو لا يطيق منافسَيه النقراشي وأحمد
ماهر، ويريد أن
يستحوذ على النحاس وحده دون شريك، وإذا خلا له الجو من ماهر والنقراشي فلن يقف في سبيله
شيء.
٦٤
أدى خروج النقراشي وأحمد ماهر من الوفد، إلى تفرُّد مكرم عبيد بمنصب الزعامة الثانية،
فهو السكرتير
العام للحزب، والساعد الأيمن للنحاس ومستشاره الأول.
حاولت صفية زغلول أن تقوم — في الصراع بين النحاس والسعديين — بالدور نفسه الذي قامت
به — قبل
مئات السنين — مع الفارق بالطبع — أم المؤمنين عائشة في الصراع بين علي ومعاوية، فقد
أولت السعديين
عطفها وتأييدها.
وقد دخل حزب الهيئة السعدية انتخابات ١٩٣٨م، ونال أعضاؤه ٨٠ مقعدًا في مجلس النواب.
•••
في ٦ يوليو ١٩٤٢م قرر الوفد فصل مكرم عبيد وراغب حنا من عضويته، وتساءل رياض قلدس
(السكرية): يفصل
مكرم من الوفد؟ كيف تقع هذه الخوارق؟!
أضاف: إنها كارثة قومية يا كمال، ما كان ينبغي أن تتهاوى الأمور حتى هذا الحضيض.
قال كمال عبد الجواد: نعم، ولكن من المسئول؟
– النحاس. قد يكون عصبيًّا، ولكن الفساد الذي تسرب إلى الحكومة أمر واقع، ولا يصح
السكوت
عليه.
– دعنا من الفساد الحكومي، ثورة مكرم ليست على الفساد بقدر ما هي لضياع النفوذ.
٦٥
وعبَّر رياض قلدس عن تخوف الأقباط من أنهم سيجدون أنفسهم «بلا مأوى، أو يئوون إلى
عدوهم اللدود:
الملك، وهو مأوى لن يدوم لهم طويلًا، وإذا اضطهدنا الوفد كما تضطهدنا الأقليات، فكيف
يكون
الحال؟»
٦٦
في العام نفسه، أنشأ مكرم عبيد حزب الكتلة الوفدية، إثر الانقسام الذي أحدثه في الوفد
قرار فصل
مكرم وراغب، وكان قوام الحزب الجديد عددًا من الشيوخ والنواب الوفديين الذين قدَّموا
إلى الحزب استقالة
جماعية مسبَّبة.
وإذا كان السبب المعلَن في تطورات الأحداث هو الصراع حول السيطرة على المراكز الحساسة
في حزب
الوفد، عقب بروز فؤاد سراج الدين وغيره من طبقة ملَّاك الأراضي كقوة لها ثقلها داخل قيادة
الوفد منذ ١٩٤٢م،
فإن الأسباب الأخرى تتعدد، بحيث يصعب القول بسبب واحد، مهما تعاظمت تأثيراته.
أحدثت استقالة مكرم عبيد من الوفد تأثيراتٍ سلبية واضحة، بدأ بعض أئمة المساجد يهاجمون
مكرم، ونادى
قساوسة — في المقابل — بتعيين مكرم رئيسًا للحكومة، وعندما أنشأ مكرم حزب الكتلة، بادر
الكثير من
الأقباط بالانضمام إليه، وإن ظلَّ العدد الأكبر من الأقباط على تأييدهم للوفد ورئيسه.
٦٧
وعلى أثر انشقاق مكرم عبيد على زعامة مصطفى النحاس، ألَّف — مع زعماء المعارضة — جبهة
سياسية باسم
«جبهة المعارضة».
ومن المهم أن نشير إلى أن الطائفية لم تمثِّل عاملًا في خروج مكرم عبيد من الوفد،
فالعدد الكبير من
الأقباط الذين خرجوا معه، كان معظمهم من أقارب مكرم وأصهاره، فهم لا بد أن يكونوا أقباطًا.
وكان البعض
الآخر من نواب الصعيد الذين يخضعون للعصبية الجغرافية، لا العصبية الدينية، كذلك فإن
عددًا كبيرًا من
المسلمين ظلُّوا على تأييدهم لمكرم، في حين بقي عدد كبير من الأقباط داخل الوفد، يعلنون
تأييدهم
للنحاس.
٦٨ ويقول مصطفى الفقي إن «الرجل لم يعتبر نفسه — في يوم من الأيام — ممثلًا طائفيًّا، أو
مندوبًا للأقباط في الحركة الوطنية والسياسية المصرية، بل على العكس رآه الجميع — مسلمون
وأقباط —
مصريًّا قبل كل اعتبار، حتى نظرت إليه الجماهير من نافذة السياسة، ولم تنظر إليه بمنظار
الدين، فقد تجاوز
— بذكائه وطموحه — حدود التمثيل الديني الضيق، ليخرج إلى الحياة العامة.»
٦٩ وكان بعض الشبان يحرصون على تقليد مكرم عبيد في طريقة إلقاء خُطبه، ومنها وضع يده اليمنى
في
جيب سترته، بحيث يظل الإصبع الأكبر خارج الجيب.
٧٠
وظل مكرم عبيد ممثِّلًا لدائرة قنا، في كل الانتخابات التي أُجريَت في ظل دستور ١٩٢٣م،
فيما عدا
انتخابات حكومة محمد محمود عام ١٩٣٨م، التي تدخَّلت فيها الإدارة بالتزييف بصورة سافرة،
وسقط في انتخابات
ذلك العام أيضًا مصطفى النحاس في دائرته سمنود.
وفي تقدير الرافعي أن رفض مكرم عبيد — بوصفه وزيرًا للمالية — منْح استثناءاتٍ لموظفين
وفديين،
ارتكازًا إلى أن الترقيات الاستثنائية فيها إجحاف بحقوق الموظفين الذين يُراد تخطي دورهم
في الترقية، لكنَّ
مجلس الوزراء أقرَّ الترقيات الاستثنائية المطلوبة، وإن لم يخفِ النحاس حنقه على مكرم؛
فقد كانت معظم طلبات
الاستثناءات بإيعازٍ منه. ثم زاد من حنق النحاس أن مكرم — كما يروي الرافعي — رفض تمييز
بعض أصهار النحاس
في طلبات تصدير مريبة، وأعلن النحاس عدم إمكانه التعاون مع مكرم، وطلب منه أن يستقيل
من الوزارة، فرفض
مكرم أن يستقيل.
وهنا لجأ النحاس إلى استقالة وزارته كلها في مايو ١٩٤٢م، وعهد إليه الملك بتأليفها
من جديد، فألَّفها
دون مكرم.
٧١
•••
ويعدِّد صلاح الشاهد أسبابًا مقابِلة، دعت إلى خروج مكرم من الوفد والوزارة، وهي:
إن مكرم ظل يلعب دور المستشار الأوحد للنحاس، منذ تولي زعامة الوفد حتى ١٩٤٢م، وكانت
كلمته هي
النافذة دومًا. ومع التأكيد على وطنية مكرم وذكائه، فإنه كان يميل إلى السيطرة وتقديس
الذات، وعندما
أدرك شحوب نفوذه، بدأ حربًا خفية ومعلَنة ضد قيادة النحاس، وزاد من تفاقم المشكلات أن
تسلُّط مكرم — في
تصوُّر النقراشي وأحمد ماهر — هو الذي دفع الرجلَين للاستقالة، وزاد مكرم فأغضب الكثير
من قيادات الوفد.
وواجه مكرم كذلك مؤاخذة بأنه التقى بالملك دون أن يستأذن النحاس، وأن القصر قد أفلح —
في الوقت نفسه —
في استغلال نقاط الضعف في شخصية مكرم، بما دفعه إلى محاولة الانقلاب على زعامة النحاس.
٧٢
أما «روز اليوسف» فقد اتهمت مكرم بأنه هو الذي أساء إلى النحاس، بتزويجه من فتاة
تصغره بأعوام
طويلة، وأنه هو الذي جعل من النحاس رأسًا فوق مستوى الرءوس، ووصف زعامته — يومًا — بأنها
مقدسة، وأقنعه
بأنه هو كل شيء، حتى أصبح في الوفد ديكتاتورًا، وجعله يطرد كل من يختلف معه على شيء،
حتى طرد مكرم عبيد
نفسه.
٧٣
أما محمد التابعي، فهو يُرجِع أسباب الخلاف بين النحاس ومكرم، التي تراكمت واستفحلت،
فأدت — في
النهاية — إلى خروج مكرم من الوفد … إلى شخصية مصطفى النحاس التي سيطر عليها مكرم عبيد
لفترة طويلة، ثم
بدأت شخصية أخرى، هي زينب الوكيل، في أخذ موضعها، وكان لا بد للنحاس بحكم طبيعته — والقول
لمحمد صلاح
الدين — أن يسيطر عليه شخص ما.
٧٤
التفسير نفسه — تقريبًا — يذهب إليه حلمي سلام، فقد سعى أحمد حسنين إلى تحطيم الوفد،
صاحب
الأغلبية الشعبية، بنسف العلاقة بين النحاس رئيس الوفد ومكرم عبيد سكرتيره العام، فأوعز
إلى النحاس بأنه
ليس بين الملك وبينه إلا شخص مكرم عبيد، فإذا تخلص من مكرم عبيد، ضمن رئاسة الوزارة إلى
أمد غير محدد!
في المقابل، أوهم مكرم بأن الملك — والشعب كذلك! — يعتمدون عليه في حماية النحاس من
أطماع أقاربه
وأصهاره، وأنه — وحده — الذي يستطيع المحافظة على التزام النحاس بمبادئ الوفد!
كان أحمد حسنين إذن وراء الخلاف بين النحاس ومكرم، وكان ذلك الهدف شاغله منذ حادثة
٤ فبراير،
لينتزع من النحاس ذراعيه اللتين يستند إليهما في إدارة شئون البلاد الداخلية والخارجية:
مكرم عبيد وأمين
عثمان، وقد نجح أحمد حسنين في مسعاه إلى حدٍّ بعيد.
٧٥
ثمة سبب آخر، هو استغلال بعض قيادات الوفد الخلاف بين مكرم وزينب الوكيل للتخلص نهائيًّا
من مكرم،
ومن النفوذ الهائل الذي كان يتمتع به عند قيادة الحزب، وعند النحاس شخصيًّا.
٧٦
هناك أيضًا، السراي — أحمد حسنين بالذات — الذي كان يبذل جهده للتفريق بين النحاس
ومكرم، ثأرًا
لحادثة ٤ فبراير.
٧٧
واللافت أن الأزمة بين النحاس ومكرم قد فرضت نفسها على الحياة السياسية الداخلية،
بينما قوات
روميل تُعِد نفسها لاحتلال مصر، والقوات البريطانية تصر على إغراق الدلتا.
كانت بداية الخلاف من جانب النحاس الذي بدأ في تغيير سياساته نحو سكرتير الوفد، بحجة
حفظ التوازن
بين مكرم وبين بقية أعضاء الوفد، وكان رد الفعل من جانب مكرم حملة من التهم للنحاس شخصيًّا،
ولحرمه
وأنصاره وأقاربه.
دخل مكرم عبيد وزارة النحاس في ٥ فبراير ١٩٤٢م ليتولى أهم وزارتَين فيها: المالية
والتموين، ثم أعاد
النحاس تأليف وزارة في ٢٦ مايو من العام نفسه، لتخلو من اسم مكرم عبيد. ثم قرر الوفد
— في يوليو — فصل
مكرم عبيد، ثم قررت الهيئة الوفدية فصله من هيئة الوفد، وفي ١٢ يوليو ١٩٤٣م أصدر مجلس
النواب قرارًا بفصل
مكرم عبيد من عضويته باعتباره «أسوأ مثل للنائب منذ قامت في البلاد الحياة النيابية سنة
١٩٢٤م.»
•••
هل كان مكرم عبيد يحلم برئاسة وزارة — ولو غير وفدية — بدلًا من أن يظل إلى الأبد
الرجل الثاني في
حكومة وفدية؟ أو أن القضية تركزت في وسطاء الشر بين النحاس ومكرم؟ أو أنها مؤامرات القصر
وأحمد حسنين
أفلحت في الوقيعة بين الرجلين؟
٧٨
الغريب أن النحاس ومكرم — قبل أن يفلح القصر الملكي في إثارة الخلافات بينهما — كانا
يمثلان رأيًا
واحدًا، حتى لقد اتُّهِم النحاس — زمنًا — بأنه يخضع لسيطرة مكرم! وهو اتهام تنفيه زعامة
النحاس الواضحة
من قبل أن يتولى رئاسة الوفد، بل أكدت بعض الاجتهادات أن مكرم هو الذي سعى — وأفلح —
في تزويج زينب
الوكيل من مصطفى النحاس!
وفي رواية «الدكتور خالد» أظهر فوزي السيد (أحمد حسين) استنكاره ﻟ «الكتاب الأسود»:
«لا يمكن إلا
أن أستنكر موقف الأستاذ سيدهم منه — مكرم، من النحاس — إن الأستاذ سيدهم — مكرم عبيد
— كان يجب أن يكون
آخر مصري يهاجم الرئيس، وقد عاش خمسة عشر عامًا يحرق له البخور، ويحارب كل من يفكر في
توجيه أي ملاحظة
للرئيس، فضلًا عن نقده!»
٧٩ وقد وصف إبراهيم عبد الهادي شخصية مكرم بأنها كانت أميل في تفكيرها إلى العاطفة منها
إلى
التفكير بالعقل.
كان رأي منتقدي مكرم عبيد أنه — إذا لم يكن إصدار الكتاب الأسود للمتاجرة السياسية
— أن يتجه
بكتابه إلى الشعب لا إلى السراي، وكان عليه أن يتساءل — وهو أقدر المحامين آنذاك — عن
بواعث تشجيع
السراي لفكرة إصدار الكتاب. وكما يقول جلال الدين الحمامصي — وهو أقرب المؤرخين إلى مكرم
عبيد — فقد كان
فاروق متحمسًا لفكرة الكتاب الأسود، وكان يتابع أنباء إعداده، ويسأل عما تم طبعه، وعن
الاحتياجات التي
اتُّخذَت لمنع الحاكم العسكري من إفساد هذه الخطة، حتى لقد قبِل أن تُودَع صورة الكتاب،
وملحقاته من الوثائق،
في إحدى خزائن سراي عابدين، إلى أن يحدد موعد تقديمه إليه، وإذاعته على الناس.
٨٠ وكان الكتاب يُوزَّع بواسطة سيارات الجيش، بأوامر مباشرة من الفريق إبراهيم عطا الله
باشا رئيس
الأركان.
٨١ ويشير الحمامصي إلى أن أحمد حسنين كان وراء فكرة إصدار الكتاب، وكان يرى الاكتفاء بالقليل
من الفضائح حتى لا يكون هناك سبيل لأخذها بأي مأخذ، بل إن أحمد حسنين — كما يقول الحمامصي
— شارك في كل
خطوات إعداد الكتاب حتى تم صدوره فعلًا.
٨٢
كان على مكرم إذن أن يتجه بكتابه إلى الشعب مباشرة، دون أن يكون للسراي صلة به.
أما عبد العظيم رمضان، فقد اعتبر الكتاب الأسود عربون الانتقال من صفوف الوفد إلى
صفوف القصر،
وثمرة من ثمار التآمر البعيد بين مكرم عبيد وأحمد حسنين، ومأساة خُلقية سبق أن أدانها
مكرم عبيد نفسه، في
أثناء دفاعه عن النحاس في قضية سيف الدين عام ١٩٢٨م، وهو — على كل حال — حلقة في سلسلة
المؤامرات التي
كان يدبِّرها القصر ضد الوفد كلما أراد التخلص منه وهو في الحكم.
٨٣
والواقع أن السراي لم تناصر مكرم عبيد في مواقفه من الوفد عن إيمان وتجرد، لكنها
كانت تسعى لأن
تستغل مكرم عبيد في ضرب الوفد.
٨٤
هوامش