النديم زعيمًا شعبيًّا
ثورة المثقفين، هي التسمية التي أطلقها محمد عودة على الثورة العرابية، وهي تسمية
لا
تخلو من صحة، فإن الأفكار الإصلاحية التي أعلنها العطار، ومن بعده الطهطاوي، ثم
الأفغاني، لم تكن صرخات في وادٍ بقدر ما كانت تأكيدًا للدور الذي يجب أن ينهض به
المثقفون في نهضة بلادهم. يقول القاضي الهولندي فان بلمن، وكان قاضيًا بالمحاكم
المختلطة في عهد إسماعيل: «يخطئ الذين يظنون أن المصريين المثقفين لا يهتمون إلا
بمصالحهم الشخصية ومصالح عائلاتهم، فإنهم — على العكس — يكرهون الحكم التركي والحكم
الأوروبي على السواء، ويريدون حكومة وطنية بكل معاني الكلمة، وهم يحبُّون مصر الحديثة
ومصر التاريخية، ويهتمون بمصر الشعب، ويتألمون لمصائبه التي لا تنتهي.»
١ والحق أن الطبقة المثقفة — وتعبير الطبقة هنا يحمل الكثير من التجاوز،
ولعله ينأى عن الدقة العلمية — كانت تملك أكثر من سواها من طبقات المجتمع، فرصة
التغيير. فقد استطاع أفرادها شغل بعض المناصب الهامة في الجهاز الإداري للدولة مثل
البارودي، وفي القوات المسلحة مثل عرابي، وفي الأزهر مثل محمد عبده — وهو لم يتقلد فيه
منصبًا رسميًّا، إلا إنه صرف كلَّ جهوده لبعث الحياة في أروقته — وفي الصحافة والأدب
مثل
عبد الله النديم.
ويقول محمد عودة: «كانت الثورة العرابية، من البداية إلى النهاية، بكل مزاياها
وعيوبها، ثورة مثقفين، وقد صنعها تلاميذ الأفغاني الذين تمخضت عنهم متناقضات عصر
إسماعيل، وبداية الزحف الاستعماري، وكانوا هم الذين مهَّدوا لها، والذين وضعوا برامجها
وخططها، والذين قادوا معاركها. وقد تميزت الثورة العرابية بأنها لحمت وصهرت المثقفين
من
الشعب — أي الكُتاب والصحفيين والعلماء وذوي المهن الحرة — مع المثقفين في الجيش — أي
الضباط الثوريين والمستنيرين، وتميزت بأنها صهرت المثقفين التقليديين — أي علماء الأزهر
— مع المثقفين المصريين من خريجي البعثات الأوروبية مثلًا. وتميزت — أيضًا — بأنها جمعت
بين
المثقفين المصريين من مختلفي الديانات، ومختلفي الجنسيات، وكانوا جميعًا يحلمون بثورة
تكون بداية بعثٍ وتحرُّر شامل للشرق كله، كما قال عرابي. وفي الواقع، أن سدى الثورة لم
يكن
كله من صنع تلاميذ الأفغاني، ولعل التعبير الأدق أنهم شاركوا في صنع الثورة، لأن عددًا
كبيرًا من قادتها يصعب انتسابهم إلى أستاذية الأفغاني. ومع أن عرابي كان شديد التدين،
فإنه ركز في نضاله على الجانب الاجتماعي، كالدفاع عن حقوق الفلاحين، ومساواة المصريين
بالجاليات الأجنبية والمتمصرة. والقول بأن الأفغاني هو مؤسس الحزب الوطني الأول، وأنه
هو الذي بذر نبتة الثورة العرابية، يشحب أمام تأكيد الأفغاني أنه جاء إلى القاهرة
«للإصلاح الفكري لا للعمل السياسي».»
٢ حتى عبد الله النديم، فضَّل — ذات يوم — أن يختط طريقًا مغايرًا لطريق
الأفغاني وتلاميذه. ولا يعني هذا التهوين من أثر تعاليم الأفغاني في تجسيد الثورة، فهو
— بحقٍّ — مفتاح معظم الأحداث في تلك الفترة. وحتى لا نتوه في تعبيراتٍ غير محددة، فإن
قيادة الثورة العرابية كانت لمثقفين يملكون القدرات الإيجابية في تجسيدها، وتحويلها إلى
واقع، تعبيرًا عن القدرات السلبية التي يملكها الفلاح المصري ضد السلطة، والتي ما لبثت
أن وجدت إيجابيتها عندما حمل الفلاح السلاح دفاعًا عن الثورة، لأنه كان يدافع عن
إرادته. ولعل طبيعة الدور الذي نهض به المثقفون في صنع الثورة يبدو باهتًا في «قلعة
الأبطال»، مردُّ ذلك إلى التركيب الروائي الذي حرك الفنان من خلاله شخوص الرواية وأحداثها.
إن الفلاحين هم الأبطال الأهم في «قلعة الأبطال».
٣
•••
عبد الله النديم — في رأي غالبية المؤرخين — هو خطيب الثورة العرابية، وهو — في رأي
بعض الأقلام التي تتباين في مواقفها من العرابيين بين التعاطف والرفض — مهرج لا يزيد.
يقول أحد أبطال رواية أبو المعاطي أبو النجا «العودة إلى المنفى»: «ليس نديم سوى شحاذ
ومهرج، لقد أردنا أن نجعل منه رجلًا محترمًا، ولكن التصعلك في دمه. في الماضي كان
يتصعلك بأشعاره وأزجاله ونوادره، واليوم يفعل الشيء نفسه باسم الإصلاح والتعليم، إنه
يعرض السلعة التي تطلبها السوق دائمًا، لقد نجح في خداع الكثيرين، ولكني لم أُخدَع فيه
قط!
٤ وقد أخذ عليه البعض تصرفه العفوي في مساجلة الأدباتية في طنطا، وكما يقول
أحمد أمين فقد أخذوا عليه هذا الحادث، وعيَّروه به «وقالوا إنه رضي أن يقف موقفًا يساجل
فيه المستجدين، وأن يكون أدباتيًّا مثلهم، ينازلهم ويغالبهم على ملأ من الناس، فمثله
مثل
المصارعين — لعله يقصد الفتوات — أمام الزفة ولا يرضى لنفسه هذا الموقف إلا وضيع النفس
ساقط الهمة.»
٥ ويدافع أحمد أمين عن عفوية تصرف النديم بأن «وضع المسألة هذا الوضع فيه
كثير من التزمت والتعنت، كالذي تُعرَض على مسامعه الفكاهة الحلوة فينتقد فيها خطأ نحويًّا
أو لفظًا لغويًّا، وكمن ينتقد الشيخ الوقور على ما كان منه أيام الصبا، والغني الواسع
الثراء على ما كان منه أيام البؤس والشقاء، فالمسألة لم تعُد أن تكون طرفة لطيفة، وفكاهة
ظريفة، وقوانين الظرف تبيح من البحبحة في مجالسه ما لا تبيحه مجالس الجِد والوقار.
٦ حتى صلاح عبد الصبور الذي يضع الرجل في موضعه الصحيح في تاريخنا المصري،
يتعمَّد أن يضيف صفة «المهرج» إلى النديم.
٧ أما محمد صبري السوربوني فإنه يضيف الشعوذة صفة أخرى — غير مبررة — إلى ذلك
النبض الخالص المصرية! ولعل الحادثة الوحيدة التي تنسِب النديم إلى الأدباتية، وإلى
المهرجين، تلك التي يرويها النديم في مجلة «الأستاذ» ردًّا على محاولة المقطم أن ينال
منه. قال: «لا يخفى على أهل العلم أن الزجل من أبواب الشعر، كالدوبيت والقوما وكان كان
والموشح. وقد تنظر به كثير من الشعراء، وافتخر بأحكامه بعض الأدباء، حتى عُدَّت صناعته
أصعب من قرض الشعر. إذا كان مشتملًا على المعاني الغريبة مسبوكًا في قوالب لطيفة،
فالتفنن فيه من محامد الشعراء لا من مذامهم، وقد كنت أحاول نظم شيء منه في الأيام
الخالية، فيتعاصى لعدم الباعث، ثم اتفق لي أني كنت بمولد سيدي أحمد البدوي رضي الله
تعالى عنه سنة ١٢٩٤ﻫ، وكان معي السيد علي أبو النصر والشيخ رمضان حلاوة والسيد محمد
قاسم والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري، فجلسنا على قهوة الصباغ نتفرج على أديبٍ وقف
يناظر آخر، فلما فطن أحدهما لانتقادنا عليه، استلفت أخاه إلينا، وخصَّانا بالكلام، فأخذا
يمدحاننا واحدًا فواحدًا، إلى أن جاء دورهم إليَّ، فقال أحدهم يخاطبني: أنعِم بقرشِكَ
يا
جندي … والا اكسنا أمال يا أفندي … إلا أنا وحياتك عندي … بقى لي شهرِين طول جيعان. فقلت
على سبيل المزح معه: أما الفلوس أنا مدِّيشي … وانت تقول ما أمشيشي … يطلع عليَّ حشِّيشي
…
أقوم أملَّص لك ودان. ثم أخذنا نتبادل الكلام نحو ساعة، حتى غُلِبا عندما فرغ محفوظهما».
واستمر السجال في مواضع أخرى، وكان النديم — في كل مرة — هو صاحب الكلمة الأخيرة.
٨
وعلى الرغم من أوجه التشابه بين النديم والعقاد في ظروف الحياة المختلفة، فإن العقاد
— كما يقول في سيرته الذاتية — لم يشعر أبدًا بأن النديم قدوته المختارة بين أمثلة
النبوغ التي يتمناها، أو بين الشخصيات المثالية التي يجِلُّها (هكذا) ويحب أن ينتمي إليها.
٩ أما سبب ذلك الاختلاف الذي دفع العقاد إلى الإحساس بأن النديم ليس مثلًا
يتمناه، أو شخصية يجِلها، ويحب أن ينتمي إليها، فمبعثه — والكلام للعقاد — اختلاف المزاج
الشخصي؛ فالنديم كان ينزع كثيرًا أو قليلًا إلى شيء من التهريج، بينما العقاد نشأ في
بيئته البيتية بين أبوَين محافظين أشد المحافظة على سمت الوقار واللياقة، ونقل الصغير
عباس هذا الخلق منهما بالوراثة، كما نقله بالقدوة والمحاكاة.
١٠ وكانت الأمهات يردِّدن لأطفالهن الذين يتعرضون للإيذاء من الصغير عباس،
مقابلًا لمحاولة المزاح معه: امزح مع مَن شئت يا بني … ولكن كل الناس ولا عباس!
١١ ويقول العقاد: «من الطبيعي لطفلٍ في هذا المزاج أن ينظر إلى مَثَله الأعلى،
فلا يراه في صاحب «التنكيت والتبكيت» وصاحب «المسامير» (هكذا) وأحسبني لم أفضِّل الأستاذ
الإمام محمد عبده على صاحبنا النديم إلا لسببٍ من جملة أسباب ترجع إلى هذا المزاج، فإن
وقار محمد عبده هو القدوة التي أرتضيها حين أنظر إلى النديم، فيظفر مني بالثناء، ولا
يظفر مني بالاقتداء.»
١٢ ولعل مبعث الخلاف — في حدود التصور الذي يطرحه العقاد — ليس جنوح النديم
إلى «التهريج» — تلك التهمة الظالمة التي واجهها، بقدر ما هو التركيب النفسي للعقاد
ذاته. فأي مَثَل أعلى يطلبه ذلك الطفل الذي يحذر الأمهات أطفالهن من المزاح معه، ويتوارثن
التعبير: كل الأطفال ولا عباس؟
ومن الغريب أن العقاد يرجح — في المقارنة — كفة الإمام على كفة النديم، لأسبابٍ ظاهرية
وذاتية من العقاد! — ولم يحاول أن يضع هذه المقارنة — ما دام قد أرادها — في إطارها
الصحيح، فيناقش — على سبيل المثال — موقف كلا الرجلين في الحياة المصرية، منذ اشتغاله
بالحياة العامة إلى أن غادر الحياة، ليتبيَّن — في النهاية — أي الرجلين أقرب — في شخصيته
— إلى المثل الأعلى. ولعل ما يحضرني الآن من مقارنة، موقف الإمام والنديم بعد هزيمة
العرابيين، ومهادنة الإمام لسلطات الاحتلال، والتعامل معها، والتغزُّل في رياض، ومخاطبة
كرومر بوصفه صاحب السُّلطة الحقيقية، بينما النديم يصر على الثورة، وأن تظل مصر للمصريين،
ويُصدِر «الأستاذ» فلا تجد السلطات الحاكمة سوى النفي وسيلة لدرء ثوريته!
أما أحمد سمير في ترجمته لحياة عبد الله النديم، فقد غلبت عليه الحماسة، حتى ألغى
بديهيات، وأساء إلى الرجل بوقائع مغلوطة، مع أنه كان يريد إنصافه. وعلى سبيل المثال،
فقد أراد أحمد سمير أن يجعل من النديم بطلًا وطنيًّا منذ سني النشأة، فهو — في تقديره
—
لم يطلب تعلُّم صناعة التلغراف إلا ليقف — بواسطتها — على أسرار الأمم في مخابراتها،
والممالك
في سياساتها، حتى يتيسَّر المقابلة بين أحوال بلاده وغيرها من الممالك البعيدة، لعله
يقدر
على إصلاح الفاسد، وتقويم المعوج. ولم يكن للجرائد اليومية إذ ذاك وجود، فدفعته قوة
ذكائه الفطري البالغ حدَّ الإعجاز، إلى تعلُّم تلك الصناعة.»
١٣ والرواية — كما ترى — تغلب عليها الحماسة والمبالغة. فالواقع أن النديم لم
يتعلَّم التلغراف ثم يعمل به، وبالتجارة فيما بعد، إلا تعبيرًا عن حقيقة بسيطة، هي أنه
—
لكي يحيا — كان لا بد أن يعمل، فلم يكن يملك إلا قوته الجسدية والذهنية، وقد أكد النديم
هذه الحقيقة في كلماته. ويتصل بهذه الرواية أيضًا، ما ذهب إليه أحمد سمير من أن النديم
لم يسافر إلى المنصورة، ويعمل بالتجارة هناك، إلا لأنه رأى — أي النديم — أن التجارة
خير رياضة له! «فأنشأ هنالك متجرًا ملأه بكثيرٍ من أنواع السلع الغالية، فراج سوق بضاعته
رواج آدابه … ولكن تغلَّب كرمه الحاتمي على رأس المال والربح، ففقدهما جميعًا.»
١٤ والواقع أن عمل النديم بالتجارة في المنصورة، كان فرارًا من الظروف القاسية
التي تحيَّفته، بعد أن غضب عليه خليل أغا، فطرده من مكتبه بمكتب تلغراف القصر العالي.
عانى من التشرد، وهمَّ البحث عن الوجبة التالية. فلما عرض عليه محمود الفرقاوي التاجر
بالمنصورة، أن يفتح له دكانًا للخردوات، وافق على الفور، لكن الدكان أغلق أبوابه بعد
فترة قصيرة، بعد أن تحوَّل إلى ندوة أدبية يشارك فيها الشعراء، ولا يتردد عليها من يطلبون
الشراء فعلًا! ثم عمل النديم — بضغطٍ من الظروف المادية القاسية — معلم صبية لأولاد
الشيخ أحمد أبو سعدة عمدة بدواي، ثم عمل وكيلًا للبيك التوتونجي على ضِياعه. ثم عاد
النديم إلى الإسكندرية، بعد أن عاش الحياة المصرية في كل أبعادها ومستوياتها وظروفها.
أحدثت الأشهر الستة التي قضاها بعيدًا عن الإسكندرية تأثيرًا يصعب التهوين منه أو
إغفاله، اكتسب لقبًا عُرِف به طول حياته هو «النديم»، وعلَّمته الرحلة — والتعبير له
—
الجرأة والإقدام ومعاناة الشدائد سعيًا وراء الرزق، وحب الظهور بين مشاهير الندماء.
يقول: «فإن من ألِف الراحة، وأنِف السباحة، واقتصر على بلده ورجال عصره، كان كطير القنص،
إذا وُضِع في القفص يفرح بطعامه وشرابه، ويمرح في قفصه، فإن غابت عنه الميرة أدركته
الدهشة والحيرة، يستغيث فلا يُغاث، حتى يصير كالبُغاث، وإن فتح له الباب غاب عنه عقله
وضلَّ
وَكره، فربما فرَّ من شبكة، ووقع في هلكة. أما من أراد التغرب فهو كالكركي، تارة شامي،
ومرة تركي، وآونة مصري، وأخرى بصري، لا يحرم من القفار نيلها، ولا من الأنهار نيلها،
وزاد علمه بالبلاد والعباد.»
١٥
عاد النديم إلى الإسكندرية، وسافر إلى القاهرة، ومثلما عاش حياة الملايين من الطبقات
الأدنى التي كان — في حقيقته — واحدًا من أسفل قاعها، فإنه قد أتيح له — في صباه، وفي
بقية حياته — أن يتردد على بيوت السَّراة، ويقترب من حياتهم. يقول في رسالة بعث بها إلى
أصدقائه حين كان عاملًا للتلغراف بمحطة بنها: «ولو علم السيد ما أنا فيه من معاناة
الأمور ومعاداة الدهور، لالتمس عذرًا لتأخيري، فأرجو الصفح عما يوجد في هذا من القبح،
فقد حررته ليلة نوبتي بعد عشائي وقبل نومتي، وعندي من الأوباش كل سكير وحشاش، حزب يلعب
الدمنة، وفريق يقرأ كليلة ودمنة، وقوم يلعبون النرد، وشخص يقزح كالقرد، وكنت في بلوى
كبيرة إذ صار المحل كبيرة (أي مثل محل شرب البيرة)، كنت أعرف ذلك كله، لسوف تعرف ما هو
أكثر، ولم يُكتَب له ذلك أبدًا. لم يكتب سوى ما ينتظره منه، وتتحوَّل الخطابات إلى أنَّات،
ولكنها أنَّات موقعة.»
١٦ وأطلعت الحياة عبد الله النديم — كما يقول الراوي — على «أجمل وأسوأ ما
تنطوي عليه؛ الثراء والإعجاب في بيوت الكبار والأعيان، والجوع والمهانة، حين تلفظ تلك
البيوت بنفس السهولة واليسر اللذين استقبلته بهما.»
١٧ يقول النديم: «أخذتُ عن العلماء، وجالستُ الأدباء، وخالطتُ الأمراء، وداخلت
الحكام، وعاشرت أعيان البلاد، وامتزجت برجال الصناعة والفلاحة والمهن الصغيرة، وأدركت
ما هم فيه من جهالة، ومما يتألمون، وماذا يرجون، وخالطت كثيرًا من متفرنجة الشرقيين —
وألممت بما انطبع في صدورهم من أشعة الغربيين، وصاحبت جمًّا من أفاضل الشرقيين المتعلمين
في الغرب — وعرفت كثيرًا من الغربيين، ورأيت أفكارهم عالية أو سافلة فيما يختص
بالشرقيين، والغاية المقصودة لهم، واختلطت بأكابر التجار، وسبرت ما هم عليه من اليسر
في
المعاملة أو السياسة، وامتزجت بلفيفٍ من الأجناس المتباينة جنسًا ووطنًا ودينًا، واشتغلت
بقراءة كتب الأديان على اختلافها والحكمة والتاريخ والأدب، وتعلقت بمطالعة الجرائد مدة،
واستخدمت في الحكومة المصرية والجرائد آونة، واتخذت هذه المتاعب وسيلة لهذا المقصد الذي
انتهيت إليه بعناءٍ كساني نحول الشيخوخة في زمن بضاضة الصبا، وتوَّجني بتاج الهرم الأبيض
—
بدل صبغة الشعر السوداء — فصورتي تُريك هيئة أبناء السبعين، وحقيقتي لم تشهد من الأعوام
إلا تسعة وثلاثين.
١٨
أما الحجر الذي تصوَّر «الدبُّ» أنه يهش به الذبابة عن صاحبه، فهو ذلك الدفاع الغريب
من
أحمد سمير عن موقف النديم من الثورة العرابية. فقد تبدَّلت «التنكيت والتبكيت» — من ٢٠
نوفمبر ١٨٨١م — إلى «الطائف»، عبَّرت عن أفكار قادة الثورة، وعدَّدت مظالم العائلة المالكة،
وركزت على توفيق «الذي خان الأمانة، وخان الشعب، وسلَّم بلاده للإنجليز.» ورصدت الطائف
أحوال الفلاح، وناقشت قضايا الاقتصاد، ودعت إلى الإصلاح النيابي.
١٩
حوَّل النديم جريدة «الطائف» — كما يقول أحمد سمير — إلى جريدة سياسية، بلغت من الشهرة
ما لم تبلغه جريدة قبلها، بل إن العديد من الصحف المهمة، مثل «الأهرام» و«المحروسة»
حرصت على أن تنقل عنها.
٢٠ ثم اغتصبها — والكلام لأحمد سمير — أمراء الجند، ولم يدعوا منها غير الاسم،
فكانوا يحررون فيها ما يشاءون، دون أن يقدر النديم على ردِّهم، حتى انطفأت جمرة تلك
المشئومة، فتوقفت الطائف.
٢١ وبالطبع، فإن «الثورة المشئومة» هو تعبير أحمد سمير، بل إن انضمام النديم
للثورة — في تقدير أحمد سمير — لم يكن باختياره، فقد أجبره العسكريون على الانضمام
إليهم، وسمَّوه خطيب الحزب الوطني، واتخذوا جريدته مجالًا لآرائهم، لكنه كان يتأفف —
سرًّا — من وقوعه في تلك الورطة. يقول أحمد سمير (واقعة، تحتاج إلى مراجعة قاسية) إنه
سمع
النديم في غرفة نومه، حيث لا ثالث معهما! يقول ما معناه إن البلاد قد ضاعت بتهور رؤساء
الجند الذين خدعونا في مبدأ الحادثة، وأوهمونا أن لا خوف من العاقبة ولا فزع، فإنما هي
أقوال تضرب بأقوال، وقد اعتاد الأجانب أن يبلغوا منا ما أرادوا بالتهديد والإيهام، فنحن
إنما نقابلهم بالمثل، وإلا فهم أعقل — بكثيرٍ — من أن يقصدوا محاربتنا فعلًا، ولكن وجداني
الآن يحدِّثني بفساد هذه المزاعم، فلقد تفاقم الخطب، واشتدت النازلة، وظني أن الحرب واقعة
ولا بد، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنه ليس لنا اليوم إلا أن نبقى
مسيَّرين لا مخيَّرين، فقد مُلئت الكأس، ولا بد من شربها.»
٢٢
والحق أننا نجد في رسائل النديم إلى قادة الثورة في منفاهم، دحضًا لكل تلك المزاعم
التي حاول أحمد سمير — ببالغ صداقته! — أن يلصقها به، وفي مقدمتها تبرئته من الإسهام
الفعلي في الثورة، وأنه كان أحد قادتها، إن لم يكن أخلص قادتها. ويكاد النديم يشير إلى
ما قد تجنيه الصداقة البالغة في رواية الأحداث، فهو يخاطب «الحسيب النسيب أحمد باشا
عرابي وبقية الأمراء القادة، أو الأمجاد السادة بمجريات أمور، ومكنونات صدور، وحقائق
أظهرتها الأيام ظهور أعلام على الأعلام، وبيان أناس وافقونا في الكلمة الدينية والجامعة
الوطنية، ونافرونا بالدنيئات، وخالفونا بالذاتيات، وبيان تاريخ مصر في هذا العصر، خوفًا
من استرسال ذوي الأقلام في الكتابة، والكلام بظواهر لا يعلمون حقائقها، ووقائع لا
يدركون دقائقها؛ إذ لا يدري شأننا إلا بصير، ولا ينبئنك مثل خبير.»
٢٣ وفي منفاه بسيلان، تلقَّى عرابي رسالة من النديم يقول له فيها: «فيا ابن الحسين، وقرة
العين، لك العذر، فقد بعت نفسك لله، وأبليت في الجهاد بلاء حسنًا، وأظهرت
الحمية والغيرة، وهديت الضال بعد الحيرة، فطار صيتك في الممالك، وفتحت لسيرتك المسالك،
ولكنك كنت في بلاد أمراؤها ذاب، وأهلها أحزاب، كل حزب يميل إلى دولة، ولا يحب لك تلك
الصولة، فباعوك بثمنٍ بخس دراهم معدودة، وما هو إلا عشرة آلاف دنيَّة منقودة، قبضها أبو
سلطان، ولم يخش العار، ولا اسودَّ وجهه من نشرها في جرائد الأخبار. وما باعوك، بل باعوا
الدين والأعراض، لا سلَّموك وإنما سلَّموا البلاد والرياض، وما عليك من وطن باعه أهله،
وجمع
أضرَّ به جهله.»
٢٤ ويقول النديم في رسالة ثانية: «… فزحزِح الهمَّ عنك ما استطعت، وتسلَّ بما
عليه اطَّلعت، وإن تكن أفكارك في الهزيمة، بعد تلك العزيمة، وقيامك بالمفروض عليك، وثباتك
بما انضم إليك، فلك أسوة بالخلفاء والأكاسرة والملوك والقياصرة، ولا أبعد بك في وقائع
الشرق، ولكن آتيك بالغرب محل الفرق، لتروح أفكارك ببعض الوقائع، وترد نفسك عن صورة الطبائع.»
٢٥ ويقول: «إن حال الأحرار بعد النفي والإضرار، فقد فتح الله أبصارهم فتبصروا،
وصفَّى بصائرهم فتبصروا، وسقاهم شراب المحلة فائتلفوا، وهداهم الصراط المستقيم فما
اختلفوا. وإذا قيل للواحد منهم هذا عرابي المشرب، فرِح كأنه فتح له مطلب. ألسنتهم رطبة
بذكرك، ومحافلهم ملأى بشكرك، وقد زاد محبُّوك ممن كانوا أبغضوك، عندما رأى فساد أحوالهم
وانعكاس آمالهم، فهم أشد شوقًا إليك ممن كانوا يجتمعون عليك. وإذا أتى منك كتاب إلى بعض
الأحباب، دار به على الإخوان كأنه فرحان، فأنت في مصر وإن كان جسمك في سيلان، فذكرك في
الألسن ورسمك في الأعيان، فاسجد لله تعالى شكرًا على ما أعطاك من النعم، ودفع عنك وعن
حزبك النقم.»
٢٦ ويقول: «لم يأتني كتاب من ذاك الجناب، إلا وفيه الشكوى من إخوان النجوى بما
أظهروه من المعارضة والجدال والمناقضة، وسرعة ميلهم إلى الغضب من غير سبب، وتعصُّبهم
عليك، ونسبتهم المكروه إليك.»
٢٧ ويقول: «… ولا يقال إنك واحدٌ منهم تحمل اللوم عنهم، فإنك في الغربة أشهر
منك في ديارك، وفي منفاك أعز منك بين أنظارك، تزورك الملوك، ويتبرَّك بك المملوك،
والسائحون يركبون الأخطار لينظروك نظر الكرامة، ويهنئوك بالسلامة، وكتب الملوك متتابعة
إليك، ورسائل الأمراء واردة عليك. فإذا قِست حالك بحالهم ظلمتهم، وإذا انحرفت بانحرافهم
أبرمتهم، وإن لاينتهم ربحتهم، وإن جادلتهم خسرتهم.»
٢٨
عبد الله النديم — في تقديرنا — يتجاوز الصفات التي تعنى بإنصافه، ويتجاوز — بالطبع
—
الصفات الأخرى التي تهدف إلى التهوين من شأنه. وعلى سبيل المثال، فإنه يتجاوز صفة «خطيب
الثورة العرابية»، كما يتجاوز صفة «المهرج».
فمن هو عبد الله النديم؟
يتحدث النديم عن نفسه: «إني رجل عربي الجنس، حسن النسب — إسكندري المولد والمربَّى،
إسلامي الدين، أشعري العقيدة، شافعي المذهب، خلوتي الطريقة، مصري الوطن، تربيت على نفقة
والدي حتى يفعت، وأخذت عن العلماء الأفاضل كثيرًا مما يشتغلون من السمعيات والعقليات،
وجالست الأدباء وشاركتهم فيما فيه يتنافسون، وخالطت الأمراء، وداخلت الحكام، وعاشرت
أعيان البلاد، وامتزجت برجال الصناعة والفلاحة والمهن الصغيرة، وأدركت ما هم فيه من
الجهالة، وممَّ يتألمون، وماذا يرجون، وحابيت كثيرًا من متفرنجة الشرقيين، وألممت بما
انطبع في مرآة صدورهم من أشعة الغربيين، وصاحبت جمًّا من أفاضل الشرقيين المتعلمين في
الغرب ممن ثبتت أقدامهم في وطنيَّتهم، وفطروا على حب الجنس والوطن والدين، وعرفت كثيرًا
من الغربيين، ورأيت أفكارهم — عالية أو سافلة — فيما يختص بالشرقيين، والغاية المقصودة
لهم من مواطنها واستيطانها وخدمتها، واختلطت بأكابر التجار، وسبرت ما هم عليه من السير
في المعاملة والسياسة، وامتزجت بلفيفٍ من الأجناس المتباينة جنسًا ووطنًا ودينًا،
واشتغلت بقراءة كتب الأديان على اختلافها والحكمة والتاريخ والأدب، وتعلَّقت بمطالعة
الجرائد مدة، واستخدمت في الحكومة زمنًا، وتجرت برهة، وفلحت حينًا، وخدمت الأفكار
بالتدريس وقتًا، وبالخطابة والجرائد آونة، واتخذت هذه المتاعب وسائل لهذا المقصد الذي
وصلت إليه بعناءٍ كَسَاني نحول الشيخوخة في زمن بضاضة الصبا، وسبكني في قالب الكهولة
أيام
الفتاء، وتوَّجني بتاج الهرم الأبيض بدل صبغة الشباب السوداء.»
٢٩ اسمه عبد الله بن مصباح بن السيد إبراهيم الإدريسي الحسني. سافر والده من
بلدة «الطيبة» بالشرقية إلى الإسكندرية، فعمل — لفترة — نجارًا في صناعة السفن
بالترسانة، ثم افتتح مخبزًا. وُلِد النديم بالإسكندرية في ١٨٤٣م، ونشأ في الظروف التي
نشأ
فيها الفقراء. أرسله أبوه إلى الكُتاب ليتعلم القراءة والكتابة، ليغنيه — بعد أن يلحقه
معه بالمخبز — عن أجرة عامل، لكن عبد الله الصغير يبدي تفوقًا، يدفع والده إلى السماح
له بمواصلة دراسته، فأدخله مسجد الشيخ إبراهيم باشا. وكان المفروض أن تتواصل حياة
النديم الدراسية حتى يتاح له الحصول على العالمية من الأزهر، لولا أنه شغف بالأدب،
ومجالسة الشعراء في المقاهي والأندية، حتى انقطع عن الدراسة تمامًا. ولم يكن أمام
النديم — لكي يضمن الوجبة التالية — إلا أن يبحث عن مهنة تهبه إيرادًا ثابتًا، فتعلَّم
التلغراف، بداية لاعتماده على نفسه، ولحياة قاسية ومثمرة، مارس فيها العديد من الوظائف
والمهن، حتى أخلص لقيادة الجماهير ضد الأوتوقراطية الخديوية والنفوذ الأجنبي. وفي ١٨٧٩م
كانت بداية حياة النديم السياسية. في الإسكندرية، التقى بعددٍ من أعضاء جمعية مصر
الفتاة، وبأديب إسحاق وسليم نقاش صاحب جريدتَي «مصر» و«التجارة»، وبدأ الكتابة في
الجريدتَين، ثم كوَّن الجمعية الخيرية الإسلامية بدلًا من مصر الفتاة «وانضم إلى الجمعية
كثيرون من أصحاب النفوس المشتعلة بالوطنية.»
٣٠
ألقى النديم الخُطب، وكتب المقالات، ونظَّم الشعر والزجل وألَّف اللوحات القصصية
والمسرحيات، وأنشأ المدارس والجمعيات، وعلم، وأصدر الصحف، وحفظ — باختفائه — معنى
استمرار الثورة، وكان مجدِّدًا متفوقًا في كل المجالات التي ارتادها. كانت الجمعية
الخيرية الإسلامية هي البداية لجمعيات أخرى، وكانت مقالاته وصوره القلمية انتقالًا
واضحًا — تأثر به الكثيرون — من أسلوب البديع إلى أسلوب المنطق، وطوَّع
المسرحيات للتعبير عن مشكلات الجماهير المصرية ومطامحه في علاجها، وجعل الزجل وسيلة
أدبية رفيعة بعد أن كان مقصورًا — أو كاد — على طائفة الأدباتية، وأفلح في تحريك
الجماهير والتأثير فيها. كان جهازًا إعلاميًّا متكاملًا متحركًا، تخاطب قنواته المتعدِّدة
كل الثقافات والبيئات، وتصدر عن حياة خصبة ألمَّت بالكثير، وتعرَّفت إلى الكثير، وأفادت
من
الكثير، وأثمر ما اختزنه عطاءً متواصلًا ومتجددًا حتى النفس الأخير.
كان النديم — بالفعل — خطيب الثورة العرابية، وكان — في الوقت نفسه — صحفي الثورة،
وزجَّال الثورة، وشاعر الثورة، وكاتب الثورة، ومعلم الثورة، ومحرك الثورة … كان كل هذه
القدرات وغيرها.
•••
لعل أهم ما يجدر بنا أن نقف أمامه — في محاولات المثقفين المصريين لتغيير واقع
مجتمعهم — ما أبدعه عبد الله النديم من لوحاتٍ تعبِّر عن طبيعة المشكلات التي كان يعانيها
المجتمع المصري آنذاك. تذهب ماريلين بوث إلى أن لوحات النديم تتجه وجهة تعليمية صارخة،
مما يوحي أنها «لا تزيد عن الشكل الجنيني للخطاب القصصي، فهي حوارات غير مترابطة، تكاد
لا تنمو أو يحدث فيها تغيُّر، تناقش قضايا معينة تثير اهتمام الرأي العام، والصورة
الإنسانية فيها نمطية لا تتطور لتصبح شخصيات. وغالبًا ما يكون الحوار مجرد نثرٍ تقريري
يُوضَع على لسان المتحدثين، وليس اشتباكًا حقيقيًّا في حوارٍ بين المتحدثين.
٣١ وفي تقديري أن النديم لم يفكر في طبيعة اللون الذي اختاره، ليصل به إلى
قلوب الناس وعقولهم، بل إنه لم يحاول أن يضع لهذا اللون تسمية محددة. وطبيعي أن القصة
لم تكن مما يخطر له ببالٍ. الأمر لا يعدو ذكاء مصلح اجتماعي — هو ثائر في الحقيقة! —
اختار شكلًا مبسطًا للتعبير عن نقداته الاجتماعية والسياسية، فجاء هذا الشكل أقرب ما
يكون إلى القصة حينًا، أو إلى الحوارات المسرحية حينًا آخر.
كان الهدف الاجتماعي — والسياسي أحيانًا — هو الذي أملى على النديم كتابة أشكاله
الإبداعية. وجد أنها الأيسر تعبيرًا، ووصولًا على قلوب المشاهدين في الوقت نفسه. من هنا
كان اختياره للموضوعات التي تنبض بها لوحاته، فأبطالها من العرب الذين يستنهضون الِهمم
بما يذكروننا به من أحداث التاريخ القديم، أو من البسطاء الذين يجد فيهم المتلقي العادي
نفسه.
نحن نجد في قصة «عربي تفرنج» — مثلًا — معالجة ذكية لتأثُّر المثقفين المصريين بالحضارة
الغربية. استقطب هذا الموضوع «حديث عيسى بن هشام» لمحمد المويلحي، و«عصفور من الشرق»
لتوفيق
الحكيم، و«قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، و«أديب» لطه حسين، و«جسر الشيطان» لعبد الحميد جودة
السحار.
لكن قصة النديم — في رأيي — هي أول الأشكال الأدبية تعبيرًا عن هذه القضية. وهي — إلى
ذلك — إرهاص تاريخي بقنديل أم هاشم، ذلك لأن موقف الترفُّع والتكبُّر للأهل الذي عبَّر
به بطل
قصة النديم عن انبهار الإنسان المصري، في خطوات تعرُّفه الأولى إلى الحضارة الأوروبية،
يقابله موقف الإيمان غير المحدود بهذه الحضارة الذي اتخذه إسماعيل بطل القنديل دون
التفات إلى القيم والعادات والمُثُل الموروثة، التي كانت تعبِّر عن طبيعة المجتمع المصري،
وتحكم حياته: «وُلِد لأحد الفلاحين ولدٌ فسمَّاه زعيط، وتركه يلعب في التراب، وينام في
الوحل، حتى صار يقدر على تسريح الجاموسة مع البهائم في الغيط، يسوق الساقية، ويحوِّل
الماء، وكان يعطيه كل يوم أربع «حندويلات» وأربعة أمخاخ بصل. وفي العيد، كان يقدم له
اليخني ليمتعه بأكل اللحم، وبينما هو يسُوق الساقية، وأبوه جالس عنده، مرَّ بهما أحد
التجار، فقال لأبيه: لو أرسلت ابنك إلى المدرسة لتعلَّم وصار إنسانًا. فأخذه، وسلَّمه
إلى
المدرسة، فما أتم العلوم الابتدائية أرسلته الحكومة إلى أوروبا لتعلُّم فن عينته له.
فبعد
أربع سنين ركب الوابور، وجاء عائدًا إلى بلاده، فمن فرح أبيه حضر إلى الإسكندرية، ووقف
برصيف الجمرك ينتظره. فلما خرج إلى الفلوكة، قرَّب أبوه ليحتضنه ويقبِّله شأن الوالد
المحب
لولده، فدفعه في صدره، وجرت بينهما هذه العبارة:
زعيط
:
سبحان الله عندكم يا مسلمين … مسألة الحضن دي قبيحة جدًّا.
معيط
:
أمال يا ابني نسلِّم على بعض ازاي؟
زعيط
:
قول بون ريفي، وحط إيدك في إيدي مرة وخلاص.
معيط
:
هو يا ابني أنا باقول منيش ريفي.
زعيط
:
مش ريفي يا شيخ … أنتم يا أبناء العرب زي البهائم.
معيط
:
الله سترك يا زعيط … والله جا خيرك يا ابني … فوت روح فوت.
فلما وصل به إلى الكَفر، قامت أمه وعملت له طاجنًا في الفرن مملوءًا لحمًا
ببصل، فلما رآه قال لها: ليه كتَّرتي من اﻟ…
معيكة
:
من اﻟ… إيه يا زعيط؟
زعيط
:
من البتاع اللي اسمه إيه …
معيكة
:
اسمه إيه يا ابني … الفلفل؟
زعيط
:
نو نو … دي اللي يبقى لُو راس في الأرض …
معيكة
:
والله يا ابني ما فيه ريحة التوم.
زعيط
:
البتاع اللي يدمع العينين … اسمه انيون.
معيكة
:
والله يا ابني ما فيه انيون ولا … دا لحم ببصل.
زعيط
:
سي سا … بصل بصل.
معيكة
:
يا زعيط يا ابني … نسيت البصل، وأنت كان أكلك كله منه؟!٣٢
وثمة عشرات القضايا والمشكلات الاجتماعية التي عرض لها النديم في أشكاله الأدبية،
مثل
«سهرة الأنطاع» التي تعالج ظاهرة انتشار الحشيش، و«الفلاح والمُرابي» التي تصوِّر فلاحًا
جاهلًا، أراد أن يقترض مائة جنيه، فلم يجد سوى المرابي اليهودي الذي يحتمي بالامتيازات
الأجنبية لفرض شروطه المجحِفة في معاملاته مع أبناء البلاد. أعطاه المرابي سبعين جنيهًا،
وكتب عليها كمبيالة بمائة وعشرين، ثم بسَّط له المسألة، فالمائة فائدتها عشرون، تُخصَم
فيكون الباقي سبعين، وتضم الفائدة، فيكون عليه مائة وعشرون. ويقدِّم الفلاح للمُرابي
قطنًا
وقمحًا بمائة وخمسة وعشرين جنيهًا، يحسبها المرابي بأربعين، والفلاح لا يفهم من حساب
المرابي شيئًا:
– عاوز ميت جنيه بالفرط يا سيدي.
– فرط المائة عشرون كل سنة.
– اعمل اللي تعمله.
– شيل عشرين من مائة … تبقى كام؟
– هو أنا كاتب؟ … شوف يفضل كام.
– يبقى سبعين.
– يدوب كده.
– دلوقت صار لي مائة جنيه … ضم عليها عشرين واكتب الكمبيالة.
أما قصة «مجلس طبي لمصاب بالفرنجي» فهي محاولة بارعة لاستخدام الرمز في التعبير عن
مساوئ التدخل الأجنبي الذي أدَّى إليه بذخ إسماعيل وإسرافه. بطل القصة شاب، يصِفه الكاتب
بأنه سليم البنية، جميل الطلعة، يحوطه أهله بالرعاية والحنان، لكن دجالًا — يقصد النفوذ
الأجنبي — استطاع أن يقنع الأهل بتقواه وورعه، فانخدعوا به، وأمنوا له، فتركوا له الشاب
يطوف به في الأسواق والطرقات، وشغله بالغواني الحِسان اللائي أفلحن في إغواء الأهل
أيضًا، فزاد انصرافهم عن الفتى الجميل، ومن ثَم فقد وقع في الشرك الذي نصبه له الدجال،
ليصاب بالداء الإفرنجي — الزهري — وقبل أن يسلم به المرض إلى الموت، عرضه الأهل على
الأطباء الذين أشاروا بضرورة المحافظة من أن يصل إليه أجنبي غريب (في رواية أبو المعاطي
أبو النجا «العودة إلى المنفى» وصف أحدهم «مجلس طبي» بأنها كلام ثقيل الظل مثل كلام
نديم حين يكون جادًّا، فقال آخر: إنه تنديد بالحكومة وبالمراقبة الثنائية (١: ١٧٢)).
وعن النفوذ الأجنبي أيضًا، يكتب النديم لوحة بعنوان «الغريب في وطنه»: «تخيَّل نفسك
عائدًا إلى وطنك بعد غيبة سبع سنوات، وحين تصل إلى الإسكندرية سوف تجد قائد الميناء
بحارًا إنجليزيًّا، فإذا ما وصلت حقائبك إلى الجمرك فستجد مديرًا إنجليزيًّا، فإذا أردت
أن تسافر إلى القاهرة بالسكة الحديد فسوف تجد هذا المرفق يُدار بواسطة موظفين إنجليز
وهنود وفرنسيين، فإذا شئت أن ترسل تلغرافًا إلى أهلك تنبِّئهم بوصولك، فستجد المشرف على
التلغرافات موظفًا إنجليزيًّا أيضًا، وإذا شئت أن ترسل لأصدقائك خطابات تخبرهم بقدومك،
فستجد مصلحة البريد مرءوسة بموظفٍ سابقٍ في البريد الإنجليزي. أما إذا رغبت في أن تذهب
إلى الصعيد، فعليك أن تركب البواخر التي احتكرتها شركة إنجليزية، فإذا ما ذهبت إلى
الريف، فسوف تجد كثيرًا من الأهل والأصدقاء قد ضاعت أموالهم وأرضهم، وذهبت إلى أيدي
المرابين الإنجليز والإيطاليين واليونان. فإذا سألت لماذا بقي المواطنون على جهلهم،
أجابك واقع الحال أن الدَّين العام قد أتى على ميزانية الدولة فلم يبقَ منها شيء لبناء
المدارس أو لشق الترع. وأستطيع أن أستمر في ضرب الأمثلة، ولكني أعطيتك من الأسباب ما
يكفيك أيها المصري لتعرف أنك أجنبي في بلادك. فإذا كنت حقًّا تحب وطنك فيجب أن تؤيد
الحركة الوطنية التي قامت لتحصل لك على حقوقك كإنسان، ومن ثَم تحس أن وطنك ملك لك أنت.»
٣٤ وثمة لوحة بعنوان «الجنون فنون» يسخر فيها النديم من شعراء الربابة الذين
ملئُوا المقاهي وأماكن التجمعات الشعبية، يروون قصة عنترة بن شداد وحروبه الأسطورية ضد
الزغبي، فيصرفون اهتمامات الجماهير إلى أجواء تنبض بالخرافة والشجاعة الزائفة، وتدفعهم
إلى العراك فيما لا يجدي. وعلى الرغم من دعوة النديم المبكرة، فإن عهد شعراء الربابة
لم
ينقضِ إلا بعد انتشار الراديو في الثلاثينيات من هذا القرن. وكان المعلم كرشة واحدًا
من
الذين فضَّلوا الراديو على سماع الشاعر الشعبي في مقهاه الصغير بزقاق المدق. يقول
النديم: «جلس أحد المحتالين على قهوة، وأخذ يقرأ أكاذيب سمَّاها «قصة عنترة»، فاجتمع
عليه
عددٌ كبيرٌ من الرعاع والهمج والذين أولِعوا بسماع الأكاذيب والخرافات، فلما رآهم منصتين
إليه، أخذ يفتري عبارات ينسبها إلى عنترة، وكلمات يعزوها إلى «زغبة»، وقد انقسم القوم
فريقين، وكل فريق يدفع لهذا المحتال نقودًا ليؤيِّد مشربه، ويمتدح بمن يميل إليه،
والمحتال مجدٌّ في التخريف، متفنِّن في الكذب، حتى قرب الفجر، فقال: وبينما هم في قتالٍ
ونِزال، انكشف الغبار عن أسْر عنترة، وسنخلِّصه في الليلة المقبلة. فقال أحد السامعين:
لا
بد أن تخلِّصه الآن وخذ عشرة جنيهات. فأبى المحتال، وسكت عن الكلام، فشتمه السامع، وعلت
أصواتهما بالقبائح، وآل الأمر إلى الضرب والإهانة. ثم ذهب السامع، وقد تذكر أن عنده قصة
عنترة، ولكنه أمي لا يقرأ، فقصد إلى غرفة ولده، وأيقظه من النوم وهو يبكي، وقال له: يا
ولدي … أبوك رزئ بمصيبة عظيمة، فقال له ولده: هل مات أخي؟
– كان أهون.
– هل صدر عليك حكم بالليمان في قضيتك؟
– كان أهون.
– أسُرقَت نقودك؟
– كان أهون.
– فما الذي أصابك يا والدي؟
– يا ولدي … في هذه الليلة أخذوا عنترة أسيرًا، فهات كتاب عنترة وخلِّصه، وإلا قتلت
نفسي.
– مَن عنترة يا والدي؟ أتتكدَّر على حكاية مكذوبة، وقصة كلها تخريف؟ ما لنا وعنترة؟
إن هو إلا عبد أسود أخذ شهرة بما صنعه من الشعر، وقتل بعض الناس بلا حقٍّ، لِوَلوعه بالنهب.
فقال له الوالد: أنت تشتم عنترة يا ابن اﻟ …
ونزل عليه بعصاه حتى أسال دمه، وحلف عليه بالطلاق لا يبيت عنده ولا يعاشره، فخرج
الولد المسكين وهو يسبُّ الجهل وأهله، ويعجب من فساد أخلاق والده الذي أحدثه عدم التهذيب
حتى ألحقه بالبهائم، وسلخ عنه جلد الإنسانية. فقابله أحد جيرانه، وسأله عن حاله، فقصَّ
عليه قصته مع والده، فقال له: طالما قلت لأبيك فُضَّك من عنترة، وتعال معي اعمل زغبي،
فما
سمع كلامي، فضحك الولد من سخافة عقل الاثنين، وقال: لا شك أن الجنون فنون.»
٣٥
ومع أن النديم كان من مؤيدي الحجاب، فإنه دعا إلى تعليم البنات أمور الدين وشئون
الأسرة وأصول الحياة الزوجية والتدبير المنزلي.
•••
وإذا كنا قد حاولنا التوقف عند لوحات النديم القصصية، فإنه من المهم أن نقف كذلك عند
رواية علي مبارك «علم الدين».
لقد صدرت «علم الدين» في أربعة مجلدات، مقسَّمة إلى فصولٍ عددها ١٢٥ فصلًا، سمَّى
كل فصلٍ
منها «مسامرة»، وعدد صفحاتها ١٤٨٦ صفحة. هي أقرب إلى المقامة، تحمل الكثير من المعارف
والفنون واللغة والأديان وعلوم الطبيعة وعلوم الإنسان والبحار والتاريخ والجغرافيا
والهندسة … إلخ.
وفي تقديرنا أن هدف «علم الدين» لم يكن تقديم عمل روائي بالمعنى الفني للكلمة، ولا
حتى
مقامة تعتمد على الشخصية والحدث، وإنما كان هدفه تبسيط الكثير من المعلومات في قالبٍ
مشوق.
إنها أشبه بحوارية بين الشيخ المصري والمستشرق الإنجليزي، والمكان الذي تدور فيه
الحوارية هو فرنسا، وهي تنقسم إلى أجزاء سمَّاها مؤلفها «المسامرات»، مجموعها ١٢٥
مسامرة.
ويشير علي مبارك في تقديمه لعلم الدين، أنه رأى «النفوس كثيرًا ما تميل إلى السِّيَر
والقصص وملح الكلام، بخلاف الفنون البحتة والعلوم المحضة، فقد تعرض عنها في كثيرٍ من
الأحيان، لا سيما عند السآمة والملال من كثرة الاشتغال، وفي أوقات عدم خلو البال، فحداني
هذا — أيام نظارتي لدار المعارف — إلى عمل كتابٍ أضمنه كثيرًا من الفوائد في أسلوب حكاية
لطيفة، ينشط الناظر فيها إلى مطالعتها، ويرغب فيها رغبته فيما كان من هذا القبيل، فيجد
في طريقه تلك الفوائد، ينالها عفوًا بلا عناء، حرصًا على تعميم الفائدة، وبثِّ المنفعة.»
٣٦
قدِم الأستاذ الإنجليزي إلى مصر، والتقى شيخ الجامع الأزهر. حدَّثه عن عشقه للغة
العربية
وطلابها والمتعلقين بأهدابها، وطلب من أن يدلَّه على أستاذٍ من أفاضل العلماء المتبحرين
في تصحيح الكتاب، ويقرأ عليه بعض العلوم العربية، لقاء راتب معلوم يكفل له الحياة في
ظروف طيبة.
٣٧
زكَّى شيخ الأزهر الشيخ علم الدين، وأثنى عليه، وعرَّفه بأنه من «أكابر علماء الزمان
وأفاضله، وإن اللطف أخص خصائله، والبراعة بعض شمائله، والبلاغة طوع لسانه وأنامله،
والعلوم العربية نصب ناظره، والفنون الأدبية رهن خاطره، وإنه بين العلماء مرفوع
المكانة، معروف بالصدق والاستقامة والأمانة، لم يسمع فيه قدح قادح، ولا يبلغ ما فيه مدح
مادح. وقال للإنكليزي: استوصِ به لأجل خاطري، ولما يستحقه، وكل ما وصفته به سيظهر إن
شاء الله صدقه، وهلم ما تريد ليقرر ويضبط بالكتابة، ويحرر.»
٣٨
طاف الشيخ علم الدين وصديقه الإنجليزي في مصر، ثم طافا — بعد ذلك — في إنجلترا. ويصف
لنا علي مبارك، من خلال تلك الرحلة الطويلة، أبعاد الحياة المصرية، ثم أبعاد الحياة
الأوروبية. ثمة — في مصر — هيئة الاجتماع، المسرح، القهوة والشاي والحشيش، البورصة
والبنوك، القطن، العنب، الفلاحة، التعداد، الإحصاء، المستشفيات، الإسلام، التبغ،
الأحجار الكريمة … إلخ، تلك المعلومات التي لا رابط بينها سوى أنها تشكِّل — في مجموعها
— موسوعة معرفية للمعتقدات والعادات والتقاليد، يفيد منها الدارسون. وربما — لهذا السبب
—
ذهبت آراء إلى أن علي مبارك استعان في جمع مادة روائية بعددٍ من المعلمين، ثم صاغها في
قالب روائي بمعاونة عبد الله باشا فكري.
الرواية — بالإضافة إلى ذلك — محاولة للتعبير عن اللقاء الحضاري بين الشرق والغرب،
وتباين العادات والتقاليد ونمطية الحياة في كل عالمٍ منهما عن الآخر. درس الشيخ علم
الدين علوم الأزهر، لكنه تطلَّع إلى علومٍ ومعارف وحياة أخرى، وأتيح له أن يدرِّس العربية
لإنجليزي ما لبث أن بدأ في تعليمه لغته الإنجليزية، وطافا — في أثناء ذلك — بمدنٍ وقرى
مصرية، ثم استكملا طوافهما — بعد ذلك — في إنجلترا. ونتعرَّف — من خلال الرحلتَين، أو
الرحلة المتصلة — إلى معالم وتفصيلات وقيم وعادات وتقاليد وأنماط حياة، سواء في الريف
المصري، أو في المدينة الإنجليزية.
ولعلنا نجد في هذه الصورة ما يذكِّرنا برحلة الطهطاوي الباريسية: «فدخلنا ديوانًا
كبيرًا، فوجدنا الناس مجتمعين فيه من نساء ورجال، منهم من يتعاطى الدخان، ومنهم من يشرب
القهوة، وغير ذلك. وكانت النساء مختلطة بالرجال، في مسامرة، والبعض في تروض بالمشي،
فأحاط بنا أناس كثيرون، فما من أحدٍ إلا سأل عني، وعن بلدي، وسبب مجيئي، ونحو ذلك.»
٣٩
ولعله ينبغي الإشارة إلى أن علي مبارك — رغم جهوده الإصلاحية الهائلة — كان وزيرًا
للأشغال في وزارة شريف باشا التي أعقبت القضاء على الثورة، ولم يجد حرجًا في أن يجلس
—
ضمن الوزراء — مع الخديو توفيق وهو يستعرض جنود قوات الاحتلال في ميدان عابدين، وحرص
—
دومًا — على أن يصِم قادة الثورة بالغرور والطمع والتصلب والخروج عن الطاعة والتمادي
في
العصيان وعدم قبول النصح.
•••
لم تكن الحياة السياسية تسمح للمصريين بأن يؤدوا فيها دورًا حقيقيًّا، كان مجتمع
الشراكسة والأتراك والأوروبيين والمتمصرين. فلما سمح الخديو إسماعيل للمصريين بالمشاركة
— ولو صوريًّا — في الأحداث، مقابلًا لسطوة النفوذ الأجنبي الذي كاد يقوِّض سلطة الخديو
نفسه، فإنه حرص على أن تكون العناصر المصرية من طبقة الملاك في الريف، ومن التجار وكبار
الأعيان في المدن. أما سواد الشعب فقد كان هو السخرة والتجنيد والضرائب الباهظة والقهر
والمعاناة، وفي تلك الظروف البالغة التعقيد، حاول عبد الله النديم — الذي خرج من قاع
الحياة المصرية — أن يؤدي دورًا سياسيًّا — واجتماعيًّا — متميزًا، لصالح مصر بعامة،
ولصالح الطبقات الكادحة على وجه الخصوص.
إن المصري ميَّال إلى الفكاهة بطبعه، حتى أصعب المواقف وأقساها، يواجهها بالنكتة.
والمصري يلجأ إلى استخدام الأمثال التي توضح فكرته وتقرِّبها. والمصري يفضِّل سماع الموعظة
في قالبٍ مشوقٍ بدلًا من أن تكون تقريرية ومباشرة. والمصري حسَّاس، ذوَّاقة، يفهمها «وهيه
طايره» … ذلك بعض ما تعلَّمه النديم في حياته الخصبة وسط الجماهير المصرية، وقد حرص الرجل
— في كل خطوات حياته التالية — أن يَستفيد، ويُفيد، مما تعلَّم.
لقد اتفقت الأقلام المؤرخة على القول إن لطفي السيد كان أول زعيم مصري رفع شعار «مصر
للمصريين»، وهو خطأ تاريخي شمل الكثيرين، وكاتب هذه السطور واحد منهم، فقد أشرت في
الطبعة الأولى من هذا الكتاب إلى أن لطفي السيد هو أول من حمل لواء دعوة «مصر للمصريين»،
ثم تبعه الآخرون. وكانت دعوة «مصر للمصريين» — في الحقيقة — هي النداء الذي بحَّ به صوت
عبد الله النديم، وهي الرسالة التي ناضل من أجلها، وسُجِن، ونُفي، وعاش حياة تقرب من
الأسطورة. وإذا كان النديم قد خاض معاركه ضد الأوتوقراطية الخديوية والنفوذ الأوروبي،
فإنه حرص — في أكثر من مناسبة — على إعلان رفضه لنفوذ الأتراك، وعدم ثقته حتى فيما قد
يعلنونه من نيَّات طيبة. ولما جاء درويش باشا مبعوث الآستانة، لم يخفِ النديم كراهيته
له،
وتساءل: هل جاء الرجل للقضاء على عرابي، أم للقضاء على توفيق؟
كان شعار النديم «مصر للمصريين» يعني التبعية للشعب المصري وحده، وللملايين من سكان
قرى الريف وأزقة المدن على وجه التحديد. كتب: «فأي مانع يمنع المصريين من المطالبة
بحقوقهم بالتظاهرات الأدبية. أصِرنا أقل درجة من فعلة الإنجليز والغزالين الذين تعصَّبوا
لحقوقهم، وأذهلوا العالم بأفعالهم؟ فيا بني مصر، لم تبقَ قطعة من الأرض إلا والجرائد
تنقل لكم أخبارها، وتريكم أعمالها، في طلب استقلالها، ليعد المسلم منكم إلى أخيه المسلم
تأليفًا للعصبة الدينية، وليكن المجموع رجلًا واحدًا يسعى خلف شيء واحد هو حفظ مصر للمصريين.»
٤٠ ولعلَّه يمكن القول إن عبد الله النديم كان الأسبق في مقولة «الدين لله
والوطن للجميع» سبق تلقفها، وجعلها شعارًا لثورة ١٩١٩م.
واللافت أن فكرة العروبة لم تكن تتناقض مع اعتزازه بمصريَّته، أشاد بالتاريخ المصري
القديم نفس إشادته بالتاريخ العربي، وبفضل العرب على الحضارة الإنسانية. كتب على لسان
أوروبي مهتم بأحوال العرب: «إن للعرب فضلًا على سائر المسكونة، بما فتحوه من باب الرحلة
والسياحة أيام كانت كل أمة لا تتجاوز حدودها، ولا تعرف غير أهلها، ومن العجائب أنهم
بثُّوا التمدُّن في الوجود أيام تملُّكهم على الأقطار … ووددت أني أُنسَب إليها، وينسلخ
عني
عنوان أوروباوي.» ويقول على لسان أحد النبهاء: «أظنك مغرمًا بأشعار العرب لتقف على
أحوالهم ووقائعهم الشهيرة، والأمانة التي امتازوا بها، والعزة التي بها يُعرَفون، والكرم
الذي به يُمدَحون، والوفاء الذي به يمتازون، والحكمة التي بها يُولَدون، والبلاغة المقصورة
عليهم.» وقد خلط النديم – أحيانًا — بين مصر والعروبة، حتى إنه اعتبرهما شيئًا واحدًا،
فاللغة — في تقديره — هي الوطن إن لم يُعرف ما الوطن. اللغة هي عنوان الأمة، ومن سلِم
في
لغته سلِم في وطنه ونفسه، وإضاعة اللغة إضاعة للذات، واستقلال الأمة موقوف على حفظ لغتها.
٤١
كان تلاشي جمعية مصر الفتاة — وكان معظم أعضائها من العناصر المشبوهة! — بعض إسهامات
النديم في الحياة الوطنية، فهو قد انضم إليها فترة، ثم بدأ في إقناع العناصر التي يتوسَّم
فيها إخلاصًا، بالانفصال عنها، حتى غادرها عددٌ كبيرٌ من الأعضاء، أصبحوا نواة الجمعية
الخيرية الإسلامية التي أنشأها النديم وأولاها كل جهده. وكان النديم كذلك هو صاحب فكرة
«الجمعية القبطية الخيرية»، فقد دعا الأقباط إلى إنشاء جمعية مشابهة للجمعية الخيرية
الإسلامية التي كوَّنها من فقراء المسلمين، على حد تعبيره. بل لقد دعا النديم الرقيق
المحرِّرين من السودانيين في مصر، لأن يكوِّنوا جمعية باسم «جمعية الأحرار السودانيين»،
وتكوَّنت الجمعية بالفعل، واتخذ الأعضاء عبد الله النديم راعيًا لها.
٤٢
•••
من الصعب القول إن الأفغاني كان له الأثر الكبير في تكوين النديم الثوري، بعد أن
انخرط النديم في سلك تلامذته، فتشبَّع بمبادئ الوطنية، وتشرَّب مبادئ الحرية، مما جعله
مهيَّئًا للمشاركة في العمل السياسي قبيل قيام الثورة العرابية. لقد اختلف النديم مع
الأفغاني في مواقف وآراء كثيرة، مثل تفضيله للوطنية المصرية بديلًا للولاء المطلق لدولة
الخلافة العثمانية، ومناداته بالجامعة الشرقية بديلًا للجامعة الإسلامية، باعتبار أن
الاستعمار يتهدد كل دول الشرق، بغض النظر عن دياناتها.
وكما أشرنا، فقد دعا النديم في «التنكيت والتبكيت» إلى التمسك باللغة العربية، فهي
الوطن و«إضاعة اللغة تسليم للذات.» وكان النديم — ١٨٩٣م — من أول الداعين إلى إنشاء
مجمع للمحافظة على اللغة العربية، والقضاء على الفوضى التي ترتبت على دخول الكثير من
المفردات والتعبيرات الأجنبية فيها. وأكد النديم في «الأستاذ» أنه «ما نجحت ثورة
تجرَّدت جماهيرها من المعارف، وبعدت عن المصانع، والتفنن في الآلات.» ولعل أهم ما أسهم
به النديم في أحداث الثورة، إقدامه على جمع التوقيعات من المواطنين في امتداد المدن
والقرى المصرية — حتى يكون عرابي وكيلًا للأمة، ومتحدثًا باسمها — وكان لذلك تأثيره في
تأكيد الثورة. كانت هي الجدار الذي استند إليه عرابي في وقفته أمام الخديو والقناصل
الأجانب في التاسع من سبتمبر ١٨٨١م، كممثِّل للشعب المصري، ينطق باسمه، ويعبِّر عن إرادته.
وسافر إلى الإسكندرية — قبيل وصول الوفد التركي برئاسة درويش باشا إلى الإسكندرية؛
فحرض الجماهير ضد المذكرة المشتركة والسفن الأجنبية، وخرجت المظاهرات تهتف: اللايحة …
اللايحة … مرفوضة … مرفوضة.
•••
وإذا كانت «العودة إلى المنفى» تتناول — في الدرجة الأولى — حياة عبد الله النديم،
وتأثره بالأحداث من حوله، وتأثيره فيها، وإسهامه الإيجابي في صنع خريطة الحياة المصرية
خلال ما يقرب من خمسين عامًا، فإن الرواية تضغط على البعد الاجتماعي في حياة النديم،
والتأثيرات اللامحدودة التي حققتها أفكار النديم ومواقفه في المجتمع المصري منذ الثلث
الأخير من القرن الماضي. ولعل بداية إحساس عبد الله النديم بالواقع الطبقي، عندما كان
يذهب — وهو صبي بعد — إلى قصر الشواربي الفاخر.
٤٣ إن النديم، الصبي، يناقش — في داخله — الفارق بين قصر الشواربي وما يضمُّه من
حشايا وأرائك ومناضد ومفارش حريرية مطرَّزة وألوان من الشراب لم يُتَح له رؤيتها أو تذوقها
قبلًا، وبين حياته الفقيرة في بيتٍ متهالكٍ يغيب في حارات المنشية المظلمة. وكان لا بد
أن
تترك الحياة المزدوجة تأثيرها المباشر في نفسية النديم «لقد أطلعته — في وقتٍ واحدٍ —
على
أجمل وأسوأ ما تنطوي عليه: الثراء والإعجاب في بيوت الكبار والأعيان، والجوع والمهانة
حين تلفظه تلك البيوت بنفس السهولة واليسر اللذين استقبلته بهما. وفي أقل من عامين كان
قد جاب القطر من أقصى الدلتا إلى الصعيد، وعاد ليقول: لا بد أن يجد الإنسان عملًا
دائمًا، عملًا يحتاج إليه كما يحتاج هو إلى العمل.»
٤٤ لقد عاش النديم — في بداية حياته — في قصر الخديو، ثم ما لبث أن طُرِد من
القصر، بعد أن ضُرب بالسياط، وكانت الأسباب عديدة، في مقدمتها أنه لم يكن يجيد التحدث
إلى ذوي المكانة الأرفع. وأقام النديم — لفترة باكرة في شبابه — في قرية بدواي، وكان
حريصًا على أن يخترق الأسوار الحجرية والبشرية، وأن يقترب من الناس، في المسجد، وفي
الحقول، وعلى المصاطب؛ فهو يرتدي جلبابًا، ويسأل في الحياة العامة والخاصة، ويتودَّد
للصغار والكبار، ويجتهد ما أمكن أن يزيل الشك الذي يواجِه به أبناء القرية كلَّ الغرباء،
وأصدقاء العمدة على وجه الخصوص.
٤٥ وأفادت أعوام السؤال والحوار الدائب، ومحاولة التعرف إلى حقيقة كل الأشياء،
أفادت عبد الله النديم في إدراكه أن «إصلاح بلدٍ أو دين أو أمة لا يمكن أن يكون مهمة
فردٍ
أو جيل، أو أنه لا يبدأ مجرد بداءة إلا حين يتحوَّل إلى عملٍ منظمٍ ومحدد. إن أعظم ما
قدمته
له الأعوام الماضية أنها نفت — إلى غير رجعة — الأوهام الغامضة والمُنى اللامحدودة.»
٤٦ وكان ذلك الإيمان هو الدافع لأن يخاطب أعضاء جمعية مصر الفتاة — تلك
الجمعية التي كان نشاطها يتَّسم بسرية خالصة — بقوله: «الشيء الوحيد الذي تعلَّمته في
الريف
والمدن وفي كل مكان، أن عشرات السنين، وربما مئاتها، تفصل بين أمثالكم وبين الشعب، وأي
عمل يستهدف تقريب هذه الهُوة، هو العمل الوحيد الذي لا أشك في جدواه.»
٤٧ وبدأ النديم — على الفور — في تأليف جمعيته الخيرية التي تحرص على علانية
نشاطها، ويشارك فيها أكبر عدد من الناس، وتشارك هي في صنع واقعٍ أسعد لأكبر عددٍ من
الناس. وفي الثامن عشر من أبريل ١٨٧٩م أعلن تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية، التي ضمَّت
إليها مجموعة طيبة من التجار والمثقفين والعلماء. وكانت كلمات النديم إلى تلك المجموعة:
«إذا كنتم تريدون شيئًا، فلا تنتظروه من أحدٍ غير أنفسكم، وإذا كان كل فرد يبدو وحده
عاجزًا عجزًا حقيقيًّا، فإن تجمُّع هؤلاء العاجزين والحالمين — في نفس الوقت — بقوة لا
يملكونها، هذا التجمُّع وحده هو مصدر قوتهم، وهي قوة يمكن أن تُترجَم إلى أي شيء، إلى
جمعيات خيرية، وإلى مدارس، وإلى صحف، ونجاح مشروع واحد معناه أنه من الممكن أن يتكرر.
وإذ ذاك لن تستطيع أية قوة أن تحُول بين الناس وبين تكرار هذه المشروعات في كل المدن
والبلاد، أية قوة تمنع هذه الجرثومة أن تنتشر وتمتد، وأن تُترجَم إلى كافة الصور والأشكال
التي تقوم على التجمُّع.»
٤٨ كانت فكرة النديم أن يضع صغار الموظفين والتجار والحرفيين — بقروشهم —
أساسًا اقتصاديًّا للتعليم والصناعة والتجارة، ذلك لأن الحكومة ستظل مشغولة لسنين طويلة
بمشكلة الديون.
٤٩ ولما افتتح النديم مدرسته الأولى، كتب يقول: «فافتتحنا هذه المدرسة للفقراء
الذين أحصروا في سبيل الله، لا يستطيعون ضربًا في الأرض، ولعلاقة النوع جعلناها حرة
مطلَقة لمن يتعلَّمون، فإذا اجتمع تلميذ بآخر مع اختلاف ما يعبدون، قال إني أنا أخوك
فلا
تبتئس بما كانوا يفعلون، فقد أطلقت المعارف من قيد قوم على مظهرهم حذرين، رأَوا أن
الفقراء لا يستحقون دخول روضة علمهم المكين، فانطلقوا وهم يتخافتون، ألا يدخلنها اليوم
عليكم مسكين.»
٥٠ وأقنع النديم أحد الأطباء بأن يتطوَّع لعلاج التلاميذ مجانًا، وأقنع بعض
الأغنياء بأن يتبرعوا بنواة صندوق مفتوح لتدبير كسوة للتلاميذ وطعام لهم.
٥١ وطاف النديم بالمدن والقرى، يدعو إلى إنشاء الجمعيات التعاونية الخيرية،
وتألَّفت — بالفعل — جمعيات في دمنهور وميت غمر ودمياط والمنصورة وشبراخيت وغيرها من
مدن
وقرى مصر «وقويت هذه العصابة، وتعدَّدت محافل الخطابة، وانتشرت الدعوة في البِقاع، حتى
ملأت القلوب والأسماع، وانفتح باب الجمعيات، ودخلها الناس أفواجًا وزرافات.»
«كان يمضي في طريقه، لم يعُد يبالي بشيء، ففي كل مكان، وبين جميع الطبقات، كان يكسب
أنصارًا وأعداء، ولم يقف مرة واحدة ليَعُدَّ هؤلاء وهؤلاء، أو يحسب حساب الربح والخسارة.
أدرك أن هذا عمله وقدره، وحيث كان يذهب كانت الموجة التي أصبحت تتحرك بحركته، تقلب
المدينة أو القرية، فتطفو على السطح آلاف الوجوه المتعبة والشاحبة، تنفلت مرة واحدة من
القبضة التي تطحنها كل يومٍ لتنظر إلى رجلٍ نحيل مرهق عالي الصوت، ذقنه لم تُحلَق منذ
أيام،
وعيناه متعطشتان إلى النوم، وجفونه مقرَّحة، ووجهه شاحب، ولكنه لا يكاد يبدأ في إلقاء
خُطبته حتى تدبَّ فيه روح عاتية، لا تلبث أن تدب فيهم. إنه يوقظ في أعماق كلٍّ منهم حلمًا
واقعيًّا غريبًا يستطيع كلٌّ منهم أن يحلمه، وأن يحققه، وإنه ليطلب من كلٍّ منهم تضحية
صغيرة، تبدو سهلة وعذبة وهو ينطق بها في فورة الحماس، قرش من هنا وقرش من هناك، وتتجمَّع
القروش لتصبح مدرسة أو مشغلًا أو شيئًا يجعل الحياة أفضل، وكلمة السر في هذا أن نفعله
كلنا معًا. إن توفير القرش ليس معجزة أو لغزًا، إننا ننفثه في الهواء مع الدخان، ونغيب
به عن الوعي مع أنفاس الجوزة أو الخمر، ونسهر به في المقهى، ونملك به صحتنا، فلِمَ لا
نفعل به شيئًا أفضل؟»
٥٢ وبدأ الرجل يصطدم بتصرفات رجال الإدارة وسوء نيَّاتهم، فهداه تفكيره إلى
اللجوء لرئيس الوزراء نفسه يطلب عونه «وأخذت أنتقل في البلاد تنقُّل السائح، وأخطب أهلها
بالشارد والسائح، ومع هذه الشهرة وانتشار الأفكار الحرة، كنت أجد في أغلب الطباع جبنًا،
وعند الأمراء والوجهاء غبنًا، فاحتلت لميل ضميرهم بجذب وزيرهم، واجتمعت برياض باشا في
أوتيل أوروبا بالإسكندرية، وعرضتُ عليه آثار الجمعية، فأُعجب بهذا الأثر، ومدحني وشكر،
ومدَّ للمشاركة يدَيه، وتبرع بخمسة وعشرين من الجنيه، وملأت الجرائد بذكره، ومدحه وشكره،
فتقاطرت عليَّ الناس من كل رفيع وسافل، وامتلأت بهم المخاطب والمحافل، ثم قدَّمت إليه
قانون
الجمعية، ليقرر بأوامر رسمية، فقرر باتحادٍ زائد، ونشره في الجريدة الرسمية وباقي
الجرائد. ثم قدمت طلبًا بمساعدة ديوان المدارس لمدارس الجمعية، فحسن هذا الطلب لديه،
وقرر لها في كل سنة مائتي جنيه، فزالت طباع الجبن المذمومة؛ إذ صارت الجمعية فرعًا من
الحكومة.»
٥٣ لكن أسلوب المهادنة لم يفلح طويلًا «فقد أوجس رياض خيفة مني، بما بلغه من
أحد الذوات عني، فعزم على فضِّ الجمعية، وتشتيت العصبية، ووسوس إلى بعض الذوات من
الأعضاء، وجعلهم لي أعداء، يعارضونني في كل موضوع، ويتظاهرون عليَّ بغير المشروع، لأضيق
برجال أنسي، وأترك الجمعية نفسي.»
٥٤ وأدرك النديم أن رياض يعد لضربه، بإقالته من الجمعية، أو بحل الجمعية
ذاتها، فاتجه إلى مجال آخر، وحصل على إذن بإصدار جريدة هي «التنكيت والتبكيت». كان
إقدامه على إصدار الجريدة مبعثه التخوف من أن تنجح المساعي التي كان يبذلها بعض الأعيان
لإبعاده عن الجمعية. فهو قد اجتمع برياض في مصر «وقد أضمر لي الأضرَّ، فنافقته ونافقني،
وجاذبته الحديث فوافقني، حتى أخذت منه إذنًا بجريدة التنكيت، وما أردت إلا التبكيت،
وقصدت أن تكون لساني إذا تركت الجمعية، ليكون لي في كل بلدٍ محافل خطابية.»
٥٥
كانت الصحافة إذن هي الوسيلة الإعلامية اليومية المتاحة أمام النديم. وكان العائق
الذي تواجهه هذه الوسيلة هو الأمية المنتشرة، فضلًا عن تخلف الوعي بعامة. لم يكن عدد
الذين يجيدون القراءة في مصر يزيد عن بضعة آلاف … فما معنى إصدار مجلة لهذا العدد
المحدود قياسًا إلى ملايين المصريين؟ هذه هي المشكلة كما يقول النديم، وكان يفكر في
صحيفة يستطيع أي شخص أن يجلس في دائرة صغيرة أو كبيرة، ويقرأ بصوت مرتفع، فلا تنفض
الدائرة قبل أن ينتهي من القراءة. وكان يفكر في كتابة شيء يستهوي الدائرة، شيء يستطيع
كل فرد في الدائرة أن يحكيه في بيته، ولأصدقائه، دون أن ينسى جزءًا منه، شيء يمكن أن
يضحكهم قليلًا فلا يلومونه لأنه أضاع وقته في الدائرة، بل يلومونه لو أنه نسي مكانه
فيها، شيء يحمل للناس ما يود أن يقوله، وما ينبغي أن يسمعوه.
٥٦ وضع النديم تصورًا أن الصحيفة سيقرأها متعلم، ليستمع إليها عشرات الأميين،
وأن الكلمات التي يفهمها المتعلم من الجريدة بحكم تعلمه، ووعيه النسبي بالتالي، ربما
لا
يفهمها سواه من غير المتعلمين «واضطر من لا يعرف القراءة إلى مصاحبة من يعرف القليل
منها، فكنت تراهم في الشوارع جماعات، وبينهم الرجل أو الصبي يقرأ عليهم، أو يقف صبي في
حانوت وبيده صحيفة، وأمام الحانوت حلق محدقون بالصبي وهو يقرأ.» وارتكازًا إلى هذا
التصور الصحيح، تعمَّد النديم — الأستاذ الصحفي — أن تكون أدواته منوَّعة لتصل إلى كل
المستويات؛ فهو يكتب بأسلوبٍ ضمني مباشر حينًا، وبأسلوبٍ مسجوع حينًا آخر، وهو يكتب
الفكاهة والقصة والحوار والمعلومات الطريفة والمفيدة.
كان البعد الاجتماعي واضحًا ومحددًا فيما كتبه النديم في «التنكيت والتبكيت». فإلى
جانب الفكاهة والنادرة، كان الناس يقرءون هذه الكلمات: «أليس الرجل منكم كالرجل منا؟
فما بالكم لا ترضون بثلاثين صنفًا من الطعام، ونرضى بالخبز والملح، ولا تقنعون بالألوف،
ونقنع بالقرش الواحد؟ أخُلِقتم من الذهب وخُلقنا من التراب، أم وُلدتم قابضين على أزمة
الدنيا، ووُلِدنا عبيدًا لكم؟ أم نزلتم من السماء ونزلنا من بطون الأمهات؟ ألا ترون أنكم
تُعَدون بالأصابع والفقراء هم الأمة؟»
٥٧ وكانوا يقرءون مثل هذه الأبيات: أهل البنوك والأطيان … صاروا على الأعيان
أعيان … وابن البلد ماشي عريان … ممعاه ولا حق الدخان … شرم برم حالي غلبان … يا ما
نصحتك يا بنجر … وقلت لك إوعى بعجر … فضلت تسكر وتفنجر … لما صبح بيتك خربان … شرم برم
حالي غلبان.»
٥٨ ودعا النديم إلى تنظيم مهنة المحاماة، وتشجيع الصناعات الوطنية، وإنشاء
الشركات الصناعية المساهمة، وبعض المظاهر السيئة من المدنية الغربية، ودعا إلى تكوين
الجمعيات التعاونية، وأسهم في تنفيذ دعوته بالفعل، وأعلن الحرب على الرق، وطالب بتحقيق
العدالة الاجتماعية، وحذَّر من السيطرة الأجنبية. لم تصدر الصحيفة إذن عن نوازع تهريجية
في نفس صاحبها، لكنها صدرت عن إيمان يقيني بحتمية اتساع القاعدة التي تعرف، وتناقش،
وتحلل، وتبني مواقفها على أسس موضوعية متفهمة. وكما يقول الفنان على لسان النديم:
«أريدها مكانًا يلتقي فيه الكُتاب والقراء جميعًا. أريدها جمعية خيرية كبيرة تتسع للشعب
كله، ويصبح لها فرع في كل بيت.»
٥٩ مع ذلك، فإن النظرة الوقور التي تكتفي بالمستوى الأفقي حتى تعلن رفضها،
أصرَّت أن النديم لم يجاوز صفته كمهرج، حتى الصحافة جعل منها أداة تهريج. ولا يخلو من
دلالة قول النديم في العدد الأول من «الطائف» التي أصدرها إبان اشتعال الثورة: «إن زمن
التنكيت والتبكيت قد انقضى، وإن على الأمة أن تواجه مشكلاتها بالفكر والرأي.» الرجل —
في أستاذية متفوقة — يهمُّه — في الدرجة الأولى — أن يصل إلى قارئه في الظرف النفسي
المناسب، وليس اللجوء إلى المُثُل والفكاهة والنادرة إلا توخيًا للوصول إلى وجدان
الجماهير في ظرف ما. فإذا تغيَّر الظرف، غيَّر الرجل أسلوبه بالتالي، لأن «التهريج» —
وأصارحك بأني أكره أن أسمي ما كان يفعله النديم بهذه الصفة! — التهريج وسيلة للوصول إلى
الهدف المنشود، فإذا تبدَّت الحاجة إلى تغيير الوسيلة، غيَّرها الرجل حالًا، فلم يكن
«التهريج» تكوينًا في طبع الرجل بقدر ما كان وسيلة «مصري» لجأ إليها لاستمالة وجدان
قرائه ومستمعيه، والتأثير فيهم. فإذا انتفت الحاجة إلى التهريج — لتغيُّر الظرف القائم
—
بادر النديم بمصارحة قارئه ومستمِعه أن الجدية — وحدها — هي المطلوبة.
•••
كان الناس ينتظرون الثورة، ويعدُّون أنفسهم للمشاركة فيها. ثم قامت الثورة، فتقلصت
حماسة الناس اقتناعًا بأن كل الحقوق المغتصَبة لا بد أن تعود إلى أصحابها، ويكتب الإمام
مقالًا عن «القوة والقانون» يندد فيه بحركة الضباط، ويجد فيها هتكًا لحرمة القانون،
فليس من حقهم أن يطالبوا بعزل ناظر الحربية. ويسأل النديم الإمام: وهل من حق هذا الناظر
أن يقرر قوانين جائرة؟
– وهل تقاوم الخطأ بخطأ أكبر؟ من حقهم أن يتظلموا من القوانين لا أن يطالبوا بعزل
ناظر الحربية.
– يتظلمون لمن؟! للناظر الذي وضع القانون، أم لمجلس النظار الذي أقرَّه، أم لمجلس
النواب الذي لا وجود له. أنت تتكلم كما لو كنت تجهل كل الظروف والملابسات، كما لو كنت
تجهل حقيقة الأتراك القذرين هؤلاء.
٦٠ ويقول النديم في أسًى: لقد أصبحت حادثة الضباط كسفينة سيدنا نوح، كل واحد
يريد أن يضع فيها ما يسعى لإنقاذه،
٦١ بل إن النديم — ذات لحظة — لعن في سرِّه أولئك الضباط الحمقى الذين لم تنجح
ثورتهم إلا في تعقيد مجموعة هائلة من الخيوط، لم يكن ينقصها التعقيد أصلًا.
٦٢ ثم علا صوت الثورة، وعمق، وتأكدت العلاقة بين النديم والعسكريين، عندما أعدَّ
رياض قرارًا بنفي النديم، وعرضه على الخديو. وكان هناك علي فهمي قائد الحرس الخديوي،
فتصدى لرياض قائلًا: إن نديمًا منا معشر العسكريين، وإن لم يحمل سلاح العسكرية، ولئن
أخذتموه بغتة من البلاد، حافظنا عليه بالأرواح والأجناد. وسحب رياض — بالرغم منه —
قراره، وسافر علي فهمي إلى النديم في ميت غمر، حيث كان يواصل جولاته، وأخبره بما حدث،
وعرض عليه أن ينضم إلى العسكريين بصورة علنية، ثائرًا ينضم إلى ثوار، سعيًا وراء أهداف
واحدة، محددة. ولم يطلب النديم حتى في تردد أنفاسه فرصة للتفكير. لقد كان ذلك ما يطلبه
بالفعل «وأعلنت حب العسكر والتعويل عليهم، وناديت بانضمام الجموع إليهم، وأوغلت في
البلاد وندَّدت بالاستبداد، وتوسعت في الكلام، وبيَّنت مثالب الحكام الظلام، لا أعرِّفهم
إلا
بالجهلة الأسافل، ولا أبالي بهم وهم ملء المحافل.»
٦٣ وأصبح النديم واحدًا من أهم قادة الثورة، بل كان القائد الوحيد الذي يعنى
بالجانب الاجتماعي — أهم الجوانب – منها. ولا تخلو من دلالة تلك اللوحة التي أجاد
الفنان رسمها: عرابي يستقبل وفد الأعيان الذين تسد عرباتهم الطريق أمام بيته، لا تكاد
تنتهي اجتماعاتهم به، بينما النديم مشغول بلقاءات متصلة مع الوفود الشعبية «رسائل
وشكاوى وضراعات تحكي ما لم ينسه بعد، وما لو قرأه الأعيان في الحجرة المجاورة لأذهلتهم
المفارقة التي كانت تصيب النديم وحده بالذهول.»
٦٤ وحين تراجع عرابي أمام منطق الأعيان في أن يقتصر حق الانتخاب على العُمَد
والمشايخ، قال له النديم: ولكن مثل هذه الانتخابات التي يغيب عنها الشعب، لن تقدم
للمجلس غير هذه الحفنة من الأعيان.
– أعرف، ولهذا فلن يهتموا بمعارضة اللائحة القديمة، وتشدُّدنا في رفضها قد يدفعهم
إلى
أحضان شريف.
– ليذهبوا جميعًا إلى جهنم.
– أيها المندفع … لا بد من اصطناعهم، فهم القوة والثروة، وهم يعطون الثورة وجهها
الشعبي.
– والشعب كله … ألا يعطي شيئًا؟
٦٥
ويتبدى عدم اقتناع النديم بما قاله عرابي في مقالة هاجم فيها — بقسوة — طبقة العُمَد
والأعيان. وحين أراد عرابي أن يناقشه، تساءل في دهشة: هل من الخطأ أن أدعو إلى ضرورة
تكوين المجلس من فئات تمثِّل طبقات الشعب؟ هل يصلح الأعيان وحدهم لتمثيل شعب مصر.»
٦٦ وكان أهم ما يؤرق النديم طيلة شهور خمسة، بعد قيام الثورة، أنها — أي
الثورة — لا تزال تعاني مشكلات وجودها ومعناها واستمرارها. ورغم أن التأييد الشعبي كان
غلابًا، فإن هذا التأييد ظل «سجينًا في آلاف الرسائل والعرائض والشكاوى، أو مبدَّدًا
في
الهتاف والمناقشات والضجيج.»
٦٧ وتساءل النديم: كيف يتجسَّد هذا التأييد بحيث يصبح شكلًا أو نظامًا يدعم الثورة؟
٦٨ وشعر الرجل بمرارة؛ فمنذ بدأت الثورة، منذ شغلته، وشغلت الناس بمشكلات
وجودها، وهو يشعر أنه يبتعد عن عالمه، عالم الفقراء، أو دون أن ينجح في أن يجعل الثورة
تقترب من عالمهم.
٦٩ وكان يقول لنفسه: من أنت يا نديم؟ وما الذي تفعله هنا بين هؤلاء السادة؟ لِم
لا تعود لتعلِّم صبيتك في المدارس، وتشترك معهم في تمثيل رواية أفضل؟
٧٠ كان الهدف الأول للنديم أن يصل بروح المقاومة إلى ذروتها، وأن يحرك في
الجماهير أقصى مشاعر النضال، فهو يخطب في كل مكان، في الأندية، وفي الأماكن العامة، وفي
المساجد. حتى حفلات الزواج كان يقتحمها النديم، ويُقصي المطربين عن المنصة فيخطب بدلًا
منهم. وأحيانًا، كان يصحب معه بعض تلاميذ المدارس، فيدفع بأحدهم إلى الجماهير ليخطب.
وذات مرة، قدَّم النديم الطالب فتحي زغلول، وبعد أن أنهى الطالب خُطبته، أمسك النديم
بساعده، وقال: ألا تعجبون لما أبداه هذا التلميذ في خُطبته من العلم والبيان والتفنن
في
المواضيع، مع أن جلادستون خطيب إنجلترا لا يتناول إلا موضوعًا واحدًا في خُطبته. ومرة
ثانية، عقَّب على خُطبة للطالب مصطفى ماهر بقوله: أشهدكم — أيها الناس — أن أمة يكون
هذا
مقدار استعداد التلميذ فيها، لا يغلبها أحد على أمرها.
٧١ وكان من بين ما أقدم عليه النديم، ليصل صوت الثورة إلى أبعد وأصغر قرية،
أنه قام بتحرير خُطبة الجمعة كل أسبوع، وطبع منها آلاف النسخ، ووُزِّعت على مساجد القطر،
ومن ثَم وصل صوت الثورة إلى كل مكان، وهل تخلو أية قرية مصرية من مسجد أو زاوية؟
٧٢ وفي خُطب الثورة، لم يكن النديم يكتفي بدعوة المواطنين إلى مناصرة الثورة،
لكنه كان ينادي بتوسيع دائرة الصناعة، والأخذ بيد الفلاح، ويحثُّ الأغنياء على البذل
ليتحقق للثورة بُعدها الاجتماعي. بل إن البُعد الاجتماعي لم يتغير في كتابات النديم،
بعد
سنوات من القضاء على الثورة العرابية، والمعاناة في الفرار من وجه السُّلطة، فالنفي إلى
يافا، فالعودة إلى القاهرة، فالنفي مرة ثانية، حتى مات.
•••
تبقى حقيقة هامة، هي أن الفنان يقدم لنا النديم فنانًا شغلته مشكلات مجتمعه، مقابلًا
— شبه متفرد — لغلبة صفة السياسي والثائر في معظم الكتابات التي أرَّخت لحياة النديم،
مع
أن الفن كان إحدى الأدوات التي حاول النديم — من خلالها — أن يصل بفكره وآرائه إلى
الناس. كان ثائرًا يحرص على الوصول إلى وجدان الناس بكل الوسائل والسُّبل، ومن بينها
هذه
الأشكال الأدبية التي تُعَد إرهاصًا حقيقيًّا بنشأة القصة المصرية. وإذا لم يكن النديم
—
في تقدير العقاد — يمثِّل قدوة مختارة، فإنه كان — في تقدير العقاد أيضًا — أستاذ مدرسة
في الصحافة والدعوة الوطنية، وكان كل من نشأ بعده بقليل، واحدًا من اثنين: إما تلميذ
يقتدي به، وإما خصم يبغضه وينحي عليه.
٧٣ ويضيف العقاد بأن «هذا الصحفي المطبوع أستاذ زمانه، بل لعله أستاذ من
أساتذة العناوين في كل زمان.»
٧٤ ولأن النديم كان يصدر في كل خطواته عن رسالة يشغله الحفاظ عليها، ونشرها،
فقد وافق على أن يكتب في جريدتَي «مصر» و«التجارة»، بل لقد ضنَّ عليه صاحبا الجريدتين
حتى
بذكر اسمه في ذيل مقالاته، وكثيرًا ما كانا ينسبانها لنفسيهما، لكن النديم لم يشغله ذلك
كله، فقد كانت «الكلمة» هي القضية التي لا يعنيه سواها، وقد ذكر «الميثاق» (كتاب للعمل
الوطني أصدره جمال عبد الناصر في أوائل ستينيات القرن العشرين) أحمد عرابي وبعض قادة
الثورة العرابية، وأغفل النديم الذي يُعَد أكثر رفاقه ثورية، فقد كان التحامه بالجماهير
من قبل أن تختمر الثورة في رءوس قادتها، وانضم إلى تلاميذ الأفغاني، وشارك في تنظيم
«مصر الفتاة» السري، لكنه ما لبث أن ضاق بكل شيء، وطالب باللجوء إلى الجماهير بدلًا من
النشاط المغلق داخل محافل الماسونية. ولما سُحقت الثورة، قرر عرابي ورفاقه التسليم،
وحرَّروا عريضة إلى الخديو يطلبون منه الصفح عما فعلوه، ووصف عرابي نفسه ورفاقه بالعصاة،
فرفض النديم فكرة الاعتذار «فقد فعلنا ما وجب.» ورفض كذلك أن تُوصَم الثورة بالعصيان،
وقال لعرابي: كيف تكون عاصيًا وقد قُدت الأمة تطلب الحرية، ولم تكن وسيلتك في ذلك حتى
النهاية إلا ما يقرُّه القانون الإنساني والشرف العسكري. احترمت القانون ولم تفكر في
نفسك، بل في مصر ومستقبلها، لقد عيَّنتك الأمة قائدًا لجيوشها، لتدافع عنها من خطر
المحتل، وكان تعيينك شرعيًّا من السلطان والخديو ومجلس النواب وإجماع الأمة، فكيف تكون
عاصيًا؟
سلَّم الجميع أنفسهم إلى قيادة الاحتلال، وقُدِّموا للمحاكمة، فأُعدم البعض، ونُفي
البعض،
وسُجن البعض، لكن النديم لم تهن عزيمته، ولم يفقد ثوريته، ولم يشارك الباقين يأسهم من
المستقبل، وظل باقيًا على عهده. تغيَّر الجميع، حتى عرابي، لكن النديم لم يتغيَّر، لم
يقف
إلى جانبه في عدم الاعتراف بالعصيان — رغم القبض عليه — سوى علي الروبي، وقد حُكم عليه
بالنفي إلى السودان، ومات هناك، وكما يقول علي الحديدي، فقد «نسيه التاريخ، ونسيته أمته
للأسف الشديد، رغم بطولته ووطنيَّته.»
٧٥
بقي النديم على ثوريته، وتخفَّى عن قوات الاحتلال «وخرجت من مصر (يعني القاهرة)
مختفيًا في البلاد متنكرًا، أدخل كل بلد بلباس مخصوص، وأتكلم في كل قرية بلسان يوافق
دعواي التي أدَّعيها من قولي إني مغربي أو يمني أو مدني أو فيومي أو شرقاوي أو نجدي،
وأصلح لحيتي إصلاحًا يوافق الدعوة، فأطيلها في مكان عند دعوى المشيخة، وأقصرها في آخر
عند دعوى السياحة مثلًا.»
٧٦ فكان كلما انتقل من مكان إلى آخر غيَّر زيه واسمه، فتارة كان يبخِّر لحيته
بالكبريت إلى أن تبيض، فإذا ما جاء الليل غسلها، وتارة أخرى يخضِّبها بالحناء حتى تحمر،
ومرة يطيلها، ومرة يقصِّرها، وحينًا يجعل نفسه مغربيًّا، وآخر يمنيًّا، وثالثًا حجازيًّا.
وقد بلغت الأسماء التي انتحلها أكثر من عشرة، منها: يوسف المدني ومحمد الفيومي وعلي
اليمني وسي الحاج علي المغربي والسبكي والغزي والناجي والحصري والشرقاوي والنجدي، وكان
يتكلم بلهجة أهل كل منطقة ينتسب إليها، كي توافق الاسم الذي يدَّعيه، فكان وكأنه نقل
عن
أبي زيد السروجي حيله.»
٧٧ وبثَّت الحكومة عيونها وجواسيسها، في كل المدن والقرى المصرية، وأعلنت عن
جائزة ألف جنيه لمن يعثر، أو يدل على النديم. كما أوفدت مبعوثين إلى الشام للبحث عنه
هناك، ومبعوثين آخرين إلى إيطاليا بعد أن أشاع النديم من مخبئه، أنه قد فرَّ إلى هناك
ليضلل السلطات المصرية عنه. وإذا كان لجوء النديم إلى التخفي في أثواب شخصيات متباينة،
بعد أن قُضي على الثورة العرابية، وأُعدِم البعض، ونُفي البعض، وسُجن البعض، بينما فرَّ
النديم
وحده إلى قلب الجماهير المصرية … إذا كان ذلك التخفي هو ما سُمِّي تهريجًا، فلعل المهرج
كان أروع أدوار النديم على الإطلاق!
وإذا كان النديم قد أُلقي القبض عليه بوشاية حقيرة من أحد جواسيس الحكومة، فإن الرجل
عاش تسع سنوات كاملة في قلوب الملايين المصرية، يغيِّر اسمه وشكله وثوبه، حتى لا تفطن
إليه السلطة، لكنه لم يكن يخاف الجماهير ذاتها. لقد تزوج، وألَّف عشرات الكتب، وتبادل
مئات الرسائل التي لا تشكو القلق أو الضيق، وإنما تنصح وتوجه، وتبشِّر بعودة الثورة.
وتمر
في حياته أسماء، هي تجسيد لطبيعة الشعب المصري الذي آمن بأن النديم قد بذل له حياته،
فافتداه — الشعب — بحياته. الشيخ شحاتة العقبي شيخ الطرق الصوفية، عمدة القرية، المرأة،
الصبي، مأمور المركز الذي يقابله فلا يقبض عليه، ولا يشي به، ويرفض الجائزة المغرية،
بل
إنه يعطيه كل ما في جيبه ليواجه ظروفه، وكاتب المركز الذي يبعث إليه بأبيات من الشعر
يقول فيها:
ولقد نذرت إذا لقيتك سالمًا
لأقبلن مواطئ الأقدام
ولأثنين على سجاياك التي
حثَّت على التحرير والإقدام
ثم ظهر النديم مرة أخرى، وفي يده راية النضال — سمح له الخديو عباس بدخول مصر — أمضى
وقتًا يدرس، ويتأمل، ثم أصدر جريدة «الأستاذ»، ووصفها بأنها «جريدة عملية تهذيبية
فكاهية.» صدر العدد الأول في ٢٣ أغسطس ١٨٩٢م، تولى النديم تحريرها، وتولى أخوه إدارتها.
أشار النديم إلى أنها لا تتعرض للسياسة العملية الإدارية، أما السياسة من حيث هي فن
فإنها تدخل في موضوعها العلمي.
كانت الصحف الشهيرة آنذاك هي «المقطم» و«الأهرام» و«المؤيد» و«النيل»، وكان لها
ثلاثة اتجاهات، منها ما يسالم الاحتلال ويؤيده، ومنها ما يؤيد الحركة الوطنية ويؤيد من
ورائها السياسة الفرنسية، ومنها ما يؤيد الحركة الوطنية والنزعة الإسلامية والارتباط
بدولة الخلافة، أما «الأستاذ» فقد دعت إلى أن مصر للمصريين، لا لتركيا ولا للأوروبيين،
ودعت المصريين إلى مناصرة الخديو ضد سلطة الاحتلال، وأن يخلصوا من عقدة الخوف، كما دعت
إلى تأليف الأحزاب، وأن يكون لكل حزب برنامجه المعلن، وجريدته التي تعبِّر عنه.
اعتُبِرت «الأستاذ» — في البداية — امتدادًا لجريدة «التنكيت والتبكيت» من حيث نقد
العيوب الاجتماعية، وانتشرت «الأستاذ» بأكثر مما كان متوقعًا، وأُعيد طبع الأعداد الأولى
— ثلاثة آلاف نسخة — وهو ما لم يحدث لجريدة يومية من قبل (أكاد أضيف: ولا من بعد).
٧٨ وكما يقول أحمد أمين «فقد بدأت نغمة «الأستاذ» تعلو شيئًا فشيئًا في الميدان
السياسي، ومناصرة الحركة الوطنية ومؤازرة الخديو عباس، ومناهضة الاحتلال، حتى بدا ذلك
واضحًا في العدد الصادر، في ١٧ يناير ١٨٩٣م. افتتح العدد بمقال جريء عنوانه «لو كنتم
مثلنا لفعلتم مثلنا» وهي كلمة كانت تتردد على لسان بعض الأوروبيين يخاطبون بها
الشرقيين … يصف فيها حالة الغرب وحالة الشرق ووسائل الاستعمار، وما إلى ذلك، ويندد
بالغربيين في أساليبهم، وبالشرقيين في غفلتهم، ويشرح ما تفعله الحكومات الغربية، لترقية
شعوبها، وما تنشره في أمم الشرق لانحلالها، وما يفعله المصريون في تخاذلهم وتواكلهم.»
٧٩ وأشاد النديم بمبادرة عدد من الشبان المصريين الذين اعتمدوا — في حياتهم —
على مصنوعات بلادهم المحلية، وطالب المصريين — والأغنياء بخاصة — بالاقتداء بهؤلاء
الشباب في اقتناء المصنوعات المصرية «وبذلك يحيون ألوفًا من الصناع، ويفتحون بيوتًا
قفلها موت صناعة أهلها بترويج صناعة الغير.
٨٠ ودعا النديم إلى تشجيع التجارة، وبفتح مجالاتها، وإقامة شركات وطنية تجمع
من أسهم قليلة «فتربح كثيرًا، وتفتح بيوتًا أغلقت أبوابها أو كادت.»
٨١ واتجه النديم إلى الأغنياء بقوله: «ألا تقدرون على عقد شركات تشتري أجزاء
من أطيان الدومين أو الدائرة، لتربحوا منها، وتستخدموا فيها أخاكم الفلاح، وتعوضوا بعض
ما أضاعه الإسراف في الملاهي، والخروج عن الحد، وصيَّره في يد الأجنبي.»
٨٢
لقد تحوَّلت «الأستاذ» إلى منشور ثوري أكثر من كونها صحيفة، فهي لم تصبح أكثر الصحف
انتشارًا في مصر فحسب، وإنما أعيد طبع أعدادها الأولى، وهو ما لم تكن الصحافة في العالم
قد عرفته آنذاك، وصدر آخر أعدادها في ١٣ يونيو ١٨٩٣م، وبه عبارة تقول: إن الجريدة ستحتجب
مدة الصيف بسبب سفر محررها إلى خارج مصر، تبديلًا للهواء. لكن احتجاب «الأستاذ» كان
نهائيًّا، بعد أن تقرر إبعاد النديم إلى خارج البلاد، وهو ما تبدَّى في وداع النديم لقرائه
بمقالٍ تحدث فيه عن المؤامرات التي تحاك ضد الوطن ليظل مستعمَرًا، وعن صحف الاحتلال التي
هاجمته وناصرت الاستعمار.
٨٣ أذعن الخديو عباس لإرادة اللورد كرومر، وأخفق في حماية من كان يناصره بقلمه
ضد عسف قائد سلطة الاحتلال.
وكان النديم يتميز عن باقي قادة الثورة بجماهيريته المؤكدة، فهو زجَّال وأديب وخطيب،
ويرتدي الزي الديني، ويحيا بين البسطاء في المقاهي والأسواق والشوارع، ويملك القدرة على
النفاذ إلى نفوس الجماهير، بحيث إنه استطاع أن يحيا بينهم عدة سنوات، دون أن تفطن
السلطات إلى مكانه. ثم واصل نضاله بعد عشر سنوات من الهزيمة، وسمع المصريون النداء
الغائب ينطلق من جديد: مصر للمصريين، بل لقد حرص النديم على أن يسلِّم الرسالة إلى
الأجيال التي تولَّت الإعداد للثورة ضد الاحتلال، ثم قامت بالثورة في عام ١٩١٩م. التقى
بمجموعات من طلاب الحقوق العليا، وتكرر اللقاء، يسألون، ويناقشون، والنديم يجيب، ويبدي
الرأي، ويوضح. يلمُّون بالبدايات التي أفضت إلى الاحتلال، ويطالبهم بأن يلتفتوا إلى
المستقبل لتصبح مصر للمصريين. وكان من بين هؤلاء الطلاب شاب اسمه مصطفى كامل، يقول
الرافعي: «عاد السيد عبد الله نديم، خطيب الثورة العرابية، إلى مصر من منفاه سنة ١٨٩٢م،
فاتصل به الفقيد، وعرف من أحاديثه أسرار الثورة العرابية؛ إذ كان النديم خطيبها، وأحد
كبار زعمائها. عرف منه حوادث الثورة العرابية على حقيقتها، وأدرك أسباب إخفاقها
وهزيمتها؛ وإذ كان يُعِد نفسه لزعامة الحركة الاستقلالية، فإن أحاديث عبد الله نديم قد
أفادته كثيرًا في تعرُّف مواطن الخطأ وأسباب الإخفاق في الثورة العرابية، فتجنَّبها في
جهاده، كما عرف شيئًا كثيرًا من دسائس السياسة الإنجليزية، تلك الدسائس التي كان لها
دخل كبير في إخفاق الثورة ووقوع الاحتلال.»
٨٤
هذا هو عبد الله بن مصباح بن إدريس …
لم يكن مجرد خطيب للثورة العرابية، ولم يكن — بالقطع — مهرجًا «خُلق ليُضحِك الناس،
لا
ليُثقِل عليهم بمواعظه.»
٨٥ لكنه كان ثوريًّا مصريًّا، بكل ما تتضمنه الثورية من أبعاد. كان — كما وصفه
الفنان بحق — «نديم الشعب».
٨٦ والدلالة عميقة في حديث أحمد أمين عن الأيام الأخيرة لكل من جمال الدين
الأفغاني وعبد الله النديم في الآستانة. دخل النديم القفص الذي دخل في مثله جمال الدين
الأفغاني «وغاية الأمر أن قفص جمال الدين ضيق من ذهب، وقفص النديم واسع من حديد،
يختلفان بمقدار الخطر من كل منهما ومكانته وحسبه ونسبه، فالسيد جمال الدين يُخصَّص له
بيت
فخم، ويُجعَل تحت أمره عربة وخدم وحشم، ويجرى عليه ٧٥ ليرة في الشهر، وتُعرَض عليه مشيخة
الإسلام فيأبى، وعبد الله النديم يُعيَّن مفتشًا للمطبوعات بخمسة وأربعين ليرة، ولا بيت
ولا خدم. ولا غرو، فالسيد جمال الدين سيد في طبعه وحسبه ونسبه، كان يُعِد نفسه قرينًا
للشاه والسلطان، لا يقل عنهما إلا بما شاء القدر من تحليتها بالملك وعطله منه، وعبد
الله نديم يرى أنه من الشعب وابن الشعب وخادمه، لا يمتاز إلا بما منحه الله من ذكاء
ولسان، إذا دعا السيد جمال الدين إلى الإصلاح، شعر بأنه يخطب الناس من أعلى مكان يشرف
عليهم، وهو غضوب وقور، وإذا دعا النديم شعر بأنه واقف في وسطهم، يضحك لهم ويضحك منهم
ويصلحهم، ولهذا كان جمال الدين جليلًا يسرح لقوله في رهبة وخشية، وينصح الناس وكأنه
يضربهم بالسياط، وكان النديم محبوبًا يُقابَل بالابتسام، ويُقبَل قوله في فرح ومرح، ولذلك
كان أسف الناس في مصر على فراق النديم أكثر من أسفهم على فراق جمال الدين، لأن سؤدد
جمال الدين في الخاصة، وسؤدد النديم في العامة.»
٨٧
•••
نحن لا ندري مدى استفادة مصطفى كامل من دروس الثورة العرابية التي تلقَّاها بواسطة
النديم، لكن المؤكد أن مصطفى كامل لم يتفهَّم كل أبعاد الثورة العرابية، غاب عن وجدانه
الذي أخلص في حب مصر إلا أن الثورة كانت هي الباعث لدخول قوات الاحتلال. أما مخططات
الاستعمار، وربما محاولاته الدائبة منذ حملة نابليون، وأما الأتوقراطية الخديوية، وأما
السيطرة التركية والشركسية التي دانت لها أنفاس الملايين من أبناء مصر، وأما الثورة
التي كانت تحتدم في الصدور … أما ذلك كله، فقد أسقطه من حساباته التي أراد بها أن يتجنب
أخطاء الثورة العرابية، فتورط في أخطاء أفدح، من بينها تجزئة النظرة إلى الاستعمار
العالمي، وأن فرنسا ربما تساعد مصر — لوجه المبادئ الإنسانية! — في الخلاص من الاحتلال
البريطاني، وأن الخديو قد يغلِّب المصلحة الوطنية على مصالحه الشخصية، وأن التثبت بأبوَّة
الرجل المريض في الآستانة قد يساعد البلاد على مجاوزة ظروفها. وفي تقديري أن مصطفى كامل
لو لم يكتفِ بالنتيجة وتقصَّى البواعث، فربما أفادته دروس النديم بالفعل، وأدرك — في
الوقت نفسه — أن الثورة العرابية لم تكن شرًّا، لكنها الخير الذي حاول أن يقاوم الشر
(مثل يوناني) لكن قوى الشر استطاعت أن تنتصر في مرحلة، لتتهيأ مصر، الطموح أبدًا،
المنكوبة أبدًا، لمواجهة مرحلة تالية.
•••
كتب النديم يحذِّر المصريين من عملٍ طائش قد تتخذه الدول الأجنبية ذريعة للتدخل في
الشأن
المصري «فهناك دول كبرى تريد الفتك بمن ضعفت قوته، وتعدَّدت كلمته، ولزمه الخذلان،
والعاقل من يقف على بواطن الدول ومقاصدها السياسية، فلا يغتر بقول جريدة: ليس لنا تدخُّل
في مصر، بعد علمه أنها تصدر عن لسان أمة لها مائتا عام تحاول حلَّ عروة نظامنا، لتحتل
بلادنا، ولا يركن لقول أخرى إن الباب العالي يجب أن يتداخل في المسألة، فإنها تريد وقوع
العداوة بين المصريين وغيرهم، لينشب الفشل بين المسلمين. عار علينا إذا اشتغل بنا
السياسيون، ووقفنا نلعب، ونساعدهم على آمالهم بخذلاننا وعدم اتحاد قلوبنا. هلا جعلتم
المجالس ساعة نظر في العواقب، بدل جعلها نادي شراب ومغانٍ؟!»
٨٨
•••
كتب يحيى حقي يرفض إعادة النديم، لأنه — كما قال — يرفض نبش القبور، ثم كتب — بعد
ذلك
— يقول: إنني أطالب بعودة رفات عبد الله النديم من مقبرة يحيى أفندي في حي بشكطاش
بإسطنبول، إلى ضريح يقام له في أجمل عمارة في حي رأس التين بالإسكندرية، أطالب بأن
يعود إلينا هذا المغترب العزيز.»
٨٩
هوامش