قوى اليسار

يسأل سيد عبد البديع الماركسي فوزي عبد المجيد (قصر على النيل): الناس ببغاوات وقطيع، والجرائد مأجورة، ومجلس النواب تفاهات، فما الذي يعجبك في مصر؟

– أنا؟

– فقط.

– ومن يرى رأيي؟

– ومن يخالفك؟

– لا يخالفني إلا مغرض جبان مقيَّد بالتقاليد العفنة، وبالرغبات الحقيرة.١

ويقول الشاب لصديقه الشيوعي: يا أخي، صلِّ على النبي.

فيرد عليه: لا، لا لزوم لذلك.٢
ويُدين يوسف صديق — في أوراقه — تلك الظاهرة، ويعتبر أن بعض الشيوعيين المحليين أساءوا إلى الشيوعية بما كانوا «يجاهرون به من إعلان إلحادهم، وعدم مبالاتهم بالدين، والسخرية من المصلين، والإفطار جهرًا في رمضان.»٣

•••

تقول الفنانة (ريحانة) إنه منذ التقى هنري كورييل بأنور كامل، ذلك الفتى الصغير، أخضر العينين والخصلة الساقطة على جبينه، عند سفح الهرم، لم يتوقف أتباع هنري عن النظر إلى أنور كامل ومن معه، على أنهم جماعة من الفنانين ذوي تعاطف مع الطبقة الفقيرة.٤ ويشير أنور كامل إلى أن الاتجاه اليساري المصري نشأ — في البداية — في وسط الفنانين والكُتاب، ونشأ — بالتحديد — مرتبطًا بالتيار السوريالي التشكيلي، وكان ثمة لقاء غريب بين اليسارية والسوريالية في الرسم والشعر.٥ (ونستعيد المعنى في قراءتنا لرواية عادل كامل «مليم الأكبر») ويلاحظ أحد شخوص «الدكتور خالد» أن عشرات الجمعيات الشيوعية التي تتستر خلف مظاهر النشاط الأدبي، ليست سوى خلايا ومنظمات شيوعية.٦
كانت الشيوعية هي أبرز صور السخط على النظام القائم، وأقوى متنفس للأحقاد ضد صور السفه في كابري وفيشي ومونت كارلو. وكما يقول الفنان (حتى مطلع الفجر) فقد «كان الكثيرون من المثقفين يتوقون إلى الشيوعية، انتقامًا من الأيدي الناعمة نعومة الأفاعي، كان شعارهم قول شمشون: عليَّ وعلى أعدائي.»٧ وكان الراوي يتصور الشيوعيين بأنهم ذوو قدرات هائلة، وإمكانات، وإلا فكيف يصدرون صحفَ: الجماهير، والفجر الجديد، والغد، وأنصار السلام؟ وأين تذهب الأموال التي تتدفق من المليونير اليهودي هنري كورييل، ومن السفارة الروسية، ومن الرفاق؟٨

ولعل أخطر ما واجهته تنظيمات اليسار التي نشأت حوالي الحرب العالمية الثانية، أو مارست نشاطها الفعلي في تلك الفترة، هو خضوعها لسيطرة قيادات أجنبية، يهودية بخاصة، وتعدُّد خلافاتها المعلَنة، والمستترة، وانفصالها عن جموع المواطنين، نتيجة لجمود أفكارها، وعدم ملامستها واقع الحياة اليومية للمواطنين بصورة حقيقية.

في «العنقاء»، لاحظ الفنان على تنظيمات الماركسيين المصريين أنها كانت خلوًّا من أبناء الطبقة العاملة التي اتجه الشيوعيون إلى مناصرة قضاياها، وكان غالبيتهم خليطًا من أبناء الطبقة الثرية، أو في الأقل من أبناء الطبقة الوسطى المثقفين ثقافة جامعية، بحيث إن تنظيماتهم كانت تمثِّل تيارًا من تيارات البرجوازية المصرية٩ وكان من بين قيادات ومموِّلي الماركسية المصرية أسماء: هنري كورييل وأخيه راءول كورييل، وريمون إجيون، وشفارتز، وجاكو ديكومب، وجميعهم من اليهود.١٠
وإذا كان رفعت السعيد ينفي تسلُّط الصهيونية على الشيوعيين المصريين، فإن لويس عوض (العنقاء) يؤكد التمويل اليهودي للحركة الشيوعية المصرية، والذي انعكس — بالسلب — في موقف الشيوعيين المصريين من حرب ١٩٤٨م.١١ ويقول مصطفى بهجت بدوي إن الشيوعيين المصريين — على قلَّتهم — وقفوا في أحداث ١٩٤٨م «كأن قضية فلسطين لا تهمهم في كثيرٍ أو قليل، ولا أريد أن أضيف أو أتجاوز بأنهم بدوا سعداء بتلك النتيجة، وقيام دولة إسرائيل، وبما وصلت إليه الأمور من زرع بذور الشيوعية المزعومة إلى جوار مصر، وإذا لم تكن هذه درجة من درجات الخيانة، فهي — في أكثر التعبيرات تهذيبًا وتأدبًا — عمى بصرٍ وبصيرة، وفكرة العمالة التي لاحقتهم طويلًا كان مبعثها هذا الموقف المخزي.»١٢
كانت رواية «مليم الأكبر» تأثرًا من الفنان بقضية جماعة «الخبز والحرية» ذات الاتجاه اليساري، وكما يروي أنور كامل، فقد قُبِض عليه — أي أنور كامل — كمتهم أول في تلك القضية، وظل محبوسًا تحت التحقيق لمدة عشرة أشهر، ولم يوكِّل محاميًا للدفاع عنه، فاختارت المحكمة محاميًا هو عادل كامل، وقرأ عادل كامل أوراق القضية والمضبوطات، وتأثر بها، وأعدَّ دفعًا بعدم الاختصاص قبِلته المحكمة.١٣

إن علي طه المثقف اليساري في «القاهرة الجديدة»، هو أحمد شوكت في «السكرية»، تحقيق الاشتراكية هو الهدف الذي تطلع إليه، وعمل من أجله.

والملاحَظ أن غالبية الشخصيات التي انتمت إلى اليسار الماركسي في الأعمال الأدبية المصرية، كانت تفضِّل الاشتغال بالصحافة عن سواها من الوظائف أو المهن، علي طه في «القاهرة الجديدة» وأحمد شوكت وسوسن حماد في «السكرية» وسعد عبد الجواد في «الرجل الذي فقد ظله»، وكان غالبية رفاق سوسن وأحمد شوكت من البيئة الصحفية … إلخ، ولعل لجوء تلك الشخصيات إلى العمل الصحفي، لأنها الأداة التي يسهل من خلالها الدفاع عن الاتجاه والمبدأ، والدفاع عن مصالح الطبقات الأدنى.

مع ذلك، فإن أحد القيادات الماركسية يصِف الحركة الشيوعية المصرية بقوله «إن أيًّا من المنظمات الشيوعية المصرية لم تتحد مع البروليتاريا، ولا — على الأخص — مع الجماهير المعدمة، ظلت حياة الحركة الشيوعية خارجة عن حياة الجماهير الكادحة، إلى حد جعل أكثر العناصر الشيوعية دينامية، وهي من أصل بروليتاري، تقطع — تدريجيًّا — صلتها الحية بطبقتها، أو تغادر صفوف الشيوعيين.»١٤ ويقول أحمد شوكت (السكرية): «إن عيب حركتنا أنها تجذب إليها كثيرين من النفعيين غير المخلصين، من هؤلاء مَن يعمل بغية الأجر، أو مَن يعمل للمصلحة الحزبية.»١٥
ويقول يوسف عبد الحميد السويفي (الرجل الذي فقد ظله): «أنا متعود على الشيوعيين … إذا ما كانش الواحد يبقى شيوعي زيُّهم، يبقى خاين، ومجرم، وفيه كل العِبَر.»١٦ وقائل هذا الكلام كان يُظهِر التعاطف مع الاتجاهات اليسارية، لكنه كان ذا نفس وصولية وانتهازية، حتى إنه لم يتردد في الإبلاغ عن أعز أصدقائه — وهو ماركسي — ليكسب مكانة عند رئيس التحرير اليميني محمد ناجي.

وفي يوليو ١٩٤٦م شنَّ إسماعيل صدقي — وهو ما نشير إليه في فقراتٍ أخرى — حملة باسم محاربة الشيوعية، وأغلق في ليلة واحدة ١١ صحيفة، وألقى القبض على مائتين من الكتَّاب والصحفيين.

•••

بدأت الحركة الشيوعية نشاطها بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت أحداث الحرب العالمية الثانية، دافعًا لأن تتجه أفكار أعدادٍ من الشباب إلى التيار الماركسي. أعطى ظهور الفاشية دفعة قوية للحركة الشيوعية في مصر، فعني اليهود — على سبيل المثال — بتأييد الحركات المناهضة للنازية (الأسباب معلَنة!)، وتغاضت سلطات الاحتلال البريطاني عن ذلك النشاط، لأنه موجَّه ضد الألمان.١٧
ويشير مارسيل إسرائيل إلى أن الاحتلال البريطاني لمصر كان قد اتخذ أشكالًا سافرة خلال الحرب، بالإضافة إلى الغلاء الفاحش، مما دفع قطاعات كبيرة من العمال والطلاب إلى التعاطف مع الاتحاد السوفييتي والشيوعية.١٨ ويقول طلعت لزملائه (الدكتور خالد): «الحق أني لا أكتمكم أنه كان من الممكن جدًّا أن أصبح ماركسيًّا، رغم إنكاري ما تنطوي عليه الماركسية من مادية إلحادية، فالماركسية اليوم هي القوة الدافعة نحو التغيير في العالم كله، ونجاح الاتحاد السوفييتي في الوقوف أمام آلة الحرب الألمانية الجهنمية، وتحوُّل الجيش الأحمر من الدفاع إلى الهجوم بعد استسلام الجيوش الألمانية في ستالينجراد، كل ذلك قد ملأ الناس إعجابًا بالنظام الشيوعي الذي أثبت نجاحه وتفوقه. وأقول لكم الحق عن نفسي إنه لم يحل بيني وبين الانخراط في سلك إحدى الجماعات الشيوعية التي تتألف هذه الأيام، إلا ما لاحظته من أن حفنة من اليهود الأجانب على رأس الحركة الشيوعية في مصر، يبشِّرون بإنشاء دولة إسرائيل اليهودية، ويتندَّرون بنا لوقوفنا إلى جوار عرب فلسطين، ويصفوننا بالفاشستية والرجعية، ليشوِّهوا جهادنا من أجل عروبة فلسطين.» يستطرد طلعت: «ولكن الشهادة لله يا جماعة، يوجد بين الشباب الشيوعيين من المصريين من لا يقل عنا إخلاصًا، واستعدادًا للتضحية.»١٩
وفي المقابل من قول إبراهيم الورداني إن نشر الشيوعية كان يتم بطريقة الهمس وإغراء البنات والفلوس،٢٠ فإن الفنان (بيرة في نادي البلياردو) كان يرى أن التنظيمات الشيوعية — رغم سرية نشاطها — هي الأكثر احترامًا، وأنها لم تكن تدفع لقاء عضويتها، بل إن العضو كان معرضًا للسجن في أي وقت.٢١
تكوَّنت منظمات شيوعية أخرى فيما بين عامَي ١٩٤٣م و١٩٤٥م في جو مليء بالإعجاب بالسوفييت، نتيجة الانتصارات العسكرية التي حققوها، وكان تنظيم «الطليعة» من بين تلك المنظمات.٢٢
انقسم الشيوعيون على أنفسهم، حتى بلغ عدد منظماتهم — عند قيام الثورة — نحو عشر منظمات،٢٣ ففي ١٩٤٠م — على سبيل المثال — تكوَّنت حركة تحرير الشعب، وهي أول منظمة شيوعية — يصفها مارسيل شيريزي بأنها بدائية، وليس لديها خبرة في العمل السري — بعد اختفاء الحزب الشيوعي القديم، وحاولت أن تبذل أنشطة في صورة جماعات وأندية، ما لبثت أن صُفيَت، واعتُقِل معظم أعضائها، لكنها عادت إلى الظهور في ١٩٤٣م لتكون — كما يقول صلاح عيسى — أولى المنظمات الشيوعية التي تتأسس بعد عشرين عامًا من تدمير الحزب الأول، وفي ١٩٤٣م تكوَّن تنظيم ماركسي هو «إبسكرا»، ومعنى الكلمة هو «الشعلة»، والترجمة العربية هي «الشرارة»، وكان لينين قد أطلق الاسم على مجلة أصدرها قبيل نشوب الثورة السوفييتية، وفي ١٩٤٥م أنشئت منظمة «طليعة العمال». وفي سبتمبر ١٩٤٦م تألَّف تنظيم شيوعي باسم «الطليعة الشعبية للتحرر»، وقد تغيَّر اسمه — فيما بعد — إلى «طليعة العمال»، ثم — بعد ثورة يوليو بسنوات — إلى «حزب العمال والفلاحين الشيوعي المصري»،٢٤ ومن تلك التنظيمات الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني — حدتو — (مايو ١٩٤٧م) وقد تأسست بعد حوالي عشرين عامًا من اختفاء أول حزب شيوعي مصري، وثمة رابطة أنصار السلام، وجماعة الفجر الجديد، وحمتو، والخبز والحرية، والقلعة … إلخ.
فطن الحزب الشيوعي إلى أن المجموعات العمالية القادمة من الريف، ترتبط بصلة «البلدة الواحدة» أكثر من ارتباطها بصلة «العمل الواحد»، ومن ثَم، فقد حرص الحزب — في تكوين خلاياه في مدينة كفر الدوار عام ١٩٤٧م — أن تتكوَّن الخلايا على أساس البلديات، وليس على أساس قسم العمل، بعكس ما حدث في شبرا الخيمة التي كانت تتسم بوعي عمالي أكثر تقدمًا، فلم تكن مشكلة البلديات حادة، وتكوَّنت الخلايا على أساس أقسام العمل.٢٥

•••

لماذا قرَّر هنري كورييل تنظيم الحركة المصرية للتحرر الوطني؟

يقول في ذكرياته عن فترة البداية: «كنا وحدنا، وخلال أحداث ٤ فبراير ١٩٤٢م، وبينما كانت القاهرة تموج بالمظاهرات، طبعنا منشورًا باللغة العربية نقول فيه للمصريين: لا تتصوروا أن الألمان أفضل من الإنجليز.» يضيف: «وخرجتُ لأوزِّع هذا المنشور بنفسي أنا وجورج بوانتيه، وكان منظرًا مضحكًا: اثنان من الأجانب يوزعان منشورات باللغة العربية، وقد وزَّعنا ٤٠٠٠ نسخة من هذا المنشور.»٢٦
تأكيدًا لدور العناصر اليهودية الشيوعية في الحركة الوطنية، قامت «حدتو» بتكوين الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية، وأكدت الرابطة في بياناتها أنها تعادي — في صراحة — وسائل الدعاية الصهيونية في مصر التي ترمي إلى عزل الطائفة اليهودية عن الشعب المصري عزلًا خطيرًا، و«إننا لمصممون — بكل قوتنا — على مكافحة عملاء الصهيونية في مصر، الذين يخونون المصالح الحقيقية لليهود المصريين لخدمة مصالح الشعب المصري بأجمعه. إننا نراه واجبًا مقدسًا على يهود مصر، أن يُعلِنوا حربًا لا هوادة فيها ولا رحمة على الأفكار الصهيونية، وعلى مَن يقومون بالدعاية لها، يجب أن نخلِّص الشباب اليهودي في مصر من سموم الصهيونية.»٢٧
مع ذلك، فقد حلَّت حكومة النقراشي الرابطة، بدعوى المحافظة على الأمن العام، بينما كانت الأندية والهيئات الصهيونية العلنية تمارس أنشطتها، ثم فقدَ بوانتيه حماسه للعمل السياسي في مصر، فسافر إلى فرنسا، وقاتل في صفوف الفيلق الفرنسي، حتى قُتِل في ١٩٤٣م أثناء تحرير بلاده، أما هنري كورييل فقد اعتقل، وأودع معتقل الزيتون، حيث أخذ — على حد تعبيره — «حمام تمصير».٢٨
كانت الشائعات التي ألصقتها المباحث العامة بمنظمة «حدتو»، أنها تدعو إلى الكفر والإلحاد والفوضى، وتنشر دعوة الإباحية التي تسمح بتبادل الأزواج لزوجاتهم، وتبيح للرجل أن يقفز فوق أية امرأة أينما شاء.٢٩

•••

كتب عصام الدين حفني ناصف في مجلة «التطور» (مايو ١٩٤٠م) «لعل السادة الأغنياء والنوَّاب المحترمين يفهمون — قبل فوات الأوان — أن الترويج للمبادئ البلشفية، وتحبيبها للقلوب، لا يكون بالمطالبة بهذه الإصلاحات الطفيفة التي إذا نحن رضينا بها، فليس ذلك على أنها إصلاحات حقيقية، بل على أنها دلالة على التفكير نحو الإصلاح ليس إلا.»٣٠
ولعل فؤاد سراج الدين كان أول القادة السياسيين الذين تنبَّهوا — وأعلنوا — إلى أن اليسار لا يعني الشيوعية، وإنما يعني المطالبة بالإصلاحات الاجتماعية، ورفع مستوى المعيشة.٣١
ويمكن القول إن اليسار المصري قد تمتع بحرية نسبية في حكومات الوفد، ومع أن تحركات تنظيماته كانت مكشوفة للدولة، فإنهم كانوا يوزِّعون المنشورات في ظل حماية القانون، دون ضغط أو مصادرة من جانب الحكومة.٣٢

ويسأل أحمد شوكت أستاذه عدلي كريم (السكرية): «والإخوان يا أستاذ؟ لقد بِتنا نشعر بأنهم عقبة خطيرة في سبيلنا.

يقول عدلي كريم: لا أنكر هذا، ولكنهم ليسوا بالخطورة التي تتخيلها، ألَا ترى أنهم يخاطبون العقول بلغتنا، فيقولون اشتراكية الإسلام، فحتى الرجعيون لم يجدوا بدًا من استعارة اصطلاحاتنا.»٣٣

•••

يقول حلمي (الحصاد) تعليقًا على عمليات إلقاء القنابل في الأماكن العامة، أثناء حرب فلسطين: إنني في حيرة — حتى الآن — من أمر القنابل التي كانت تُلقَى على المحال، وفي دور السينما، أكان الإخوان هم الذين يُلقونها أم الشيوعيون؟

– الشيوعيون وراء كل تدمير.

– والقنبلة التي أُلقيَت في حارة اليهود؟

– إذا كان الإخوان قد ألقوا قنبلة، فقد ألقى الشيوعيون عشرًا، سياستهم هي أن يضعوا إصبعهم في أي ثقب يجدونه ليوسِّعوه، وأن يسكبوا الزيوت على نار أية فتنة مشتعلة، لا تتحقق أهدافهم إلا إذا عمَّت الفوضى.٣٤
والثابت — تاريخيًّا — أن حركات اليسار المصري لم تعرف «منظمة واحدة حملت السلاح، أو دعت إلى الاستيلاء على السلطة بالعنف.»٣٥ وفيما عدا المشاركة في عمليات المقاومة المسلحة ضد قوات الإنجليز بالقناة، وهي مشاركات اتَّسمت — إلى حدٍّ كبير — بالفردية، وانتسبت إلى النضال الشعبي بعامة، فقد كان رأي اليسار — دومًا — أن «الإرهاب» — العبارة بين مزدوجتين — يُعَد تعاليًا على الشعب، واحتقارًا له، الشعب — بقواه المختلفة — هو الذي يجب أن يحرر نفسه بنفسه، قتْل خائن، أو عدة خونة، سيفتح الطريق إلى مزيدٍ من الدماء، وربما مهد لديكتاتورية طاغية، بكل ما تعنيه من معتقلات وكبت حريات ومصادرة … إلخ.٣٦
عبَّر إحسان عبد القدوس عن الرأي نفسه الذي أعلنه الحزب الشيوعي المصري، بقوله «على البروليتاريا المصرية والكادحين والفلاحين المستغَلين ألَّا ينتظروا أن يمنَّ عليهم أحد بمطالبهم، ذلك أن برنامجهم هو برنامج ثورة، ثورة تتطلب تضحيات ونكرانَ ذات، لكنها تتوصل حتمًا إلى الهدف المنشود.»٣٧
ويدين وسيم خالد موقف الشيوعيين في سني الحرب العالمية الثانية، وما بعدها، أنهم كانوا يريدون إخراج الإنجليز بمجرد المنشورات التي يقنعون بها عساكرهم أنهم مستغلون بدورهم.٣٨
مع ذلك، فقد كان تنامي قوى اليسار — في الفترة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى قيام ثورة يوليو — مبعث توقع الملك بأن الجيش ليس هو منبع الثورة، إنما الشيوعية هي التي ستزحف، وأنه سيذهب بتأثير ذلك الزحف.٣٩ وكان تقدير حسن مفتاح (العنقاء) أن تعاون الشيوعيين والوفديين كان سيعطي الشيوعيين فرصة لعرض آرائهم على الوفديين، فإن لم يخرج الشيوعيون بكسبٍ من هذا التعاون فهم لن يخسروا شيئًا، وسوف يخرجون من هذا التعاون — كما دخلوا – سالمين.٤٠
ويلاحظ محمد عودة أن الإخوان المسلمين والشيوعيين أعلنوا، كلٌّ من جانبه، أنه كان القائد الطبيعي والمثالي للثورة، وللشعب المصري، وأن الثورة الجديدة — ثورة يوليو ١٩٥٢م — هي في حقيقتها ثورة مضادة قد قامت لتمنعه من تحقيقه لدوره التاريخي، ونسي الاثنان عجزهما التاريخي في يناير ١٩٥٢م عن القيام بأي دور.٤١

هوامش

(١) قصر على النيل، ١٧١.
(٢) المصدر السابق، ١٦٨.
(٣) أوراق يوسف صديق، ٨١.
(٤) ميسون صقر، ريحانة، روايات الهلال، ٧٦.
(٥) اليسار المصري، ٢٥٥.
(٦) الدكتور خالد، ٤٧٢.
(٧) حتى مطلع الفجر، ٣٥.
(٨) المصدر السابق، ٥٧.
(٩) العنقاء، ١٢.
(١٠) المصدر السابق، ١١.
(١١) المصدر السابق، ١٢.
(١٢) الجمهورية، ١١/ ٥/ ١٩٧٢م.
(١٣) اليسار المصري، ٢٥٦.
(١٤) الصراع الطبقي في مصر، ١٠٥.
(١٥) السكرية، ٣٥٣.
(١٦) الرجل الذي فقد ظله، ٢: ١٦٢.
(١٧) اليسار المصري، ٢٧٧.
(١٨) المرجع السابق، ٢٦٩.
(١٩) الدكتور خالد، ٤٧٣.
(٢٠) الجمهورية، ٩/ ١٢/ ١٩٧٠م.
(٢١) بيرة في نادي البلياردو، ٨٣.
(٢٢) الحركة العمالية في مصر، ٢٦٨.
(٢٣) أوراق يوسف صديق، ٨٦.
(٢٤) اليسار المصري، ٤.
(٢٥) المرجع السابق، ٢٨٦-٢٨٧.
(٢٦) رفعت السعيد، تاريخ المنظمات اليسارية المصرية، ٣٢٨-٣٢٩.
(٢٧) رفعت السعيد، اليسار والقضية الفلسطينية، دار الفارابي ببيروت، ١٩٧٤م، ١٩١.
(٢٨) المرجع السابق، ٣٢٨-٣٢٩.
(٢٩) فتحي غانم، حكاية تو، روايات الهلال، ٥٩.
(٣٠) اليسار المصري، ٤٨.
(٣١) ذكرياتي في عهدَين، ١٠٢-١٠٣.
(٣٢) المصدر السابق، ١٠٢-١٠٣.
(٣٣) السكرية، ٣٥٤.
(٣٤) الحصاد، ٢٩١.
(٣٥) فريدة النقاش، الأخبار، ٢٦/ ١٢/ ١٩٨٩م.
(٣٦) الأخبار، ١٤/ ٦/ ١٩٨٧م.
(٣٧) اليسار المصري، ١٦٧.
(٣٨) الكفاح السري ضد الإنجليز في مصر، ٧٧.
(٣٩) معركة نزاهة الحكم، ١٢٦.
(٤٠) العنقاء، ٢٨٤-٢٨٥.
(٤١) محمد عودة، حول البحث عن نظرية، الكاتب، فبراير ١٩٦٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥