مصر الفتاة

إذا كان نجيب محفوظ قد أهمل الدور الهام الذي قامت به حركة «مصر الفتاة» في الحياة السياسية — والاجتماعية — في مصر، فإن أحمد حسين المحامي — باعث تلك الحركة وزعيمها — يقدم لنا — من وحي تجربته السياسية — روايتَيه «أزهار» و«الدكتور خالد».

أما «أزهار»، فهي تعرض لنشأة حزب مصر الفتاة، منذ بدايته كحركة اجتماعية نشِطة لعددٍ من طلاب الجامعات، ويشارك فيها الجيل الأول من الطالبات اللائي فتحت لهن الجامعة أبوابها للمرة الأولى، فضلًا عن أن الرواية بانوراما متسعة الأبعاد للحياة السياسية والاجتماعية، منذ العشرينيات إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية: الطالب الذي ينجح في انتخابات الجامعة دون كفاءة حقيقية لأنه ينتمي إلى حزب الأغلبية، ضابط البوليس الذي يُنقَل إلى «أبو قرقاص» لأنه استوضح رئيسه الإنجليزي شيئًا، تزوير الانتخابات، اعتقال المواطنين بلا تهم محددة … إلخ.

وأما «الدكتور خالد» — منذ ١٩٣٩م إلى ١٩٤٥م — فهي أقرب إلى تصوير العهد الذي كانت أحداثه مقدمة لثورة يوليو، والدكتور الذي استمدت الرواية عنوانها من اسمه هو الشهيد مصطفى الوكيل الذي كان رفيقًا لأحمد حسين في الحزب، وفي السياسة.

ومن الطبيعي أن تكون الروايتان تأكيدًا على دور مصر الفتاة منذ بدأت كحركة اجتماعية، تنادي بالهوية الشوفينية، وأن «المصرية» هي العليا، وما عداها لغوٌ لا يُعتَد به، وأن مصر يجب أن تصبح فوق الجميع، حتى أصبحت حزبًا سياسيًّا يتخذ من الاشتراكية شعارًا وهدفًا، وإن سبق ذلك تحوُّل حزب مصر الفتاة — الذي كان جمعية — إلى حزبٍ باسم الحزب الوطني الإسلامي في فترة قصيرة من الأربعينيات، فعودة اسم حزب مصر الفتاة، ثم تحوُّله — في ١٩٥٠م — إلى حزب مصر الاشتراكي.

وكما يرى عبد المنعم الغزالي، فقد كان الحزب الاشتراكي هو الحزب الوحيد — من بين الأحزاب والجماعات البرجوازية الصغيرة — الذي ضمَّن برنامجه نقاطًا خاصة بالعمال.١

•••

كان أحمد حسين تلميذًا في مدرسة سلامة موسى التي كانت دعوتها بعيدة عن العروبة تمامًا، ثم ما لبث أن ناقض أفكار أستاذه حين أنشأ حزب مصر الفتاة، ورفع شعار مصر فوق للجميع، متماهيًا مع اتجاه إسلامي مؤكد، ثم أظهر — فيما بعد — ميله إلى الاشتراكية، وأكد أن الرسالة الاشتراكية لمصر الفتاة ستستمر تتوطد حتى تتحقق «دولة شامخة تتألف من مصر والسودان وتحالف الدول العربية.»٢
وإذا كان معظم الساسة المصريين قد بدءوا حياتهم — منذ تأليف الوفد المصري — بالانضمام إلى الوفد، ثم انقلب بعضهم على الوفد وقيادته، في أوقاتٍ متفاوتة في الحياة السياسية المصرية، فإن أحمد حسين بدأ حياته السياسية برفض الوفد ومبادئه، ودعا لمشروع معاهدة محمد محمود-هندرسن.٣
برر أحمد حسين البداية التي انضم فيها إلى محمد محمود، بأن بعض المتصلين بمحمد محمود عرضوا عليه أن يعمل لمناصرة المعاهدة، والدعوة لقبولها، على أن يشرع محمد محمود — إذا ما قُدِّر للمعاهدة النجاح — في تنفيذ برنامج مصر الفتاة، وتألفت — لهذا الغرض — في ١٩٢٩م جماعة صغيرة باسم «جماعة الشباب الحر أنصار المعاهدة».٤ قدمت الجماعة نفسها — في بيان مكتوب — بأنها سوف تكون بعيدة عن الأحزاب جميعًا، وأنها تعتبر المعاهدة وسيلة مُثلى لتحقيق آمال البلاد.
وفي ٣١ أغسطس ١٩٢٩م خطب أحمد حسين في حفل أقامه شباب الأحرار الدستوريين، وناشد محمد محمود أن يقبل زعامة مصر، وأن يقودها كموسوليني إيطاليا: «إن مصر بحاجة إلى زعيم من دم فرعوني، وهذا هو أنت … أنت … يا ابن الصعيد الذي بقي محافظًا على استقلال مصر ستة آلاف عام، وإذن فبلسان الشباب الحر أسألك أن تكون زعيمًا للشباب الحر في الوزارة، أو خارجها، على السواء.»٥

ثم حاولت الجماعة إقناع إحدى الشخصيات المستقلة ليرأسها، فوافق عبد الخالق مدكور باشا على تولي منصب الرئاسة.

•••

كانت مصر الفتاة — بدرجة أو أخرى — انعكاسًا للنازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، وتركيا الفتاة في تركيا، وأيرلندا الفتاة، وبولندا الفتاة.٦ ويقول أحمد حسين: «إن الفكرة التي أوحت إلى موسوليني أن يبتكر «القميص الأسود» في إيطاليا، والتي أوحت إلى هتلر أن يبتكر «القميص البني» في ألمانيا، هي التي أوحت إلينا أن نفعل مثلما فعلوا.»٧
ترتيبًا على ذلك، فإن عبد العظيم رمضان يحدد العناصر الفاشية بأنها حزب مصر الفتاة وجماعة الإخوان المسلمين.٨ وفي ١٩٣٣م صدرت جريدة «الصرخة» مع تأسيس مصر الفتاة، وأعلن أحمد حسين في ٢١ أكتوبر ١٩٣٣م — على صفحات جريدة «الصرخة» — تأليف جماعة «مصر الفتاة» التي كان قد مهَّد لها بمشروع القرش.

ويُعَد مشروع القرش أبرز أنشطة حركة مصر الفتاة الاجتماعية، ولعل نجاحه كان سببًا في أن توازي الجماعة دعوتها الاجتماعية بدعوة سياسية منظمة، تتبنى شعار ماتزينيث «إيطاليا الفتاة»، وتحوِّله إلى شعار «مصر الفتاة».

بدأت حركة مصر الفتاة — كما يقول الفنان — كحركة رافضة للتيارات السياسية القائمة وصراعات الأحزاب، وحاولت أن تقدم شيئًا مغايرًا هو مشروع القرش.

كان هدف المشروع أن تساهم كل فئات الشعب في تكوين رأس مال، يموِّل بعض المشروعات الصناعية، توصلًا إلى إحداث نهضة صناعية على مستوى البلاد، كل مواطن يدفع قرشًا — وكان للقرش قيمته! — أو بضعة قروش، فيتجمع رأس المال اللازم لتلك المشروعات.٩
ووجد البعض في المشروع «تقليعة جديدة من هذه التقاليع التي ما فتئوا يطالعوننا بها، دعا طالب في كلية الحقوق اسمه فوزي السيد علي — أحمد حسين — جميع أفراد الأمة أن يتعاونوا ويتضامنوا لتحقيق ما أسماه استقلال مصر الاقتصادي، عن طريق تبرع كل منهم بقرشٍ في العام يُخصَّص لبناء مصانع شعبية تكون مملوكة للشعب في مجموعه، وقد قابل جمهرة الطلاب المشروع بالسخرية، وندَّد به الأساتذة وكل المشتغلين بالاقتصاد، فما سمع أحد أن المصانع تُبنى بجمع القروش، ولا تكون مملوكة لأحد.١٠
في المقابل، فثمة آراء أيَّدت المشروع، ودعت إلى مناصرته، باعتبار أنه محاولة قومية لمعالجة مشكلة البلاد الاقتصادية والاجتماعية، فلو أنه كان في مصر الآن مصانع تكفي لغزل الجزء الأكبر من قطننا، لما تدهورت أسعاره إلى هذا الحد، وأشرف فلاحونا على الموت جوعًا.١١
وافقت شركة ترام القاهرة على لصق بيان مشروع القرش على عرباتها، وكان ذلك أول إعلان يُلصَق في عربات الترام دون أن يحمل توجيهات إدارية للركاب، مثل ممنوع البصق، ممنوع الركوب من الشمال، احترس من الشيالين … إلخ.١٢ وخرجت جموع الطلبة، وعلى الصدور شارة المشروع، وفي الأيدي دفاتر، في كل دفتر مائة طابع، يُقبِل الناس على شرائها بإقبالٍ ملحوظ.
تحقق للمشروع في عامه الأول ١٧ ألف جنيه، وهو مبلغ كبير جدًّا آنذاك،١٣ ثم بلغ مجموع الأرباح التي حققها المشروع ٣٠ ألف جنيه، لكن أحمد حسين كسب شهرة قومية وأعوانًا وأنصارًا، وخبرة بالتنظيم والعمل الجماهيري، سهَّلت له القيام بالخطوة التالية، وهي تأليف جماعة مصر الفتاة.١٤
وعلى الرغم من المعارضة الشديدة التي لقيها المشروع من حزب الأغلبية، فإنه حقق نجاحًا مؤكدًا، ومن ثَم بدأت فكرة التنظيم السياسي تلح على الجميع، وأعلنوا حماستهم للبدء في التنفيذ، لكن فوزي السيد زعيم الجماعة فاجأهم بالقول: «إنكم لا تعرفون ما الذي يعنيه أن نقدِم على تأليف جماعة البعث — مصر الفتاة — في الوقت الحاضر، لقد بدأ حزب الأغلبية يهاجمني، ويذيع عني الأراجيف، وأنني اختلست مشروع القرش، كل ذلك ونحن ما زلنا في دائرة العمل الاقتصادي البحت الذي لا ينافسهم بطريقٍ مباشرٍ، فإذا بدأنا في هذا العمل السياسي الذي تقترحونه فسوف يسحقوننا سحقًا.»١٥ وقيل لفوزي السيد من عضو في الجماعة: «ما هذا التردد الذي لم نعهده في خلقك، أليس يكفيك أن عصارة شباب مصر معك؟» وقال عضو آخر: «لم يبقَ أمامك مناص من المضي قُدمًا إلى الأمام لتنفيذ ما يراودك منذ سنوات، ليس باستطاعتك التراجع.»١٦
عاد فوزي السيد إلى البيت، ليبدأ في وضع برنامج جماعته الجديدة، وكانت ترن في أذنيه — وهو يمسك بالقلم في هدأة الليل ليكتب — كلمات ماتزيني مؤسس حركة «إيطاليا الفتاة»، فاستبدل بكلمة إيطاليا كلمة مصر، وانطلق يكتب «ومصر التي علمت الإنسانية، وأضاءت على العالمين، لن تموت، بل ستُبعَث من جديدٍ لتعيد سيرتها الأولى.»١٧ وتخيل أحمد حسين الجموع التي تعمل لبعث مصر القديمة، فكتب في ٧ مارس ١٩٣٠م: «انظر، وحدِّق النظر، فهذا هو العلم المصري يرتفع فوق الأهرام، وسط هذه الموسيقى والأناشيد، وها هي ذي الجموع ترفع يدها بالتحية، حتى إذا وصلت القمة دوى النفير، وانطلقت الصرخة الكبرى التي تناثرت لها الرمال، وتفتَّت الصخور: المجد لمصر.»١٨
حدد أحمد حسين برنامج مصر الفتاة في بضعة بنود، فإيمانها أن مصر «منارة العالم، وتاج الشرق، وزعيمة الإسلام»، وشعارها «الله، الوطن، الملك»، بمعنى أنه يجب أن نعبد الله، وأن نعلي كلمته، وأن نقدس الوطن، ونفنى في سبيل مجده، وأن نعظِّم الملك، ونلتفَّ حول عرشه،١٩ وكانت الغاية من ذلك أن تصبح مصر فوق الجميع، إمبراطورية عظيمة تتألف من مصر والسودان، وتحالف الدول العربية، وتتزعم الإسلام.»٢٠ أما الاشتراكية، فهي الترياق لسم الاستعمار، وهي الدواء لكل ما تشكو منه مصر.٢١

والواضح أن البرنامج كان مشوَّشًا بصورة لافتة، فمصر فوق الجميع، وهي ترتبط بالعرب والإسلام، وتناصر محمد محمود، وتعادي الوفد، وتعلن الاشتراكية … إلخ.

كانت تلك هي بداية حزب مصر الفتاة، أو بداية نشاطه السياسي على وجه التحديد، فما من شك أن مشروع القرش، وسواه من الأنشطة الاجتماعية التي قام بها أحمد حسين ورفاقه، كانت تعبيرًا عن اتجاه الشوفينية المصرية التي بدت حركة مصر تجسيدًا لها، بل إن عبد العظيم رمضان يصف مشروع القرش بأنه «فكرة ديماجوجية عزف فيها أحمد حسين بقرش صاغ واحد على وتر الحماس القومي للاستقلال السياسي والاقتصادي، ليصلح بداية سياسية خاطئة، تأثرت بالالتصاق بحزب الأحرار الدستوريين، وليجني شعبية لم يكن ليحلم بها لولا هذا المشروع.»٢٢
ويدافع أحمد حسين عن اتهام الوفد للجماعة، بأن الجماعة قررت أن تترك المشروع لإنقاذه «بعد أن بدأ حزب الأغلبية يهاجمه علنًا، عن طريق الدس والأراجيف، والزعم بأن العبث قد دبَّ إلى أموال المشروع، مع أن هذا هو المشروع الوحيد في كل تاريخ مصر الحديث الذي لم يدب إليه عبث، ولذلك فقد نجح، وأنشئ المصنع بالفعل، حيث فشلت مئات المشروعات الأخرى لامتداد العبث إليها.»٢٣
يشير أحمد حسين إلى أن المشروع جمع في عامه الأول سبعة عشر ألف جنيه، وفي عامه الثاني ثلاثة عشر ألفًا، واستطاع في عام ونصف أن يشيِّد مصنعًا للطرابيش، لكنه عجز — لمدة خمس سنوات تالية — أن يفعل شيئًا، بعد أن توالى خروج المظاهرات الوفدية التي تهتف: حرامي القرش! حرامي القرش!٢٤
وفي تقدير طارق البشري، أنه إذا كان مشروع القرش لم يقدم أساسًا لبناء الصناعة، فقد أثار حماسة، ونبَّه إلى وجوب التصنيع، كما كشف المشروع عن قصور الاستقلال السياسي والدستور كهدفَين يقوم عليهما — وحدهما — صرح الوطن المستقل الناهض، وأن الهيمنة الاقتصادية الأجنبية لا تقل خطرًا عن الاحتلال العسكري.٢٥

•••

اعتبر أحمد حسين مظاهرات ١٩٣٥م انتصارًا له، ولمصر الفتاة. يقول: «وشهدت مصر الفتاة أول نجاح لجهودها في نوفمبر ١٩٣٥م، عندما خرج شباب الجامعة يهتفون «مصر فوق الجميع والمجد لمصر»، مطالبين بالاستقلال والحرية، وفي ١٤ نوفمبر سقط أول شهداء مصر الفتاة: عبد الحكم الجراحي وعبد المجيد مرسي، وكاد أن يلحق بهما إبراهيم شكري لولا أن نجَّاه الله.»٢٦

عانى الطالب الشاب بهاء عبد القادر — الاسم الروائي لجمال عبد الناصر — من اعتداء رجال الشرطة، حين شغلهم عن فوزي السيد — أحمد حسين — ونال من أذاهم ما أفضى إلى إصابته، وكان ذلك في مواجهة رجال البوليس لمظاهرة في الإسكندرية، قادها فوزي السيد (أزهار).

ويدور حوار في السجن بين ناجي عضو مصر الفتاة والطالب الشاب بهاء عبد القادر (أزهار).

«– ما مدرستك؟

– رأس التين.

– ما الذي جعلك تخوض المعركة إلى جوارنا؟

– إحساس بالظلم الواقع عليكم، لقد أهاجني رؤية البوليس يعتدي عليكم، إنني أكره البوليس، إنه عدو الشعب.»٢٧

•••

أسَّس حزب مصر الفتاة — في أول يناير ١٩٣٧م — مجلس جهاد «جمعية مصر الفتاة» المنعقد في شكل جمعية عمومية، برئاسة أحمد حسين المحامي، وعضوية عدد من المحامين والأطباء ومندوبي الجامعتين المصرية والأزهرية. وكان هتاف أعضاء الجمعية: المجد لمصر! بديلًا للهتاف النازي الشهير: هايل هتلر!٢٨ وكانت الحركة تتخذ من الأهرامات شعارًا لها باعتبارها رمز الثبوت والخلود،٢٩ أما عبارة «مصر فوق الجميع»، فقد كان المقصود منها، كما تقول فاطمة: إن مصر فوق الدنيا كلها.٣٠
ويُرجِع عبد العزيز الدسوقي — مؤرخ أحمد حسين — تعدُّد الحركات في تاريخ الرجل إلى أنه عاطفي إلى أبعد ما تكون العاطفة، مرهف الإحساس، سريع التأثر، مشرق النفس، يفيض قلبه بالخير، والحب، شاعري التكوين، ثم هو بعد ذلك نفَّاذ الفكر، حاد الذكاء، شجاع، مندفع.٣١
ذهب أحمد حسين — وهو طالب في المرحلة الثانوية — إلى الأقصر، فبهرته أمجاد الفراعنة، وحركت عاطفته الوطنية، أحزنه «أن المصريين قد قطعوا كل الصلات التي تربطهم بهؤلاء الأجداد، فأخذوا يتحدثون عنهم، ويشاهدون أعمالهم تمامًا كما يفعل السواح والأجانب.»٣٢ ويقرر تكوين مصر الفتاة لتعيد الحضارة المصرية القديمة، ثم ذهب إلى الأراضي المقدسة، فثارت عاطفته الدينية، ونادى بصحوة الإسلام، واتخاذه أساسًا للمعاملات، وأزمع تكوين الحزب الوطني الإسلامي، ثم مثَّلت رحلة أحمد حسين إلى باريس انعطافة حادة في تفكير الرجل، واستبداله باتجاه الفرعونية، فاتجاه المصرية الإسلامية.

أزعجه في مشاهداته الأوروبية «سريان الشيوعية المخربة، المدمرة لكل ما هو جميل وروحي، وكذلك الاشتراكية المتطرفة.» ورأى في ذلك إيذانًا بانهيار الحضارة الأوروبية، وعاد وفي يقينه ضرورة السعي لبعث مصر في الإطار الإسلامي.

ثم تأكد التوجه الإسلامي لحزب مصر الفتاة، حتى الحرب العالمية الثانية، ساعد على ذلك نمو التيار الإسلامي ممثَّلًا في جماعة الإخوان المسلمين، واستفزاز النشاط التبشيري المعلن لمشاعر المسلمين من أبناء الشعب المصري، وإلغاء الامتيازات الأجنبية ضمن اتفاقية مونرو عام ١٩٣٧م بما يعني محاولة إيجاد حلول «وطنية» للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية. ثم سافر أحمد حسين إلى الحجاز في ١٩٤٠م، فأدى فريضة الحج، وبعث — بعد عودته — برسالة إلى الملك يبيِّن فيها أهدافه الجديدة.٣٣
كان أحمد حسين أول سياسي مصري يسافر إلى أمريكا للدعوة للقضية المصرية،٣٤ وحين سافر إلى أوروبا وأمريكا، تعرَّف إلى النظم الاجتماعية، ولاحظ غلبة التيار الاشتراكي، فثارت طبيعته الإنسانية، وقرر تأليف الحزب الاشتراكي.٣٥
وفي انتخابات ١٩٥٠م فاز إبراهيم شكري — ممثِّلًا للحزب الاشتراكي — بعضوية مجلس النواب، وكانت تلك فرصة يضع فيها الحزب برنامجه في التنفيذ، وقدَّم إبراهيم شكري مشروعات بقوانين لتحديد الملكية بخمسين فدانًا، وبإلغاء الرتب والألقاب، وتنظيم اتحادات للعمال والفلاحين، وحق العمال في الإضراب.٣٦ وبدلًا من شعار «مصر فوق الجميع» صارت دعوة أحمد حسين هي الدعوة إلى توحيد مصر والسودان، ثم الدول العربية كلها.٣٧

•••

تلك وجهة نظر أحمد حسين في حركة مصر الفتاة، فما وجهات النظر المقابلة؟

يلخص عبد العظيم رمضان الخطوط الرئيسة التي اتبعتها مصر الفتاة في الدعوة للنظام الفاشي — على حد تعبيره — فيما يلي:

  • مهاجمة النظام البرلماني، وأنه أخفق في تحقيق مطالب الشعب.

  • مهاجمة الجيل السابق من السياسيين، والدعوة لحكمٍ جديدٍ برئاسة الملك الشاب فاروق.

  • الدعوة لحكم مصر الفتاة بعد أن تحوَّلت إلى حزب.

  • رفع راية الفاشية على الحزب، وتأكيد أحمد حسين أن «الفاشية فيها الكثير من الإسلام، والإسلام هو أصلح النظم لحكم مصر.»٣٨

ويُرجِع محمد عودة ظهور الحركة الفاشية المصرية، في ثلاثينيات القرن العشرين، نتيجة لجمود الحركة الوطنية، ولقلق الجيل الجديد الذي بدأ ينمو ولا يجد مجالًا له في الأحزاب السياسية التقليدية، وكصدًى لقيام الفاشية العالمية في ألمانيا وإيطاليا واليابان، ومحاولتها خلق أحزاب وقوى موالية لها في آسيا وأفريقيا، وضد بريطانيا وفرنسا.

بعد الحرب العالمية الثانية، وهزيمة الفاشية ونهايتها، تحوَّلت الحركة إلى الاشتراكية الديمقراطية، وكانت هذه الحركة — منذ ظهورها — تكاد تكون محصورة بين المثقفين والطلبة، ولم تستطع أن تنفذ إلى الجماهير العريضة، كانت دائمًا حركة لها من الدوي أكثر مما لها من القوة الحقيقية، وظلَّت — بعد تحوُّلها إلى الاتجاه الاشتراكي — محتفظة بنفس الخصائص، وإن كان في نطاق أضيق.

أما وسيم خالد، فإنه يشير في مذكراته إلى ذلك الرجل — أحمد حسين — الذي قدَّر أن الجيل الجديد على استعدادٍ للكفر بالقيادات الموجودة، ويدير شعارات جديدة، ليبدأ بذله وحركته. وأعطاه هذا الشعار «مصر الفتاة»، مصر التي تُبعَث من جديدٍ لإحياء التراث القديم، لإحياء مجد الفراعنة، القومية المصرية الأصيلة، لكن الرجل لم يسلم هو نفسه من تشوش ذهني بالغ، مع بعض الرخاوة في طبعه، جعلته يتخبط في التطبيق، فاكتفى باستيراد النظرية النازية.٣٩
يضيف وسيم خالد: «لقد استوردت مصر الفتاة ببساطة، النظرية النازية باشتراكيتها الوطنية التي تقوم على نظام عضوي، تتحكم في قممه إرادة الاحتكارات في الحقيقة، لا إرادة الشعب، مهما حاولت شخصية الزعيم الذي ينفخ فيها هذا النوع من التجارب، أن تحجب الحقيقة، وغلَّفت هذا كله بمحاولة إحياء الفرعونية.»٤٠
رأى أحمد شوكت (السكرية) أن مصر الفتاة «لا وزن لها، فرقة تُعَد على الأصابع.»٤١ ويقول عدلي كريم (السكرية): «أما مصر الفتاة فحركة فاشستية رجعية مجرمة، ليست دون الرجعية الدينية خطرًا، وهي ليست إلا صدًى للعسكرية الألمانية والإيطالية التي تعبد القوة، وتقوم على الاستبداد، وتزري بالقيم الإنسانية والكرامة البشرية، إن الرجعية داء مستوطن في الشرق كالكوليرا والتيفويد، فينبغي استئصاله.»٤٢
ويلاحظ عبد العظيم رمضان أن أحمد حسين أغفل الإشارة تمامًا لقضية الدستور في برنامج «مصر الفتاة»، مع أن تلك القضية كانت آنذاك «هي القضية الأولى التي يشتد حولها النزاع بين الأحزاب والفِرق السياسية.»٤٣
أما رجاء النقاش فقد كان رأيه أن «مصر الفتاة» حزب عاطفي بلا جذور شعبية، وكان يشكو على وجه الخصوص من الضعف الفكري «فلم يكن وراء هذا الحزب أي تراث فكري عميق، بل كان في نشأته مجرد رد فعل للحزب النازي الألماني الذي كان يعيش أكثر فترات حياته ازدهارًا في ذلك الحين.»٤٤
وحين كان فوزي السيد (واحترقت القاهرة) يرى في طريقه بعض الذين يعرضون عنه، فإنه كان يغمغم في نفسه: «إنهم شيوعيون!» كان يؤمن بأن الشيوعيين وحدهم هم الذين ينظرون له نظرة عداء، ويصِفونه بأقسى النعوت: انتهازي، فاشستي، متعصب، جاهل، مزور. وكان يُرجِع موقفهم منه إلى تضليل اليهود لهم «إنهم مضلَّلون، ضلَّلهم اليهود الذين يتزعمون الشيوعية، والذين يكرهونني لأنني عدو إسرائيل.»٤٥ يصفهم فوزي السيد (واحترقت القاهرة) بأنهم «لا يؤمنون بالله، ويبشِّرون بالعنف، ويدعون للديكتاتورية السافرة:»٤٦ وقد استنكر أحمد حسين — في إحدى مرافعاته — أن تتهم الحكومة العمال بأنهم يعملون لصالح الشيوعية، وتساءل: «أليس من الإجرام والنذالة أن يُوصَف بهذا عمال مصر؟»٤٧
بقدر إخلاص عبد العزيز (الشوارع الخلفية) في الدعوة إلى مشروع القرش بين سكان شارع عزيز، وإقدامه على شرح المشروع أيضًا لأبيه، ولأمه، ولرجالٍ آخرين في قريته، واقتناع الأب العمدة إلى حد أنه أرسل الخفراء يجمعون القروش ويوزعون الطوابع … بقدر ذلك التحمُّس الذي كان مبعثه إعجابًا بشخصية أحمد حسين «هذا الرجل الذي يثير دائمًا ذكريات الإمبراطورية العربية والفرعونية، ويطالب الشباب ألَّا يهدءوا حتى يرَوا العلم المصري يرفرف دائمًا على سماء لندن.»٤٨ فإن عبد العزيز ما يلبث أن يسخر بالرجل الذي كان يحبه، وأصبح يضحك منه، وهو يتذكر كلماته التي كانت تهزه حتى الأعماق «إن هذا الرجل الذي يقاوم الإنجليز، إنما يفعل ذلك بتشجيعٍ من إيطاليا، وإنه ليتخذ موسوليني مثله الأعلى، ويثرثر مثله بهوس الإمبراطوريات القديمة، وهو على صلة أكيدة بالسفارة الإيطالية في مصر، بل إنه يتلقَّى منها المال.»٤٩
يقول فوزي السيد لآمال (أزهار): «إن حزب الأغلبية يتهمنا بأننا صنائع السراي، والسراي أصبحت تعتبرنا صنائع حزب الأغلبية، والإنجليز يتصوروننا شيوعيين.»٥٠ تصور قادة الوفد أن الحركة الجديدة هي من صنع السراي، حتى إن مصطفى النحاس هتف — فور سماعه بتأليف الجماعة — «أرأيت الألاعيب الجديدة؟ أرأيت الأسلحة المسمومة التي يسلطها ناظر الخاصة على الأمة، خاصة الشباب الذي كان دائمًا أبدًا غصَّة في حلوقهم؟»٥١
ولأن الجماعة تحالفت مع علي ماهر ومحمد محمود في عام ١٩٣٨م ضد الوفد، فقد تكرر اتهامها بأنها تعمل في خدمة السراي، واتهمت الحكومة الجماعة بأنها على صلة بجريدة «دوريانتي» الإيطالية، وأعلنت وزارة الداخلية (أزهار) أنه قد ثبت «أن جماعة «مصر الفتاة» تعمل لحساب دولة أجنبية.»٥٢ وأبرق قادة الجماعة إلى النيابة العمومية، يعلنون — في تحدٍّ — استعدادهم للتحقيق معهم، ويتساءلون: إذا كانت الحكومة توجه إليهم هذا الاتهام الخطير، فلماذا لم تقدمهم إلى القضاء؟ ولماذا تسمح لهم بمزاولة نشاطهم؟٥٣ لكن الفنان نفسه يطالعنا برأي مغاير على لسان وزير داخلية حكومة الوفد (واحترقت القاهرة): «لقد سكتُّ عن مقالات فوزي السيد وجماعته من ناحية كحركة سياسية، وحتى أُشعِر فاروق — من ناحية أخرى — بالتيارات الخطرة التي أصبحت تغمر البلاد ضده شخصيًّا، فلا يجد له حاميًا غيرنا والنظام البرلماني.»٥٤
ظلَّت علاقة الوفد بمصر الفتاة — كما يعرض لها الفنان (الدكتور خالد) — سلسلة من المؤامرات، من الوفد ورئيسه بالذات، ضد «مصر الفتاة» ورئيسها بالذات «في هذه الأثناء تلخصت العقبة التي تعترض سُبل الإيمان الجديد في الوفد، ورئيس حزب الوفد.»٥٥
من هنا، جاء هجوم أحمد حسين على النحاس من منطلق أنه لا علاج للنحاس إلا الإقصاء أخيرًا عن السياسة المصرية لإنقاذ مصر من تصرفاته.٥٦
حارب الوفد مشروع القرش، وحارب معركة «مصر الفتاة» منذ بدايتها، وحاول إجبارها — كما يقول أحمد حسين — على أن تنضوي تحت لواء الوفد، ثم اتهم الجماعة بأنها تعمل لحساب دولة أجنبية، وقال وزير الداخلية في مجلس النواب: «ثبت لوزارة الداخلية أن جمعية «مصر الفتاة» تعمل لحساب دولة أجنبية ضد مصلحة الدولة، ولذلك قررت الوزارة — حرصًا على مصلحة الدولة — أن تمنع تجوال أعضاء هذه الجمعية في القرى بزي خاص، وقد بذلت لرئيس الجمعية النصيحة الودية للعدول عن السفر إلى الصعيد، فلمَّا لم يستمع لهذه النصيحة، وسافر هو ومن معه إلى أسوان، لم يتعرض لهم أحد، ولكن اتخذت الإجراءات للحيلولة بينهم وبين التجوال في القرى بزي خاص، والاتصال بالأهالي، وذلك للسبب الذي بينَّاه.»٥٧
أغلق النحاس دور «مصر الفتاة» في أقاليم مصر، وشنَّ أفراد القمصان الزرقاء حملة قاسية بصمتٍ من الشرطة، ثم اتهم النحاس الجماعة بأنها كانت وراء إطلاق النار عليه، وزجَّ بأحمد حسين، وبأعضاء الجماعة في السجون.٥٨ وهو ما نفاه الفنان في «أزهار»، لما تساءل فوزي السيد في فزعٍ — التعبير للفنان — عقب محاولة اغتيال النحاس بيد أحد أعضاء مصر الفتاة: وهل مات رئيس الحكومة؟

– لم يُصَب بسوء.

– الحمد لله الذي حفظ لنا صفحتنا نقية غير ملوثة بدم.٥٩

وقُبِض على معظم أعضاء الجماعة ومنهم أحمد حسين، وتعرضوا للمعاملة القاسية بالتهمة نفسها.

لم يمنع هذا كله من أن تتدفق جموع هائلة من الشباب على حزب أحمد حسين، لمجرد أن فيه بريقَ شيء جديدٍ يحتمل أن يصل ببلادنا إلى خلاصها، لمجرد أن حركته تعنى بعدم الإيمان بالجيل الموجود من الزعماء والقيادات. ويصف لويس عوض زعيم «مصر الفتاة» بأنه كان دائمًا «كالإعصار الهائج الذي يجتاح كل شيء في طريقه، وكان فيه من التدمير أكثر مما فيه من البناء.»٦٠
ويُدين محمد عودة «الحزب الاشتراكي» بأنه «كان حزب إثارة أكثر مما كان قوة سياسية منظمة، وهو بالطبع لم يكن يملك التنظيم النقابي أو التنظيم التعاوني أو التنظيم الحزبي أو الجمعية الفابية التي كان يملكها حزب العمال البريطاني، ولكن حمل لفحة هواء قوية ومثيرة للمعركة السياسية في مصر، وطرح الاشتراكية كقضية وشعار شعبي واسع الانتشار، وقدَّم حلولًا اشتراكية قومية وديمقراطية لمشاكل كثيرة، ولكن الحزب كان يتكوَّن أساسًا من شخصية زعيمه وبعض المريدين.»٦١
مع ذلك، فقد ظل أحمد حسين مثلًا أعلى للكثير من الشبان. وكان محمود المنيسي (اللوحة) واحدًا من هؤلاء، كان يحلم بكلية الحقوق، وبأن يكون زعيمًا لحزب مثل أحمد حسين، ويحلم بآلاف السرادقات والمؤتمرات.٦٢

أثبتت أوراق الحزب التي تم الاستيلاء عليها عقب حريق القاهرة، أنه يخضع لسيطرة كاملة من أحمد حسين، سواء فيما يتعلق بماليته أو إدارته. وأعلن الرجل في جلسة تحقيق في ٢٢ أبريل ١٩٥٢م أن الحزب الاشتراكي ليس في الحقيقة حزبًا بالمعنى المفهوم، وأنه حمل عبء الكفاح فيه منفردًا طوال ثمانية عشر عامًا، وإن حرص — في الوقت نفسه — على تأكيد كراهيته للقتل والقتال، وهو ما أشار إليه في تقديمه لشخصية فوزي السيد المتماهية مع شخصية أحمد حسين.

يصور الفنان (واحترقت القاهرة) شخصية فوزي السيد بأنها قيادية، آسرة، وحين يعترض أحد المُنصتين لكلماته على بعض ما في تلك الكلمات، يداخله يقين أن هذا المعترِض من غير أعضاء الحزب، ويهِمُّ أعضاء الحزب أن يبطشوا بالمعترض، لكن فوزي يصيح فيهم: «إذا كنت أنهاكم عن العنف حتى بالنسبة لخصومنا، فكيف بأحبابنا وإخواننا؟»٦٣
كان — في نظر أعضاء حزبه — «الكفاح الدائب في شجاعة، والتصدي لقوى الطغيان أبدًا، في غير كلل أو ملل.»٦٤ وتقول له زوجته: «إنك أنت كل شيء، وما تريده يريدونه، وما تقرره يقررونه.»٦٥
واللافت — في أثناء عمليات الفدائيين في منطقة القناة — أن أحمد حسين كان يطوف بقرى الشرقية، يثير الفلاحين ضد المُلاك، وخطبَ — ذات مرة — في قضية الكفاح، قال إن كل موسر يجب أن يدفع مالًا في صندوق الكفاح، وأن الذي يتخلف عن ذلك يجب أن يُقتَل!٦٦ وفي خُطبة أُلقيَت داخل مبنى الحزب (ديسمبر ١٩٥١م) وعثر عليها البوليس في أثناء تفتيشه المبنى — فيما بعد — جاء فيها: «وسنكفُّ عن كتاباتنا وخططنا، لأن غيرنا سيتكلم، وقوى ستعمل، وصوت الرصاص سينطلق، وستنطلق الجمعيات السرية، وبدلًا من محاربة الحكومة بالصحف، فستوجد الجمعيات التي ستحاربها بالرصاص.»٦٧
وفي ٢٨ يناير ١٩٥١م أصدر مجلس الوزراء قرارًا بإلغاء جريدة «مصر الفتاة» لأنها «دأبت على محاولة قلب النظام الاجتماعي في البلاد، بأن عمدت إلى الدعوة السافرة للثورة، وحرضت على إثارة الفتن بين مختلف الطوائف، ولم تترك وسيلة لبلوغ هدفها إلا سلكتها.»٦٨
لكن الرجل صرح — في أثناء معارك القناة — أنه ليس من رجال الحرب، إنه صاحب فكرة ومبدأ، وداعية حق وسلام، سلاحه هو وجدانه وعقيدته، وهو على استعدادٍ أن يموت في سبيل هذه العقيدة، ولكنه ليس على استعداد أن يقتل.٦٩

•••

في ٣ فبراير ١٩٥٠م، تقدَّم إبراهيم شكري ممثل الحزب الاشتراكي في مجلس النواب آنذاك، بإخطارٍ لوزير الداخلية أنه قد اعتزم إصدار جريدة جديدة باسم «الشعب الجديد»، واعترض محافظ القاهرة على صدور هذه الجريدة بحجة أنها ستكون إحياء لجريدة «مصر الفتاة»، فبادر إبراهيم شكري إلى رفع دعوى جديدة أمام رئيس مجلس الدولة، طالبًا إيقاف اعتراض محافظ العاصمة على صدور جريدة «الشعب الجديد».٧٠
ويلاحظ عبد العظيم رمضان أن تشكيلات الحزب الاشتراكي وجَّهت نشاطها لمهاجمة البارات ودور السينما، بدلًا من أن توجه ذلك الهجوم إلى معسكرات الإنجليز.٧١ لكن الراوي (واحترقت القاهرة) يصدر ذلك الاتهام، أو ما يشبهه، إلى جماعة الدعوة المحمدية — الإخوان المسلمين — وأنها كانت المحرك والمنفذ لحوادث الاغتيال، ومن ثَم جاء قرار حل الجماعة، ومصادرة دورها وأموالها، وإيقاف جريدتها. ويُدين الراوي (واحترقت القاهرة) موقف شباب الجماعة «الذي بدأ يكشف عن روح عدمية، واستهانة بالحياة البشرية، خاصة وقد أمدَّتهم معركة فلسطين بفرصة ذهبية لحشد السلاح، والتمرن على استعماله، بدعوى أنه من أجل فلسطين.»٧٢ أما الهدف الحقيقي — والكلام لأحمد حسين — فهو إحداث انقلاب في مصر بالقوة!٧٣
رأى أحمد حسين أن حسن البنا «أداة في يد الرجعية، وفي يد الرأسمالية اليهودية، وفي يد الإنجليز وصدقي باشا، ومن ثَم القصر.»٧٤

وفي أثناء الإعداد ليوم ٢١ فبراير قال فوزي السيد — التسمية الروائية لأحمد حسين — إن هذا اليوم يجب أن يظهر تكامل إرادة الشعب، وتصميمه على الجلاء، بحيث تتوقف الأعمال كلها، والمواصلات، ولا تفتح المحلات العامة أو المتاجر في القاهرة والإسكندرية وسائر المدن، ثم يحتشد الشعب كله في مظاهرة هائلة.

ويقول أحد أعضاء الحزب: ولكن أواثقون أنتم من جماعة الدعوة المحمدية، ألَّا تتخلى عنا كعادتها، فلا تحقق وعدها بالاشتراك في الحركة؟

يرد فوزي في حماس: من هذه الناحية كونوا مطمئنين، لقد عاهدني الشيخ المهدي شخصيًّا أن يكون على رأس المظاهرة، وعلى أية حال فالمسألة اليوم لم تعُد مسألة حزبنا، أو جماعة الدعوة المحمدية (الإخوان المسلمين)، إنها مسألة الشعب كله، لقد استجاب الشعب وتحرك، وعندما يتحرك الشعب، فلا توجد قوة على ظهر الأرض تستطيع أن تُوقِف حركته.٧٥
مع ذلك، فقد كان رأي فوزي السيد (أحمد حسين) أنه لو اتحد الإخوان ومصر الفتاة لاستطاعت الجبهتان أن تقودا البلاد.٧٦

ويشير الراوي (الدكتور خالد) إلى أن قادة مصر الفتاة رأوا وجوب الاتصال بالإخوان المسلمين لتوحيد الجهود، والتقى — في دار الإخوان — الشيخ حسن البنا ووكيله، مع أحمد حسين ومصطفى الوكيل، وفسَّر أحمد حسين الموقف بالقول: «إنكم تتابعون — من غير شك — يا سيدي الشيخ كيف أن حزب الأغلبية قد عاد يحاول قيادة الرأي العام في جهاده ضد الإنجليز، فراح ينادي بإلغاء الأحكام العرفية، ووجوب اعتراف الإنجليز بأماني مصر القومية في الجلاء ووحدة وادي النيل؟

– طبعًا … طبعًا.

– ولا بد أنكم تتفقون معنا في أن ذلك كله ليس إلا مجرد مناورات يُراد بها الضغط على الإنجليز، ليضغطوا بدورهم على الملك ليعيدهم إلى الحكم.

– حق.

– وأن الإنجليز لا يمكن أن يجلوا عن مصر، ولا أن يعترفوا بحقوقنا في السودان إلا إذا أكرهناهم على ذلك إكراهًا.

– صح.

– ولن تجد فرصة ذهبية للقيام بثورة مسلحة ضد الإنجليز أكثر من هذه الفرصة التي انشغلوا فيها للدفاع عن كيانهم في عقر جزيرتهم.

– فتح الله عليك يا أستاذ فوزي، طول عمرك مجاهد صادق تنظر بنور الله، لقد لخصت القضية كما نفهمها، ونفكر فيها بالليل والنهار، فهل لديك خطة للعمل؟

– إن خطتي بسيطة جدًّا، وهي تعتمد — في الدرجة الأولى — على الحالة النفسية للجماهير المصرية في اللحظة التي يشرع فيها هتلر باقتحام الجزر البريطانية، إن كل مصري في هذه الساعة سيكون مستعدًّا للاشتراك في أي عمل يؤدي إلى ضرب الإنجليز في بلادنا، وحملهم على الجلاء عن وادينا، وباستطاعتي أن ألخص فكرتي في أن مهمتنا لن تزيد عن أن تكون إشعال الثقاب الذي سيحيل البلاد كلها إلى لهب ضد الإنجليز.»٧٧
يُفاجأ فوزي السيد (واحترقت القاهرة) برفض الشيخ المهدي طلب الاشتراكيين الانضمام إلى الإخوان المسلمين، ويصارحه بالقول: «لقد أصبحت الآن مؤمنًا أن حركتكم حركة غامضة هدَّامة، تهرب من النور، وتعمل في الظلام، وها أنا ذا أنذرك، وليسجل الله عليَّ، ولتشهد الأيام، أنه لن يمضي عامان فقط من الآن، حتى يُكشَف الستار عن القناع الزائف الذي تستتر وراءه حركتك، وسوف تُحَل، وتصبح حركة مجرمة محظورة يُطارَد المنتسبون إليها.»٧٨
وقد نفى حسن البنا — بحسم — ما قيل من اتجاه الإخوان المسلمين ومصر الفتاة إلى الوحدة، أو الاتحاد.٧٩
ثمة رأي أنه بعد نشوب الحرب، اقتصرت جهود حزب مصر الفتاة وجماعة الإخوان المسلمين على تخزين الأسلحة انتظارًا للفرصة المناسبة، لكن جماعة الإخوان المسلمين آثرت استخدام أسلحتها في ميدان الخصومة الداخلية بعد انتهاء الحرب «وهكذا لم يثمر كفاح الثورية الزائفة إلا زيفًا.»٨٠

أما فوزي السيد (الشخصية الروائية المتماهية مع شخصية أحمد حسين في رواية «واحترقت القاهرة») فهو يطالعنا منذ الصفحات الأولى في الرواية، داعية للسلام، محبًّا له، ورافضًا للعنف.

وحين يسأله أحد أعضاء الحزب: «وماذا لو ضربنا الإنجليز بالرصاص كما شأنهم، ألَا ترى أننا يجب أن نتسلح؟

يجيبه فوزي السيد في غضب: هذا هو الشيء الذي طالما نبَّهتُ وحذَّرتُ منه، ليس أضر على جهادنا — وحركتنا نحن بالذات — من استخدام العنف. إن الإنجليز، وأي مستعمر أو طاغية، لا يتمنى شيئًا أكثر من أن يواجَه بالعنف وقوة السلاح، لأن هذه هي فرصته لكي يقضي على روح المقاومة، ويغرقها في طوفان من الحديد والدم، وليس أنجع من المقاومة السلمية، الجماعية، إنها هي التي تحيِّر المغتصب والطاغية، لأنه لا يعرف أين يضرب ضربته، وهذا هو أسلوب شعبنا، وما دعا إليه غاندي في العصر الحديث، إنني أومن بقول غاندي: «إننا سوف ننتصر في المعركة، لا بمقدار ما نقتل من خصومنا، ولكن بمقدار ما يسقط من شهدائنا.»٨١

•••

لعل اتهام أحمد حسين بالعمالة لإيطاليا، انعكاس لاتهام الوفد للرجل بالتهمة نفسها. وعلى الرغم من إدانات عبد العظيم رمضان لأحمد حسين، واتهامه له بالعمالة لأكثر من جهة، فإنه يبرئه من العمالة لإيطاليا، «واتهام النحاس باشا بأنه كان يعمل ضد مصلحة وطنه، كان إسرافًا في الاستنتاج، لأن الخط السياسي الذي انتهجه أحمد حسين — برغم أنه كان يبتعد عن الخط السياسي للكثرة الجماهيرية — إلا أنه كان بعيدًا أيضًا عن الالتقاء مع الخط الاستعماري لإيطاليا، وهو ما يكشفه — بوضوح — سوء علاقاته بها.»٨٢
يسأل بيومي (الدكتور خالد) عن جماعة مصر الفتاة، فيأتيه الجواب: «جماعة البعث — مصر الفتاة — الذين يحاربون البغاء، ويحطمون الحانات.»٨٣ ففي ١٩٣٦م قامت أعداد من شباب «مصر الفتاة» بتحطيم حانات في المدن المصرية، ونظموا مظاهرات ضد مظاهر الانحلال، وضد البغاء.٨٤ وتقدَّم أحمد حسين بطلب إلى محافظ العاصمة للتصريح بمظاهرة تبدأ من جامع الأزهر، وتسير في حي البغاء، احتجاجًا على بقائه. وخرجت المظاهرة — بالفعل — يوم الجمعة ١٦ فبراير ١٩٣٦م، وقتل أحد أفراد الجماعة — عبد اللطيف عبد الغني — وهو يهتف: الله أكبر والمجد للإسلام … يسقط البغاء!٨٥

في تقديري، أن المآخذ التي وُجهَت إلى مصر الفتاة، وإلى أحمد حسين تحديدًا، يصعب أن تُلقي ظلالًا بالعمالة على الحركة، وأنها صنيعة للاستعمار أو السراي أو أحزاب الأقلية. ويتبدى التحامل على مصر الفتاة — هذا هو التعبير الذي يحضرني — في مؤاخذة الحزب الاشتراكي، لأنه دعا إلى عدم بناء ثكنات للقوات البريطانية من أموال المصريين «فتجاهل الاحتلال الذي قاومه المصريون ستين سنة أمرًا مشروعًا»، وأن بناء هذه الثكنات لينتقل إليها الجيش الإنجليزي، بعد ثماني سنوات، يُعتبَر عبثًا «لأن جهادنا القومي يجب أن يتجه إلى إجلاء الإنجليز عن القطر المصري قبل انقضاء هذه الثماني سنوات.»

الكاتب يذهب إلى أنه قد ترتب على عدم بناء الثكنات بقاء القوات البريطانية مرابطة في كل أنحاء البلاد عند قيام الحرب، مما ترتب عليه — في اجتهاد رمضان — عدة آثار هامة، أولها أن شعور المصريين بوطأة الاحتلال البريطاني لم يخف بعد المعاهدة عما كان عليه قبل توقيعها، لأن المشهد الذي تعوَّدوا عليه من انتشار هذه القوات في كل مكان لم يتغير، وثاني تلك الآثار أن القوات البريطانية ظلت في المركز الذي تستطيع أن تتحرك منه بسهولة، وبسرعة، للتدخل في الشئون الداخلية المصرية عند الضرورة — وهو ما حدث في أثناء الحرب — أو لضرب التحركات الوطنية الجماهيرية — وهو ما حدث عقب الحرب — وأخيرًا: التضحيات الجسيمة في الأرواح والممتلكات التي نتجت عن غارات سلاح الطيران الألماني، وتأثيرها المباشر على الحياة المصرية، دون أن يكون لمصر في الأمر كله — كما قيل — ناقة ولا جمل، وزاد من تفاقم تأثير الغارات الألمانية تغلغل القوات البريطانية في قلب الأحياء الوطنية، وفي أطرافها.٨٦
هذا الرأي يحتاج إلى مراجعة، ذلك لأن ثورة عرابي كانت هي المبرر للاحتلال البريطاني، وهو مبرر استعاد — كما أشرنا — قصة الذئب والحمل، بل إن الكاتب يضغط على حقيقة أن نفقات إنشاء تلك الثكنات كانت عاملًا مباشرًا في تعطيل بناء الجيش المصري بالسرعة المطلوبة.٨٧
لعلِّي أوافق مصطفى بهجت بدوي في أن «القول الصحيح أن أحمد حسين وحركة مصر الفتاة كان إرهاصة، ظاهرة وطنية غاضبة ونقية في بدايتها، دعوة متيقظة وجرأة شدَّت وجذبت إليها عناصر من الشباب الفتي الذي تعتمل في صدره تطلعات صافية للحرية والوطنية المثالية.»٨٨

•••

ألف شباب البعث — اسم مصر الفتاة في رواية «الدكتور خالد» — كتائب القمصان الخضر، للقيام بحملة واسعة النطاق لغزو الصعيد كله بمبادئهم وأفكارهم، ليس فقط في بني سويف أو المنيا أو أسيوط، لكن في كل المراكز والمدن والقرى، بل والعزب. وإذا كان الصعيد يتألف من هذا الشريط على جانب النيل، فما عليهم إلا أن ينظموا حملة تبدأ من الشلال، وتنتهي عند الجيزة.٨٩
يُرجِع عبد العظيم رمضان ظهور فرق القمصان الخضراء إلى ظروف ثورة ١٩١٩م، حين تألفت من بعض طلبة كلية الطب فرقة تسير في أثناء المظاهرات، في طوابير منتظمة، وهي تحمل علمًا خاصًّا ذا لونين: الأحمر والأسود، للتعبير عن الثورة والحزن على الشهداء، ثم تطورت الفكرة فيما بعد.٩٠ يؤكد الكاتب أن القمصان الخضراء لم تكن مجرد بديل اصطنعته حكومة الوفد، أو اختلقته، لكنها كانت وليدة ذاتها، أو بتعبيرٍ أدق، وليدة الظروف الموضوعية، وهو ما برر به فوزي السيد (أزهار) تأليف القمصان الخضر في قوله: إن الهدف كان اتخاذهم حرسًا ضد العدوان المستمر على اجتماعات مصر الفتاة من شباب حزب الأغلبية، وغرسًا للروح العسكرية في صفوف الشباب.٩١
أدرك حزب الأغلبية خطر تأليف تلك الكتائب، فقرر مؤتمر الشباب الوفدي (٩ يناير ١٩٣٦م) تأليف ميليشيات شبه عسكرية لردع القمصان الخضر، وانضم إلى القمصان الزرق خلال ستة أشهر حوالي ١٠٠ ألف متطوع، كما يقول تقرير اللورد كيلرن.٩٢ ويذهب محمد أنيس إلى أنه قد «زاد عدد المنضمين إلى القمصان الزرق على بضعة ألوف في القاهرة وحدها، في الوقت الذي لم يتجاوز فيه ذوو الأقمصة الخضراء بضعة مئات في مصر كلها.» أما أول مبدأ وضعه القمصان الخضراء أمام أعينهم، فهو الدفاع عن الإسلام، وكانوا يتهمون الوفد بالتعصب للقبطية.٩٣
المهم أن المعارك والصدامات تعدَّدت بين ذوي القمصان الزرقاء والخضراء فعمَّت البلاد كلها، ثم أصدرت الحكومة أمرًا بإغلاق دور جماعة مصر الفتاة، ثم أغلقت المركز العام للجماعة في العاصمة، وصادرت مجلتها، وفصلت بعض الموظفين الذين ينتمون إليها، ونقلت البعض إلى الوجه القبلي، وفصلت خالد أمين (مصطفى الوكيل) من عضوية البعثة المصرية في لندن، واضطر أحمد حسين إلى قصر عمله على المحاماة، ووجد من «الفراغ والجو ما جعله يجد فسحة من الوقت لكي يقوم بسلسلة من الحركات والمناورات الصبيانية التي ما كان ليسمح لنفسه بها، لولا هذا الحب الذي أصبح يملأ نفسه بصورة لا عهد له بها من قبل.»٩٤

ثم كان إعلان معاهدة ١٩٣٦م، واشتراط الإنجليز بأن يصدق عليها جو نسبي من الحرية، دافعًا لأن تنشط جماعة مصر الفتاة من جديد، وتعيد إصدار مجلتها، وأعادت الجماعة افتتاح دارها، لكن الصدام ما لبث أن تجدد بين الحكومة وقيادات الحركة، حين قبضت الحكومة عليهم جميعًا بتهمة الشروع في قتل رئيس الوزراء، ففي ٢٨ نوفمبر ١٩٣٧م أطلق عز الدين عبد القادر — عضو مصر الفتاة وحفيد الزعيم أحمد عرابي — الرصاص على النحاس في أثناء ذهابه إلى دار رئاسة الوزارة، فأخطأته الرصاصة، وأصابت السيارة التي كانت تقله.

واصلت الحركة — فيما بعد — مسيرتها، بعد أن سقطت الوزارة، وشنَّت الحكومة الوفدية حملة اعتقالات واسعة، شملت نور الدين طراف، فتحي رضوان، مصطفى الوكيل، محمد فاضل، إبراهيم شكري، حمادة الناحل، وغيرهم.

•••

بدأ حزب مصر الفتاة — في أعوام الحرب — بإعداد مخابئ للأسلحة في أماكن متفرقة في القاهرة وضواحيها.٩٥
يقول فوزي السيد لفاطمة، في أعقاب الحرب: «لا أكتمك يا فاطمة أن اليأس كان قد بدأ يتسلل إلى نفسي. لقد كان لاعتقالنا طوال سنوات الحرب من ناحية، وظروف الحرب نفسها، وما أغرقت فيه الناس من مادية سيطرت على النفوس، وتحلل من كل المعاني والقيم، كل ذلك قد أوشك أن يعفي على جهادنا، ويبدد حركتنا، ولكننا بدأنا نجمع صفوفنا.»٩٦
وفي أعقاب الحرب، تلقَّى أعضاء جماعة مصر الفتاة التعليمات التالية: لا تتحدث بغير العربية، لا ترد على أي إنسان يخاطبك بغير العربية، لا تدخل مؤسسة تكتب اسمها بلغة غير العربية، لا تشترِ إلا من مصري، لا ترتدِ سوى ما صُنع في مصر، لا تأكل سوى أطعمة وطنية.٩٧
ثم أعلن — في ١٩٤٩م — عن إنشاء الحزب الاشتراكي، كاستمرارٍ لجماعة مصر الفتاة التي تأسست في ١٩٣٢م (الاسم الروائي: الحزب الديمقراطي، بدلًا من «البعث»).٩٨ ثم تطورت التسمية — في أول يناير ١٩٣٧م — إلى حزب مصر الفتاة. تحددت الاشتراكية — في تقدير قيادات الحزب الاشتراكي — دواء لكل ما تشكو منه مصر.٩٩

تَحدَّد برنامج الحزب الاشتراكي في عدة نقاط:

  • مواصلة الكفاح من أجل تحقيق الجلاء ووحدة وادي النيل.

  • العمل على توحيد البلاد العربية كلها في وطن واحد، من الخليج إلى المحيط.

  • إلغاء الرتب والألقاب لتحقيق المساواة بين الشعب، والقضاء على الفوارق الطبقية.

  • إلغاء الملكية الزراعية فيما زاد عن خمسين فدانًا للقضاء على الإقطاع.

  • تصنيع البلاد في سلسلة متعاقبة من المشروعات الخمسية.

  • العمل على ألَّا يزيد مرتب في الدولة على مائة جنيه في الشهر، وألَّا ينقص مرتب عن عشرة جنيهات في الشهر، وألَّا يقل أجر العامل عن ثلاثين قرشًا في اليوم.١٠٠
أحمد حسين يؤكد أن رحلته إلى أمريكا كانت ناجحة جدًّا، وذات صدًى كبير في مصر،١٠١ وأنه لم يحظَ في حياته السياسية من تأييد الشعب بمثل ما حظي به بمناسبة سفره إلى أمريكا، بل إنه اعتبر هذا التأييد ثمرة حياته الماضية كلها، يعبِّر عنه الشعب بمناسبة هذا العمل الأخير.١٠٢
يقول الراوي في (الأرض الطيبة): «يجب أن يبقى صوتي مرفوعًا في وجه الظلم والفساد والطغيان حتى النفَس الأخير، وسيبقى بإذن الله، يجب أن أبقى كما أنا، أحمد حسين، الذي يَرهبه البغاة ويخشاه الإنجليز، وكل عصابة الشر والإفساد، فيعملون دومًا على تقييد حريته، اقتناعًا منهم أنه لو ترك حرًّا، لألهب الأمة بمحاسنه وحرارته، وأيقظ مشاعرها، وحرك عواطفها.»١٠٣ ويقول الفنان على لسان وزير الأشغال (واحترقت القاهرة): «إن نجاح «الاشتراكية» الساحق قد جعل عشرات من المجلات تتشجع وتنسج على منوالها، إنها لم تعد بمفردها، لقد قدَّموا إليَّ منذ أيام مجلة اسمها «الملايين»، وأخرى يصدرها الشيوعيون باسم «الجماهير»، وذلك بالإضافة إلى مجلة أبو الخير «الجمهور المصري» ومجلة «اللواء الجديد» و«روز اليوسف» و«الدعوة»، حتى صحف حزبنا بدأت تندفع وراء هذا التيار لتستجلب رضاء الجمهور»١٠٤ (رأى أحمد حسين أن الصحافة تنفيس، وإلا جاءت القنابل (حلمي سلام، أيامه الأخيرة، ١٧٦-١٧٨)).
من هنا، يأتي قلق وزير الخارجية في الحكومة المصرية من وسائل العنف التي اتُّخذَت ضد جريدة «الاشتراكية»: «هذا هو جوهر القضية في الحقيقة، لقد استخدم وزير الداخلية وسائل القمع والشدة ضد الجريدة، وضد فوزي السيد، فماذا كانت النتيجة؟ هذه الحصيلة التي تفزعون منها، أصبحت الجريدة تُوزَّع بعشرات الآلاف، واجتماعات الحزب يحضرها عشرات الألوف، ويجب أن نفهم من ذلك أن المسألة ليست فوزي السيد أو الحزب الاشتراكي، وإنما هي مسألة الشعب الذي أصبح في حالة غليان، ولا مناص من البحث عن حلٍّ يعالج القضية من أساسها.»١٠٥
يشير الفنان إلى أن فوزي السيد — أحمد حسين — كان هو المبشِّر بكل قرارات ثورة يوليو ١٩٥٢م، وبعد أن كان يخاطب الملك في عام ١٩٣٤م بقوله «عبدكم المطيع»، نشر تحت صور المعدمين والمتسولة «رعاياك يا مولاي».١٠٦ وكان من عناوين جريدة «الاشتراكية»: عرابي أب الدستور المصري، وأول ممثِّل وقائد للشعب … الشعب يريد عقد معاهدة صداقة وعدم اعتداء مع روسيا … الأرض ملك لمن يعملون فيها بأنفسهم، ومن لا يعمل بها لا حق له فيها … تنازل الملك ليوبولد عن عرشه آية من آيات الديمقراطية الحديثة، التي لا تعرف خنق الشعوب بالحديد والنار … يجب الاعتراف بحكومة الصين الشيوعية … نحن نريد في الدرجة الأولى تحديد الملكية الزراعية، وإلغاء الرتب والألقاب، وتأمين كل مصري على عمله ووظيفته، وأنه سينال دائمًا جزاء جهده … نستطيع أن نؤكد للبدراوي أنه سيعيش حتى يرى بعينه توزيع هذه العشرين ألفًا من أطيانه التي وقفها على أولاده … لا بد من إيقاف الفريق محمد حيدر عن منصبه … إنني قادم من الريف، وإني لكم نذير مبين؛ فالثورة آتية لا ريب فيها إذا استمر الحال على هذا المنوال … منشور في الجيش، نذير بالثورة … حيدر، كريم ثابت، بولي، النقيب، وأمثالهم: يجب تطهير أداة الحكم من هذه العصابة … كيف قضى لويس الخامس عشر على سمعة الملكية في فرنسا؟ … إلخ.»١٠٧
يقول الملك فاروق لزعيم الأغلبية (واحترقت القاهرة): «أنا لا أتصور يا رفعة الباشا، كيف يُسمَح في بلد نظامها ملكي بجماعة تنادي بإلغاء الرتب والألقاب، حتى يصبح كل الناس سواء، الأمير كالعربجي، وتحارب الملكية الزراعية، ويُدعى إلى تحديدها بخمسين فدانًا، وتأميم مصادر الإنتاج، وأنا أعلم أنهم شيوعيون مستترون خلف كلمة الاشتراكية، وليس أدل على ذلك من تغييرهم شعارهم القديم من الله والوطن والملك، فجعلوه «الله والشعب»، معنى ذلك يا باشا أنهم خلعوني، لا يعترفون بوجودي، إنني لا أكاد أصدق، أفي حلم أنا أم في يقظة؟ إلى أي طريق تسوقنا حكمتك؟ إلى الشيوعية أم إلى الفوضى؟»١٠٨ ويقول الملك: «لست أريد أن أسمع خُطبًا، لقد سئمت سماع الخُطب، أريد أفعالًا، أريد تصرفات، ماذا فعلتم بفوزي السيد، والحزب الاشتراكي كله؟»١٠٩ ويقول الفنان (واحترقت القاهرة) على لسان وزير الداخلية: «إن فوزي السيد قد انتابته لوثة من الجنون فيما يبدو، فهو لا يفتأ يصرح علنًا، ويكرر في المناسبات وغير المناسبات، أنه قرر أن يهدم فاروق، أو أن يموت في سبيل ذلك، لقد بعثت إليه بوسيطٍ من عندي ليخطب ودَّه، فكان ردُّه عليه أن مصر لم تَعُد تتسع له ولفاروق، ولا بد أن يموت واحد منهما.»١١٠
لذلك فإن أحمد حسين — كما يقول تقرير بريطاني سري بتاريخ ٢١/ ٧/ ١٩٥٢م — كان مطلوبًا إعدامه بأمر الملك!١١١
وكانت محكمة القاهرة قد أصدرت في ١٦/ ٤/ ١٩٥١م حكمًا للقاضي عبد العزيز سليمان، وصف فيه الاشتراكيين بأنهم «يرغبون في عدم تجسيم الفارق بين الأغنياء والفقراء بما يتلاءم مع الإصلاح بقوانين توفر للمرضى والجوعى والفقراء سُبل الراحة بمنشآت يساهم فيها ذوو الثراء، بلا نزع شيء من ملكهم، أو إيرادهم، إلا بقدرٍ محدود، وبما تقتضيه نظم الدولة في حدود المستطاع، بلا سلب بالقوة لمال من صاحبه، أو إهدار حريته الفردية في التملك، وأنهم إذا وصفوا حالة الفقراء بما ليس فيه تبغيض أو كراهية، مع احترام للدين، ومع احترام لنظام الحكم السياسي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، فهم عندئذٍ بمنأى من التأثيم ومخالفة القانون.»١١٢
وفي ٢٤ يناير ١٩٥٢م أصدر الحزب الاشتراكي بيانًا، أعلن فيه وجوب إسقاط الحكومة، لإنقاذ البلاد مما يوشك أن يحل بها من كوارث على يد هذه الحكومة (حكومة الوفد)، مع انسحاب رئيسه إلى إحدى قرى الريف، والكف عن كل نشاط، استنكارًا لمسلك الحكومة، وكشفًا لسياستها أمام الشعب.١١٣

الحزب الوطني

هو «حزب المعارضة الدائم».١١٤ وكان الجانب الفكري للحزب أميل إلى الجمود والتعصب، بعكس جانبه المناضل ضد الاستعمار، ربما — لهذا السبب — فضَّل طه حسين أن ينتمي إلى الأحرار الدستوريين، لأنهم كانوا ليبراليين من حيث الفكر، بعكس مواقفهم السياسية، وعندما دخل الحزب الوطني انتخابات ١٩٢٩م، فقد كان ذلك ليبتعد عند إقرار المقترحات البريطانية (مشروع هندرسن- محمد محمود)، وقد استقال فتحي رضوان من حزب مصر الفتاة عندما أخذت الحكومة في تصفية الحزب، أثناء الحرب العالمية الثانية.
يشير شامل أباظة إلى الجناح المتطرف في الحزب الوطني، الذي كان يرأسه عبد العزيز علي، وكان — في رأيه — يقف وراء معظم حوادث الاغتيالات في مصر، ويتولى تدريب بعض أفراد جماعة الإخوان المسلمين على الأعمال الفدائية.١١٥

خفت صوت الحزب الوطني، وقلَّ نشاطه، بتأثير الضربات المتلاحقة التي وُجِّهَت إليه، وبإصراره على مبدأ: لا مفاوضة إلا بعد الجلاء، وبتحوُّل التيارات الوطنية الشعبية إلى الوفد منذ ثورة ١٩١٩م، وزعامة سعد زغلول، انعكس ذلك كله على حجم الحزب في الحياة السياسية المصرية، قياسًا إلى تنظيمات ناشئة — نسبيًّا — كالإخوان المسلمين ومصر الفتاة وغيرها.

وكان الارتباك الذي عاناه الحزب الوطني، سببًا مباشرًا في انبثاق حزب جديد من قياداته الشابة، باسم الحزب الوطني الجديد، وكان من أبرز تلك القيادات فتحي رضوان ونور الدين طراف وغيرهما.

هوامش

(١) عبد المنعم الغزالي، تاريخ الحركة النقابية في مصر، ٢٩٥.
(٢) من وراء القضبان، ١٣٢.
(٣) تطور الحركة الوطنية في مصر، ١: ١٧٦.
(٤) أحمد حسين، إيماني، الطبعة الأولى، ٦٦-٦٧.
(٥) السياسة، ١/ ٩/ ١٩٢٩م.
(٦) إيماني، ٧١.
(٧) المرجع السابق، ٣١٤.
(٨) تطور الحركة الوطنية في مصر، ١: ٩.
(٩) عبد العزيز الدسوقي، الحركات الجديدة، أحمد حسين، دار الفكر الحديث، ٢٩.
(١٠) أزهار، ٣١٣.
(١١) المصدر السابق، ٣١٤.
(١٢) فتحي رضوان، الهلال، يناير ١٩٨٤م.
(١٣) المرجع السابق.
(١٤) تطور الحركة الوطنية في مصر، ١: ١٨٢.
(١٥) أزهار، ٣٥٧.
(١٦) المصدر السابق، ٣٥٩.
(١٧) المصدر السابق، ٣٦٠.
(١٨) عبد العزيز الدسوقي، أحمد حسين.
(١٩) أحمد حسين، الأرض الطيبة، ١٥٠.
(٢٠) المرجع السابق، ١٥١.
(٢١) المرجع السابق، ١٧٠.
(٢٢) تطور الحركة الوطنية في مصر، ١: ١٨٢.
(٢٣) أزهار، ٣٥٥.
(٢٤) مرافعات الرئيس أحمد حسين في عهد حكومة الوفد، ٥٩.
(٢٥) المصور، ٨/ ١٠/ ١٩٨٢م.
(٢٦) الأرض الطيبة، ١٥٩.
(٢٧) أزهار، ٤١٤.
(٢٨) الدكتور خالد، ١٢٦.
(٢٩) واحترقت القاهرة، ٧.
(٣٠) أزهار، ٣٥٠.
(٣١) عبد العزيز الدسوقي، أحمد حسين، ١٦.
(٣٢) إيماني، ٢٥-٢٦.
(٣٣) الدسوقي، أحمد حسين، ١٣٢.
(٣٤) واحترقت القاهرة، ١٢٩.
(٣٥) عبد العزيز الدسوقي، أحمد حسين، ١٨-١٩.
(٣٦) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٢٤١.
(٣٧) من وراء القضبان، ١٤٠.
(٣٨) تطور الحركة الوطنية في مصر، ٢٢٧ وما بعدها.
(٣٩) الكفاح السري ضد الإنجليز في مصر، ٤٦.
(٤٠) المرجع السابق، ٤٥.
(٤١) السكرية، ١٠٧.
(٤٢) المصدر السابق، ١٠٨.
(٤٣) تطور الحركة الوطنية في مصر، ١: ١٨٤.
(٤٤) رجاء النقاش، عباس العقاد بين اليمين واليسار، ١٢٦.
(٤٥) واحترقت القاهرة، ٤٥-٤٦.
(٤٦) المصدر السابق، ٣١.
(٤٧) إيماني، ٧٢-٧٣.
(٤٨) الشوارع الخلفية، ٢١٩.
(٤٩) المصدر السابق، ٢١٩.
(٥٠) أزهار، ٣٩٥.
(٥١) المصدر السابق، ٣٧٦.
(٥٢) المصدر السابق، ٤٩٢.
(٥٣) المصدر السابق، ٤٩٢.
(٥٤) واحترقت القاهرة، ٣٧٠.
(٥٥) الجمهورية، ٣٠/ ٨/ ١٩٧٥م.
(٥٦) مرافعات الرئيس أحمد حسين في عهد حكومة الوفد، ٧٢.
(٥٧) المرجع السابق، ١١٦-١١٧.
(٥٨) الدكتور خالد، ٤٦١.
(٥٩) أزهار، ٥٢٣.
(٦٠) لويس عوض، أوراق العمر، مكتبة مدبولي، ٥٣٨.
(٦١) ميلاد ثورة، ٩.
(٦٢) سليمان فياض، اللوحة، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب، ٣.
(٦٣) واحترقت القاهرة، ٣١.
(٦٤) المصدر السابق، ٨١.
(٦٥) المصدر السابق، ١٢٨.
(٦٦) أحمد حسين، قضية التحريض على حريق القاهرة، ٢٦.
(٦٧) المرجع السابق، ٣١.
(٦٨) المرجع السابق، ٦٠-٦١.
(٦٩) واحترقت القاهرة، ٤١٨.
(٧٠) المصدر السابق، ٦٨.
(٧١) تطور الحركة الوطنية في مصر، ١: ١٩٦.
(٧٢) واحترقت القاهرة، ٣١٣.
(٧٣) حسن البنا، ١٣٤.
(٧٤) مصر الفتاة، ٢٧/ ٧/ ١٩٤٥م.
(٧٥) الدكتور خالد، ٤٧١.
(٧٦) المصدر السابق، ١٥٥-١٥٦.
(٧٧) المصدر السابق، ١٥٥-١٥٦.
(٧٨) واحترقت القاهرة، ٢٤١.
(٧٩) حسن البنا، إسلامنا، ٥٤–٥٦.
(٨٠) تطور الحركة الوطنية في مصر، ١: ١٠.
(٨١) واحترقت القاهرة، ٣٠.
(٨٢) تطور الحركة الوطنية في مصر، ١: ٢١٣-٢١٤.
(٨٣) الدكتور خالد، ٣٤.
(٨٤) عبد العزيز الدسوقي، أحمد حسين، ١١٨-١١٩.
(٨٥) المرجع السابق، ١٢٩.
(٨٦) تطور الحركة الوطنية في مصر، ٢: ٩.
(٨٧) المرجع السابق، ٢: ٣٥.
(٨٨) الجمهورية، ١٦/ ٣/ ١٩٧٢م.
(٨٩) الدكتور خالد، ٤٦٧.
(٩٠) عبد العظيم رمضان، تطور الحركة الوطنية المصرية من سنة ١٩٣٧ إلى سنة ١٩٤٨، دار الوطن العربي، ٩٧.
(٩١) أزهار، ٤١٠.
(٩٢) أوراق العمر، ٥٢٣.
(٩٣) محمد أنيس، ٤ فبراير.
(٩٤) أزهار، ٥٠٣.
(٩٥) الدكتور خالد، ٢٠٨.
(٩٦) واحترقت القاهرة، ٢٠.
(٩٧) مصر ولع فرنسي، ٢٩٧.
(٩٨) واحترقت القاهرة، ١٣.
(٩٩) الأرض الطيبة، ١٧٠.
(١٠٠) واحترقت القاهرة، ١٣.
(١٠١) المصدر السابق، ١٩٦.
(١٠٢) المصدر السابق، ٢١٤.
(١٠٣) الأرض الطيبة، ١٣.
(١٠٤) واحترقت القاهرة، ٣٩٠.
(١٠٥) المصدر السابق، ٣٩١-٣٩٢.
(١٠٦) واحترقت القاهرة، ٣٨٧؛ وينقل عبد البديع عبد الله العبارة بأنها «شعبك يا مولاي» (المرايا المتقابلة، دار غريب، ص ١٥).
(١٠٧) أحمد حسين، قضية التحريض على حريق القاهرة ومقدمات ثورة ٢٣ يوليو، مطبعة مصر، ٣٧–٤٣.
(١٠٨) واحترقت القاهرة، ٣٥٢.
(١٠٩) المصدر السابق، ٣٩٤.
(١١٠) المصدر السابق، ٣٦٦.
(١١١) الهلال، نوفمبر ١٩٨٤م.
(١١٢) قصية التحريض على حريق القاهرة، ٨٥-٨٦.
(١١٣) المرجع السابق، ٢٠٦.
(١١٤) سقطت في الانتخابات، ١٧.
(١١٥) الأهرام، ٥/ ٣/ ٢٠١٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥