العنقاء
يقول صاحب المحيط: «العنقاء طائر معروف الاسم، مجهول الجسم.» أما البستاني في «محيط
المحيط» فقد
وصف العنقاء بأنه «طائر عظيم يبعد في طيرانه، قيل سُميَت العنقاء عنقاء لأنه كان في عنقها
بياض كالطوق،
وقيل لطول عنقها.» وقيل: العنقاء، طائر يبني عشَّه عند مشرق الشمس بنباتاتٍ يجمعها طول
العام. وعندما ينتهي
من بناء العش، يحترق كلاهما بتأثير أشعة الشمس اللاهبة، ويتحوَّل العش والطائر إلى رماد،
ثم يتحوَّل الرماد
إلى طائر عنقاء جديد ينطلق في الفضاء. ويقال إن العنقاء — ذلك الطائر الأسطوري — اتخذ
اسمه من عنقه
الطويل. وتذهب الأسطورة إلى أنه يظهر للناس مرة كل خمسمائة عام. وقال الجاحظ: «الأمم
كلها تضرب المثل
بعنقاء في الشيء، يُسْمع ولا يُرى.» والعنقاء — في تقدير الدارسين — رمز لغوي، علامة
لغوية، لكائن لا
وجود له، يشكِّل مع الغول والخل الوفي مثلًا يُراد به التعبير عن طلب المستحيل الذي قد
تذكره اللغة
والمخيِّلة، لكنه بلا وجود في الواقع.
•••
كتب لويس عوض روايته «العنقاء» في عام ١٩٤٦م، اختار لروايته أسلوبًا فنيًّا ينأى عن
السرد الواقعي،
فالبطل الرئيس روحٌ من عالم الموتى، تقتل فلاحًا بسيطًا، وتحل في جسده ليواصل تحقيق الرسالة
التي كان نذر
لها نفسه قبل أن يموت.
مع ذلك، فقد حرص الفنان على أن يلتصق بالواقع السياسي المباشر، من خلال أحداث الرواية
ذاتها التي
تقع في فترة زمنية محددة، هي تلك الأعوام التي سبقت قيام ثورة يوليو، ومن خلال الشخصيات
التي نتعرَّف فيها
إلى بعض الشخصيات التي كان لها وجودها الحقيقي في الحياة السياسية المصرية، في أعوام
ما قبل الثورة.
وكان تزاوج مضمون الرواية الواقعي، وأسلوبها الرومانسي، إفادة للرواية من ناحية، وإنقاص
لقيمتها من
ناحية ثانية.
من الصعب أن نعرض للرواية دون الإشارة إلى المقدمة المطولة التي وضعها الروائي (هو
روائي هنا،
وليس ناقدًا) والتي تناول فيها ظروف كتابة الرواية، وموقفه من التيارات القائمة آنذاك،
والتيار الماركسي
بخاصة. فهو لم يكن — على حد تعبيره — مجرد مدرس جامعي بالمعنى المألوف، وإنما كان معلمًا
من ذلك الطراز
الذي لا يوجد عادة إلا في عصور الانتقال، حيث تسقط الحواجز بين المعرفة والحياة، وكانت
تلهبه شهوة
لإصلاح العالم، نقلًا عن لغة شيلي في التعبير عن حاله هو في عصر الثورة الفرنسية.
ونتيجة لدوام التفكير في عوامل التآكل التي استشرت في المجتمع المصري، ليس التآكل
الخلقي، وإنما
التآكل الاجتماعي الذي تجلَّى في تصدُّع الفلسفة الديمقراطية الليبرالية التي تبلورت
في دستور ١٩٢٣م «كان
واضحًا عند الكثيرين أن تطور مصر السياسي والاقتصادي والثقافي خلال العشرين عامًا الفاصلة
بين الحرب
العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية.»
يكرر لويس عوض ما تناوله كُتاب آخرون — أشرنا إليهم في سياق هذا الكتاب — عن حيرة
جماعات الشباب
المتعلم والمثقف بين التيارات السياسية القائمة. ولأن البروليتاريا المصرية بسبب وحدة
الكفاح ضد
الاستعمار البريطاني، وركيزته الأولى: الأرستقراطية والملك، لم تكن تحس بنفسها آنذاك
كطبقة واضحة
المعالم «ذات مصالح أساسية متميزة عن مصالح غيرها من طبقات الأمة، فبقيت في صميمها تساند
العقيدة
الديمقراطية الليبرالية، ممثَّلة في «الوفد»، رغم جهود النبيل عباس حليم، لتجميعها في
إطارٍ فاشي مستقل سمَّاه
حزب العمال، ولكن تجميد الحركة الوطنية والدستورية معًا، بتوقيع معاهدة ١٩٣٦م، ثم بنشوب
الحرب، عمَّق
التناقضات الاجتماعية داخل المجتمع المصري، وكشفها على السطح، فعجَّل بهذا الاستقطاب
الذي جعل اليمين أشد
يمينية، واليسار أشد يسارية على حساب الوسط الوفدي.»
١
•••
الرواية صورة من صور الحياة اليومية بين الشيوعيين المصريين، إبان الحرب العالمية
الثانية، تبدو —
في تقدير الفنان — غريبة وكئيبة وإيجابية في الوقت نفسه، من خلال انفصال الشيوعيين المصريين
عن بيئتهم
بصورة شبه كلية، ثم سيطرة اليهود على التنظيمات الشيوعية، ثم محاولات الشباب المصري أن
يعيدوا النظر في
بناء المجتمع المصري على أسس جديدة.
٢
يقول لويس عوض: «أما أنا فكنت دائمًا أومن بالعنقاء، بالجديد الذي يخرج من شرنقة القديم،
وبالتالي
لا عبث ولا معقول في عالمي، وهذا لا يمنع طبعًا إحساسي بالمآزق الكبرى التي يضع فيها
الوجود الإنسان،
كمآزق العنف من أجل الخير، وهذا هو موضوع «العنقاء»، وهو موضوع «الراهب» [اسم مسرحية
للفنان] أيضًا: كيف يجد
الإنسان سبيلًا لتحقيق الخير الأعلى دون ارتكاب الإجرام؟ كيف نحقق السلام دون حرب؟ هذه
هي المشكلة: كيف
نغير مجتمعًا دون عنف، رغم القوانين الجديدة التي تحُول دون التغير؟
لقد طرحت السؤال، ولم أجب عليه إلا بتقديم الإنسان — باختياره — قربانًا لقاء الجريمة،
لا بد من
التكفير عن الخير.»
٣
«العنقاء» إذن رواية عن العنف، وليست رواية عن اليسار، البطل اليساري وسيلة للتحدث
عن العنف في
المجتمع المصري. وكما أشار لويس عوض في تقديمه للرواية، فهو قد أهمل جعْل روايته عن الإخوان
المسلمين،
لأنه لم يكن يعرف «كيف يفكرون؟ وكيف يشعرون؟ وكيف يتجادلون؟ وكيف يفرحون؟ وكيف يتألمون؟
وما هو نسيج
حياتهم اليومية؟ وما هي مشاكلهم التنظيمية؟ وفي كل عمل فني لا بُدَّ من خامة تستمد من
الحياة، وترسم على
الطبيعة بأدوات الفن المعروفة، وكانت الموديلات أو النموذج أمامي بغزارة بين صفوف الماركسيين
الذين كنت
أعرف منهم عشرات وعشرات، وأخالطهم مخالطة يومية، وأصطفي الأصدقاء، وأتابع — أولًا بأول
— مشاكلهم العامة
والخاصة. وكان الشيوعيون خامة ممتازة، لأن جرثومة العنف لها وجود في الفكرة الماركسية،
لا أقول
بالضرورة، ولكن بالإمكان على أقل تقدير، ثم إنهم كانوا يتحركون داخل تنظيمات.»
٤«كنت أعتقد وأنا أكتبها أني إنما كنت أنشئ رواية فلسفية، تعالج مشكلة العنف في المجتمع
الإنساني لا أكثر ولا أقل، فإذا بتوفيق الحكيم وحسين فوزي يُجمِعان على أن روايتي سجل
دقيق لمجتمع
الشيوعيين المصريين في الفترة الأخيرة التي تصورها الرواية، فترة الحرب العالمية الثانية،
وأعقابها
مباشرة، سجل ما كان لأحدٍ أن يدوِّنه إلا إذا كان قد خبِر الشيوعيين في مصر عن كثب، وتغلغل
في نفوسهم
وعقولهم وتنظيماتهم.»
٥
•••
وُلدَت اللجنة المركزية — في تقدير حسن مفتاح — بفضله، من جديد، ولولاه ما كانت لجنة
مركزية أصلًا،
كان زملاؤه — من قبل — مجرد جماعة تحكمها الفوضى، ويفت فيها الشقاق، ثم استطاع — بانضمامه
إلى الجماعة —
أن يطهرها من الجواسيس والفاسدين، وعلَّم أفرادها النظام.
كان هدف حسن مفتاح — وجماعته بالطبع — إقامة نظام لا يتسع إلا لطبقة واحدة، هي طبقة
العاملين
الكادحين، والوسيلة الوحيدة هي تأميم وسائل الإنتاج.
٦
ضرب حسن مفتاح المثل في إنكار الذات، حين اعتذر عن الرئاسة، وتكرر اعتذاره خمس مرات
في عامٍ واحد،
كان رأيه أن الحزب الشيوعي ليس في حاجة إلى رئيس، ففي السكرتير الكفاية.
٧
حاول حسن مفتاح أن يعزو الحرمان الذي يعانيه إلى البرجوازية، لكنه لم يستطع، فبدأ
يلوم نفسه
«أعطته الحياة من فرصها شيئًا، وهو الذي ركل هذه الفرص بقدمه في الماضي.»
٨ إن جريمته الكبرى كانت حول نفسه، فقد تجاوز الثلاثين، لكن حياته الخاصة ظلت خاوية من
كل ما
يسعدها، أو ينغصها، بمعنى أنه لم تكن لديه حياة خاصة، «وحين تأمَّل حسن مفتاح هذه الحقيقة،
أدرك ماهية
إحساساته الخانقة.»
٩
•••
حسن مفتاح — في وصف الفنان — صانع أشباح، يجفف الأعواد الناضرة، ويجعل من الأحياء
أشباحًا خاوية،
أغوى عددًا من الشباب وزيَّن لهم سبيل الكفاح، علَّمهم كيفية القراءة والمناقشة في المذهبيات،
لكنه جفَّفهم
كما تُجفَّف الأسماك، ووَضع عليهم ملحه وتوابله، وحبسهم في أحقاق مغلقة، تخلَّوا عما
كانوا يلتزمون به من
الهدوء إلى الغضب وعدم الاتزان وافتقاد التلقائية في الأقوال والتصرفات.
١٠ زال مرحهم الساخر، وحلَّت محله سخرية مريرة متصلة، وضيق بالواقع المحدود، وعلى حد تعبير
فيصل
دراج، فإن المثقف الثوري «هشٌّ، منقبض الروح، حتى لو بدا غير ذلك.»
١١
صاغ حسن مفتاح الناس على شاكلته — الكلمات للفنان — وملأ «قهاوي القاهرة ونواديها
بفتيان لا حديث
لهم إلا إضرابات العمال، وغلمان يتشاجرون على ماهية التكتيك وماهية الاستراتيجية.»
١٢
حسن مفتاح سكرتير الحزب الشيوعي، يطلب منه أحد أصدقائه أن يقدِم على اغتيال صديق آخر
يشبهه في
الملامح والقسمات، شريطة أن يتم ذلك قبل أن تصعد روحه إلى السماء، بعد تحليقها فوق الأرض.
وجاء منتصف
الليلة الأربعين دون أن ينفذ وصية صديقه، لكن دقة الساعة الثانية عشرة من اليوم الأربعين
تحيل حجرة حسن
إلى ظلمة داكنة، وثمة قطة سوداء محنطة تنفجر، وتغيم المرئيات بمشاهد مفزعة، ثم ينتهي
كل شيء.
يقول حسن مفتاح: «ماذا تعرفين عن القتل يا مونا؟ أنت لم تقتلي بعوضة، أما أنا فقد
قتلت، قتلت
رجلًا، رجلًا قويًّا؛ لهذا تطاردني السماء، ولا بد من الوفاء. أنا قاتل، أنا ملعون …
إلخ.»
١٣
يضيف: «لم أكن مختارًا، لقد كان ابن عمي سيد قنديل يشبهني تمامًا، فتربصت به بين
الحقول، وقذفت به
في الماء الآسن العميق، وكتمت أنفاسه حتى خرجت روحه، وحين خرجت روحه تسللت في جسده روحي.
أتسمعين عن
التناسخ يا مونا؟ هذا هو التناسخ يا مونا، نعم لم أكن مختارًا، كان لا بد أن يموت سيد
قنديل، ليعيش حسن
مفتاح.»
١٤
انطلقت روح حسن وراء ابن عمه سيد قنديل الذي يشبهه كأنهما توءم. ولأن الثورة كانت
تحتاج إلى حسن،
لتحقق أهدافها، وتنقذ الشعب، فقد قتلت الروح سيد قنديل وهو يسبح في قريته بالصعيد الجواني،
وانتزعت روحه
من جسده، وحلَّت روح حسن مكانها، ليحيا حسن من جديد، وإن ظل جسد سيد قنديل بوشمه وغلظته
وسمرته، لعله قد
حدث خطأ، فحلَّت روح حسن مفتاح في جسد سيد قنديل، لكن جسد سيد قنديل رفض أن يطيع روح
مفتاح.
١٥
أخيرًا جمعت روح حسن مفتاح كل ما بها من عزم وغلظة، ودفعت سيد قنديل من فوق الجرف
العميق، فاختل
توازنه، وارتفعت منه صرخة أليمة، وهوى من حالق، ثم ارتطم رأسه بالماء، فأحدث دويًّا عظيمًا،
أعقبه خوارٌ
عالٍ، ثم رشاش عالٍ، وأفقدته الصدمة وعيه، أو كادت، واختفى تحت سطح الماء ما يقرب من
دقيقة، لكن سطح الماء
توجته فقاقيع عالية تسير مع التيار نحو الشمال بلا انقطاع، حتى خرجت من الجرف العميق،
ودخلت في منطقة
الشاطئ المبسوط، وسمعت الجعارين التي تطن بلا انقطاعٍ فوق الأرض المكشوفة، والغربان التي
تحجل بين البوص
الأصفر المنثور تُصدِر صراخًا صامتًا، اختلط فيه الرعب والعناد، فكفَّت الجعارين عن الطنين،
وثبتت الغربان
بين البوص الأصفر المنثور، وتعلق كل شيء انتظارًا لنتيجة المعركة، فقد كانت روح حسن مفتاح
وروح سيد
قنديل تقتتلان تحت الماء، لتحل الأولى مكان الثانية، وأخيرًا ارتفع رأس الغريق فوق الماء،
وكان
يلهث.
١٦
«لا بد أن سيد قنديل قد تألم حين خرجت روحه تحت الجرف العميق كثيرًا، تمامًا كما
تألم حسن مفتاح
حين خرجت روحه عند السلسلة.»
١٧
«حسن مفتاح يموت فداء الشعب، سيد قنديل يموت فداء حسن مفتاح. وماذا يكون الشعب إذا
لم يكن حشدًا
من الأسياد القناديل؟ الشعب يموت فداء حسن مفتاح، وحسن مفتاح يموت فداء الشعب، أي هذيان
هذا؟ ألم تعِد
عشرين مليونًا من الأسياد القناديل بالحياة؟ عشرين مليونًا من الأسياد القناديل علمتهم
بالحق أو بالباطل
إنهم زبدة هذا الوجود، إنهم يرثون الأرض وما عليها، إنهم أشرف الطبقات، إن صوتهم من صوت
الله، والآن
ماذا تقول؟ تقول: إن الكائنات السفلى تموت لتحيا الكائنات العليا.»
١٨
•••
بينما كانت جماعة حسن مفتاح نائمة، فإن جماعة رامز كانت قد ملأت جدران القاهرة بالطباشير:
الأرض
للفلاحين والمصانع للعمال … يسقط الباشوات أعداء الشعوب … يسقط الباشوات وكلاء الاستعمار،
ثم أُلقيت — بعد
يومين — قنبلة على نادي محمد علي، وقنبلة أخرى على الاتحاد المصري الإنجليزي.
١٩
كان رأي حسن مفتاح أن اللجنة المركزية لا تتسع إلا لحسن مفتاح واحد، وقد شك أن رامز
يتآمر لإقالته
«إنه الآن يصطاد السمك في بركة قارون، أو لعله ينظم الشعر الرديء الذي أقلع عنه حين اشتغل
بالسياسة.
أعطته اللجنة المركزية مائتي جنيه، لينفقها على بعض الأمور، وكان له أخ يوشك أن يدخل
السجن في شيك بلا
رصيد، فلما أطلعني على الأمر، أشرت عليه بأن يفك بمال اللجنة قيد أخيه، ثم يدبِّر المال
على مهل، وقد فعل،
ثم اصطدمت به في اللجنة مرارًا.»
٢٠
رأى حسن مفتاح أن رامز يوشك أن يسيطر على اجتماع اللجنة المركزية، فانتحى به جانبًا،
وهمس في
أذنه: إذا لم تسحب اقتراحك في هذه الجلسة بالذات، اتَّهمتك علنًا باختلاس أموال اللجنة.
اضطر رامز — خائفًا — أن يسحب اقتراحه، ويؤيد السكرتير العام، ثم استأذن وانصرف،
فانهارت
المعارضة، وأخذت اللجنة برأي حسن مفتاح.
٢١
قبل أن تمر أسابيع، كانت جماعات من الشيوعيين تتردد — بالتناوب — على العزبة، للتدرب
على الرماية،
وتكدست في بيت المرأة الريفي الأسلحة واللوريات المسروقة، ثم ظهرت تباشير الربيع، وعاد
الزملاء: حسن
مفتاح ورامز وبطرس قلادة من مؤتمر ببيروت في الرابع من فبراير ليشرفوا — بعد أيام — على
التجربة.
٢٢
تسلطت على حسن مفتاح فكرة الانتقام، أن يكون مدمرًا كالصواعق، مهلكًا كمياه الطوفان.
وتصور أنه
يقتل بيده السنوسي باشا ورءوف باشا وخيرت باشا وشوقي باشا «سيشنقهم بيده — لو أمكن ذلك
— واحدًا
واحدًا: في ميدان العتبة الخضراء [اسمه القديم]، وواحد في ميدان باب الحديد [رمسيس فيما
بعد]، وواحد في
ميدان الإسماعيلية [التحرير بعد ثورة يوليو]، وواحد في ميدان الجيزة، سيشنقهم على مرأًى
من الجماهير
الهائجة الظمأى إلى الدماء، كلٌّ في مكان جريمته، الأول حيث أباد مائة رجل يطالبون بإحياء
الدستور،
والثاني حيث أباد نحو خمسين عاملًا، مسالمًا، يوم تظاهر عمال النقل طالبين رفع الأجور،
والثالث حيث سقطت
جموع، لا حصر لها، تنادي بسقوط الإنجليز، والرابع حيث سقط خمسون طالبًا، يوم تظاهر الطلبة
منادين بتنفيذ
الدستور.»
٢٣
وقبل أن تبدأ الثورة، التقى حسن برجلٍ غريبٍ متشح بالسواد، عرف منه أنه يعرف الحكاية
من بدايتها.
طلب الرجل من حسن أن يسلِّمه جثة سيد قنديل خلال يومين، في موضعٍ اسمه «الخفافيش الحمر»،
وينتزع حسن من
الحيرة التي تملَّكته، عرض ضابط المباحث بأن يقدم خدماته، بشرط أن يظل في وظيفته بعد
نجاح الثورة، ويرفض
حسن عرض الضابط، ويبلغ اللجنة المركزية بوجوب تغيير خطة الثورة.
يسأل نفسه — يومًا — «ماذا تفعل اللجنة المركزية لو أحرق القوائم السوداء؟ لقد كشف
عن عينيه
الغطاء، وهو يرى الآن ما لا يرَون، القاتل يُقتَل، الجريمة تحمل العقاب في أحشائها. نعم،
نعم، لَسوف يدمِّر
القوائم السوداء، لا عنف بعد اليوم، لا عنف، لا عنف، لا عنف. إنهم بسطاء لا يفهمون ماذا
يعملون، آه لو
أنهم رأوا بعض ما رأى، ولكنهم لا يعلمون ما عزرائيل لأنهم لم يختنقوا.»
٢٤
•••
علت أصوات المطارق وأسياخ الحديد، حتى انكسر باب الدار، واقتحم البيت ضابطان هما
الصاغ ممدوح
الشربيني، والثاني الملازم سلامة. أنار الأول المدخل، وشهر الثاني مسدسه، ومن ورائهما
وقف العساكر
يصوبون بنادقهم إلى أثاث الدار.
٢٥
فوجئ الرجال الثلاثة بجثة حسن مفتاح مدلاة بحبلٍ من أنبوبة الحمام، ومن حوله مئات
الخفافيش
المنقوشة على القوالب الصينية اللامعة في الجدران، كلها حمراء، كأنها تهم بالطيران. قرأ
اثنان من الرجال
الثلاثة الفاتحة، ورسم الثالث علامة الصليب، لكن حسن مفتاح وحده — والتعبير للفنان —
رسم في الهواء
الرطيب علامة المشنقة.
٢٦
كان ضابط المباحث قد أفلح في إفساد علاقة حسن العاطفية بخطيبته عايدة علم التي طال
تردُّده بين
استمرار علاقته بها، وبين اللجنة المركزية للحزب.
٢٧ «إن عايدة علم رقيقة لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، تافهة كأزواج العظماء، ولكنها —
رغم ذلك
— قد احتلت من قلبه الفارع ركنًا عظيمًا، إنه لا يحبها، ولا يستطيع أن يحبها ذلك الحب
الهمجي الجبار
الذي يصرع الملوك، ويهلك الأبطال، ويتلف الشعراء، ويلوث صحائف التاريخ باللطخ الحمراء،
ويجعل من عامة
النساء إماء ذاهلات، ولكنه ليس بحاجة إلى هذا الحب الهمجي الجبار، وكفاه من نار الغرام
دفء
المودة.»
٢٨ كانت عايدة «لا تطيق مرأى البنادق.»
٢٩ وكانت قليلة الاختبار في الحياة، تتمسك بالمثاليات، وتود — بينها وبين نفسها — أن يعفيها
حسن مفتاح من البطولة التي لم تُخلَق لها، لكنها لا تحب أن تعترف بهذه الحقيقة أمام نفسها.
٣٠
قرر حسن أن يعفي عايدة من علاقته به، فهي تشفق عليه، وحياته القلقة الخالية من الأمان
لا تحتملها
إلا النفوس الكبار، «ولن ترضى بهذه الحياة إلا امرأة تحبه حبًّا مدمرًا عاصفًا، يجعلها
تستعذب العذاب في
كنفه.»
٣١
ويُسْأل: ألَا يأسف على ضياع عايدة علم؟
يجيب: كلا! إن عايدة علم بنت طيبة حقًّا، ولكنها تبحث عن حامٍ، وأنا لا أملك أن أحمي
قطة. وكما أني
لا أصلح لها، فهي لا تصلح لي، فأنا بحاجة إلى بنت مثلي تؤمن بكليات الحياة وتنسى جزئياتها
ما أمكن ذلك،
وعايدة علم ملتصقة بالأرض أكثر مما ينبغي، ولكن لقد تحدثنا عنها بما فيه الكفاية.
٣٢
تعرَّف حسن إلى سيدة مثقفة هي مونا ربيع، التقيا في معرض للفن التشكيلي، ثم تقابلا
في
كازينو.
اشتبهت مونا ربيع في سلامة عقل حسن مفتاح، وفكرت في أن تقف بين أعضاء اللجنة المركزية،
وتقول:
«أيها الزملاء، إن زعيمكم مجنون، أتفهمون؟ مجنون! وعندي الدليل على ذلك. لقد انتخبتم
مجنونًا ليقود
جموع الشعب إلى مصيرها، لقد انتخبتم مجنونًا ليصنع التاريخ، اعزلوه قبل أن يقودكم إلى
الهلاك المحقق، اعزلوه قبل أن يجعل من التاريخ مسرحًا للمجانين.»
٣٣«إن عايدة علم لم تعرف من هو حسن مفتاح في يوم من الأيام، فكيف تشك في هويته؟ عايدة علم
لم تحب حسن مفتاح في يوم من الأيام، فكيف تعرف هويته؟ لكن مونا ربيع قد شكَّت في حسن
مفتاح الجديد، لأنها
كانت تعرف حسن مفتاح القديم.»
٣٤
كان الجميع يعرفون صلة مونا ربيع بحسن مفتاح. قيل «تخاصما، وقيل هي تبحث عن زوج،
وقيل إن
الشيوعيين خيَّروا حسن مفتاح بين اللجنة المركزية ومونا ربيع، وقيل بل أوفد الشيوعيون
مونا ربيع لتبلشف
الأرستقراطية المصرية، وقيل إن مونا ربيع فنانة كبرى أرادت أن تختبر الحياة اختبارًا
مباشرًا، فنزلت إلى
البروليتاريا، واستأجرت لها استديو ببولاق كان — في الوقت نفسه — «مكانًا للرسم ومباءة
للفجور» الذي لم
يسمع بمثله إنسان، فلما اقتربت من الحياة المادية التي اشتهتها، عادت إلى قواعدها غير
سالمة، وقيلت
أشياء أخرى كثيرة تشبه القصص البوليسية.»
٣٥
لم يكن حسن مفتاح أكثر من «بشر» تولى رئاسة الحزب الشيوعي المصري في ظروف محددة. وإذا
كان الحزب
قد تأخر في الالتفات إلى مرض رئيسه بجنون العظمة الذي أخذ شكلًا حادًّا وعنيفًا، وبالتالي
عزله من
الرئاسة، حتى لا تصبح سلطات الرئيس ضد الجماهير التي يعمل لأجلها الحزب، فإن الحزب لم
يفقد ذاته
وتماسكه، وظل حيًّا.
حدد حسن لمونا موعدًا للقائهما — ذات مساء — في شقته، لكنه مات في صباح اليوم نفسه،
خرج مع بعض
أصدقائه في رحلة بحرية، فهبَّت نَوَّة أغرقت القارب بكل من فيه، ولم تستقبل مونا في شقة
حسن غير نسمة رقيقة
صافحت وجهها بلمساتٍ ناعمة، استراحت بها نفس مونا، ثم تركت الشقة.
في الليلة الأخيرة يمارس حسن علاقة جنسية مع مونا، ويدخل الحمام، ليفاجأ بأن جدران
الحمام قد زُينت
جميعها برسوم الخفافيش الحمر، ويدرك أن هذا هو مكان اللقاء.
يقتحم رجال المباحث الشقة، فلا يجدون حسن، فإذا فتحوا باب الحمام فوجئوا به يتدلى
ميتًا بحبل؛
أضاع حسن مفتاح حياته بين المحابر والتقارير والجماعات الصاخبة والقراءات الجافة والمقابلات
العقيمة،
وقلما وجد نفسه وحيدًا بين جدران أربعة سميكة، تعزله عن العالم الخارجي تمامًا، وتردُّه
إلى التفكير في
حاله. وانتهى حسن مفتاح إلى أنه شخص لا وجود له، الموجود شبح خاوٍ، اسم على أوراق، آلة
في جهاز، مقعد في
مجلس، رقم في خلية، إعلان في حائط، فكرة في الأذهان، أما الإنسان اللحم فلا وجود له.
٣٦
«أوشكت روح حسن مفتاح أن تصرخ: لقد قتلني كارل ماركس، لقد قتلني كارل ماركس، لكنها
عدلت عن ذلك،
وقالت: لقد قتلت نفسي، لقد قتلت نفسي».
أوافق فيصل دراج في رأيه أن «المثقف الشيوعي في زمن مضى، صورة تلفُّها الفتنة والأسى،
مثقف يحلم
بتغيير التاريخ، ولا يستطيع تغيير ذاته.»
٣٧
•••
يقول الفنان: «إن كل ما قصدت إليه هو أن أتناول مشكلة العنف في أبعادها الإنسانية.»
٣٨ وفي إطار ذلك التوجه، يتبدَّى في العنقاء موقف الفنان المناقض لإحسان عبد القدوس في
رواية «في
بيتنا رجل» بطرحه لحلول المشكلات السياسية والاجتماعية. إنه يرفض العنف الدموي، حتى لو
كان مبعثه طهارة
ثورية تبذل النفس فداء ومحبة. يبغض العنف الذي لا مبرر له «وهو رغم أسفه على الثيران
والخراف والكرمب
والفاصوليا يأكلها كل يوم فلو لم يأكلها لمات.»
٣٩
لكن سيد قنديل، ابن العم الصعيدي الذي قتلته روح حسن مفتاح لتحل في جسده، لم يكن
ذا اهتمامات
سياسية على الإطلاق، ولم يشكِّل عقبة في تطوير الحياة للملايين من أبناء الشعب المصري،
وإنما هو مجرد
مواطن مصري، بسيط، الفلاحة مهنته، والرضا بالقسمة والنصيب والمكتوب سِمة حياته وتصرفاته،
فهو إذن أحد
هؤلاء الذين حمل الثوار السلاح للقصاص من خصومهم من الإقطاعيين وعملاء الاستعمار. لكن
روح حسن مفتاح
بررت ما أقدمت عليه بأن تجدد الحياة من خلال الإحلال في جسد مواطن هامشي لا أهمية لحياته،
سيوفر الغد
الأسعد لبقية المواطنين، عاش سيد قنديل أكثر مما ينبغي، لذلك فمن الحتمي أن يموت ليفسح
المجال لجيلٍ
جديد.
٤٠ «إن هذه إرادة الشعب، وإرادة الشعب من إرادة الله، فهذه إرادة الله، إنه يقتل بأمر الله،
بتكليفٍ من السماء القوية أم الجميع.»
٤١
لعل الحقيقة التي يحرص الفنان على تأكيدها — من خلال عمله — أنه لا توجد قضية تفرض
على الإنسان أن
يقتل إنسانًا آخر، مهما يكن ذلك الإنسان مسالمًا، أو — في المقابل — مهما شكَّل عقبة
في طريق التحرر
الاجتماعي — أو السياسي — لسواد المواطنين. الطريق التي تبدأ بالدم ربما لا تنتهي بالعدالة
المتوخاة،
إلا من خلال سلسلة لا تنتهي من العنف والشر، وربما لا تصل إلى العدالة على الإطلاق.
هوامش