في بيتنا رجل
في السادسة والنصف من مساء السبت الخامس من يناير ١٩٤٦م، دخل أمين عثمان باشا باب
العمارة رقم ١٤
بشارع عدلي، في طريقه إلى نادي رابطة النهضة التي كان يرأسها. وما كاد يصعد السلم، حتى
برز شخص كان
مترصدًا له بالقرب من الباب الخارجي، وأطلق عليه ثلاث رصاصات، فسقط حالًا، وخرج القاتل
إلى الشارع،
ويداه في جيوبه. فلما أحس بالناس يتجهون نحوه، بدأ يعدو ناحية ميدان الأوبرا، وهو يطلق
الرصاص في
الهواء، ثم ألقى على مطارديه قنبلة يدوية، تطايرت شظاياها، فأصابت البعض، وكفَّ الباقون
عن محاولة إلقاء
القبض على القاتل، الذي تمكَّن — وسط الفزع الهائل — أن يلوذ بالفرار.
١
رواية «في بيتنا رجل» تضع أمامنا احتمالًا يصعب إغفاله، هو أن حادثة مقتل عبد الرحيم
باشا شكري، رجل
الإنجليز في مصر، في يوم من أيام السنوات العشر التي سبقت الثورة، والتي كان يمكن أن
تحدث فيها القصة —
كما يقول الفنان — هي حادثة مقتل أمين عثمان، رجل الإنجليز في مصر، في الخامس من يناير
١٩٤٦م، مع اختلاف
في بعض السِّمات والتفاصيل،
٢ أكاد لا أشك أن الفنان قد استوحى روايته من تفاصيل تلك الحادثة التي شغلت الحياة السياسية
في مصر لفترة طويلة.
كان أكبر رفاق حسين توفيق — مرتكب عملية الاغتيال — في منتصف العقد الثالث، الأمر
نفسه بالنسبة
لرفاق إبراهيم حمدي. وكانت طريقة اختيار حسين توفيق لأصدقائه، هي الطريقة نفسها التي
كان إبراهيم حمدي
يختار بها أصدقاءه. حتى تمرينات الجبل في استخدام الأسلحة النارية كانت متشابهة تمامًا،
إن لم تكن
متطابقة، وقد أردى إبراهيم حمدي الباشا الخائن برصاص مسدسه، ثم فرَّ هاربًا، وهذا ما
فعله حسين توفيق في
حادثة أمين عثمان … لكن الفنان خشي على بطله من ضعف الاعتراف — وهو ما فعله حسين توفيق
— فألقى البوليس
القبض عليه، وظل إبراهيم حمدي بطلًا.
باختصارٍ، فإن المرحلة من حياة ابراهيم حمدي في رواية «في بيتنا رجل» تبدأ منذ فراره،
إلى أن يلقى
مصرعه، طرف الخيط في فرار قاتل أمين عثمان إلى خارج البلاد، لكن بطل إحسان يفر إلى داخل
البلاد، ليبدأ
الفنان نسج أحداث روايته.
لقد فرَّ إبراهيم حمدي من مستشفى قصر العيني، بينما فرَّ حسين توفيق من منزله بعد
أن ضلل حارسه، وكتب
رسالة إلى إحسان عبد القدوس يدَّعى فيها أنه سافر الى فلسطين، بينما كان إحسان يخفيه
في بيته، وكانت
الحكومة قد خصصت خمسة آلاف جنيه لمن يلقي القبض على الشاب القاتل.
٣
تقول الرسالة: «… عندما تصلك رسالتي هذه أكون في طريقي إلى فلسطين، لأساهم في تطهير
الأرض المقدسة
من عصابات الإجرام الصهيونية، وقد ظن بعضهم أني تركت السجن فرارًا من وجه العدالة، لكن
ليعلم هؤلاء أني
ما أقدمت على هذا العمل إلا لأتمكن من مواصلة الكفاح ضد الاستعمار وأذنابه، فما كنت لأخشى
يومًا حكم
القضاء، إلا إذا كانت الوطنية جريمة يعاقب عليها القانون، وحتى في هذه الحالة، فإن إشفاقي
لن يكون على
نفسي، ولا على إخواني في الجهاد، وإنما إشفاقي على مصر من أن تهوي إلى هذه الهاوية السحيقة.
لقد قرأت في
صحف الصباح تصريحًا للنقراشي باشا يقول فيه عن هربي «إنه حادث مزعج» ولا أدري لماذا ينزعج
دولته مع أن
خروجي من السجن لا يزعج أحدًا إلا الخونة وأعداء البلاد، وإني واثق أن دولته ليس منهم.
وإني وإن كنت
آسفًا على شيء، فعلى مصير الضابط كمال عرفة، وثق أني لم أتعمَّد إيذاءه، وإنما فكرت كثيرًا
في طريقة
للخلاص من سجني بدون إيذاء أحد، ولكن كان لا بد مما كان، جزاه الله خيرًا، وغفر لي …
وقد أرسلت لك هذا
الخطاب لأني أعلم أنك الصديق الصحفي الوحيد الذي يفهمني، ويقدِّر ظروفي، وشكرًا لدفاعك
دائمًا
عني …»
٤
كان سعيد — شقيق حسين توفيق، وأحد المتهمين في القضية — يعالَج في قصر العيني من
مرض نمو العظام،
وكان في مقدمة النتائج التي أسفر عنها فرار حسين توفيق، إيقاف علاج شقيقه سعيد بمستشفى
قصر العيني،
نقلته الشرطة إلى سجن مصر خوفًا من فراره هو أيضًا.
٥
وفي تصوري، أن الفنان وجد في علاج سعيد توفيق في قصر العيني، وهروب حسين توفيق، ما
يصلح منطلقًا
لأحداث روايته؛ واقعتان منفصلتان، تحوَّلتا إلى مدخل للرواية.
٦
•••
الفنان يحدد الفترة التي كان يمكن أن تحدث فيها الرواية، بأنها السنوات العشر التي
تسبق ثورة
يوليو، أي الفترة التي تبدأ بعام ١٩٤٢م، وملمحه الأشهر حادثة ٤ فبراير التي تيقن المصريون
— من خلالها —
أن الإنجليز ما زالوا هم الحكام الحقيقيين لمصر.
يطرح المؤرخ سالم السؤال (تلك الأيام): «هل كانت حركة الإرهاب في مصر أثناء الحرب
العالمية
الثانية، علامة يأسٍ سبقت الثورة الوطنية عام ١٩٥٢م؟»
٧
كانت الجمعيات الصغيرة — كما يقول وسيم خالد — «هي طابع الجيل بأكمله، وصرف معظمها
رد الفعل
المتولد عن الأحداث بتوجيهه مباشرة نحو الإنجليز، لتعلن عن عدم قبول الشعب القتال من
أجلهم، وأصاب
الرصاص كثيرًا من الجنود الإنجليز في هذه الفترة.»
٨ تعدَّدت التنظيمات السرية بمختلف اتجاهاتها وأساليبها، وترددت أصداء طلقات الرصاص، وانفجارات
القنابل، كان الشباب يعاني السخط والغضب من كل الذين مدُّوا أيديهم للاحتلال، وقبلوا
وجوده.
٩
إبراهيم حمدي شاب من آلاف الشبان المصريين الذين أصاخوا السمع، وأمعنوا النظر، إلى
الشعارات التي
طرحتها الأحزاب والهيئات السياسية منذ العشرينيات، سأل، وناقش، وحلَّل، ثم خرج بنتيجة
تصل إلى درجة
اليقين، وهي أن خروج الإنجليز مرتبط بقلب نظام الحكم من أساسه.
١٠
اختار إبراهيم حمدي أسلوب الاغتيالات الفردية سبيلًا لتحقيق ذلك، وهو الأسلوب الذي
انتهجه قادة
الجماعات السرية، العديدة، أثناء الحرب العالمية الثانية، وبعدها: «ما دام لا يوجد ثورة
شاملة، فلا أقل
من أن توجد جمعيات سرية لممارسة الاغتيال السياسي، دفاعًا عن الشعب الأعزل.»
١١
اعترف حسين توفيق أمام المحكمة، أنه عضو في جمعية من خمسين عضوًا، مقسمة إلى شعب
وحلقات غير
متصلة، وأن الجمعية تهدف إلى استقلال مصر عن طريق القوة، بمحاولة طرد الإنجليز، وقتل
أعوانهم في مصر،
حتى يعتزلوا السياسة، أو يهاجروا من البلاد، وكان من بين هؤلاء الأعوان — في تقدير الجماعة
— مصطفى
النحاس وأمين عثمان.
١٢
وحين سئل إبراهيم حمدي: هل تكون البداية بقتل الإنجليز، أم قتل أعوانهم؟ قرر أن يبدأ
بأعوان
الإنجليز، فيقتلهم،
١٣ على أن تكون خطوته التالية ضرب معسكرات الإنجليز، فتثور البلد كلها، وتفعل الشيء
نفسه،
١٤ قرر أن يكون هو الطلقة الأولى في الثورة، وأن يموت لتحيا الثورة،
١٥ وقد أجاب حسين توفيق على السؤال بطريقة مغايرة: اتجهت محاولاته الأولى إلى قتل عساكر
الإنجليز، ثم انتهت إلى محاولة تصفية عملائهم.
يحدد وسيم خالد طبيعة الجمعيات السرية آنذاك، بأنها ليست أكثر من شرارة، تنطلق خلال
الفترات التي
يقدُم فيها الشعب قيادات واعية، كي تحتفظ له بحيويته، وبأخلاقياته، وأن دور تلك الجمعيات
أشبه برأس
الحربة، فعملها محصور في تفجير طاقة الشعب الثورية، وفي إزالة هيبة الاستعمار والحكومات
الموالية له،
وأن أفرادها لا بد سيحترقون خلال هذه العملية، حتى يقوم غيرهم ممن يكمل عملهم، وحتى يجيء
اليوم الذي تنشأ
فيه قيادة ترتبط بالشعب، وتقوم بالثورة.
١٦
وكان ذلك — في الحقيقة — إيمان إبراهيم حمدي، ظل يردده ويؤكده، حتى أقدم على نسف معسكرات
الإنجليز
بالعباسية.
لم تكن البطولة هَم إبراهيم حمدي، بل إنه لم يتصور في نفسه تميزًا عن غيره من الشباب
بجرأة، ولا
بتطرف في الوطنية، ولم يكن خطيبًا ولا محاضرًا، وإنما كانت روحه العملية تقف به عند الجوانب
التطبيقية.
فإذا حاصر البوليس مدرسة، تولى هو تركيب خراطيم الحريق، ليسلط ماءها على رجال البوليس،
وكان يملأ
الزجاجات بالرمل كسلاحٍ يقابل به الطلبة الرصاص، ويصنع زجاجات المولوتوف، وكرات القماش
المغموسة في
البنزين.
كان ذلك كله يتم في صمت، وعندما اعتبره الطلبة زعيمًا لهم، ظل على صمته وعزوفه عن
الصدارة، واكتفى
— دومًا — بالجانب العملي.
لكن تفكير الطالب إبراهيم حمدي جاوز تنظيم المظاهرات، وقذف رجال البوليس بالحجارة
وزجاجات
المولوتوف والأقمشة المغسولة في البنزين، فقد شاهد — ذات ليلة — عددًا من جنود الإنجليز
يضربون بائعًا
متجولًا، فلما أراد أن يدافع عن البائع المسكين، تحوَّل الجنود إليه، وكادوا يقتلونه،
لولا أنه استرد
عقله، وبادر بالفرار، وأدرك إبراهيم — ليلتها — أن قذف البوليس بالطوب، وتحطيم الفوانيس،
وإحراق عربات
الترام، ليس مهمة وطنية؛ إن الإنجليز هم العدو الذي يجب أن تتجه إليه ضرباته، وقرر أن
يؤلف جمعية سرية
لاغتيال الجنود الإنجليز،
١٧ وألَّف إبراهيم حمدي الجمعية بالفعل، وكان قوامها ستة من أصدقائه، مهمومون — مثله —
بقضايا
وطنهم، وتشابه آراؤهم آراءه، وبعد أن تدربوا على إطلاق الرصاص، بدءوا عملياتهم التي أجهضتها
مؤامرة صمت.
لأن الهدف الأهم من العمليات أن تُحدِث صداها في الرأي العام، وتثيرهم، وتحمسهم،
وتجمعهم في عمل
واحد، فقد أعاد إبراهيم حمدي التفكير، وقرر أن يضرب أدوات الاستعمار البريطاني، هؤلاء
الذين ينفذون
سياسته، فيفرضون الرقابة، ويتولَّون تنفيذ الأحكام العرفية، ويعتقلون الوطنيين. وأعلن
إبراهيم لزملائه —
في هدوئه الحاسم — أنهم لن يتخلصوا من الإنجليز إلا إذا تخلصوا من عملائهم أولًا، وأنه
قرر أن يغتال
عبد الرحيم باشا شكري رجل الإنجليز في مصر.
١٨
يسأله الأب: أنت قتلت عبد الرحيم باشا ليه؟
– لأنه إنجليزي … خدام للإنجليز … كل الناس عارفة إنه خاين وعميل للإنجليز.
– مش كنت تسيب الحكومة تعرف شغلها معاه؟
– ماكانش فيه حكومة تقدر تكلمه … كان أقوى من الحكومات كلها … كان هوه اللي يشيل
حكومة، ويحط حكومة … فيه أحكام كتير الحكومة ما تقدرش تصدرها ولا تنفذها … لازم الناس
هي اللي تصدرها وتنفذها … والناس كلها
حكمت إن الراجل ده خاين … وأنا نفذت الحكم.
١٩
كان عبد الرحيم باشا شكري أخطر أعوان الإنجليز في مصر، فهو — كما قلت — أقرب إلى
شخصية أمين عثمان،
الذي وصفه حافظ رمضان بأنه «كان يعمل لحساب نفسه من وراء ظهر الجميع.»
٢٠ واعتبره اللورد كيلرن — المندوب السامي البريطاني — صديقًا جيدًا للإنجليز، «ومن كبار
رجال
المجتمع الفيكتوري القديم.»
٢١ وسمَّاه اللورد ويلسون «المفاوِض لحساب السفارة البريطانية وقت الأزمات السياسية.»
٢٢
لم يكن الرجل وزيرًا، أو له حق الكلام باسم مصر، مع ذلك، فإنه كان يتكلم في العاصمة
البريطانية —
عند زيارته لها — كمتحدثٍ رسمي باسم مصر، وكان يعتبر نفسه مسئولًا عن العلاقات المصرية
البريطانية،
٢٣ وكان الإنجليز يعدونه لتولي الحكم تحت شعار الديمقراطية الزائفة: «إن إنجلترا هي اليوم
معقل
الديمقراطية وزعيمة دولها بلا مراء.»
٢٤ وعندما ناقشه بعض الشباب المتحمس عن وجوب مقاومة الاحتلال البريطاني، قال في بساطة وحسم:
«إنجلترا غلبت ألمانيا … فيه مجانين بتفكر تحاربها؟»
٢٥
والمؤكد أن كل الأدوار التي قام بها أمين عثمان لم تكن لصالح الوفد، وإنما كانت لصالحه
شخصيًّا،
فهو لم يكن عضوًا بأية صفة في الحزب، لا في كوادره العادية، ولا في قياداته؛ من هنا كان
تأسيسه لرابطة
النهضة، التي تحدد برنامجها في إصلاح المعيشة، وتحسين أحوال الفلاح، ورفع مستوى العمال،
ولم يكن لها
قانون مطبوع، وإنما مشروع قانون «تحت البحث والطبع».
٢٦
وبالطبع، فقد كانت تلك مجرد كلمات لا ظل لها في الواقع؛ فقد أنشئت الرابطة أساسًا
لتقوية الروابط
مع الإنجليز، و«العمل على إنماء روح المحبة والصداقة والمودة بين بريطانيا ومصر.» ونص
المبدأ الثاني من
مشروع القانون على الصداقة والتحالف الأبدي بين مصر وبريطانيا.
٢٧
وقد شرح أمين عثمان «مبادئه» في خُطبة له بالإسكندرية، شبَّه فيها مصر وبريطانيا بزوجَين
تزوَّجا على
المذهب الكاثوليكي، فلا فراق ولا انفصال، حتى ولو كان الزوج سيئ السلوك، عديم الخلق:
«نحن نقول
للإنجليز: نحن حلفاؤكم، لا لأننا وقَّعنا المعاهدة، ولكن لأننا نعتقد أنكم تحاربون لنفس
الغرض الذي نسعى
إليه، وهو تحقيق العدالة، بل إني سأذهب إلى أبعد من ذلك، وأقول إننا كنا سنؤيد الإنجليز
لو لم يحاربوا
من أجل الحق، لأن زواجنا بهم زواج كاثوليكي، أي لا طلاق فيه، وإذا حدث، واستطعنا أن نحصل
على فتوى
الطلاق منكم، وكان لنا أن نبحث مرة أخرى عن عريس آخر، فسنختاركم مرة أخرى، وأرجو إذا
اخترتم أن تختارونا
أيضًا.»
كانت رابطة النهضة نواة حزب سياسي أزمع أمين عثمان تأليفه، ليتولى من خلاله رئاسة
الوزارة، بعد أن
يخوض الانتخابات على نحو دستوري، كذلك الذي فعله إسماعيل صدقي بحزب «الشعب» الملفَّق
في عام ١٩٣١م.
وقد أُطلقَت الرصاصات على أمين عثمان، بعد رحلة له إلى العاصمة البريطانية، حيث قدَّم
مائتَي ألف جنيه
مصري، زعم أن الشعب المصري تبرع بها لإعادة بناء قرية إنجليزية — سمَّاها العلمين — دمرتها
طائرات
الألمان، وأكد أن كل تبرع للقرية سيُعفَى من الضرائب.
٢٨ وكانت قد ترددت أنباء — عقب عودة أمين عثمان — عن تكليف المسئولين الإنجليز له بتشكيل
حكومة
مصرية جديدة، تتفاوض — من وجهة نظر متعقلة — الأدق متساهلة! — لحل المشكلات المعلَّقة
مع بريطانيا، وفي
مقدمتها: السودان، والقاعدة البريطانية في القناة، والأرصدة الإسترلينية المجمَّدة لحساب
مصر في بريطانيا.
وصارح الرجل — قبل مصرعه بأيام — عددًا من القيادات السياسية للاشتراك في الوزارة المرتقبة،
يتولى هو
رئاستها، وكان من بين تلك القيادات: أحمد فرغلي باشا، محمد حيدر باشا، صيدناوي باشا،
وغيرهم.
٢٩ وكان أمين عثمان قد بدأ — في السابق — نشاطًا مكثفًا من خلال «رابطة النهضة» التي كان
يتزعمها، والتي قُتِل وهو يتجه إلى المصعد في طريقه إليها.
٣٠
ولفظت رابطة النهضة أنفاسها، عندما لفظ أمين عثمان أنفاسه، ووصف أحد المحامين أمين
عثمان — بعد
مصرعه — بأنه «القتيل القاتل، وأنه نشأ مصري الجنس، بريطاني الحس.»
٣١ بينما أعلن اللورد كيلرن أنه من العبث أن أصدقاء بريطانيا يُعتدى عليهم مثل هذا الاعتداء
الفظيع.
٣٢ وكتب اللورد كيلرن — فيما بعد — عن العميل الراحل بأنه «أمين عثمان أفندي، خريج كلية
فيكتوريا بالإسكندرية، ودرس في جامعة أكسفورد، وقد لعب دورًا كبيرًا أثناء المفاوضات
لإبرام معاهدة
١٩٣٦م، كما أدى خدمات جليلة لبريطانيا لتنفيذ المعاهدة في الأيام العصيبة، أثناء الحرب
العالمية الثانية.
وكانت خسارة لنا عندما سقط بعد ذلك برصاص أحد المصريين.»
٣٣ وقد قال علي ماهر في شهادته أمام محكمة الجنايات، إن أمين عثمان أفهم الإنجليز في مفاوضات
١٩٣٦م، أن النحاس يساوم كثيرًا، ويريد دائمًا أن ينقص ٥٠٪ من الطلبات الإنجليزية، وأن
عليهم — الإنجليز —
أن يطلبوا ٢٠٠٪ لكي يصلوا إلى ١٠٠٪، وعمل المفاوض الإنجليزي بالنصيحة فعلًا، وقدَّم بعض
المطالب التي تتسم
بالمبالغة الشديدة.
٣٤
وقد وُلد أمين عثمان في ١٩٠٠م بالإسكندرية، وكان والده أمينًا عامًّا لبلدية الإسكندرية،
وحصل أمين
في ١٩١٨م على البكالوريا من كلية فيكتوريا، التي أنشأها البريطانيون بالثغر، ثم سافر
إلى إنجلترا — عقب
نهاية الحرب الأولى — والتحق بجامعة أوكسفورد في ١٩٢٠م، وتزوج من فتاة إنجليزية فور حصوله
على درجة
الأستاذية في القانون سنة ١٩٢٣م. وعاد أمين عثمان إلى مصر في ١٩٢٤م، وعُيِّن مندوبًا
بقلم قضايا الحكومة، ثم
مفتشًا للمالية في ١٩٢٧م، ثم مديرًا لمكتب وزير المالية في ١٩٣٠م، وظل يتنقل بين العديد
من الوظائف
الحكومية، وكان آخرها منصب وزير المالية، حتى أُقيلَت الحكومة الوفدية في ١٩٤٤م. وفي
١٩٤٥م أسَّس أمين عثمان
حزب «رابطة النهضة»، واتخذ له مقرًّا في الشقة الخاصة بنادي كلية فيكتوريا البريطانية
بالمنزل رقم ١٤
شارع عدلي، وهو المنزل الذي شهد مقتله وهو يتجه إلى المصعد في مساء ٥ يناير ١٩٤٦م.
لذلك كان غريبًا للغاية أن ينتهز عزيز فهمي — وهو من أخلص العناصر الوطنية الشابة
آنذاك — فرصة
مرافعته في قضية مقتل النقراشي، ليشير إلى قضية أمين عثمان، ويدافع عن وطنية الرجل: أمين
عثمان!
٣٥
والمؤكد أن مصرع أمين عثمان كان ضربة موجهة للحكومة البريطانية، ولكل المتعاونين
معها من الساسة
المصريين، باعتباره رجل الإنجليز الأول في مصر، وكان رد الفعل عنيفًا ومقلقًا بين الزعماء
والساسة، فإذا
لم تكن بريطانيا قد استطاعت أن تحمي رجلها من غضبة الوطنيين، فهل تستطيع أن تحمي سواه
من
الزعماء؟
٣٦ وفي المقابل فقد كان رد فعل اغتيال عبد الرحيم باشا شكري — على المستوى الشعبي — هائلًا،
أصبح إبراهيم حمدي رمزًا للبطولة، وتطوع كثير من المحامين للدفاع عنه، وانهالت الرسائل
على سجنه تبارك
اليد التي أطلقت الرصاص، وانهالت الهدايا أيضًا، وبكت الأم ثم رفعت رأسها، أما الأب،
فقد ظل صامتًا كأنه
شيع ابنه الشهيد إلى الجنة.
٣٧
مع ذلك، فإن أقسى اللحظات عندما كان إبراهيم حمدي يتساءل: لماذا لا يثور الناس، ويُسقِطون
هذه
الحكومة التي تطارده؟ لماذا لا يحدث أي شيء، أي شيء ينقذ حياته، ويعيد إليه مستقبله واطمئنانه؛
لقد قتل
الخائن من أجل وطنه، من أجل الناس، فلماذا لا يتحرك الناس من أجله؟
٣٨
ولعل السؤال الذي انطلقت منه أحداث الرواية: ماذا يحدث إذا وجد أفراد أسرة مصطفى زاهر
بينهم
سجينًا سياسيًّا هاربًا، وضعت السلطات خمسة آلاف جنيه لقاء الإرشاد عنه، وقررت عقوبة
قاسية لمن يئويه، أو
يعاونه في فراره؟
كانت أسرة مصطفى زاهر واحدة من ملايين الأسر المصرية التي يكتفي عائلها بمتابعة الأحداث
السياسية
من خلال قراءته للصحف، أما بقية أفراد الأسرة — الزوجة والأبناء — فإن الحصول على الشهادة،
ثم على
الوظيفة، هو واجب الأولاد، وانتظار الطارق الذي يطلب المصاهرة هو ما تفعله البنات. فإذا
انتقلت الأحداث
إلى حياة الأسرة، تبدَّت الطبيعة المصرية على نحوٍ مغاير لما كانت عليه؛ فالعاطفة التي
تحب وتخاف وتعاني،
تكتم — بلا تردد — صوت العقل الذي ربما يناقش، ويحلل، ويحدد المخاوف، والتوقعات السيئة.
وعندما أعلن مصطفى زاهر أن إبراهيم حمدي سيحل ضيفًا على الأسرة لبضعة أيام، سكت الجميع
دون أن
يبدو على أحد منهم أنه فوجئ بالقرار؛ لذلك كان إحساس إبراهيم أن مصر كلها هذا البيت،
طيبة وبسيطة،
يحوطها الهدوء والسلام.
٣٩
•••
كان دخول إبراهيم حمدي إلى بيت مصطفى زاهر بداية تعرفه الحقيقي إلى «المرأة» في أي
صورة من صورها؛
كان بلا أخت، وكان نشاطه الوطني — منذ صباه — قد ارتاد به دروبًا تخلو من الفتيات. من
هنا، جاءه الإحساس
بأنه كان حرًّا في السجن أكثر مما هو في البيت، فكل من في السجن من الرجال، أما في البيت،
فإن الأب يذهب إلى
الديوان، والابن يتجه إلى الجامعة، ويظل هو بصحبة ثلاث نساء: الأم وابنتيها.
٤٠
بالإضافة إلى ذلك، فإن إبراهيم لم يكن يؤمن — في أعماقه — بالبنات، ولا بأنهن يستطعن
تحمُّل
مسئوليات الرجال، ثم تبيَّن أنه لا يكره البنات، في الأقل ليس إلى الحد الذي كان يتصوره،
نوال بالذات،
أصبح يشعر براحة لما يأتيه صوتها، ويشعر براحة إن جلست إلى جانبه، راحة كان يحس بها في
بيته. وعندما
أراد أن يضع خطة فراره، لم يستطع أن يُبعِد نوال عن المشاركة، ربما لغير حاجة إلا لأنه
كان يرغب في أن
تكون إلى جواره دائمًا! ثم بدأ يتصور نفسه زوجًا لنوال، ويتصور نفسه موظفًا يخرج إلى
عمله في الصباح،
ويعود بعد الظهر، ويمارس حياته مثل الملايين من البسطاء الذين يذهبون إلى أعمالهم، ويعودون
منها، دون أن
تشغلهم إلا شئون حياتهم اليومية، لكن تلك التصورات كلها لم تحجب عنه الحقيقة: «أنا حياتي
كلها خطر …
واللي بيدخل فيها يعيش معايا في خطر.»
٤١
لم يكن حبه لنوال إذن، دربًا مغايرًا لنضاله السياسي، أو أن ذلك الحب، إذا كان قد
دفعه إلى
التفكير في خطوات حياته، فإنه لم يعزله عن تلك الحياة. تساءل قبل أن يغادر البيت مباشرة:
«لماذا أغادر
هذا البيت؟ لماذا لا أبقى فيه بجانبها؟ متى أستريح، وأهدأ، وأستقر؟ لماذا لا أكون واحدًا
من هذه
الملايين الهادئة، المستريحة، المستقرة، واحدًا من سكان هذا البيت؟ إنها لا تدري، لا
تدري أنها ستفقدني،
وسأفقدها.»
٤٢ وتنتابه نوبة من اليأس، ما يلبث أن ينفض رأسه منها، ويصمم على تحدي الحكومة والبوليس
والإنجليز، حتى ينقذ حياته من أجلها.
حتى الشعور باللهفة الذي كان يعانيه إبراهيم أثناء انتظاره لعودة نوال من المهمة
التي كلَّفها بها،
كان مغايرًا لشعور اللهفة الذي كان يعانيه، وهو ينتظر زملاء التنظيم السري بعد تنفيذ
الخطة. كان شعورًا
متميزًا، دافئًا، فيه خوف وقلق وحب، بحيث بدا له — حين تأخرت — أن يتخلى عن حذره، ويخرج
للبحث
عنها.
٤٣
ولعلنا نجد في نظرة إبراهيم حمدي إلى المسدس الذي كان يحمله، وأسفه لأنه عرف المسدسات
يومًا ما،
تعبيرًا عن شعور وقتي أملاه حبه لنوال، وإشفاقه من أن يفقدها، لكن هذا الشعور ما يلبث
أن يتبدد بعد أن
يغادر البيت، ويخطط — مجددًا — لتحريك الثورة في الملايين المصرية.
•••
وإذا كانت «السياسة» قد دخلت بيت مصطفى زاهر بدخول إبراهيم، فإنها لم ترافقه في خروجه
من البيت؛
أصبح كل أفراد الأسرة يتنفَّسونها.
كان دخول إبراهيم حمدي إلى حياة أسرة مصطفى زاهر، باعثًا لأن تغيِّر الأسرة — ونوال
بالذات — أسلوب
حياتها، فبينما كان أفراد الأسرة يعانون خوفًا كأنه الموت، وإبراهيم حمدي يجلس في الصالة
ينتظر موافقة
الأب على أن يئويه في بيته، كانت نوال — برومانسية واضحة في طبعها — تتلهف إلى سماع قصة
من قصص البطولة:
«هرب؟ هرب إزاي؟»
٤٤
«رغم نظرة الأب التي أسكتتها، فإنها عاودت السؤال بعد أن تناست نظرة الأب، وكأنها
تتبع في خيالها
فيلمًا سينمائيًّا من أفلام رعاة البقر — والتعبير للفنان — إنما هرب إزاي؟»
٤٥ وعندما أخرج إبراهيم المسدس من جيبه ليحفظه في درج محيي، اتسعت عينا الأب في فزع، وضربت
الأم على صدرها خائفة، وانكمشت سامية في مقعدها، وابتعد محيي خطوتين، أما نوال فقد أطلَّت
بعينين
مستطلعتين، كأنها ترى شيئًا سمعت عنه طويلًا، ولم ترَه.
٤٦
لم يعُد الملل يفرض نفسه على حياة البيت، ولم تعد تكتفي بانتظار الخطَّاب، والمفاضلة
بين مَن يتقدمون
إليها هي وأختها سامية، إنما خرجت — للمرة الأولى في حياتها — من وراء أمها
٤٧ لإحضار بدلة الضابط من فتحي المليجي صديق إبراهيم حمدي، ليرتديها أثناء فراره، ومن ثَم،
فقد
كان خوفها من والدَيها يتغلَّب على خوفها من المهمة نفسها، والأخطار التي تحيق بها.
٤٨
والواقع أن نوال لم تكن تُقبِل على المهام التي كلَّفها بها إبراهيم بدافعٍ وطني
خالص، لكن كانت تفعل
ما تفعله من أجل إبراهيم، البطل الذي أحبَّته.
٤٩ وعندما كانت نوال في طريقها إلى مغامرتها الأولى — بتكليفٍ من إبراهيم — فقد كانت تتصرف
وتتحرك كأنها ذاهبة إلى إبراهيم، كأنها ذاهبة إلى أول لقاء، أول حب.
كانت واحدة من ملايين الفتيات المصريات اللائي حكم عليهن الأهل بالبقاء في البيت بعد
المرحلة
الأولى من التعليم، وانتظار «العدَل» في صورة طارق شاب يطلب مصاهرة الأسرة فيها، في الفتاة.
تقول الأم لابنتها (اعترافات امرأة مسترجلة) «ولكن يا ابنتي ماذا تصنعين إذا لم تتزوجي؟
إنه
الطريق الوحيد، إنه طريقنا الوحيد.»
٥٠
ربما لهذا اقترن حب نوال الوليد بإبراهيم بالزواج، إن الحب في نظرها يساوي الزواج،
إنه قد يكون
وسيلة إلى الزواج، لكن العملية يجب أن تكون واضحة ومحددة ونظيفة، بحيث يصبح «العيب» ألَّا
تصل إلى الغاية
المطلوبة، وعندما سألها فتحي المليجي عن اسمها، قالت بسرعة: زينب حمدي! جمعت بين اسمها
واسم إبراهيم في
اسم واحد.
٥١
مع ذلك، فإنه إذا كان تصرفها تعبيرًا عن حبها لإبراهيم وليس لدافعٍ وطني، فمن المؤكد
أن دخول
إبراهيم في حياتها، وحياة أسرتها — قد حوَّل سلبيتها المتوقعة إلى إيجابية تحاول، وتقدِم
على المخاطرة
أحيانًا، وكانت تفعل كلَّ ما يطلبه منها إبراهيم — مهما بلغت تفاهته أو بساطته — كأنها
تؤدي عملًا وطنيًّا
خطيرًا،
٥٢ وتحاول — بنظراتها المشفقة — أن تعتذر عن أختها، وعن ابن عمها، وعن أبيها، وعن مصر التي
يعاني من أجلها.
٥٣
ولعله يمكن القول إن حب نوال لإبراهيم كان تعبيرًا عن رفضها للواقع الاستاتيكي الذي
كانت تحياه في
البيت، منذ احتُجزَت فيه انتظارًا لمجهول، وكان المعنى المباشر الذي قفز إلى ذهنها، لمَّا
تحدد اليوم التالي
موعدًا كي يغادر إبراهيم البيت، هو دوران ساقية الملل في صورها الرتيبة المتكررة: الإفطار
والغداء
والعشاء، والتسلي بالأحاديث التافهة، والاستماع إلى نصائح أبويها، والحديث مع سامية عن
خطَّابها وأيُّهم
تفضِّل، ثم انتظار ذلك القادم — من يكون؟ — ليطلب يدها.
٥٤
عاشت نوال — بعد مصرع إبراهيم — في ذكراه عامين كاملين، وكانت التجربة العنيفة قد
صهرتها، أصبحت
فتاة كبيرة، عاقلة، وظل إبراهيم في حياتها، وكانت تعلم أنه سيظل في حياتها، وهي توافق
على الزواج من
طبيب شاب.
•••
لم يكن اختيار إبراهيم حمدي لبيت محيي زاهر، ليختبئ فيه، إلا لأن البوليس لن يخطر
في باله أن مثل
هذا الطالب يمكن أن يلجأ إليه قاتل هارب.
٥٥ ثمة رأي أن محيي هو بطل الرواية لا إبراهيم حمدي، إبراهيم — كنموذج إنساني شاذ — لا
يمكن أن
يتكرر كثيرًا في الحياة، أما محيي — كشاب وديع هادئ أقرب للجبن منه للشجاعة — فهو شخصية
عادية، نحس
بنموها ونضوجها مع أحداث الرواية في صدقٍ وبساطة.
٥٦
قيمة شخصية محيي أن له طبيعة مناقضة لكل زملاء إبراهيم حمدي، لقد رأى الكثير من زملائه
يُعتقَلون،
ويُعذَّبون، وكانوا جميعًا من الطالبة المشتغلين بالسياسة. أما محيي، فقد كان واحدًا
من البسطاء الذين
يكتفون بمقاعد المتفرجين، إنه الشعب، الشعب قد وقف بجانب إبراهيم حمدي، تحمَّل العذاب
من أجله، دون أن
يتخلى عنه، وازداد إحساس إبراهيم بالشعب وهو يفكر في محيي.
٥٧
كان محيي الدين مصطفى زاهر أول دفعته دائمًا في كلية الحقوق، لكنه كان بلا قيمة بين
الطلبة في
فترة كانت البلاد تعاني آلام المخاض، ترقبًا للثورة، فيه كل ما في الطلبة الأوائل من
ميل إلى الانطواء،
والحرص على عدم الخوض في أحاديث السياسة، والإيمان بأن المظاهرات مضيعة للوقت،
٥٨ وكان سيئ الظن دائمًا بكل الطلبة الذين يشتغلون بالسياسة، ويشك في أخلاقهم. فلمَّا تبدَّد
الشك
في اتَّهامه فتحي المليجي، وأنه قد ظلم زملاءه الذين يشتغلون بالسياسة، وأنهم — على عكس
ما يعتقد — شرفاء
ومخلصون،
٥٩ كان ذلك بداية التغيير الحقيقي في شخصية محيي، حتى إنه قال لإبراهيم في حماسة: «إذا
كنت مش
متأكد من العملية بتاعة بكره … بلاش … خليك قاعد معانا لغاية ما تطمئن.»
٦٠
لكن محيي لم يجاوز أسوار الخوف ببساطة، رأى — بعين خياله — أن الطلبة رفعوه على الأعناق،
وهتفوا
بحياته، ثم انكمش على نفسه حين تصور أن ذلك الطريق ربما أفضى به إلى السجن.
٦١ وفي اللحظة التي فكر فيها محيي أن يعترف للبوليس — وهو في العربة التي تقله إلى سجن
الأجانب
— أحس بقشعريرة، واحتقر نفسه، «كيف يستطيع أن يواجه زملاءه؟ كيف يستطيع أن يواجه نفسه؟»
٦٢ وعندما طالبه الدباغ بأن يعترف، أصر على الرفض، لا لموقف وطني، بل ولا خوفًا على إبراهيم،
لكن الاعتراف — في تقديره — كان جريمة ترفضها مبادئه الخُلقية، وضميره الذي لم يعذبه
يومًا، الاعتراف
أقرب إلى تلك التصرفات الصغيرة الحمقاء التي كان يفعلها زملاء الدراسة الثانوية، مثل
قفزهم من سور
المدرسة، وكان محيي — منذ طفولته — يعتبر تلك التصرفات عيبًا يجدر به ألَّا يفعله.
٦٣
عانى محيي — لقاء إصراره على عدم الاعتراف — من الضرب واللكم والتعذيب، لكنه كان
يحيا لحظة رفض،
تمنع فكرة الاعتراف من أن تطرأ في باله، ثم أدرك محيي أنه لا يعاني الوحدة المخيفة في
جزيرة يحيط بها
الأعداء … تناهت إليه أصوات تسأل، وتهتف، وتعجب بصلابته: «أنت مين يا أخينا قول اسمك
… سيبوه يا مجرمين … يا
أنذال … يا جبناء … شد حيلك … خليك جامد.»
٦٤
أُغمي على محيي إرهاقًا، لكنه لم يعترف. وإذا كان مقتل إبراهيم حمدي قد غيَّر من طبيعة
أفكاره، فإن
فترة السجن التي قضاها محيي في السجن، غيَّرت فيه أشياء كثيرة، في ملامح وجهه، وفي نظرات
عينيه، وفي
تصرفاته وحركاته وسكناته. أصبح أميل إلى الصلابة والقوة والهدوء والتعقل، ولم يحس بالندم
على عدم تقدمه
إلى الامتحان، وأن عامًا دراسيًّا ضاع منه، تعلَّم في تلك الأشهر أضعاف ما تعلمه في حياته
الدراسية، وبدأ
يعاني المشكلات السياسية، ويتتبَّع أنباء المظاهرات والإضرابات.
ومع أنه حرص طول عمره على أن يبتعد عن السياسة، حتى يتجنَّب مصير المشتغلين بها من
زملائه
الطلبة،
٦٥ فإنه رفض أن يوقِّع — لحظة الإفراج عنه — على إقرار بعدم الاشتغال بالسياسة؛ لم يعُد
يستطيع أن
يتعهد بعد الاشتغال بالسياسة؛ أصبحت في رأسه، وفي قلبه، وفي دمه.
٦٦
•••
سامية — الابنة الكبرى — مثل سائر الفتيات المصريات في سنِّها وظروفها — يكاد تفكيرها
ينحصر في
الزواج، وتطمح دائمًا في أن تجد من يطلب يدها، حتى لو كان قريبًا فشل في دراسته، وفي
حياته، مثل ابن
عمها عبد الحميد.
كانت سامية مشغولة بمستقبلها وحده، وكان هذا المستقبل يتمثَّل في حبها الذي لم تكن
تعلنه لعبد
الحميد. وحين تركت البيت وراءه، بعد أن هدَّد بإبلاغ البوليس عن إيوائهم إبراهيم حمدي،
لم يكن ذلك لتنقذ
إبراهيم، أو لتنقذ أسرتها، وإنما لتنقذ عبد الحميد، وتنقذ حبها له، كان رفضها المتكرر
له تعبيرًا عن
الزهو الذي تحسه لإلحاح عبد الحميد في الزواج منها، لكن الأمل كان يحيا في قلبها.
٦٧
وبعد أن غادر عبد الحميد السجن، لم يعُد أمام سامية إلا أن تقبل الزواج منه بلا تردد،
فما يربطه
بالسجن أقوى من قرابته للأسرة، ويساوي حبه لسامية. وقد عبَّر عبد الحميد عن الحياة الجديدة
التي يطمح إليها
بحصوله على التوجيهية، في العام نفسه الذي غادر فيه السجن، ثم قدَّم أوراقه منتسبًا إلى
كلية التجارة، لكن
عبد الحميد — للعجب! — لم يتقدَّم لطلب سامية، كان يحس أن سامية له، وإن كان عليه أن
يؤهل نفسه للزواج
منها.
•••
أما الأب مصطفى أحمد زاهر، فقد كان يتسم بالوطنية السلبية التي ترفض التهور والاندفاع،
مثل أحمد
عبد الجواد في «بين القصرين». يقول لإبراهيم حمدي: «أنا اللي عايز أعرفه أنتم عايزين
إيه؟ ما فيش حد في
البلد عاجبكم؟ ما فيش راجل ماشيين وراه … النحاس مش عاجبكم … النقراشي مش عاجبكم … الملك
مش عاجبكم … تبقوا
عايزين مين؟ مين اللي حضرتك عايز يحكم البلد؟ حتقولي كلهم ما ينفعوش … كويس … موافقين
… إنما مين؟ هايجين
ومهيجين البلد علشان إيه؟ ما تسكتوا، وتوفروا تعبكم، لغاية ما تلاقوا الراجل الكويس اللي
أنتم
عايزينه.»
٦٨
وبعد أن اطمأن إبراهيم إلى جلسته في صالة بيت مصطفى زاهر، فاجأه الرجل بالقول: «تعرف
إني لغاية
دلوقت مش موافق على اللي عملته … ده نوع من الوطنية لا أقره.»
٦٩
وعلى الرغم من رفضه المؤكَّد للمغامرات، وأسلوب الاغتيالات، والعنف، فإنه وافق على
أن يحيا إبراهيم
مع أسرته بعد فراره.
•••
أما الأم، فقد كانت تنظر إلى المسألة كلها من زاوية الأمومة الخالصة، فهي تفكر بقلب
الأم ومشاعرها
وعواطفها، وتمصمص شفتيها قبل أن تقول: «يا كبدي عليها — أمه! — ده زمان قلبها متشحطط
عليك … ما هو ما حدش
بيشيل الهم إلا الأم … يا ترى هيه عارفه أنت فين دلوقت؟»
٧٠
وتواجهه بقولها: «والنبي يا ابني أنا مش صعبان عليَّ إلا الست والدتك … دي عمرها
ما تقدر تتهنَّى على
لقمة وأنت بعيد عنها.»
٧١
وكانت ابتسامة الأم الطيبة، إسهامًا مباشرًا في تبديد جو القلق الذي أحاط بالرجال
الثلاثة عندما
أدركوا المأزق الصعب الذي يواجهونه.
٧٢
وحين أبدى إبراهيم رغبته في مساعدة أفراد الأسرة، قالت له الأم بلهجتها الطيبة: يا
ابني كفاية
الهم اللي أنت فيه … ده إحنا كلنا نخدمك بعنينا.
٧٣
ولم تجد الأم — تعبيرًا عن إشفاقها — إلا أن تُخرِج مصحفًا من درج الكومودينو، وتقدمه
إلى محيي
قائلة: «خد يا ابني اديله المصحف ده … ربنا يحميه … وينجيه … ويرجعه لأمه بالسلامة …
يا رب.»
٧٤
كان الشعور بالأمومة هو الذي يحركها، فهي تفكر في إبراهيم بقلب أمه حين تهدأ مخاوفها
على بيتها:
الزوج والولد والفتاتين، لكنها كانت تعلن ثورتها عليه إذا تبيَّنت الخطر الذي حمله معه
إلى البيت الهادئ
المسالم. فلما انتهت الأحداث إلى ما انتهت إليه، ومات إبراهيم برصاص ضابط بوليس مصري،
وخرج محيي من
السجن بعد أشهر قاسية، دلَّها شعور الأمومة — الأمومة أيضًا — إلى الحقيقة التي كادت
تغيب عنها، وهي أن
في مصر سجونًا، وفي السجون تعذيب، وأن ابنها يمكن أن يدخل السجن، ويمكن أن يُقتَل كما
قُتِل إبراهيم، وعرفت
أن ثمة حياة أخرى، غريبة، رهيبة، خارج البيت، تعتقل الناس، وتسجنهم، وتغتالهم.
•••
كان ظهور عبد الحميد — ابن شقيق مصطفى زاهر — في حياة الأسرة، دون أن تُعِد نفسها
لذلك، وتعرُّفه إلى
إبراهيم حمدي، مشكلة ناقشها الجميع مع أنفسهم. ثم أعاد إبراهيم المشكلة من وجهة نظره:
مفروض أن يبلغ عبد
الحميد البوليس عنه، لكنه — مهما تبلغ نذالته — لا يستطيع أن يعرِّض عمَّه وابن عمِّه
للسجن، ومن ثَم فهو لا بد
أن ينتظر حتى يخرج إبراهيم من البيت، فيتبعه بعد خروجه، ثم يبلغ البوليس عن مكانه دون
أن يحسب حسابًا
لأسئلة البوليس التي كانت ستحاصره، وتُخرِج منه الحقيقة كاملة، ويعرفون أين كان يختبئ
إبراهيم حمدي، وكان
الضمان — لكي يفوِّت على عبد الحميد جريمته البلهاء — أن يظل في البيت لا يتركه.
٧٥
في صباح اليوم التالي، ذهب عبد الحميد إلى مصطفى زاهر في مكتبه، وقال له: إنه رجل
عظيم.
ثم أشار إلى وطنيَّته هو، وإلى المظاهرات التي اشترك فيها عندما كان طالبًا، ثم تحدث
بالمناسبة عن
رغبته في الزواج من سامية، وعلى الرغم من أن الرفض لم يعُد أمرًا يملكه مصطفى زاهر، فإنه
قد رهن موافقته
— التي أصبحت هي الجواب الوحيد — بموافقة سامية نفسها.
حقيقة الأمر أن عبد الحميد لم يكن وطنيًّا، وإن لم يكن — في الوقت نفسه — خائنًا،
ولعله كان صادقًا
في تحيَّته لإبراهيم «البطل الذي أنقذ البلد من الخونة» — على حد تعبيره
٧٦ — بل إن الحماسة دفعته لأن يعلن في صوت متشنج: «البلد حالتها زفت … دول حيودوا البلد
في داهية …
حا يبيعوها بيع للإنجليز … الواحد مش عارف يعمل إيه … نفسي أتلم على شوية شبان ونعمل
حاجة ننقذ بيها
البلد.»
٧٧
لعل التعبير الأدق لشخصية عبد الحميد أنه «فهلوي» — وهو تعبير مصري — فالشهادات لا
معنًى لها إذا
استطاع الإنسان أن يحقق أهدافه بدونها، والذكاء الحاد هو الأداة الأولى التي يجدر بالإنسان
أن يلجأ
إليها في كل خطوات حياته.
حتى عندما قرر أن يبلِّغ عن إبراهيم حمدي، فإنه لم يجد في ذلك انتقاصًا لوطنيَّته،
الموضوع — بالتأكيد
— ليس موضوع وطنيَّته. وإذا لم يأخذ هو الآلاف الخمسة من الجنيهات مقابلًا للتبليغ عن
إبراهيم حمدي، فلا
بد أن يأخذها غيره، والقبض على إبراهيم مصير حتمي … فلماذا لا تكون مكافأة التبليغ وسيلته
لحياة جديدة،
فيقترن بسامية، ويشتري سيارة وفيلا؟
٧٨
كان الباعث لكل تصرفات عبد الحميد، بعد أن علم بمغادرة إبراهيم البيت، إحساسه بأنه
قد أُهين في
ذكائه، رأس ماله الذي اعتمد عليه في كل حياته، ومن ثَم فقد اتصل — بلا وعي — بالبوليس
السياسي. ولو أن
الآلاف الخمسة كانت هي الباعث لأن يتصل بالبوليس السياسي، فقد كان باستطاعته أن يروي
قصة إبراهيم حمدي
كاملة ليقبض المبلغ، لكنه رجع عن كل ما اعتزمه، ولجأ إلى الكذب بمجرد رؤيته لابنة عمِّه
سامية تُقبِل وراءه
إلى مبنى المحافظة، عانى الإحساس بأنه هو الذي تسبب في المأساة التي عاشتها الأسرة، ودفعه
هذا الإحساس
لتحدي البوليس كأنه يكفِّر عن خطيئته.
٧٩ وكانت فترة السجن، واختلاطه بالسجناء السياسيين، كافية لأن يطرح مشكلته مع نفسه في إطارها
الصحيح، وأن يعترف بأنه — بالفعل — إنسان فاشل، ومن حق أسرة عمِّه أن ترفضه زوجًا لسامية،
وكان سر فشله
أنه لم يؤمن بشيء أبدًا، لم تشغله قضية الدين، ولا قضية التقاليد، ولا الأخلاق، ولا السياسة،
كان يعتمد
على ذكائه وحده في اختلاق الفرصة، ثم استغلالها، لكنه لم يكن يؤمن بشيء على الإطلاق.
٨٠
خلف عبد الحميد في السجن كل مظاهر السلبية التي كانت قوامًا لحياته، فهو — رغم بشاعة
التعذيب — لا
يعترف، وينصح محيي بعدم الاعتراف، ويقود حركات التمرد داخل السجن، ويغيِّر أسلوب حياته
كلها حتى بعد أن
غادر السجن، وتحوَّلت تلك الأيام الجميلة إلى ذكرى «ما كانش ممكن حد يصدق إن محيي وعبد
الحميد يستحمِّلوا ده
كله … دول استحملوا كتير … دول أبطال.»
٨١ ونتذكر عبد الحي (الشوارع الخلفية) الذي كان مشغولًا بالتلصص إلى سعاد هانم، ومحاولة
خطب
ودها، لقد أثبتت الأحداث رجولته. يقول ضابط مباحث قسم السيدة زينب: «والله يا جماعة،
الحقيقة أن عبد
الحي ده شاب كويس جدًّا، رغم إنه انضرب واتعذب كثير في المحافظة، فهو لم يعترف باسم واحد
من اللي نظَّموا
الاجتماع، ولا باسم اللي دعاه، حتى عنوان بيته رفض يقول عليه، وقال إنه ساكن في بيت الله،
وربط على
كده! تصوروا، غيره لم يحتمل ضربة واحدة واتكلم، وبعضهم اتكلم من غير حتى ما حد يهدده!
يا سلام! ولد
صحيح!»
٨٢
•••
اقتحم الخوف العميق أفراد الأسرة في البداية، لكنهم لم يتراجعوا، ولم يتصرفوا بخسة،
أو نذالة،
وخاضوا التجربة القاسية إلى أعمق لحظاتها، وأسهموا — بإيجابية نادرة — في صنع بطولة إبراهيم
حمدي، وفي
تجسيدها، فضلًا عن البطولة الشخصية لكل فرد في الأسرة، حتى ابن العم «عبد الحميد» الذي
أبدى مقابلًا
للعنف والتعذيب يفوق التصور.
يلخص إبراهيم تصرف الأسرة حياله، في هذه الكلمات التي قالها لمصطفى زاهر قبل أن يغادر
البيت:
«الواقع يا عمي أنا مهما قلت مش حاقدر أشكرك … كفاية إني أقول لحضرتك إني جيت هنا وأنا
خايف تطردوني …
إنما لقيت في البيت ده وطنية وشهامة، ما لقيتهاش في أي حتى تانية طول حياتي.»
٨٣
لعلَّنا نطيل تأمُّل تلك اللحظة التي راح الأب ينقل فيها بصره بين الجريدة في يده
وعبد الحميد الجالس
أمامه، تمنَّى — في مقارنة سريعة — لو أن عبد الحميد هو إبراهيم، لو أن ابن أخيه هو قاتل
عبد الرحيم شكري،
وأحس أن الأهون عليه أن يعطي ابنته لرجلٍ يتهدَّده الشنق من أن يعطيها لعبد الحميد.
٨٤ وكان الشعور بالفخر هو المسيطر على فكر مصطفى زاهر وتصرفاته، قبل أن يغادر إبراهيم حمدي
البيت مباشرة، لقد أدَّى واجبًا وطنيًّا دون أن يصيبه أذًى، لكنه أنقذ بهذا الواجب بطلًا
تطارده السلطات
(يذكِّرنا بأحمد عبد الجواد الذي حلَّ في داخله الشعور بالفخر شيئًا فشيئًا، محل الشعور
العميق بالأسى بعد
مصرع أعز الأبناء فهمي في مظاهرة السلام) وكان ذلك الشعور بالفخر هو الذي دفعه لأن يعطي
لمحيي خمسة
جنيهات: «إدِّي دول لإبراهيم … يمكن يحتاج لهم.»
٨٥ وإن خالط ذلك الشعور خوف على محيي: هل يتمادى في الطريق التي دفعه إليها إبراهيم؟
وقرر — في إصرار — ألَّا يحيد ابنه عن الطريق التي رسمها له.
٨٦
إن كلًّا من أحمد عبد الجواد ومصطفى زاهر ينتمي إلى الطبقة الوسطى، وإن كان زاهر
موظفًا حكوميًّا،
وعبد الجواد تاجرًا، وكان كلٌّ منهما يعاني الوطنية السلبية التي تكتفي بالتأييد القلبي،
دون جهدٍ ما في
المشاركة. وكان يدافع عن تلك السلبية بإصرار يبلغ حدَّ الشراسة، حتى إذا كان ينقصها التبرير،
وكان يحرص أن
يغطي رداء السلبية كلَّ أفراد أسرته، لكن حادثة مقتل إبراهيم حمدي، بعد أن نسف معسكر
العباسية، غيَّرت من
أفكار الرجل تمامًا، وأعاد اكتشاف نفسه: «أحس كأنه اكتشف إنسانًا جديدًا في داخله، أحس
أنه يؤمن فعلًا
بهذا الكلام الذي يقوله، إنه يرضى فعلًا بأن يبقى ابنه في السجن، لو كان بقاؤه ثمنًا
لحياة إبراهيم … هذا
عجيب، هل يُعقَل أن يضحي بابنه إلى هذا الحد؟! لكنه يحس بأن تضحيته بإبراهيم ليست أقل
من تضحيته بابنه،
يحس أن إبراهيم ليس مجرد شاب وطني أواه في بيته يومًا، يحس كأن له شيئًا في إبراهيم،
كأنه اشترك في
صنعه، في صنع بطولته، وفي صنع وطنيَّته، وفي صنع مغامراته، ويحس الآن أنه فقدَ شيئًا
يملكه، يملكه مع غيره،
على الشيوع!»
٨٧
•••
تضغط نهاية «في بيتنا رجل» على جماعية الثورة، وأنها السبيل الوحيد، الحقيقي، لانتزاع
شمس الخلاص من
وراء الأفق، فبعد القبض على محيي وعبد الحميد تناثرت تعليقات الجيران: «بأه دي عيشة ترضي
ربنا … ده ظلم …
دي حكومة سفاحين … الحقيقة حالة البلد بقت ما تنطقش … وما حدش عارف آخرتها إيه … ما فيش
طريقة تودي الناس
دول في داهيه؟»
٨٨ ماذا تفعل الآن هذه الملايين؟ وماذا تفعل بعد موت إبراهيم؟ إنها لا تيأس ولا تبكي ولا
تستكين، إنها تنشط لتصنع بطلًا آخر، العيون تتقد، والهمسات تعلو لتصبح صراخًا، والأحداث
تتوالى، وكل حدث
يصنع بطلًا، أبطال كثيرون يتِمُّون رسالة الشهيد، ويتقدمون صفوف الثورة.
٨٩
•••
كان في مقدمة العقبات التي واجهت رجال البوليس في عمليات البحث عن القاتل، أن حسين
توفيق لم يكن
له نشاط سياسي من قبل،
٩٠ فضلًا عن أن الرأي العام كان متعاطفًا مع القاتل، وقد أجاب أحد شهود الحادثة على سؤالٍ
لهيئة
المحكمة: لماذا لم تدخل العمارة عقب سماع صوت الرصاص؟ قال: أدخل ليه؟ ده أمين عثمان بتاع
سنة ١٩٤٢م،
ولما سمعت الرصاص عرفت إنه قُتِل.
٩١
حاول إبراهيم حمدي أن يغادر البلاد، ثم عدل، بعد أن تنقَّل بين أكثر من بيت، طرح المسألة
من جديد:
«هل همام بك واليوزباشي الدباغ وغيرهما من أعوان الإنجليز، هم أعداؤه الذين يجب أن يتخلص
منهم؟ إنهم
ليسوا سوى أدوات، خدم، ينفِّذون سياسة الاستعمار … فلماذا لا يبدأ من البداية، ويقتل
الإنجليز؟»
وقرر أن يعود إلى نشاطه المسلح، فقط لم يعُد تفكيره ينطلق من العموميات، بل أصبح البيت
الهادئ الذي
يضمُّه ونوال بعض أبعاد هذا التفكير، البيت الهادئ لا يحيا في بلد يعاني الأحكام العرفية
والاعتقالات
ومصادرة الحريات، فلا بد — إذن — أن يتغير الوضع بأكمله، وتغيُّر الوضع لا يتحقق بالأمنيات
الطيبة،
المطلوب هو أن تشيع في الناس روح التغيير، روح الثورة، ليصبح التغيير أمرًا مطلوبًا،
أمرًا منتظرًا،
أمرًا يعد له أنفسهم الحكام والمحكومين على السواء.
وقرر — أخيرًا — أن يكون هو رصاصة البداية في إشاعة فكرة الثورة، أن يتحرك، فتلحقه
الثورة: «كل
اللي بنعمله مش حايطلَّع الإنجليز من البلد، ما فيش حاجة حاتطلَّع الإنجليز إلا إن البلد
كلها تثور …
تتحرك … وعشان تتحرك لازم نعمل حاجة تصحيها … لازم نعمل حاجة تفرقع … لازم تكون المقدمة
للثورة … وده اللي
أنا حاعمله.»
٩٢
دخل معسكرًا للإنجليز، واحدًا من أكبر معسكرات الإنجليز، حقق الهدف الكبير الذي كان
يحلم به،
وأصبح دمه — بالفعل — في مقدمة مسيرة الجماهير المصرية لصنع الثورة. قال واحد من السجناء:
«الواحد نفسه
يشتغل شغلانة زي دي»، وقال آخر: «الحكاية لازم تكبر يا جماعة.» وقال ثالث: «أنا بلغني
إن الجامعة حتضرب
بعد إجازة العيد، وحايخرجوا في جنازة صامتة.» وقال رابع: «واحنا كمان لازم نعمل حاجة،
متهيأ لي نقوم
نكسر السجن وننزل ضرب في العساكر.» وقال خامس: «حقنا نضرب عن الطعام النهاردة.»
٩٣
•••
من الصعب أن يُوجَّه الاتهام إلى تنظيم الضباط الأحرار بأنه كان المدبِّر لمقتل أمين
عثمان، لسببٍ بسيط،
هو أن التنظيم لم يكن قد تكوَّن بعد، فضلًا عن أنه لم يكن قد طُرِح كفكرة، عام اغتيال
السياسي المصري.
لعلَّه يجدر بنا أن نشير إلى وصف محمد صبيح لعزيز المصري بأنه الأب الفعلي لحركات
المقاومة ضد
الإنجليز، وضد القصر، منذ عاد من لندن في بعثته مع الأمير فاروق.
٩٤
كان رأي عزيز المصري في ظاهرة الاغتيالات السياسية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية،
أن «القتل
السياسي مثل حادث مقتل أمين عثمان باشا، وحادثة المرحوم أحمد ماهر، إنما يرجع إلى معاملة
الإنجليز
الخاطئة لمصر والحكم الاستعماري، لأنه يهيئ أذهان الشبان الذين ليس لديهم من سنهم الصغيرة
إلا العواطف
كمحركٍ عنيف، مما يدفعهم إلى مثل هذه الأعمال.»
٩٥ والأفراد الذين يقدِمون على الاغتيالات السياسية، إنما يفعلون ذلك ليؤدوا «عن الشعب
بعض
الواجب الذي كان مفروضًا أن يقوم به مجتمعًا، لأن الواحد منهم يعتقد أنه صاحب رسالة في
هذا
الشأن.»
٩٦
ألَّف حسين توفيق وزملاؤه جمعيتهم عام ١٩٤٤م، وكان في مقدمة أهدافها القيام بعمليات
اعتداء على
الإنجليز،
٩٧ وكان أشد ما استفز هؤلاء الشبان، ما قاله أمين عثمان — عقب إحالته إلى المعاش في عهد
وزارة
علي ماهر — إنه عائد إلى الوزارة، تساءلوا: كيف استباح الرجل — وهو لا يستند إلى أي تأييد
من أية جهة
وطنية — أن يؤكد عودته.
٩٨
كان مقتل أمين عثمان — كما يقول وسيم خالد في مذكراته — حلقة في سلسلة من الاغتيالات،
تشمل عددًا
كبيرًا من الزعماء وكبار موظفي الدولة، مثل مصطفى النحاس، لأنه «الشخص الوحيد الذي يستطيع
أن يتقدم إلى
الشعب بمعاهدة جديدة» — وقد فشلت محاولة اغتياله — والنقراشي رئيس الحكومة القائمة آنذاك
وزعيم أحزاب
الأقلية، وعمر فتحي وعطا الله الضابطَين الكبيرين في سراي الملك، وحسن رفعت والغزالي
ضابطَي البوليس
السياسي، وأخيرًا الملك فاروق نفسه.
٩٩ وكان منطق حسين توفيق بسيطًا: الإنجليز يحتلون بلادنا، والقيادات الحزبية كلها خائنة،
إذن
فالأعمال التي تقوم بها جماعته «مقاومة مشروعة»، مثل حرب المقاومة الفرنسية ضد الألمان.
١٠٠
لكن بعض المشتغلين بالعمل السياسي وجد في حادثة مقتل أمين عثمان شبهة تحريض من السراي،
باعتبار أن
أمين عثمان كان عميلًا سافرًا للاحتلال البريطاني، وكان الملك فاروق يتخوَّف من أن يستغل
أمين عثمان
مكانته عند الإنجليز، فيقلل من سلطة الملك، أو يلغيها. وكما يقول محمد عصفور، فإن «ظهور
أنور السادات في
العملية — وكان فارق السن بينه وبين حسين توفيق وزملائه كبيرًا — يُلقي ظلًّا من الشك
على تحريض السراي
على هذه العملية، لأنه من الأمور المؤكَّدة أن أنور السادات — في هذه المرحلة — كان من
رجال السراي محترفي
الاغتيال السياسي لخصوم الملك، وكان يُطلَق عليهم اسم «الحرس الحديدي»، وإن كان السادات
قد برر في
مذكراته، اتصاله بالسراي عن طريق الطبيب الخاص للملك، يوسف رشاد، بأنه كان بقصد رصد حركات
الملك.»
١٠١
ويقول الفريق محمد أحمد صادق: «عملية اغتيال أمين عثمان وزير مالية الوفد وأحد أعوان
الإنجليز
في مصر، التي قام بها حسين توفيق، جرت بتخطيط يوسف رشاد وأنور السادات، ولولا نفوذ السراي
الملكية، لما
استطاع حسين توفيق بعد القبض عليه، ومحاكمته، الهروب ومغادرة البلاد بكل نجاح وطمأنينة،
وحصل السادات
على مكافأته بالبراءة في نهاية محاكمة جماعة حسين توفيق، وكان السادات المتهم رقم ٧ بينهم.»
١٠٢
قيل إنه من أسباب مقتل أمين عثمان، ومحاولة اغتيال النحاس أيضًا، أن لهما يدًا في
حادثة ٤ فبراير،
أو أنهما في الأقل لم يقوما بدورٍ وطني مطلوب نحو الملك عند حدوث الأزمة.
١٠٣
كان النحاس هو المستهدَف بالاغتيال قبل أمين عثمان، تحدَّد لاغتياله يوم الخامس من
ديسمبر ١٩٤٥م، فلما
أخفق حسين توفيق في مهمته، قررت «الجمعية» اغتيال أمين عثمان قبل النحاس، على أن يُقتَل
النحاس في جنازة
الأول.
١٠٤ وكما روى النحاس في المحاكمة، فقد كانت بداية علاقته بأمين عثمان سياسيًّا، أثناء مفاوضات
١٩٣٦م، ذلك لأنه كان يريد أن ينجح في المعاهدة، فكان يختار الأشخاص الذين يستطيعون معاونته
في هذا الصدد،
ومن بينهم أمين باشا.
١٠٥ وكان رأي حسين توفيق — ما عبَّر عنه محاميه علي الخشخاني — أنه أمام الشعوب التي تريد
أن تنال
استقلالها، طريقان لا ثالث لهما: تلقي النجدة من دولة حليفة، أو استخدام القوة، أما المفاوضات
والمعاهدات، فهي وسيلة عقيمة في سبيل استرداد الشعوب استقلالها. وقال حسين توفيق إن النحاس
وأمين عثمان
قارفا جريمة الخيانة العظمى، مما يعاقب عليه قانون العقوبات المصري. فلما لم تقدمهما
السلطات المصرية
إلى المحاكمة، اتهمتهما جماعته وحاكمتهما، وحكمت عليهما، وتولى هو تنفيذ العقوبة، فلم
يُصِب من النحاس
مقتلًا، وقتل أمين عثمان، وكان ينوي قتل النحاس في اليوم التالي وهو يشيع جنازة أمين
عثمان.
١٠٦ ووصف محامي حسين توفيق، أمين عثمان بأنه القتيل القاتل، وأنه نشأ مصري الجنس، بريطاني
الحس،
حتى لقد نسب إليه القول: «لعل بعضنا غاضب لأنني شبَّهت مصر بامرأة، وشبهت بريطانيا بالرجل،
ولكني أفضِّل هذا
التشبيه؛ فالمرأة دائمًا تأخذ من الرجل خير ما عنده، وسلوا المتزوجين يقولوا لكم الخبر
اليقين.»
١٠٧
وللأسف، فإن ذلك المعنى الذي أكده أمين عثمان — الزواج الكاثوليكي — استعاره من سياسي
بريطاني،
قال إن الله ربط مصر وإنجلترا برباط عقد زواج كاثوليكي مقدس، أبدي، خالد، سرمدي، لا سبيل
إلى الخلاص منه
حتى الممات.
١٠٨
كان الرجل — باعترافه — يَدين بمركزه للمحسوبية والاستثناءات، ولولاها لبقي موظفًا
منسيًّا في
الدرجة السادسة،
١٠٩ حتى المحامي إبراهيم فرج الذي دافع عن أمين عثمان، قال: إن أمين باشا لم ينكر ميله نحو
الإنجليز، بل كان يجهر بذلك في كل مناسبة، وعلى رءوس الأشهاد، فهو لم يغش أحدًا في طبيعته،
ولم يخفِ عن
أمته حقيقة عقيدته، شأن غيره ممن يجهرون بعداوتهم للإنجليز في العلن، ويصانعونهم في الخفاء،
وليس يضير
شخصًا أن يرى الخير في توثيق علاقات مصر بتلك الدولة، وأنه يمكن لمصر أن تنال منها بالسياسة
ما لا تناله
بالشدة.
١١٠
وقد بلغ الشعور الوطني مداه ضد أمين عثمان — حتى بعد مقتله — في قول أحد شهود المحاكمة
إنه حين
سمع صوت إطلاق الرصاص، وكان واقفًا على باب العمارة، رفض الدخول قائلًا: أدخل ليه؟ ده
أمين عثمان بتاع
سنة ١٩٤٢م — يقصد حادثة ٤ فبراير، وذلك ما أكده حسين توفيق في قوله أثناء التحقيقات،
إنه ارتكب تلك
الجرائم لأنه يريد أن يقتص من الذين دبَّروا حادثة ٤ فبراير.
١١١
•••
إذا كانت مشكلة شباب تلك الفترة، هي الحيرة بين الأحزاب المختلفة، والتحوُّل من الكفر
بحزبٍ إلى
الإيمان بحزبٍ آخر، فإن نظرة إبراهيم حمدي قد تحددت إلى الاستعمار، وإلى الزعماء الذين
يتعاونون معه.
لم يكن يُنشِد مبدأ اجتماعيًّا ولا سياسيًّا معينًا، وعزف عن الانضمام إلى أحد الأحزاب
القائمة، بصرف
النظر عن سرية نشاط الحزب أم علانيته، وكان يصدر في نظرته عن تعاطف مع الجماهير المصرية،
التي كانت تكره
الاستعمار والملك والزعماء، وتعاني الأحكام العرفية.
حدد إبراهيم حمدي طريقه بالابتعاد عن الأحزاب والتنظيمات السياسية، وهو الأمر نفسه
الذي اتَّبعه
الآلاف من الشبان الذين توزعتهم الحيرة بين التناقضات، واختاروا أسلوب الاغتيال السياسي،
بدءًا
بالإنجليز، وانتهاءً بعملائهم. ثمة اتجاهات أخرى رفضت العنف الدموي، وفضَّلت العمل السياسي
التنظيمي الذي
قد يجد الإحساس بالمشاركة في الانضمام إلى أحد الأحزاب السياسية التقليدية، كالوفد والأحرار
الدستوريين
والسعديين والحزب الوطني … إلخ، ولعله وجد ذاته في الانضمام إلى أحد التنظيمات المتطرفة،
بصرف النظر عن
اتجاه بوصلة التطرف، مثل الإخوان المسلمين والشيوعيين.
والواقع أن الجماعات المسلحة كانت تنتسب إلى القلة القليلة في النشاط الوطني بعامة،
أما الكثرة،
فقد فضَّلت العمل السياسي من تنظيم المظاهرات والاجتماعات إلى توزيع المنشورات، فالتوعية
السرية
والعلنية.
وعلى الرغم من أن أمين عثمان كان يستحق مصيره، فإن الراوي (أرض النفاق) يُعلن سخريته
من أن «القتل
قد أضحى ديته عشر سنين.»
١١٢ يشير — بالطبع — إلى الحكم الذي صدر ضد حسين توفيق، ولعل تلك السخرية الرافضة مبعثها
رفض
مبدأ القتل عمومًا، بصرف النظر عن صواب الهدف من عدمه.
هوامش