حديقة زهران

رواية عبد الفتاح رزق «حديقة زهران»١ تعرض لسني المخاض التي سبقت ميلاد الثورة، والتي تبدأ بنهاية الحرب العالمية الثانية: نشوء التنظيمات الطلابية والعمَّالية ما بين سرية وعلنية، فانتشار وباء الكوليرا، فتفجُّر المأساة العربية على أرض فلسطين، فانتشار الإرهاب السياسي ابتداء من الاغتيالات إلى حملات الاعتقال، والسجن، فتوقُّع لحظة الميلاد.

إذا كان تعاطف الفنان مع اليسار الماركسي المصري يتبدَّى واضحًا في «حديقة زهران»، فإنه ليس تعاطفًا على إطلاقه، إنه يصافح اليسار في صداقة، لكنه لا يعانقه في حب، وهو يحرص — في كل الأحوال — أن يسأل، ويناقش، ويحلل، فضلًا عن أنه يرفض بعض الكلمات التي تقف عند حدود الشعارات، دون أن تجاوزها إلى التطبيق الفعلي، ولعلَّه — من هنا — يأتي اختياره لشخصيتَي بكر وليلى كمحورَين لأحداث «حديقة زهران».

إن بكر يقف — منذ اللحظة الأولى — على أرضية الإيمان الديني، لا يصرفه عنها التنظيم السري، ولا كلمة السر، أو الأسماء الحركية.

يسأله شريف: أنت بتصلي؟

يجيب: أيوه … لكن …

ويقاطعه شريف: تبقى تستمر زي ما أنت.٢

ودلالة الكلمات واضحة من تصوُّر شريف أن بكر قد أولى الإيمان الديني ظهره، وبدأ يُعِد نفسه لحياة جديدة تكتفي بالجانب المادي البحت، لكن «بكر» يحرص أن يؤكد رفضه لهذا التصور عندما يقاطع شريف قائلًا: فيه حاجة عايز نقولها … آني مش بنصلي مظاهر … وإنما آني مؤمن فعلًا … وساعات كتيرة أخاف إني أصبح كافر.

وحين يكشف لبكر نظام عمل الجماعة، فإنه يحرص على أن يبدي ملاحظاته مهما تغلفت بالقسوة: أنا بصراحة مش مستريح للطريقة المعقدة اللي بنشتغل بيها، أنا صحيح استفدت كتير، واتطورت، وقريت، وفهمت، لكن مش قادر أقنع نفسي بطريقة العمل دي، من واحد لواحد، وكلام … كلام … ويمكن العمل الإيجابي الوحيد اللي اقتنعت بيه هو إني اشتركت في مقاومة الكوليرا، كانت فرصة كبيرة إني أعمل حاجة للناس.

ويسأله حسين في انزعاج: أنا مش فاهم قصدك إيه؟

يقول بكر في اندفاع: قصدي إن عملنا يكون واضح أكتر، يكون مباشر … يخرج لكل الناس، هو إحنا عايزين إيه؟ مش عايزين الإنجليز يطلعوا من مصر كلها؟ مش عايزين نقضي على استبداد الملك وأعوانه؟ طيب ليه ما نكونش واضحين؟!

ويتساءل: إحنا ليه بنعتمد اعتماد كلي على المنشورات؟ ليه ما نخرجش للناس ونعيش معاهم، ونفهمهم أكتر … يعني …

يقاطعه حسين، وشريف مطرق في صمت: يعني إيه؟ وأنت فاكرنا جايين منين … هه؟ أنت أبوك كان مين، وأنا أبويا مين؟ ما هو ساعي في البلدية … وحياتنا كلنا، أنا وأنت وشريف … وليلى كمان … عايشينها فين؟ مش عايشينها مع الناس؟ لا، أنت تفكيرك لازم يكون واقعي أكتر.

– فاهم … لكن مش عارف ليه باحس بإن الكلام اللي باسمعه مش بتاعنا، ما هواش إحنا، يمكن يكون كلام كويس، لكنه كلام بس … كلام!

وتكلم شريف: الكلام اللي بتقوله ده مش حقيقي، والنزول للناس مش كل حاجة، بالعكس، يمكن يضُر بنا كلنا.

ثار بكر: يضر بينا إزاي؟ إحنا لازم نعمل حاجة إيجابية للناس اللي اليأس مش قادر يعيش في قلوبهم، اللي عايزين يبقوا أحسن … أيوة … ودي القضية الوحيدة اللي أنا مستعد أموت علشانها.٣

لكن بكر اكتفى بالرفض دون أن يغادر الجماعة، وإذا كان حبه لعضو الجماعة — ليلى — هو الصلة الوحيدة التي أصبحت تربطه بالجماعة، فإن الحيرة كانت محور مشاعره وأفكاره وتصرفاته، حتى أودت به الخيانة — في النهاية — إلى السجن.

كان بكر ثمرة طبيعية للبيئة التي أفرزته، فهو قد ورث مهنة والده الجنايني، ومات الوالد دون أن يترك لهم إلا موافقة صاحب البيت على السكنى في كوخٍ بالحديقة، وكان المستقبل ضبابًا، أو أقرب إلى الظلام، ولم يكن يجد نفسه إلا حين يشارك في مظاهرة تهتف ضد الاستعمار والخونة والعملاء، ثم أدرك أن تغيُّر واقعه يرتبط — إلى حدٍّ كبير — بتغير واقع الناس من حوله، وأن أمه العجوز وأختيه ينتسبن إلى ملايين الأسر المصرية التي تحيا في المستوى الأدنى.

من هنا، لم يُقبِل على العمل السياسي لذاته؛ كان ينشد المخرج من الظروف الصعبة التي تعانيها الملايين المصرية، ومن هنا أيضًا كان استياؤه لكل «الطقوس» التي تمارس الجماعة عملها من خلالها، مثل الأسماء الحركية والتخفي وكلمات السر والحجرات المغلقة والابتعاد عن الناس، حتى لو كانوا من هؤلاء الملايين التي كان انضمامه إلى الجماعة — في الحقيقة — للدفاع عن حقها في حياة أفضل.

لعل الفنان كان أقرب إلى موقف بكر من أسلوب الجماعة في عملها، بل إننا نجد إدانة صريحة لهذا الأسلوب، حين يكشف لنا شريف الذي كان أشد أفراد الجماعة حرصًا على «الطقوس»، إنما هو جبان، يبيع نفسه — وزملاءه — لأول بادرة تهديد.

أما ليلى، فإنها تُرجِع انتماءها للعمل السياسي إلى ظروف محددة، أو واقعة محددة: «أنا في كلمتين، إنسانة الإنجليز قتلوا أبوها، إيوه، كان سواق تاكسي واتنين عساكر سكرانين قتلوه بعد ما وصلهم لحد قلعة كوم الدكة، من سنتين بالظبط حصلت الحكاية دي، ومن يومها والدموع موش عايزة تنزل من عيني، وعلشان كده لبست نضارة سودة، يمكن في الأول كنت مدفوعة بالحقد، بالرغبة المجنونة في إني أنتقم، لكن بمرور الوقت بدأت أفهم، وبدأت أعرف، ومرة واحدة عيطت فيها، مرة واحدة بس، يوم ما وقفت قدام قلعة كوم الدكة والعساكر الإنجليز بيمشوا منها، حسيت إني اتولدت في اليوم ده، وعيطت، يمكن الدموع كانت علشان افتكرت أبويا اللي انقتل في نفس الحتة دي، لكني كنت بأعيط وأضحك، كانت الدنيا موش سايعاني من الفرحة، وكنت بأعيط!»٤

وإذا لم يكن الفنان قد أوضح — صراحة — موقف ليلى من أسلوب عمل الجماعة، فلعلَّنا نتبيَّن هذا الموقف من خلال حرصها على أن يكون اسمها الحركي هو نفس اسمها الحقيقي، ومن خلال تقبُّلها لنشوء علاقة عاطفية بينها وبين بكر، بل إنها لم تمانع في أن يزورها بكر في مكتبها بالشركة التي تعمل بها.

نحن نجد في شخصية ليلى، امتدادًا متطورًا لشخصية سوسن حماد (السكرية)، والاثنتان تنتميان إلى الفكر الماركسي. يسأل بكر عنها، فيجيبه حسين: «حاجة من اتنين، إما إنك بتسأل بدافع فضولي، ويكون الرد إن اسمها ليلى، وإنها إنسانة كويسة، متحمسة للقضايا اللي إحنا متحمسين لها، وبتكره الإنجليز والباشوات وأصحاب العزب، والظروف يمكن تخليك تقابلها كتير بعد كده. أما إذا كان سؤالك لدوافع عاطفية، فالمسألة أبسط مما تتصور، في المقابلة اللي بعد كدة، تقول لها ببساطة: أنا باحبك، وتأكد إنها حتقولك متشكرة، وإذا كانت مش بتحب حد تاني، يمكن تناقشك في عواطفك ناحيتها، لحد ما توصلوا سوا لحل، أما إذا كانت بتحب حد تاني، فبرضه حتقولك ببساطة: متأسفة، ويمكن نكون أصدقاء، أهو ما فيش غير كدة.»٥
أما سوسن حمَّاد، فلم تكن قد درست في الجامعة، لكنها اعتبرت نفسها متخرجة في مدرسة الصحفي والمفكر التقدمي عدلي كريم، وقد واجهت أحمد شوكت — عند تلميحه لها بالزواج — بأنه ليس من طبقة العمال مثلها «كلانا يحارب عدوًّا واحدًا، ولكنك لم تَخبره كما خبرته، لقد ذقت الفقر طويلًا، ولمست آثاره الكريهة في أسرتي، وغالبته أخت لي حتى غلبها فماتت، أما أنت فلست … لست من طبقة العمال.»٦

وإذا كانت الخيانة قادت بكر وليلى إلى السجن، فإن اشتغالهما بالعمل السياسي كان تصرفًا إيجابيًّا، ومحركًا للعناصر المتحيرة التي كانت السبيل والمخرج، بل إنه وسط المظاهرة الصاخبة التي تنادي بسقوط «الحكومة الخائنة» يطالعنا الفنان بلمحة ذكاء واعية، حين تنفجر أم صفية — بعد أن كانت قد انتهت لتوِّها من زيارة ابنها بكر — لتردد ما تسمعه: تسقط الحكومة الخائنة!

وتمنع عزيزة ضحكاتها: أنتِ بتقولي إيه يا امَّه؟

– باقول إيه؟

– اللي أنت بتقوليه ده؟

– بأقول زيهم.

– طب وأنتِ مالك؟

– وأنا مالي؟ مش الحكومة هي اللي ساحبة أخوكِ؟!٧

من المؤكد أن «تمصير» الحياة السياسية والاجتماعية، كان نتيجة مباشرة لنضال المشتغلين بالحياة السياسية من قوى الشعب المختلفة، وقد غادر بنا الفنان نهاية «الحديقة» بخبرٍ تبادله السجناء.

– سمعتم الخبر بتاع النهاردة؟

– حيكون إيه يعني … الإنجليز طلعوا من البلد؟

– حاجة قريبة من كدة.

– اتفقوا على الجلاء؟

– لا … المحاكم المختلطة اتلغت.

– هايل، ده خطوة ما تقلش أبدًا عن المطالب المهمة زي الاستقلال، يعني خسارة كبيرة للأجانب، ومكسب كبير للشعب.٨

في المقابل من هاتين الشخصيتين اللتين كانتا — في تقديري — تعبِّران عن موقف الفنان، نجد شخصيات أخرى، مثل مدام جورجيادس التي كانت تهرِّب أموال حمدي بك عارف إلى الخارج، لقاء معاشرتها جنسيًّا، فضلًا عن عمولات مالية. كان نشدان الثراء هو كل ارتباطهما بالإسكندرية، وبالناس من حولهما، ويشحب — لذلك — دور الشخصيات التي تحيط بهما — عدا سكان كوخ الحديقة بالطبع — إن هي إلا مناقشات سياسية عابرة بين حمدي عارف وبعض أصدقائه في نادي محمد علي، وملامح لزوجة عارف تخفيها الظلال. أعلن الاثنان فزعهما من تفشي الوباء، وأعدت مدام جورجيادس حقائبها للسفر بعيدًا عن الخطر، وفرض حمدي عارف رقابة صارمة على الناس والأشياء من حوله، حتى لقد طرد «بكر» عندما تأخر في العودة إلى القصر ليلًا.

أما ليلى وبكر فقد تطوَّعا مدفوعَين بحب الملايين التي يتهدَّدها الخطر، للمشاركة في أعمال الوقاية والعلاج، وكان هذا العمل — في تقدير بكر — هو الحسنة الوحيدة التي قام بها من خلال اتصاله بالتنظيم السري، وكان دورًا ينأى عن السرية التي يفرضها التنظيم على أعضائه.

ولأن الفنان — كما قلت — يصافح اليسار الماركسي في صداقة، فإنه يعرض لنا التنظيمات الماركسية بصورة مغايرة تمامًا لما عرضه ثروت أباظة في روايته «قصر على النيل».

ثروت أباظة يتخذ موقف الرفض الحاد والعنيف، المستمد أصلًا من واقع طبقي ينتمي إليه، وأفكار محددة يؤمن بها. من هنا، فهو يتخلى — بصورة مؤكدة — عن حيادية الفن في عرضه للتنظيمات السياسية ذات الأيديولوجيات الاجتماعية المتطورة — وفي مقدمتها بالطبع التنظيمات الماركسية — ويقدم لنا تلك التنظيمات — أحيانًا — في مبالغات كاريكاتورية، اختلقها الخيال الرافض، ولم تلجأ إلى المعايشة الملاحظة والمتدبرة.

أما عبد الفتاح رزق فإنه يُقبِل على أحداث روايته بروحٍ متقبِّلة، وإن كان لها ملاحظات، فهو يؤمن بوجوب العدالة الاجتماعية، بل إنها — إلى حد ما — إحدى مقولات فنه بعامة، لكنه يرفض أن تكون العدالة الاجتماعية هدفًا ضبابيًّا، قد يتيح الفرصة لإعدائه، أو للمتاجرين به، في اغتياله، والقضاء عليه.

بكر لا يقبل على الجماعة معصوب العينين؛ إنه يناقش، ويستوضح، ويلقي عشرات الأسئلة، ويقبل بعض الجوانب، ويرفض بعضها الآخر، يستوقف نفسه — ورفاقه — في نهاية كل خطوة، ليتبيَّنوا الدرب الصحيح: هل هو الذي يقطعونه؟

وإذا كان شريف قد تكشَّف كخائن وعميل، فإنه يمثِّل الأصوات المقحَمة وسط آلاف الأصوات الصادقة، والمخلصة.

هوامش

(١) روز اليوسف، العدد ١٩٩٠ وما بعده.
(٢) المصدر السابق.
(٣) السابق.
(٤) السابق.
(٥) السابق.
(٦) السكرية، ٣١٢.
(٧) حديقة زهران.
(٨) المصدر السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥