«الحرام» ومأساة عمال التراحيل

إذا كانت «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي هي قضية صغار الملاك، فإن «الحرام» ليوسف إدريس هي مشكلة الأُجراء، أو المعدمين.

ولا شك أن نظرة الفلاح إلى الأرض التي يملكها، تختلف عن نظرته إلى الأرض التي يستأجرها، أو يعمل فيها أجيرًا، إنه ينظر إلى الأرض التي يمتلكها نظرة قداسة، ويلتصق بها، بينما لا يرتبط بالأرض التي لا يملكها، ويعتبرها وسيلة لكسب العيش.

يذهب عبد الله الطوخي إلى أن ليوسف إدريس فضل الريادة في أنه الفنان الوحيد الذي فتح في دنيا الفلاحين عالمًا لم يطرقه أحد من قبل، ولا حتى دق على بابه، ذلك هو عالم عمال التراحيل، الفلاحين الحقيقيين، هؤلاء الذين لا يملكون شيئًا سوى قوة سواعدهم، فتح يوسف إدريس باب هذا العالم — لأول مرة — بروايته «الحرام».١
هذا المعنى عبَّر عنه يوسف إدريس — فيما بعد — في قوله «إنه يعتبر «الحرام» الرواية الوحيدة في تاريخ الأدب العربي التي غيَّرت من أحكام المجتمع تجاه فئة بأسرها، وهي فئة عمال التراحيل.»٢

•••

كان الهرم الاجتماعي في الريف يتكوَّن من قاعدة قوامها مليونان من عمال الزراعة المأجورين (زادت الأعداد حتى بعد قيام ثورة ٢٣ يوليو كما سنطالع حالًا) ومليون عامل صغير، أقل من خمسة أفدنة، ثم اثنَي عشر ألف إقطاعي، هم القوة الحقيقية، والمسيطرة، على كل المستويات في الريف المصري.٣
ولعله يمكن تحديد نشأة طبقة العمال الزراعيين — الترحيلة — الذين تُعَد قوة الساعد رأس مالهم الوحيد، في عهد محمد علي، حين قام بتنظيم عمليات الري والصرف بإنشاء الترع والمصارف والقناطر خدمة لزراعة القطن الحديثة، بالإضافة إلى إنشاء الطرق الممهَّدة — لأول مرة — استفادة من وسائل النقل على العجلات التي غابت منذ عهود الفراعنة، نتيجة عدم وجود طرق ممهدة، عدا المدقات التي كان يصعب السير عليها إلا فوق الحمير. ولاحتياجات الصناعات الحديثة التي أنشأها الوالي إلى الأيدي العاملة، فقد عهد محمد علي إلى مشايخ البلاد بتزويج الشبان في القرى بما يلزمهم قراهم، فتزايدت الأيدي العاملة في الريف، بعد أن هدَّدتها الهجرة الداخلية إلى المدن، كما أصدر الوالي أمرًا آخر بتوجه المشايخ إلى القاهرة والإسكندرية — مرة كل عام — للبحث عن الهاربين من القرى. وفي الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، نُظمَت عمليات السخرة التي كانت سِمة للحياة في الريف منذ العهد المملوكي إلى عهد إسماعيل. وصار الترحيلة بعض مظاهر الحياة في الريف المصري، عملوا — ويعملون — لحساب السلطة، في إنشاء المصارف، وصد فيضان النيل، وحفر قناة السويس، والانخراط في الجهادية، ومهام أخرى كثيرة.٤

كان تنظيم العمليات — بداية — في حفر قناة السويس (٢٠ يوليو ١٨٥٦م) برغم أنه لم يكن بين طرفين متكافئين، بل إن عمال السخرة لم يكونوا طرفًا في لائحة تنظيم عملية تشغيل العمال التي أصدرها الوالي محمد سعيد كجزء من الامتيازات التي منحها لشركة قناة السويس، لكنها كانت البداية الفعلية لتنظيم عمليات العمل المأجور. وكان إلغاء السخرة رسميًّا في ١٨٨٩م تأكيدًا لظهور طبقة العمال الزراعيين. وكانوا ينقسمون إلى فئتين: عمال التفاتيش الزراعية الذين يرتبطون بالعمل داخلها، وعمال التراحيل الذين يتنقلون — بقوة سواعدهم — بين القرى والتفاتيش المختلفة.

ثم أسهمت عمليات تجريد صغار الفلاحين من ملكياتهم، وتحوَّل أعداد كبيرة من صغار الفلاحين إلى أجراء — إلى جانب عملهم في ملكيتهم المحدودة جدًّا، التي لا يفي ناتجها بمطالب حياتهم — يبيعون جزءًا من قوة عملهم للغير … أسهم ذلك في التوضيح الكمي لطبقة العمال الزراعيين، ممن ينطبق عليهم تعريف ماركس لطبقة البروليتاريا بأنها «طبقة لا تعيش إلا بقدر ما تجد عملًا، فأصحابها — نتيجة اضطرارهم إلى بيع قوة عملهم — يصبحون سلعة شبيهة بأية سلعة أخرى، تخضع لكل قوانين السوق من مزاحمة، وتقلُّبات، ومساومة، وعرض، وطلب.»

ولسنوات طويلة، كان قطاع عمَّال الزراعة مستثنين دومًا من أحكام قوانين العمل، نتيجة سيطرة الإقطاع على الحكم، وعلى أغلبية المقاعد في مجلس البرلمان.

ولعل الظاهرة الأولى التي تطالعنا في القوانين الخمسة عشر التي أصدرتها الحكومات المتعاقبة، منذ ١٩٣٥م إلى ١٩٥٢م، أنها قد استثنت في كل بنودها عمَّال الزراعة، حتى يظل أفراد تلك الفئة في منأى عن حماية القانون، وفي خدمة الإقطاع.

وكان من المشكلات الطارئة في حياة عبد الرحيم باشا (الينبوع) أن فلاحيه «بدءوا يفتحون عيونهم، ويرهفون أسماعهم، ويطالبون بتحسين أحوالهم.»٥
وحتى أواخر الثلاثينيات، كان عدد الفلاحين الأجراء حوالي أربعة ملايين مواطن مصري، يسافرون في قوافل الترحيلة إلى حيث يذهب بهم كبار المقاولين بأجرٍ شهري لا يزيد عن ثمانين قرشًا، وربما أمضوا الأشهر المتصلة بلا عملٍ ولا مأوًى.٦

•••

يصف الفنان (رأس الشيطان) عمال التراحيل — في كلمات تقطر بالمأساة — بأن ثيابهم مهلهلة، رثة، وأقدامهم حافية مشققة، وعلى وجوههم الشاحبة المغبَّرة، آلام الغربة التعسة وسِمات الذل والضياع، يُساقون كقطعان الأغنام إلى حظائر الماشية والخيول وأكواخ القش الهزيلة، وعلى ضفاف الترع الصغيرة، وبعض المساجد والزوايا، كأنهم مخلفات أو بقايا بشرية ليس لهم سوق أو كرامة، وكلٌّ منهم يحمل جوالًا به أرغفة جافة وقليل من الملح.٧

عامل الترحيلة — بأبسط عبارة — هو ذلك الذي لا يملك أي شيء — سوى قوة ساعده — على العمل في أرض الغير، والشخص الذي لا يملك شيئًا في القرية، لا يملك أي شيء آخر، حتى الشرف!

ظاهرة عمال التراحيل تأتي من ضيق الأرض الزراعية، وزيادة الأيدي العاملة، بحيث يتطلع «الفائض» — وهو في كل الأحوال لا يمتلك، أو يستأجر، أرضًا — إلى الهجرة الدائمة، أو المؤقتة، يحدث ذلك في مواسم بذاتها، قد يرحل بنفسه إلى أماكن العمل، أو يأتي إليه مقاولو الأنفار، يختارون، ويحملون الأنفار في السيارات إلى حيث مناطق العمل.

لم تكن الظاهرة مقصورة على أعدادٍ قليلة من العمال الزراعيين، لكنها شملت بضعة ملايين، وقد وصلت أعداد عمال التراحيل — كمهنة — قبل ١٩٥٢م إلى حد التشبُّع، وقدَّرت الإحصائيات متوسط أجر عامل الترحيلة في العام بما لا يزيد عن أربعة عشر جنيهًا. ويقول كليفلاند: «تحت ظل النظام الاقتصادي القائم، يمكن أن يتم العمل الزراعي في مصر بكفاية أفضل إذا أمكن سحب نصف عدد العمال الزراعيين من مهنة الزراعة، وأمكن تنظيم عمل النصف الباقي التنظيم الاقتصادي الواجب.»٨
لكن أعداد العمال الزراعيين ظلَّت على اطرادها بعد قيام الثورة، وكما ورد في إحصاء نُشِر عام ١٩٧٥م، فقد بلغ حجم عمَّال التراحيل أكثر من ثلاثة ونصف مليون عامل.٩
العمليات التي يتولَّاها عمَّال الترحيلة تتحدد في استصلاح الأراضي، واستزراعها، ومقاومة الآفات، ومشروعات الري والصرف، فضلًا عن شق الترع والمصارف، وتمهيد الطرق، وإقامة الجسور والكباري، ومد خطوط السكك الحديدية، وأعمال البناء، وغيرها من الأعمال التي تتسم بالطابع الموسمي.١٠ إنهم يذهبون إلى أماكن العمل وهم يحملون الفئوس والأكياس المملوءة بالخبز وأوعية الفخار التي يحفظون فيها بعض الجبن القديم (المش) وأباريق الشاي من الصاج الصدئ «هذا هو سائر متاعهم الذي تزوَّدوا به لرحلتهم، فإنه لا ثياب لهم إلا التي تستر أجسادهم.»١١ وبمجرد النداء على الأنفار، كي يستعدوا للعمل في الوسية أو العزبة أو التفتيش … إلخ، فإن الظروف المادية السيئة تشهد انفراجة واضحة؛ فبوسع الرجال طلب شاي وسكر وسجاير على الحساب من البقال، والدفع مضمون.١٢
مع ذلك، فإن ليلة الاستعداد للذهاب إلى الغيطان، تشبه ليالي الأعياد ورمضان وليالي اختناق القمر، فالحواري والأجران تمتلئ بالناس، وتنعقد حلقات الرجال، وتتعالى الأحاديث والضحكات والشتائم المداعبة.١٣
يصف لنا الفنان يوم العمل في حياة الترحيلة: «كنا نستيقظ في الساعة الخامسة، حتى في أشد أيام الشتاء برودة، وأقساها زمهريرًا، ونتخذ طريقنا إلى الحقل متثاقلين، كنا خمسة عشر رجلًا من قرى مختلفة، جمعنا عملٌ واحدٌ في قلب الصعيد، كنا من العمال الأجراء الذين يسعون في الأرض طلبًا للرزق، أينما وجدوا للعمل سبيلًا، وللرزق موطنًا. كنا من هذه المخلوقات البشرية التي كُتِب عليها الشقاء الأبدي في هذه الدنيا، والذين وُلدوا في ليالٍ لا يلوح فيها نجم، ولا تبدو بارقة من سعود. كانت الأيام تمضي بنا من سيئ إلى أسوأ. كان الواحد منا لا يحصل على أكثر من ثلاثة قروش يوميًّا نظير العمل اثنتي عشرة ساعة في الحقل، وكنا نعمل بين الشادوف وسقي الأرض وغرقها، من فجر اليوم إلى مغرب الشمس، وطعامنا لا يعدو الخبز الأسود والبصل، وما تنبت الأرض من بقل، ومع ذلك، فلم نكن نشكو نصبًا ولا مرضًا، وكنا نعمل تحت الشمس، ونصلى نارها طول النهار.»١٤
مشهد جمع القطن، يلخصه الفنان في الأصابع الملتفَّة حول اللوزات، والسيقان التي تتخطى فروع الشجيرات المحمولة، والرجال يلمُّون القطن من الأنفار الجامعين، والأكياس ترتفع وتربط، في طريقها إلى مخزن الوسية، وصوت الخولي يتنقل وراء الأنفار، هائجًا، يشتم، ويهدِّد بالضرب وقطع اليومية، ويقسم بالطلاق من ذراعه اليمنى بأنه لن يسمح للأنفار بالعودة إلى دورهم إلا بعد غطسة الشمس،١٥ «وينتهي جمع القطن، وقطع الحطب، وحرث الأرض، وبذر الحنطة، ويدخل على قريتنا فصل شتاء جديد.»١٦
أحيانًا، فإن إسطبل التفتيش هو المكان الذي ينام فيه الترحيلة،١٧ إنهم يحيَون بإحساس فلاحي بلزاك الذين حسموا القضية، بالإجابة بالنفي عن أسئلة مثل: ماذا يصبح الملاك لو أننا كنا أغنياء؟ هل يعملون في الحقول؟ هل يحصدون المحاصيل؟ هل من الضروري أن يكون لديهم عمال فقراء للقيام بهذه الأعمال؟

•••

كان تفتيش النوبارية الكبير يضم ثمانية آلاف فدان، بيوتها طينية منخفضة، مصفوفة في خط رمادي باهت طويل على شاطئ الترعة، تكوَّنت عليها أقراص الجلَّة وأعواد الذرة الصفراء والبرسيم الجاف، وبعض النسوة، بينما تتوارى أبوابها الخشبية وراء كومات السباخ العالية.١٨

الترحيلة هم أدنى طبقات مجتمع القرية، بل إنه من التجاوز وضعهم في إطار ذلك المجتمع على الإطلاق؛ فالقرية — أية قرية — أشبه بمزرعة هائلة، كل ما فيها من النبات والحيوان والبشر ملك سيد القرية، لكن البشر — في تلك المزرعة — ينظرون بتعالٍ وترفُّع وازدراء إلى أولئك الترحيلة، أو الغرابوة.

من هنا، كان موقف سكان التفتيش في «الحرام» من عمال الترحيلة في البداية، قوامه الاستعلاء والنفور والشعور بالفوقية.

في قصة «الرحيل» تتطلع القرية إلى أنفار الطابور بأعين يمتزج فيها الفضول والاحتقار، وتخاطبهم بأحاديث يختلط فيها التساؤل بالسخرية، ويصنع الأطفال والشباب في المساء دوائر عديدة ترقب — في صمتٍ مشوب بالدهشة — طريقة حياتهم، بعد أن اتخذوا أحد أجران القمح بيتًا، يأوي إليه الطابور في نهاية كل نهار، تصنع جدرانه زكائب الطعام، ويسهر على ضوء النجوم، فلما يأتي الصباح يختفي كأنه لم يكن.١٩
وعندما يظهر الخولي (الأوباش) فإن الترحيلة يهرشون — بعفوية — في أقفيتهم وظهورهم، ذلك لأنه يستحثهم على أداء العمل بضربات الخيرزانة.٢٠ صوت الخولي يتنقل وراء الأنفار، هائمًا، يشتم، يهدد بالضرب وقطع اليومية.٢١
وقد تعلم صالح (السراية) أن يتفادى المشكلات ما أمكنه، فلا يجد الخولي أو الخفير ما يعاقبه عليه، تعلَّم أن يعمل والخولي في طرف عينه، ينزل بالفأس إذا نظر إليه، وينحني إذا التفت، ويرتاح إذا ابتعد.٢٢

•••

ولكن: ما الفارق بين الغرابوة — الترحيلة — وقاطني التفتيش؟

أما قاطنو التفتيش، فكلهم «مزارعون محترمون، لكل منهم بيته وأولاده وبهائمه وجلبابه النظيف الجديد الذي يرتديه بعد انتهاء العمل، ليسهر به في القهوة، ويروح به المآتم والأفراح. وليس بين قاطني التفتيش عاطل، فالعزَب مبنية بحيث تستوعب المزارعين كلهم، كأنما هو مصنع كبير خُصِّص، جزء منه لسكن عماله، وعلى هذا فهم جميعًا معهم نقود.»٢٣
وأما الترحيلة، الغرابوة، فإن الفقر يدفعهم إلى هجر قراهم، والعمل في التفاتيش البعيدة لقاء يومية بضعة قروش؛ لذلك، فإن قاطني التفتيش ينظرون إليهم نظرتهم إلى «نفاية بشرية جائعة مضطرة إلى الهجرة كي تعمل، وتأكل، وتنال حظًّا من الحياة.»٢٤ إنهم معدومون من الشرف والضمير ومخافة الله، وعندما اكتُشفَت جثة المولود لم يضع الجميع وقتًا في البحث عن الجاني، اتجهت الأنظار إلى خيام الترحيلة، فلا شك أن واحدة من نسائهم هي التي لجأت إلى تلك الوسيلة الوحشية للتخلص من عارها.
إن القرية وحدة، أو كل، إزاء العالم الخارجي،٢٥ وكان هذا هو واقع الحال في موقف أهل التفتيش من عمال الترحيلة.

ولم يكن يعنى الترحيلة — في الحقيقة — إلا لقمة العيش وحدها، أيًّا تكن نظرة قاطني التفتيش إليهم، أو رفضهم حتى لمجرد وجود هؤلاء الغرابوة في أرض التفتيش.

•••

كان التفتيش في بدايته ملكًا لإحدى الأميرات، ثم باعته لخواجة هو زغيب الكبير، ثم آل إلى ابنه الأكبر الذي باعه للشركة البلجيكية للأراضي التي تفاوضت مع الأحمدي باشا مليونير المديرية لشرائه،٢٦ وإن ظل زغيب الابن يدير التفتيش لحساب الشركة البلجيكية. عمليات بيع وشراء، تتم جميعها بعيدًا عن التفتيش، وعن حياة أهله، فهم يعملون في كل الظروف، لا تعنيهم ملكية التفتيش لأن الشروط والفرص المتاحة لا تكاد تتغير، وكل المعاملات مع فكري أفندي المأمور ومسيحة أفندي الباشكاتب وأحمد أفندي سلطان كاتب الأنفار، إنهم يكتفون بترديد الشائعات، عن اليد التي انتقلت إليها ملكية التفتيش دون أن يعنيهم — حقيقة — طبيعة تلك اليد، ومصاريف المحاصيل الأخرى، وسلف التقاوي، وأجر الأنفار، ونادرًا ما يبقى للفلاح شيء، وحتى إذا بقي له، قُيِّد لحسابه في العام التالي.

•••

على الرغم من البداية البوليسية ﻟ «الحرام»: خفير نظامي بتفتيش أحد الإقطاعيين، يعثر على جثة مولود حديث الولادة، ويقوم التفتيش، ولا يقعد … على الرغم من تلك البداية البوليسية، فإن الرواية ترتكز إلى قضية اجتماعية خطيرة، تعكس الواقع المؤلم لحياة الملايين من عمال التراحيل كما تعبِّر عنه الفلاحة عزيزة.

الحكاية — كما أشرنا — تبدأ عندما فوجئ الخفير عبد المطلب على جانبٍ من الجسر، بجنينٍ حديث الولادة، ولأن الجنين كان مخنوقًا، فقد أسرع بإبلاغ فكري أفندي مأمور التفتيش، وتحدد السؤال من البداية: أي نساء القرية هي التي فعلت هذا؟ والمأمور يكاد يعرف نساء العزبة وبناتها جميعًا، فهي أكبر عزَب التفتيش بجوار سراي أصحاب الأرض والإدارة بما تشتمل عليه من إسطبلات وجرن ومخازن وجراجات ماكينات الحرث.

لكن الرجل — بعد أن أعياه التفكير — أشار إلى الفضاء الممتد خلف الإسطبلات، وقال: لازم واحدة من دول، وكان يعني الغرابوة، أو الترحيلة، الذين يلجئُون للعمل في التفتيش، وأصبح شك الرجل يقينًا، مع ذلك، فإنه لم يكن ليصدق «أن بين هذا القطيع البشري، الذي يصعب فيه التفريق بين الرجل والمرأة، امرأة جديرة بصفة الأنثى٢٧ تحمل وتلد، فضلًا عن أن تحمل وتلد في الحرام.»

ظنَّت النساء — عندما أمر المأمور بأن يخرج الجميع إلى خارج الغيط — أن اختيار المأمور سيقع على واحدة منهن للخدمة في بيته، ومنَّت كلُّ واحدة نفسها بدنيا جديدة، فيها ظل وارف، وطعام كثير، وتخلو من العِصي والخيزرانات والأوامر والشتائم التي لا تنتهي، وسارت النسوة في طابور طويل، والمأمور يلقي نظرة متفحصة إلى الوجوه والأجساد في محاولة لتبين السر.

وأبلغ الرجل البوليس، مضطرًّا، وأبلغ البوليس النيابة، ثم جاء مفتش الصحة، وجرت تحريات وتحقيقات لم تتوصل إلى نتيجة، وقُيِّدت الجريمة ضد مجهول، لكن الحادثة كانت قد شهدت نهايتها في دفاتر الحكومة.

أما في العزبة، وفي العزب المجاورة، فقد قامت الدنيا، ولم تقعد، وتواصلت الأحاديث والتكهنات والاستفسارات، وامتدت المجالس وانفضت.

وبالمصادفة، عثر فكري أفندي على أم الجنين، لفت نظره «ظليلة» مقامة بين أعواد التيل المزروعة حول تربيعة القطن، داخل أحد الغيطان، وتصور الرجل أن في الأمر إهمالًا، وأنه تحت تلك الظليلة أنفار يستريحون، أو يلعبون، وأطلَّ، فرأى عزيزة.

عاشت عزيزة حياتها — كعروس — يومًا واحدًا، ثم ذهبت إلى الغيط في صبيحة اليوم التالي، ولم يكن لزوجها أرض يزرعها، ولم يكن له أيضًا أرض يستأجرها. كان عامل ترحيلة، تحمله عربات النقل في المواسم إلى تفاتيش كثيرة في الوجه البحري والصعيد، ولم تعُد العربات تحمله وحده، أصبحت عزيزة ترافقه في كل رحلاته، واليومية الواحدة أصبحت يوميتين، ومضت الأعوام، وخلَّفا ولدًا وبنتين، وكانوا «يعيشون والسلام».٢٨ فعبد الله يتسلَّم «القبضية» من المقاول في موسم القطن، وتعيش الأسرة عليها بقية العام، بالكاد يعيشون، بالجبنة، بالعيش الحاف والملح. وكانت الحياة تسير، حتى مرض الزوج فجأة بداء «الميه»، ولم تفلح كل محاولات علاجه، وطرده المقاول — ذات يوم — من عربة النقل، وأصرت عزيزة أن تظل بجواره، تخبز للجيران، وتلم روث البهائم وتبيعه، وتسرح بالحطب إلى المركز.
ظل عبد الله ساخطًا على الظروف التي جعلت عزيزة وحدها — تتكفل بإعاشتهم، وظلت عزيزة ناقمة على الظروف التي أقعدت زوجها بلا صحة، ولا عمل، ثم اعتاد الزوجان حياتهما الجديدة: عزيزة تعمل، والزوج في رقدته يحرس الدار، وينتظر، ثم قال لها عبد الله ذات يوم: نفسي في البطاطا يا عزيزة،٢٩ وقالت له: يا حبيبي من عيني دي ومن عيني دي، ذلك لأن طلبات المريض — في المعتقد الشعبي — مُجابة ومُقدسة، ففيها الشفاء، أو — لا قدر الله — وداع الدنيا، وفي الحالين يجب أن تُلبَّى.

خرجت تبحث له عن البطاطا في غير أوانها … فقد جُمع محصولها من زمن، وتم بيعه، وهُيِّئت الأرض لزراعة الذرة، لكن عزيزة أملت أن تجد في الفدان الذي يملكه قمرين ما تستطيع أن تعود به لمريضها، ولو عقلة إصبع، وحملت فأسًا إلى زراعة قمرين، وأعملته في الأرض مرات عديدة، فلم تعثر على شيء، حتى جاءها صوت محمد بن قمرين: بتعملي إيه يا بت؟

وروت له، فتصعب وتأثَّر، وقال لها: طب عنك أنتِ.

انتزع لها من باطن الأرض جذر بطاطا صغير، ثم حبة بأكملها، واستدارت لتعود، لكنها في لهفتها وفرحتها لم تفطن إلى الحفرة التي كانت وراءها، وعلى هذا، فقد فوجئت بنفسها تسقط مرة واحدة نصفها في الحفرة، ونصفها على الأرض.

والواقع أنها لم تتبيَّن تمامًا ما حدث بعد هذا، «الأمور حدثت بطريقة أسرع من أن تدركها أو تتلافاها، ما كادت تحاول أن تقوم حتى كان محمد إلى جوارها في الحفرة يساعدها، مرة واحدة وجدت نفسها في حضنه وقد أطبق عليها بذراعيه ليرفعها، وهي — وإن كانت قد ارتعشت حين أحسَّت بنفسها في حضن رجل غريب — إلا أن الرجل الغريب لم يكن سوى محمد الكشر الذي لا يتسرب إليه الشك، لكن الشك بدأ يتسرب فعلًا إليها حين لم يرفعها محمد، ولم يدعها ترفع نفسها، وما كاد الشك يتسرب إليها حتى كان قد أصبح حقيقة، روعت أولًا، لكنها استجمعت نفسها، ودفعته، وناضلت، لكنها كانت ترى أن نضالها لا فائدة منه، بل ليست تدري على وجه الدقة سر هذا الانهيار الذي أصابها حين أصبحت في حضنه، تريد أن تقاوم ولا تستطيع، تستميت لكنها يائسة، تصرخ فيتجمَّع الناس، وتصبح فضيحة ومضغة في الأفواه؟ تسكت؟ تعضه؟ حتى ملابسها التي لا تحتكم على غيرها مزَّقها.

كل ما حدث أنها ظلَّت تئن مهولة مرعوبة حتى قام، وشتمته، ولكن ماذا تفيد الشتائم؟ لم يقُل هو حرفًا، فقط ظل ينظر هنا وهناك، الغيط خالٍ تمامًا، والبهائم، والناس تروح من بعيد، وعاد إليها، وهذه المرة كان يمكن أن تقوم وتجري وتضربه بالفأس إن اضطرت، لكنها لم تفعل، سكتت، وظلَّت تئن أنينَ المظلوم الذي لا يخلي نفسه من مسئولية ظلمه.»٣٠
الموقف يناقض قول غالي شكري إن عزيزة عادت إلى الحقل مرة ثانية لتأخذ جذر البطاطا، «وتعطي ذلك الشيء الذي اعتزت به طويلًا.»٣١

كانت تلك قصة خطيئة عزيزة، أحسَّت بعدها بندمٍ حقيقي، وكانت تلعن نفسها وابن قمرين وجذر البطاطا، وعبد الله أيضًا، لكنها نسيت — بالسعي وراء لقمة العيش — كل شيء، والذين لا ينسون هم الذين لديهم الوقت لكي يتذكروا ويسرحوا مع الذكرى، وعزيزة تبدأ اليوم مسعورة، تجري هنا وهناك لتحصل على خبز ذلك اليوم، وتعود منهوكة مهدودة.

ثم سافرت عزيزة مع أبناء بلدتها من الترحيلة إلى التفتيش الكبير لتعمل في غيطانه، وما زالت لقمة العيش هي القضية التي نسيت من أجلها كل شيء، حتى اضطرت — ذات يوم — إلى تذكُّر «الحرام» الذي ارتكبته مع محمد بن قمرين، عندما أحسَّت بشيء يتحرك في بطنها. وقررت — حالًا — أن تتخلص من الجنين، ذلك لأن زوجها يعلم، والناس كلها تعلم، أن عبد الله لم يضاجعها منذ سنوات، والقتل عندها أهون من الفضيحة.

فعلت كل شيء لتكتم صوت فضيحتها دون جدوى، ثم اضطرت — بتأثير الظروف القاهرة، كأنها الموت — أن تسعى مع الترحيلة، وتترك عبد الله مع الأبناء. ونسيت — في العمل — حكايتها، حتى تجسَّد لها كل شيء في قسوة وبشاعة، لما أحسَّت ببوادر الطلق تنقر في سلسلة ظهرها، ثم تزايدت الآلام «آلام لا يحتملها أنس ولا حجر ولا جان، هي نفسها لم تكن تعرف بأي جبروت غير بشري تحتمل، دون أن يبدو عليها أقل لمحة أو بادرة، وكل هذا من أجل جذر بطاطا، لا، كل هذا لأنها لم تقاوم لحظة، تلك اللحظة التي صاحبتها سبعة شهور تطاردها كاللعنة المقيمة، لماذا تركته يفعل بها ما فعل.»٣٢

اختارت مكانًا قصيًّا، وفي يدها بيضة، وقطعة صفصاف جافة، ووضعت قطعة الصفصاف بين أسنانها، تحاول أن تذيب فيها الألم، وكسرت البيضة لما أطل الجنين برأسه، ثم فقدت الوعي بعد أن انتهت الولادة، «وأفاقت بعد قليل على صراخ الرضيع، وبتأثير الخوف من الفضيحة، مدَّت يدها إلى فمها تغلقه، وماتت يدها — دون أن تدري — على فم الطفل الذي مات.»

•••

في البداية، لم يخفِ سكان التفتيش فرحتهم لحكاية عزيزة، فهي الحل لما أرادوه تمامًا، وخافوا ألَّا يكون، واستعادوا به ثقتهم بأنفسهم وأخلاقهم ونسائهم وقِيَمهم، ثم تحوَّلوا إلى الغرابوة يرمونهم باللعنات، واطمأن مسيحة أفندي الباشكاتب إلى زوال وساوسه من أن تكون المصيبة في بيته، وفي ابنته «لندة» بالذات، حتى جنيدي صاحب الدكان الذي كان يفيد من وجودهم في التفتيش، راح يلعنهم في وجوههم، ويبدي اشمئزازه من مجرد لمس نقودهم، وزفَّ الأولاد نساء الترحيلة — كلما رأوا واحدة بمفردها — بالتطبيل على صفيحة قديمة … لكن الأولاد كانوا هم أول من حاول إزالة الحائط الأصم الذي بناه قاطنو التفتيش بينهم وبين الترحيلة، فقد اقترح أحدهم — ليلة — أن يذهبوا إلى حيث الترحيلة، ويتفرجوا على أولادها وهم يلعبون، ولقي الاقتراح مفاجأة فورية، برغم الأوامر المتشددة التي كان الآباء يوجهونها بألَّا يلعبوا مع أولاد الترحيلة، أو يقتربوا منهم. وكان أولاد الترحيلة يلعبون في وسعاية الجرن، وأعجبت الألعاب أولاد العزبة إلى حد أنهم طالبوهم بأن يشاركوهم اللعب «وفي اللعب، اختلط الأولاد بالأولاد، واكتشف أولاد العزبة أن الأولاد الآخرين ملامحهم مختلفة عن بعضهم البعض، وليس لهم شبه واحد كما كانوا يعتقدون قبلًا، وملامحهم سمحة وطيبة، بل ويضحكون أيضًا، ولكل منهم اسم، بل سرعان ما حفظوا بعض أسمائهم.»٣٣
بعد أن اطمأن سكان التفتيش إلى أن شرفهم في صون، وبعد أن وجَّهوا إلى الترحيلة أقسى اللعنات، بدأ حب الاستطلاع يتحرك في داخلهم: من الفاعلة؟ وما قصتها؟ وكيف تكون؟ وماذا تشبه؟ وبدءوا يفِدون فرادى، وفي مجموعات، ينتحلون أية حجة ليلقوا نظرة على عزيزة الراقدة في الظليلة، ثم لم يعودوا في حاجة لانتحال ادعاءات، ثم أصبحوا — بزيادة حدة المرض على عزيزة — يشاركون بكلمة عطف، أو عبارة إشفاق، ثم «حين ازدادت شدة المرض، تكاتفت الجهود تبحث لها عن البرشام الأصفر في كل بيت وعزبة، وأعطاها جنيدي قنينة خل بنصف الثمن، وذبحت لها نبوية، عن نفسها وعيالها كما قالت، أرنبة صغيرة وطبختها وحملتها في حلتها إلى أم الترحيلة كي تُطعِمها إياها.»٣٤
فيما بعد، تساوت النظرات، نظرات الترحيلة وأهل التفتيش «ليست نظرة حب استطلاع أو تشفٍّ، ولكن نظرة عطف ومشاركة، نظرة من يود لو كان باستطاعته أن يفعل شيئًا ليخفِّف عن تلك المسكينة المحمومة المعذبة.»٣٥ حتى مسيحة أفندي الذي لم يكن يكف عن كتابة العرائض ضد فكري أفندي المأمور، تردد كثيرًا قبل أن يبعث بالعريضة التي اتهم فيها المأمور بأنه يحتسب يومية عزيزة وجارتها التي ترعاها؛ أحس بخجلٍ لصورة عزيزة الراقدة تحت الظليلة، وصراخها وتخريفاتها، ثم قضى على تردُّده، ولم يبعث الرسالة.
ثم أذابت وفاة عزيزة تلك الحواجز المصطنعة تمامًا، جاء الفلاحون من كل العزَب يعزُّون ويواسون، وبكت النساء، وعدَّدن على المرأة التي ماتت في الغربة، واختلط الرجال بالرجال، فلم يعُد ثمة ما يميز بين الفلاح والترحيلة، تغيَّرت مشاعر أهل القرية تجاه عمال الترحيلة حين أدركوا — كما تقول زينب العسال — أن المصاب ليس مصاب عزيزة وحدها، وإنما هو مصابهم جميعًا.٣٦
وتم ترحيل جثمان عزيزة إلى قريتها لتُدفَن هناك، ولما جاء العام التالي، كان الحاجز الذي كان قائمًا بين الفلاحين والترحيلة قد زال نهائيًّا، وإلى الأبد «وأصبح من المعتاد أن يسهر رجال الترحيلة مع أهل القرية في بيوتهم، وأن تختلط النساء بالنساء، بل حدث ما هو أكثر من هذا؛ إذ تزوج سالم أبو زيد أحد كلَّافة التفتيش ببنت غرباوية راقت في عينيه، فخطبها، ثم ذهب إلى بلدها حين عادت في جمع من فلاحي التفتيش ليخطبها من أهلها، ويُحضِرها عروسة.»٣٧

•••

كانت القيمة الإيجابية الأولى التي غادر بها التفتيش تلك الأيام الحبلى بالمأساة، أن الترحيلة بشر لهم — مثل بقية البشر — عيون وآذان وآمال وتطلعات، وكان فكري أفندي — المأمور — أول من «تنبَّه» إلى ذلك الجانب الإنساني في حياة الترحيلة، والذي كان غائبًا حتى عن الصغار من أبناء التفتيش، فبعد أن كانت نظرات الرجل إلى نساء الترحيلة تنشد العثور على «الخاطئة»، وجد نفسه — ذات مرة — يمزح مع واحدة منهن، ثم زغد بنتًا في صدرها، في ثديها البكر المكتنز الجامد كالكرة المطاط المنفوخة. ولم يخفِ دهشته أن البنت سرت في وجهها حمرة الخجل، أو الغضب «يا ألطاف الله، أممكن أن الترحيلة تخجل وتغضب هي الأخرى كبقية الآدميين ؟»٣٨
اكتشف الجميع — على حد تعبير رد فيلد Red Field أنه ثمة وحدة مشتركة في حياتهم؛ فالجميع يعملون بالزراعة، وهي — في الوقت نفسه — طريقتهم في الحياة.٣٩ بل إن يوري ناجيبين يرى أن الأساس الفكري ﻟ «الحرام» هو ضرورة اتحاد الجماهير الكادحة كشريكٍ حتمي لانتصار الكفاح الشعبي،٤٠ بل إنه عندما يتفق الجميع على عدم الإبلاغ عن عزيزة «الحاضر يبلغ الغائب، لم يُعثَر على الجاني» يصف ناجيبين ما حدث بقوله «هكذا تشترك القرية كلها في مؤامرة نبيلة.»
وفي اتساق مع الموروث الشعبي، فإن العود الذي استخلصه الناس من بين أنياب عزيزة بعد موتها قد نبت في الطين، وأصبح شجرة صفصاف مبروكة، أوراقها مشهورة بين النساء، كدواء لعلاج العقم.٤١

لكن «خطيئة» عزيزة — هل هي خطيئة فعلًا؟! — أحدثت تغيُّرًا مؤكدًا في حياة الترحيلة، وفي حياة أهل التفتيش. «الحرام» هنا ليس مبعثه تردي عزيزة في الخطيئة، واستسلامها لها، لكنه الفقر، أو ما يترتب على الفقر، الذي يلف حياة فئة بأكملها، تحيا في القاع الأسفل من المجتمع، هي عمال التراحيل. لقد اشتهى الزوج المريض البطاطا، ولم يكن ذلك — بطبيعة الحال — في لحظة دلال، كما يقول غالي شكري، لأن عبد الله كان مريضًا بداء «الميه» الذي يحتم عليه البقاء في فراشه لا يتركه، وخرجت عزيزة إلى الحقل الوحيد في القرية الذي كان مزروعًا بالبطاطا، ثم جُمِع محصوله، وبيع، ربما تجد في باطن الأرض بعض جذور البطاطا لتعود بها إلى زوجها المريض.

•••

الفنان يهبنا تلك اللحظات التي يصل فيها فكري أفندي المأمور — أو أي مأمور من أي تفتيش — إلى قرى الترحيلة، أو «عش النمل» كما كان يحلو لفكري أفندي أن يسميها، والمئات الذين ينتشر الخبر بينهم في سرعة مذهلة، فيصحبون موكبه في رجاء وأمل، حتى يصل إلى بيت المقاول «والنمل الكثير يخرج من جحوره، وقد جاء الأمل في العمل، يخرجون من جحورهم، ويتعانقون أمام البيت، ويتصايحون: جاء الفرج يا أولاد والأشيا ح تبقى معدن.»٤٢

فكري أفندي المأمور هو سيد التفتيش بكل ما يضم من ناسٍ وبهائم وماكينات، وهو لا يتنازل عن هذه السيادة إلا لاثنين: المفتش الذي يأتي كل شهر مرة، وصاحب التفتيش الذي يأتي — ربما — كل شهرين مرة، عدا ذلك فكل من في التفتيش يخضع لإرادته، يمنح، ويمنع، ويُرضي، ويعاقب، ويتساهل، ويحاسب، حتى حادثة عزيزة كان من المفروض أن تنتهي بخراب بيوت الترحيلة جميعًا، لولا قلب الرجل الطيب الذي لم يكتفِ بأن يستر على الولية، لكنه أمر بأن تُحتسَب لها يومية مثل باقي الأنفار، لكن الرجل — بكل ذلك الهيلمان اللامحدود — كان يقف على أرضية هشَّة؛ فالفصل يتهدَّده في كل لحظة، والبحث عن وظيفة أخرى، مأمور في تفتيش آخر، ليس أمرًا سهلًا. إنه — إذا فُصِل لسببٍ ما — لا يستطيع أن يغادر بيته في التفتيش قبل أن يجد عملًا في تفتيش آخر، ويرجو صاحب التفتيش أن يأذن لأسرته بأن تظل في البيت ليطوف هو في التفاتيش المختلفة، باحثًا عن عمل، أي عمل، ولو لمجرد أن تجد أسرته بيتًا، هوان!

الرجل إذن يعتبر التفتيش مملكته التي تعطيه السيادة، ويعتبره — في الوقت ذاته — مأزقه الذي يعطيه القلق والخوف، وهو في الحالين نشط، مهتم، يعنى بكل كبيرة وصغيرة، ولا يسمح بالتساهل أيًّا تكن الأسباب، وموسم القطن هو الامتحان الذي يدخله فكري أفندي كل عام، نجاحه في نقاوة الدودة، وضمان سلامة المحصول، يعني استمراره في عمله عامًا آخر في الأقل.

وثمة مسيحة أفندي الباشكاتب الذي تدرَّج من نفرٍ بالأجرة، تعلَّم مبادئ القراءة والكتابة والحساب على يدَي المعلم قيصر الباشكاتب القديم، ثم مات المعلم قيصر فحلَّ محله، وظل في التفتيش أربعين عامًا كاملة، يقبل عليه مآمير ومفتشون، ويذهبون، ويبيع المالك أرضه لمالك آخر، وهو في مكتبه، لا شأن له بكل تلك التغيرات الطارئة، يسجل الشارد والوارد من أحوال التفتيش وتاريخه، ويعرف اسم كل فلاح، واسم أمه وأبيه، ويتذكر السُّلَف وتواريخها ومواعيد السداد.

أما محجوب بوسطجي التفتيش، فقد كان عمله يتحدد في الذهاب إلى محطة قطار الدلتا، ما إن يصل القطار حتى يقفز في النافذة المخصصة للبريد، فيسلِّم الصادر، ويتسلَّم الوارد، ومع أنه لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، فإنه لم يخطئ إطلاقًا في تسليم أي خِطاب لصاحبه، فقد تعلَّم — بالممارسة والمران — أشكال الخطوط، والقِلة التي تصل إليها الرسائل من سكان التفتيش.

وأما أحمد سلطان كاتب الأنفار، فقد دفعه سعيه الدائب وراء المغامرات الجنسية إلى كسر قانون عدم اختلاط الموظفين بالفلاحين، فنساء التفتيش كن محور مغامراته.

وكان الشيخ عبد الوارث أكثر أهل التفتيش حذقًا للفلاحة، والمستشار الدائم للفلاحين في مشكلاتهم اليومية، بل لقد كان فكري أفندي المأمور يرفض أن يبدأ عملًا ما إلا إذا أخذ مشورة الشيخ عبد الوارث.

وثمة العديد من الشخصيات مثل الشيخ علي أبو إبراهيم فقي التفتيش، ودميان الذي كان يحيا بعقلية طفل، حتى لقد كان فكري أفندي يأذن له بأن يجلس مع زوجته — بمفردهما — في غرفة النوم، تحادثه ويقرأ لها الفنجان، ويشكو لها زوجة أخيه — مسيحة أفندي الباشكاتب — وربما بكى أمامها، فتشاركه البكاء، والأوسطى زكي الحلاق الذي كان حلاقًا للصحة، ويمارس عمليات الختان، ويصف الأدوية لتقوية «الباه» وإعادة الشباب وعلاج الحمى.

نحن نلحظ أن الفنان لا يسلط الضوء — بدرجة كافية — على مقاول الأنفار، الدور الخطير الذي يقوم به في استغلال واستنزاف عمال التراحيل، فهم يعملون — في أماكن بعيدة عن قُراهم — حتى آخر نفس، ويتقاضون أجورًا، تفي بالكاد احتياجاتهم الأساسية، وثمة «السائقون» الذين يمرُّون على بيوت الأنفار، للتبييت عليهم، وإعطائهم العربون.٤٣

في المقابل من حياة قاطني التفتيش والترحيلة والمأمور والخفراء، ذلك العالم الذي يموج في أعماقه، وعلى سطحه، الرضا والسخط والهدوء والتمرد والغضب والمداهنة والتملق والثورة، فإن النظرة إلى أحد نمطيات التفتيش، تدفعنا بالضرورة إلى التفكير في الشخص الواحد الذي يملك التفتيش بأكمله، ناسه وبهائمه وموظفيه وقُراه وعزَبه وآلاته ومحاصيله.

من هنا، لم يكن المحصول يهم الفلاحين في قليلٍ ولا كثير، إنما هو عمل يؤدونه برتابة وآلية، إنهم يزرعون القطن — مثلًا — ويرعونه، وتحتسب عليهم مصاريف جمعه ونقاوته، إلا أنه يظل محصول صاحب الأرض، فالفلاح يأخذ الثلث من محصول الأرض، لكن هذا الثلث يذهب في تسديد مصاريف القطن.

•••

ثمة رأي أن الحرام في الرواية هو استغلال عمال التراحيل بصورة قاسية، وليس المعاشرة الجنسية.٤٤
والحق أن المرض الذي أصاب عبد الله كان نتيجة طبيعية للظروف الصحية القاسية التي يحياها عمال التراحيل، فهم يقيمون إما في خيام، أو في حظائر حيوانات، والخدمات الصحية غائبة تمامًا، كما أنهم يستخدمون الترع كمصدرٍ للمياه، أثبتت الإحصائيات أن المرض كان يمثِّل أكثر من ٤٤٪ من أسباب الخصومات التي كانت تُوقَع على العمال في مناطق التشغيل.٤٥

يرقد عبد الله في صحن الدار الواطئة، بطنه عالٍ، وصوته واهن، ويده المعروقة الصفراء تربِّت يد عبد الله الصغير من ناحية، و«ناهية» وأختها في الناحية الأخرى، ويحس أنه مريض بالفعل، وأنه عاجز، ولولا عزيزة لماتوا جوعًا.

منصور (الرحيل) هو عبد الله، خذلته عافيته، فاستغنى عنه أصحاب الأرض، لم يعُد منصور القديم الذي يتقاضى جنيهين في الشهر، بينما يتقاضى بقية الأنفار جنيهًا ونصف الجنيه، ولا هو صاحب «القدم» الأخضر على الأرض التي ينزل فيها، ولا أبرع مربٍّ للعجول، إنما هو — فجأة — رجل مريض، لا يقوى على العمل، والأصوب أن يلجأ أصحاب الأراضي إلى مَن هم أكثر فتوة وقوة.٤٦
عكس ما فعله عبد الله، فقد قاوم الأب في قصة «كل شيء على ما يرام» آلام الروماتيزم المسيطرة على ظهره، وحاول السطو على حقل ذرة، لكن الروماتيزم أقعده عن حمل الغرارة، والسير بها مسافة طويلة، وضُبِط متلبسًا بالسرقة.٤٧

وكان منصور أجيرًا، وليس ترحيلة، مرَّ عليه عشرون عامًا وهو يشتغل عند عمدة القرية محمود أبو المكارم، حال فقر أسرته دون إتمام تعليمه في كُتاب الشيخ راضي، جنَّدوه في جمع دودة القطن لقاء ثلاثة قروش يوميًّا، اختطف الموت إخوته الثلاثة دون علاج، حتى الفتاة التي أحبها، نجحوا في انتزاعها منه لتعمل خادمة عند ابن العمدة.

وإذا كان ترحيلة «الحرام» قد واجهوا المأساة بالاستسلام، فإن منصور الذي تجسَّد حرمانه من الكرامة، بإجباره على المشي خمسة كيلومترات حتى يصل إلى التفتيش — بينما يكفيه عبور القنطرة الخشبية ليجد نفسه في أرض التفتيش — وحرمانه من الإحساس بالرجولة، بوضع قدميه في حبلٍ لينهال عليهما كرباج التيل حتى تتورمان، وحرمانه من الطعام الذي نثره كلب العمدة على الأرض … منصور يودع حقده في أصابعه، وينقض على الكلب يخنقه، ويصارعه الكلب حتى يكاد يتغلب عليه، لكن منصور يقاوم، ويقاوم، وينتصر «إن كل شر يحدث له، لن يزيد أبدًا عما هو فيه من مهانة وذل، وإن أكبر مصيبة تقع على رأسه التي حطمتها الذلة لن تؤلمه، أو تعذبه، وإنما ستريحه من الحياة.»

الفنان لا يهب منصور انتصاره «الرمزي» طويلًا، فهو يعود إلى قريته من فوق القنطرة الخشبية، ليس تحديًا، وإنما فرار من المصير الذي كان ينتظره لو عرف العمدة ما حدث، وفي نهاية القنطرة يسقط مغشيًّا عليه!٤٨
حقق الفائض من العمال الزراعيين في ١٩٤٧م نسبة ٤٧٪ في حين كان الذين يُتاح لهم العمل يتحقق لهم ذلك ١٥٠ يومًا فقط كل عام، ويتقاضى الواحد منهم أجرًا متوسطه خمسة قروش في اليوم.٤٩
ومع أن الأنفار كانوا يقسِمون — بينهم وبين أنفسهم — أنهم لن يعملوا في حقل الوسية بعد اليوم، فإن كلًّا منهم يعلم — يقينًا — أنه لن يوفِّي بقسمه.٥٠

•••

تقول عائشة خليل (الترحيلة) إن «عدد الفتيات في التراحيل يزيد على عدد الفتيان، لأنهن أكثر جلدًا على تحمُّل المتاعب.»٥١

وعادة، فإن الذي يقدِم على الاعتداء لا يكون من أفراد الترحيلة، بل ولا من مزارعي التفاتيش التي يعملون فيها، لكنه واحد من هؤلاء الذين يملكون الأرض، ويتصورون أن تلك الملكية تعطيهم الحق في مَن عليها من بشر وخيام.

كانت مشكلة أبو الغيط أنه رفض القيام من على الطعام لعبد الوهاب أفندي الكاتب «ليه يعني؟ إحنا مش بنشتغل عشان اللقما دي، وكمان ما نتهنَّاش بيها؟»

ورفض عبد الوهاب أفندي — بالطبع — أن يكتب اسم أبو الغيط في كشوف الأنفار،٥٢ الحكاية مقابلة لما أقدَم عليه مملوك مرَّ على فلاح يأكل طعامه، نهض الفلاح وهو يلقي السلام، فقتله المملوك لأنه لم يحترم الطعام!

الظلم واحد، وإن تضادت البواعث!

ظلت قوانين العمل بالزراعة خالية من أية حماية، أو رعاية، خاصة للمرأة العاملة بالزراعة، حتى صدر قانون الإصلاح الزراعي في سبتمبر ١٩٥٢م، وحدَّد القانون أجر العاملة بعشرة قروش يوميًّا، وإن ظل الأجر يحكمه قانون العرض والطلب، وقدرة صاحب الأرض على الدفع.

من هنا، كانت النساء في «الحرام»، وفي «الترحيلة»، يتمنَّين أن يهجرن الحقول، ويعملن بالخدمة في البيوت،٥٣ وهو ما تمنَّته عزيزة ووردة.

ولست أدري أي المأساتين أسبق من حيث زمن الحدث، ومن حيث رواية الفنان لما حدث، عزيزة في «الحرام»، ووردة في «الترحيلة»، لكنَّ المأساتين تتشابهان في البواعث، ومعظم النتائج والنهاية القاسية، فقد أسلمت وردة نفسها إلى عبيد أفندي الذي اختارها من بين فتيات الترحيلة لتعمل في بيته، وأعادها إلى طابور العمل بعد أن حملت منه، وحاولت الفتاة أن تجهض نفسها بعود ملوخية، لكنها وقعت فريسة حمى قاسية أسلمتها إلى الموت.

الفقر هو الباعث لأن تواجه المرأة الرجل — منفردة — في مجتمع يؤمن بأن تحقيق اللذة الحسية وظيفة المرأة. وكانت كلتا المرأتين — عزيزة ووردة — ضحية اعتداء غادر من رجل مقتدر، تتحدد نظرته إلى نساء الترحيلة في أنهن ميسورات الحال، شريطة أن يجد بينهن من تستحق عناقه وفحولته!

وبعد أن تتجسد المأساة، فإن «الفاعل» لا يشغله حتى الحديث عن نتيجة فعلته، لكنه يتجه — في الأغلب — نحو ضحية أخرى، بينما تواصل الضحية الأولى سيرها في الدرب إلى غايته، تحاول إخفاء الفضيحة بوسائل بدائية عاجزة، فيفترسها المرض، فالموت.

إن المجتمع يقتص من المجني عليه، ولا يقتص من الجاني، أو حتى يسائله، قد يمثِّل الأب ذلك المجتمع، أو يمثِّله الابن، أو تمثِّله الجماعة في مداراة مرض المجني عليها، حتى يختطفها الموت!

ولعل مأساة عزيزة تذكِّرنا بما واجهته الفلاحة جميلة (الأعمى) من قبل — في الثلاثينيات على وجه التحديد — عندما قادها الأعمى إلى الغيط، لم تشعر بلذة ولا متعة، لكنها استسلمت ورضيت «لأنه حكم عليها بأن تستسلم وترضى.»٥٤
ما أعجز عزيزة عن مقاومة ابن قمرين، وما أعجز فتحية (النداهة) عن مقاومة المهندس الشاب، هو ما أعجز جميلة عن مقاومة سعيد الأعمى، وإن ميَّز الفنان ظروف المأساة التي عانتها جميلة، بأنها قوة خفية ساقتها بمحض إرادتها، قوة أعلى منها لا تستطيع فهمها، ولا تحاول فهمها ولا تعليلها «هذه القوة الخفية الأزلية تعمل دائمًا من وراء الحُجُب، تعمل دائمًا من وراء الغيب، وتسوقنا إلى المصير المحتوم، قوة خفية، لا لذة، ولا متعة، ولا إحساس بشيء من هذا كله، ولكنها استسلمت، ورضيت، لأنه حكم عليها بأن تستسلم، وترضى.»٥٥
ربما عانت زهية (١٩٥٢) الظروف نفسها تقريبًا التي عانتها عزيزة، فهي أرض بلا أسوار تحميها، نبتة ضعيفة بلا عزوة، بحيث لا تقوى طويلًا على الدفاع عن نفسها، وفي ساعة شؤم — مثل تلك التي صادفتها عزيزة — سوف ترضخ كما رضخ غيرها من البنات، بالقوة أو بالإغراء، وإذا كان ابن قمرين قد أجبر عزيزة على مضاجعته — بتراخٍ منها — فإن زهية اختصرت المسافة، فواجهت الشاب «كرامة» بالقول: «والنبي إذا كان لك غرض مني، أنا تحت أمرك.»٥٦
لعلنا نتذكر كذلك، تلك الليلة التي كانت فيها عزيزة الأخرى — في رواية يوسف المعناوي «الأقدار» (١٩٤٦م) تعاني آلام الوضع دون أن تستعين بأحد، فلمَّا خرج الجنين إلى الوجود، أطبقت بيديها على رقبته، وأغمضت عينيها، وأخذت تضغط عليه، حتى لم تعُد تسمع له صوتًا ولا نفسًا.٥٧
والحق أن ظروف العزيزتين كانت متشابهة إلى حدٍّ بعيد، كان الفقر هو السبيل الذي اعتُدي من خلالها على شرفهما، ولم تكن لهما حيلة في الثمرة المحرمة. لذلك كان التخلص من الجنين — ولو باللاشعور — هو سبيل العزيزتين … «وقبل شروق الشمس، وبجبروتٍ مذهل، كانت تمسك خطًّا مع الأنفار، وظهرها محني، وعيناها زائغتان تبحثان عن اللُّطع.»٥٨ واستطاعت — في الأيام التالية — أن تفر من عينَي المأمور، وأن تتخلص من شك البوليس، وحاولت أن تستعيد مرحها في المرح الجماعي الذي كان يتسلَّى به الترحيلة من عناء العمل، لكنها كانت قد أصيبت بحمى النفاس.

وشيئًا فشيئًا، بدأت عزيزة تخرف، ومن كلماتها التي راحت ترددها وهي راقدة عرفت جاراتها حقيقة الأمر، ثم انتقلت الحكاية إلى الجمع بأكمله، لكنهم حرصوا ألَّا تجاوز حدود الفضاء الكائن خلف الإسطبلات، فالفضيحة تشملهم جميعًا، ثم تبيَّن للمأمور — بالمصادفة — حقيقة الأمر، ووافق — بقلبٍ طيبٍ — على أن تُحتسَب يوميتها وهي راقدة، ثم زاد المرض على عزيزة، وبدأت تخرِّف، وتصرخ صرخات محمومة، وتتشنج، ويتخشَّب جسمها، وتجري — فجأة — إلى الخليج القريب، وتقذف نفسها فيه بملابسها، ويهرع الجميع — الترحيلة وسكان التفتيش — لإنقاذها، ويظلون بجوارها حتى تهدأ.

ثم ماتت عزيزة.

تكررت مأساة عزيزة — بعد ذلك بأعوام — في صابرين (أخبار عزبة المنيسي) التي ظلَّت هي الأخرى حتى موتها، مقتنعة بأن الذنب ليس ذنبها، وأنها لم تستسلم لصفوت المنيسي،٥٩ وكان الموقف الذي واجهته كلٌّ من هؤلاء النسوة، هو ما واجهته نرجس (أبو فودة) وإن اختلفت الشخصية والتصرف، كانت نرجس غجرية، فهي إذن أبعد ما تكون عن القروية الخائفة التي لا تخلو مع رجل إلا وملأت رأسها فكرة واحدة «إنها عُرضة لهجوم، وإن انتصاره عليها لا يتوقف على إرادتها، بل على الظروف. فلو كانت ملائمة له خيَّم عليها جو من التسليم والعجز، وقد تناضل قليلًا، ولكنها تنتهي دائمًا بالخضوع، وأغلب الأمر أنها تنسى نفسها، وتشترك في النهاية فيما أُكرهَت عليه.»٦٠

•••

قضية عزيزة — في بُعد آخر — هي قضية المرأة في المجتمعات الشرقية، بل إنها — كما حرص الفنان على تقديمها — «قصة خاطئة مصرية»، مع إنها لم تُقدِم على «الفعل»، ولم تكن «فاعلًا»، لكنها كانت ضحية «فعل» أملته رغبة شهوانية وقتية ﻟ «رجل» غابت صورته في اللحظات التالية مباشرة. أهمل محمد بن قمرين المشكلة تمامًا، بعد أن ترك عزيزة، وعاد إلى ممارسة الغزل والحب والجنس، لا تعنيه إلا اللحظة التي يحياها مقطوعة الصلة بما مضى، وإن كان يتطلَّع إلى لحظات أخرى قادمة.

أما عزيزة، فقد تحمَّلت — منذ اليوم الأول لزواجها — مسئولية «الرجل»، وهي مسئولية مضاعَفة — إن جاز التعبير — لأنه كان عليها أن تؤدي كل عمل «الرجل الترحيلة»، وأن تحافظ — في الوقت ذاته — على «الشرف» الذي قد تخدشه نظرة في المجتمع الشرقي، والريفي على وجه الخصوص. ثم زادت مسئوليات عزيزة بعد أن أقعد المرض زوجها، فأصبحت «مسئولًا وحيدًا» عن أسرتها، وفعلت كل شيء — في إطار وضع المرأة أيضًا — من أجل أن تحصل على الطعام للزوج المريض، وللأطفال الثلاثة.

سعت وراء البهائم، تلتقط روثها، وسرحت بالحطب إلى المركز، ومارست الخدمة في البيوت، وسافرت مع الترحيلة إلى قرى قريبة وبعيدة، لكن حقيقة وضعها كامرأة كان الظل الذي لم يفارقها. كانت — بالنسبة للرجل الذي اعتدى عليها — طارئًا ما لبث أن انشغل عنه بأحداثٍ آنية ومستقبلة، وكان الرجل — نفس الرجل — بالنسبة إليها عذابًا متصلًا، ثم موتًا، على الرغم من أنها — في أكثر تقدير — كانت العنصر السلبي، بل العنصر المقهور. وربما روى محمد بن قمرين حادثة اعتدائه على عزيزة — في ليالٍ تالية — إلى الأصدقاء، وربما أنصت الأصدقاء إلى أطراف الرواية في إعجابٍ وتلذذ، ولعل البعض هنَّأه على جسارته، وثمة تخمين شاحب أن البعض مصمص شفتيه للمرأة المسكينة، لكن المؤكد أن البذرة التي غرسها ابن قمرين في أحشاء عزيزة، ظلَّت سرها الخاص الذي لم يعرفه أحد، حتى طرحت ثمرتها، وما عقب ذلك من مرضٍ قفز بالسر — بتأثير الحمى اللعينة — إلى لسانها!

•••

يقول رجاء النقاش إن عزيزة «لم يكن أمامها إلا أن تقتل ولدها؛ فالموت ولا العار عليها، وعلى أسرتها المسكينة.»٦١ والواقع أن عزيزة لم تقتل وليدها عمدًا، لقد علا صراخه، فوضعت يدها على فمه تحاول إسكاته، فمات، وعاشت بقية أيامها حزينة على ما فعلت — غصبًا عنها — حتى ماتت.٦٢
نالت عزيزة جزاءها عندما نزلت الحقل كي تسرق لزوجها المريض بضع حبات من جذور البطاطا، لكن الجزاء كان فادحًا، ولعلِّي أوافق على الرأي بأن الجريمة واحدة، يرتكبها فرد من أبناء الطبقة المتوسطة ممن كانوا موظفين أو غير موظفين، والعقوبة واحدة هي الموت جسديًّا أو أدبيًّا، لكنه موت للضحية دون الجاني في أغلب الأحوال، «وهذه مأساة صارخة!»٦٣
كان استسلام عزيزة لابن قمرين، هو استسلام فتحية للساكن الشاب (النداهة)، وهو استسلام صابرين لصفوت المنيسي، كان أمرًا «كالموت، كالقضاء، كالقدر.»٦٤
وفي قصة «حب في القرية» لمحمود البدوي، رأى سالم ظلًّا أسود يتحرك في الغيط، بين أشجار القطن العالية، دخل الحقل، فوجد المرأة الجميلة تجني القطن، وتضعه في عبِّها. لم تصرخ عندما رأته، لكنها نظرت إليه في سكون، وبررت ما تفعله بأنها تدَّخر ثمن الدواء لأمها المريضة «رفع يده ليضربها، فجلست على الأرض تتقي ضرباته بكلتا يديها، ولكنه خجل من نفسه بعد أول صفعة، عندما رأى الدم يسيل على خدها، ورأى ثيابها ممزقة عن بشرتها، وتأثَّر، ووضع يده على عاتقها ليُنهِضها فجفلت، وسقط بجوارها، وأخذت تلوذ به وتبكي، فاقترب منها، وأحس بيده تلمس لحمها من تحت الثوب الأسود الممزق، وكانت أشجار القطن العالية تغطيهما، وتحجبهما عن أنظار الليل الساكن.»٦٥

•••

كان عبد التواب (البيات الشتوي) ذو الزوجة والأبناء الأربعة يتقاضى لقاء عمله في أرض صاحب الضيعة خمسة قروش في اليوم، إنه واحد من ملايين «لا يأكلون اللحم إلا في المواسم والأعياد، وينامون على الأرض، ويربون المواشي والطيور كي يبيعوها يوم السوق من كل أسبوع، ويبيعون البيض واللبن والسمن.»٦٦ يقضون اليوم من الشروق إلى الغروب، ثم يعودون وهم يحلمون بالنوم والأكل والشاي والجوزة والمعسل والحجرات الدافئة.٦٧ كان غذاء عامل التراحيل، يتكوَّن — في الأعم — من الجبن القديم والعيش الفلاحي والبصل، ويُسمَّى «الزوَّادة»،٦٨ وكان العمل في حقول القمح أفضل بكثيرٍ من العمل في حقول القطن، وعلى الرغم من ضآلة الأجر نسبيًّا، فإنه يُعتبَر نعيمًا مؤكدًا، فلا رئيس، ولا خولي، إلا الرغبة في التسابق في العمل، ضم القمح وتحميل المقطورات، سعيًا لمضاعفة الأجر.٦٩
وإذا كانت العمومية في حياة الترحيلة هي ما عني به يوسف إدريس منطلَقًا لرواية مأساة عزيزة، فإن أمين يوسف غراب يعنى بالحياة اليومية للترحيلة حيث يعملون، جزئياتها، وتفصيلاتها، فالمتاعب هي القدر الذي يحيون في إساره، لكن المفروض أن يتغلبوا على المتاعب، فهم يحاولون الضحك والغناء والطرب، فإذا جاء الليل افترشوا أرض أي حقل، طالما هو بجوار مصرف أو ترعة، أو نبع يجري فيه الماء، وكانوا ينامون كالقطيع، يحتضن بعضهم البعض، يتلامسون من شدة البرد إذا كان الجو شتاء، أو يتخفَّفون من ثيابهم إذا كان الجو صيفًا، فإذا تيقظت ذكورة أحدهم، وحاول الاعتداء على امرأة خلا بها، فإنه يواجه عقابًا جماعيًّا من كل النساء في خيام الترحيلة، فلا يعاود فعلته!٧٠

•••

في رواية «دولت»، يصور الفنان توزيع الملك مساحات من الأملاك الأميرية على المعدمين: كانت مصلحة الأملاك الأميرية قد استصلحت أرضًا في «كفر سعد» القريبة من دمياط، وأقيم حفل كبير، حضره كبار رجال الدولة، وجيء بالمعدمين في ملابس نظيفة، وتسلَّم كل معدم خمسة أفدنة وبيتًا وجاموسة، وسلَّم الملك كل واحد عقد التمليك، ومراسلو الصحف يسجلون بالكلمة والصورة. وعاد إلى المكان نفسه — بعد بضعة أشهر — صحفي من الذين حضروا الحفل، ليتابع امتدادات الحدث، وفوجئ الصحفي أن البيوت خالية، وسأل: أين ذهب المعدمون؟

قيل له: «إننا ندرس حالات المجتمع، بعد أن اتضح لنا أن المعدمين غائبون.» وعاد الصحفي — ولعله الفنان نفسه — من رحلته يسأل على صفحات جريدته: «يا ناس، من رأى منكم معدمًا فليرسل اسمه إلى مصلحة الأملاك الأميرية!»٧١

•••

في «قصة حب» ليوسف إدريس يعرض لنا الفنان مجتمعًا يتسم باستقلاله وتميُّزه، واختلاف قسماته عن غيره من المجتمعات الفقيرة في الحياة المصرية، وهم عمال الدريسة الذين يشكِّلون — في مجموعهم — حياة خاصة، يعرض لها الفنان من خلال تدرُّج حياة بطله حمزة الذي عمَّدته الظروف القاسية قبل أن يتخرج في الجامعة: «عزب الدريسة حيث مرتع طفولته وصباه، العزب التي تقيمها المصلحة في مكان ما بين محطتين، للعمال الذين يصلحون القضبان، المجتمع المغلق المقفول على مَن فيه، كل قاطنيه من العمال، الحياة يزاولها الناس معًا، الأسرار ملك للجميع، والفقر موزَّع بالعدل على الجميع، الزوجات يستحممن معًا في صباح الجمعة، ويتباهين بما حدث ليلتها، والأزواج يغطسون معًا ليتطهروا في الترعة، العزبة يتولَّاها النساء من الصباح فتبدأ الخناقات التي لا تنتهي على الإوز الضائع والبط، البيض هو العملة السارية بين النساء، والسجاير اللف هي السارية بين الرجال، والنقود هي العملة التي لا بد من سريانها بين الرجال والنساء، وإلا كان ما كان … في كل يوم مشكلة وشكلة، وزعيق وشجار، وما يكاد اليوم ينتهي، والشمس تغيب، ودخان المواقد يهدأ، ودخان القطار ينقطع، حتى يئُوب الرجال إلى البيوت في الشتاء، وإلى ما أمامها في الصيف، وتُوضَع الطبلية وحولها الأفواه، وينتهي عشاءٌ ما كاد يبدأ، ويعقبه استرخاء، وحديث قصير متباعد بين الزوج والزوجة، فيه من النوم أضعاف ما فيه من اليقظة، وفيه من التفاؤل أضعاف ما فيه من التشاؤم، الزوجة قلِقة والزوج راسٍ، المرأة خائفة والرجل يؤكد، الزوجة تتثاءب والزوج يغمغم متعبًا: بكرة تتعدل.»٧٢
في قصة «الدرس الأول»، نقرأ هذا الوصف المفعم بالدلالات لعمال الدريسة: «ينامون تحت ألواح الخشب القديم الذي يخرجونه من تحت الشريط، ويكوِّمونه عششًا صغيرة، يأكلون جميعًا من زكيبة واحدة فيها بتَّاو، وإذا ذرَّ قرن الشمس هبُّوا من نومهم، واحتل كلٌّ منهم مكانه، عاري الجسد، في سروال أبيض متسخ، رباطه يتدلى إلى الأرض، كلهم سُمر الوجوه، تقاطيعهم صافية، وأيديهم خشنة، ولكن أذرعتهم قوية، وظهورهم كالمطاط لا يؤذيها الانحناء المستمر. وإذا بدأ العمل، انهالوا على الشريط بضربٍ متقطعٍ، ثم لا ينتظمون إلا إذا غنَّى أحدهم من وسط الصفوف: على حسب وداد قلبي … الأغنية، فتردد الصفوف في صوتٍ عالٍ مرتفع: يا بوي، وتزداد ضرباتهم قوة، ويسرُّهم انتظامهم معًا بالضرب في وقتٍ واحد فينسَون العمل الشاق، حتى إذا جلسوا في فترات الراحة خمدت قواهم، واستراحوا على المواويل التي يغنيها أحدهم عن البلينا ومزاتة وناعسة وبنات عبد الله، فيحن كلٌّ منهم إلى وطنه، يشربون الشاي عكرًا كالحبر، وجوههم كالحجر الصلد، أذرعتهم من حديد، ظهورهم تحمل الأثقال لا تتوجع، وإذا أتى المساء التفُّوا حول راكية نار، ومالوا بوجوههم عليها، وقد يمد أحدهم ساقه فوق اللهيب كأنه يقدمها شواء، وماذا تفعل النار في طبقات «القشف» المتراكمة فوقها، وبعد أن تتطاير منها ذرات ملتهبة، يبدِّلها بساقه الأخرى.»٧٣

وقد أصرَّ الأنفار — تضامنًا مع زميل لهم — أن يشاركهم العمل في الغيطان، رغم عدم كتابة اسمه، يكفي أنهم — بالغناء الجماعي — كسروا شوكة الكاتب عبد الوهاب أفندي، وهيلمانه.

ومن الأغنيات التي كان يرددها الأنفار «بهية وياسين»، ذلك لأنه من بين أبياتها: احكم بالعدل يا قاضي … قدامك مظاليم.

هوامش

(١) روز اليوسف، ٢٣/ ٩/ ١٩٧٤م.
(٢) سيدتي، ١٩٨٢م.
(٣) الطليعة، أبريل ١٩٧١م.
(٤) خيري شلبي، الأوباش، ٥.
(٥) سعد مكاوي، الينبوع، الأعمال الكاملة.
(٦) مصر الغد تحت حكم الشباب، ١٤.
(٧) نجيب الكيلاني، رأس الشيطان، المؤسسة العربية الحديثة، ١٧.
(٨) مشكلة السكان في مصر، ٥٧.
(٩) حكمت أبو زيد، الأوضاع الاقتصادية لعمال التراحيل، الكاتب، يناير ١٩٧٥م.
(١٠) المرجع السابق.
(١١) جراح عميقة، ٥٦.
(١٢) خيري شلبي، السنيورة، هيئة الكتاب.
(١٣) المصدر السابق، ٦.
(١٤) محمود البدوي، في القرية، الذئاب الجائعة، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب، ١٩٨٦م.
(١٥) محمد روميش، النشيد من الأفق الغربي، الليل الرحم، روايات الهلال، ديسمبر ١٩٨٦م.
(١٦) المصدر السابق.
(١٧) الأوباش، ١٢.
(١٨) محمد صدقي، الأنفار.
(١٩) محمد أبو المعاطي أبو النجا، الرحيل، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٢٠) الأوباش، ٣٠.
(٢١) النشيد من الأفق الغربي.
(٢٢) سامي البنداري، السراية، هيئة الكتاب، ١٠٥.
(٢٣) يوسف إدريس، الحرام، وزارة الثقافة والإعلام العراقية، ١٩.
(٢٤) المصدر السابق، ١٩.
(٢٥) القرية المتغيرة، ٩٤.
(٢٦) الحرام، ٨٨-٨٩.
(٢٧) المصدر السابق، ٢٨.
(٢٨) السابق، ٩٩.
(٢٩) السابق، ١٠٠.
(٣٠) السابق، ١٠٣-١٠٤.
(٣١) غالي شكري، ثورة المعتزل، ٢٤٣.
(٣٢) الحرام، ١٠٨.
(٣٣) المصدر السابق، ١٢٦.
(٣٤) السابق، ١٤٦.
(٣٥) السابق، ١٥٠-١٥١.
(٣٦) زينب العسال، أجيال من الإبداع، كتاب تأصيل، ١٩٩٨م، ٥٢.
(٣٧) الحرام، ١٦٢.
(٣٨) المصدر السابق، ٤٧.
(٣٩) القرية المتغيرة، ٩٦.
(٤٠) الجمهورية، ١/ ٢/ ١٩٦٦م.
(٤١) يرى أحمد شمس الدين الحجاجي أن نهاية «الحرام» في نقل عزيزة إلى قريتها لتدفن هناك، بحيث تظل نهاية الأحداث مفتوحة.
(٤٢) الحرام، ٢٢.
(٤٣) السنيورة.
(٤٤) عبد الحميد القط، يوسف إدريس والفن القصصي، ٦.
(٤٥) الكاتب، يناير ١٩٧٥م.
(٤٦) الرحيل.
(٤٧) محمد عبد الحليم عبد الله، كل شيء على ما يرام، النافذة الغربية، دار الفكر العربي.
(٤٨) محمد صدقي، كلب العمدة.
(٤٩) إبراهيم عامر، الأرض والفلاح، ١٢٤.
(٥٠) النشيد من الأفق الغربي.
(٥١) أمين يوسف غراب، الترحيلة، هذا النوع من النساء.
(٥٢) محمد صدقي، الأنفار.
(٥٣) الحرام، ١٤٢-١٤٣.
(٥٤) محمود البدوي، الأعمى، رجل، المطبعة الرحمانية.
(٥٥) الأعمى.
(٥٦) ١٩٥٢، ٨٠.
(٥٧) الأقدار، ١٦٥.
(٥٨) الحرام، ١١٢.
(٥٩) يوسف القعيد، أخبار عزبة المنيسي، ٢٨٢.
(٦٠) يحيى حقي، دماء وطين، دار المعارف.
(٦١) رجاء النقاش، يوسف إدريس بقلم هؤلاء، مكتبة مصر، ١٤٢.
(٦٢) قال يوسف إدريس في حديث صحفي إن محاولات عزيزة للتخلص من الجنين، لم تكن للتخلص من الفضيحة، وإنما لمواصلة العمل من أجل إعالة زوجها وأطفالها (سيدتي، التاريخ غير موجود).
(٦٣) محمد عويس، مجتمع القرية في روايات طه حسين، بحث لم يُنشَر، ١٠.
(٦٤) أخبار عزبة المنيسي، ٣٢٩.
(٦٥) محمود البدوي، حب في القرية، قصص قصيرة، المجلس الأعلى للثقافة.
(٦٦) يوسف القعيد، البيات الشتوي، ٣٧٠-٣٧١.
(٦٧) أخبار عزبة المنيسي، ٣١٢.
(٦٨) الكاتب، يناير ١٩٧٥م.
(٦٩) السراية، ١٢٢.
(٧٠) أمين يوسف غراب، الترحيلة، هذا النوع من النساء.
(٧١) عبد المنعم الصاوي، دولت، مكتبة مصر، ١٩٧١م، ٢٦٣.
(٧٢) يوسف إدريس، قصة حب، جمهورية فرحات، الكتاب الذهبي، ٦٨-٦٩.
(٧٣) يحيى حقي، الدرس الأول، أم العواجز، هيئة الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥