الفلاح والباشا

ماذا كانت ملامح الحياة في الريف، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى ما قبل قيام ثورة يوليو؟

ظلَّت أساليب الإنتاج على حالها منذ أيام الفراعنة: الساقية والنورج والمحراث والمنجل والشادوف والفأس، عدا بعض الآلات الحديثة التي أدخلها كبار الزراع «إذا أردنا أن نرى صورة لمصر منذ خمسين قرنًا، فرحلة إلى مديرية قنا، ترينا الآلاف من الأفدنة ما زالت إلى الآن تُزرَع مرة واحدة في السنة، ويتبع الفلاح في زراعة الحاصلات الطرق نفسها التي كانت تُستخدَم قبل بناء الأهرام.»١ وقد ظل مجموع مساحة الأرض على ما هو عليه، بينما ازدادت الأسر التي تمتلك أرضًا زراعية، وضاقت طاقة المساحات التي تُؤجَّر عن استيعاب الأعداد المتزايدة من هذه الأسر.٢

•••

كان معظم الساسة يمتلكون الأراضي الزراعية، والعقارات، ويشتغلون بالأعمال الاقتصادية. وعلى سبيل المثال، فقد كان حافظ عفيفي يجمع بين عضوية ٤١ شركة، وكان عبد المقصود أحمد يجمع بين عضوية ٣٦ شركة … إلخ، وبلغ مجموع المرتبات السنوية التي حققها البعض من اشتراكه في إدارة الشركات ١٣٠ ألف جنيه مصري.٣

وفي مذكرات المسيو «جيانوتي» ما يشير إلى أن إسماعيل صدقي حصل من شركة الغاز المصرية — عند بداية تكوينها — على ٢٥٠ سهمًا، يدفع ثمنها بالتقسيط من حقِّه في الأرباح المستقبلة، رشوة صريحة، فهو لم يدفع مليمًا واحدًا، لكن الثمن يخصم من أرباح الأسهم نفسها مستقبلًا، ٢٥٠ سهمًا، قيمة السهم أربعة جنيهات، فيصبح المجموع ألف جنيه.

صار صدقي عضوًا في مجلس إدارة شركة الغاز، لأن القانون يشترط — لكي يكون الفرد عضو مجلس إدارة — أن يمتلك أسهمًا تساوي ألف جنيه في الأقل، وما دام من حقِّه أن يصبح عضوًا في مجلس الإدارة، فمن حقِّه كذلك أن يصبح رئيسًا لمجلس الإدارة، وهذا ما حدث فعلًا.٤ حصل صدقي على ٢٥٠ سهمًا دون مقابل، على أن يخصم المقابل من أرباح الأسهم في المستقبل، وكانت قيمة تلك الأسهم ألف جنيه — في الأقل — وصار من حقِّه — حسب القانون — أن يصبح عضوًا في مجلس الإدارة، وما دام قد أصبح عضوًا في مجلس الإدارة، فإن من حقِّه أن يكون رئيسًا للمجلس.
كانت تلك — كما يقول رجاء النقاش — «هي الطريقة التي تحتال بها الشركات لكي تضم إليها ذوي النفوذ من رجال السياسة عندنا لكي تستغل ذلك النفوذ.»٥
أما الأرباح التي جناها صدقي من تلك الأسهم المجانية، فقد بلغت ٢٧٥٠٠ جنيه، بالإضافة إلى مكافأته السنوية كرئيس لمجلس الإدارة، زائد الأرباح السنوية للأسهم المجانية!٦
المثير للتأمُّل، ذلك الاتهام بالبلشفية الذي كانت تواجهه كل دعوات الإصلاح، وعندما قدمت الحكومة إلى مجلس النواب قانونًا في ١٩٤٠م يقضي بعدم جواز الحجز على الضروريات اللازمة لصغار الفلاحين، واجهت الاتهام بالبلشفية، وكانت حُجة مدير الدقهلية في منع الحزب الاشتراكي من عقد اجتماع سياسي بمدينة المنصورة «إن حالة الفلاحين مضطربة، ونفوسهم ثائرة، ومن شأن هذا الاجتماع أن تُلقَى فيه خُطب مثيرة، قد تنتهي بحدوث شغب.»٧

•••

يصف الفنان (سطور من دفتر الأحوال) الباشا بأنه رهيب «كان عنده عبيد سُمر الأفواه، بيض الأسنان. كان العبيد يصرخون صراخًا مرعبًا، ويطيرون على ظهور الخيل في أنحاء الزمام، يسوطون ظهور الفلاحين، كانوا يسلبون وينهبون، كانوا يسوقون الأنعام غصبًا إلى سراي الباشا، ويسحلون الرجال، كانوا يضعون القطط في السراويل، ثم يعملون السوط، فتنهش هذه في اللحم الحي، وتبدأ ملحمة العويل الفاجع في وسط حلقة من ضحكات الباشا، وعبيد حمر الأفواه بيض الأسنان.»٨
كان حوالي ٧١٫٦٪ من المُلَّاك الزراعيين لا يملكون سوى ١٣٪ من مجموع الأراضي المنزرعة، بينما ٢٠١٥ شخصًا في حوزتهم أكثر من ٢١٪ من مجموع الأراضي المنزرعة، وهو وضع لا يتفق مع العدالة الاجتماعية، لأنه يعني أن صغار المُلَّاك لا يملك الواحد منهم أكثر من ربع فدان، بما لا يكفي أبسط المطالب الضرورية، فضلًا عن أن الأجراء الذين يمثلون الغالبية العظمى، كانوا يعانون فقدان القوت الضروري، وبدت المشكلة الأكثر إلحاحًا، هي إعادة توزيع الملكية الزراعية.٩
كان المُلَّاك «يحرِّمون على الفلاحين أن يركبوا حتى الحمير، إذا مرُّوا من أمام قصر الأمير، أو أمام حاكمه الحقير، فإن سوَّلت للفلاحين أنفسهم أن يتشجعوا، ويركبوا، ولو من بعيد البعيد، كان لهم عذاب السعير هم والحمير، وعُوقِبوا هم وكل قريب أجير، ولزموا دورهم، وتُقطَع أرزاقهم، حتى يرضى عنهم العبد الأمير بعد شفاعة الشافعين، والجلد بسوطه الجبار اللعين.»١٠
وبعث أحد القراء إلى باب «همسات القراء» ﺑ «روز اليوسف» يتساءل: «ماذا يأكل البدراوي باشا عاشور؟ وماذا يلبس؟ وعلى ماذا ينام؟ لو أنه كان يأكل لحم الغزال، ويشرب ماء الورد أو الكولونيا، ويتدثر بالحرير المنسوج من شعور العذارى، وينام على سرير الخلد، لما احتاج لأكثر من ٣٠٠ جنيه يوميًّا، ولكنه يربح ما لا يقل عن مليون جنيه في السنة، فماذا يفعل بالباقي؟»١١
ويقول متري (المستحيل): «إننا الآن في سنة ١٩٥١م، والأزمة في قمتها، الفلاح يستأجر الأرض الآن، ولا يسدد شيئًا من إيجارها لسببٍ بسيط: لأنه مدين بكل شيء، مدين بسقي الأرض لصاحب وابور الماء، ومدين بتسميدها لوكيل شركة عبود، ومدين بزراعتها لبنك التسليف، حتى محصولها باعه سلفًا بالبخس للمرابي على سلفة عشرة جنيهات يعيش بها، وفي النهاية، وبعد كل هذا الكدح يكسح النيل زراعته ويُغرِقها. ماذا تستطيع أن تفعل أنت أيها المالك مع مثل هذا الفلاح، إن كل ما تقدر عليه هو أن ترفع عليه قضية إخلاء، ثم تأخذ حكمًا بالإخلاء، ثم لا يجد الفلاح حلًّا سوى أن يطلِق عليك الرصاص، أو يستأجر عليك الخط وعواد، وهذه آخرة الأرض ومشاكلها.»١٢
كان عدد الفلاحين نحو ١٥ مليون نسمة، أي ما يقرب من ثلثَي الشعب المصري، يعملون في زراعة نحو ستة ملايين فدان من الأرض، ويقيمون في نحو أربعة آلاف قرية من ألف عزبة،١٣ وكانت ملكية الأراضي الزراعية مركزة في أيدي القلة من كبار المُلاك؛ كان ٠٫٠٤٪ يمتلكون ٣٤٫٢٪ من إجمالي المساحة المزروعة، في حين يمتلك حوالي ٧٢٪ من الملاك ٣١٫١ من إجمالي تلك المساحة، وكان هناك ٦١ شخصًا يمتلك كل منهم ما متوسطه ٤٤٥١٣ فدانًا.١٤
ويعود الكاتب إلى لغة المقامة، فيصِف العلاقة بين مُلاك الأراضي والمستأجرين، أو العاملين في أراضيهم، وتتلخص في الحرص على الإهانة والإذلال من جانب الباشا المالك، والخضوع والتلبية من جانب الفلاح.١٥
زاد تدخُّل الدولة في أمور الفلاح، عندما بدأت — منذ بدايات الحرب (١٩٣٩م) في فرض تحديد مساحات الأرض التي تُزرَع بالحبوب والقطن، ثم أعقب ذلك تنفيذ الإجراءات التموينية، وفي مقدمتها نظام البطاقات.١٦

•••

تغيَّر وجه الأرستقراطية الزراعية، حوالي سني الحرب — وإن تدعم نفوذها واتسع — فقد تداخلت ملكياتها لمكونات الحياة الاقتصادية، أصبح أفرادها يمتلكون العمارات في المدن والأسهم في الشركات، والأرصدة النقدية في البنوك، ونتيجة لاستحواذ تلك الطبقة على ناصية الحياة الاقتصادية بصورة مباشرة، فقد كان نحو مائة ألف شخص على الأكثر يحتكرون — فيما بينهم — الجزء الأكبر من الثروة، ومن الدخل القومي في مصر، بينما كانت بقية الشعب المصري — حوالي الواحد والعشرين مليون نسمة في أوائل الخمسينيات — تتقاسم فيما بينها الجزء الأقل من هذا الدخل. كانوا يسيطرون على مصادر الثروة، بحكم تركز وسائل الإنتاج في أيديهم، وكان ذلك بالتالي يعطيهم الفرصة للسيطرة الكاملة على جهاز الدولة، للإبقاء على الوضع الاستغلالي القائم.

كان التجار يأخذون القطن من الفلاحين لتقدير وزنه، يخصمون ١٠٪ رطوبة، ويُخصَم من الفلاحين إيجار الطرق التي يسير فيها مالك الأرض، والقنوات التي تمر بها المياه، يخصم الباشا المالك من كل مستأجر ستة قراريط في كل فدان، ليعوض المكاسب التي كانت ستعود عليه، لو أجَّر هذه الطرق والقنوات كأرضٍ زراعية.١٧
ونتيجة للحرب الكورية في ١٩٥٠م ارتفعت أسعار القطن المصري، فارتفعت القدرة الشرائية الداخلية بالتالي، وشجع ذلك الانتعاش الجديد على تكوين شركات صناعية ذات مشروعات كبيرة، اجتذبت عددًا كبيرًا من الراغبين في استثمار أموالهم في الميدان الصناعي. مع ذلك، فقد تعدَّدت ما بين عامَي ١٩٤٧م و١٩٤٨م حالات الإفلاس بين التجار، وبلغت بين عامَي ١٩٥٠م و١٩٥١م إلى ١٠٩ حالة إفلاس، ومن خِطاب لعلي الشمسي في الجمعية العمومية للبنك الأهلي (١٩٥٠م): «سيذكر تجار القطن المصري أن سنة ١٩٥٠م كانت من أشد السنوات التي عرفوها اضطرابًا؛ إذ قلما بلغ تقلُّب الأسعار إلى هذا الحد من التفاوت، وقد استولت على السوق حمى المضاربة والتلاعب بالعقود جعلت من العسير، بل من المخاطرة، الارتباط بصفقاتٍ على وجه مقبول.»١٨
وفي الفترة من يناير إلى سبتمبر ١٩٥١م كان عدد حالات الإفلاس ٩٤ حالة، وفي الفترة نفسها من عام ١٩٥٢م كانت ١٤٤ حالة إفلاس.١٩

•••

يوسف إدريس يلخص في قصة «ربع حوض» (مجموعة أرخص ليالي) رأي رد فيلد في نظرة أهالي الريف إلى سكان المدن، باعتبارهم مخلوقات تتعب بسهولة، وغير قادرة على مزاولة العمل الشاق في الزراعة، الذي هو مصدر زهو الفلاح!٢٠
ربما جاءت هذه النظرة، ارتكازًا إلى ملاحظة الراوي أن الفلاح المصري ما زال يعيش كما اعتاد منذ آلاف السنين، الطريقة التي يبني بها داره، هي هي، حتى الطريقة التي يروي بها زراعته من النيل لم تتغيَّر.٢١
ناظر الزراعة في «الأيام والليالي» تركي الأصل (يتحدث الكاتب عن دهشته، حين يتعرَّف — للمرة الأولى — إلى ناظر زراعة غير تركي (الأيام والليالي، ٦٦)). «وجهه نضير، تكسوه حُمرة كحمرة القمح والشعير، ويجري فيه دم غزير، فوجهه كالشفق وقت طلوع الشمس وحين الغروب، وشعره كلون الأصيل يطول كالنخيل، ويميل مع النسيم العليل، ويزهو بحذائه وحلَّته، ويضرب الأرض بعصاه وقبضته، ويضرب الناس بسوطٍ ذي شهرة كشهرته، وسطوة كسطوته … إلخ.»٢٢
وحين تكون القرية فقيرة، تسعة أعشار سكانها لا يملكون سهمًا واحدًا، فإن من يملك فيها خمسة أفدنة يُعَد منعمًا بحظٍّ محسود من الثراء.٢٣
وثمة الكثير من الأقاليم، يكاد يملك كلًّا منها شخصٌ واحدٌ أو شخصان؛ لذلك فإن المالك ينظر إلى رجال البوليس والإدارة الذين يعملون في المراكز ونقط البوليس الواقعة في منطقة نفوذه، كأنهم يعملون عنده، يتلقون الأوامر منه لا من الحكومة.٢٤ وقد تعهدت أعدادٌ من الفلاحين الأرضَ منذ عشرات السنين، على أمل أن يشتروها من مصلحة الأملاك، كما كان يفعل سواهم من الفلاحين، ثم جاء بعض ذوي النفوذ، فطردوهم منها، واستولوا عليها، وبنوا القصور، وأنشئُوا العزب، وكان لا بد أن تقوم ثورة لإنهاء ذلك.٢٥
حتى الفلاحون الذين كانوا يستأجرون أراضي التفتيش الملكي، كان موظفو التفتيش يستولون على بهائمهم، لا أحد يستطيع أن يعترض طريقهم، ولا يخضعون لأي قانون، فلهم حكومتهم المستقلة التي لا تخضع لأحد، وكانت بعض التفاتيش تستأجر الفلاح بخمسة قروش في اليوم، بينما تستأجر الحمار بعشرة قروش.٢٦
إن تصور رحمانة (الوعاء الفارغ) الوحيد أن اللبن الذي تدرُّه الجاموسة يُباع ولا يُشرَب، لا يشربه طفلها الصغير مهما تواصل بكاؤه، إنها لا تستطيع أن تستغني عن تلك القروش التي يدفعها سكان المدينة لها، لقاء لبن الجاموسة، فبتلك القروش تشتري كل ما تحتاجه هي وزوجها وطفلها من طعام وكساء.٢٧
وعلى الرغم من اشتداد المرض على علوان (الحمار) فإن عم سلامة يطمئنه، ويدعوه إلى إهمال فكرة الذهاب إلى المستشفى، لأن «دكاترة الأيام دي ما تعرف حاجة، دول شوية تلامذة خايبين، زي ولاد أبوك العمدة اللي بنبعتوهم البندر، ويرجعوا لنا آخر السنة بشوية روايات وصور بنات مش عارف إيه، سيبك أنا حاخدك، وأروح معاك، لحد عم صالح المغربي، يكويلك جتتك بالنار، دي إيده تنحط بالسلامة … فيها الشفا … بس طاوعني.»٢٨
ويصف الراوي (الذئب) صورة الحياة في قريته بأن الحال فيها يختلف في النهار عنه في الليل اختلافًا كبيرًا.٢٩ والدلالة واضحة في قول الرجل (أحزان نوح): «أصل الليل في بلدنا تُربة.»٣٠ والراوي (الفانوس) يصِف قريته في الليل بأنها تبدو «وكأنها عين فرن واسع منطفئ، يحوي في جوفه الغموض والمخاوف والأسرار.»٣١ والظلمة الحالكة في القرية تساعد على ترديد حكايات الغيلان والمردة وتضخيمها، وكانت مشكلة الأولاد في واحدة من القرى المصرية أن جلساتهم البريئة كانت تنتهي — غالبًا — بتبادل الخوف من العفاريت التي تطلع بالليل على شكل أرانب، وأن روح القتيل تطلع في الليل على شكل قسيس طويل له عيون حمراء كشقوق النار، وذقن طويلة بيضاء، ويركب حمارًا يروح عليه ويجيء على الطريق الزراعي حتى قبل أذان الفجر بقليل. ولم تكن أعصاب الصغار تتحمَّل الاستمرار في مثل تلك الحكايات، وكانت أبسط حركة بجوارهم تفزعهم، وتجسم من خيالاتهم، ومن ثَم فقد كانوا يختارون الحل الأسهل، وهو أن يلوذ كل واحد ببيته لا يتركه في الظلمة مهما حدث، وكان تركيب بعض الفوانيس في واحدة من تلك القرى قد غيَّر من طبيعة الحياة، وبدَّلها تمامًا، فقد غادر الرجال بيوتهم الضيقة المظلمة، وتجمَّعوا في حلقاتٍ على المصاطب، وفي الأجران، وصعدت النسوة إلى الأسطح وافترشن القش، ورحن يتكلمن ويضحكن، وأخذ الصغار ذيولهم في أسنانهم، وانطلقوا مع ريح الليل، يجرون ويمرحون ويصيحون.
وحين بدأت الفوانيس تنطفئ واحدًا بعد آخر — لنفاد البترول — عادت حكايات العفاريت والغيلان والأرواح الشريرة تطل في حياة الصغار من جديد،٣٢ ويقول الفنان (الست كريمة) إنه لولا وجود الظلام ما كثر التفكير في الجرائم،٣٣ وقد أثبتت الدراسات العلمية وجود علاقة عكسية مباشرة بين قوة الضوء ومعدل المواليد، فكلما كان الضوء في القرى قويًّا، هبطت نسبة المواليد، والعكس — بالطبع – صحيح.٣٤
وإذا كان ليل القرية قاتمًا، كئيبًا، فإن نهارها أيضًا يتبدى — في نظر الفقراء من أبنائها — «كرجلٍ عملاق قامته أعلى من قامة الشمس، ولا رحمة في قلبه، ولا خرقة فوق جسده، وفي يده هراوة ضخمة، منتصبًا هكذا ينتظرنا، ويتوعدنا، وتقدح عيناه بالشرر، ونحن متجهون إليه، خائفون، خاشعون، عالمون تمامًا أننا لن ننفذ من يده.»٣٥
ويتحدث مدحت (جراح عميقة) عن الظروف القاسية التي يعيشها الفلاح، فهو يغرس الغيطان بالخضرة، ويتعهَّد القطن بالتعب والسهر، حتى تطل وجوهه البيضاء الزاهية، وتنضج الحنطة من شقاء يدَيه الخشنتَين، وتبعث لمسات فأسه ومحراثه الحياة في الأرض الهامدة الميتة، ولا يَلقى — جزاء ذلك — إلا الجحود والنكران، فطعامه اللقمة الجافة السمراء، والجبن القديم المحشو بالجراثيم، أما الطيور التي يربيها، فتبيعها امرأته في السوق «إن رغيف القمح ورطل اللحم، ترفٌ لا ينبغي أن يصيبه إلا في المواسم والأعياد.»٣٦
كانت سميحة (جراح عميقة) ترى أن أهل القرى لم يفيدوا شيئًا من الحضارة أو الرقي الإنساني الذي اطَّرد بتوالي العصور، بل يعيشون في الحضيض الذي عاش فيه أجدادهم منذ مئات السنين، كأن الحياة لم تتطور، وتندرج إلى الكمال.٣٧ ملايين الفلاحين يبدو في قاماتهم هذا التقوُّس الضئيل، لأنهم ينحنون طويلًا مع الفئوس يشقُّون بها الأرض، ويبذرون الحَب، ويتعهدون الزرع، ويحصدونه.٣٨
لذلك فإن «الفلاح المسكين لا يشكو، ولا ينقم، عندما يُعامَل معاملة جائرة، بل يقنع ويحمد الله أنه لم يُمتحَن بمزيدٍ من الأذى.»٣٩

ونتيجة لذلك، فقد تعدَّدت بواعث هجرة الفلاح من قريته إلى المدينة:

  • البحث عن فرصة عمل.

  • زواج البنات، وهجرتهن مع الأزواج.

  • طلب العلم.

  • ضغط الظروف الاقتصادية، أو النكبات المفاجئة.

ويقول الراوي: «إن الذين يسكنون في المدينة ينسَون أهلهم الذين يسكنون في القرى، وفي مجاهل الريف، يتجاهلون وجودهم، انفصام تام يحدث بين الأهل، وبين الآباء والأبناء، فتنقطع صلات القرى والدم، ويذهب كل فريق إلى حاله، فريق يعيش في مصيدة الريف، وفريق يعيش في مصيدة المدينة، ولا صلة هناك بين الفريقين سوى صدقة، أو إحسان متقطع من المدينة إلى الريف، أو زيارة تقابل بالفتور والانزعاج من الريف إلى المدينة.»٤٠

وللأسف فقد رفض الإقطاعيون وكبار مُلاك الأراضي أية حلول لمشكلات الفلاحين، وأصروا على أن يفرضوا القهر الكامل والاستغلال على الفلاحين، مما أدى إلى حدوث رد فعل معاكس، بلغ ذروته في أحداث بهوت وكفور نجم وغيرها.

•••

نحن نلحَظ أن العديد من الأعمال الإبداعية تكتفي بالتحسُّر الإنشائي على أحوال الفلاح، كقول يوسف العماوي على لسان أحد شخصياته: «ما أشقى الفلاح، وما أرخص حياته في بلدٍ هو عمادها، بل عجلة الحياة فيها، يُفني عصارة الحياة في الأرض، حتى تُستنفَد قواه، وقوته.»٤١

وقصة «ألوان من السعادة» أشبه بالأغنية القديمة «محلاها عيشة الفلاح»، فالسؤال الذي توجهه ابنة الشيخ: لماذا لا نشتري نحن أرض هذه العزبة يا أبي؟

هذا السؤال يضع أيدينا على المشكلة، فهو قد قضى ٣٠ سنة من عمره فيها، وشهدت طفولة ابنته، فلما مات الحاج تطاحن الورثة على الأرض، ثم باعوها، ورحلوا إلى المدينة، فليس ثمة ارتباط بينهم وبينها.

يقول لنفسه: «أنا الذي ربَّيت كل شيء على هذه الرقعة الفسيحة من الأرض، كلهم يقولون لي: يا عم، وبعضهم يقول لي: يا جدي، وسطر الجزورينا هذا زرعته يدي صغيرًا مثل أعواد الذرة، وشجرة الجميز المظلمة عند حدود العزبة، والمصلى والصفصاف والخيل والبقر … كل هذا مسحت عليه بكفِّي، لذلك أنا أحب هذه الأرض، ولو أبعدني عنها فإنني سأموت.»٤٢
الشيخ — رغم فقره، وخوفه المتجدد من الفصل — قانع بحياته، محب لها، متَّعه الله بالصحة والستر، بينما هربت زوجة أحد المُلاك مع قريب به، وتركت له طفلهما الصغير. كما يعاني محمود عبد الراضي صاحب حدائق الفاكهة المشهور من أقاربه الذين يتربَّصون له بحقدٍ مدهون بالنفاق؛ فالرجل لم ينجب بعد، والمال يأتي بلا قصد لأنه لا يريده، بل كلما تكدس تذكر من الذي يأكله من بعده. أما المالك الجديد للأرض فهو لا يملك ذلك، ثم اكتمل إيمان الخفير بعناصر سعادته، حين علم فجأة أن الابن الذكر الوحيد بين خمس بنات لمالك هذه العزبة قد مات مصدورًا، وأن ثراءه لم يستطع أن يشفيه، وأن الأب القصير الغليظ المنتفخ العينين والبطن والعنق يمشي شاردًا كأنه نصف مجنون، وأن أزواج البنات بدءوا ينظرون إلى العزب من فوق أكتاف زوجاتهم، وأن التطاحن سيبدأ عما قريب بعد أن يرحل الملك «فضرب صدره السليم بقبضة يده، وتحسَّس سواعده القوية بكفَّيه، وفتل شاربي أبو زيد الهلالي، وتنهَّد، وتنفَّس الصعداء بارتياح، كأنه يكلم أحدًا: نعمة … الحمد لله.»٤٣

القصة تشير إلى أن الفلاح راضٍ بحياته، رغم بؤسها، وتهدده الدائم بالفصل من الأرض التي دبَّ فوقها بنصف عمره، ما دام المُلاك وأصحاب الأرض يعانون انعدام الستر والصحة!

في المقابل، فإن صاحب البيت يقول في نفسه: «إن لحظات من الراحة تنسيهم — الأُجراء — متاعب العيش، لولاها — في الحقيقة — لعجزوا عن مواصلة السير. آه … يأكلون بشهية، ويشربون بشهية، ويضحكون بشهية، وينامون بشهية. وبالشهية يفعلون كل شيء، لماذا؟

هز رأسه لأنه وجد الجواب: لأنهم لا يعيشون إلا في اللحظة، ولا تعِدهم الحياة، ولا تمنِّيهم، ولا تغشهم، ولا تخدعهم، وهذه هي الميزة الوحيدة للفقر.»٤٤
وفي قصة «الأكثر سعادة» لمحمد عبد الحليم عبد الله، يقول الراوي باقتناعٍ: «خرجت أطلب حذاء، فوجدت ناسًا بلا رجلين!» ويقول سعيد (أزهار الشوك): «كنت أستيقظ في الصباح فأتنفَّس من الهواء، وأفتح عيني على منظر الطبيعة الباسمة، وأستغرق — أحيانًا — في تأمُّلي خلال الليل المظلم الذي تتلألأ فيه النجوم، وأستمتع — أحيانًا — بجمال الليالي القمراء الوديعة، هذا كل ما وجدت في الريف، ولم ينقصني فيه إلا رؤية هذا.»٤٥ وكانت تلك هي نظرة الزوجة، بنت المدينة، إلى ليل الريف، إلى ضوء القمر في ليل الريف: «يا سلام … بلدكم جميلة … جميلة جدًّا.»٤٦
ثم تغيَّرت نظرة الزوجة تمامًا، حين شاهدت معارك الرجال حول المياه، بدا الواقع قاسيًا، بل ضاريًا.٤٧
ولعلَّ النهاية التي انتهت إليها حياة «شافعي»،٤٨ تذكِّرنا بالنهاية التي واجهها شقيق صالح (المعذبون في الأرض)، الأول أكله القطار، والثاني أكله البحر، وكان الاثنان يعانيان فقرًا مدقعًا.
وكان ذلك الواقع القاسي دافعًا لأن يكوِّن رشدان الأطرش عصابة من عتاة المطاريد والقتلة، أشاعت الرعب في قلوب الأعيان والعُمد وكبار التجار، فلا يكاد يمر أسبوع بدون جثة، أو حرق غيط، أو سرقة محصول.٤٩

•••

يصف الفنان (العنقاء) ما يراه راكب القطار من النافذة بأنه جميل على البعد، «أما على القرب فهو بشع ملوث كئيب، لسوف يقول (حسن مفتاح) للجنة المركزية إن كوميسارية الشعب ستهدم جميع القرى، أربعة آلاف قرية ستهدمها كوميسارية الشعب، وما يتبعها من نزلات وعزب وأكوام، إن كوميسارية الشعب ستجنِّد عشرة في المائة من تعداد كل قرية، ليعيدوا تعمير مصر، ولسوف تُقرضهم ما يلزم من الخرائط والبنَّائين والمهندسين، إن كوميسارية الشعب ستعطي كل أسرة بيتًا من الحجر أو القرميد الأحمر، ذا حديقة صغيرة وشوارع مخططة وميادين فيها الساعات والتماثيل، وستجعل مركز القرية ميدان الشعب، وفي ميدان الشعب تضع كل المرافق العامة: مدرسة القرية، ومستشفى القرية، ومركز البوليس، والإسعاف، والمطافي، والحمامات العامة، والبريد، وسوق القرية، وحديقة القرية، وقاعة الاجتماعات، ودار العمدة، وستبني لبهائم القرية حظائر عامة خارج القرية، حتى لا ينام الشعب بين عجوله وحميره في زريبة واحدة.»٥٠

وكما نرى، فقد أدان الفنان ما ذهب إليه توفيق الحكيم في «عودة الروح» من معنى تقاسم الفلاح وماشيته النوم في قاعة واحدة!

ولعلَّنا نتذكر رؤيا الصول فرحات اليوتوبية في الجمهورية التي صنعتها مخيِّلته.٥١

•••

تعاطفت بعض الأقلام مع قضية الفلاحين، أكدوا أن هؤلاء الفقراء سوف يأخذون حريتهم يومًا ما، لكن لكل شيء وقته، وفات هؤلاء المثقفين — على حد تعبير جوركي — أن الناس ليس لديهم وقت لينتظروا، وأن البؤس والمذلة لهما حدود، وأنه عندما ينتهي الصبر، فلا توجد قوة ما تستطيع أن تقف أمام الغضب عندما ينفجر!

كانت الصحف تنادي بتصفية الإقطاع وتحديد الملكية، لكن الباشا كان يجد أنها مقالات لترضية الناس؛ فالملك نفسه يملك مديريات بأكملها، وغير معقول أن يوافق على تحديد الملكية.٥٢
كانت أية دعوة إلى إعادة تنظيم الملكية الفردية، أو تقييدها، أو المساس بها، تعبِّر عن الشيوعية، أو تتجه إليها، حتى لقد طُرد محمد خطاب من الهيئة البرلمانية للحزب السعدي الذي ينتمي إليه، لمجرد أنه قدَّم اقتراحًا بتحديد الملكية الزراعية بمائتَي فدان،٥٣ كما حُورب بوسائل غير عادلة.٥٤
قدَّم الرجل مشروعه بتحديد ملكية الفرد من الأراضي الزراعية، على ألَّا يسري هذا القانون على المُلاك الموجودين حاليًّا، ولا على ورثتهم. ولم يكتفِ أعضاء مجلس الشيوخ برفض اقتراح محمد خطاب، بل أظهروا مخاوفهم من أن يؤدي إصلاح الأراضي البور إلى هبوط أثمان الأراضي.٥٥ وكان رفض مجلس الشيوخ لمشروع محمد خطاب (١٦/ ٦/ ١٩٤٧م) دليلًا مؤكدًا على رفض القيادات الحاكمة لأي نوع من العدالة الاجتماعية، مهما يكن مخففًا.٥٦
الطريف أن عضو مجلس الشيوخ جلال فهيم باشا قدَّم مشروعًا إلى المجلس بتحديد الملكية الزراعية للأسرة بما لا يزيد عن خمسمائة فدان، لكنه اشترط ألَّا يبدأ التنفيذ إلا بعد وفاة المالك، ذلك لأن الباشا نفسه كان يملك خمسمائة فدان!٥٧

هوامش

(١) التطور الاقتصادي، ١٢٣.
(٢) القرية المتغيرة، ١٨٢.
(٣) التطور الاقتصادي، ٩٥.
(٤) رجاء النقاش، أدباء معاصرون، كتاب الهلال، ١٢٤.
(٥) المرجع السابق.
(٦) السابق.
(٧) أحمد حسين، قضية التحريض على حريق القاهرة ومقدمات ثورة ٢٣ يوليو، مطبعة مصر، ١٧٥.
(٨) عبد الحكيم قاسم، سطور من دفتر الأحوال، البيان، ٦٦.
(٩) حقيقة الانقلاب الأخير في مصر، ٩٠.
(١٠) محمد مجاهد، الأيام والليالي، دار الفكر الحديث، ١٩٦٣م، ٢٩.
(١١) روز اليوسف، ديسمبر ١٩٥٠م.
(١٢) مصطفى محمود، المستحيل، روايات الهلال، ٦٣.
(١٣) الأرض والفلاح، ١١.
(١٤) التطور الاقتصادي، ١٢٦.
(١٥) الأيام والليالي، ٩.
(١٦) محمد عاطف غيث، القرية المتغيرة، دار المعارف، ١١٩.
(١٧) الأيام والليالي، ١١٥.
(١٨) الأصول التاريخية، ١٧٢.
(١٩) حقيقة الانقلاب الأخير في مصر.
(٢٠) القرية المتغيرة، ٩٧.
(٢١) وجيه غالي، بيرة في نادي البلياردو، ت. هناء نصير، مراجعة ماهر شفيق فريد، دار العالم الثالث، ٢٠٠٦م.
(٢٢) الأيام والليالي، ٢٧.
(٢٣) حسين دياب، الوعي الجديد، ٣١–٣٤.
(٢٤) الوعي الجديد، ٣١–٣٤.
(٢٥) محمود البدوي، الرماد المشتعل، غرفة على السطح.
(٢٦) من هنا نبدأ، ١١٨.
(٢٧) علي الدالي، الوعاء الفارغ، القصة، ٢ أبريل ١٩٥٢م.
(٢٨) محمد صدقي، الحمار، الأنفار.
(٢٩) أمين يوسف غراب، الذئب، هذا النوع من النساء.
(٣٠) شوقي عبد الحكيم، أحزان نوح، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر.
(٣١) عبد الله الطوخي، الفانوس، داود الصغير.
(٣٢) المصدر السابق.
(٣٣) محمد عبد الحليم عبد الله، الست كريمة، أسطورة من كتاب الحب، مكتبة مصر.
(٣٤) صلاح الدين نامق، مشكلة السكان في مصر، ٢٦. وسنعود إلى هذا المعنى في قصة يوسف إدريس «أرخص ليالي».
(٣٥) يوسف إدريس، ليلة صيف، أليس كذلك، مركز كتب الشرق الأوسط.
(٣٦) جراح عميقة، ٥٠.
(٣٧) المصدر السابق، ١١٢.
(٣٨) السابق، ٤٨.
(٣٩) السابق، ٣٠.
(٤٠) فتحي غانم، الجبل، روز اليوسف، ٨.
(٤١) الأقدار، ٤٥.
(٤٢) محمد عبد الحليم عبد الله، ألوان من السعادة، مكتبة مصر.
(٤٣) المصدر السابق.
(٤٤) السابق.
(٤٥) أزهار الشوك، ١٠٩.
(٤٦) عبد الله الطوخي، في ضوء القمر.
(٤٧) المصدر السابق.
(٤٨) محمد عبد الحليم عبد الله، منتصر دائمًا.
(٤٩) عبد العال الحمامصي، قاتل بدون أتعاب، الجمهورية، ٢٧/ ١/ ١٩٨٦م.
(٥٠) العنقاء، ٢١.
(٥١) جمهورية فرحات.
(٥٢) الحصاد، ٣٢٢-٣٢٣.
(٥٣) العنقاء، ٢١.
(٥٤) التطور الاقتصادي، ١٢٨.
(٥٥) عبد المغني سعيد، العمال وثورة ٢٣ يوليو، ٣١.
(٥٦) حلمي سلام، أيامه الأخيرة، كتاب الهلال، ١٨٩.
(٥٧) حافظ محمود، مذكرات منسية، ٤٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥