الجبل

بداية، فإني أوافق أبو المعاطي أبو النجا على أنه يمكن النظر إلى أعمال فتحي غانم، النظرة نفسها إلى أعمال نجيب محفوظ، وثائق فكرية واجتماعية للمراحل التي تناولتها من تاريخ مصر.١

«الجبل» تجربة معاشة لكاتبها: أوفدته إدارة التحقيقات بوزارة المعارف العمومية إلى قرية «الجرنة» (القرنة) ليحقق في رفض أبناء القرية الانتقال إلى قرية أخرى نموذجية، أقامتها لهم الحكومة، وليحقق أيضًا في سرقات واختلاسات، قيل إن المشرفين على بناء القرية الجديدة قاموا بها.

أعلن فتحي غانم أنه خرج من تجربته بتعاطفٍ شديد مع أبناء الجرنة، ولعله يمكن القول إن ذلك التعاطف كان قائمًا من قبل أن تبدأ التجربة.

وإذا كان وكيل النيابة في «يوميات نائب في الأرياف» قد اكتفى بالبُعد السلبي مع أبناء القرية، وأبناء القرية المصرية عمومًا، فإن مفتش التحقيقات في «الجبل» (دارت أحداثها في ١٩٥١م، ونُشرَت في ١٩٥٨م) قد وصل في إيجابية التعاطف والمشاركة إلى حد التغاضي عما تُلزمه به وظيفته، وأعلن في تقديمه للرواية عن حقائق كان ينبغي عليه أن يُعلِن نقيضها قبل سبع سنوات.

كان المحقق يمثِّل السلطة، لكنه انضم إلى المتهمين، ولم يبلغ السلطات بشيء مما حصل عليه، وانتظر سبع سنوات قبل أن يُعلِن الحكم وحيثياته في «الجبل». صدمته التجربة التي مرَّ بها، وحوَّلت الكثير من الأفكار في رأسه إلى مجرد سخافات، وأن كل شيء كان يصدقه ويؤمن به كوسيلة لإصلاح المجتمع، قد تبخر من رأسه.٢
استطاع المحقق أن يحصل على الشيء نفسه الذي لم يحصل عليه المحقق في «يوميات نائب في الأرياف»، وهو اعتراف أهل الجبل، والمعنى المختفي وراء هذا — والكلمات لفتحي غانم — أن الناس — في خلال ثلاثين عامًا — بدأت تتحرر من سلبيتها، واستطاعت أن تؤثر في الرجل المثقف الذي يأتي ليبحث مشكلاتهم.٣

•••

الفنان في «الجبل» يقدم لنا النظرة المقابلة، نظرة الحضري، أو ابن المدينة، إلى الريف. حين قرأ المحقق رسالة حسين علي التي بعث بها من قريته البعيدة في الصعيد، أحس أنه ينتقل إلى عالم غريب، بعيد عن الواقع، فيه خيال وأحلام. يقول الراوي: «فهذه هي طريقتنا نحن أبناء المدينة، عندما نواجه مجتمعًا آخر، غير المجتمع الذي اعتدنا عليه، نحوِّله في الحال، في رءوسنا إلى وهم، أو قصة، أو فيلم أو أسطورة.»٤
ذهب الراوي — مفتش التحقيقات — إلى الجنوب، وفي ذهنه صورة واحدة، ثابتة، هي شخصية أقرب إلى خُط الصعيد الشهير «لصوص يعيشون في جبل قبالة القصر، عليَّ أن أواجههم في لحظة حاسمة، لحظة يحرقون فيها قرية، ويقلبون تروللي، ويتحدُّون الحكومة، وتكتب عنهم الصحف أخبارًا بعناوين بارزة.»٥
صارحه المدير: أنت رايح عند جماعة حرامية.٦ كان ذلك وصف المدير لأهل الجبل، لكنه رفض الوصف بعد أن قرأ رسالة حسين علي … فالرجل يشكو الحكومة، إن أهالي الجرنة يرفضون الانتقال إلى القرية النموذجية التي أقامتها الحكومة لهم.

من هنا كان سؤاله للمدير: ولكن فين الحرامية؟

يجيب المدير: أصل أنا زمان رحت في تحقيق في المنطقة دي، كنت لسَّه مفتش تحقيقات صغير ومش متجوز، وكانت الدنيا واقفة على رجل، لأن أهالي المنطقة بيسبقوا علماء الآثار، ويكتشفوا المقابر، وينهبوا الكنوز اللي فيها ويهرِّبوها، تصور إن ثروة البلد التاريخية، ومجد الفراعنة كله، نهبوه الناس دول.٧
بدأ الراوي مهمته، وفي باله نصيحة وكيل نيابة الأقصر بأن مهمته تختلف عن مهمة البوليس والنيابة، وأن توصُّله إلى حقائق مهمة يُلزِمه بالإبلاغ عنها.٨ لم يكن قد أجرى — من قبل — تحقيقًا بين قرية وحكومة، بدت المهمة جديدة عليه تمامًا.٩
وعلى الرغم من أن الصداقة والألفة توطدتا بين المفتش والعمدة، فإن شيئًا لم يتوطد بين المفتش وبين الجبل نفسه «إنه موحش، خشن، لا أدري كيف أطمئن إليه، وأستسلم إلى صخوره وكهوفه وسحاليه وعقاربه طوال فترة الظلام.»١٠

•••

الجرنة، تقع في الشاطئ الغربي، شيَّدتها الحكومة لأهل الجبل، حتى ينتقلوا إليها، ويكفُّوا عما تدَّعيه من سرقة للآثار، وعن تمسُّك أهل الجرنة بالجبل الذي يسكنون فيه، حتى يستمروا في نهب الآثار.١١
كان أهل الجبل يبيعون الآثار المقلَّدة للسائحين الأجانب، يقنعونهم بأنها أصلية، ويتقاضون الأثمان التي طلبوها، دون أن يدرك السائح الضحية أن أهل الجبل يصنعون منها العشرات في اليوم الواحد.١٢
وكما يقول الراوي، فقد كان أهل الجبل يتحدثون «عن المقابر كما لو كانت من ممتلكاتهم الخاصة، لا دخل للحكومة بها، ولا سلطان لأحدٍ عليها سواهم.»١٣ اختار الأهالي سكنى الكهوف، لأنها المداخل الطبيعية لقبور الفراعنة التي لم تُكتشَف بعد، يتحدُّون الخطر، ينقبون، يكحتون، يحلمون بالذهب الكثير الذي يبدِّل حياتهم تمامًا، يحلمون بالأرض التي يزرعونها، وبالدار الخاصة المطلة على النهر، وأكل اللحم، ولبس الحرير.١٤
كانت الكهوف هي المداخل الطبيعية لقبور الفراعنة التي لم تُكتشَف بعد، وهو ما يعني التوقعات الطيبة الدائمة١٥ «إنهم متمسكون بمكانهم، يرفضون تحسين حياتهم عن أي طريق، لأن أحلامهم كبيرة، إنهم يحلمون بالذهب الكثير، لا بالقليل الذي يرضى به الناس العاديون، أصحاب الأحلام العادية.»١٦

•••

التيمة الأساسية في «الجبل» هي الصراع بين القرية والمدينة، بين التخلف والتقدم، بين العمدة والمهندس الذي حاول — بالقرية النموذجية — أن يُخرِج أهل القرية من كهوف الجبل.

تحددت معركة بناء القرية النموذجية بين المهندس والعمدة، أحدهما تعلَّم فن العمارة في فرنسا، ويتكلم الفرنسية بطلاقة، والثاني عجوز ماكر، يحارب بالفطرة والحكمة التي ورثها عن أجداده الذين لم يغادروا الجبل أبدًا.١٧
كان المهندس مقتنعًا بأنه استطاع أن يبني مدينة-قرية، وأنه سيغيِّر — بما فعل — حياة البداوة التي يعيشها أهل الجبل،١٨ جعل جدران البيت سميكة لتحفظ الحرارة داخل البيت في الشتاء، وتحفظ الرطوبة في الصيف، والقبة التي تعلو السقف تساعد على تلطيف الجو لأنها تعكس أشعة الشمس، وثمة حظيرة يجمع فيها الأهالي بهائمهم ليلًا، فلا تنام معهم في المكان نفسه الذي يرقدون فيه.١٩
أدرك المهندس من إقبال أهل الجبل على البناء أنهم قد اكتشفوا مقبرة جديدة، لكنها كانت مسروقة لا تعد بشيء، يتكرر وصول الرجال إلى داخل مقبرة في بطن الجبل، يسبقهم التوقع بالعثور على القدور المملوءة بالذهب والصواني المحمَّلة بالطعام، لكنهم يكتشفون أن أجدادهم سبقوهم إلى المقبرة، واستولوا على ما كان فيها من كنوز،٢٠ ويظل البعض متمسكًا بالحلم، ويمضي البعض الآخر إلى القرية النموذجية، يواصلون العمل في بنائها لكي ينفقوا على قوت أيامهم.٢١ كان إقبال أهل الجبل على العمل مع المهندس في بناء القرية أشبه بالمد والجزر، يغيبون فيخمِّن أنهم يتوقعون العثور على الكنز، ويقبلون فيحدس أن الكنز الذي توقَّعوه سرقه اللصوص قبل أن يصلوا هم إليه.٢٢

وحين فرغ المهندس من تشييد أهم بنايات القرية: البيوت والجامع والمدرسة والسوق والكُتاب وبيت العمدية وأحد الأحياء الخاصة بسكنى الأهالي … قرر إقامة حفل كبير تحضره الأميرة، ويشكرها فيه أهل الجبل على زيارتها، وفضلها، وفضل شقيقها الملك في بناء القرية الجديدة. وأعلن العمدة موافقته على حضور الحفل مع أهل الجبل، وفي نيَّته أن يشرح للأميرة موقفهم من القرية النموذجية، حتى تأمر برفع الظلم الواقع عليهم، ومنع التهديد بنقلهم من الجبل.

فوجئ الأهالي بأن البوليس يُلقي القبض على القادمين إلى الحفل، ليدفع بهم إلى حمامات، يخرجون منها وقد اغتسلوا، وارتدوا ثيابًا جديدة ذات لون واحد، هو اللون الأبيض. وقرر الأهالي عدم حضور الحفل، لكن المهندس خشي — في المقابل — أن تحضر الأميرة فلا تجد مَن يستقبلها، وتحرك العساكر نحو الجبل لإجبار الأهالي على الهبوط إلى القرية، والاستحمام، ثم استقبال الأميرة — بعد ذلك — بالهتافات والأغنيات والرقصات الشعبية. وخوفًا من نشوب معركة بين العساكر والأهالي، صدرت الأوامر للعساكر بالانسحاب، واستبدلوا بها فكرة إحضار فرقة كبيرة من فلاحي أحد الباشوات، يرقصون على الخيل، وبالعِصي والمزامير، فيسعدون الأميرة.

استُجلبَت الفرقة بالفعل، ورفض العمدة أن يأذن لأهل الجبل بالزحف على القرية النموذجية، وقال في هدوء لم يفارقه: أنا رايح للأميرة لوحدي.

ووسط انهماك الأميرة في الرقص، والجلوس إلى أصدقاء أمريكيين، واحتساء الخمر، واجه العمدة الأميرة بالقول: «اسمعي يا أميرة، جولي لأخوكي الملك إحنا موش آثارات، إحنا مننتجلش من الجبل، إحنا كبرنا، وبجينا زي السجر، وإن انتجلنا نموت.»٢٣
أخفق المهندس في إقناع أهل الجبل بسكنى قريته، والتخلي عن أحلامهم في الكنز، فلجأ إلى أسلوب التفرقة، أعطى أحدهم نقودًا أكثر من الآخرين، وجعله مقاولًا للأنفار، يحرِّض الرجال — بما يملكه من خبرة — على النزوح إلى القرية النموذجية، وإهمال فكرة وجود الكنز، بدعوى أن الأجداد سلبوا كل ما كان في الجبل من كنوز،٢٤ وكان المقاول يقاسم الباقين يوميَّتهم، ويراوده حلم العمدية في القرية الجديدة.٢٥ لذلك، تحوَّل إلى تابع للمهندس، ينفذ نصائحه وأوامره، ويواجه العمدة بالعداء الصريح، وتصبح المعركة بين الرجلين، بينما يكتفي المهندس بالتوجيه والنصح.
ثم استقر رأي المهندس — بعد أن فشلت كل محاولاته — على أن أهل الجبل لن يتمدَّنوا إلا بضرب الكرباج.٢٦
يلخص الراوي ما حدث في الجبل حتى بناء القرية النموذجية بأنه — من ناحية — انتصار للمهندس الذي استطاع أن يبني القرية النموذجية، وأن يعتمد في عمليات البناء على أهل الجبل أنفسهم، وهو — من ناحية ثانية — انتصار لعمدة الجبل، لأنه قاد الأهالي في مقاومتهم النزول من الجبل إلى القرية، ظلَّت المدينة مهجورة، لا يشغلها سوى الخفراء والحرَّاس، فضلًا عن المهندس وضيوفه الخائفين، الدُّور خاوية، الجامع بغير مصلين، المدرسة بدون تلاميذ، دار العمدة لا يدخلها العمدة.٢٧
لقد تشكك المحقق في حقيقة ما كان يقوله المهندس، تغلَّبت عليه طبيعة المحقق الذي يستريب في كل ما يرى ويسمع، تركه يسترسل في قصته وهو يستمع إليها، لا على أنها حقيقة، ولكن مجرد وجهة نظر، حكاية يرويها خصم عن أعدائه.٢٨
ولعل المحقق أظهر انحيازه لأهل الجبل — مقابلًا لرفض المشروع — في سخريته — على سبيل المثال — من مساقط الضوء في المسجد التي تنسجم مع خطوط البناء، وحركات المصلين «كأنهم لن يصلوا، بل سيرقصون باليه على مسرح حديث الإضاءة.»٢٩ كما يلاحِظ خطأ المهندس — خطأ له دلالته! — وهو يتحدث عن الجامع باعتباره كنيسة.٣٠
كان حسن فتحي يؤمن بأننا إذا أردنا أن «نبني قرية في مصر، فيجب أن نستلهمها من تراث عمارتنا الشعبية، وأن نعطيهم خير ما يمكن أن تعطيه العمارة الريفية، بدلًا من إعطائهم أحط ما تعطيه عمارة الغرب، وبذلك يتجاوب البناء مع روح الفلاحين، ومع البيئة بدلًا من الطُّرُز الأجنبية التي شاعت فيما سُمِّي قرى نموذجية، والتي ليست سوى بقع تجثم على ريفنا، وعلى أرواحنا أيضًا.»٣١ وكما يقول محمد عودة، فقد استطاع حسن فتحي — بعبقرية البناء المصرية المتوارثة — أن «يبني قرية مصرية خالصة، بمواد مصرية خالصة، وعصرية خالصة، ولفلاحين مصريين أصلاء.»٣٢ ونجح المشروع في تقدير الكاتب، وتجاوبت مع أصدائه الدوائر الهندسية والفنية في العالم كله، وتعدَّدت الصفات التي أطلقت عليه، فهو أجمل شيء معماري في مصر، وهو أجمل ما سيبقى بعد الأهرام … إلخ، أما في مصر فقد واجه المشروع حربًا شرسة.٣٣

•••

كان حسين ينظر إلى صور الفلاحين على الجدران بمحبة دافقة وتقديس؛ إنهم أجداده، ومن حقِّه — هو وأهل الجبل — أن يستعيدوا الميراث الذي خلفه الأجداد.٣٤
وروى أبو حسين لابنه أنه بدأ الكحت وهو في العشرين، وكان حسين في الثانية من عمره، كان يقوم بالعمل وحده، حتى يحصل على كل ما في الكنز وحده٣٥ لم يكن أبو حسين قانعًا بالاكتشافات القليلة التي قد يعثر عليها الرجال، كان يريد مقبرة، فيها ذهب وجواهر من الماس، ويحلم بالغنى الواسع، والمال الذي لا يُحصى.٣٦ كانت محاولة وصول العجوز إلى المقبرة القديمة سببًا في بتر ساقيه، لكنه ظل حيًّا بأمل الموصول إلى تلك المقبرة، غطى السرداب الطويل المفضي إلى داخل المقبرة بالحجارة، ومنع مجرد اقتراب أحد من المدخل، وواصل الكحت بمعوله ويديه وأظافره، ثم انهارت الكهوف فوقه، وهشمت ساقيه، ومنعته من مواصلة ما بدأ.٣٧
وبعد أن تزوجت الابنة مريم من العمدة، وكبر حسين، وصار رجلًا، عاد إلى «أبو حسين» حلمه القديم باكتشاف كنوز الجبل، وتشارك الأهالي مع حسين — بإرشاد العجوز — في استكمال الكحت داخل السرداب المهجور.٣٨
وذات صباح، تبيَّن الأهالي اختفاء الرجل؛ كان كل شيء على حاله عدا الرجل، وزحفت مريم داخل السرداب، يجتذبها صوت طرقات كلما تقدمت إلى الداخل.٣٩ وظن الأب أن الجسد الذي اصطدم به في الظلمة هو لواحدٍ يريد استلاب الكنز منه، وانهال بمعوله على ابنته، حتى مزَّق جسدها تمامًا، وكسر عظامها.
وعاد الأب — دون أن يدري ما حدث — إلى مواصلة الكحت، كان الرجل قد فقد ظله.٤٠
افتقد الأهالي مريم، وأخفقوا في الوصول إلى موضعها، فلما اخترقوا السرداب، راعهم أشلاء جسد مريم بعد أن قتلها أبوها، وجسد الأب نفسه، بعد أن هشَّمت رأسه صخرة كبيرة وقعت عليه.٤١ وكان موت والد حسين وأخته سببًا في إصابة الشاب بما يشبه اللوثة، هام على وجهه في الجبل، ولما أرادت الفرنسية مواساته، انقضَّ عليها، ففرَّت مذعورة، وشارك حسين — في ظل معاناته النفسية — في بناء القرية، ثم ما لبث أن أفاق على محاولة مقاول الأنفار ابتزازه، وعاد إلى الجبل ليستقبله العمدة والأهالي بفرحٍ ظاهر، تعدَّدت الروايات عن بواعث تركه العمل مع المقاول، وإن كانت تحمل — في مجملها — إدانات ضد المقاول.
لجأ المقاول — خوفًا من تأثير ما يرويه الأهالي — إلى تهديد العمدة «الأمر أمر الحكومة، ولازم تنزلوا تحت وتخلُوا الجبل، المهندس غرضه اليوم كل الرجالة تشتغل، البنايات دي كانت رزج وأنا نشيت فيه، اسمع كلامي يا عمدة، والله لولاي كان زمانكم محطوطين في الحديد، أنا حايش عنكم شر كبير.»٤٢
لكن تهديدات الرجل أخفقت، في حين استجاب الرجال إلى نداء حسين بأن يظلوا في الجبل، «والبقاء في الجبل معناه استمرار الكحت.»٤٣
وفرحت الفرنسية بعودة حسين والرجال إلى كحت الجبل، واجتذبت الشاب الذي كانت عشيقة لأبيه، وحرَّضته على إقامة علاقة جسدية بينها وبينه،٤٤ وصبرت — لأيام — حتى أبلغها بأنه قرر استئناف الحكم،٤٥ وأدرك حسين — متأخرًا — أن الفرنسية تخدع الجميع، وأزمع أن يجبرها على الاعتراف بأفعالها، ثم يقتلها ليتخلص مما يعانيه من القلق والحيرة.٤٦
قصد بيت المرأة، لكنه عجز عن قتلها، تذكر جثة أبيه وجثة مريم، وركعت المرأة تحت قدمَيه، وتذللت، وتوسَّلت، وعرضت ما تملكه من نقود لكي تظل في القرية، في بيتها، لا يراها سواه،٤٧ وعاد حسين — بأمرٍ من العمدة — إلى الكحت في الجبل، لم يهدأ حتى ظهرت فجوة، وهو ينادي أباه وأخته زمنًا لا يعرف مداه، وأفضت الفجوة إلى بئر بما يعني أن المقبرة ما زالت موجودة بكل ما فيها، وأن عليهم أن يواصلوا الحكت بوسيلة أخرى.٤٨

•••

شعر مفتش التحقيقات — بعد أن استمع إلى رواية حسين علي عن معاناته، ومعاناة الأهالي، في البحث عن الكنوز — أن المهندس أصبح شيئًا تافهًا لا طعم له، بمحاولاته الساذجة لترقية أهل الجبل، «القاهرة تحوَّلت في عيني إلى كتلة ضخمة من التفاهة، ليس فيها رجال، وليس فيها مشاكل، فيها ضجة حمقاء، وصخب أبله، هذه هي القاهرة، وإدارة التحقيقات، حيث يجلس الموظفون على المكاتب، وأمامهم ملفات ضخمة فيها أوراق كثيرة يقلِّبونها ويؤشِّرون عليها، ما معنى ما يصنعونه في إدارة التحقيقات؟ كل ما يعرفونه أن مثل هذا الرجل الذي يجلس أمامي، حرامي، حسين علي حرامي، ما أشد غباءهم وبلاهتهم، كأنهم يقولون: الجبل حرامي، هل هناك غير المجانين يتهمون الجبل بالسرقة؟»٤٩
«… إنه يجهل أن العلم وحده هو الذي أفضى إلى هذا العلاج الأحمق للمشكلة، بناء قرية نموذجية، يعيشون فيها بغير عمل، كأن الرزق سيسقط عليهم من السماء، هذا هو ما اقترحه العلم، بيوت نظيفة فيها مراحيض و«سيفونات» وسكان فقراء لا يملكون قرشًا يشترون به طعامهم، ولا يملكون ظروفًا تتيح لهم العمل.»٥٠
أيقن المفتش أن الحكومة أقامت المشروع، وأنفقت عليه الأموال، دون أن تفكر في عملٍ يقوم به أهالي الجبل، بعد نزولهم إلى القرية،٥١ شعر أن عمله — كمفتش للتحقيقات — هو طمس الحقائق، وتحويلها إلى مجرد أسئلة سخيفة، يجب أن يراعي فيها عدم الدخول في التفاصيل التي تمس الأميرة، والنقد الذي يوجهه أهل الجبل إلى القرية النموذجية، كمشروع يحظى برعايتها.٥٢
عاد المفتش إلى القاهرة، ودفع بتقريره إلى مدير التحقيقات، يؤكد أن حسين علي — كاتب الشكوى — سافر إلى الواحات، وأن اختلاسات القرية النموذجية تحتاج فحسب إلى مفتش إداري، وانقطعت صلته تمامًا بأهل الجبل، وإن ظلَّت الأسئلة تناوشه عن مصير القرية النموذجية، والناس الذين عملوا فيها ورفضوها، حتى قرأ — ذات يوم — عن عدول الحكومة عن مشروع القرية النموذجية، وإسكان الأهالي فيها «لقد انتصروا، وأثبتوا في انتصارهم فشل كل مشروع يقوم من أجل أسبابٍ لا صلة لها بالإصلاح الحقيقي، ما أكثر المشروعات البراقة التي تتخذ قناع الإصلاح، ثم يتضح أنها قامت من أجل مصلحة شخصية، أو مجد شخصي، أو فكرة خاطئة، أو محاولة ساذجة لتقليد أوروبا وأمريكا، الإصلاح يجب أن يكون للإصلاح، يجب أن يكون لمصلحة الذين يُعَد من أجلهم المشروع الإصلاحي، وهذا هو آخر ما فكر فيه مَن قاموا بمشروع القرية النموذجية.»٥٣
وحين تأسر المحقق طبيعة أبناء الصعيد الواضحة الطيبة، فإنه يتذكر القاهرة، تحوَّلت في عينيه «إلى كتلة ضخمة من التفاهة، ليس فيها رجال، وليس فيها مشاكل، فيها ضجة حمقاء وصخب أبله.»٥٤ ويقول الراوي عن التجربة التي عاشها بين أبناء الجبل إنها كانت مريرة، صادمة، وبدَّلت الكثير من الأفكار في رأسه إلى مجرد سخافات «فكل شيء كنت أصدقه، وأومن به كوسيلة لإصلاح مجتمعنا، تبخر من رأسي كما يتبخر الماء من آنية تغلي فوق النيران.»٥٥

يشير يوسف الشاروني إلى أن الاختلاف بين «يوميات نائب في الأرياف» و«الجبل»، أن محقق «يوميات نائب في الأرياف» اتخذ موقف المتهكم على الحكومة والمحكومين على السواء، بينما محقق «الجبل» تهكم على ممثِّلي السلطة لينضم إلى المتهمين، وكانت نتيجة هذا الاختلاف أن محقق «اليوميات» لم يحصل على أية معلومات بالنسبة لقضيته، بينما حصل محقق «الجبل» على كل الاعترافات المطلوبة، بل وخلفيتها النفسية والاجتماعية، لكنه لم يُبلِغ رؤساءه منها شيئًا.

ربما يعود هذا الاختلاف — في تقدير الشاروني — إلى أن الحكيم استلهم أحداث يومياته من ريف مصر ما بين عامَي ١٩٢٩م و١٩٣١م، بينما أحداث رواية «الجبل» وقعت عام ١٩٥١م «وهو العام الذي كانت مصر تغلي فيه على النظام الملكي، فلم يكن مستغربًا أن كثيرين ممن كانوا يمثِّلون السلطة الحاكمة قد انضمُّوا إلى الشعب، ولم يكن المحقق فتحي غانم سوى واحد من هؤلاء.»٥٦
بحث توفيق الحكيم بين الفلاحين — كمحقق في «يوميات نائب في الأرياف» — عن المجرم، وسعى إلى مقابلة الشهود ليستمع إلى شهاداتهم، لكنه انتهى إلى استحالة القبض على المجرم، وسماع اعترافاته، أو كسب ثقة الشهود، ليدلوا بشهاداتهم، ثم استطاع المحقق في «الجبل» أن يحصل على اعترافات، وأن يسجل شهادات، وإن مثَّلت غربة أهل الجبل حاجزًا بينه وبينهم.٥٧

•••

يقول العمدة لمفتش التحقيقات، ممثِّل السلطة في القاهرة: «أنا لا يهمني المهندس، ولا الحكومة، ولا الملك كمان.»٥٨ ويؤكد: «أنا ما خفش من حد، أنا جُلت الكلام ده جُدام الأميرة أخت الملك.»٥٩
وقد أظهر العمدة — في لحظة لقائه الأولى بالمهندس — شكَّه فيه، وتوجسه من زيارته للقرية؛ سأل، ودقق، ودفع المحقق إلى حلف اليمين أنه ليس مدسوسًا على الناس.٦٠

ولما علا الرنين الغريب، المرتقب، الذي يشي بوجود الكنز، فإن الرجل أدرك أن اللحظة الحاسمة قد حانت، التهاون، أو التردد — أي فقدان السيطرة على أعصابه، وعلى الرجال من حوله — سيؤدي إلى كارثة تُضعِف هيبته وكلمته، ويقتتل الرجال، وتدور بينهم معركة رهيبة، ربما لا ينجو منها أحد. وقال الرجل: أنا رايح يا رجالة أحرس الكنز، ح اجعد على بابه، محدش يجرِّب منه، لحد ما اجمعكم كلتكم بعد صلاة العشا الليلة الجاية، ونفتحه بإذن الله!

وبصرف النظر عن تكشف الرنين عن بئر مهجورة، فمن المؤكد أنه لولا شخصية العمدة القوية، الحنون، لارتفعت رءوس الرجال على الأعناق من قبل أن تهوي على الصخر بحثًا عن الكنز.

مثَّل العمدة نموذجًا مناقضًا لعشرات العُمَد الذين تزخر بهم الأعمال الأدبية «كنت أقول لنفسي: لو سألني أحد: ما هو تعريف الرجل الحقيقي في هذا العالم، سأجيبه على الفور: إنه عمدة هذا الجبل.»٦١ علَّمته الحياة أن يقسِّم الناس إلى غرباء وأصدقاء، أعداء وأقارب، ناس يكرههم وناس يحبهم.٦٢

كان الرجل أبًا لكل أبناء الجبل، حتى الكبار منهم، وهو يحرص أن يضع نفسه دائمًا في المقدمة من الأحداث التي يحياها الجبل، وعندما أقام المدرس حفل افتتاح القرية النموذجية، أصرَّ أن ينزل إلى القرية بمفرده، ويقابل الأميرة، يشرح لها وجهة نظر أهل الجبل، فلما لمح في عينها سخرية، هزَّها من كتفيها، وشتمها، ووقف يرقبها وهي تلجأ إلى شاطئ النيل مع أصدقائها، فهو إذن يختلف تمامًا عن ذلك العمدة النمطي الذي يخيفه ذكر اسم المأمور، ويرشي، ويرتشي.

لم يكن العمدة يعرف القراءة والكتابة، استعاض عن جهله بقدرة مذهلة على تبيُّن نيَّات محدِّثه، وحين عرف أن حسين على علاقة بالفرنسية، وحتى يعيده إلى نفسه، فقد اقترح عليه الزواج، ورشَّح له أخت الشيخ طلباوي، ووافق حسين تحت ضغط العمدة وحده، وقرأ الرجلان الفاتحة.٦٣ وكما أشرت، فقد شكَّ العمدة في المهندس في أيام لقائهما الأولى، ودفعه إلى القسَم بأن يصيبه الله بالعمى والخرس والشلل إذا كان قد جاء إلى الجبل لهدفٍ غير الذي تحدث عنه.
ولكي يحرِّض العمدة أهل الجبل على عدم مغادرة الكهوف، فقد لجأ إلى اختراع ما زعم أنه رآه في داخل الجبل من كنوز تعِد بهناءة المستقبل.٦٤ تحدَّث العمدة عن الولي الذي يأتي له في المنام، يحرِّضه على مواصلة البحث في كهوف الجبل، ثمة ما لم تصل إليه أيدي الأجداد، ويزخر بالكنوز التي لا حصر لها،٦٥ منَّى كل واحد من أهل الجبل نفسَه بنصيبٍ من تلك الكنوز، ومما يُحسَب انتصارًا للعمدة أن أهل الجبل الذين عملوا في بناء القرية، وتقاضوا أجرًا لذلك، ما لبثوا أن تركوا القرية بعد بنائها، ورفضوا السكنى فيها.٦٦

•••

اللافت أن مصدر الخطر على القرية الجديدة، وعلى تطوير الحياة في الجبل بعامة، كانت هي السيدة الفرنسية التي أقامت بين أهل الجبل، أعلنت حبها لهم، وتفضيلها لأسلوب حياتهم، وعملت على أن يظلوا أسرى تلك الحياة حتى لا يتلوَّنوا بالفساد على حد قولها!٦٧ تبدَّى حرصها على أن يظل أهل الجبل أسرى التخلف في رفضها توصيل الكهرباء إلى القرية، فهي تهدد بتحطيم الأسلاك، ونسف الموتور، وعلى حد تعبيرها «مقاومة البشاعة التي جاءوا بها.»٦٨ يصِفها المهندس بأنها «هاربة من فرنسا، مش عايزة تعيش وسط المدينة، وبتقول إنها بتحب الناس البدائيين، وعايزاهم يفضلوا بدائيين، علشان ما يتلونوش بالفساد، بتعلِّم نسوان الجبل التطريز لأنهم شاطرين، وهما اللي عملوا لها العباية بتاعتها، وقدِّموها هدية لها.»٦٩
أمضت المرأة في الجبل — مع زوجها — سنوات، ثم رافقته إلى فرنسا، وعادت وحدها، لأنها — كما قالت — لم تتحمَّل الحياة في بلدها، وقطعت صلتها بكل ما يربطها به، حتى زوجها، واستأنفت مع أهل الجبل بحثهم عن الكنوز،٧٠ ولأن الفرنسية العجوز وضعت الشرق الذي تتصوره — وتريده — في إطارٍ محدد، فهي تجد في مباني الجرنة إفسادًا للطبيعة، وتفضِّل أن يعيش الأهالي في كهوف الجبل، حتى لا تُفسِدهم المدنية على حد تعبيرها، وتؤكد المعنى بأنه من الأفضل إنشاء هذه القرية النموذجية في القاهرة.٧١ وكان بديهيًّا أن يتخيل المحقق المصري الشاب حال القاهرة وكل بناياتها من الطين اللبِن، ويبدي عجبه: كيف يفكر مخلوق في أن الحياة على هذا النحو تكون حياة سعيدة؟٧٢
تساءل المحقق، بينه وبين نفسه: ماذا يعمل أهل الجبل لو أنهم تخلَّوا عن الحياة في الكهوف، وهبطوا إلى القرية النموذجية؟٧٣

ثم أدرك المحقق — بتوالي الأحداث — أن إصرار الفرنسية على أن يظل أهالي القرية أسرى البداوة، يخفي وراءه الرغبة في الحصول على الآثار المدفونة داخل الجبل.

ومع تعدُّد وصول الرجال إلى مقابر خالية من الكنوز، فإنها عند اكتشاف مقبرة غير مسبوقة لأحد الأشراف الفراعنة، أخذت ما كان بها من تماثيل مرمرية.٧٤
كذلك فقد حرصت المرأة على التقرُّب إلى نساء الجبل، بارتداء ملابس البدو،٧٥ وتقديم ما يطلبن من مساعدات، وعلاج عيون أطفالهن بالقطرة.٧٦ وعرف المحقق أن مهمة «الست الخوجاية» لا تقتصر على التمريض فقط، ثمة مَن يزورونها في الظلمة، أضافت إلى بحثها عن الآثار لتهريبها إلى الخارج، استمتاعها بفحولة رجال الجبل في زياراتهم الليلية لبيتها.٧٧
وحين مرِض أبو حسين، أهملت المرأة كل شيء، ولازمته في كهفه تعالجه، ونقلته إلى بيتها، وأرقدته على سريرها، ونامت هي على الأرض جواره، حتى زال المرض عنه.٧٨
رفض حسين علي ما عرضته المرأة من مال، وهَمَّ بقتلها، فأزمعت أن ترتدي ثوب الضعيفة المسكينة حتى يصفح عنها، فتعود إلى البحث عن كنوز جديدة.٧٩ رفض حسين أن يأخذ المال عندما عرضته عليه، وكان يستطيع أن ينتهز الفرصة، ويخفي جزءًا منه، بعيدًا عن الأعين، فيزيد من رصيده مقابلًا لما قد يحصل عليه العمدة وأهل الجبل «أية قوة خارقة فيه تجعله يرتفع فوق الحاجة إلى المال، إنها لا تفهمه، ما زال الرجل الذي ضمَّها معه سرير واحد، غريبًا غامضًا مبهمًا لديها.»٨٠

•••

أما الأميرة، فقد كانت حياتها مقتصرة على حفلات الرقص، والغناء، ومصادقة الرجال (هم غالبًا أجانب) واحتساء الخمر، وعندما طلب العمدة لقاءها، رحبت بلا تردد «شيء مسلٍّ أن نتحدث إلى واحد من هؤلاء المخلوقات.»٨١ كانت دائمة البحث عن مغامرة تحرك الملل الكامن في داخلها، وتثير في جسدها نشوة جديدة، ما تلبث أن تنطفئ، ليحل مكانها ملل، وتبدأ البحث عن مغامرة جديدة،٨٢ مع ذلك، فقد وجدت المرأة في العمدة — لما التقت به — قوة من الرجولة لم تعرف لها مثيلًا من قبل.٨٣

أخضعت كل مَن في الجبل، وكل ما فيه، لإرادتها، هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة، ولا يجسر — حتى المحقق الذي تبخَّر ما رسمه لنفسه — على أن يناقشها فيما تفعل، عرف أن وظيفته، وكل ما يستطيع القيام به، تضاءل؛ أصبح تافهًا أمام وجود الأميرة في الأقصر.

•••

مثلما كان فلاحو «عودة الروح» و«يوميات نائب في الأرياف» يعيشون مع البهائم، تحت السقف نفسه، ويأكلون، وينامون، فقد كان أهل «الجبل» يعيشون بالكيفية نفسها.٨٤
ولما تبادل الراوي الحديث مع أحد أبناء القرية حول طبيعة المساكن، برَّر الرجل رفض أهل الجبل أن يتركوا بهائمهم بعيدًا عن البيوت بالقول: «كيف أنام والحمار بعيد عني؟ مَن يحرسه؟ والمهندس؟ والله ما كانت تمر عليه ليلة إلا وألاقيه مسروج.»٨٥
تدخَّلت الزوجة، وأبدت نقدًا فنيًّا حول هندسة مباني القرية النموذجية، فالقباب لا تُعرَف إلا في المقابر، فلماذا يصر المهندس على إسكانهم داخل مقبرة؟ وتمنَّت لو كانت الحكومة نقلت إليهم الماء من النهر، بالتكاليف نفسها التي أنفقتها في بناء القرية النموذجية التي لن يسكنها أحد!٨٦ واقترحت المرأة أن تتحوَّل القرية النموذجية — بتصميمها ذي القباب — إلى مقبرة لأهل الجبل، فتتحقق الفائدة منها في النهاية.٨٧

المرأة في الجبل — كما يقدِّمها الفنان — ذات شخصية قوية، فعلى الرغم من شخصية العمدة القوية، المسيطرة، فإنه يواجَه باعتراضٍ من امرأة ذات وجه وسيم، وعينين واسعتين، جميلتين.

– جلت إيه يا عمدة؟ إوعى يكون بيضحك عليك، ويكون من رجالة المهندس.

يقول العمدة في حنان أبوي: لا يا بت … أنا مكتِّبه اسمه وعنوانه، وأخدت عليه عهد الله إنه من مصر.

ولم تقتنع المرأة: مضيت له على حاجة؟٨٨

كان الشيخ طلباوي — شقيق زوجة حسين علي — هو الذي كتب الرسالة باسم حسين، لأنه الوحيد بين أهل الجبل الذي يقرأ ويكتب، مع ذلك، فإنه كان يجد في نزول أهل الجبل إلى القرية النموذجية فائدة لهم.

وإذا كان طموح شقيق مسعدة قد دفعه إلى الفرار من الجبل، والعمل في الحكومة، والتنكُّر لأهله، فإن طموح مسعدة — وهو لا يقل عن طموح شقيقها — قد أخذ وجهًا مناقضًا: تمسَّكت بالجبل، ورفضت عروض شقيقها، وتحدَّته كي لا تذهب إلى أسيوط «طموح الرجل جعله يهجر أهله، ويعيش في المدينة، ويتزلف للكبراء والأغنياء، وطموح المرأة جعلها تتمسك بأهلها، وتعيش في الجبل، وتحلم بالزواج من حسين أحسن شباب الجبل.»٨٩ بل لقد قررت مسعدة — حتى لا يغيِّب الأفق حسين علي — أن ترقب كهف حسين، وتحرسه، فإذا خرج منه تبعته، وإذا ابتعد عن الجبل، ومضى إلى الأفق الذي يختفي وراءه الرجال، صرخت، واستغاثت بالرجال ليلحقوا به، ولن تدعه يفلت أبدًا، وحين ناداه العمدة، لم تطالبه بضرورة الإسراع بالزواج منها، ولم تشعر بقلق أو خوف، كأنها مطمئنة تمامًا إلى أن مصيره إليها.٩٠
ولَكَم كان الراوي معجبًا بإصرار أخت الشيخ طلباوي على البقاء في الجبل، برغم فقرها، حتى لا تكون خادمة لزوجة شقيقها.٩١

•••

ثمة ملامح بيئية تطالعنا في الجبل: أن البعض من أهله يترك موضعه، ويمضي ماشيًا على قدميه، أو راكبًا في مركب نيلي، فيستقر في إحدى المدن، ويعمل في بناء البيوت، وقد يتزوج امرأة أخرى، وينسى زوجته الأولى وأبناءه، وينسى أهل الجبل.٩٢ وكانت الفتيات الصغيرات يضفِّرن شعورهن في ضفائر كثيرة، قصيرة، منسدلة على الوجوه، نفس تسريحة الشعر الفرعونية التي نراها في صور الملكات.٩٣ أما أطباق القش الملون، فإن الفتيات الصغيرات يقمن بصنعها، وكلما زادت أطباق الفتاة، زادت فرصتها في الزواج، وأقبل عليها الخطَّاب من شباب أهل الجبل.٩٤ وكان أهل الجبل يقضون حاجتهم في الخلاء، يجلسون القرفصاء، الرجال في ناحية، والنساء في ناحية أخرى، تأخذ الجلسة هيئة الحلقة، يتسامرون، ويقضون حاجتهم.٩٥

وكان للجبل أغنياته المرحة، فأبو ليلة يغني في الأفراح:

وانا نايمة يا زوزو … وانا نايمة … زحلق المناديل … وانا نايمة … وانا وانت في الناموسية … بيني وما بينك … جارية وحبشية … آه يا حبيب … واضحك شوية … أحسن أسيبك … وتني قايمة.٩٦

هوامش

(١) محمد أبو المعاطي أبو النجا، قراءة نقدية في «قليل من الحب، كثير من العنف»، العربي، يناير ١٩٨٨م.
(٢) فتحي غانم، الجبل، الكتاب الذهبي، روز اليوسف، ١٩٥٩م، ٥.
(٣) من حوار مع حُسن شاه، مجلة «الجيل».
(٤) الجبل، ٨.
(٥) المصدر السابق، ١١.
(٦) السابق، ٧.
(٧) السابق، ٩.
(٨) السابق، ٢٤.
(٩) السابق، ٢٤.
(١٠) السابق، ٩٥.
(١١) السابق، ١٨.
(١٢) السابق، ٤٥.
(١٣) السابق، ٧١.
(١٤) السابق، ٤٦-٤٧.
(١٥) السابق، ٤٥.
(١٦) السابق، ٤٦.
(١٧) السابق، ٤٤.
(١٨) السابق، ٤٠.
(١٩) السابق، ٣٩.
(٢٠) السابق، ٥٠.
(٢١) السابق، ٥١.
(٢٢) السابق، ٥٢.
(٢٣) السابق، ٧٩.
(٢٤) السابق، ٥٥.
(٢٥) السابق، ٥٤-٥٥.
(٢٦) السابق، ١٨٢.
(٢٧) السابق، ٤٤.
(٢٨) السابق، ٤٣.
(٢٩) السابق، ٣٨.
(٣٠) السابق، ٣٩.
(٣١) محمد عودة، سبعة باشاوات، روز اليوسف، ١١٦.
(٣٢) المرجع السابق، ١١٧.
(٣٣) السابق، ١١٧.
(٣٤) الجبل، ٧٣.
(٣٥) المصدر السابق، ١١٠.
(٣٦) السابق، ١٠٩.
(٣٧) السابق، ١٠٩.
(٣٨) السابق، ١١٢.
(٣٩) السابق، ١١٥.
(٤٠) السابق، ١١٦.
(٤١) السابق، ١١٨.
(٤٢) السابق، ١٢١.
(٤٣) السابق، ١٢٢.
(٤٤) السابق، ١٢٣.
(٤٥) السابق، ١٢٦.
(٤٦) السابق، ١٣٧.
(٤٧) السابق، ١٤١.
(٤٨) السابق، ١٤٩.
(٤٩) السابق، ١٥٠.
(٥٠) السابق، ١٥٠.
(٥١) السابق، ٨٩.
(٥٢) السابق، ٨٩.
(٥٣) السابق، ١٨٩.
(٥٤) السابق، ١٣٤.
(٥٥) السابق، ٥.
(٥٦) الأهرام، ٤/ ٣/ ١٩٩٤م.
(٥٧) فتحي غانم، مقدمة رواية «انفجار جمجمة» لإدريس علي، المجلس الأعلى للثقافة، ٩.
(٥٨) الجبل، ٧٨.
(٥٩) المصدر السابق، ٧٨.
(٦٠) السابق، ٦٨.
(٦١) السابق، ٨٨.
(٦٢) السابق، ٩٢.
(٦٣) السابق، ١٣٢-١٣٣.
(٦٤) السابق، ٤٥.
(٦٥) السابق، ٥٢.
(٦٦) السابق، ٤٤.
(٦٧) السابق، ٣٧.
(٦٨) السابق، ٣١.
(٦٩) السابق، ٣٧.
(٧٠) السابق، ١١١.
(٧١) السابق، ٣٤.
(٧٢) السابق، ٣٤.
(٧٣) السابق، ٧٤.
(٧٤) السابق، ١٠٨.
(٧٥) السابق، ٣٠.
(٧٦) السابق، ١١٠.
(٧٧) السابق، ٥٩.
(٧٨) السابق، ١٠٨.
(٧٩) السابق، ١٥٥.
(٨٠) السابق، ١٥٦.
(٨١) السابق، ٨٤.
(٨٢) السابق، ٨٤.
(٨٣) السابق، ٨٥.
(٨٤) السابق، ٧٦.
(٨٥) السابق، ٧٧.
(٨٦) السابق، ٧٧.
(٨٧) السابق، ٧٧.
(٨٨) السابق، ٦٩.
(٨٩) السابق، ١٦٦.
(٩٠) السابق، ١٦٩.
(٩١) السابق، ١٣٣.
(٩٢) السابق، ٤٦.
(٩٣) السابق، ٧٥.
(٩٤) السابق، ٧٦.
(٩٥) السابق، ٩٢.
(٩٦) السابق، ١٠٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥