فساد الأمكنة

مع أن البداوة هي أقدم نمط اجتماعي للحياة عرفه الإنسان،١ فإن تأثير البداوة على قيم العصر ظلَّ كبيرًا وواضحًا، وحين كتب صبري موسى روايته «فساد الأمكنة»، فإن البادية كانت غائبة — أو تكاد — في الأعمال الأدبية المصرية.
أهمية تناول الصحراء في عمل روائي، تكمن في أن مساحة البلاد الأرضية تبلغ حوالي مليون كيلومتر مربع، أي حوالي ٣٤٠ مليون فدان، جملة المساحة المنزرعة فيها ٦ مليون فدان، بنسبة ٣٪، يعيش عليها الغالبية من سكان مصر، بينما باقي مساحة البلاد، وقدرها ٩٧٪ صحراء.٢ ولغلبة المساحة الصحراوية على الأرض المصرية، فإن المناطق المأهولة تُعَد واحات تكتنف الصحاري، أهمها الواحة الكبرى، وهي حوض وادي النيل، ثم مجموعة الواحات المتناثرة في الصحراء الغربية، فضلًا عن تلك المناطق التي تعانق الساحل في الصحراء الشرقية.

ولا شك أن شخصية المواطن البدوي المستقل قد بدأت تغيب شيئًا فشيئًا، لتحل بدلًا منها شخصية المواطن القومي الذي يَدين بالتبعية للدولة لا للقبيلة، ويخضع لقوانين عامة تسري على كل مناطق الدولة.

في المقابل، فإن تأثير البداوة على قِيَم مجتمعنا المعاصر لا يزال واضحًا وسائدًا، حتى في المدن والعواصم، برغم أنها — كما يقول محيي الدين صابر — «أقدم نمط اجتماعي للحياة عرفه الإنسان.»٣

من هنا، تكتسب «فساد الأمكنة» بُعدًا اجتماعيًّا مهمًّا، يُضاف إلى أبعادها المتفرقة، الشكلية والمضمونية، الأخرى.

•••

في مارس ١٩٤٤م قصد الملك فاروق باليخت الملكي الخاص «فخر البحار» إلى البحر الأحمر، في رحلة بحرية، عقب شفائه من حادث السيارة الذي حدث له، وعودته إلى القاهرة من القصاصين.

التقطت عين الفنان خيط الرواية في ليلة قضاها الرحالة — الفنان نفسه — في جبل الدرهيب بالصحراء الشرقية، قرب حدود السودان عام ١٩٦٣م (بداية الرواية في مطالع الأربعينيات) ثم التقى الفنان والرحَّالة لعدة أعوام، في إقامة متفرغة حول الدرهيب، أثمرت — في ١٩٧٠م — هذه الرواية.

بعين الفنان، تتحدد رؤية صبري موسى إلى ما يطالعه من ناس وطبيعة وأشياء، وبعين الفنان يقتحم الذات البشرية، يتلمَّس أبعادها، ويحلل جزئياتها، ويعرض لآلاف المشاعر التي تنبض بها ذات الإنسان الواحد.

كانت الصحراء الشرقية — ومنطقة الدرهيب على وجه التحديد — هي محور الرؤية لعين الرحَّالة، وكان الخواجة نيكولا محور الرؤية لعين الفنان، لكن الحدود بين الرؤيتين ليست فاصلة أو قاطعة، ربما ساق الانبهار باكتشاف المكان الجديد عين الرحَّالة إلى الالتقاط والمتابعة والتسجيل، فيَرين على «الأمكنة» صمتٌ يخلو من الحركة والصوت، كأنه فيلم تسجيلي، خلفيته الوحيدة موسيقى هادئة، وتغيب الأصوات التي تصادق الأذن في فصول الرواية إلى حد التلاشي: نيكولا، وإيسا، وعبد ربه كيشاب، وأنطون، وأبشر، وغيرهم، يغيِّبهم الرحالة في أحد كهوف الدرهيب — لفترة — يكتفي في سطورها بأن تكون الطبيعة من حوله، وبدايات التاريخ، وتوقعات المستقبل، هي النبض الواحد المتصل.

ثم يكتشف صبري موسى غياب أبطاله، فيلتقطهم الفنان من الكهف المنفَى، ويدفع بهم إلى الصحراء، يكملون ما قد يكون نسي من أحداث الرواية.

نيكولا المأساوي هو بطل الرواية، لكن هذه ليست صفته الوحيدة، إنه أيضًا — والصفات ثياب ألبسها الفنان بطله من خلال تصاعد الأحداث — نيكولا الطيب، والعجوز، والمتحضر، والغريب، والعبيط، والوقور، والقوي، إنه نيكولا الإنسان الذي وُفِّق الفنان في أن يغادر به أسوار النمطية، وأن ينزع قناع اللحظة الواحدة عن آرائه وتصرفاته ومشاعره.

ولعل تلقي نيكولا لكل ما يحيط به بدهشة الطفل، هو تلقَّي الفنان ذاته؛ فعنايته واضحة بالجزئيات والتفاصيل والألوان والظلال، والسرد يتغلَّب على الحوار بصورة لافتة. وثمة حرص من الفنان أن يترك لقلمه التعبير، بالسرد، عما في نفوس أبطاله، بدلًا من أن يترك لشخوصه أن يعبروا — بالحوار — عن أنفسهم.

وإذا كان نيكولا أوروبيًّا، فإن جذور الأصل قوقازية، تنتسب إلى الشرق بعاداته وتقاليده ومعتقداته، وكانت تقاليد الشرق هي الحائل الحقيقي بين نيكولا وطلب زوجته أن يضرب أباها على مؤخرة رأسه، ليرث الزوجان رأسمالًا ممتازًا، يصنع لهما، ولابنتهما، مستقبلًا طيبًا. وتواصَلَ نيكولا مع الجذور الشرقية الأولى، ليتلمَّس مستقبله بين أنقى الأصوات تعبيرًا عن الشرق: بدو الصحراء الشرقية، أقارب نيكولا وأصهاره القدامى — والكلمات للرحَّالة الفنان، أو الفنان الرحَّالة — الذين يرجح الرواة أنهم — في الأغلب — من سلالة كوش بن حام، الذين هاموا على وجوههم بعد الطوفان — «كانوا وثنيين إلى أن جاء الإسلام، فاعتنقوه، لكنهم ظلوا على بداوتهم، ولغتهم، ليكونوا جديرين بذلك العناد التقليدي المشهور عنهم.»

فعلى الرغم من قسوة الحياة في الصحراء، وجدب الوديان معظم الحول، وجفاف الآبار، إلا أنهم ظلوا لاصقين بصخور هذه الجبال في إصرار، يتكاثرون فيها، وينقسمون إلى فروع وقبائل، منها البشارية والعبابدة والبوجوس وبنو عامر، يتناثرون حول الآبار والعيون الباقية على حالها من زمن الفراعنة، أسلحتهم سيف طويل، ودرع، ورمح أو خنجر، وسيفهم مصنوع مثل سيف أسير من الحروب الصليبية، يوسدون رءوسهم حينما يفترشون الأرض للنوم وسادة من خشب الشجر، مصنوعة على غرار وسادة توت عنخ آمون الذهبية، ويهيمون بين الجبال وراء الإبل والغنم والعنز، ويشدُّون خيامهم التي تصنعها نساؤهم من سعف نخيل الدوم، في مناطق الرعي على السهل الساحلي، من بئر الشلاتين في أرض مصر إلى حدود مملكة السودان، ويقعون أمامها، يسوون الخبز على الصخور، ويرشفون القهوة السوداء المغلية، بينما ترعى الإبل نصيبها من نبت الصحراء العزيز الشحيح. وفي المواسم يرسلون القوافل إلى السودان جنوبًا، أو قنا غربًا، فتبيع الإبل والغنم، وتشتري البقول والتبغ. يتصل النجع بالنجع، ويتحلَّق الرجال في شبه دائرة، ويتفقون على المطلوب بيعه من الدواب، والمطلوب شراؤه من التموين والزينة، ثم يتهيَّأ المندوبون فيتسلمون مقاود الإبل، ويقودون القافلة عبر الدروب المطروقة التي سوَّاها أجدادهم القدامى بسعيهم المنتظم بين الجبال، فيصلون قنا على النيل في خمسة أيام، ويصلون جبال علبة المطلة على مشارف السودان في تسعة أيام، أو عشرة.

وعندما يقترب ميعاد العودة، يخرج البشارية والعبابدة وغيرهم ممن بقي بالصحراء، للقاء القافلة، يرصدون الأفق، عساهم يلمحون القافلة وهي تعود، يكون الحرمان قد أضناهم، والشوق إلى الأشياء القادمة من وراء عالمهم يحرك فضولهم، حتى تجيء القافلة، فيقيمون الأفراح داخل نفوسهم الشجاعة، الصبورة، ويطربون، وتصبح الصحراء حضورًا كاملًا إذا جاءت القافلة بالسجائر والعطور والبقول والحلاوة.٤

•••

مثل الشخصيات الأسطورية — وإن كان به ضعف إنساني واضح، ومثير — يطالعنا نيكولا فوق قمة جبل الدرهيب، يعانق الشمس مصلوبًا كأنه المسيح. قدِم إلى المنطقة غريبًا، ومغامرًا، ينشد المستقبل الأفضل، لكن أصوله القوقازية كانت تشدُّه إلى المكان بوشائج قديمة، بل لعل السكان هم أهله وأقاربه وأصهاره القدامى.

نيكولا أوروبي النشأة، وإن كانت أصوله القوقازية تنتسب إلى قِيَم الشرق، ومعتقداته، وخصائصه الحضارية. ربما اكتسب من ذلك تلقيه — بدهشة — كل ما يراه ويحيط به، وربما كانت تلك الأصول هي الباعث لأن يرفض طلب زوجته بأن يضرب أباها على مؤخرة رأسه، حتى يرث الزوجان الشابان ما يؤمِّن المستقبل لهما، ولطفلتهما، وربما أتاح له ذلك أيضًا أن يطمئن إلى حياته الجديدة، وأن تتواصل فيها أيامه، فضلًا عن أن ناس المجتمع الجديد لم يلفظوه، مثلما فعلوا مع الكثير من الغرباء الذين وفدوا إلى المنطقة، وإنما أتاحوا له أن يمتص عاداتهم وتقاليدهم وقيمهم وما يعانون، جرَّب فقدان الطريق، والسير بلا هدف، حتى يطالعه الموت في الأفق القريب، وتفهَّم حصول «إيسا» على السبيكة الذهبية — مع عزمه أن يعيدها — ليذهب إلى الجبل المقدس، ويقف أمام الصخرة التي كانت — في الأصل — جسدَ جده الأكبر «كوكا لوانكا»، ليشهد الجد على أن الأحفاد — رغم كل ما يفعله الأجانب — هم أصحاب السيطرة على مقدراتهم، وعلى الصحراء، كذلك فإنه لم يدَع لدهشة الطفل أن تغيِّب عنه الحكمة في أن يعبر «إيسا» — منقذه وصديقه — النار ماشيًا ثلاث مرات، دون أن يحاول الدفاع عن نفسه.

ثم تأكد انتصار الصحراء في نفسه، لما قدِمت زوجته إلى القاهرة، وحاولت إقناعه بأن يعود معها إلى أوروبا، لا ليبدأ من جديد، وإنما ليدير مشروعات ناضجة بالفعل، لكنه كان قد أصبح واحدًا من هؤلاء الذين يجدون حياتهم في الصحراء: «ومن خلال العناق الحار، والقبلات المهموسة، والخافتة، طلب نيكولا من إيليا أن يعود معها ليكون ملكًا على كل مشروعاتها الناجحة، وأدرك أنهما قطبا صراع لا يلتقيان، ولم يكن الصراع لائقًا بمشاعرهما التي يبذلها كلٌّ منهما للآخر بعد هذا الفراق الطويل، ولم تكن بعدُ قد استنفدت كل أسلحتها.»

لقد خصصت لهذه الرحلة قدرًا كبيرًا من آمالها، وكان في تقديرها أن سعيها لن يخيب، وأن هذه السنوات الماضية قد تكفي لتملأ الشعور المجوف داخل نيكولا، الذي يدفعه للهجرة، فيهدأ، ويعود. حدَّثها نيكولا عن أحلامه العريضة في الدرهيب العظيم، وعن الصحراء والجبال والبدو والأشجار المزيَّنة بقطع النقود القديمة، وعن الحفر والتفجير والسراديب العميقة التي تُخرِج الخامة التي تُصنَع منها مساحيق النساء، قال لها «إنه يقوم بما يجب على الرجال أن يقوموا به، وإنه ينوي أن ينشئ في تلك الصحراء مدينة تليق بملكٍ حقيقي، لكن أحلامه كانت مغايرة لأحلامها.»٥
أصبح نيكولا — بتوالي الأشهر والأحداث — شرقيًّا خالصًا، أو بدويًّا خالصًا، جرَّب الموت في الصحراء، حين يفقد الإنسان طريقه، وتدفعه غريزة البقاء إلى السير بلا هدف حتى يغلبه العطش، وتتحوَّل المرئيات إلى ضباب، ولا تقوى قدماه على السير. يومها قال نيكولا لنفسه: لقد فعلت ما استطعت فعله، وليس لديَّ أي أمل الآن سوى أن أموت في هدوء.٦

لكن قطرات الماء التي صبَّها إيسا في فمه — وكان قد عثر عليها قبل أن يخلد إلى الموت — أعادته إلى الحياة، وكانت تلك الحادثة رباطًا جديدًا شدَّه إلى «إيسا»، وإلى أهله القدامى، والجدد. واتصلت دروس إيسا لنيكولا، فبعد أن أسفر حصاد العامين من التنقيب عن سبيكة ذهبية كبيرة، تذكَّر إيسا قول أبيه أبشر: الذهب للأغراب، ولأهل المكان ملء بطن أو بطنين!

كان هؤلاء الأغراب الذين قدموا إلى الصحراء منذ عامين بالبساطة والتواضع، قد أبانوا عن نزعاتهم المسيطرة، بدا كأنهم قد امتلكوا الجبال فعلًا.

قرر إيسا أن يأخذ السبيكة، وقرر — في اللحظة نفسها — أن يعيدها، ثم صحب ثلاثة من رفاقه في رحلة مضنية، إلى الجبل المقدس علبة. ووقف على أعتاب الجبل الذي يضم مغارة، في داخلها صخرة كانت — في القديم — جسد جده الأكبر «كوكا لوانكا» الذي أخلص للصلاة والعبادة، حتى تحوَّل جسده، شيئًا فشيئًا، إلى واحدة من صخور الجبل، بينما انطلقت روحه تحفر قمة الجبل، وتفجرت منها ينابيع المياه، لتحفظ الحياة على الأبناء والأحفاد.

أخرج إيسا السبيكة من صدره، فأقامها على صخرة، كأنه يُشهِد الجد على أن الأحفاد — رغم الأجانب وعمال الصعيد والدلتا — ما زالوا يملكون السلطان على الصحراء، وهكذا كان يفعل كل أبناء الصحراء من بشارية وعبابدة وغيرهم، ولأن السرقة ليست من شِيَم البدوي وأخلاقه، فقد حكى إيسا لجده ما فعله بالتفصيل، ثم رفع السبيكة بين يديه كأنه يقرِّبها من عينَي جده الصخريتين، وناشد الجد بركته ورضاه، ثم بدأ رحلة العودة إلى المنجم، يتبعه رفاقه.

ظل البدو — بعد اكتشاف مناجم الصحراء — سكانًا لها، لكنها أصبحت ملكًا خاصًّا للأجانب، ولم يعُد في استطاعة المواطن المصري أن يبتعد في الصحراء، بعد مصر الجديدة، أكثر من أربعة كيلومترات، إلا بتأشيرة عبور من سلطات الاحتلال الإنجليزي، ثم أنشأت تلك السلطات فِرقًا من الهجانة لحماية الحدود من عمليات التسلُّل والتهريب، وهو هدف ظاهري، ولدرء هجمات البدو المصريين على الشركات الأجنبية التي انتشرت في الصحراء بحثًا عن موارد الطبيعة، وهو الهدف الحقيقي. وكما تقول الرواية، فإنه لم تحدث في الجبال — يومًا — سرقة يُعتَد بها، منذ سطا أفراد قبيلة «المعازة» على قوافل المحمل في عهد محمد علي، لكن الحملة التأديبية التي بعث بها الوالي، استطاعت أن تستعيد كل ما كانت تحوزه الحملة قبل أن يبدِّدها التقسيم بين أفراد القبيلة، وجمعت الحملة رجال المعازة ونساءها وأطفالها، ليُباعوا في سوق الرقيق بساحة القلعة.

من هنا، كان اختفاء السبيكة الذهبية حادثًا خطيرًا، قامت له الصحراء ولم تقعد، حتى التقى الهجانة بإيسا ورفاقه ونيكولا الذي أُنقِذ من الموت — في اليوم السادس — أثناء العودة، بعد أن صادفوا نيكولا في رحلة الضياع وسط الصحراء، وأنقذوه.

حكى نيكولا ما جرى له، بينما التزم إيسا صمتًا مفاجئًا غريبًا، وتوصَّلا إلى الحقيقة الغائبة، خطا إيسا على النار المشتعلة، ليتضح إن كان هو الذي سرق السبيكة فعلًا. وكان إيسا مؤمنًا بحكايات الأجداد، وكان مؤمنًا كذلك بما فعل «مدركًا بحسِّه الفطري أنه لم يغتصب حق أحد، وبهذا الحس الفطري نفسه، أمكنه أن يوائم جسده المدرَّب على المشاق المهولة، مع آلام النار الجامحة، فيجتازها مرة واثنتين وثلاثًا، أمام العيون المحملقة، ثم يخرج منها سالمًا، فيجمع نعليه، ويرتمي على الأرض، مادًّا قدمَيه في وجه الجميع، كأنه يُشهِدهم على براءته.»٧

لم ينس نيكولا — إلى آخر العمر — أن منقذه وصديقه إيسا، قد عبر النار ماشيًا ثلاث مرات أمام عينيه، وكان باستطاعته أن يدافع عن نفسه منذ البداية، بدلًا من أن يلتزم الصمت. وبدأ رحلة متشوفة في حنايا الجبال ودروبها، ليتعرَّف إلى أقربائه القدامى: أبناء عمومته وأبناء خُئولته وأصهاره. وكان نيكولا الشرقي — وقد بحثت عن الصفة بين غيرها من الصفات التي أطلقها الفنان على تلك الشخصيات المتميزة الفذة، فلم أجدها — كان نيكولا الشرقي هو الذي تلوث شرفه، حين أفقد الملك ابنته عذريتها، وكان هو الذي استسلم للحمى — بتأثير الصدمة القاسية — وهو الذي ترك ثمرة العلاقة طعامًا لطيور الصحراء وحيواناتها، وهو الذي أغلق على ابنته كهفًا غير مطروق، ليجتث المأساة، أشبه بما يفعله أبناء الصعيد وبدو الصحراء.

في المقابل من نيكولا، كان أنطون بك — الأوروبي النزعة — أسعد الناس بأن يُنسَب إليه ثمرة الليلة الواحدة بين زوجه والملك، وكانت الوصولية هي دين الخواجا أنطون، وهي حبه وأهله وحرفته ومبتغاه، ولم يكن يعنيه ما يردِّده الناس من كلمات لا وجود لها في الحياة، حياته هو في الأقل، ومن ثَم بدأ من خلال الطبقة الراقية، ثم تدرَّج إلى الجمعيات الخيرية، فتبرع، وشارك في حفلاتها الصاخبة، حتى حصل على البكوية بما لا تزيد قيمته عن ثمن ثلاثة أفدنة، وكانت البكوية هي السياج الذي يحميه ليحقق المزيد من الكسب، وكانت الصحراء اكتشافًا باهرًا، يهز له نيكولا الجبل، فتتساقط عليه ثماره في القاهرة.

وحين أودع الملك أحشاء إيليا الصغيرة جنين لذة، سعى لأن يكون جنين لذة الملك وليده وابنه، كان يعمل بحكمة موليير الساخرة التي جاءت في إحدى مسرحياته، حول عضة زوج شاركه الملك في زوجته: «ليت شعري، هل في مشاركة الأرباب من عار!»٨
تزوج إيليا، وأعطى الطفل اسمه، بل لقد أدهشه أن يقدِم نيكولا — ذلك الذي أثبت أن أصله القوقازي أقوى من ماضيه الأوروبي — على الانتحار، لمجرد أن جلالة ملك البلاد كلها قد فضَّ بكارة ابنته، فثمة عشرات الآباء من رجال المال والأعمال، وجدوا في استحواذ الملك على بناتهم — ولو لليلة — داعيًا من دواعي الرخاء والسعادة والشرف!٩

كان أنطون يحلم بالذهب، بينما نيكولا يحلم بالمعرفة في بحر التجوال. وعلى الرغم من أن نيكولا كان ينبهر دائمًا كطفل، فقد عاد إلى النهر الذي يصدر عن منبع أصوله الأولى، فعانق العادات والتقاليد، ولم يرفض المعتقدات الموروثة، حتى تلك التي قد تصل دهشته لها — ابتداء — إلى حد الرفض، وكان قدوم زوجه إلى القاهرة، وإصرارها أن يعود معها إلى أوروبا، آخر محاولة من المدينة لكي تعيده إليها، وطلبت الزوجة منه أن يعود معها ليكون ملكًا على كل مشروعاتها الناجحة، فأجاب على كلمات الزوجة بأن حدَّثها عن الصحراء والجمال والبدو والحفر والتفجير والسراديب والأحلام العظيمة، وزادت الصحراء من انتصارها، حين أصرَّت إيليا الصغيرة أن تظل مع أبيها في مملكته الواسعة.

•••

قدِم أنطون إلى الصحراء بكل مطامع الأجنبي، وكان الذهب حلمه الوحيد، حتى إنه يعرض — في إصرار — أن يتزوج الابنة التي بذر الملك في أحشائها جنينًا، فربما يجني شيئًا من تبني الدم الأزرق.

واستطاع أنطون أن يجني الكثير، فحصل على البكوية، وأسهم في المشروعات الخيرية التي عادت عليه بأضعاف ما دفع، ثم قدِم إلى الصحراء مدفوعًا بأحلام المغامرة، وبالبريق الذي يتوهج في صخور جبل الدرهيب، وكانت الصفات التي اكتسبها نيكولا — تلك التي تواصلت بجذوره الأولى — هي الباعث الحقيقي للمأساة التي تقلَّب في أتونها، منذ سلب الملك شرف ابنته، حتى أوقعه إحساسه الشرقي بالشرف فريسة الحمى، فتصور أنه هو الذي ضاجع ابنته، وأن الذي بدأ التحرك في أحشائها هو ثمرة العلاقة المشينة، فحمل الطفل — بعد ولادته — برغم أن أنطون المغامر أعطى المولود اسمه — إلى قمة جبل الدرهيب، ليصبح طعامًا لطيور الصحراء وحيواناتها، وأغلق على ابنته كهفًا غير مطروق، بديلًا لإقدام أبناء البدو والصعيد على قتل الفتيات اللائي يتعرضن لما تعرضت به إيليا الصغيرة، المسكينة.

انتهت المأساة بنيكولا إلى التفرد عن كل هؤلاء الذين وفدوا على الجبل، بحثًا عن الثراء والمغامرة — وربما الجديد في اللذة مثلما فعل الملك — لكن تلك طبيعة الأشياء، فهم قد جاءوا كثيرًا، ورحلوا كثيرًا، ودائمًا كان يبقى نيكولا مع الدرهيب وحده. «لقد هربوا، جميعهم هربوا» يقولها نيكولا محتدًّا، ثم يلين صوته، وترق نبراته، كأنه يحنو على جُبنهم وفرارهم، وكأنه موقن أن طاقته على الاحتمال فوق طاقتهم، وأنهم — في النهاية — أحرار مستقلون عن المكان، لا يشدُّهم إليه ذنب، أو تربطهم به خطية. فليس منهم من ضاجع ابنته في باحة هذا الجبل، على وسادة من صخور، وأولدها طفلًا، ثم سرقه منها وهي نائمة ليُطعِم منه الذئب والضبع، وليس منهم مَن قاد تلك الابنة في سراديب الجبل المظلمة، ودهاليزه الحارة، والباردة، ومضى يدفعها أمامه في مسيرة جنائزية، حتى تنتهي السراديب المطروقة، وتبدأ السراديب المهجورة، تلك التي لم تطرقها قدم من مئات السنين، فيتركها هناك بعد أن يغلق عليها كهفًا بانهيار صخري غادِر.١٠

تلاشى المأساوي نيكولا، ذاب في الطبيعة السادرة من حوله، أصبح مثل الجد الأكبر «كوكا لوانكا»، صخرة في جبل الدرهيب.

ولعله في الوقت الذي فقدت الصحراء ملامحها البريئة، وأودع جنين اللذة أحشاء الصغيرة إيليا، كانت السكينة المتواصلة قد غادرت الصحراء، وألقت الثورة بعض جذورها في التربة الصخرية، لتطرح ثمارها خلال أشهر من عناقها للمأساة.

•••

في «فساد الأمكنة» يغيب الفنان عن الصورة الظاهرة، فليس ثمة أمامنا، يتحرك، ويحلم، ويتأمل، ويقاسي، ويتعذب، إلا هؤلاء الرجال الذين عاشوا تلك السنوات في جبل الدرهيب: نيكولا وإيسا وعبد ربه كيشاب، فضلًا عن إيليا الرائعة التي دفعت طفلها ثمنًا لهواجس أبيها اللعينة.

نحن نغادر الرواية وقد عرفنا الكثير من الظروف التي قدمت بنيكولا إلى ذلك المكان القصي في الصحراء الشرقية، ومن المعتقدات الأسطورية التي لا يزال بدو المنطقة يحيَون أسارى لها، ومن الظلم المفجع الذي لم يجدوا لمقاومته حيلة، لكن التفهم الواعي لطبيعة العمل الروائي يسِم الأحداث — في تصاعدها، وفي تفصيلاتها الصغيرة وجزئياتها — بما يجعل من الأحداث المتناثرة، الموغلة في القدم، والآنية، والتي تصنع غدها، قطعة نسيجية متكاملة.

•••

تمثِّل قبائل العبابدة والبشارية نقطة وصل، أو نقطة التحام بشرية، بين مصر والسودان. إنهم يقطنون المنطقة الواقعة بين البحر الأحمر شرقًا، ونهر عطبرة، ثم النيل الأكبر غربًا، وتمتد من المنحدرات الشمالية للهضبة الحبشية في الجنوب، إلى مديرية أسوان شمالًا.١١
كان عدد أفراد قبائل العبابدة والبشارية — في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين — يبلغ مئات الألوف، وكانوا يحيَون حياة بدائية، فهم يرتدون ما يستر العورة وجزءًا بسيطًا من الجسد، ولا يقصون شعرهم، ولا يستحمون، ربما تقديرًا منهم لقيمة المياه التي يقطعون المسافات بحثًا عنها،١٢ طعامهم الأساس قليل من البلح واللبن، ويأكلون اللحم في المناسبات، ويعتمدون في رزقهم على الرعي الذي يمارسه حوالي ٨٠٪ منهم، بالإضافة إلى تجارة الأغنام والجِمال بين مصر والسودان،١٣ وأعداد قليلة يعمل أفرادها أدلاء للبعثات العلمية والجيولوجية، أو في صناعة الفحم، أو رفع الماء من الآبار الملوثة.
يتكلم معظم العبابدة والبشارية لغة خاصة هي لغة «البجا» التي تختلف تمامًا عن اللغة العربية، فيما عدا بعض الأعراب والمشايخ الذين استقروا في أطراف قنا وأسوان، فإنهم يتكلمون العربية إلى جانب لغة البجا. والبجا لغة تخاطب فقط، فهي ليست مكتوبة، ومن ثَم فإن تلك القبائل بلا تاريخٍ مدوَّن، بلا تراث، أو حضارة مكتوبة،١٤ وهم لا يعرفون الأوراق الرسمية، فلا قسائم زواج، ولا شهادات ميلاد أو وفاة أو طلاق، ولا بطاقات شخصية، أو عائلية، فيما عدا هؤلاء الذين قد يلتحقون بعملٍ تابعٍ للدولة.
مقابلًا لقسوة الحياة في الصحراء، فإن المرء يجب أن يتمسَّك بالفضائل التي تتوارثها القبائل، السيئ هو السيئ، والمخطئ: الكاذب، أو السارق، أو الزاني، يُواجَه من الجميع بالاحتقار، فإذا رغب في الزواج رفضته البنات،١٥ وإذا دخل مجلسًا، ووُزِّعت القهوة، صبَّ الساقي القهوة على الأرض أمامه، امتهانًا لشأنه، فلا يجد سبيلًا إلا أن ينصرف من المجلس لفوره، وربما رحل — مع جريمته — عن الصحراء كلها، بل إنه إذا غادر البدوي صحراءه إلى الوادي، وانصرف عن الرعي إلى الزراعة أو التجارة، وأراد مصاهرة أقاربه في الصحراء، قُوبِل طلبه بالرفض؛ فهو قد فرَّ من موطنه إلى أرض أخرى.
يقول الرحَّالة صبري موسى: «لقد غرست فيهم الصحراء شتَّى الفضائل، فأخذوا يشهرون من هذه الفضائل سلاحًا يواجهون به مخاطر حياتهم اليومية، فإن مئات الخطايا الصغيرة التي نرتكبها بسهولة ويُسرٍ في المدينة، ضد أنفسنا وضد الآخرين، تتراكم على قلوبنا وعقولنا، ثم تتكثَّف ضبابًا يغشى عيوننا وأقدامنا، فنتخبَّط في الحياة كالوحوش العمياء، فالمدينة زحام، والزحام فوضى وتنافس وهمجية، لكنهم في الصحراء قلة، والخطايا الصغيرة تصبح واضحة تطارد مَن يرتكبها، ويصبح ضبابها على النفس أشدَّ كثافة وثقلًا، بينما تحتاج دروب الحياة في الصحراء إلى بصيرة صافية نفَّاذة لتجنُّب أخطارها. إن الفضائل تمنحهم قدرة على الصفاء، فيمتلكون حسًّا غريزيًّا مشبعًا بالطمأنينة، يضيء في عقل البدوي حينما يضيع منه الطريق في رمال الصحراء الساخنة الناعمة، فيهتدي إلى طريقه، وتجعل قلبه يدق له إنذارًا بالخطر وهو نائم في ليل الصحراء السحري، حينما يقترب من جسده عقرب أو ثعبان.»١٦
والدين بُعد مهم في حياة العبابدة والبشارية، فالجميع يصلون، ويؤدون شعائر الإسلام، وإن قيل إنهم يصلون بالله أكبر والفاتحة فقط، فهم لا يحفظون شيئًا آخر من القرآن، ولا يحفظون التشهد.١٧

وعلى الرغم من التخلف الذي يحكم سيطرته عليهم، فإنهم — غالبًا — لا يؤمنون بالخرافات، والكي بالنار وسيلة أخيرة لعلاج الأمراض المستعصية، إن أعيتهم وسائل العلاج، أو أخفقوا في اللجوء إلى طبيب.

والأحكام التي يُصدِرها شيخ القبيلة لا بد أن تُنفَّذ، ولا يملك أحد المتقاضين زوالها، بل إن المُدان المحكوم عليه لا يستطيع أن يتهرب من تلك الأحكام، لأنه — لو حاول! — سيصبح مطارَدًا، يُعلَن اسمه في الصحراء، ويخشى الجميع إيواءه، حتى أسرته. أما القانون الرسمي، فليس ثمة ما يمثِّله، أو يدل عليه، إلا ذلك العسكري الشاب الذي يقف أمام كشكٍ صغير من الخشب، وبرميل فارغ، عند انحدار الجبل في حماطة بين برانيس وأبو غصون. أما حرس السواحل والبوليس والنيابة والقانون الفعلي، فإن إقامتهم في القصير، لا يغادرونها إلا إلى القاهرة، أو إلى حيث تستدعيهم محطة اللاسلكي اليدوي الصغيرة في مرسى علم.

والموت في الصحراء عادة، فهم يقابلونه بهدوء الذي يفطر بالشدائد، ويتغدَّى بها، وينام في الليل وكل حواسه عيون صاحية.

حاول إيسا ورفاقه أن يتفقدوا عمق أحد الآبار، فغيَّبهم البئر في داخله، وتحوَّل إلى قبر لهم جميعًا. وعلى الرغم من فداحة ما حدث، فقد أحس نيكولا «المتحضر» أنه يكاد يواجه الشعور بالفاجعة وحده، لكن الإيمان بالموت — كحقيقة — يفرض علينا أن نحترم طقوسه وشعائره، وكان لا بد أن تُؤدَّى الصلاة على إيسا والرجال الذين أصبح البئر قبرًا لهم، وانتهى الرأي إلى الاكتفاء بإلقاء صفيحة ماء في البئر لتطهير الموت، ثم تأدية الصلاة عليهم.

•••

مع أن نيكولا كان ينتمي — في أصوله الأولى — إلى هؤلاء البدو، فقد كان رد الفعل الطبيعي لقدومه إلى صحرائهم، ضمن قافلة محمَّلة بالمعدات، تبيِّن الخيام التي أقامتها عن نية في الإقامة، كان رد الفعل هو الرفض والنفور وعدم المشاركة، وحتى عندما حاول «الغرباء» أن يجتذبوهم — بالأجر — للعمل معهم، رفضوا.

ثم وافق البعض على العمل مدفوعًا بمشاعر متباينة، الفضول أقواها، اكتفى البدو بالعمل كأدلَّاء في البداية، وكان البعض يرفض حتى أن يشير بإصبعه إلى المكان الذي يسأله الغرباء عنه؛ فالصحراء هي السر المقدس الذي توارثوه عن الآباء والأجداد، والسر يجب ألَّا يحصل عليه الغريب، مهما بذلت اليد، وتبدَّت الصداقة.

لكن الأجانب استغنوا بالقليل من الأدلاء، واجتلبت لهم السلطة عشرات العمال من وادي النيل، ليفتِّتوا الصخر في مغارات الجبل، لقاء عشرة قروش للرجل الواحد، وكان أجرًا مجزيًا، فلم يكن أجر الرجل الترحيلة آنذاك — وكانوا جميعًا من الترحيلة — يزيد عن القرشين.

والحق أن إقدام البعض على العمل مع الغرباء لم يكن فضولًا كله، ولا سعيًا إلى الرزق الأسهل، بقدر ما كان تعبيرًا عن حكمة كبير الأدلَّاء الشيخ علي «لقد أدرك العجوز أن الجبال على حالها منذ القِدم، وأقاربه على حالهم منذ القدم، ولن تُفتَح الكنوز على أيديهم أبدًا، فلا بد لمن يحمل التميمة أن يجيء ويفك رموز الطلسم ويفض الأختام، ويقتل الوحش، ويفتح أبواب الكنز للجميع، سيكون له نصيب الأسد في البدء أي نعم، وبعدها يبدأ الفيض يعُم، هؤلاء الأجانب يملكون المعرفة، والخبرة، ويملكون من السلطات ما يجعلهم يشيرون بأصابعهم تجاه الحضر، فتجيء السفن، وتجيء اللوريات، محمَّلة بما لم ترَه في الصحراء عين، أو تسمع به أذن، أدوات وآلات ومشاريب وأطعمة وكساوي، فيض غامر يتحرك إلى الصحراء، ويتسرب على جبالها حيث يقيم البدو، فيتعلمون منه، أو يعلمون به، إن لم يزد عن ذلك النصيب.»

رفض البشاريون هؤلاء الغرباء رفضًا رومانتيكيًّا أقرب لرفض النعام، فالبشاري يدير رأسه تجاه الفضاء إذا رأى واحدًا منهم، حتى لا يراه، مما جعل هؤلاء الغرباء يستقدمون العمال من ريف الجنوب، أما إيسا فكان ثائرًا غضًّا، مالت نفسه الجامحة إلى مقاومة هؤلاء الغرباء لأول وهلة، وكان ذلك خطأ ثانيًا، فلو انصرف الغرباء عن الجبل نتيجة مقاومة البدو لهم، ومناوأتهم لمشروعاتهم، فسيبقى الجبل على حاله، وسيبقى البدو على حالهم، مئات السنين الأخرى، فلن تعلِّمهم الرحلة من وادي الجمال إلى سوق كردفان شيئًا يُذكَر.

هكذا قرر الشيخ علي أن يغرس في صخور الدرهيب شتلة كاملة للتقدم، حاول في مناجم النخيرة والفواخير وحماطة أن يغرس بذرة، فوضع مع الغرباء في كل منجم منها بشاريًّا أو عبابديًّا، جمعه بالحيلة مرة، وبالوعد، أو الوعيد، مرات أخرى، حتى خلَّصه من أسْر العرف والعادة، وألقى به في خيام الصفيح والخيش التي كانت تؤرق إيسا في منامه، وتشعل رؤاه، ليتعلَّموا في صنعة التعدين شيئًا، فبدون تعلُّم الصنعة، لا يمكن أن تكون لهذه الجبال قيمة، وها هو العجوز الماكر يجمع هذا النبت الأخضر النامي في تلك المناجم الأولى، ليكون منه شتلة واحدة يغرسها في الدرهيب لتنبت الشجرة.١٨

كان العجوز صابرًا، وكان يؤمن بأن الزمن في صفِّه، وأن قدوم الغرباء ربما كان بداية تعرُّف بدو الصحراء إلى الكنز الذي يحيَون في داخله.

وعلى الرغم من أن إيسا كان من سلالة الأدلَّاء الأوائل الذين استقبلوا قوافل الغرباء، وباعوا لها معارفهم الغريزية عن الصحراء، الموطن والحاضر والمستقبل … على الرغم من أن ذلك كان عمله، وأنه قد سبقته إليه أجيال، فإن إيسا جعل نيكولا ضامنًا، وفي أعماقه رفض لما يحدث، بينما نيكولا يعلن — في بساطة — انبهاره كطفل، بالصحراء التي يراها لأول مرة، وربما لتلك النظرة الطفلية، أحب البدوي الصغير، ذلك الأجنبي نيكولا من بين كل هؤلاء الغرباء.

ثم فقدت الصحراء ذاتها تمامًا، حين وجد الملك فاروق وأتباعه فيها مجالًا خصبًا لِلَهوهم غير البريء، وكانت صور تَشَوُّه الملامح الرائعة، الطيبة، العذبة، عديدة ومؤلمة.

أودع الملك رحم إيليا الصغيرة جنين لذة، فلقي الجنين — بعد أشهر قليلة من مولده — نهايته القاسية طعامًا لحيوانات الصحراء وطيورها، وفقد عبد ربه كريشاب نفسه وعقله لما ضاجع — مرغمًا — حيوانًا بحريًّا ميتًا، حتى يتسلَّى الملك.

حتى نيكولا الذي تتجدد حياته كطفل، لا تعنيه إلا اللحظة التي يعانقها، شغلته موروثات الأصل والأهل الجدد، فأقدم على ما لم يكن يتصور أنه يسمع به، قتل بيديه ابنته وطفلها.

ولعلَّه يمكن القول إن المأساة وجدت سبيلها إلى الصحراء، لما اجتذبت — بما تحمله من توقعات — عين المدينة الشرهة، وأصبح الساحل الرملي ميناء تأتي إليه البواخر لنقل البترول الخام إلى السويس، عبر البحر الأحمر.

وكان من الحتم — ختامًا — أن ينتهي إيليا الشرقي، مثلما انتهى الجد الأكبر «كوكا لوانكا»، ذاب في الطبيعة من حوله، وصار صخرة في جبل الدرهيب.

هوامش

(١) محيي الدين صابر، البدو والبداوة، اليونسكي العربية، ٦.
(٢) هذه الأرقام تعود إلى أوائل الخمسينيات من القرن العشرين.
(٣) البدو والبداوة، ٦.
(٤) صبري موسى، فساد الأمكنة، روز اليوسف، ١٨-١٩.
(٥) المصدر السابق، ٧٥.
(٦) السابق، ٢٧.
(٧) السابق، ٤٠.
(٨) فاروق ملكًا، ٥٨.
(٩) يبدو أن استغراق صبري موسى في الجو الأوروبي — في روايته — دفعه إلى الخلط — أحيانًا — بين الحياة الأوروبية والحياة في مصر، مثل ذلك الخواجا أنطون الذي يشتري من رجل يعرفه في القاهرة مجموعة كبيرة من النكت، ليرويها لزوجته الصغيرة، فتبهجها وتنسيها أحزانها. وأذكر أني شاهدت تلك الصورة في فيلم أمريكي، وكانت صورة صادقة، لكنها — بالقطع — غير صادقة في مجتمعنا المصري، الذي يتنفَّس النكتة، وكان باستطاعة الخواجا أنطون أن يملأ جعبته بعشرات النكت التي تعيها الذاكرة، وتولِّدها اللحظة، دون أن يدفع مليمًا واحدًا.
(١٠) فساد الأمكنة، ١١-١٢.
(١١) محمد عوض محمد، السودان الشمالي: سكانه وقبائله، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ٢٣.
(١٢) حلقة الدراسات الاجتماعية للدول العربية، كتاب الدورة الرابعة، ٢٩٢.
(١٣) المرجع السابق، ٢٩٢-٢٩٣.
(١٤) السابق، ٢٩٢.
(١٥) أتصور أن الذي يرفضه هم الآباء، لأن صورة المرأة تغيب تمامًا في مجتمع الصحراء الذي يعرضه لنا صبري موسى.
(١٦) فساد الأمكنة، ١٤.
(١٧) الوطن العربي، العدد ٣١٠.
(١٨) فساد الأمكنة، ٧٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥