المرأة وقضية الحرية
القهر هو المقابل للحرية، هو الخصومة والعداء والقسوة والمصادرة. وحين تخوض المرأة
معركتها لنيل
الحرية، فإنها تخوض المعركة نفسها ضد كل تلك السلبيات في حياتها، وفي حياة الإنسانية
بعامة، وبتعبيرٍ
محدد، فإن الحرية التي لا تسترشد بالوعي، هي حرية مهدَرة، لا أهداف حقيقية لها.
كانت مفيدة عبد الرحمن «مع تحرير المرأة، وضد تحررها» بمعنى أنها كانت مع حصول المرأة
على حقوقها
السياسية والاجتماعية، لكنها كانت ضد التحرر الذي — ربما — يرفض الأخلاقيات.
نشير — على سبيل المثال — إلى قول الزوجة في «الرباط المقدس» لراهب الفكر: «إني أعرف
نساء كثيرات،
وعددًا لا يُحصى من الزوجات، لا حديث لهن اليوم فيما بينهن إلا هذا النوع من المغامرات.
إن الزمن قد
تغير، وأنت في عزلتك بين كتبك، لا تعرف ما يحدث في المجتمع، وأغلب من أعرف من الأسر والبيوت
تجري فيها
أشياء لا أدري ماذا تقول فيها، لو اطَّلعت عليها؟ ثق أنه من النادر الآن أن تجد الزوجة
التي لا يكون لها
— إلى جانب زوجها — صديق، أو خليل، أو مجرد أنيس، ما دامت قد استطاعت أن تحصل عليه فهي
لن تتردد، اطرح من
حسابك تلك التي لا تستطيع! لقد أصبح اليوم مما يمس كرامة المرأة الجميلة أن يقال إنها
عاطلة من
المعجبين … إلخ.»
١
وكانت ميرفت (أزهار) تجسيدًا لفتيات الطبقة الأرستقراطية، فهي لا تعود إلى البيت
قبل الثانية
صباحًا، «وغالبًا ما تكون مخمورة، وكانت شلَّتها تتألَّف من بعض الشبان الرقعاء، ولم
يكن فؤاد — بطل الرواية
— يجسر على أن يعتبر ابن رئيس الحكومة واحدًا منهم، وكانوا يمضون الوقت في رقص ولعب وورق
وشرب، يتبادلون
القبلات بغير حساب.»
٢
وتسأل ميرفت صديقتها: «كيف تسلمين نفسك من أول ليلة؟»
تجيب: «لأني لست امرأة من الطراز القديم، تلك التي كانت تحاول دائمًا أن تُوهِم الرجل
أنها قاومت
طويلًا حتى غُلبَت على إرادتها، لماذا هذا؟ أوَكُتِب على المرأة أن تلعب دائمًا دورَ
مسلوبة الإرادة؟ لا يا
عزيزتي ميرفت! هذا ليس خليقًا بامرأة تعيش في عصرنا! إن المرأة يجب أن تُفهِم الرجل أنها
مساوية له، وأن
الأمر بإرادتها هي أيضًا، وأنها تعطي عندما تريد هي أن تعطي، في الليلة الأولى، أو الليلة
الأخيرة، سيان
عندها ذلك ما دامت هي تريد، وتحس أنها تريد.»
٣ تضيف المرأة أنه من النادر الآن أن توجد الزوجة التي لا يكون لها — إلى جانب زوجها —
صديق،
أو خليل، أو مجرد أنيس.
٤ ويصِف الفنان مجتمع الطبقة الأعلى بأنه «يعترف بالزوج والعشيق.»
٥
يحدِّثنا الفنان (شيء في صدري) عن ذلك النوع من النساء اللائي يعتقدن أن أزواجهن
لا يستطيعون أن
يعتمدوا على أنفسهم، وأنهم في حاجة إلى مساعدتهن ليرتقوا في مناصبهم، فيعرضن أنفسهن —
بلا سبب، وبلا
مقدمات — على الرؤساء لقاء «درجة» أو «علاوة» تُمنَح للزوج الغافل، وهذا الصنف من النساء
يهبن أجسادهن بعد
أن يقنعن أنفسهن بأنهن يقدِمن على تضحية كبيرة في سبيل الزوج المسكين!
٦
وحين يقدِّم العمدة (الطريق المسدود) لفايزة سيجارة محشوَّة بالحشيش، تعتذر، فيقول
الدكتور عوض: إزاي
بأه؟ ده كل ستات مصر غاويينه! يضيف: ده أنا جاني ديك النهار علي بك خيرت زي المجنون،
بيدوَّر على المدعوق
ده، قلتله جرالك إيه يا علي بك؟ ما كنت بطَّلته! قاللي: مش علشاني يا سيدي، ده عشان الست.
٧
•••
إن أول درس يجب أن يُلقَى على الطفلة المصرية مع الألف باء — في رأي لطفي السيد —
هو كونها مخلوقًا
حرًّا وهبه الله حريته، وما وهبه الله لا يسترده إلا الله.
٨
ويسأل صلاح (للزمن بقية): إذن فمتى تملك المرأة حريتها؟
– عندما تنسى هذه الكلمة … هل ننطق بكلمة الصحة ونحن أصحاء.
٩
ويقول إحسان عبد القدوس: «في معظم ما كتبت، دافعتُ عن حرية المرأة، وتطرفت في هذا
الموضوع، وأُسيء —
في البداية — فهم دعوتي، وهُوجمت. إن إيماني بحرية المرأة ليس له حدود، وربما كان أحد
دوافعه الأساسية في
البداية مستمدًّا من إيماني بتفرد تجربة أمي (فاطمة اليوسف) هذه السيدة التي أثبتت وجودها
في عالم
الرجال، ونجحت في فرض نفسها عليهم، وحققت ما لم يستطع كثير من الرجال أن يحققوه. لقد
قادني هذا الموقف
إلى التوغل في تفاصيل حياة المرأة في بلادنا، والاهتمام بتحليل العواطف والأحاسيس في
مجتمعنا المنقسم
على نفسه، المتخبط ما بين قِيَمه الراسخة، وما بين قشرة من الحضارة العصرية فرضت نفسها
عليه.»
١٠
نهضت أمينة (بين القصرين) من تحت قدمَي أحمد عبد الجواد، وجلست إلى جواره، ثم زادت،
فخرجت من
البيت، بينما اضطرته الظروف — الشيخوخة! — إلى البقاء فيه، لكن الانفصام ظل قائمًا بين
ما حققته المرأة،
وما عجزت عن بلوغه، رغم غياب الفروق بين المتحقق ونقيضه، وهذا الانفصام يضيف إلى اختلاط
الصورة،
واهتزازها، والتأرجح بين الواقع والمأمول.
•••
كما حاولت أمينة (أنا حرة) أن تخرج من أزمتها بتأكيد حريتها، فقد حاولت ليلى (الباب
المفتوح) أن
تواجِه ظروف حياتها بإرادة متفهمة وشجاعة. خرجت — ذات مرة — مع تلميذات مدرستها في مظاهرة
صاخبة،
وتملَّكتها الحماسة فاعتلت أكتاف بعض زميلاتها، وراحت تهتف في حماسة. وبعد عودتها إلى
البيت، فوجئت
بوالدها في الانتظار، شاهدها وهي تعلو أكتاف الطالبات، ويضربها الرجل بالشبشب بقسوة على
قدمَيها وساقَيها
وظهرها. ويقول الأب (سكون العاصفة): هناك سيدات أصابتهن الحرية بالحمى، وهي — في نظري
— أحسن مثل
للخارجة من السجن، سجن العهود الماضية، سجن المشربيات، ولذلك انقلبت إلى العكس، وليس
العكس دائمًا
صحيحًا!
١١
ويعبِّر الرجل عن البُعد السلبي في الصورة بقوله: «البنت كي تتزوج في زماننا السعيد
هذا، ينبغي أن
تكون واحدة من اثنتين: محافظة، ولديها مال، وعائلة ذات علاقات واتصالات تذلل أمامها كل
الصعاب، أو
مستهترة ماشية على حل شعرها، وهي وحظها.»
١٢
ورغم انقضاء عشرات الأعوام على دعوة تحرير المرأة، فإن البعض ظل على رأيه بأن المرأة
مكانها
البيت، وإن اقتضت الضرورة غير ذلك، فلا بد من أن يلازمها محرم!
١٣
نحن نلحظ أن الشاب (في العيادة) حرص على الزواج من فتاة قاهرية، لا لسبب إلا لطمعه
— تعبير
الفنان! — في أن يتزوج فتاة متعلمة، تعرف تلبس وتقلع، وتمشي مرفوعة الرأس لا تتعثَّر،
وذراعها في
ذراعه.
١٤
وثمة إبداعات كثيرة — ظلَّت ترى المرأة الريفية ضعيفة، مسلوبة الإرادة، تناقض الواقع
المُعاش إلى حدٍّ
كبير، بينما كان تقدير لطفي السيد — وهو مصري فلاح — أن الرجل الفلاح يعامِل امرأته معاملة
المساوي
للمساوي، ويعتبر أنها إنسان موجود مثله، لها من الإرادة ما يجب احترامه إلى الحد المحترم
من
الإرادة.
بدأت المرأة العربية — على حد تعبير السورية هيام نويلاتي — تتمرد على الأسوار والقيود،
وتتطلع
إلى الحرية بمفهومها الحقيقي. لم يعُد ثمة — على سبيل المثال — ما يحُول دون أن يرى الشاب
الفتاة التي
يريد خطبتها. في روايتي «رباعية بحري» أصر الشيخ عبد الحفيظ ألَّا تسفر ابنته أمام الشاب
الذي تقدم لخطبتها
إلا ليلة الزفاف، قبِل أهل الشاب أن ينوبوا عنه في رؤية الفتاة، لكن الشيخ أصر على الرفض،
وفشل مشروع
الخطبة، العلاقة بين الشاب والفتاة تسبق محاولة تقدمه لخطبتها، يقول عصام في ثقة: «الجواز
السليم ضروري
يكون أساسه الحب.»
١٥
غنَّى عبده الحامولي في مطالع القرن العشرين: يا مين يجيب لي حبيبي! ثم لم يعُد المحب
يلجأ إلى
الواسطة في علاقته بمحبوبه، لم يعُد في حاجة إلى مَن يأتي له بحبيبه، أصبح الحبيب في
مدرجات الجامعة، وفي
مكاتب العمل، والمصانع، والأندية، حتى في وسائل المواصلات العامة — كما في قصة يوسف إدريس
التي حدَّثتك
عنها «محطة» — ليس ثمة ما يحُول دون لقاء الحبيبين.
•••
تختلف أمينة في قصة محمد صدقي بهذا الاسم عن زوجة محمد أبو دومة في «قصة حب» ليوسف
إدريس، إنها لا
تقرأ الصحف، ولا تتابع الأحداث السياسية، ولا تشارك فيها بالرأي أو التعليق، بل ولا تسهم
بدورٍ إيجابي من
أي نوعٍ في الجانب السياسي من نشاط زوجها. لكن القارئ يغادر صفحات الرواية، دون أن تواجه
زوجة أبو دومة —
أو الزوج نفسه — مشكلة ما، مقابلًا للاشتغال بالسياسة. أما أمينة فقد واجهت كل ما أسفرت
عنه حياة زوجها
القلقة من اعتقال وسجن وفصل وتشريد وتفتيش وتردد على الأقسام والسجون ومعاناة هَم الوجبة
التالية. مع
ذلك، فإنها هي التي سعت لزوجها في قسم بوليس كرموز — بعد أن قاد إضرابًا جديدًا — لتواسيه،
وتطمئنه
بأنها ترعى أولادهما، وتُحضِر له — كالعادة — رغيفين وسجاير وحلاوة طحينية وزيتون.
١٦
وكانت وفاء (واحترقت القاهرة) مثلًا رائعًا للزوجة المصرية، فحين يُبلِغها بعزمه
على السفر إلى
سوريا، للاشتراك مع قوات اليرموك التي ستدخل الأرض الفلسطينية، لم تحاول أن تثنيه عن
عزمه، لكنها اكتفت
بأن تقول له في هدوء: «إن شاء الله ستعود لنا بالسلامة.» وذهبت لتوديعه في المطار، وعلى
شفتَيها ابتسامة
عريضة.
١٧
وتروي السيدة عليَّة، زوجة يوسف صديق عن الدور الذي أسهمت به في الإعداد لثورة يوليو،
بداية من
استضافة اجتماعات الضباط الأحرار في بيتها، وانتهاءً بنقل المنشورات، والمشاركة في توزيعها،
بتثبيتها
بدبابيس الرسم على المحال التجارية والأماكن العامة، أو إيداعها صناديق البريد الخاصة
في مداخل
البنايات.
١٨
لم تعُد المرأة قعيدة الحرملك، ولا خلف المشربية، ولا حتى وراء الحجاب، ولم تقبل
تلخيص حياتها
بأنها تُولَد، تتزوج، تُنجِب، تموت! أصبح لحياتها معنًى آخر، خرجت إلى المدارس والجامعات
والمصانع — هي في
الزراعات منذ بداية التاريخ! — والمكاتب والطرقات، غابت حواجز العزلة بين الشابَّين،
يتحدثان في القضايا
العامة والمشكلات الشخصية، حتى القضايا التي يشوبها حساسية لا يجدان حرجًا في طرحها،
ومناقشتها. عرفت
الفتاة الصداقة، وحق القبول، وحق الرفض، وحق الخلع، وهو آخر الحقوق التي نالتها المرأة
دفاعًا عن
إنسانيتها! وبعد أن كان أحمد عبد الجواد قد أعلن غضبه لمجرد أن أمينة أبدت ملاحظة — مؤدبة
— عن سهره
المتواصل، فإن الزوجة أصبحت تلاحق زوجها — عقب خناقة حامية — وهو يهبط السلالم: إياك
تنسى تشتري
البزازة!
١٩
حتى في الصعيد، يقول الشيخ رزق (النمل الأبيض) ممتعضًا: «لم نكن نرى امرأة تسير مكشوفة
الشعر كما
يحدث الآن والعياذ بالله!»
٢٠ ولا يخلو من دلالة موافقة الزوج في رواية رضوى عاشور «خديجة وسوسن» على أن تستعيد صداقة
من
أيام الصبا، بعد أن صار طرفها الثاني رجلًا!
ولم يكن التقدمي حمزة (قصة حب) حتى اللحظة التي التقى فيها — للمرة الأولى — بفوزية،
يثق
بالفتيات، ولا بما يمكن أن يقمن به، وإن كان يردد دائمًا أنه لا فرق بين الرجل والمرأة،
وأن لها مثل ما
له من حقوق.
٢١
لا شك أن وضع المرأة هو انعكاس مؤكد لوضع المجتمع، من الصعب تصور أن المرأة تحصل على
مكانتها في
مجتمع لا يؤمن بالرأي المغاير.
والمرأة العربية العصرية — كما تقول كارلا باور — «لا يمكن أن تكون بالضرورة تلك
التي ترتدي
الملابس الغربية، كما أن المرأة المحجبة ليست دائمًا مقموعة.»
٢٢ الفتاة تذهب إلى الجامعة لتحصِّل العلم، لكنها تعاني — في داخلها — كل عقد الأنثى، كل
الترسبات التي انتقلت إليها من أجيال سابقة.
بل إن الكثير من الفتيات يطبِّقن — دون وعي بالطبع — مقولة روسو بأن المرأة تميل
لأن تكون كما يريد
لها الرجال أن تكون.
٢٣
بدأ الكثير من النساء في مراجعة النفس حول خروج المرأة إلى العمل، حتى هؤلاء اللاتي
يعانين الحاجة
المادية. وبلغت سميرة حد التعب الشديد بعد خمسة أعوام من الوظيفة حتى إنها أحسَّت بالغيرة
— وربما الحسد —
من فوزية بنت الشيخ عمر، فهي — كما وصفتها سميرة — ست بيت بمعنى الكلمة، تأكل وتشرب ولا
تعمل إلا أعمال
البيت البسيطة، ولا تضطر — مثلها — إلى ضبط تحركاتها بالدقائق، ولا إلى الخروج في الصباح
الباكر، وفي عز
البرد!
٢٤
وعلى الرغم من المكاسب التي نالتها المرأة،
٢٥ فقد ظل دورها ثانويًّا، لأن العالم الذي تعيش فيه — والتعبير لسيمون دي بوفوار — عالم
رجال،
هو محكوم بالرجال.
٢٦
حصلت المرأة على حريتها بالاستقلال الاقتصادي، لكنها لم تجد — أحيانًا — في هذه الحرية
صورة
العلاقة بينها وبين الرجل، مثل أمينة في «أنا حرة»، وفاطمة في «المستحيل». ولعل قول أمينة:
«أنا حرة» تعبير
فعلي عن إهمالها الحرية التي اختارتها بإرادتها، الحرية التي انتزعتها لقاء حب الرجل،
وحياتها في ظلِّه،
وتحت قدميه.
•••
لعل أهم ما يطالعنا في طلب المرأة «حقوقها»، منذ غادرت أمينة جدران بيت بين القصرين،
لتزور — في
غيبة الزوج — ضريح الإمام الحسين، حتى أسلمت فاطمة (واحترقت القاهرة) نفسها لمن تحب،
فلما عرض عليها
الزواج رفضت، احترامًا لإرادتها، ثم أنهت حياتها شهيدة في حرب فلسطين … لعل أهم ما يطالعنا
في تلك
«الحقوق» أنها تكاد تتحدد — منذ صار للمرأة أنصار يدافعون عن قضيتها، حتى شاركت المرأة
بالرأي الهامس،
ثم بالمطالب المعلَنة، والواضحة، والمحدَّدة. من هذه المطالب: تحريم تعدد الزوجات، تقييد
حق الرجل المطلق
في الرجال، والمساواة بين الزوجين في حق الطلاق، على ألَّا يُستخدَم هذا الحق إلا على
يد القاضي، تحريم
الزنا تحريمًا تامًّا على الزوجَين، تحريم ضرب الزوجة، إلغاء بيت الطاعة. نشر التعليم
بين النساء، ضمان حق
المرأة في العمل، بصرف النظر عن حالتها الاجتماعية، إنشاء دُور حضانة لأطفال العاملات،
المساواة بين
الجنسين في الوظائف والعمل والأجور، تقرير حق المشتغلات الحوامل في إجازة وضعٍ مدفوعة
الأجر، الاعتراف
للمرأة بحقوقها السياسية كاملة.
٢٧
حصلت المرأة — بالفعل — على حق التعليم إلى نهايات المراحل التعليمية.
وحصلت على حق العمل.
وحصلت على حقها في التحرر من السيطرة المطلَقة للرجل.
وسُمِّي تحقيق هذه النقاط الثلاث بالانقلاب النسوي، باعتبارها إضافة مهمة إلى سعي
المرأة نحو
مساواتها بالرجل.
•••
عود على بدء.
هذه هي التسمية الصحيحة للدعوة إلى الحجاب، ترافقها نصوص قرآنية وأحاديث شريفة وفتاوى
واجتهادات.
الحجاب — في تقدير النظرة الغربية — يتحدد في معنيَين، فهو يرمز إلى «غموض الشرق،
المستتر
والمجهول، وعالم المرأة المبهم المحير، والمراوغة القسرية في السلوك الأنثوي.»
٢٨ (كانت تلك نظرة نابليون إلى زينب البكرية في «الجودرية») والحجاب — من ناحية ثانية —
هو
الرمز النهائي لقهر النساء المسلمات اللائي يعانين الاضطهاد والقمع والقيود المشددة،
ويعتبرن — على نحو
ما — ضحايا بيئة ثقافية، عصبية وقهرية،
٢٩ لكن الحجاب — فيما بعد — تجاوز هذين المعنيين تمامًا.
وإذا كان نزع الحجاب من أهم إنجازات ثورة ١٩١٩م، حين أقدمت هدى شعراوي على نزع حجابها
هي وعدد من
زميلاتها، كما أقدمت على الفعل نفسه صفية زغلول بموافقة زوجها زعيم ثورة ١٩١٩م، ثم تحوَّل
الحجاب — بتوالي
الأعوام — إلى جزء من الماضي، نتناوله في دراساتنا التاريخية والاجتماعية، يسبق الحديث
عنه كلمة «كان» …
إذا كان ذلك هو ما حدث في فترة تزيد عن العقود الثمانية، فإن ما حدث فيما بعد أعاد الأمور
— تقريبًا —
إلى نقطة البداية.
بل إن حق المرأة في تزويج نفسها، وهو الحق الذي استخدمته المرأة في عهود الإسلام
الأولى، ذلك الحق
ضاع في العصور التالية، إلى حد أن وكالتها عن نفسها في عقد الزواج غير مقبول عند البعض
من علماء الدين
ذوي الاتجاه المتزمت. لم تقتصر عبارات العقد على ما رفضه رفعت القباني في روايتي «حكايات
الفصول الأربعة»،
وإنما لم يعُد من حق الفتاة أن تزوِّج نفسها بأية عبارات، ذلك حق الوكيل! لذلك فإن الراوي
في قصة إدريس علي «السرير الواحد» يعتبر عبارة «زوَّجتك ابنتي»، والمنديل الأبيض، والعقد
الذي يلي ذلك، وثيقة عبودية، عقد
بيع وشراء.
٣٠
تحرُّر المرأة قضية مجتمعية، وإنسانية، ينبغي أن توضع في إطارها، بعيدًا عن محاولات
الابتزاز،
والإثارة، والسعي إلى المكاسب الوقتية. ونحن نلحظ أن زينب (تلك الأيام) قرنت الابتسامة
بطلبها الجبن
والحلاوة من البقال، ليرضى بتأجيل دفع الثمن!
٣١
وإلى الأربعينيات من القرن العشرين، كانت المرأة تحاول مجاوزة أسوار الحريم، بتبادُل
الزيارات
بديلًا لجلسات الرجال في المقاهي، وهو ما كان يُسمَّى «زيارة».
٣٢ كان نظام الزيارة — أو المقابلة — يتمثَّل في اجتماع مجموعة الصديقات، لكل واحدة يوم
من أيام
الأسبوع، يتزيَّنَّ، ويرتدين أحدث الموديلات، وتحرص المضيفة أن تقدم ألوانًا مختلفة من
الحلوى والأطعمة،
ويقضين الوقت في الدردشة، وربما تعزف إحداهن على البيانو، أو على العود، والباقيات يشاركن
بالغناء، أو
بالتصفيق. وظل نظام «المقابلة» قائمًا في الكثير من البيوت المصرية إلى أعوام الحرب العالمية
الثانية،
وكانت أم سعد (الشوارع الخلفية) حريصة على يوم المقابلة كتقليدٍ يجب احترامه،
٣٣ حتى بعد أن أتيح للمرأة أن تغادر بيتها، وتشارك الرجل حياته، وتتردد على الأماكن العامة،
وبرغم ضيق أمينة (أنا حرة) بتلك الجلسة، وأنها قيد على حريتها!
وقد أدَّت التعديلات التي أجريت على قوانين الأحوال الشخصية في القرن العشرين إلى
ذوي صورة الأب
الذي يسيطر، ويحكم، أو على حد تعبير ج. ن. د. أندرسن «أفول الأسرة التي يحكمها الأب،
وهي التعديلات
التي أُدخلت على قانون الأسرة الإسلامي في القرن العشرين.»
٣٤ حدَّت تلك التعديلات — بدرجة أو أخرى — من تعدد الزوجات، وحق الرجل في التطليق، ولم
تعُد
الزوجة تعود إلى بيت الطاعة بالقوة.
نحن نلحظ أنه لم يعُد مما يثير رأي نوال السعداوي، بأن الزوجين السعيدين هما اللذان
يعيشان في
حجرتين منفصلتين لتظل بينهما مسافة. وتغلبها الحماسة فترى أن الزوجين السعيدين هما اللذان
يعيشان في
شقتين منفصلتين، ثم تغلبها الحماسة ثانية، فترى أن الزوجين السعيدين هما اللذان يعيشان
في بلدين
منفصلين؛ البُعد — في تقدير نوال السعداوي — يضعف العلاقات الزوجية الهشَّة، لكنه يقوِّي
العلاقات المتينة،
القائمة على أساسٍ من الحب الحقيقي والتفهم والتقدير.
٣٥
لم تعُد «صورة المرأة الشرقية المنقبة المقهورة»
٣٦ هي الصورة الواحدة، الثابتة، في أذهان الأجانب، وهي الصورة التي تثير افتتانهم بالتالي.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه لم يعُد من المرفوض أن تقبل الفتاة الجامعية طلب الشاب الذي
يدانيها في
التعليم بالزواج منها.
وعلى سبيل المثال، فقد ترك الشاب (منتهى الحب) التعليم قبل أن يحصل على شهادة التوجيهية،
واستطاع
أن يحقق نجاحًا في زراعة الأرض التي ورثها عن أبيه، حتى أصبح يدير أراضي العائلة كلها؛
لذلك لم يجد
حرجًا في أن يتقدم لخطبة ابنة عمِّه التي كانت تستعد لنيل ليسانس الحقوق.
٣٧
ويحدد عبد المنعم الصاوي دور — أو صورة — المرأة في أدبه، بأنها ليست وصية على الحياة،
وأنها أيضًا
ليست وصية على الرجل، وليست تابعة للرجل … «والمرأة عندي ليست مبتذلة، فهي كيان بشري
مستقل له إرادته،
وقادر على التصرف، وعلى التفكير. ولو جرَّدنا المرأة من هذا الاستقلال، وتلك القدرة،
نكون متجنين عليها،
وظالمين لدورها في الواقع، فالمرأة — في ظل أي وضع اجتماعي — لها كيانها الخاص، حتى في
ظل المجتمع
المتخلف.»
٣٨
وأستأذنك في أن نناقش هذه القضية تفصيلًا.
•••
يقول قاسم أمين في «تحرير المرأة»: «لا أدري كيف نفتخر بعفَّة نسائنا ونحن نعتقد أنهن
مصونات بقوة
الحراس، وارتفاع الجدران؟ أيُقبَل من سجين دعواه أنه رجل طاهر لم يرتكب جريمة، وهو في
السجن؟» (كلمات
تذكِّرنا بوصف ثروت أباظة بطلة روايته «ثم تشرق الشمس» أنها «عفيفة رغم أنفها!»)
وكانت دعوة قاسم أمين في كتابَيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» هي الإرهاصة الحقيقية
لنزع الحجاب
(هل كان المقصود هو النقاب بلغة زماننا الحالي؟!) الذي يُعَد في مقدمة النتائج الإيجابية
لثورة
١٩١٩م.
بدأت مأساة الحجاب في التلاشي، وإن وجد الحجاب بديلًا في «البيشة» و«اليشمك» والملاءة
اللف،
وبخاصة بين الطبقات الشعبية والوسطى الصغيرة (نلحظ أن سنية ابنة السابعة عشرة كانت ترتدي
البيشة أو
القناع الأسود كما يسميها الفنان).
٣٩ حتى معاكسة الأب أو الشقيق للمحِبة التي يتضح أنها ابنة أو أخت، والتي تصادفنا في أكثر
من
عمل أدبي يعرض للمجتمع المصري في مطالع القرن، نجد — في أواسط الثلاثينيات — امتدادًا
لها، في متابعة
ياسين لأخته خديجة وهي في طريقها من الدرب الأحمر إلى السكرية: «على فين يا جميل؟» وتلتفت
نحوه قائلة:
«على البيت يا سي ياسين.»
٤٠
بالإضافة إلى ذلك، فلم يكن نزع الحجاب — في الأعم — سوى مظهر شكلي، يضمر وراءه تصوُّرًا
شبه ثابت
عن دور المرأة في المجتمع بالقياس إلى دور الرجل. وكما يقول طلعت حرب «فالرجل يسعى ويشقى
ويكد ويتعب
ويشتغل، ليحصل على رزقه ورزق عياله، وامرأته ترتب له بيته، وتنظف له فرشه، وتجهِّز له
أكله، وتربي له
أولاده، وتلاحظ له خدمه، وتحفظ عينه من المحارم.» وكانت التقاليد — أو الحجاب غير المرئي
— هي الباعث
لأن يكون أول سؤال يلقيه كمال عبد الجواد في «ثلاثية» نجيب محفوظ، حين تناهى إلى سمعه
صوت عايدة شداد: «كيف
لفتاة أن تقتحم على فتية غرباء مجلسهم.»
٤١ ثم تكوَّمت طبقات الحب — فيما بعد — أمام عيني كمال بعضها فوق بعض، حتى لم يعُد يشغل
نفسه إلا
بحبٍّ يرجو، ويأمل، ويصفح، ويطلب المغفرة!
ينقل سلامة موسى عن أحد الكُتاب قوله (١٩٢٤م): «يرحمك الله يا أبي، لقد كنت لا تشتري
حذاء جديدًا،
إلا بعد أن تجرِّبه على رءوس زوجاتك!»
٤٢ وحين تضبط صاحبة المطعم الفرنسية توفيق الحكيم وهو يغازل الطباخة الجميلة — في العشرينيات
—
يخاطب نفسه قائلًا: إنها رواسبنا وقد جئنا بها، ففي بلادنا اليوم حجاب، ومن يصادف في
عربة حنطور رجلًا
وامرأة، حتى وإن كانا زوجَين، فإن الشارع كله يجري خلفهما، متصايحًا بمختلف الألفاظ،
كأنها جريمة قد
ضُبطَت.
٤٣
وفي عام ١٩٣٢م قدَّم نواب المعارضة استجوابًا إلى وزير المعارف حول صورة نشرت في «الأهرام»
تمثِّل
طلبة كلية الآداب وعميدهم الدكتور طه حسين «وقد جلست كل شابة إلى جانب شاب» … تساءل الاستجواب:
كيف وقع
هذا؟ وكيف تستمر وزارة المعارف على عدم احترام الشعور الديني والآداب القومية؟
حاولت بطلة «الرباط المقدس» أن تجاوز مطلب رفع الحجاب الذي، وإن تحقق، إلا أنه لم
يجاوز إطاره
الشكلي، إلى التعبير عن نفسها. أن تصيح بملء فمها، حتى دون أن يسمعها أحد «الكلب له على
الأقل حق
النباح، أما أنا فلا أستطيع الصياح؛ إذ لمن أصيح؟»
٤٤ ثم تتجاوز الأمنية مجرد الرغبة في الصياح، إنها تريد أن تذهب إلى حيث تدفعها أهواؤها،
وتقودها أهواؤها «أريد أن أحلق في فضاء المغامرة، لا أن أقعد ها هنا كعصفور كسروا جناحه.»
ثم لم يعُد
تحقيق تلك الأمنيات وسيلة إلى تحقيق المرأة لذاتها، ولحريتها، أصبحت هي الهدف نفسه «فالشرف
والحياء
والعفة هي رائحة البلى والقدم والعوائد العتيقة والحجرات المغلقة.»
٤٥
وإذا قبلنا ما قالته بطلة الحكيم في تبرير أحداث الكراسة الحمراء، فإن سدى الكراسة
رد فعل لم
يجاوز خيال الكاتبة — وربما خيال الفنان نفسه — التي أرهقتها نظرة المجتمع إلى المرأة
عمومًا. إنه تمرد
سلبي على نظرة المجتمع إلى المرأة، وحقيقة دورها، وقيمة مشاعرها وعواطفها، في المقابل
من سلطة الرجل،
سواء كان أبًا أم أخًا أم زوجًا، وكان مبعث معاناة بطلة قصة صبحي الجيار «سوق العبيد»
انتماءها إلى جنس
النساء في مجتمع يؤمن بسيطرة الرجل!
وربما نجد في النهاية المأساوية لعايدة في «إني راحلة» إحدى ذرى التمرد على وضع المرأة
في المجتمع،
فهي قد اختارت الموت «إلى حيث لا تتطاولون عليَّ بألسنتكم، تاركة لكم جيفة تتلقَّى لعناتكم
نيابة عني.»
وكان ذنب عايدة أن قلبها نبض بالحب لمن رفض أبوها تزويجها له، بينما تزوجت رجلًا تحس
إزاءه بنقيض
الاحترام. ولم يكن لها في كل ما جرى حيلة، وكان الاختيار أمامها: إما أن تحيا كسائمة
يشتريها من يدفع
الثمن، أو تنتحر … واختارت السبيل الثاني.
لذلك يأتي اختلافنا مع الرأي بأن عايدة زميلة أمينة في «أنا حرة»، وكلتاهما زميلة
نورا في مسرحية
إبسن «بيت الدمية». عايدة تكتفي بالرفض السلبي للواقع الذي كان يقيِّدها بإساره، انحصرت
مقاومتها في
التفكير في الانتحار، رغم أن طموح عايدة العاطفي كان قد تحدد في جدران بيت الزوجية «أريد
أن أكون زوجة
وخادمة»، فإنها قد خنقت — بسلبيتها — حتى هذا الحلم الذي يُعَد محورًا لحلم غالبية الفتيات
المصريات،
ورضخت لإرادة أبيها في النهاية، أما نورا فقد كان لصفقة الباب، بعد أن غادرت بيتها، دوي
اهتزت له
المجتمعات الأوروبية.
•••
كان لدخول بعض الطالبات الحرم الجامعي وهن يرتدين البنطلون، رد فعل عنيفًا، بلغ حد
التظاهر ضد
الطالبات اللائي خرجن على التقاليد بدعوى الحرية. يقول إحسان (الكهف) لأشجان في غضب:
«حرية … حرية … حرية …
هل تحطيم تقاليد الجامعة حرية؟ هل ارتداء البنطلون الضيق داخل الحرم الجامعي حرية؟ هل
تدخين السجائر في
أروقة الكلية حرية؟»
٤٦
وإذا كان تدخين السجائر لم يصبح حقًّا، حتى لبعض الطلبة ذوي النشأة الريفية، ولم
يصبح حقًّا لكل
الطلبة أمام أساتذتهم في الحرم الجامعي، فإن توالي السنين جعل من البنطلون زيًّا أكثر
احتشامًا من بعض
الثياب الحديثة التي تكشف عن معظم أجزاء الجسد، إلى حد أن بعض الدعوات التي تنطلق من
مفهومات إسلامية،
قد اختارت البنطلون زيًّا للمرأة.
٤٧
ولعل أشجان كانت تستشرف المستقبل، عندما قالت للمسئول الجامعي في ثورة، إن ارتداء
البنطلون
والتدخين سيصبحان أمورًا عادية، مثلما أصبح اختفاء الحجاب شيئًا مقبولًا يقرُّه المجتمع،
إن هذا الذي يحدث
الآن، ما هو إلا نتيجة لأنانية الرجل الذي يحتفظ لنفسه بكل شيء، ويعطي للمرأة بقدرٍ.
٤٨
وكما قلت، فإن التدخين لم يصبح أمرًا عاديًّا (وأغلب الظن أنه لن يصبح كذلك في مدى
أعوام طويلة،
قادمة) لكن البنطلون صار هو الزي المطلوب من أشد الناس إقبالًا على المحافظة، لأنه أميل
الموضات —
بالفعل — للاحتشام! بل إن العالِم الأزهري الشهير الشيخ محمود أبو العيون ذهب إلى هذا
الرأي، ما دام
البنطلون حشمة!
والحق أن الخطوات التي قطعتها المرأة في طريق الحصول على حقوقها، لم تكن جميعها بالإيقاع
نفسه،
ثمة خطوات سريعة، وأخرى بطيئة، وخطوات محلَّك سر، وربما عادت بعض الخطوات إلى الوراء،
لكن المحصلة — في
النظرة البانورامية — كانت أميل إلى الإيجابية. ثمة ما يُنتسَب إلى التقدُّم بصورة حقيقية،
وليس ثمة انتكاسة
بصورة حقيقية، إنما هي خطوة، أو اثنتان، إلى الوراء، تتبعها خطوات إلى الأمام.
هذه سُنَّة التقدم في التاريخ البشري.
وعلى الرغم من كل النجاحات التي حققتها المرأة، منذ الطهطاوي، فقاسم أمين، إلى لطفي
السيد وزينب
فواز وملك حفني ناصف وهدى شعراوي وغيرهم، فإن النظرة إلى المرأة — وهي نظرة المرأة إلى
نفسها في الوقت
نفسه — ظلت على أنها عالم مستقل، أو جزيرة في محيط — على حد تعبير أستاذتنا سهير القلماوي
— فلا تعلو
مشكلاتها الخاصة إلى الأفق الاجتماعي العام، تذوب في مشكلات المجموع، بل إن المرأة في
مجتمعنا ظلت تعاني
إثبات الوجود.
كان إيمان معظم الرجال الإغريق أن الجمال بلا ذكاء، هو أعيب من الذكاء بلا جمال، وظني
أن تلك كانت
— وأخشى أنها لا تزال قائمة على نحوٍ ما — نظرة الكثير من المثقفين إلى المرأة. وتقول
الحكمة
الكونفوشيوسية: «إن المرأة الجاهلة فاضلة.» وهو ما عبَّر عنه قارئ لجريدة «الأهرام» في
عام ١٩٣٠م، حين أكد
أنه في حالة رغبته في الزواج، فهو يميل للزواج بامرأة غير متعلمة، لأننا لو عددنا محاسنها،
لوجدناها
أكثر من محاسن المرأة المتعلمة، لأن المتعلمة تفتحت، وعرفت من أسباب المدنية أمور اللهو
كدُور السينما
والمسارح والمراقص، والأشياء التي يرجع أكبر السبب إليها في هدم الحياة الزوجية. وكثيرًا
ما يكون
التعليم — خصوصًا في البيئة المصرية التي ما زالت في دور التكوين — سببًا في ضياع أخلاق
المرأة! أما
المرأة الجاهلة، فهي ذات أخلاق لم تمسها بعدُ أمور المدنية الحديثة، ولا تعرف من أمور
الدنيا شيئًا سوى
التفكير في هناء زوجها وأطفالها.
وكان المجتمع المصري يرى، في أزمنة مضت — كما أشرنا — أن القراءة والكتابة هما من
شئون
الرجال.
وحين تكرر عرض الأبناء على أمهم أن تغادر البيت للفسحة، رفضت بشدة، وقالت لابنتها
وهي ترتجف: إني
سعيدة فلا تنغِّصي عليَّ حياتي، لكنها — بالفعل — لم تكن كذلك؛ كانت تتوق إلى الخروج،
إلى الانطلاق من
الأسر الذي عاشت فيه، لكنها كانت أضعف من أن تستجيب إلى نوازع نفسها.
٤٩ وكان تقدير أمينة — في قصة بهذا الاسم لعباس خضر — أن المرأة «الغلبانة المكسورة الجناح»
لم
تكسر جناحها بنفسها، وإنما الرجل هو الذي كسر جناح البنت ليتلذذ بالعطف عليها، ويُرضي
غروره بحمايتها،
وبالتحدث عن نقائص ذلك الضعف.
٥٠
وقد رفضت الأم ما كانت قد وافقت عليه أمينة «بين القصرين» لما غادرت البيت — بإلحاح
أبنائها — لتزور
الحسين، وليكتشف الزوج ما حدث، فيطردها، ثم يعيدها بعد فترة. وعندما يحلم الصول فرحات
— في أوائل
الخمسينيات — بالمجتمع المثالي، وأن المرأة ستعمل مثل الرجل في الغيط، فإنه يستدرك بقوله:
«بس دول في
غيط، ودول في غيط!»
٥١
•••
يقول كليلاند: «علِّم أنت الفتاة المصرية — العربية — وسيرعى معدل المواليد نفسه
بنفسه.»
٥٢
كان تعليم البنات هو الإرهاصة، البداية، لتغيُّر وضع المرأة. كان معظم الأسر يكتفي
بتعليم البنات
الكتابة والقراءة والحساب والفرنسية وفنون التطريز والطهي في البيت.
٥٣ أما الذكور، فإنهم كانوا يواصلون التعلم في المدارس، وربما الجامعات فيما بعد، سواء
الأزهر
أو الجامعات المدنية. وكانت مدرسة السيوفية (١٨٧٣م) أول مدرسة ابتدائية حكومية للبنات،
ثم أنشئت في ١٨٨٩م
مدرسة السَّنية، تبركًا باسم إحدى أميرات الأسرة المالكة، وفي ١٩٢٥م أنشئت أول مدرسة
ثانوية
للبنات.
٥٤ ثم ارتفع — فيما بعد، ونتيجة مباشرة لتعليم الإناث — شأن المرأة؛ لم تعُد — في نظر نفسها،
وفي نظر الرجل أيضًا — مجرد وسيلة للإنجاب، وجاوزت وظيفتها رعاية الأبناء والزوج.
ثمة — في المقابل — من أعلن معارضته لتعليم المرأة؛ فالمرأة المتعلمة ليست أحسن حالًا
في البيت من
المرأة غير المتعلمة «وأخجل أن أصرِّح بأن الأمر قد جاء بالعكس، فإن الثانية قد تكون
أدرى بشئون منزلها،
وإطاعة لرب بيتها، وأكثر هدوءًا وسكونًا في حياتها من الأولى.»
٥٥ ثم أصبح حصول الفتاة (حلم الصبا) على الشهادة العليا يساوى بيت الزوجية.
٥٦ وكان أهم ما يشغل أزهار — منذ صباها — أن تتم تعليمها، وتصبح طبيبة، بل من أولى فتيات
مصر
اشتغالًا بالطب.
٥٧
•••
أما حق العمل، فالبديهي — وبالذات بين الأسر المحدودة الدخل — أنه حين تخرج المرأة
إلى العمل، فإن
الزوج يساعدها — على نحوٍ وآخر — في الأعمال المنزلية ورعاية الأبناء. هي مشاركة تفرضها
الظروف التي
تهمل، بالضرورة، نظرة الرجل إلى مكانته، ونظرته إلى مكانة المرأة، بل ونظرة المرأة المتدنية
— أحيانًا —
إلى نفسها، إنهما شريكان في إدارة البيت بالضرورة. وصار المثل الأعلى للزواج — في الأربعينيات
— أن
تتمسَّك المرأة بمن تحب، وتكافح معه لبناء البيت.
٥٨ لم يعُد الخروج إلى العمل عيبًا، حتى زوجة عبد المعبود (الشوارع الخلفية) غير المتعلمة،
تقول
لشكري عبد العال، حين ينصحها بالقعود في البيت: ستنا خديجة مرات النبي كانت بتَّاجر،
الشغل للستات مش
عيب، ما دام الوحدة مفتَّحة لنفسها!
٥٩
وأما حق المرأة في التحرر من سيطرة الرجل، فلعلنا نذكر ملاحظة محمود أمين العالم بأن
نجيب محفوظ
فاته أن يقدم نموذجًا مثل فهمي بين النساء في «بين القصرين»، ليعطي للمرأة في الرواية
معنًى جديدًا، ويتيح
لونًا خصبًا للصراع الاجتماعي، فلا تقتصر الرواية على تقديم مفهوم محدد للمرأة، وللعلاقات
بين الرجل
والمرأة، وبين المرأة والحياة.
إذا كان الفنان قد فاته ذلك الأمر في «بين القصرين»، فلعله نجح في تقديم المقابل لشخصية
فهمي —
وربما أشد إيمانًا بالثورة والتطور — في شخصية سوسن حماد، في «السكرية». الفارق بين أمينة
«بين القصرين»
وسوسن «السكرية» هو الفارق بين التبعية والمشاركة، بين العبودية والاستقلال، بين التأمين
على الرأي الواحد
وتعدُّد الآراء، أيًّا يكن اختلافها.
لم ينطق الحب بين سوسن حماد وأحمد شوكت، لكن حبهما كان مؤكدًا وواضحًا؛ إذا نوَّه
بجمالها، حملقت في
وجهه محتجة، وزجرته مقطبة، كأن الحب شيء لا يليق بهما، فيبتسم ويعود إلى ما كانا فيه
من عمل.
٦٠ ولم يكن في وجه سوسن زواق، لكنها كانت تعنى بمظهرها وأناقتها بما لا يقل عما يفعله سواها
من
بنات جنسها،
٦١ وقد اعترف أحمد شوكت أن العالم الذي زامل فيه سوسن غيَّره كثيرًا، وطهَّره، لدرجة محمودة،
من
أدران البرجوازية المستوطنة في أعماقه.
٦٢ ويمثِّل قول أحمد شوكت لزميلته في كلية الآداب: هل تسمحين لي بالتقدم لخطبتك؟
٦٣ … يمثِّل هذا القول تقدمًا في طبيعة العلاقات بين الرجل والمرأة؛ لم يعُد الشاب يجد
حرجًا في
مخاطبة الفتاة مباشرة للاقتران بها، ولم تعد الفتاة تجد حرجًا بالتالي في تلك المخاطبة.
وتقول سناء
(الباب المفتوح): «العقلية قطعًا اتغيَّرت، بالنسبة لأمهاتنا الجواز كان مكتوب على الجبين،
لا الواحد يقدر
يغيَّره، ولا يهرب منُّه، ضروري يتقبَّله زي ما هو، وبالنسبة لنا الوضع اتغيَّر لأن عقلية
الحريم اتغيَّرت،
البنت النهاردة ما تقبلش الوضع اللي كانت أمها بتقبله.»
٦٤ وقد تعمَّدت نعمات رفض مَن تقدموا لها، كي لا يقيِّد الزواج حريتها.
٦٥
وإذا كانت أمينة (بين القصرين) قد تركت بيتها — مُرغَمة — إلى بيت أمها، عقابًا لها
على ترك البيت
بدون إذن، في غيبة زوجها، فإن أحلام (المستنقع) كانت على يقين أن البيت بيت المرأة، وليس
بيت الرجل
«فإذا وقع بين الزوجين جفوة، وكان لا بد أن يغادر أحدهما البيت حتى تهدأ العاصفة، فعلى
الرجل أن يتركه
للمرأة.»
•••
كانت المرأة بصفة عامة قعيدة البيت، وتخضع خضوعًا أعمى لسيطرة الرجل، مهما تكن شخصيتها،
وبصرف
النظر عن بعض الاستثناءات في بعض العائلات التي أخذت موقف الريادة في النهضة النسائية.
ذلك ما عبَّر عنه جيل أمينة «بين القصرين».
ثم جاء الجيل الثاني — جيل خديجة وعائشة — الذي بلغ النضج عام ١٩٣٠م، ثم أصبح للمرأة
— في الأجيال
التالية — شخصيتها وحقوقها، كما أن سيطرة الرجل تقلَّصت، ولكن لم يبلغ الأمر بعد درجة
المشاركة، وظل للرجل
امتيازه.
من ناحية أخرى، فإن المتعلمات والسيدات اللائي يشاركن في الحياة العملية، تزايدن بدرجة
محسوسة،
خاصة في المدن، إنه جيل المشاركة الفعلية، وربما كانت شخصية المرأة في هذا الجيل هي الدافع
لأن تنتزع من
الحقوق — في تقدير البعض — ما قد لا يسمح به الدين والشرائع.
وحين عادت كوثر طالبة الليسيه (في قافلة الزمان) من السينما — بمفردها — ليلًا، قال
لها مصطفى: «كنت أفكر في مجيئك إلى هنا، وعودتك في الليل وحدك.
تقول كوثر في دهشة: وماذا في ذلك ما دمتُ واثقة من نفسي؟!
– قد يضايقكِ بعض الشبَّان في أثناء عودتك.
– لا يجرؤ أحد على الاقتراب مني.
– يا لله، ولماذا؟
– كيف يجرؤ ما دمت أنا لا أريده؟!»
٦٦
وتقضي كوثر النهار كله مع صديقها في القناطر الخيرية، دون أن يشغلها سؤال الأسرة ولا
قلقها، وتنزل
إلى البحر بالمايوه!
عمومًا، فقد أصبحت الصفة الغالبة على الفتاة العربية أنها متعلمة وعاملة، مثل الشاب
تمامًا، ودعم الاستقلال الاقتصادي مركزها الاجتماعي والإنساني.
وقد ألقت فايزة (الطريق المسدود) بكل الأسئلة التي كانت تشغلها، وتنغص حياتها: لماذا
ينتابها
الخجل دومًا، بينما الطلبة تطل من عيونهم جسارة واقتحام؟ لماذا الرجل إله، تقضي المرأة
عمرها في إعداد
طعامه، وترتيب بيته؟ لماذا الرجولة — في نظر المجتمع — شرف وامتياز؟ والأنوثة مهانة وضعف؟
لماذا ظل
الرجل، وليس عمل المرأة، وأمومتها، واستقلالها الاقتصادي؟ ألقت خلفها بكل تلك الأسئلة،
وقررت أن تمضي
في حياتها كبشرٍ سوي، لا كرجل، ولا كامرأة، بشر مكتمل له ذكاؤه، وخبراته، وطموحه، وإرادته
في تحقيق ذاته.
•••
يذهب الفنان إلى أن المرأة، سيدة بيتها، كانت — إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية
— تلك التي
تعرف كيف تطهو الطعام «المسبِّك»، وتصنع أطايب الحلوى، وتليِّف لزوجها ظهره عند دخوله
الحمام، وتغسل قدمَيه
عند عودته مجهدًا من الديوان أيام الصيف.
٦٧ وكان رأي الزوج أن «المرأة كالحذاء في قدم الرجل يستبدلها كلما أراد.»
٦٨ ثم كانت الزوجة الجديدة لعبد المقصود أفندي تعبيرًا واضحًا عن تبدُّل وضع المرأة داخل
البيت،
فهي لم تعُد أمينة التي تنتظر أوبة زوجها لتحمل له المصباح، ولتساعده في استبدال ثيابه،
وتنزع عنه حذاءه،
وتغسل له قدميه. رفضت — بداية — أن تغسل له قدميه عند عودته من الديوان، ثم أجبرته —
هذا هو التعبير
الأدق — على ارتداء البيجامة في البيت بدلًا من الجلابية، وأن يكون طربوشه بخوصة، وأن
يستبدل بنظارته
أخرى عصرية، ويستخدم حمَّالة للجوارب، ويرتدي بنطلونات فضفاضة على أحدث طراز، وينتعل
حذاء أنيقًا مكشوفًا
بدلًا من الحذاء الغليظ الرقبة من القماش المطاط.
٦٩
وحين تبدي عواطف تخوُّفها من أن يطلقها زوجها، إذا أصرَّت على أن يطلق زوجته الجديدة،
الثانية، تقول
لها صديقتها هدى: «تبقي تعيشي بكرامتك أحسن ما تعيشي مع راجل بتشاركك فيه واحدة تانية،
أنا مش فاهمة
أنتِ إزاي تقبلي على نفسك الوضع ده.»
٧٠
وتقول لزوج صديقتها: «إزاي تبقى راجل واحد وتتجوِّز اتنين ستات؟!»
٧١
وتطرح قضية عمل المرأة نفسها بشدة في قول سميرة لزوجها: لماذا لا تريدني أن أعمل؟
أفي عمل النساء عيب؟
– لم أقل إن في عمل النساء عيبًا.
– فلماذا لا أعمل كما تعمل نساء كثيرات؟!
٧٢
وتحدد السيدة سوزان (سكون العاصفة) عنق الزجاجة الذي اجتازته المرأة في قولها: «المسألة
اليوم
حرية وعمل معًا، لكن الرجل لا يريد أن ينسى ماضي الجنسين، والمرأة تمسك بيدها باب الحريم
المفتوح حتى لا
يُقفَل مرة أخرى.»
٧٣ ويضغط بكير (سكون العاصفة) على ضرورة أن تكون الزوجة عاملة، يقول: «تصور يا سعادة البك
مثلًا إن زوجتي لا وظيفة لها، فماذا كنت أعمل؟»
يضيف قوله: «والله العظيم ثلاثة إن مرتبي يضيع في أجرة المسكن والخادمة والنور وحساب
اليومية من
أجل طفلنا الصغير.»
٧٤
واطمأن إبراهيم (خاتم الزواج) إلى أن الحياة قد تغيَّرت، نزلت المرأة إلى الشارع،
تعمل جنبًا إلى
جنب مع الرجل، وغير معقول أن يؤوِّل الرجل — أي رجل — كل كلمة لها، أو ابتسامة رقيقة
مؤدبة منها، إلى شروع
في مغامرة.
٧٥
مع هذا، فإن معظم الأسر ظل يؤمن أن مكان المرأة هو البيت، وأن عملها هو الإنجاب ورعاية
الأبناء،
الفتاة تلاحقها كلمات قد تتغير، لكنها تحمل معنًى محددًا: مصيرك إلى الزواج، يجب أن تتعلمي
الطبخ، مصيرك
إلى الزواج! الزواج! الزواج!
٧٦ وتقول الأم لابنها في دهشة: «هو البيت يبقى بيت من غير الست ما تكون قاعدة فيه؟»
٧٧ وكان رأي أحمد أن المرأة مملكتها البيت، إذا خرجت منه فلا بد أن تضل الطريق، ذلك رغم
أنه كان
في مرحلة الدراسة الجامعية بعد.
٧٨ ويقول الرجل: «البنت بعد ستَّاشر سنة ملهاش إلا البيت يلمَّها.»
٧٩ أما فتحي فقد كان على يقين أن «المنزل هو خير مدرسة للفتاة.»
٨٠ وكان رأي عدلي أن التعليم العالي يفيد الرجال أكثر مما يفيد النساء، النساء يستذكرن
لينجحن
في الحياة، والرجال يستذكرون لينجحوا في الحياة.
٨١
ظلت نساء الأجيال السابقة على رأيهن بأن التي تتوظَّف هي الفتاة البائرة، أو القبيحة،
أو المسترجلة،
هكذا قالت خديجة (السكرية) عندما أعلن أحمد شوكت نيَّته بالزواج من الصحفية سوسن حماد:
«الموظفة لا يمكن
أن تكون زوجة صالحة.» أضافت: «وهل تتوظَّف إلا الفتاة البائرة أو القبيحة أو المسترجلة؟!»
٨٢ ويقول عم صقر في ثقة: «لا تصدِّق أن فتاة شريفة تقبل أن تعمل وسط الرجال.»
٨٣
لا شك أن دور الأمومة الذي كانت له السيادة — بالنسبة للمرأة — حتى أواسط القرن العشرين،
قد تقلَّص
بصورة واضحة. ثم لامس التغيُّر شخصية الزوجة، بصورته التقليدية. حل — بدلًا منه — دور
الأنثى المتعلمة،
العاملة، ثم فرض وجوب استعادة التوازن بين الأنوثة والعمل نفسه.
تقول إنجي أفلاطون: «هذا هو الذي نعنيه حين نقول إن العمل يعني للمرأة تحررها من
ربقة الرجل —
أبًا أو أخًا أو زوجًا — فإن كسب الرزق بعرق الجبين، هو ركن الاستقلال الاقتصادي الذي
ننشده للمرأة في
المجتمع المصري، وإن الاستقلال الاقتصادي هو الضمان الذي يحمي المرأة من التعرض لصنوف
المذلة والهوان
التي تلقاها على يد الرجل.»
٨٤ وتقول السيدة سوزان (سكون العاصفة) «المسألة اليوم حرية وعمل معًا، لكن الرجل لا يريد
أن
ينسى ماضي الجنسين، والمرأة تمسك بيدها باب الحريم المفتوح حتى لا يُقفل مرة أخرى.»
٨٥ وقد تبيَّنت رفيف في رواية سحر خليفة «عباد الشمس» أنها تخاف الوحدة أكثر مما تعشق الحرية،
وأنها إذا خُيِّرت بين الحرية والرجل، فإن الرجل سيكون اختيارها.
٨٦
•••
مع أن حمزة (قصة حب) كان يردد دائمًا بأنه لا فرق بين الرجل والمرأة، وأن لها مثل
ما له من حقوق،
فإنه لم يكن يثق — في داخله — بالفتيات، ولا بما يمكن أن يقمن به.
٨٧ وتقول التلميذة لزميلتها: هكذا الأمهات يفضِّلن الأولاد وينحزن لهم، ويتعاملن معنا بقسوة
غير
مفهومة.
٨٨ وكان العديد من الآباء يوافقون على تعليم الفتاة إلى مرحلة معينة، تلزم بعدها البيت،
أو إلى
نهاية التعليم الجامعي، شريطة ألَّا تعمل بالشهادة، فالبيت — في النهاية — هو مكانها
الطبيعي، ذلك ما حدث
بالنسبة لكريمة ابنة ياسين (السكرية) وعلوية صبري (السكرية)، ويعلل والد عطيات (غصن الزيتون)
موافقته
على تعليم ابنته، بأن تعليمها — في تقديره — أشبه بزوادة المسافر «وعطيات مسافرة حتى
تستقر في
بيت.»
٨٩ وتقول خديجة (السكرية): الموظفة لا يمكن أن تكون زوجة صالحة، وسيعرف — ابنها — ذلك بعد
فوات
الأوان.
٩٠
ويعلن عبد الوهاب إسماعيل موافقته على أن تتعلم الفتاة، شريطة أن يكون ذلك لحساب البيت
لا الوظيفة
(المرايا)، بل إن درية (الوشاح الأبيض) تجد في عملها ضرورة ألجأتها إليها الظروف المادية.
تسألها صديقة لها: لو أنكِ غنية، ماذا كنت تفعلين؟
تجيب: لا شيء، سوى أنني كنت أنقطع عن العمل، لكنني غير مختارة.
٩١
وكانت فلسفة جلال أن «النساء متاع، ما خُلِقن إلا للتسرية وعبث الرجال.» وكان رأيه
أن المرأة بلا
قلب، ولا عقل أيضًا.
٩٢
وثمة من تصوَّر المرأة ملكة من ملكات النحل في الخلية «وظيفتها أن تفرز السم وتتجمَّل
للذكر، حتى إذا
ما أفرز لها هو الشهد وقدَّمه لها باليمين، قدَّمت هي إليه السم بالشمال وقتلته، وهو
لمَّا يزل في
أحضانها.»
٩٣
وبعد وفاة قاسم أمين بعشرات الأعوام، ظل الانتقاد له ولدعوته. يقول مراد: «ما هو
اللي تخَّن ودان
الستات … خلَّاهم يتعرُّوا في الشوارع، ويتعلِّموا، ويتوظَّفوا، ويتزنقوا في الأوتوبيسات.»
٩٤
وكان خالد (مليم الأكبر) يجد في الفتاة المصرية «مجموعة من تفكير تافه، وادِّعاء
ممض، وعقد نفسية
يضيق لها الصدر، إنها ليست سوى أنثى، تسعى لاصطياد قرين، ولو اقتصر الأمر على ذلك لهان،
ولكنها تنكر
أنها مجرد أنثى، وتنكر سعيها وراء الذكر، وهي لذلك تعمد إلى الادعاء إنها — تارة — الفتاة
المثقفة،
وتارة الفتاة المتفرنجة التي تعرف آخر ما وصل إليه فن الغرب، وهي تظهر — أحيانًا — بمظهر
الفتاة
المستهترة ذات الأفكار الحرة، ويحلو لها — في أحيان أخرى — أن تسدل على وجهها قناع التحفظ
والاستحياء.
إنها — دائمًا — تمثِّل دورًا من الأدوار التي تستهويها لعجزها عن أن تكون نفسها، فهي
لا تزال في طور
الأنوثة البدائية، لم ترقَ بعد إلى مرتبة البشرية، وإن جهادها لطويل.»
٩٥
ويقول يوسف الشاروني عن الظروف التي كانت تحياها الفتاة المصرية، عندما كتب قصته
«رسالة إلى امرأة»
(قبل ١٩٥٢م) «كانت الفتاة المصرية سافرة وجهًا، لكنها لا تزال محجبة نفسيًّا، فهي في
صراع بين التقاليد
التي تربَّت عليها، وبين ما تسمعه في الإذاعة، وما تقرأه في الروايات، عن الحرية والحب،
مما يسبِّب اضطرابًا
في علاقاتها الاجتماعية، بحيث تبدو — في بعض الأحيان — أنها غير متسقة، أو غير منطقية،
أفكارها وسلوكها
متناقضان. إنها تحلم بحريتها في اختيار مَن تحب، لكنها تتزوج بالشكل التقليدي. أما الشباب،
فالأمر مختلف
بالنسبة لهم، حيث إنهم لا يعانون من ضغط التقاليد بشكلٍ مفروض عليهم من الخارج، ولهذا
يتصرفون بحرية
أكثر، سواء كانوا مقتنعين بالشكل التقليدي في علاقاتهم الاجتماعية، أم متحررين منها.»
٩٦
أما سناء (الباب المفتوح) فإنها تتحدث عن مأساة الفتاة المصرية، في تلك الفترة، بالقول:
«على
الأقل أمهاتنا كانوا فاهمين وضعهم، أما احنا، احنا ضايعين، لا احنا فاهمين إذا كنا حريم
ولا مش حريم، إن
كان الحب حرام ولَّا حلال، أهلنا بيقولوا حرام، وراديو الحكومة طول الليل بيغني للحب،
والكتب بتقول للبنت
روحي أنت حرة، وإن صدَّقت يبقى مصيبة، تبقى سمعتها زفت وهباب، بالذمة دا وضع؟ بالذمة
احنا مش غلابة؟!»
•••
ارتفعت نسبة المتزوجين في كل ألف من السكان من ٢٣٫١ في عامَي ١٩٣٨م و١٩٣٩م إلى ٣٢٫٤
في كل من عامَي
١٩٤٦م و١٩٤٧م، بزيادة أكثر من ٤٠٪، لكن نسبة الطلاق ارتفعت كذلك في الفترة نفسها؛ فقد
ارتفع من ٦٫٥ في كل
ألف من السكان عامَي ١٩٣٨م و١٩٣٩م إلى ٩٫٥ عامَي ١٩٤٦م و١٩٤٧م بزيادة ٤٦٪ تقريبًا.
٩٧
وفي إحصاء مغاير، بلغ معدل الطلاق، في الفترة من ١٩٤١م إلى ١٩٤٦م، ٤٫٢ في الألف من
السكان،
٩٨ وثبت أن ٩٪ من حالات الطلاق تحدث قبل إنجاب الطفل الأول، و٤٪ قبل الطفل الثاني، و٣٪
قبل
الطفل الثالث، وكان في مقدمة أسباب الطلاق، إباحة الطلاق للرجل في الشريعة الإسلامية،
والعيب ليس في
الشريعة، وإنما في سوء استغلال الرجل لهذا الحق.
إن أبغض الحلال عند الله الطلاق.
ذلك ما يؤكده الحديث الشريف، لكن الرجال أساءوا استغلال هذا الحلال البغيض، وأسرفوا
فيه، إلى حد
أن نسبة الطلاق عند المسلمين بلغت في ١٩٤٧م حوالي ٢٨٪ بينما بلغت — في السنة نفسها —
٤٪ فقط بين
المسيحيين.
ثم يأتي سبب آخر، هو إباحة تعدُّد الزوجات، فقد كان هو السبب في حوالي ١٨٪ من إشهارات
الطلاق، رغم
أن ظاهرة تعدد الزوجات، هبط خطها البياني بصورة لافتة (الأسباب الاقتصادية يصعب إغفالها!)
فالرجل يتزوج
امرأة عقيمًا، لا يتزوج غيرها في الوقت نفسه، بل يطلقها، ويتزوج مرة ثانية.
٩٩
ثم تأتي العوامل الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، مثل عدم التكافؤ السني، أو المادي،
أو إعسار
الزوج … إلخ.
١٠٠
من الصعب كذلك إغفال بعض العوامل الفسيولوجية والنفسية، مثل عدم توافر الانسجام الروحي
والعاطفي
والجنسي بين الزوجين، ومثل العقم، والميل إلى الإيذاء، أو المرض بشذوذ جنسي، وربما تداخلت
مجموعة من
العوامل، فشكَّلت سببًا أساسًا في الطلاق.
١٠١
ولعل مبعث ذلك الارتفاع الهائل في حالات الزواج والطلاق، هو الثراء الذي أصابه الكثيرون
في أعوام
الحرب العالمية الثانية.
١٠٢
إن فاطمة وهدان (سكون العاصفة) التي فقدت أباها، ثم طُلِّقت من زوجها، تعبِّر عن
المأساة التي عانقتها
بالرغم منها بقولها: «لو كان لنا عمل يا سيدي ما كان طلاقي مصيبة، ولا موت أبي مصيبة.»
١٠٣ ثم بدأت المرأة — بالعمل — تستريح من أزمتَي الأرملة والمطلقة،
١٠٤ فالمرأة المطلقة قد تصبح مطمعًا للرجال.
١٠٥
•••
إذا كانت الحياة العاطفية للمرأة، وما يتصل بها، هي القضية الوحيدة — أو تكاد — التي
انشغل بها
الأدباء، منذ عبَّر الراوي في مذكرات الأميرة يراعة (١٩١٠م)
١٠٦ عن الشعور الدفين الذي بدأ يكنُّه للمرأة الفاضلة، فإن إحسان عبد القدوس قد جاوز ذلك
— إلى حدٍّ
كبير — بطرح قضايا وهموم ومشكلات أخرى، واجهتها المرأة في رحلة البحث عن شخصيتها، وتأكيدها.
إحسان
يذكِّرنا بلورنس الذي أفلح في التغلغل داخل نفس المرأة وعقلها ومشاعرها، وتصوير أفعالها
ورود أفعالها في
صدق فني، يغيب عن كتابات أخرى، حاول أصحابها التعبير عن المرأة، دون أن يملكوا الحس الذي
يؤهلهم لذلك.
النتائج السلبية لقضية المرأة المصرية، هي التي تتحدد في إطارها أعمال إحسان عبد القدوس،
التي
تتناول قضايا المرأة المصرية، والفتاة المصرية على وجه الخصوص، بعد أن وجدت نفسها — فجأة،
ربما — جنبًا
إلى جنب، مع الشاب، في الكليات الجامعية، منذ أواخر العشرينيات، بعد أن كان الحصول على
الابتدائية هو
أقصى ما تطمح إليه الغالبية العظمى من الفتيات المصريات، أما مجرد التفكير في الاشتغال
بوظيفة ما فجريمة
يصعب إغفالها.
إن غالبية بطلات عبد القدوس يبدأن بالحيرة، يُلقين على أنفسهن، وعلى الآخرين، عشرات
الأسئلة، وربما
أفضت الإجابة إلى سؤال، وتتعدد الأسئلة والأجوبة، لتظل الحيرة في موضعها أحيانًا، وتجاوزه
في أحيان
أخرى. ذلك مسار هدى في «شيء في صدري»، وفايزة في «الطريق المسدود»، وأمينة في «أنا حرة»،
وسميحة في «الوسادة
الخالية»، وعلية في «أين عمري»، وسناء في «لا شيء يهم»، ونانا في «النظارة السوداء» …
إلخ.
الإطار الاجتماعي لفتيات إحسان عبد القدوس بعامة هو الطبقة الوسطى، فهي الطبقة الأقرب
إلى تكوينه
الاجتماعي والنفسي، ونحن نرى في المحاولات القلمية التي خرج فيها إحسان عن مجال تجاربه
الخاصة وخبراته،
ليتحدث عن شخصيات لم يختبرها في حياته.
وعلى سبيل المثال، فقد كان غياب واقع الحياة في الريف عن الفنان، مبعث تصوره أن ابن
العمدة يستطيع
— ارتكازًا إلى وضع أبيه — أن يفيد من تقاليد مستترة، تتيح له الحق في الفلاحات اللائي
يترددن على
الدوار لمساعدة أمه في العجين، والفلاحات اللائي يعملن في الغيطان، ونساء الغجر ضاربات
الرمل اللائي
يترددن على القرية.
١٠٧
عبَّر الفنان عن أخلاق الطبقة الوسطى الحضرية، التي كان يعلم ظروفها وأحوالها جيدًا،
ثم حاول
التعبير عن الريف الذي لم يكن يعرف عنه شيئًا، فتحدَّث عن تقاليد الريف المستترة، وهي
تقاليد تستند إلى
خيال الفنان بأكثر من انتسابها إلى الواقع.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تحمُّل الصدمة كان قدَر فتيات الطبقة التي عني إحسان عبد القدوس
بتناولها،
ذلك لأنهن خرجن إلى التعليم ابتداء، ثم إلى مجالات عمل كانت مقصورة — أو تكاد — على الرجل
وحده.
في تقديمه لرواية «أنا حرة»، يقول عبد القدوس إن الرواية منتزَعة من حياته، من حي
العباسية الذي عاش
فيه، ومن شخصيات عرفها فعلًا، ومن آراء كان يؤمن بها، وظل يؤمن ببعضها.
١٠٨ لذلك — ربما — جاء القول إن إحسان عبد القدوس كتب عن نموذج من النساء مقهور، لم يستطع
أن
يحقق ذاته في واقعه، فلجأ — كتعويض — إلى نوعٍ من التمرد.
١٠٩
ورغم كل المآخذ التي تعيب على أعمال إحسان عبد القدوس أنها قد أثَّرت — بصورة خاطئة
— في جيل
الخمسينيات، من حيث مفهومات الحرية، والشرف، والعلاقات العاطفية والجسدية وغيرها، ثم
بدأ هذا التأثير
يضمحل لاعتبارات عديدة، في مقدمتها شحوب تلك المشكلات التي طرحها عبد القدوس في رواياته
وقصصه القصيرة.
رغم تلك المآخذ التي وَضعت إحسان — أحيانًا — في خانة كُتاب الجنس، دون أن تتيح له
مغادرتها، ولو
بأعماله التي تتناول موضوعات سياسية خالصة، مثل «في بيتنا رجل» (رفضت إحدى لجان وزارة
المعارف العمومية
رواية «في بيتنا رجل» بزعم أنها رواية جنسية، والمؤكد أن اللجنة أصدرت حكمها ترتيبًا
على «سمعة» الفنان،
وليس على الرواية ذاتها، لأنها تخلو تمامًا من المواقف العاطفية الحادة).
أقول: على الرغم من ذلك، فإن إحسان عبد القدوس يمثِّل — في تقديري — تحوُّلًا حقيقيًّا
ومطلوبًا، في
مناقشة المشكلات التي لا تخلو من تأثر بالآداب الأوروبية، أو المشكلات غير المكتملة الأبعاد،
ليثير من
التساؤلات أكثر مما ينشد من الأجوبة، في محاولة لمناقشة وضع الفتاة المصرية — والمرأة
المصرية بالتالي —
في فترات التحوُّل التي شهدها المجتمع المصري منذ نهاية ثورة ١٩، وظاهرتَي اختفاء الحجاب،
وخروج المرأة إلى
التعليم والعمل، فضلًا عن التعبير عن التفسخ العميق في القيم والأخلاقيات عند أبناء الطبقة
الوسطى، وما
فوقها.
ولعل أهم ما يطالعنا في أعمال إحسان عبد القدوس أيضًا، أنها تأخذ موقف المناصرة لقضايا
المرأة،
وتتعاطف مع كل التساؤلات التي تطرحها — عبر مراحل حياتها المختلفة، ومرحلة الشباب بالذات
— بل إنه يحاول
حتى تفهُّم عوامل سير بعض الفتيات في الدروب المظلمة، وهو في ذلك كله يختلف تمامًا عن
نظرة غالبية أدباء
جيله إلى المرأة، التي تطفح — أحيانًا — شكًّا واتهامًا بالخيانة، أو تجد في المرأة شيئًا
ينشد المتعة
بكل السبل، أو أنها «ناقصة عقل ودين.» وهو — بالضرورة — يختلف مع المجتمع ذاته الذي يوافق
— بالصمت، أو
بالتحريض — على قتل «الفتاة» التي يعتدي عليها «الرجل»، حتى لو لم تكن قد سعت إلى «الجريمة»،
أو شاركت فيها بدورٍ
إيجابي (ونتذكر المسكينة عزيزة في «الحرام»، وربما نتذكر المسكينة الأخرى هنادي في «دعاء
الكروان»).
المرأة — في الأغلب — هي الضحية، والمجتمع كله — بتقاليده ونظرته الثابتة إلى المرأة
وظلمه
وحمايته للمجرم الحقيقي — يسهم في الجريمة، الرجل الذي يذبح أخته الخاطئة هو نفسه الذي
يخطئ مع أخوات
الآخرين، والزوج الذي يقتل زوجه دفاعًا عن الشرف هو نفسه الذي يخون الآخرين — أو يسعى
لخيانة الآخرين —
في زوجاتهم، والمجتمع الذي ينشر أغنيات الحب هو المجتمع نفسه الذي يعاقب من يقع — الأدق:
من تقع — في
الحب والغرام!
إن مفهوم الحرية، والتعبير عن هذا المفهوم، وممارسته … ذلك كله هو رحى الأزمة التي
عانتها فتيات
إحسان عبد القدوس، والحرية — في تقدير الفنان — لا تعني الخطيئة، لكنها هي الإحساس باكتمال
الشخصية.
١١٠
حاولت كل واحدة أن تسير في الدرب الذي تصوَّرته صحيحًا، بعد أن جاوزت الحرية حدَّ
المطمح والأمنية،
وأصبحت حقًّا — أو شبه حقٍّ — للفتاة المصرية، تنال كلٌّ منه بالنصيب الذي يتيحه لها
المجتمع من حولها، أو
تمارسه، بالأسلوب الذي يعبِّر عن مفهومها للحرية.
من هنا، اختلفت التفسيرات والتجارب والممارسات بصورة متناقضة وحادة … ففي «الطريق
المسدود» يطالعنا
الفنان بهذه الكلمات: «إن الخطيئة لا تُولَد معنا، ولكن المجتمع يدفعنا إليها.»
١١١ فهو إذن يحاول أن يقف على أرضية من مذهب علم الاجتماع الذي ينادي بنظرية التقليد والإيحاء،
بمعنى أن الإنسان لا يُولَد «مجرمًا» لكنه يُقدِم على «الجريمة» بتأثير تصرفات الآخرين
وإيحاءاتهم.
سامية (الرجل الذي فقد ظله) تتحدث عن أسرتها بأنها لا تظن أن هناك في الدنيا كلها
أسرة تشبهها،
ولا أمًّا تشبه أمها، وأن البيت هو في حقيقته فندق، لكن ذلك ما كانت تحياه أيضًا أسرة
فايزة في «الطريق
المسدود»:
فايزة صغرى شقيقات ثلاث، مات عائلهن منذ سنوات، وتولَّت الأم رعايتهن بوجهة نظر تؤمن
أن الشرف مسألة
نسبية، وأنه ليس ثمة ما يمنع من أن تمارس الفتاة حريتها بالصورة التي تحقق لها حياة أسعد،
شريطة أن تظل
فتاة، عذراء.
تقول فايزة عن والدها الراحل: بابا ما سبناش فقرا … إنما سابنا شرفا.
فتجيبها شقيقتها خديجة: طيب اتحطي بقى، واتلفَّعي بالشرف بتاعك.
١١٢
تقول الأم: خديجة وفوقية أشرف من بنات البلد كلهم، ما فيش راجل يقدر يقول إنه خد
منهم
حاجة.
١١٣
وتتساءل فايزة: ماذا تقصد أمها بالشرف؟ هل تقصد أن بناتها ما زلن عذارى؟ وهل يكفي
أن تبقى الفتاة
عذراء لتكون شريفة؟ هل كل شيء مباح؟ … إلخ.
١١٤ وكان في حقيبة كل واحدة من الشقيقات الثلاث مفتاح لباب الشقة، وكان من حق كل واحدة أن
تخرج
متى تشاء، وتعود متى تشاء.
وتقول خديجة لفايزة: الشرف معناه إنك تشغَّلي مخك، إنك ما تطلعيش في السما بخيالك.
١١٥
أدركت فايزة النتائج «الإيجابية» لما تعنيه الأم والشقيقتان، حين تزوجت أختها من
الشخص نفسه الذي
كان يقضي معها الليالي، ويبادلها كئوس الويسكي، ويغترف بشفتيه وكفَّيه من جسدها، لكن
مفهوم الشرف عند
فايزة ظل يختلف عما تعتقده أمها وأختاها. إن الشرف هو أن يظل كل ما فيها عذريًّا، شفتاها
ووجنتاها
ونهداها، حتى أطراف أصابعها، وكان الحب لديها يساوي الزواج، لكن ما حولها كان «يدفعها
إلى الخطيئة، بل
إنها تعيش وسط الخطيئة، ولكنها يجب أن تقاوم، وأن تعبر نهر الحياة سابحة ضد التيار، ستكون
الزهرة التي
تنبت وسط المستنقع، ستكون تمثال العذراء المصنوع من الطين الذي يحيط بها … إلخ.»
١١٦
ثم أرادت فايزة أن تمارس مفهوماتها للحب والزواج والشرف — تلك التي لم تستطع ممارستها
بين أمها
وأختَيها في البيت — داخل جدران المعهد، لكنها — مقابلًا لاستياء الفتيات من مسلكها!
— اضطرت إلى
مسايرتهن بالضحك على النكات الجارحة، والإصغاء إلى قصص مغامراتهن التي كانت ترفضها في
أعماقها، لكنها
كانت تضطر إلى طلب السلامة، ثم تحطَّم الصنم الذي أقامته في قلبها لأستاذها الدكتور رشاد
حين حاول
تقبيلها، بل إنه قال لها كلمات أخطر من تلك التي تؤمن بها أمها وأختاها «والله مش قادر
أتصور طالبة زيك
في المعهد العالي … بتقرا لبيرون وشيلي، وتشهد بكلام واحد زي يوسف وهبي، ممثِّل دجال
بيضحك على عقول الناس
اللي زيك بكلام رخيص، ثم لازم تفهمي إن شرف البنات اليومين دول مش زي عود الكبريت، ده
زي الولاعة يولع
ميت مرة.» وصارحها بعلمه بعلاقات أمها.
١١٧
ثم حاصرت الظروف فايزة تمامًا، لما عايرتها إحدى الطالبات بعلاقتها بالدكتور رشاد،
وكانت العميدة
هي أملها الأخير، الأمل الذي يمثِّل المرأة المثالية، والزوجة الكاملة، والحياة النظيفة
الطاهرة، لكن
العميدة — دون أن تحاول الإنصات إليها — تفتح درج مكتبها، وتُخرِج مجموعة من الأوراق
تُلقي بها فوق المكتب،
وتقول: «كل دي شكايات ضدك من زميلاتك!»
واستسلمت فايزة للإحساس بالظلم، وأقرَّت الخطيئة، اعترفت بها كحقيقة من حقائق المجتمع،
وإن لم
تقترفها.
تخرجت فايزة في المعهد، وكانت كل التجارب التي عاشتها كطالبة باعثًا لها كي تُقبِل
على عالم الوظيفة
المجهول، ذلك الذي ينأى بها عن أسرتها، وعن كل الظروف المحيطة بها، في مدينة بالغربية.
وبعد أن وصلت إلى المدينة الريفية استمعت إلى نصائح كثيرة من الناظرة والمدرسات:
إوعي تبصِّي لحد
أحسن الحبَّة هنا بيعملوا منها حكاية … صحيح البلد كبيرة إنما برضه أرياف، وكل واحد فيها
بيتكلم على
التاني … إلخ،
١١٨ لكنها — في الوقت نفسه — راحت تستمع إلى كلمات أخرى من زميلتها سعدية، ذكَّرتها بالكلمات
التي كانت تقولها الأم والأختان في القاهرة: «ما فيش راجل ياخد من واحدة أكتر من اللي
هيَّ عايزة
تدِّيهوله، حتى لو غرَّقها بالهدايا، وبعتلها ميت قزازة بارفان، الرك على الست!»
١١٩
لكن ناس المدينة الريفية — حقيقة اكتشفتها بعد أيام قليلة من وصولها إليها — لم يكونوا
يختلفون
كثيرًا عن الناس الذين تركتهم في القاهرة. ثمة الدكتور عوض الذي يشتري ذمم الرجال وأعراض
الفتيات
بالأموال والهدايا، ويقدِم على أية وسيلة تتيح له تحقيق أغراضه، وثمة العمدة عبد المقصود
بك، الذي يتوسَّل
— حتى بابنته — لاجتذاب المدرسات، بل إنها تلتقي — للمرة الأولى في حياتها — بزميلة تعاني
شذوذًا
جنسيًّا!
تتصور فايزة أنها وجدت الخلاص من ذلك كله، في العلاقة البريئة التي بدا أن الشاب
أحمد يرجوها،
وحين أدركت أن نهاية تلك العلاقة — في طموح أحمد — هي الزواج، لم تمانع — في داخلها —
من أن يقبِّلها،
ذلك لأن الحب — في تقديرها — مآله الزواج «ولأول مرة في حياتها يشركها خيالها مع رجلٍ
في فراش
واحد.»
١٢٠
وعلى الرغم من كل محاولات الصيدلي عوض والعمدة عبد المقصود بك لاستمالة فايزة بالدعوات
والهدايا،
فإنهما كانا أول من أبدى انزعاجه بعد أن ذاعت حادثة انتحار الصبي الصغير محمد عبد العظيم
— ذلك الذي كان
يظن أن حنوَّها عليه يعني حبًّا — فلما رآها تعانق أحمد دفعته الصدمة إلى محاولة الانتحار
بشرب صبغة يود.
صاح عبد العظيم بك: «إيه الحكاية يا حضرة الناظرة، الواحد ما بقاش قادر يطَّمن على بناته
في المدرسة دي،
إيه الفضايح والجُرس اللي الواحد بيسمعها دي؟»
١٢١ حتى تلميذاتها الصغيرات، لم تسلم من سخريتهن؛ دخلت الفصل ذات صباح، لتقرأ على السبورة
«محمد
عبد العظيم»، اسم الطفل الذي حاول الانتحار.
١٢٢
أحيلت فايزة إلى التحقيق، وواجهها المحقق بأقوال أبناء البلدة ضدها، ووجدت نفسها
تفكر في المجتمع
كله، في الناس، في الدنيا التي ظلمتها: «لماذا لم يحقق مع حسنية — الشاذة جنسيًّا — وهي
تنثر مرضها بين
زميلاتها؟ لماذا لم يحقق مع كل زميلاتها، ولكل منهن رجل؟ لماذا يحقق معها هي وحدها؟ وتساءلت:
لماذا لم
تسِر في طريق أمها؟ لماذا حاولت أن تضع لنفسها حياة أخرى، تنسجها من مُثُلها العليا،
وتبتعد بها عن
الناس؟»
١٢٣ حتى أقرب صديقاتها تجنين عليها، حتى أحمد، ذلك الذي أرادت أن تحتمي به من الأعين، والهمسات،
ومن الناس، ومن المجتمع، ومن نفسها … حتى أحمد خذلها «إنت اللي جبان، جبان، جبان، خايف
تقف قدام الناس،
وتدافع عن نفسك وعني، خايف تحمي نفسك وتحميني، خايف تواجه الحقيقة وتقول لهم إنك صحيح
كنت بتحبني، وكنت
بتقابلني، وكنت بتوعدني بالجواز.»
١٢٤
ووجدت نفسها تفكر في المجتمع كله، وتيقنت — لمرة جديدة — أن مفهوم المجتمع للشرف أن
تظل الفتاة
عذراء، كل شيء مباح عدا العذرية، فهي يجب أن تبقى مصونة لا تُمَس!
أحسَّت أنها يجب أن تنتقم لصباها، وشبابها، من المجتمع والناس. وكان الكاتب منير
حلمي أول من فكرت
في الانتقام منه، كان يمثِّل بالنسبة إليها صدمتها الأولى في حقائق الحياة من حولها.
ذهبت إليه في بيته،
وصارحته بقولها: الناس كلُّهم زيَّك، ما حدِّش رضي يقبلني بشرفي وكرامتي، كل طريق مشيت
فيه لقيته مسدود،
مسدود بالسفالة والانحطاط والأخلاق الزفت. وأخيرًا، قررت إني أنا أبقى كمان سافلة ومنحطة
وأخلاقي زفت
عشان الطريق ينفتح قدَّامي.
١٢٥
لكن منير حلمي — في رأي مفاجئ، يذهلها — يؤكد لها إنها تسير في الطريق الأصوب، ويدعوها
لأن تظل
حريصة على الشرف داخل الإطار الذي حددته منذ البداية، وتنضم فايزة إلى موكب الحائرات.
•••
كانت حيرة فايزة مقابلًا للأفكار التي كان يؤمن بها بطل «النظارة السوداء»؛ فالشرف
يكون بمقدار
حاجتنا إليه، وكذلك الأمانة والإخلاص والوطنية، وكل المبادئ والمُثُل العليا، والزوجة
الفقيرة أشد إخلاصًا
لزوجها من الزوجة الغنية لأنها في حاجة إليه، والرجل الفقير يؤمن بالشرف والأمانة والنزاهة
لأنها الشيء
الذي يطالب الآخرين به، حتى يمكن له أن يحيا بينهم، بعكس الرجل الثري الذي يعتبر أمواله
بديلًا مؤكدًا
لكل المُثُل والمبادئ الشريفة.
١٢٦
كان المجتمع الذي تحيا فيه فايزة يدفعها إلى نبذ الشرف — بالمقاييس التي حددتها —
لكنها أصرَّت أن
تحتفظ بشرفها، رغم كل المصاعب والمغريات، وأنها لم تكن في حاجة إليه لتحيا، بل لقد كان
حرصها على الشرف
هو سر حيرتها، وضعفها بالتالي، بينما كانت تستطيع أن تمارس حريتها، وتحيا في قوة، بلا
مبادئ ولا مُثُل
عُليا ولا شرف!
واجهت المدرسة حكمت (الأستاذة حكمت) المشكلة نفسها التي واجهتها فايزة في «الطريق
المسدود»، الفرق
في تماسُك فايزة الأخلاقي، وميل المدرسة الثانية إلى الغواية!
١٢٧ كذلك واجهت سامية (الرجل الذي فقد ظله) الظروف نفسها: «عائلة غريبة، أمي وزوجها، وشقيقتي
الصغرى إنصاف، وأنا وزبائن البوكر الذين نستقبلهم كل ليلة، ويرتفع شجارهم عند كل فجر،
لا أظن أن هناك في
الدنيا كلها عائلة تشبه هذه العائلة، ولا أمًّا تشبه أمي، أنا أحبها، ولكن كل واحد منَّا
في حاله، كأننا
مجموعة من الغرباء نلتقي في هذا البيت، إنه ليس بيتًا، إنه فندق.»
١٢٨
ولا شك أن الظروف الاجتماعية والمادية قد ساعدت فايزة (الطريق المسدود) على الصمود،
بينما عجزت
سيدة (نحن لا نزرع الشوك) عن المقاومة لظروفها المادية والاجتماعية القاسية.
الأمر نفسه في الظروف القاسية التي كانت تعانيها عزيزة (الحرام) وابن قمرين يرتمي
فوقها داخل
الحفرة التي زلَّت فيها قدمها.
•••
الملاحَظ أن السِّمة التي تلف كل الشخصيات التي التقتها فايزة في «الطريق المسدود»
هي معاناتها
لإيجابية الشر — إن جاز التعبير — في بعض أحوالها، أو السلبية المدمِّرة في أحوال أخرى،
بدءًا بالأم التي
كانت تعيب على ابنتها عدم فهمها للحياة، وأنها لن تفقد شيئًا حقيقيًّا إذا أعطت كل شيء
وحافظت على
عذريتها، وانتهاءً بالشاب أحمد الذي كان الحب الأول في حياتها، ثم تخلَّى عنها في نذالة
غريبة، مرورًا
بالشقيقتين والعمدة والصيدلي والتلميذات والمدرسات، كل الشخصيات التي التقت بها فايزة،
أو رافقتها في
طريقها المسدودة.
من الواضح أن الفنان قد وصم المجتمع كله بالشر لتأكيد مقولته، ولتبرير «حيرة» فايزة
في ختام
الرواية بعد أن كانت قد أعدَّت نفسها للسقوط فعلًا، لولا كلمات الصحفي منير حلمي، وبقية
من تماسك. وكانت
الحيرة نهاية استاتيكية لاختيار فايزة سبيلًا مناقضًا للسبيل الذي سلكته أمها وشقيقتاها.
ربما يبيِّن
الأفق القريب — أو البعيد — عن الأمل أو ما يشبهه، بعكس سلوى (سلوى في مهب الريح) — على
سبيل المثال —
التي التمست في البداية سبيلًا مغايرًا لما سلكته أمها، ثم وهنت مقاومتها شيئًا فشيئًا،
حتى أسلمت نفسها
إلى المصير المؤلم.
والحق أنه يصعب أن نتبيَّن أرضية زمانية تتحرك من فوقها «سلوى في مهب الريح»، وإن
كنا نستطيع أن نعتمد
على رواية مؤلفها — محمود تيمور — بأن أحداث القسم الأول منها وقع في رمل الإسكندرية
«أيام كنت أتردد
على كازينو سان استيفانو في صيف ١٩٣٠م.»
١٢٩
سلوى تعبير عن الطريق التي كان على فايزة أن تقطعها، لو أنها اتَّبعت نصائح أمها وأختيها،
وسارت في
الطريق الخاطئة.
ومن يدري، فربما سارت أخيرًا في تلك الطريق بعد أن تنتهي الرواية، وهي لا تزال في
موكب
الحائرات!
•••
لعلنا نجد تشابهًا — وربما تطابقًا — في العوامل المؤثرة في حياة فايزة — الطريق المسدود
— وسلوى —
سلوى في مهب الريح — وسامية — الرجل الذي فقد ظله — فقد كانت وفاة الأب، العائل لأسرة
متوسطة الحال، وما
لحق ذلك من ضغوط اقتصادية حادة، ثم رد فعل وفاة العائل ونتائجها على شخصية الأم، واتِّسام
ذلك بالتحلُّل إلى
حد التحريض على إهمال مفهوم الشرف بالمعنى الموروث في الأسر المصرية — وبخاصة في الأسر
المتوسطة — في
الحفاظ على بكارة الفتاة، وتحاول الانتماء إلى الطبقة الأعلى بتقديم بعض التنازلات في
«سلوى في مهب الريح»
و«الرجل الذي فقد ظله»، وتنشد الحصول على المال بصرف النظر عن الوسائل في «سلوى في مهب
الريح».
نحن نتذكر كلمات الأم لابنتها في «الطريق المسدود»، في نصائح أم سلوى لها: أحسني لقياه
— الباشا —
ابتسامة لطيفة، كلمة ظريفة … أهلًا وسهلًا بسعادة الباشا.
– ماذا تقصدين؟
– أقصد أن نلهو به يا غبية، فنستفيد منه دون أن ينال منَّا منالًا، فشرفنا لا يُمَس!
ظلَّت فايزة تعاني الحيرة، بينما لاذت سامية بمرفأ الاقتران بالعجوز محمد ناجي بعد
حبها العاصف
الفاشل ليوسف السويفي.
أما سلوى، فقد كان عزوفها عن غوايات الأم مقابلًا لرد الفعل عندما خضعت للظروف القاسية،
فقد
افتقدت في طفولتها رعاية الأب وحنان الأم. تولَّى جدُّها لأبيها رعايتها حتى مات، فانتقلت
إلى بيت أمها
التي هجرها الأب قبل وفاته لأسبابٍ خُلقية.
وزيَّنت الأم لسلوى — بالتصرف الذي يومئ، وبالكلمات المباشرة — حياة الخطيئة، وصمدت
الفتاة طويلًا،
وارتكزت في صعودها إلى شخصية الدكتور فهيم، الذي كانت حياة سلوى ستتغيَّر لو أنه لم يغادرها
فجأة، فقد كان
يمثِّل — بهدوئه وحبه الصامت — بقعة ضوء أحكمت الأم حجب منافذ الضوء عنها، لكن الفنان
خرج به من الرواية
لتصبح سلوى في مهب الريح، ولتواجه المأساة بمفردها.
وكان للعامل الاقتصادي تأثيره المباشر في استمساك فايزة بأخلاقياتها، وبمفهومها للشرف
والحرية.
الأمر نفسه بالنسبة لسامية التي كانت تلقى العون المادي من أمها، فضلًا عن سهولة فرص
العمل
أمامها.
أما سلوى، فقد كانت الأم — مصدر عونها بعد وفاة الأب — تحرص على استلابها ما يهديه
لها الآخرون
(ونلحظ أن علاقة الأم بحبيب ابنتها، تتكرر في رواية إقبال بركة «تمساح البحيرة» … «إنه
كابوس، لا بل حقيقة
لا شك فيها، فمن كانت بين أحضان مدحت الشاب الذي تحبه، وتحلم بالزواج منه، أمها، جنات
رضوان الشبكشي، من
هنا كان يقبِّل أمها في نهمٍ ولهفة، هو مدحت فخري، الشاب الذي تصورته حبيبًا وصديقًا،
وتمنَّته رفيقًا في درب
الحياة.»)
١٣٠
وقد بلغ خوف سلوى من سلب أمها لكل ما تملكه، أن الأم — عندما انتزعت المشبك الجديد
من صدر سلوى
وراحت تتفحَّصه — مدَّت سلوى يدها بقلق، تسترد المشبك، فقالت الأم تطمئنها: لن أسلبك
إياه!
١٣١
ولم تكن سلوى تملك ما يعينها على مواجهة الحياة، ولم تكن تُحسِن عملًا، وحتى بعد أن
أودت بها
المأساة إلى المصير المؤلم.
أرادت أن تبدأ من جديد، التحقت بالعمل في مشغل للخياطة، وهو ما لم تُعِد نفسها له
أبدًا لانتمائها
الطبقي من ناحية، ولغياب فكرة العمل عنها قبل ذلك من ناحية أخرى.
والواقع أننا لا ندري عن ماضي الأمهات الثلاث شيئًا، العوامل التي دفعتهن إلى الإقبال
على حياة
أخرى مناقضة للحياة اللائي كن يمارسنها حتى وفاة العائل، فهي حياة جديدة أشبه برد فعل
مفاجئ وممتد، وإن
كان ينقصه التبرير الموضوعي.
روَت الدادة أم يونس لسلوى عن أبوَيها اللذين لم ترهما، فالأب كان ضابط بوليس قوي
الشكيمة، وكان يحب
أمها، لكنه كان يشتبك معها في مشاحنات كثيرة، وكاد يقتلها ذات مرة، وتسأل سلوى: كيف؟
تجيب أم يونس: لقد باغتها مع …
وتسكت.
من هنا كان إلحاح أم يونس على سلوى بأن تتزوج، «تزوجي … تزوجي أي شخص … حتم أن تتزوجي،
الله
ستار!»
١٣٢
ونحن نلحظ أن كذبة أم سامية هي نفسها كذبة أم سلوى، فكلتاهما قالت لابنتها، حين ضبطتها
مع رجل
غريب إنه المحامي الذي يتولى قضاياها.
١٣٣
ولما تُوفي الجد، أمضت سلوى أيامًا عند صديقتها سنية في قصرها، وعادت إلى البيت في
سيارة الزهيري
باشا، وهناك رأت أم يونس تجالس سيدة لم تعرف من هي إلا بعد أن قالت لها: تعالي يا سلوى
… أنا أمك.
كانت السيدة ترتدي ثوبًا فاخرًا، لا يليق بالمناسبة الحزينة، وأطلقت ضحكة لم ترُق
لسلوى، وخلا
قلبها من أية عاطفة نحو أمها. قد يهون مسلك الأمهات الثلاث لو أنه لم يجاوز النفس، لكنه
امتد إلى محاولة
التأثير المباشر، لتواجه الابنة المصير نفسه، بعكس الأم في «شيء في صدري» — مثلًا — التي
لم تكن تدري —
حتى بعد أن اعتدى حسين شاكر باشا عليها — بمحاولات الباشا لغواية ابنتها.
ولعلِّي أختلف مع الرأي بأن سلوى هي التي ألقت بنفسها إلى الطريق الخطأ، ظنًّا منها
أنها أقصر الطرق
إلى الهدف البرَّاق الذي أنفقت حياتها في العدْو وراءه.
١٣٤
ربما ارتكز الرأي إلى قول سلوى: «إنها لأقدار عجيبة تلك التي ترمي بي إلى هذا المصير،
حقًّا إننا
لا قِبَل لنا بمقاومة تلك الأقدار، ولكن ألسنا نحن المسئولين عما نقترف من ذنوب؟ لستُ
خاطئة بالقدر الذي
يبدو، أو لست على الأصح خاطئة وحدي، أليس شريف شريكي، ولكن لِمَ ألوم المسكين وقد كان
في ذلك محددًا
بعاطفته المشبوبة، وحبه الفوار؟ لا خاطئ سواي! يا لله شد ما أنا بغيضة كريهة!»
١٣٥ وتصارح نفسها يومًا: «كتبت عليَّ يا رب أن أشهد مصرع رجلين أحبَّني كلاهما وأحببتهما،
إن الشؤم
بذرة كامنة في نفسي، إني أنفث حولي سمًّا زعافًا، وإنه لمصيبني يومًا ليودي بي!»
١٣٦
ولعل في هذه الكلمات ما يجيب عن ملاحظة عباس خضر بأنه «كان ينبغي على الفنان أن يُطلِعنا
— في شخصية
سلوى — على جانبٍ من مصارعة الضمير لقوى الشر والإغراء التي أحاطت بها، فيستكمل بذلك
تصوير مأساة الفتاة
التي كانت ضحية للبيئة الفاسدة المنحلة، التي أوجدتها فيها ظروف اجتماعية لا يد لها فيها.»
١٣٧
سلوى ضحية — على المستوى الأسري — لتربية أم فاسدة، وهي ضحية — على مستوى المجتمع
ككل — لنظامٍ
طبقي بشع، يُخضِع لسطوته المُثُل والقِيَم والأعراض، وكانت سلوى جزءًا هشًّا، وضعيفًا،
في بِنية ذلك النظام.
كانت الأم حادية سلوى في سبيل التربية الأسرية الفاسدة، مات الأب الذي كان من مشاهير
رجال الشرطة،
حتى إن أم يونس تؤكد أنه إذا عمل ببلد، خرج إليه الناس محتفين بمقدمه، واستقبلته النساء
بالزغاريد.
١٣٨ وكان الحديث الذي لا تمل أمها ترديده ما أضاعه والدها — جد سلوى — من ثروة طائلة في
المضاربات وصفقات التجارة، فلم يخلف لها سوى بعض الريع، لذلك فإنها تغيب عن البيت لزيارة
المحامي أو
الوكلاء، تدير معهم أمور الريع وتنظمها، وتبذل النصح والتوجيه، وتقول لسلوى في ثقة: «اعلمي
يا سلوى، أنه
لو كانت أمك من هؤلاء النساء الجاهلات اللائي يقضين أعمارهن بين أربعة جدران بالمنزل،
ولا يعرفن من شئون
الحياة شيئًا، لقضيتِ حياتكِ في بؤسٍ وتعاسة، ولكن احمدي الله على أني امرأة أجاهد في
الحياة جهاد الرجال،
سعيًا في طلب الرزق، ورغبة في أن أوفر لك أسباب العيش الرغيد.»
١٣٩
وكان الزهيري باشا حادي سلوى في سبيل الانغماس في حياة الطبقة الأعلى «كان عظيم المظهر
بين السراة
من رفاقه وإخوانه، يعجبني فيه روعة طريقته وهو يُشعِل لفافته، أو ينفث دخانها، أو ينفض
رمادها بين حين
وحين.»
١٤٠ وأظهر تأثرًا بالغًا لما تقدمت تركب سيارة الباشا، فقد أسرع يساعدها آخذًا بذراعها في
رشاقة
وحذق «حقًّا ما أرق هذا الرجل وما أظرفه!»
١٤١
يقول لها حمدي، بعد أن أنصت إلى عبارات تخوُّفها من المستقبل: كنت أحسب أن حياتكِ
مع والدتكِ قليلة
المتاعب.
تجيب: أرجو منك أن تترك الحديث عن والدتي، إنها في وادٍ، وأنا في وادٍ آخر، إني أعد
نفسي في هذه
الدنيا بلا أهل!
١٤٢
تحققت سلوى أن الفكرة التي تمثَّلتها في شأن الأم من قبل كانت فكرة غير صحيحة، ولا
تمت إلى الواقع
بسببٍ حقيقي. كانت صورة الأم في وهمها أنها تعنى بطعامها وملبسها ومنامها، تطهو لها الطعام
بنفسها، وفي
موعد النوم تهيئ لها الفراش، وتظل بجوارها تسامرها حتى يغلبها النوم، لكن الأيام كانت
تمر دون أن ترى
سلوى أمها إلا لحظات، وربما تقضت بضعة أيام دون أن ترى الابنة أمها؛ فالأم تلزم حجرتها
نائمة حتى
الظهر، ثم تخرج فلا تعود إلا في صباح اليوم التالي، فإذا التقيا مصادفة، اكتفت الأم بأن
تقول: أهلًا يا
سلوى! ثم تختطف من وجهها قبلة سريعة، وتفترقان.
١٤٣
والدلالة واضحة في تصرف الأم، عندما أراد المهندس تركيب راديو في البيت، أصرَّت الأم
أن يكون الجهاز
في حجرتها، وقالت: «إن مثل هذا الجهاز لا يُترَك في أيدي من لا يقدِّره، ولا يعرف كيف
يديره.»
١٤٤
وعندما خصص الباشا لسلوى سيارة تستخدمها في تنقلاتها، فإن الأم أصرَّت أن تحتكر استخدام
السيارة،
ونشبت بينها وبين سلوى منازعات، حاول الباشا إنهاءها بترك إحدى سياراته القديمة للأم،
بحيث تظل سيارة
سلوى لها وحدها، لا يركبها سواها.
١٤٥ وتفرَّغت الأم لحياتها الخاصة، لا يعنيها من أمر ابنتها إلا أن تسلبها ما تستطيع سلبه
إياها
من مال ومتاع،
١٤٦ حتى في المستشفى، حرصت الأم أن تعنى بنفسها «ولا سيما حين تستقبل الطبيب، فكان إذا لاحظ
ما
يبدو عليها من زينة بالغة، ابتسم لها ابتسامة مجاملة، ولاطفها في تكلُّف.»
١٤٧
كان الباشا يقابل سلوى — لفترة طويلة من طفولتها وصباها — بوجه صارم متجهم، ثم أقبل
عليها فجأة،
ونجح بالفعل في الارتباط بها عاطفيًّا وجسديًّا، انتهز لحظة تغلبت فيها العاطفة، فلفَّ
ذراعَيه حولها، ومال
بفمه يقبِّلها، وتركته سلوى بلا مبالاة، لم تحاول منعه، ولا طالبته بعدم التمادي.
١٤٨
وتمادت العلاقة بالفعل.
ولعل حرص الباشا على أن يحقق ذلك الارتباط مع فتاة في سن ابنته، كان مبعثه حياة أمها؛
فإذا كان
الولد سر أبيه، فمن البديهي أن تكون الفتاة سر أمها.
وبالفعل، فقد كان المفهوم الذي تعبِّر من خلاله الأم عن الحرية، هو الدافع لأن تختار
سلوى ذلك
السبيل الذي طالعها المصير المؤلم في نهايته.
سلوى تذهب مع حمدي في نزهة إلى الأهرام.
وتسألها سنية: أذهبت وحدك؟
تجيب: ولم لا أفعل؟ … وتضيف: هذا زمن الحرية!
١٤٩
وتقول الأم: «إني أعدك لتكوني فتاة عصرية من فتيات الطبقة العالية، ولكنكِ لا تريدين
أن
تفهمي.»
١٥٠ وتقول الأم: «ألَا تعلمين أن الرقص أصبح من مقتضيات المحافل والمجتمعات العائلية.»
١٥١
وعندما تشير أم يونس إلى أن عينَي زوجها لم تقعا حتى على طرف ثوبها قبل الزواج، وإن
كان قد أحبها —
فيما بعد — وأحبته، وعاشا معًا في هناءة موفورة، تقول الأم وهي تبتسم: إن أم يونس تريد
أن تجعلك على
غرارها، لا يرى خاطبك طرف ثوبك، أما أنا فأريد أن أجعل منك نموذجًا للزوجة العصرية، إنني
أرعى دائمًا
مصلحتك.
١٥٢
وتوجه الأم النصح لابنتها: «إن الرجال — على فرط ذكائهم — تغرب عنهم بسائط الأمور،
يظنوننا طوع
بنانهم، يشتروننا بمغريات الهدايا، ولكن علينا أن نضحك منهم — كما أسلفت إليك — فيما
نصحتُ لك به، نغنم
ما يقذفونه علينا من الهدايا، دون أن ينالوا منا منالًا.»
١٥٣
وسارت سلوى في طريق التمرد على الواقع «لا شأن لأحدٍ بي، ولا سلطان لإنسان عليَّ.»
١٥٤ وعابت على حمدي أنه «لا يبذل جهدًا في علاج مرضه، أو الخلاص من فقره؛ إنه يترك نفسه
نهبًا
للأقدار تذهب به كل مذهب، إنه فتى خامل النفس، راقد الهمة.»
١٥٥ وتخاطب نفسها: «هذا الفتى الضامر الأعجف [حمدي] سأكيل له الصاع صاعَين، هذه المومياء
الكريهة المنظر، سأُفهِمها حقيقة أمرها.»
١٥٦ ونتذكر أمينة (أنا حرة) في قول سلوى — ردًّا على ملاحظة الأم، عقب عودتها من الخارج:
«تلبسين
ثياب أمك، وتخرجين وحدك، عرفت الآن لماذا لم ترغبي في الخروج معي لزيارة ضريح الست أم
هاشم.»
وضعت سلوى يدها في خاصرتها، وقالت: أنا حرة، أفعل ما أريد.
١٥٧
ثم وجدت سلوى نفسها — فيما بعد — تردد قول أمها: لماذا لا نتلهَّى بهؤلاء الرجال
دون أن ينالوا منَّا
منالًا؟
١٥٨
ثم تعلن فيما يشبه الاقتناع: «ما كان أحكم أمي حين نصحت لي بأن نعبث بالرجال دون
أن ننيلهم
وطرًا».
١٥٩
•••
إذا كانت الأم هي التي دفعت سلوى في طريق الانحراف، فإننا لا نعرف ظروف انحراف الأم
نفسها شيئًا،
اللهم إلا أنها كانت تتوق للتعرف إلى الأغنياء (هل كانت فقيرة أصلًا، أو أنها أصبحت كذلك
بعد وفاة زوجها؟) وكانت أم فايزة (الطريق المسدود) تنشد المال بالزواج، فهي تنصح ابنتها
بأن تبحث عن الزوج الغني
المناسب، الذي تورطه ليتزوجها.
١٦٠
أما أم سامية — الرجل الذي فقد ظله — فقد قالت لابنتها إنها لا تعارض في أن تكون
لها علاقة بأحد
الشبَّان، بشرط أن يكون غنيًّا، وأن تفلح في اجتذابه ليتزوجها.
١٦١
ولعله من قبيل صحوة الضمير، أو رفض المهانة الطبقية، قول الأم — سلوى في مهب الريح
— لابنتها،
وعلاقتها بالباشا تشهد أيامها الأولى: «خذي من هؤلاء الناس حذرك، ولا تغتري بما يبدون
من زائف الود، إن
الباشا يحبك كما يحب السيد تابعه، إن أمثاله يعدوننا دونهم مقامًا وكرامة، وإنهم ليسمحون
لأنفسهم أن
يراودونا على كل شيء تشره إليهم شهواتهم، لا يقيمون لشرفنا وزنًا.»
١٦٢
ولعل ترحيب الباشا بزواج سلوى من حمدي، يذكِّرنا بموافقة الوزير — أو حرصه — في «القاهرة
الجديدة» على
زواج إحسان شحاتة من محجوب عبد الدايم. يقول الباشا لسلوى: «نصيحتي إليكِ أن تتركي الأمر
للزمن، ولا
تتعجلي، ولكن ثقي أنه إذا استقر رأيكِ على قبول حمدي، فإني لا أتوانى — كما قلت لك —
في أن أعينه على
تحسين حاله.»
١٦٣ ويقول لها في مناسبة تالية: «بمناسبة حديثك في شأن زواجكِ، يسرُّني أن تعلمي أني على
استعداد
لتلبية مطالبكِ التي تقتضيها الحال، ثقي أني في خدمتكِ دائمًا، سأكون لك الصديق الوفي
أبدًا.» ويشير إلى
حمدي «ثقي أنني مستعد أن أبحث له عن عمل طيب، أكثر دخلًا من عمله الذي يزاوله الآن، حتى
يستطيع أن يواجه
الحياة الزوجية.»
١٦٤ وتقول سلوى: «… وبمحضر من الباشا تمت مراسم الزواج، وهيهات أن أنسى ما كان من سماحة
خلقه إذ
أشرف بنفسه على إعداد هذه المراسم، فهو الذي استدعى المأذون، ونثر العطايا والمنح، وهو
الذي وقف يتفقد
حمدي أثناء ارتدائه حلة العرس الجديدة … إلخ.»
١٦٥
يداخل الملل نفس سلوى بعد فترة قصيرة من زواجها بحمدي «أخذت أضيق ذرعًا بحياتي، وأفقد
السلوى في
كل شيء حولي.»
١٦٦ ووصلت سلوى علاقتها السابقة بالباشا ما كان قد انقطع «وعادت حياتنا أوثق عرى مما كانت
من
قبل.»
١٦٧ وكانت الأم تزورها في بيت الباشا كلما أعوزها المال، تتظاهر بالسؤال عما وصلت إليه حالة
حمدي في مرضه، وتسأل عن أخبار ابنتها، ثم لا تكاد تحصل على ما تطلبه من نقود حتى تهرول
إلى
الطريق.
١٦٨
ثم ظهر شريف في حياتها، فران الفتور على علاقتها بالباشا، بينما توطدت بالمحب الجديد
«ارتفعت
بيننا الكلفة، وأصبحت جريئة عليه في مطالبي المالية، فما كان يأبى عليَّ من شيء، وكلما
أوغلت بنا الأيام
ازددت جسارة، وازداد هو استسلامًا وطاعة.»
١٦٩
فلما قضى الباشا نحبه، بدت كل الطرق مسدودة أمام سلوى، لم يعُد سوى طريق مصادقة شريف،
هو الأمل في
حياة الدعة والترف التي كانت تتطلع إليها.
وعلى الرغم من رفضها لتصرفات الأم، وكرهها المعلن لها، فإنها وافقت على أن يكون بيت
أمها هو مكان
لقاءاتها بشريف، وأن تمهد الأم لجلسات العشيقَين «وكثيرًا ما امتدحت لي شريف، وأطرت خصاله،
وقد تعدَّدت
حفلات الغداء التي كنا نقيمها له، أو التي كان يتولاها هو في بيتنا على الأصح، وعاد الرخاء
القديم يرف
على البيت، واستطعتُ أن أؤدي نفقات المصحة دون تعسر، وأقبلتُ على زيارة حمدي في اهتمامٍ،
أحمل له ألوانًا من
الطعام والفواكه والهدايا.»
١٧٠ وتصِف سلوى نفسها، في تلك الأيام التي انساقت فيها وراء ملذاتها: «لم تكن مطالبي تقف
عند حد،
بل لقد تحوَّلت شهوة الطلب عندي إدمانًا وشرهًا، لا أملك عنه نكوصًا، فكان مثلي كمثل
السكير، كلما عبَّ
ازداد إلى الخمر ظمؤه غير عابئ بشيء.»
١٧١
وتموت الأم، تسقط في إحدى الحانات مغشيًّا عليها، ثم تموت «وكان عليَّ أن أعترف بأن
هذا البكاء لم
يمتد وقته، فسرعان ما نضب الدمع في عيني، وخرجت مع شريف في السيارة عائدَين إلى منزلي.»
١٧٢ وحين استولت على قلب شريف، بعد أن انتزعته من سنية — صديقتها وابنة الباشا في الوقت
نفسه —
داخلها شعور بزهو انتصار الخليلة على الزوجة، وبتبرم المرأة بمن تزاحمها في قلب رجلها،
١٧٣ ثم ما تلبث أن تنقلب على الشاب — شريف — بعد أن أصبح — على حد تعبيرها — هيكلًا محطمًا
لا
حول له ولا طول «إنها بواعث مجهولة تدفعني إلى هذه الحماقة، أجد لها في نفسي لذة واستجابة،
ثم أنقلب
ساخطة غضبى، يشيع بين جوانبي وخز وتبكيت، فأفكر في العودة سريعًا لاسترضائه وملاطفته
بالهدايا
والطرف.»
١٧٤ ويقول لها شريف، بعد أن هدَّدته بالفراق: «يلُوح لي إنك، بعد أن امتصصت دمي، تبغين البحث
عن
صيد جديد.»
١٧٥
ثم جاء ذلك اليوم الذي نظرت فيه سلوى إلى نفسها في المرآة، فأحسَّت أن الوجه الذي
يطالعها ما هو
إلا وجه أمها «ذلك الوجه الذي نسجت عليه حياة السهر وعبث الهوى وإدمان الخمر آثارًا لا
تملك محوها
المساحيق والأدهان.»
١٧٦
خانت سلوى زوجها — حمدي — مع الباشا، ثم اختطفت شريف زوج صديقتها سنية، وأهملت رعاية
زوجها، برغم
النفقات القليلة التي كانت تدفعها له في المصحة، ربما لتُسكِت بها صوت ضميرها، حتى مات،
وتجسَّدت أمام
الجميع — حتى الدادة شيرين — صورة للخيانة والحقد واستلاب ما يملكه الآخرون.
أحاط الفراغ بسلوى بعد أن غاب الجميع، وتلمَّست حولها شخصًا يعينها على أمرها، فلم
تجد إلا وحشة
وانفرادًا، فلا مؤنس، ولا معين،
١٧٧ ولاذت بحضن الدادة شيرين: «كان يُخيَّل إليَّ أني بعيدة العهد بمثل هذا الصدر الذي حُرمت
حنانه
وعطفه سنين بعد سنين، وكأني في هذه الفترة قد طويت العمر راجعة إلى الوراء، فإذا أنا
سلوى الطفلة، تجد
في ذلك الحضن ملاذها الحبيب ومفزعها الأمين.»
١٧٨
أخيرًا، فلعلَّه يمكن اللجوء إلى تفسير الفنان ذاته لموقف سلوى، فقد كانت تابعة لبنت
زهيري باشا،
وكانت تأكل فضلات طعامها، وتلبس خليع ملابسها، وكان لا بد لها في هذا الوضع أن تحس بأن
إنسانيتها ليست
في وضعها الطبيعي؛ فالعدالة الاجتماعية شيء، والصدقات شيء آخر، وكلاهما له ظل نفسي، وأثر
اجتماعي
مخالف.
١٧٩
•••
في «النظارة السوداء» (نُشرَت الطبعة الأولى في ١٩٤٩م، وهو العام الذي أثار فيه عبد
القدوس قضية
الأسلحة الفاسدة)، وقد أشار إحسان إلى ذلك في مقدمة الطبعة الثانية: «إن قراء آخرين قد
يغفرون لي كتابة
القصة، ولكنهم لا يغفرون لي كتابة هذا النوع من القصص، وقد كتب بلزاك هذا النوع من القصص
منذ مائة عام،
ولم يقُل أحد إن بلزاك كان كاتبًا منحلًّا، بل إن قصص بلزاك لم تعِش حتى اليوم إلا لأنها
من هذا النوع.
والأدب العصري كله هو أدب صريح، أدب لا يحتمل النفاق، أدب يتطلب من الكاتب أن يكون طبيبًا
يصف الداء
والدواء.»
١٨٠
حوَّلت نانا أفكار بطلة الكراسة الحمراء في «الرباط المقدس» للحكيم إلى واقع تحياه
وتمارسه، فإذا
كانت بطلة الكراسة قد أعلنت أن المرأة يجب أن تُفهِم الرجل أنها مساوية له، وأن الأمر
بإرادتها هي أيضًا،
وأنها تعطي عندما تريد أن تعطي، في الليلة الأولى أو الليلة الأخيرة، سيَّان عندها ذلك
ما دامت هي تريد،
وتحسُّ إنها تريد،
١٨١ فإن نانا قد أقدمت على ذلك دون أن تفلسف الأمر، بل ودون أن تجد فيه ما يثير النقاش،
أو
التساؤل، حتى إن السياسي الشاب لم يخفِ دهشته حين أوقف التاكسي أمام باب بيته، ودعاها
للصعود، ووافقت بلا
تردد.
وكانت تلك المرة الأولى التي يلتقيان فيها.
كانت نانا تجسيدًا للشهوة الحيوانية، التي تجد في المتعة الجسدية مع أي رجل أمرًا
عاديًّا
ومطلوبًا، وكانت تجد متعتها الحقيقية عندما يُهان جسدها على يد العاشق، ينهال عليها بكفَّيه،
وينشب أظافره
وأسنانه في لحمها، ويقبِّلها بأسنانه، ويجذب خصلات شعرها حتى يوقعها على الأرض، ولم تكن
تطلب مقابلًا
ماديًّا، فالمقابل الوحيد أن تجد ذاتها الحيوانية في أحضان رجل، حيوان.
كانت النشأة الأجنبية هي الباعث وراء تلك الحياة الغريبة، فقد كانت بنتًا على أربعة
صبيان، وكانت
تعتبر نفسها دائمًا واحدًا منهم، وكانوا يعتبرونها كذلك، ولما كبرت، وعرفت الحب للمرة
الأولى، عرفته في
أحضان شاب إيطالي مصاب بالساديزم، وتصورت أن كل الشبَّان هكذا، وأن ذلك هو الحب. وكانت
تعود إلى بيتها، في
الفجر، مخمورة، وربما غابت عن البيت أيامًا دون أن يحاسبها أحد، وكان والداها يؤمنان
بأن مبادئ التربية
الحديثة تقضي بأن التجربة وحدها هي التي تعلِّم الأبناء معاني الحياة، وتحوَّلت إلى مومس
بلا ثمن، فهي
التي تختار عشَّاقها، وهي التي تصادقهم وتدفعهم إلى دعوتها لتمارس الجنس بالكيفية التي
تعودت عليها، حتى
التقت به ذات يوم، وكان شابًّا وطنيًّا له مبادئ ومُثُل، واستطاع أن يغيِّر من تفكيرها
وأسلوب حياتها، فلم
يعُد جسدها ملكًا لمن يشاء — أو تشاء! — وأصبح الشرف من المُثُل التي تَدين بها، بل إنه
حين تكررت قصة
تاييس، وتنازل صديقها عن مُثُله وقِيَمه، لم تفقد هي نفسها التي استردَّتها على يديه.
خلعت النظارة السوداء، وسارت في اتجاه الشمس.
استطاعت نانا أن تجاوز محنتها، عندما وجدت المرشد الذي يقود خطواتها، بينما لم تجاوز
فايزة أسرار
حيرتها لافتقادها ذلك المرشد، حتى كلمات الكاتب منير حلمي لم تضع حلًّا حاسمًا لحيرتها،
وظلَّت على
توزُّعها بين الحفاظ على شرفها، باعتباره قوام الحرية التي تتمتع بها، و«التعامل» مع
مجتمع تعاني قطاعات
كبيرة فيه من الانفصام الذي يتبدَّى — في بعض جوانبه — في الإيمان بالتقاليد، وفي التمرد
الشخصي المستتر
عليها في آن.
•••
لا شك أن تأثير سنوات الأسر في نفسية الفتاة المصرية، بحيث ينتهي الأمر بالخنوع —
أحيانًا —
لإرادة الأب المتسلط، أو بالإقدام على تصرُّف سلبي مثل الانتحار، أو السقوط … ذلك التأثير
قد أفرز — بلا
جدال — نتائجه الضارة، بحيث لم تغادر المرأة — في الأغلب — موقف الرفض إلى موقف التمرد،
فضلًا عن
الثورة.
لعلَّه من هنا جاء تحليل عبد القادر القط لرواية يوسف السباعي «إني راحلة»، ورفضه
أن يُلقى الوزر على
الأب الذي يُسيء التصرف في مستقبل ابنته، بل يجب أن تتحمَّل الفتاة الخانعة نصيبها من
اللوم «ما دامت لا تقاوم
إرادة هذا الأب الأناني، سواء انتصرت في ذلك أم كان نصيبها الفشل.»
١٨٢
وإذا كانت بطلة «الرباط المقدس» قد اكتفت بتسجيل قصة وهمية — أو حقيقية! — في كراستها
الحمراء — لكي
تصيح بملء فمها دون أن يسمعها أحد،
١٨٣ فإن أمينة — أنا حرة — كانت حريصة أن يسمع صيحاتها كل الناس، وكانت تؤكد حريتها، ربما
بلا
مناسبة.
أزمة أمينة لم تكن الشرف في ذاته، ولا التقاليد كقيمٍ يجب احترامها، لكنها لم تكن
تريد أن تفعل
شيئًا لا ترغب في أن تفعله،
١٨٤ أرادت أن تفعل الشيء نفسه الذي أرادت أن تفعله نورا في مسرحية «بيت الدمية» لإبسن، تخوض
معركة
الحياة في أمانة تامة وشخصية حرة، لم تكن تصدُّ النظرات الملتمعة، ولا المعاكسات، لأنها
تؤمن بشرف البنت،
أو لأن لها تقاليد خاصة، ولكن لأنها تعرف تمامًا ماذا تريد، وتعرف تمامًا ماذا تعطي نظير
ما
تريد!
١٨٥
كانت أمينة — وهي طالبة — تقف في شرفة بيتها بالعباسية، ترقب طلبة مدرسة فؤاد الأول
الثانوية وهم
يمرُّون من تحتها «كأنهم موكب العبيد يقدِّم فريضة الخشوع للملكة.»
١٨٦ كانت واثقة في نفسها كل الثقة، ربما إلى حد الغرور، واثقة في جمالها، واثقة في ذكائها،
واثقة من مواهبها، واثقة في مواهبها، وثقة من أنها تستطيع أن تحرك مدرسة فؤاد الأول كلها
بطرف إصبعها،
وأنها تستطيع أن تثير فتنة بين رجال الحي برموش عينيها، وأن نساء الحي لا يستطعن — مهما
طالت ألسنتهن —
أن يستغنين عن صداقتها وخطب ودها.
١٨٧
ولم تكن أمينة تحيا بين أمها وأبيها، فقد انفصلت الأم عن الأب، وتزوجت من آخر ثري،
بينما فضَّل الأب
أن يظل عزبًا، وربما كان مبعث العنف في شخصية أمينة شعورها بأنها ليست بين أمها وأبيها،
كان ذلك الشعور
يجعلها تقف دائمًا موقف الدفاع عن نفسها، وكان يجعلها متحفِّزة دائمًا، متنمِّرة دائمًا،
معارضة دائمًا،
وكانت تهرب من البيت لتقضي أوقاتها في اللعب في الحارة.
١٨٨ كذلك فقد كان للتجربة الأولى في حياة أمينة أثر كبير، انعكس على تصرفاتها التالية، في
مراحل
حياتها المختلفة: شاب في الثلاثين، جار في الشقة المقابلة، كانت في العاشرة عندما قبَّلها
بقسوة، وحاول أن
يعتدي عليها، لم تروِ لأحدٍ ما حدث، لكن ما حدث قتل فيها ما يمكن أن يثور من رغبة إلى
رجل، أصبحت تكره
جميع الرجال، إذا ما أرادوها كامرأة، وأصبحت أنوثتها المثيرة التي تبدو في قوامها الفائر،
تخفي تحتها
برودة جامدة في إحساسها كأنثى، لكنها منذ ذلك اليوم علمت أنها لم تعُد طفلة، وأن فيها
شيئًا أكثر مما في
الأطفال، وعرفت أنها جميلة ومثيرة، وأن الصبية لن يكتفوا منها اليوم بأن تلعب معهم المضرب
والعصفورة، أو
عسكر وحرامية.
١٨٩
وحين أسلمت أمينة شفتَيها إلى جلال، زميلها في الجامعة الأمريكية، في قبلات هادئة،
أو محمومة، فإن
العاطفة — وحدها — لم تكن هي المحرك، كان العقل يختفي، أو يفصح عن نفسه، وكانت هناك —
في الوقت نفسه —
أسباب أخرى، فهي تريد بتلك القبلات أن تؤكد شعورها بأنها حرة بالفعل، وأنها تحررت من
التقاليد التي كانت
أسيرة لها في حي العباسية، ومن النفور الذي كانت ترفض بتأثيره كل شاب يحاول أن يقربها،
وربما أرادت أن
تُرضي غرورها الغريزي كشابة ناضجة يشتهيها الرجال، وربما تصورت أن تلك هي الوسيلة للاحتفاظ
بصداقة جلال.
أيًّا يكن الأمر، فإن الوعي ظل يقظًا، حتى في اللحظات الخاطفة التي تهيم فيها في
واحدة من تلك
القُبل.
١٩٠
•••
لعل قضية الاستقلال الاقتصادي للفتاة — والمرأة عمومًا — من بين أهم القضايا التي
فرضت نفسها،
بعد أن حصلت الفتاة على حقِّها في التعلم، وفي الخروج بنتائج إيجابية في بحثها عن الذات
داخل الحياة
الأسرية والمجتمعية.
العمل — في تقدير إنجي أفلاطون — يعني للمرأة تحرُّرها من ربقة الرجل، أبًا أو أخًا
أو زوجًا، «وكسب
الرزق بعرق الجبين هو ركن الاستقلال الاقتصادي الذي تنشده المرأة في المجتمع المصري،
وأن الاستقلال
الاقتصادي هو الضمان الذي يحمي المرأة من التعرض لصنوف المذلة والهوان التي تلقاها على
يد
الرجال.»
١٩١
وعلى الرغم من أن قطاعًا كبيرًا من المجتمع كان يرفض اشتغال المرأة، ويعتبر ذلك عارًا
يلحق
بأسرتها،
١٩٢ فإن ظاهرة خروج المرأة إلى الحياة العامة، وإلى العمل، تأكدت، من خلال الواقع المعاش.
أبدت أم حسنين تأثرًا لزواج ابنها الوحيد من فتاة تعمل في شركة مع الرجال، ثم لم
تلبث أن اقتنعت
بمنطق مطالب العيش الحادة، فضلًا عن شخصية الفتاة التي أتمَّت رسالة الإقناع.
١٩٣
وبعد أن كانت الفتاة تُمنَع من مواصلة تعليمها حتى تتزوج، فإن الكثير من الآباء أصبحوا
يشترطون ألَّا
تتم خطوبة أو زواج، إلا بعد التخرج في الجامعة. وحين وافق الأب على اشتغال ابنته، فإنها
ما لبثت أن
طرحت على نفسها السؤال: «هل كان أبوها يؤمن حقًّا بضرورة العمل بالنسبة للفتاة كما هو
بالنسبة للشاب، أو
أن ظروف الأسرة الصعبة جعلته يتظاهر بهذا الإيمان؟!»
١٩٤
وكانت الصغيرة نوال على ثقة من أنها عندما تفرغ من دراستها، لن تكون في حاجة إلى
أحد.
١٩٥ وإذا كانت خديجة قد تساءلت — يومًا — «وهل تتوظف إلا الفتاة البائرة أو القبيحة أو
المسترجلة» فإن آلاف الفتيات ممن لا ينطبق عليهن تساؤل خديجة، التحقن بالوظائف في الحكومة،
وفي الشركات،
وفي المتاجر، إلى حد منافسة الرجل، وأصبحت المرأة العاملة ظاهرة مقبولة، رفض البعض المبدأ،
لكنه تعامل
مع الظاهرة.
ثم جاء زمان أصبح الشاب يشترط أن تكون زوجته موظفة: «إذا لم تكن العروس موظفة على
الأقل … فكيف
أفتح بيتًا جديدًا يستحق هذا الاسم في زماننا المتوحش العسير؟!»
١٩٦
•••
تخرجت أمينة (أنا حرة) في الجامعة الأمريكية، وتأكدت من نيل حريتها، فهي حرة بالفعل
منذ أقامت في
بيت أبيها، وربما قبل ذلك بأعوام، وربما منذ اللحظة التي قررت فيها أن تكون حرة، لكن
البحث عن وظيفة كان
هو الخطوة التالية في رحلة تأكيد الحرية «عندما تعمل المرأة، فقد حصلت على حريتها.»
١٩٧ ونتذكر قول سيمون دي بوفوار «إن الحرية الحقيقية للمرأة لا يمكن ضمانتها وتحقيقها إلا
بوصية
واحدة وهي العمل.» والمقصود هو العمل الذي لا يدخل في دائرة نفوذ الجماعة التي تنتمي
إليها
المرأة.
١٩٨
العمل يعني للمرأة تحررها من ربقة الرجل — أبًا أو أخًا أو زوجًا — كسب الرزق بعرق
الجبين هو
البُعد الأهم لوضع المرأة المصرية في المجتمع، إنه هو الضمان الذي يحمي المرأة من التعرض
للهوان على يد
الرجل.
١٩٩
التحقت أمينة بوظيفة في إحدى الشركات الأمريكية التي تبيع منتجاتها في مصر، ووهبت
عملها كل الجهد
والوقت حتى رُقيَت إلى رئيسة قسم، لها حجرة مستقلة، وسكرتيرة خاصة، وسيارة، ونسبة مئوية
من المبيعات، إلى
جانب مرتبها. واكتمل لها كل شيء: النجاح والحرية، ورغم ذلك لم تكتمل لها السعادة، كانت
تحس أن هناك
شيئًا ينقصها، شيئًا كالفراغ يحيط بها من كل جانب.
٢٠٠
اتصلت بعباس، ذلك الذي لا تذكر من صورته القديمة — حين كان يمر أمام بيتها في العباسية
— سوى أن
الاحمرار كان يصبغ أذنَيه، فضلًا عن أنه كان يستفزها بتجاهله لها، كأنه لا يحس بها، ولا
يعترف بأنها
أجمل بنات الحي، وأكثرهن فتنة.
٢٠١ عرفت من أخباره أنه تخرج في كلية الحقوق، وعمل بالصحافة، وفي لقائهما الأول، دار حوار
متوتر، وصفها فيه بقوله: لمَّا الواحد يبقى حر يقوم ما يعملش إلا العمل اللي يؤمن بيه،
والإيمان نوع من
الحب، وما ظنش إنك بتؤمني بمنتجات الشركة الأمريكية.
٢٠٢
وبدأت أمينة تناقش نفسها: لماذا أرادت الحرية؟ إن «عباس» يجد في الإيمان بشيء ما دافعًا
لأن
يطالب المرء بالحرية، فما هو إيمانها؟ وتذكرت إنها لم تؤمن — طيلة حياتها — بشيء؛ لم
تؤمن بالدين، ولا
بالأهداف الوطنية، ولا بمبدأ اجتماعي، لم تكن تؤمن إلا بنفسها، وقررت أن تبحث عن إيمان
يملأ فراغ
حياتها، وانضمَّت فعلًا إلى إحدى الجمعيات النسائية، انطلاقًا من إيمان مختلَق بحقوق
المرأة السياسية.
التقت عباس حول إيمانها الجديد، أو إيمانها الأول غير الإيمان بنفسها، وخفتت أحاديث
الحقوق
السياسية شيئًا فشيئًا، لتحل محلها أحاديث أخرى في قضايا عديدة، وأحبَّت عباس، رسا زورق
إيمانها على شاطئ
مبادئه وأفكاره وشخصيته، وأهملت كل مطالبها في الحرية، بل إنها بدأت تشعر حياله بما تشعر
به كل فتاة
حيال مَن تحب، وأحسَّت — في بيته — أن مكانها الطبيعي هو المطبخ، وأنها تتمنى أن تقضي
العمر كله في خدمة
عباس «ولم تنتبه إلى أن الحب هو التنازل عن الحرية، فالإنسان الحر، حر في أن يحب ما يشاء،
أو مَن يشاء،
ولكنه عندما يحب أو عندما يؤمن، فإنما يتنازل عن حريته في سبيل حبه وإيمانه، وهي قد أحبَّت
عباس، وآمنت
به.»
٢٠٣
تركت أمينة عملها في الشركة الأمريكية، إلى عمل آخر أكثر تواضعًا في شركة أخرى، لا
يشغلها عن
عباس، وتعلَّمت أشغال الإبرة وأصول الطهي والكنس والمسح، وتركزت كل أمانيها في أن يصبح
عباس شيئًا مهمًّا،
وفقدت حريتها باختيارها، حتى الزواج لم تعُد تفكر فيه لأن عباس لم يكن يفكر فيه، وأمضت
في رفقة عباس
ثماني سنوات، تعاشره معاشرة الأزواج بلا زواج، فإذا تجرَّأ صديق قريب وسألها متى تتزوج
«عباس»، صرخت في
وجهه: أنا حرة!
ونستعيد تساؤل سيمون دي بوفوار: لقد حاربت لأكون حرة، ماذا فعلت بحريتي هذه؟ بماذا
خرجت
منها؟
تقول إنجي أفلاطون: «هذا هو الذي نعنيه حين نقول إن العمل يعني للمرأة تحررها من
ربقة الرجل، أبًا
أو أخا أو زوجًا، فإن كسب الرزق بعرق الجبين هو ركن الاستقلال الاقتصادي الذي ننشده للمرأة
في المجتمع
المصري، وإن الاستقلال الاقتصادي هو الضمان الذي يحمي المرأة من التعرض لصنوف المذلة
والهوان التي
تلقَّاها على يد الرجل.»
٢٠٤ لكن الحرية في مفهوم أمينة تحددت في أن تكون حرة في تصرفاتها الشخصية، تخرج متى تشاء،
وتعود
متى تشاء، وتطيل الوقوف في الشرفة ما شاء لها مزاجها أن تطيل الوقوف، واتخذت موقف المعارضة
دومًا، ترفض
لمجرد الرفض، وتقول لا في كل وقت.
٢٠٥
وربما كان مبعث العنف في شخصية أمينة، أنها استمدَّت من الضعف الذي كانت عليه شخصية
أمها قوة إرادة
وشخصية حاولت أن تفرضها على كل من تلتقي به، كذلك فقد أصبحت تكره الأغنياء … ألم يسلبها
حنان الأم زوج
ثري؟
كانت تكره الأغنياء، تكره سياراتهم وقصورهم، ترى في كلٍّ منهم صورة لزوج أمها، سيحيلها
إلى امرأة في
مثل حال أمها من فقدان الشخصية.
ورغم المعاملة القاسية التي كانت تلقاها من عمتها وزوج عمتها، فقد قررت ألَّا تسمح
لأحدٍ بأن يرى
دموعها، وألَّا تشكو، أو تعتذر، أو تستعطف. قررت أن تتحدى، وأن تعاند، وأن تقابل كلَّ
ما يجري أمامها
بالسخرية والاحتقار، وخُيِّل إليها أنها بذلك تستطيع أن تنتصر، وتنتقم، وتصون كرامتها،
وفي «الثقافة
العملية»، فكرت أن تبحث عن عمل لتهجر بيت عمتها، ولتكون قوية حرة.
جرَّبت — ذات مرة — أن تفر من المدرسة: ركبت الترام المتجه إلى شارع فؤاد، وفي غير
الجزء المخصص
للحريم، ونزلت في أول شارع فؤاد، وبدأت في مشاهدة معروضات الدكاكين، وكانت تشعر أنها
قوية: ألم تهرب من
المدرسة، لكنها تساءلت في ختام جولتها: هل الحرية هي الفراغ الكبير؟ هل الحرية هي هذه
الساعات المشرَّدة
الممزَّقة التي تمر في حياة الإنسان دون أن تُحتسَب من عمره؟
٢٠٦
ورغم شعورها — بعد أن تسكعت في الشوارع، وتلقَّت درسها الأول في الرقص الإفرنجي —
أنها ارتفعت عن
طبقة أهالي العباسية، وتخلَّصت من بعض مظاهر الحياة التي كانت ضريبة مفروضة على كل بنت
إذا ما خرجت إلى
الشارع، فإنها أحسَّت بشيء في داخلها يعذِّبها. ولم يكن عذابها لأنها تأخرت في العودة
إلى بيتها، وأزعجت
عمتها وزوج عمتها، ولا لأنها رقصت، ولا لأنها سمحت للشبان بتقبيل وجنتَيها، لكنها تعذَّبت
لأنها كذبت على
عمتها، وهي لا تحب أن تكذب، وبكت لأنها كذبت، لأنها ليست حرة في قول الصدق.
٢٠٧
وبعد أن استسلمت العمة وزوجها لإرادة أمينة، فأصبحت تخرج متى تشاء، وتعود متى تشاء،
أدركت أن
عليها أن تثبت لأبيها وأمها وعمتها وزوج عمتها، أنها تستحق هذه الحرية، وتستطيع أن تصونها.
ودفعها هذا الإدراك إلى المحاسبة في كل تصرفاتها، بل إنها تخلَّت عن عالم فورتنيه
ودروس الرقص
ورياضة الانزلاق والحفلات الساهرة، وأقبلت على القراءة بشغفٍ نهمٍ سادر.
٢٠٨
حصلت أمينة على الثانوية العامة، ودخلت معركة أخرى، فقد أرادت عمتها أن تزوِّجها،
وبدأت ترسل وراء
الخاطبات، وتوزع عليهن صور أمينة، وتمنِّيهن بالحلاوة، وراحت تزور العائلات الصديقة،
البعيدة عن العباسية،
والتي لم تزرها منذ سنوات، وأعادت عهد «المقابلات»، وأصرَّت أن تشارك أمينة في تلك المقابلات.
وعثرت أخيرًا على الزوج الذي لا يعرف عن سيرتها شيئًا: شاب يعمل مهندسًا في الحكومة،
لكن شخصيته
القوية، الواثقة، جعلتها تتخيله ثعبانًا ضخمًا، يحاول أن يقيِّد قدمَيها وذراعَيها، ثم
يبتلعها. ولم يعُد
مطلب الحرية ينحصر في عدم اللجوء إلى الكذب، ولا إلى الخوف من أحد، لكنها قررت ألَّا
يكون لأحدٍ حق
عليها،
٢٠٩ وأظهرت رغبتها في مواصلة التعليم الجامعي، وأقنعته باستحالة زواجهما، وأعلنت العمة أنه
ما دامت ابنة أخيها تصر على مواصلة التعليم الجامعي، فإن عليها — أمينة — أن تنتقل إلى
بيت أبيها.
انتقلت أمينة إلى بيت والدها بالفعل، وفي يقينها أن الحرية الكاملة التي أصبحت تتمتع
بها، فرضت
عليها مسئوليات لم يفرضها عليها أحد؛ أصبحت تعتبر نفسها مسئولة أمام والدها، حتى ولو
لم
يحاسبها.
٢١٠
وفضَّلت أمينة أن تلتحق بالجامعة الأمريكية لِمَا سمعته من أصدقائها في حي الظاهر
أن تلك الجامعة تصون
الحرية الشخصية من التقاليد الشرقية العتيقة، ومن التعصب الديني، ومن ألسنة الناس … إلخ.
٢١١
وقد لاحظ البعض أن عشرين قصة من إحدى وأربعين قصة تضمها مجموعة «لا … ليس جسدك» قد
جعلت الحب محورًا
لها. يقول على لسان امرأة عن الرجل الذي تحبه: «… وأعطيته كل ما يريد، وكل ما أريد، وأكثر
مما يريد،
وأكثر مما أريد، بلا ثمن، بلا زواج، للحب فقط.»
٢١٢
•••
المغزى الذي يهدف إليه إحسان عبد القدوس من «أنا حرة» هو أنه «ليس هناك شيء يُسمَّى
الحرية، وأكثرنا
حرية هو عبد للمبادئ التي يؤمن بها، وللغرض الذي يسعى إليه، إننا نطالب بالحرية لنضعها
في خدمة أغراضنا،
وقبل أن تطالب بحريتك، اسأل نفسك: لأي غرض ستهبها؟»
٢١٣
كان يكفي عبد القدوس — كما قال في المقدمة — أن يجري تعديلًا طفيفًا في نهاية الرواية،
لكنه رفض
أن ينزع سطرًا واحدًا، وأصر أن تبقى أمينة حرة في اختيار نهايتها، وكان الاختيار أن تجد
مآلها الحتمي في
ظل رجل ترعاه، وتخلص لخدمته، وتذيب طموحها في طموحه، ليصبح — بإرادتهما معًا — شيئًا
له قيمة.
٢١٤ تقول فاطمة اليوسف في مذكراتها: «فما زال إحسان يعتقد أن المرأة للبيت، وأنها لا تستطيع
أن
توفِّق بينه وبين العمل، وأنها مهما تعلَّمت وتحررت ونجحت، فإنها في آخر الأمر في حاجة
إلى رجل تكرِّس حياتها
له.»
٢١٥
تنازلت أمينة — باختيارها — عن حق المساواة التامة بالرجل، توصَّلت عمليًّا — في النهاية
— إلى الرأي
نفسه الذي توصَّلت إليه — نظريًّا — سيمون دي بوفوار في الجنس الآخر: إن الشكلية هي سِمة
التحرر الذي نالته
المرأة، وإنها — في الحقيقة — لم تحرز انتصارات ذات قيمة على نظرة المجتمع إليها، ونظرتها
هي إلى
نفسها.
طلب ظل الرجل هو أحد مظاهر أزمة المرأة المصرية، سواء اتخذ هذا الظل مظهرًا اقتصاديًّا
أم جنسيًّا،
أم أن ذلك ما تفرضه التقاليد، فقد كانت الخالة — مثلًا — في «قلعة الأبطال» تدفع ما ادَّخرته
لقاء الحياة في
ظل الرجل، في الوقت الذي كان الزواج هو وسيلة بنات الأسر الفقيرة بحثًا عن الظل الاقتصادي،
إن جاز
التعبير، وطلب الظل الاقتصادي هو — في الأغلب — مبعث حرص الأسر المصرية على تزويج بناتها،
ذلك لأن
الزواج لا يؤثر عامة على المركز الاجتماعي للرجل — إلا إذا وُفِّق الزوج في مصاهرة أسرة
ذات مركز اجتماعي
متفوق — بل ولا يؤثر على وجدانياته وحياته الخاصة وعمله تأثيرًا ملموسًا.
أما المرأة، فإن الزواج يعني — بالنسبة لها في الأعم — تبدُّلًا كاملًا في مسار حياتها،
وتغيُّرًا
شبه مؤكد لمركزها الاجتماعي، فهي تنتسب بعد الزواج إلى زوجها، وإلى بيئته ومركزه الاجتماعي،
بل إن
الزواج يُعَد العمل الوحيد بالنسبة للغالبية العظمى من بنات الأسر المصرية، وبخاصة في
الطبقتين الوسطى
والفقيرة.
تفوقت نوال (خان الخليلي) علميًّا، لكن العلم لم يكن هو ما تنشده، ولا كانت المدرسة
هي الهدف الذي
تطمح إليه، كانت أحلامها لا تفارق البيت، وكانت أمها أستاذتها الأولى، تتلقَّى عنها فنون
الحياة المنزلية
من طهي وحياكة وتطريز، وما رأت في العلم يومًا إلا زينة تحلِّي بها أنوثتها، وحِلية تغلي
من مهرها، فتركزت
حياتها في هدف واحد: القلب أو البيت أو الزواج.
٢١٦
لكن وجهة نظر الفنان في «أنا حرة» تختلف — إلى حد التناقض — عن أعمال أخرى للفنان
نفسه، تسبقها
وتلحق بها.
على سبيل المثال، فإننا نجد تخلُّصًا بارعًا للفتاة المصرية من بعض قيود المأساة التي
ترسف فيها،
متمثلة في رفض فايزة لانفصام المجتمع في إيمانه بالتقاليد، وتمرده المستتر عليها، ومقاومة
هدى للضغوط
الاقتصادية والنفسية القاسية، وخروج سميحة من أزمتها العاطفية منتصرة، أو تكاد، وتغلب
نانا على نفسها
لتسير في درب الشمس. بل إننا قد نجد تمثُّلًا لخروج الفتاة المصرية من بعض قيود المأساة
في عليَّة (أين
عمري) التي تتزوج شيخًا قبل أن تبلغ السادسة عشرة، ثم يمرض الزوج، ويموت، وعلية في حدود
الثلاثين، فتفيق
إلى سني عمرها الضائعة، وتقرر أن تنتقم لذلك الماضي الذي كانت آخر لحظاته اتهام الشيخ
لها بالخيانة مع
طبيبها الشاب، وتتعرَّف إلى شاب صغير السن، تخرج معه إلى الحفلات الصاخبة، لكنه لا يستطيع
— بشبابه
المتدفق ورغباته المحمومة — أن يجتذب قلبها، الذي ما يلبث أن يصبح ملكًا للطبيب الشاب
لتتزوجه فيما بعد.
تعبِّر آمال في «بيت الطالبات» لفوزية مهران عن تلك الرحلة الطويلة الشاقة التي قطعتها
الفتاة المصرية
حتى حصلت على حريتها، فهي ترفض أن تحتويها شخصية أحمد عزمي، ترفض أن ترى بعينَيه، وتفكر
بعقله، وتقول
لنفسها: «هذا الرجل لا يعرف أنني لكي أصل إليه، لكي أجلس أمامه بجسدي الناحل ووجهي الشاحب
وأصابعي
السمراء … خضتُ صراعًا كبيرًا، بنيتُ كياني من خلال أب قاس، وأم خاضعة، ومجتمع ينظر إليَّ
على أني مخلوق
ناقص.» وتبلغ نظرة المرأة إلى نفسها حد اتهام منى (حب تحت المطر) مَن تقدَّم لخطبتها
بسوء العقلية، عندما
عرفت أنه يقوم بتحريات عنها. ومع أنه حاول أن يفسِّر سلوكه بغير بواعثه الحقيقية، فإنها
رفضت تفسيره،
وصارحته بأنها تحتقر تحرياته، وتحتقر النتائج التي وصل إليها — بصرف النظر عن تأكيد النتائج
لنقاء
سمعتها — وأكدت له أن ماضيها ملكها وحدها، كما أن ماضيه ملكه وحده.
٢١٧ وكان رأي هدى أن «المرأة مثل الرجل، لها مثل ما له من الحقوق، لأنه لا يزيد عنها إصبعًا
أو
عينًا.»
٢١٨ كذلك كانت ميرفت (أزهار) تعتز بشخصيتها المتحررة، المتمردة على التقاليد، وعلى الطبيعة
نفسها التي تجعل دور المرأة سلبيًّا، مقابلًا لإيجابية الرجل؛ لذلك فقد كانت تفضِّل دائمًا
أن تكون هي
الطالبة، لا المطلوبة.
٢١٩
•••
الواقع أن اعتبار العامل الاقتصادي هو المؤثر الوحيد في مدى استقلال المرأة، أو تبعيتها
للرجل،
ليس على إطلاقه — ذلك ما يدل عليه بدرجة ما مسار حياة أمينة — إن المنادين بمساواة الجنسين
يضغطون على
أن استقلال المرأة اقتصاديًّا لا يجعل منها عالة على أبيها أو ولي أمرها أو زوجها، ومن
ثَم فهو يهب المرأة
فرصة الخلاص من سيطرة الرجل واستعباده، والشعور بشخصيتها وكرامتها وآدميتها «إن أعداء
المساواة بين
الجنسين لا يريدون أن تحس المرأة بكيانها الفردي المستقل عن كيان الرجل، لأنها يوم تحس
هذا الإحساس، لن
تجد نفسها مدفوعة إلى أن تعرض نفسها سلعة في سوق الزواج، يلهو بها أقدر المزايدين، بل
سوف تجد أنها تكسب
قوتها بعرق جبينها، لا يعوقها عائق عن اختيار الرجل الذي يروق في ناظريها، وفي تقديرها،
ولا يفرض عليها
مستبد أن تُزف إلى سيد تجهله وتخشاه وتبغضه، لكي يطعمها ويئويها.»
٢٢٠
لعل أمينة تمثِّل — في بعض الجوانب — خطورة الدور الذي أسهم به التعليم الأجنبي في
الحياة المصرية،
فقد تحوَّلت — بدراستها في الجامعة الأمريكية — إلى شبه متمصِّرة، فهي لا تدري شيئًا
عن أبعاد الحياة
المصرية، وهي تمارس نوعًا من الحرية تفتقده غالبية الفتيات المصريات، وهي تفلسف الحرية
التي حققتها من
زاوية ثقافتها الأجنبية، فلما اصطدمت بالتقاليد المصرية، كانت مقاومتها أضعف من أن تحتمِل
الصمود.
•••
نوال (في بيتنا رجل) تمثِّل محاولة من الفتاة المصرية لمشاركة الرجل قضاياه العامة
والخاصة، اتصلت
بأصدقاء إبراهيم حمدي، ويسَّرت له سبيل الفرار من وجه السلطة حتى يعاود نشاطه من أجل
الملايين المصرية،
رغم — أو مع — أن عاطفة الحب كانت هي المنطلق في موقفها، وليست العاطفة الوطنية.
وعلى الرغم من الحدث الهائل الذي اجتازته نوال، فإنها وافقت — ببساطة — على أن تتزوج
الطبيب الشاب
الذي تقدم إليها، لا عن اقتناعٍ بأفكاره أو شخصيته، وإنما لأنها كانت لا تزال تؤمن بأن
الزواج هو مصير
الفتاة، أية فتاة، وأنه هو الوظيفة التي كانت تنتظرها منذ ولادتها.
تغيَّرت نوال بالفعل بعد مصرع إبراهيم حمدي، أصبحت شخصيتها أقرب إلى التعقُّل والاتزان،
لكنها — في
الحقيقة — لم تغادر أفكار الطبقة ولا البيئة، ذلك لأنها عاشت حب إبراهيم حمدي باعتباره
رجلًا رائعًا ومضيئًا، لكنها لم تعِش أفكار إبراهيم حمدي باعتباره مناضلًا ووطنيًّا.
كان المسدس وقصة الاختفاء المثيرة ومطاردة البوليس، كان ذلك كله هو الباعث لحبها المراهق،
أما الأفكار
التي كان يعتنقها الشاب، ويدعو لها، فلم تشغل ذهنها — كما يبدو — بصورة حقيقية، حتى إنها
لم تناقش
إبراهيم — ولا حتى نفسها — في أفكاره عبر صفحات الرواية على الإطلاق.
الحرية حق، وممارسة الحرية مسئولية، وقد أعطى إحسان عبد القدوس فتياته الحرية، فمارسن
مسئولياتها
على الرغم من كل المؤثرات والضغوط، بدءًا بتقبُّل الحيرة بديلًا — ولو بالسلب — لفقدان
الإحساس
بالمسئولية، وانتهاءً بالتغلُّب على الذات، قبل أن يجرفها تيار الحرية غير المسئولة.
وعمومًا، فإن المرأة عند عبد القدوس تذكِّرنا بالمرأة عند هنريك إبسن من حيث إخفاقها
في تكوين شخصية
موازية لشخصية الرجل، ولم تكن تلك مسئولية الرجل وحده، نظر إليها — في أغلب الأحيان —
كعنصر إمتاع
ومؤانسة، لكنها كانت مسئولية المرأة أيضًا، فهي لم تكن تعرف هويتها على نحوٍ دقيق، ولا
طبيعة المهام التي
كان ينبغي أن تنهض بها، وفيما عدا نوال التي أحبَّت البطولة في شخصية إبراهيم حمدي، وفايزة
التي كادت تسلم
جسدها — يأسًا من الجو المحيط بها — فثمة العديد من الفتيات أقدمن — بنوازع الرفض والتحدي
وتأكيد الذات
— على العلاقات الحسِّية: نانا (النظارة السوداء) وعلية (أين عمري) وأمينة (أنا حرة)
… إلخ.
واجهت سناء في «العيب» ليوسف إدريس ظروفًا مماثلة، بعد أن تخرجت، والتحقت بوظيفة في
وزارة الأوقاف.
كانت سناء واحدة ضمن مجموعة فتيات، تم تعيينهن في مصلحة حكومية لم تعمل بها فتاة من قبل،
ولم تكن مأساة
سناء في مجرد رفض مجتمع الرجال لها، ولكن في محاولة «الرجال» دفعها إلى قبول «العيب»
متمثلًا في قبول
الرشوة، ثم في السقوط الجسدي. أغمضت العين عن عمليات الرشوة التي تدور بين العملاء وموظفي
المكتب
أمامها، ورفضت محاولات اجتذابها حتى لا تصبح عينًا على الآخرين، فلما ألجأتها الضغوط
المادية العنيفة
إلى القبول، تنازلت عن المبدأ الأخلاقي كله.
قال لها الجندي: أين سأعطيك الفلوس؟
قالت: في بيتك أحسن!
سقطت سناء في «العيب»، مثلما سقطت ثناء في «الجنة العذراء»، وعزيزة في «الحرام»، وشهرت
في «قاع المدينة»،
لكن سقوط كل واحدة اختلف تمامًا عن الأخريات.
وظني أن مفهومَي العيب والحرام ليسا ثابتين، فما يُعَد عيبًا أو حرامًا في زمن ما
قد لا يُعَد كذلك في
أزمان تالية، وما يُعَد عيبًا، أو حرامًا، في أحد المجتمعات، قد تختلف صورته في مجتمعات
أخرى.
يوسف إدريس يقول في «العيب» إن قبول الفتاة بالتنازل عن الجزء هو بداية طبيعية للتنازل
عن الكل، وهو
مفهوم — أو تصوُّر — يصعب إطلاقه، إنه يعني — بأبسط عبارة — إمكانية — إن لم يكن وجوب
— سقوط كل النساء في
العيب! ويعني أن المجتمع يقبل الانفصام في الرجل، ولا يتقبَّله في المرأة، أخلاق المرأة
كلٌّ لا يتجزَّأ، إذا
تنازلت عن قيمة ما فلا بد أن تتنازل بالتالي عن كل القيم.
نحن نلحظ أن سلوى — على سبيل المثال — قد سارت في الدرب إلى غايته بعد الخطوة الأولى،
لكن الحياة
المستقرة كانت هي الهدف الذي لم يغِب عن عين سامية (الرجل الذي فقد ظله) لما زارت أنور
سامي في بيته،
ورفضت حتى أن يقبِّلها، ولما دعت نفسها إلى شقة يوسف السويفي، ودعته إلى عناقها، ولما
وافقت على الزواج من
محمد ناجي رغم شيخوخته!
•••
السؤال الذي تطرحه الرواية في «مذكرات طبيبة»: لماذا يحاول المجتمع دائمًا أن يقنعني
بأن الرجولة
امتياز وشرف، وأن الأنوثة مهانة وضعف؟!
٢٢١
تطرح الراوية المقارنة — في أيام طفولتها — بينها وبين أخيها، هو يقص شعره، أو يتركه
حرًّا لا
يمشطه، وهي شعرها يطول ويطول وتمشِّطه أمها في اليوم مرتين، وتقيِّده في ضفائر، وتحبس
أطرافه بأشرطة، والولد
يصحو من نومه ويترك سريره كما هو، أما هي فإن عليها أن ترتب سريرها، وسريره أيضًا، والولد
يخرج إلى
الشارع ليلعب بلا إذن من أبوَيه ويعود في أي وقت، وهي لا تخرج إلا بإذن، ولمواعيد محددة،
من المستحيل
تجاوزها، والولد يأخذ قطعة من اللحم أكبر من قطعتها، ويأكل بسرعة، ويشرب الحساء بصوتٍ
مسموع، ولا أحد
يوجهه، بل إن الأم تسعد لشهية الولد المفتوحة، أما هي فإن عليها أن تراقب حركاتها وسكناتها،
تنهرها الأم
إذا علا صوتها بمضغ الطعام، أو أكلت بسرعة،
٢٢٢ فإذا انحسر سنتيمتر من فخذها، رشقتها أمها بنظرة حادة لتخفي عورتها … إلخ.
٢٢٣
تصِف الراوية (مذكرات طبيبة) دنيا النساء بأنها دنيا محدودة قبيحة، تفوح منها رائحة
الثوم
والبصل.
٢٢٤ طفولة المرأة قصيرة، سريعة، لاهثة، ما تلبث أن تدبُر، وتخلف لها جسد امرأة ناضجة، وإن
حمل في
حناياه مشاعر طفلة،
٢٢٥ العبارة التي ما تني تلح على أذني الفتاة — أية فتاة — هي «مصيرك إلى الزواج»، كل ما
ينبغي
أن تتعلَّمه يفضي بها إلى ذلك الباب الوحيد المُسمَّى باب الزواج.
٢٢٦
لكن فؤادة (الغائب) أعادت القول نفسه الذي كتبته الطبيبة في مذكراتها: «لن أخضع للمجتمع،
ولن
أنساق وراءه، ولن أحني له رأسي، ولن أحتمي في رجل.»
٢٢٧
وإذا كانت الفتاة (مذكرات طبيبة) أحسَّت بالفارق بينها وبين أخيها الذي يصغرها أو
يكبرها بتصرفاتٍ
يأذنون له بها، فإن أمينة «بين القصرين» وجدت امتدادًا استاتيكيًّا لها في «إقبال» التي
كانت تستمع إلى
أنباء غرامياته صاغرة، وفي يقينها أن كل مزاياها كزوجة هي خضوعها كرقيقٍ، ليس عليه أن
يحس أو
يتألم،
٢٢٨ وتقول نعمات لحسن أفندي عن زوجته: «ده صنف من الستات يحب نفسه بس، طول ما انت بتدِّيها
اللي
هي عايزاه طول ما هي تحت رجليك.»
٢٢٩
إن المرأة تشب، وتتزوج، وفي قرارة نفسها أن سلاحها الأكبر في معركة البقاء مع الزوج
هو إنجاب
الأطفال، والمزيد من الأطفال!
•••
إذا كانت الفتاة المصرية — في رحلة البحث عن الشخصية، وتأكيدها — هي نبض العديد من
الأعمال
الإبداعية، بدءًا بأمينة «بين القصرين» التي ظلَّت حبيسة جدران البيت خمسة وعشرين عامًا،
حتى سوسن حماد
«السكرية» التي تناقش قضايا العاطفة بالعقل والمنطق، فلعل نوال السعداوي هي أشد أدبائنا
تعبيرًا عن
المسار الذي حاولت الفتاة المصرية أن ترتاده، بكل ما يتضمَّنه من مشاق ومطامح وآمال،
بل إن طبيبة نوال
السعداوي (مذكرات طبيبة) أهملت — في النهاية — كل ما كان يمور في نفسها من مشاعر التمرد
والرفض وطلب
المساواة بالرجل، عندما التقت بذلك الذي اكتشفت أنها قضت عمرها بحثًا عنه، دفنت رأسها
في صدره، وبكت،
بكت في راحة وهدوء.
٢٣٠
الرواية تلخص تلك المعركة الأزلية، معركة الرجل والمرأة، بأنها معركة مزيَّفة عجيبة،
تقف المرأة
فيها أمام الرجل وحدها، ويقف الرجل فيها أمام المرأة، ومن ورائه متاريس من التقاليد والقوانين
والأديان،
وسدود من التاريخ والأحقاب والأجيال، وصفوف من الرجال والنساء والأطفال، يحملون ألسنة
ممدودة حادة كسِنان
السيوف، ويصوِّبون عيونًا مفتوحة كفوهات البنادق، ويفتحون أفواهًا واسعة كالمدافع الرشاشة.
يقف الرجل أمام المرأة مستندًا بظهره إلى العالم، يقبض بيده على صولجان الحياة، يملك
الماضي
والحاضر والمستقبل، يملك الشرف والكرامة والأخلاق وأوسمة معاركه مع النساء، يملك الدين
والدنيا، بل يملك
تلك النطفة الصغيرة التي قد تنبت في أحشاء المرأة عقب العراك، يعترف بها أو لا يعترف،
يمنحها اسمه
وشرفه، أو لا يمنح، يحكم عليها بالحياة، أو يحكم عليها بالإعدام، وتقف المرأة أمام الرجل،
وقد سلبها
العالم حريتها وشرفها واسمها وكرامتها وطبيعتها وإرادتها، سلبها الدين والدنيا، بل سلبها
تلك الثمرة
الصغيرة التي تصنعها في أعماقها بدمائها وخلاياها وذرات عقلها وقلبها.
٢٣١
بطلة «مذكرات طبيبة» تستدل على الفوارق بينها وبين أخيها، في بعض التفصيلات الصغيرة،
كما
أشرنا.
٢٣٢ ولم تعرف بطلة «المذكرات» معنى العادة الشهرية، إلا بعد أن فوجئت بالدم الأحمر، وذهبت
إلى
أمها تستوضح السر، لتعلم أن طفولة البنت قصيرة، لا تجاوز العاشرة من عمرها، إنها ترتبط
بمجيء العادة
الشهرية للمرة الأولى، وبكل التغيُّرات التي تطرأ على جسمها، وتجد الطفولة نهايتها أيضًا
في العالم
الجديد الذي تأمرها الأم أن تدخله، عالم البيت والمطبخ «دنيا النساء المحدودة القبيحة
التي تفوح منها
رائحة الثوم والبصل.» فمصير البنت — أي بنت — إلى الزواج.
٢٣٣
ألقت الراوية خلفها بكل الأسئلة التي كانت تشغلها، وتنغص عليها حياتها: لماذا ينتابها
الخجل
دومًا، بينما الطلبة تطل من عيونهم جسارة واقتحام؟ لماذا المرأة تقضي عمرها في إعداد
طعام الرجل؟ لماذا
الرجولة — في نظر المجتمع — شرف وامتياز، والأنوثة ضعف؟ ألقت خلفها بكل الأسئلة، وقررت
أن تمضي في
حياتها كبشرٍ سوي، لا كرجل ولا كامرأة، كبشرٍ مكتمل له ذكاؤه وخبراته وطموحه وإرادته
في تحقيق ذاته، حسمت
أمرها: مستحيل أن أخضع للمجتمع، لن أنساق وراءه، ولن أحني رأسي، ولن أحتمي في رجل، وسأخوض
المعركة،
وسأحتمي في نفسي، في ذاتي، في قوتي، في عِلمي، في نجاحي، الخروج من البيت بلا إذن، يمثِّل
نوعًا من الرفض
والتمرد على أوامر الأسرة وقيودها.
ذلك ما فعلته أمينة (أنا حرة)، وذلك ما فعلته أيضًا بطلة «مذكرات طبيبة»، كان الانتصار
الأول للفتاة
أنها خرجت من البيت دون إذن، وتجوَّلت في الشوارع بحرية، ثم عادت إلى البيت لتكتم ألمها
من صفعات
الأم،
٢٣٤ ثم كان الهدف الذي حددته لنفسها — فور انتهائها من المرحلة الثانوية — أن تنكر أنوثتها،
وتتحدى طبيعتها، وتقاوم كل رغبات جسدها، وتثبت لأمها وجدَّتها أنها ليست امرأة مثلهما،
إنها لن تقضي
حياتها في المطبخ من أجل زوج لا يكف عن الأكل، إنها لا تقل ذكاء وحيوية ورغبة في العمل
العام عن أي رجل،
عن أبيها نفسه … فلماذا تحصر نفسها في جدران البيت الضيقة؟
٢٣٥ أعلنت الراوية أنها لن تحيا حياتها في المطبخ، تقشِّر البصل، وتفصِّص الثوم، ولن تقضي
عمرها
من أجل زوج يأكل ويأكل، بل إنها تستطيع أن تفعل كل ما يفعله أبوها وما يفعله الرجال.
٢٣٦
لكن تواصل المعركة دفعها إلى اكتشاف حقيقة أخرى، فهي ليست قوية فحسب، لكنها أقوى من
الرجل نفسه،
الرجل يضعف أمام رغباته مثل حيوان أعجم، وتختفي كل دلائل قوته، فلماذا المرأة تصنع منه
إلهًا؟
ثم التقت — مصادفة — بالرجل الذي يعترف أن المرأة — مثل الرجل — لها جسد، ولها عقل،
وأنها ليست
مجرد حيوان غبي جميل يرقد بين قدميه، لكن أيامًا — بعد الزواج — تمضي، قبل أن يفاجئها
الزوج بالصيحة
التي تنكرها: أنا الرجل.
تقول الراوية لفتاها — وقد أصبحت طبيبة — الرجل لا يريد أن تكون المرأة ندًّا وشريكًا
له، ولكنه
يريدها تابعًا أو خادمًا، ويقول لها: أنا لست هذا الرجل، أنا أريد من المرأة أن تكون
شريكتي وليست
خادمتي، إني فخور بعقلك، لا يمكن أن تتصوري مبلغ سعادتي حين أدخل عيادتك، وأشهد بعيني
ذلك العدد الكبير
من النساء والرجال الذين ينتظرون أن تمنحيهم الصحة والشفاء، ويتلهفون على رأيك وخبرتك
… هل يمكن لامرأة
لها مثل عقلك أن تُحبَس في البيت لتطبخ؟!
٢٣٧
أوهمها أنه يحترمها كإنسانة، ولا ينظر إليها كأنثى، وحين قبِلت الزواج منه فاجأها
بالقول: أنا الرجل.
– ما معنى أنك الرجل؟
– إنني صاحب السلطة.
– أي سلطة؟
– سلطة هذا البيت بكل ما فيه … حتى أنت.
أردف: لا أريد أن تخرجي كل يوم.
– أنا لا أخرج للعبث … أنا أعمل.
– لا أريد أن تكشفي على أجساد الرجال وتعرِّيهم.
وأضاف: لسنا بحاجة إلى إيراد العيادة.
– أنا لا أعمل من أجل المال … أنا أحب عملي.
– يجب أن تتفرغي لزوجك وبيتك.
– ماذا تعني؟
لم يكن أمامها إلا أن تطلب الطلاق، وكان طلب الطلاق تعبيرًا عن إرادتها، لكن تنفيذه
كان تعبيرًا
عن إرادة الرجل، مع ذلك، فقد انتصرت في النهاية، وهجرته، حصلت الطبية الزوجة على الطلاق،
وأحسَّت أنها حرة
تمامًا في عالمها الصغير، تغلق عليها بابها، وتخلع عنها حياتها المزيفة مع الناس، تخلع
معها حذاءها،
تتجرد من ملابسها، تتجوَّل في بيتها كما تشاء.
٢٣٩
وبعد أن فرحت بالوحدة، ثار في داخلها السؤال: «أين أجده؟ كيف أعثر عليه في هذا العالم
الواسع
المزدحم؟ هذا الطيف الذي تعرفه أعماقي ولا تعرفه، هذا الرجل الذي يعيش في خيالي ويتربَّع.»
٢٤٠
قررت أن تبحث عن «رجلها» الذي تعرفه ولا تعرفه، في كل مكان: في القصور، وفي الكهوف،
وفي الملاهي،
وفي الأديرة، في معامل العلم، ومعابد الفن، في الأضواء الساطعة، وفي الظلام الدامس، في
القمم الشاهقة،
وفي الحفر المنخفضة المغمورة، في المدن العامرة، وفي الغابات المهجورة الموحشة،
٢٤١ ورغم ذلك فإنها قررت ألَّا تحني رأسها، ولا تحتمي في رجل «سأخوض المعركة، وسأحتمي في
نفسي،
في ذاتي، في قوتي، في علمي، في نجاحي، وعاشت وحدها لا يشغلها السؤال الذي ينطق في نظرات
الناس: كيف تعيش
امرأة وحدها بلا رجل؟!»
٢٤٢
وتغادرنا الراوية في «مذكرات طبيبة» وقد عثرت على ذلك الصدر الحنون الذي يُغني عن
صدر الأم.
قال: النساء إنما يخفين مشاعرهن أو ملامحهن بستائر كثيفة مصنوعة، أما أنتِ فلا تخفين
شيئًا، حتى وجهك
لم تضعي عليه المساحيق.
– أنا أحب حقيقتي، أثق فيها، ولا أستطيع إخفاءها.
– أنا أحب المرأة الصريحة الصادقة.
– كثير من الرجال يعتقدون أن الصراحة تفسد أنوثة المرأة، إنهم يحبون المرأة المتخفية
المراوغة،
فيمارسون معها غريزة المطاردة والصيد.
– إنهم لا يفهمون من المرأة شيئًا سوى أنها متعة حسية.
– قليل من الرجال مَن يفهم أنوثة المرأة الذكية ذات الشخصية القوية.
– أعتقد أن المرأة — مهما بلغ جمال جسمها — فإنها تفتقد الأنوثة، إذا كانت غبية، أو
ضعيفة
الشخصية، أو متصنِّعة، أو كاذبة.
– وماذا عن الرجولة؟
– معظم النساء لا يعرفن عن الرجولة شيئًا سوى أنها كفاءة الرجل الجنسية.
– الرجل في رأيي يفتقد الرجولة، مهما بلغت كفاءته الجنسية، إذا كان غبيًّا، أو ضعيف
الشخصية، أو
متصنعًا، أو كاذبًا … إلخ.
٢٤٣
وتقول الراوية: «كان يكلمني، وكان ينظر في عيني دائمًا، لم أره ينظر إلى ساقي، لم
أره مرة يختلس
النظر إلى صدري، وكنا وحدنا، والجدران الأربعة مغلقة علينا، لكني لم أشعر أنه يرى الجدران
أو يحس بها.
كان يحلق في سماء عالية، وكنت أجلس إلى جواره بلحمي ودمي، لكني لم أحس أنه يخاطب جسدي،
كان يخاطب عقلي
وقلبي، وأغمضت عيني في راحة واطمئنان … ووقف، فوقفت، وقفنا متواجهين تفصلنا خطوة واحدة،
وسمعته يقول
بصوته الدافئ: أحبك، فشعرت بكل شيء في كياني يغوص إلى أعمق بُعد من نفسي، ثم يرتفع فجأة
إلى أعلى قمة
منها، وابتسم، وقطع الخطوة التي بيننا في لحظة، وأخذني بين ذراعيه، ووضعت رأسي على صدره:
لم هذه الدموع؟
أحبك، وضمَّني إليه، ضمَّني حتى ضاع كياني في كيانه، وتلاشى وجوده في وجودي.»
٢٤٤
كان ذلك الصدر الحنون هو الغائب في حياة فؤادة.
فؤادة هي الامتداد المتطور لبطلة المذكرات، تلك التي لم تهبنا الفنانة اسمها، فإذا
كانت فؤادة قد
حلَّت كل العُقَد التي تعانيها المرأة في مجتمع مريض، فإن ذلك لم يكن وليد ذاته ولا مصادفة.
كانت فؤادة التي
تمارس حياتها مثل رجل، نتيجة مباشرة لمعارك متواصلة خاضتها فتاة «المذكرات»، ربما منذ
مولدها، فصباها،
إلى أن تخرجت في كلية الطب، فضلًا عن أن فؤادة نموذج مغاير لصورة الفتاة المصرية في الرواية
عمومًا.
ألقى الأب النظرة الأولى على ابنته فور ولادتها، قال: إنها بنت!
قالت الأم وهي تقربها من وجهه: ستكون امرأة عظيمة يا خليل … انظر إليها … انظر في
عينيها … قبِّلها يا
خليل … قبِّلها!
لكنه لم يقبِّل المولودة، وأشاح بوجهه بعيدًا، وخرج.
٢٤٥
كانت من مواليد الصعيد، من أشد المناطق المصرية محافظة على العادات والقيم والتقاليد،
وتحديدًا
لدور المرأة، وما يمكن أن تفعله، وهو لا يجاوز — في معظم الأحوال، إن لم يكن كلها — صفة
الوعاء الذي
يطعم منه الرجل اللذة الحسية، والبطن التي تحمل وتلِد، وأداء كل الواجبات دون أن تطلب
مقابلًا حتى في
صورة كلمة طيبة. كان رأي مدرس الدين الذي أعاده أمام التلميذات الصغيرات أن جسم الأنثى
عورة، وصوتها
عورة، واسمها عورة، وكان من دواعي مباهاته أن اسم زوجه في حضرة الرجال هو «الجماعة»!
٢٤٦
لكن فؤادة كانت نتاجًا غريبًا، ومغايرًا، لوضع المرأة عمومًا في الصعيد «فلم يكن
طموحها من ذلك
النوع النسوي العادي.»
٢٤٧
مع ذلك، فقد كانت فؤادة تعاني — باعترافها — عقدة نقص لازمتها منذ البداية، كانت
تشك — بتأثير ما
ترى وتسمع — في قدرة المرأة على أداء عمل عظيم، وكان قولها — تعقيبًا على ما يُحمَل إليها
من أسماء رجال
كثيرين اكتشفوا أشياء — «لو كنت رجلًا لاستطعت مثلهم!» وكانت تثق أن الاختلاف الوحيد
الذي يعطي للرجال
قدرة التفوق على النساء بتلك «الاكتشافات» هو أنهم رجال، كانت الذكورة — في تصورها —
شرطًا أساسيًّا
لأداء الأعمال العظيمة.
٢٤٨
وإذا كان العمل هو الحق الذي ناضلت المرأة المصرية لسنوات، لأن تجعل منه شيئًا مشروعًا،
فإن
الحرية التي كان العمل بعض خصائصها، كانت تلح في التجارب المتوالية، وتكشف عن المزيد
المطلوب.
تقول فؤادة لمدير القسم الذي يسألها: لماذا تبتسمين هكذا؟
– لك أن تحاسبني على الزمن الذي غبته، ولكن ليس من حقك أن تسألني: لماذا أبتسم هكذا.
إنها لم تعد تنشد «بعض» الحرية بموافقة الرجل، بل إنها أصبحت تمارس «كل» الحرية، سواء
كان هذا على
هوى الرجل، أو لم يوافق عليه.
وبعد أن كانت الوظيفة — بمعناها المطلَق — هي هدف الفتاة المصرية في الثلاثينيات،
فإن رفض الوظيفة
بالمعنى الذي وضعت الفتاة يدها عليه في الخمسينيات، هو الذي دفعها لأن ترفض الوظيفة،
وتبحث عن إطار آخر
تؤكد من خلاله ذاتها وشخصيتها «أنت تتصورين أن الوزارة شيء ضخم عظيم، إنها ليست إلا مبنى
قديمًا آيلًا
للسقوط.»
٢٤٩ وأصبح من المألوف أن تعيب الفتاة العاملة على مرتبها، أنه لا يشتري لها فستانًا
محترمًا.
٢٥٠
وتأخذ العلاقة بين الشاب والفتاة شكلًا آخر، مغايرًا، لما كانت عليه صورة العلاقة
منذ بدأ المجتمع
يسمح لكلٍّ منهما أن يلتقي — على انفراد — بالآخر في علاقة فؤادة وفريد، فهي لم تكن تعرف
عن حياته
العائلية والخاصة شيئًا على الإطلاق، لا تعرف ماذا كان أبوه، ومقدار ما سيرِثه عنه، وكم
يقبض كل شهر،
وكادر وظيفته، وتاريخ ميلاده … إلخ، لكنها كانت تعرف جيدًا لون عينيه، وذلك البريق الذي
يطل منهما، وطعم
قبلته، وملمس يده، ورائحته، فضلًا عن طموحهما المشترك.
٢٥١
أخيرًا، فإنها تجلس على المقهى بمفردها، وتدخل السينما بمفردها، وتركب المواصلات،
وترفض المساحيق،
ولا تذكر شكل فساتينها، ولا تلبس الخواتم أو الأساور والعقود، وتمارس الحياة بالبساطة
نفسها التي
يمارسها بها أي رجل. فإذا أدركت من تصرف ما حرص الرجل على أن يعاملها كامرأة، مثل تعرض
بطن أحدهم في
الأوتوبيس لظهرها، أو أن يتحسس آخر جسدها في ظلام السينما، تنفلت من اللحظة وتجاوزها،
دون أن تترك أثرًا
— ولو وقتيًّا — على مشاعرها وآرائها وتصرفاتها.
هذه هي فؤادة، صورة الفتاة التي استطاعت أن تقف على أرضية من صُنع إرادتها، وتنسج
المستقبل من
إصرارها على أن تكون ذاتها وشخصيتها.
•••
المرأة في «الباب المفتوح» موجودة في قلب الحركة الوطنية منذ البداية، بعكس «بين
القصرين» التي كان
دور المرأة في زمنها لا يتعدى التعليق على ما حدث. ووجود المرأة يأخذ صورًا متباينة،
فإصابة الطالب
محمود سليمان خبر يتناقله تلميذات السَّنية الثانوية، ويتحوَّل في ذهن كل واحدة إلى بطل،
إلى فارس، ينازل
الإنجليز ويقتلهم.
٢٥٢
تبدأ أحداث الرواية في السابعة من مساء ٢١ فبراير ١٩٤٦م، والقاهرة تناقش أحداث يوم
عصيب: مظاهرة من
أربعة آلاف مصري، يتحرش بها جنود الإنجليز في ميدان الإسماعيلية (التحرير)، وتنشب معركة
دموية، رفع فيها
الطلبة قميص زميل لهم دهسته عربة إنجليزية. وكانت تلك المظاهرة — في تقدير البعض — مرحلة
جديدة من مراحل
الكفاح الوطني، فهي اصطدام مباشر بقوات الإنجليز، شاركت فيها كل فئات الشعب، حتى قوات
الجيش المصري
امتنعت عن تفريق المتظاهرين، بل إن عرباتها كانت ترفع شعارات وطنية.
٢٥٣
ليلى هي الشخصية المحورية في الرواية، أنهت المرحلة الابتدائية، وأزمعت دخول الثانوي،
فاعترض
والدها، لولا محمود — شقيقها — الذي توسَّط، وأقنع والدها بأن تواصل المرحلة الثانوية.
فطنت ليلى إلى بداية مأساتها، عندما ظهرت البقعة الحمراء على مريلتها المدرسية، أعقبتها
سلسلة من
القلق والخوف والتحذيرات والأوامر وطلب الستر، وفي الوقت الذي بدأ فيه جسد ليلى — فسيولوجيًّا
— ينشد
الانطلاق، ومن خلال قوى جديدة تؤثر فيه، وتحركه، فإن أباها وأمها وأخاها تحوَّلوا إلى
أدوات رصد ومتابعة
وتوجيه، إلى قيود معوقة، حتى تفكيرها عجز عن مجرد التصرف البسيط، وكيف تتخذه، وأيقنت
أن كل تصرفاتها «غلط
في غلط».
٢٥٤
تصورت ليلى أن أباها سيفرح لبلوغها، مثلما فرح عندما بدأ الشعر ينمو في ذقن محمود،
لكن طلب الستر
كان هو ما استقبل به الأب بلوغها، ثم علمت — فيما بعد — أن البلوغ هو بداية حياة جديدة،
مسوَّرة بتعاليم
صارمة، فلم يعُد أمامها سبيل للخروج بمفردها، والزيارات ممنوعة، والقراءات غير المدرسية
ممنوعة، والكلمات
والتصرفات لها قواعد وأصول.
وفي المقابل من النظرات الحذِرة والمتوجسة التي كان يتابع بها الأب أقوالها وتصرفاتها
٢٥٥ كان الرجل يثبت عينيه على شقيقها محمود، لا يرخيهما عنه، كأنه معجزة تتحرك على الأرض،
وكان
ينصت إليه باهتمام ومحبة.
٢٥٦
وقف محمد سليمان من ابنه محمود الذي يريد أن يتجه إلى القناة لمحاربة الإنجليز، الموقف
نفسه الذي
اتخذه أحمد عبد الجواد من ابنه فهمي، عندما أصر على الاشتراك في العمل الوطني ضد الإنجليز
في أثناء ثورة
١٩١٩م، لكن محمود تحدَّى إرادة والده بجرأة أكبر، فلم يستطع محمد سليمان أن يعطي أمرًا
واجب التنفيذ، بعدول
محمود عن فكرة زواجه من المحبوبة، كما فعل أحمد عبد الجواد في «بين القصرين»، عندما اعتبر
رفضه لخطبة
فهمي من مريم ابنة الجيران، أمرًا لا سبيل إلى مناقشته؛ اكتفى محمد سليمان — مرغمًا —
بمخاصمة ابنه.
أما ليلى (الباب المفتوح)، فقد تلخصت أمامها مأساة الفتاة المصرية، فهي عندما تُولَد،
يبتسم الأهل
ابتسامة تسليم، وعندما تكبر يسجنونها في البيت، ويدفعونها في دوامة هائلة من الأوامر
والنواهي، حول ما
يجب وما لا يجب، ويدرِّبونها على فن الحياة، وكيف تبتسم وتنحني وتتعطر وتترقق وتكذب وتنصت
باهتمامٍ مهما
يكن الحديث تافهًا، ومتى تهز رأسها بالموافقة، ومتى تبدي إعجابها أو عجبها، وكيف تلبس
«كورسيه» يشد
خصرها، ويرفع صدرها، لكي يرتفع سعرها في السوق، وتتزوج … مَن؟ أي إنسان، المهم أن يكون
مقتدرًا، فلا يعيب
الرجل سوى جيبه،
٢٥٧ وأن الفتاة ينبغي ألَّا تنسى ظروفها على أي نحو، وإلا واجهت مصيرًا قاسيًا، وكانت ليلى
—
بالطبع — تكره ذلك، وتعتبره قتلًا لكل مشاعرها الإنسانية.
٢٥٨
يومًا، رشحت دولت هانم ليلى للزواج، واعتذرت الأم بأن ابنتها صغيرة على الزواج، فاستنكرت
دولت
هانم، وسحبت الفتاة حتى أصبحت قريبة منها، ومرَّت على جسدها بيدها اليمنى في بطء من أعلى
إلى أسفل، ومن
أسفل إلى أعلى، وتوقفت يدها — وهي صاعدة — عند خصرها، ثم عند صدرها، واقترحت ثوبًا يرفع
صدرها، ويشد
وسطها. وتعلَّمت ليلى أن وضع الفتاة في المجتمع الذي تحيا فيه هو وضع الجارية في سوق
الرقيق، يجب أن تلبس
وتتزين ليرتفع سعرها!
٢٥٩
ويندفع محمود — ذات مساء — إلى حجرة ليلى وهو يرتدي ملابسه الخارجية، ويقول: أنت قاعدة
هنا والبلد
بتغلي؟
وتهمس لنفسها: ماذا يطلب السجان من السجين أن يفعل؟
وتقول: بتغلي ليه؟
– الحكومة لغت المعاهدة … معاهدة ٣٦.
– مش معقول.
– افتحي الراديو واسمعي.
٢٦٠
وتفتح الراديو، وتفكر — لسماع النبأ — أن تحتضن محمود، وتقبِّله، لكنها مالت عنه في
خجل، وقضت ليلة
ساهرة، وهي مستلقية على ظهرها، كأنها تنتظر شيئًا.
وغداة إلغاء المعاهدة، قالت بنات مدرسة الليسيه: إحنا مش أقل من الطلبة … بنات بنات
… البنات برضه
عندهم شعور … ضروري نعبِّر عن شعورنا.
٢٦١
خرجت الناظرة إلى الفناء، والجرس يدق في إلحاح، والهتاف يعلو: يسقط الاستعمار … نريد
السلاح …
السلاح.
وقالت الناظرة: إن وظيفة المرأة هي الأمومة، ومكان المرأة هو البيت، وإن السلاح والكفاح
للرجال.
وتقدَّمت فتاة إلى حيث تقف الناظرة، وقالت: إن حضرة الناظرة تقول إن المرأة للبيت،
وأنا أريد أن أقول إن الإنجليز حين قتلوا المصريين سنة
١٩١٩م لم يفرقوا بين الرجل والمرأة، وإن الإنجليز حين سلبوا حرية المصريين لم يفرقوا
بين الرجل والمرأة،
وإن الإنجليز حين نهبوا أرزاق المصريين لم يفرقوا بين الرجل والمرأة.
وتراجعت الناظرة، وتعالت الهتافات: لا استعمار بعد اليوم … يسقط أعوان الاستعمار
… السلاح … السلاح …
السلاح … نموت وتحيا مصر.
٢٦٢
غادرت المظاهرة مبنى المدرسة، وأحسَّت ليلى — لفترة — بالخوف والخجل، ثم ما لبثت
أن اندفعت إلى
الأمام، وارتفعت على أكتاف الطالبات، وراحت تهتف، وعلى رصيف ميدان لاظوغلي كان والدها
— بالمصادفة —
واقفًا يرقبها، وعادت ليلى إلى البيت ليستقبلها الأب بالشبشب، وبإنذارٍ صريحٍ أنها مهما
تتألم فيجب ألَّا
يعلو صوتها بصراخ!
٢٦٣
بالقدر نفسه من الألم الذي أحسَّت به ليلى عندما ضربها أبوها وأهانها، كان إحساسها
بقول محمود:
المهم إنك تدركي أنك كنت غلطانة!
وصاحت في غضب: أنا غلطانة؟ غلطانة ليه؟ ما سرقتش حد … ما قتلتش حد … خرجت في مظاهرة
فيها ألف بنت …
عبَّرت عن شعوري زي ما كون إنسان ونسيت … نسيت إني مش إنسان … نسيت إني بنت … ست!
٢٦٤
لكن ما حدث دفع ليلى إلى بداية مرحلة جديدة في حياتها، انتهت دنيا الأحلام تمامًا،
حلَّت محلها دنيا
جديدة، تستطيع فيها أن تعبِّر عن نفسها، وأن تشعر دومًا بأنها محِبة محبوبة ومرغوبة ومحترمة،
وأن كل تصرف
لها معقول ومقبول.
٢٦٥
مع ذلك، فإن الإحساس بالضعف، وأنها لا تملك اتخاذ القرار، عاودها حين بدأت الصحف
تتكلم عن ضرورة
تنظيم الكفاح المسلح في منطقة القناة، وطافت الرغبة بقلبها في أن تشارك في المعركة، لكن:
كيف السبيل إلى
ذلك وهي فتاة، والفتاة ليست إنسانًا، وهي ضعيفة، وشرف الكفاح من أجل مصر ليس من نصيب
الضعفاء.
٢٦٦
وشيئًا فشيئًا، أصبحت ليلى تمارس شجاعتها في الرأي مع نفسها، في غرفة مغلقة: «والله
احنا مصيبتنا
سودة … على الأقل أمهاتنا كانوا فاهمين وضعهم … أما احنا … احنا ضايعين … لا احنا فاهمين
إذا كنا حريم ولا
مش حريم … إن كان الحب حرام ولا حلال … أهلنا بيقولوا حرام … وراديو الحكومة طول الليل
والنهار بيغني للحب …
والكتب بتقول للبنت روحي أنت حرة … وإن صدقت البنت تبقى مصيبة … تبقى سمعتها زفت وهباب
… بالذمة ده وضع؟
بالذمة احنا مش غلابة؟» أما إذا خرجت إلى الناس، فهي — باعترافها — جبانة، وتخشى الخطأ.
٢٦٧
على الرغم من ذلك، فإنها حاولت أن تواجه ظروف حياتها بإرادة متفهمة وشجاعة. كانت
تلجأ إلى قراءة
الجريدة التي يقذف بها البائع من تحت العتبة في السادسة والنصف صباحًا، وكانت تحرص على
قراءة الجريدة
سرًّا، حتى لا يسلقها الأب بتعليقاته،
٢٦٨ وعندما يعبِّر محمود عن ضيقه بأنه قد ضُرِب علقة حامية في مظاهرة، وأنه لم يستطع أن
يقابل الضرب
بمثله، تصرخ فيه ليلى: محمود … أنت اللي ضربت الإنجليز … مش هم اللي ضربوك!
٢٦٩
وتجد ليلى مخرجًا جديدًا لأزمتها في حب ابن خالتها عصام، وإذا كان محمود يمثِّل الوطنية
المصرية
التي لا تعنيها العواقب، بقدر ما يعنيها أن الهدف الذي تتوخَّاه هو ما ترتضيه وطنيَّتها،
فإن عصام — الوفدي
— يمثِّل الرأي الذي يصل في تعقُّله إلى حد إلغاء قيمة الإرادة الشعبية، وما تملكه، فالشعب
المصري لا يستطيع
— في تقدير عصام — أن يحارب الإمبراطورية البريطانية، وردَّ محمود على هذا الرأي بلعن
التعقل والمتعقلين،
وأن المنطق الذي يتحصنون به يصِمهم بالعمالة!
٢٧٠
وبالنسبة لليلى، فإنها تُفاجأ بانفصامٍ غريبٍ في ذلك الحب المتفاني الذي لا يجد عيبًا
في إقامة علاقة
وضيعة مع الخادمة، كان عصام هو حبها الأول، وصدمتها علاقته بالخادمة ليدخل قلبها وحياتها
حسين صديق
محمود، لكنها تكتم مشاعرها، وتخنق حبها.
ثم يعرض عليها أستاذها في الجامعة أستاذيته وثقته، حتى يجرَّها إلى زواج ما يلبث أن
يفشل، لأنه لم
يكن قائمًا على أساس صحيح.
ويعود حسين من بعثته في الخارج، ومن خلال تجربة النضال المشترك في بورسعيد، تتأكد
ليلى أن الصحيح
كان حبها له، وحبه لها.
تصل ليلى إلى قمة نضجها وإدراكها للمسئولية — وهو ما كان يحيا في وعيها منذ تلك المظاهرة
التي
خرجت فيها في صباح ٢١ فبراير ١٩٤٦م — لمَّا قذفت بخاتم الأستاذ الجامعي، ووافقت على خطبة
حسين، وكتبت في
طلب الوظيفة أنها تعمل في بورسعيد، حيث قاتلت وجُرحَت، ومارست حياتها كمواطنة، لها نفس
حقوق الرجل،
وعليها نفس الواجبات.
والحقيقة أنه كان للجامعة أثرها المباشر في تكوين شخصية ليلى، على الرغم من أن الفنانة
قصرت هذا
التأثير — عبر صفحات الرواية — من خلال الأحداث العاطفية المتعاقبة، فثقافة الإنسان جزء
من تكوينه
الذهني والوجداني. ليس من المفروض أن يكون لدراسة ليلى الجامعية — والفلسفية بخاصة —
ثم لتخرُّجها،
واشتغالها فيما بعد أية وظيفة فنية في الرواية؛ وهذا ما يذهب إليه يوسف الشاروني
٢٧١ لندرك أنه كان للحياة الجامعية تأثيرها في عقليتها وتصرفاتها، فلو أننا طالبنا الفنان
بأن
يعرف لنا كل المؤثرات التي أسهمت في تكوين شخصيات قصصه، لاحتجنا إلى مجلدات زولا وبلزاك
وفلوبير
وستندال، وغيرهم من أئمة الواقعية الطبيعية الذين كانوا يدرسون التراث الفكري والعقلي
الذي قامت عليه
حياة شخصيات قصصهم.
•••
إذا كانت «مذكرات طبيبة» و«الغائب» تشكِّلان معلَمَين مهمَّين في طريق الفتاة المصرية،
لتحقيق شخصيتها
وتمايزها واستقلالها … تلك الرحلة التي بدأت بمبادرة من «الرجل» رفاعة رافع الطهطاوي،
ثم بصيحتَين
إيجابيتين لرجلٍ آخر هو قاسم أمين في كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ثم في
ثورة ١٩١٩م التي خرجت
منها الفتاة — والمرأة — المصرية بمكاسب عديدة، أولها السفور، وآخرها حقها في المساواة
الاجتماعية.
أقول: إذا كانت روايتا نوال السعداوي تشكِّلان معلَمَين مهمَّين في مسار «نضال» المرأة
المصرية، فإن
رواية لطيفة الزيات «الباب المفتوح» تشكِّل معلَمًا آخر، أسبق في الصدور، وربما أعمق
في الدلالة، لأنه يقف
على أرضية سياسية مما يشغل المجتمع بأكمله، وانتزاع البطلة — ليلى — لحقوقها، هو بعض
انتزاع المجتمع
لحقوقه من براثن الاستعمار والرجعية. وهنا يكمن المغزى الحقيقي لمحصلة المرحلة التي قطعتها
ليلى، منذ
كانت طالبة صغيرة حتى اختارت الشاب الذي تكمل به — ومعه — رحلة تأكيد الذات والمساواة
التي تعنى بالحرية
نفس عنايتها بالتحرر، وما قد يصاحبه من مظاهر شكلية.
ولعله يجدر بنا أن نشير إلى أن انتحار صفاء ابنة دولت هانم (الباب المفتوح) لأنهم
زوَّجوها رجلًا لا
يعيبه إلا جيبه، يمثِّل موقفًا بالرفض لم تكن تفكر فيه، أو تقدِم عليه، الفتاة المصرية
في مطالع القرن
العشرين.
هذا الانتحار، يذكِّرنا بصفقة الباب التي خلَّفتها وراءها نورا بطلة مسرحية إبسن «بيت
الدمية»، إنها
صرخة احتجاج أخرى، لا ترقى إلى مستوى الإيجابية الذي أعلنت به نورا صرختها، لكنها تمثِّل
بداية التحرر من
الأفكار والتقاليد البالية، ثم في خيانة جميلة التي زوَّجوها هي الأخرى من رجلٍ لا يعيبه
إلا جيبه،
وتبريرها لهذه الخيانة، أو الانتحار الخُلقي.
الانتحار — بصورته المادية، أو الخلقية — يمثِّل أحد مواقف الرفض من الفتاة المصرية.
•••
تمثِّل سوسن حماد (السكرية) امتدادًا متطورًا للفتاة المصرية التي تنشد رحلة البحث
عن شخصيتها،
وتأكيد حريتها، ومساواتها بالرجل بانتمائها الطبقي والفكري، فهي ابنة عامل مطبعة، وتعمل
محررة في مجلة
يسارية. كانت محور التحرير في مجلة «الإنسان الجديد»، ومركز نشاطها، وكانت تعمل أكثر
مما يستوجبه تحرير
المجلة، فما تزال تقرأ وتكتب، وبدت جادة، حادة، شديدة الذكاء. لم تستكمل تعليمها الجامعي،
ترفض التزيُّن،
والتعامل بزيفٍ في الأمور الكبيرة أو الصغيرة. شعر أحمد شوكت من أول لقاء بها بقوة شخصيتها،
حتى كان يخيَّل
إليه — أحيانًا — رغم عينيها السوداوين الجذَّابتين، وجسمها الأنثوي اللطيف — أنه حيال
رجل قوي الإرادة،
حسن التنظيم.
٢٧٢ تقول: أما أنا فلم أدرس في الجامعة، أو بالأحرى لم تُتَح لي فرصة، إني متخرجة في مدرسة
الأستاذ
عدلي كريم، وهي ليست دون الجامعة منزلة، درست عليه منذ حصولي على البكالوريا.
٢٧٣
ويقول أحمد شوكت عن سوسن حماد: «إننا زميلان مخلصان، لم ينطق الحب بيننا، ولكن لا
أشك أننا متحابان
ومتعاونان كأحسن ما يكون التعاون، بدأنا رفيقَين في ميدان الحرية، وعملنا يدًا واحدة،
وكلانا مرشَّح للسجن،
وكنت كلما نوَّهت بجمالها حملقتْ في وجهي محتجَّة، وزجرتني مقطبة كأن الحب شيء لا يليق
بنا، فأبتسم وأعود إلى
ما كنا فيه من عمل.»
ويقول لها يومًا: «إني مثلكِ أرى الرأسمالية في طور الاحتضار، وإنها استنفدَت كافة
أغراضها، وإن
على الطبقة العاملة أن تطلق إرادتها لتُدير آلة التطور؛ إذ إن الثمرة لن تسقط وحدها،
وإن علينا أن نخلق
الوعي، ولكن بعد ذلك أو قبل ذاك أحبك.»
لثم أحمد شوكت خدَّها، فحدجته بنظرة قاسية، وأكبت على ترجمة ما تبقَّى من فصل من
كتاب «نظام الأسرة في
الاتحاد السوفييتي» الذي كانا يترجمانه معًا، وحين عرض عليها أحمد فكرة الزواج، بادرت
بالرفض لأنه — في
تقديرها — «ليس من طبقة العمال مثلي! كلانا يحارب عدوًّا واحدًا، ولكنك لم تخبره كما
خبرته؛ لقد ذقتُ
الفقر طويلًا، ولمست آثاره الكريهة في أسرتي، وغالبته أخت لي حتى غلبها فماتت، أما أنت،
فلست … لست من
طبقة العمال.»
٢٧٤
وبعد أن كانت أمينة تسعد بفُتات الأخبار الذي يلقيه لها الزوج والأبناء عما يدور
في العالم
الخارجي، فإن سوسن — التي وافقت أخيرًا على الزواج من أحمد شوكت — كانت تناقش الأمور
السياسية، وتعلن
رأيها فيها، حتى خُيِّل لأحمد — مرة — أنه «حيال رجل قوي الإرادة، حسن التنظيم.»
٢٧٥
واللافت أن سوسن ظلَّت على هدوء شخصيتها، حتى بعد اعتقال زوجها.
٢٧٦
•••
أما فاطمة — واحترقت القاهرة — فقد كانت في طليعة من تطوَّعوا في مشروع القرش، وفازت
بالميدالية
الذهبية لأنها جمعت أكبر مبلغ من التبرعات، وكانت الفتاة الأولى التي انضمَّت إلى حركة
مصر
الفتاة.
٢٧٧
فاطمة — في وصف فوزي السيد — هي الصدق بعينه، والإيمان في تكامله، وهبَت الكفاح أثمن
سِني عمرها،
ووهبت مصر شبابها وسعادتها.
٢٧٨ كانت أختها راقصة، ومومسًا، كل السُّبُل إذن ممهَّدة أمامها لكي تحترف البغاء، لكنها
آلت على
نفسها أن تجعل حياتها تكفيرًا عن خطيئة أختها، أرادت أن تكون طهارتها بحيث تكفيهما معًا،
وأن تكون
مثاليتها بحيث تعادل سقوط أختها، هذا هو — على حد تعبيرها — تفسير حياتها كله.
٢٧٩
وبعد أن تمارس الحب مع فوزي السيد، يقول لها في أسف: إنني أخجل من نفسي.
– ألأنك أحببتني؟
– ليس هذا حبًّا، إنه حيوانية، أخشى أن أكون منافقًا … أي مجاهد أنا؟!
– أوَلَيس المجاهد إنسانًا؟!
٢٨٠
وبرغم أفكار فوزي السيد المتحررة، فإنه كان مؤمنًا بأن الزواج للمرأة، ثم الأمومة
بعد ذلك، هما
محور حياتها، وهما الغاية النهائية من وجودها.
٢٨١
وقد رفضت فاطمة وثيقة الزواج التي قدمها لها فوزي السيد، قالت وهي تعيدها إليه: إن
ما بيننا ليس في حاجة لهذه العهود والمواثيق المكتوبة، إن ما بيننا أقوى من ذلك كله،
إنني لا أطالب بحقوقي، ولست أعتقد أن لي مثلك أي حقوق.
– ولكن المسألة يا فاطمة ليست مسألتي ومسألتك، إننا نعيش في مجتمعٍ له قواعد وتقاليد.
– أنت لا تستطيع أن تنسى في أي لحظة إنك رجل مجتمع وتقاليد، إنك زعيم مسئول؛ ولذلك
فلا تستطيع أن
تنظر إلى الأمور إلا من خلال هذه النظرة. أما أنا، فأعتبر نفسي امرأة عاقلة رشيدة كما
تقول في وثيقتك،
وقد وهبتك نفسي في غير مقابل، إلا أن تحبني، إلا أن تظل على حبي حتى بعد أن أعطيك جسدي،
فإن ما يخيفني
هو أن أفقد احترامك، أن تحتقرني بعد أن أهبك جسدي.
٢٨٢
وقالت فاطمة لفوزي السيد — في موضع آخر — «إنني أعرف ما الذي يؤخِّرك عن زواجي، وهذا
ما يجعلني لا
أطالبك به، أنا أعرف مبادئك ومُثُلك العليا، إنني أقدِّر رغبتك في ألَّا تؤذي وفاء زوجتك،
وأنا من ناحيتي لا
أحب أن أكون سببًا في إيذائها، وإنه ليؤلمني أن يجعل منا القدر غريمتين في حبك، في الوقت
الذي أتمنى لو
أفديها بحياتي من أجلك، لأنك تحبها وهي تحبك.»
٢٨٣
وكانت مشاعر فاطمة الوطنية الدافقة، هي الباعث لأن تتوجَّه إلى مقر الهلال الأحمر
بالقاهرة، وتطلب
التطوع في أحد مستشفيات الميدان، وقال لها شاهر عوني: «يا دكتورة فاطمة، إنني أحيي فيكِ
هذا الشعور
الوطني النبيل، والحق أن حرب فلسطين هذه قد كشفت عمَّا في شعبنا من ذخائر روحية، لكننا
لم نصل بعدُ إلى
القسوة التي تجعلنا نبعث بشابة جميلة مثلك إلى الميدان، حتى لو كانت التعليمات تسمح بذلك.»
٢٨٤ ردَّت عليه بما يؤكد شخصيتها «أنا — أولًا — لستُ فتاة جميلة، إنما أنا طبيبة أعمل في
مستشفى
الدمرداش، وليست المسألة عندي أن أنتقل من مستشفى إلى مستشفى، وإنما أنا أريد أن أكون
في الصف الأول مع
المقاتلين.»
٢٨٥
وبعد أن وصل حبُّها لفوزي السيد إلى منعطفٍ حاسم، قررت أن تبذل هي التضحية، وتسافر
إلى فلسطين
متطوعة، وتبعث إليه من هناك برسالة تشرح فيها موقفها «إنني في طريقي إلى العريش، ومنها
إلى جبهة القتال
في المجدل، فقد تطوعت لأزاول عملي طبيبة في الصفوف الأولى للجيش … فإذا قدِّر عليَّ أن
أستُشهِد، فذلك الذي
أريد وأختار، حيث ألحق بصاحبي وصاحبك خالد، وأحل هذا الإشكال الذي سبَّبته لك، أما إذا
قدِّر لي أن أعود
سالمة — كما عدتَ أنت مرتين من قبل — فأعدك أن ألبي طلبك، وأنزل عند مشيئتك في الزواج
مني.»
٢٨٦
بل إن فاطمة جاوزت مهمتها كطبيبة متطوعة، انغمست حتى الأذنين في العمل السياسي، وراحت
تحلم
بالتغيير والثورة.
يقول لها زميلها الطبيب: أراضية أنتِ عن الهزائم التي مُنينا بها؟ لقد قال لي بعض
الضباط الذين عالجتهم، إن فرض الهدنة جاء بمثابة إنقاذ لنا، فلولا ذلك لانكشفنا!
تجيب: إنني أعرف هذا الذي تقول به، بل وأعرف أكثر منه، لقد هيَّأت لي فرصة تطوُّعي
أن ألمس بيدي مدى
الفساد الذي تردَّت فيه البلاد، والعفن الذي دبَّ إلى الرءوس الكبيرة في بلادنا … إن
كل إنسان قد أصبح يعرف
الآن أن دخول الجيش في فلسطين لم يسبقه أي إعداد، وأن الأمر قد صدر به للقوة المرابطة
في العريش من
جلالة الملك بدون استشارة حكومته، التي سارعت بالموافقة على هذا القرار … ولكن كارثتنا
الكبرى جاءت من
الملك عبد الله ملك الأردن، وخيانته، وتآمره مع الصهيونيين.
٢٨٧
ثم ماتت فاطمة شهيدة، وهي تسعف بعض الجرحى.
•••
كان خروج المرأة إلى العمل، وطلب الاستقلال الاقتصادي، محاولة للفرار من أشباح أفرزتها
الأوضاع
الاجتماعية، مثل الطاعة، وتعدد الزوجات، «وأشباح التعذيب والإذلال التي تهدد الزوجة وتقض
مضجعها.»
٢٨٨ لكن الأشباح ظلَّت هاجسًا يطارد المرأة المصرية، بصرف النظر عمَّا إذا كانت عاملة أو
ربة بيت،
متعلمة أو جاهلة، مستقلة اقتصاديًّا، أو يعوزها ظل الرجل. وقد يفكر الزوج المتعلم — عندما
تُهمِل الزوجة
مطالبه — في فعل أشياء كريهة، أن يجرَّها من شعرها، كما كان يفعل الأزواج قديمًا، وينهال
عليها ضربًا، بصرف
النظر عن أنها تحمل شهادة جامعية مثله.
٢٨٩
وكان رأي الزوجة (امرأة عند نقطة الصفر) أن الرجل الذي يعرف الدين معرفة كاملة هو
الذي يضرب
زوجته، لأنه يعرف أن الدين يبيح ضرب الزوجة!
٢٩٠
وثمة أمثلة أخرى …
يقول الشاويش لسيدة: معنا أمر من المحكمة واجب النفاذ.
– أمر بماذا؟
– بأخذكِ إلى بيت الطاعة.
وتساءلت جارتها في دهشة: هل تعني أنهم سيصحبونها إلى زوجها بالبوليس؟
– أجل.
– وستبقى في بيته بالبوليس؟
– أجل.
– وإذا هربت؟
– يعيدها البوليس.
– معنى هذا أنها عملية أسر؟
٢٩١
وكان تأثير طلب عباس البرعي لزوجته سيدة في بيت الطاعة سيئًا على نفس السيدة كوثر،
وعلت التساؤلات
التي راحت تزفرها في دهشة.
٢٩٢
يعبِّر الفنان عن موقفه من قضية بيت الطاعة بقوله إن سيدة أمضت بضعة أيام في «سجن
الطاعة»،
٢٩٣ وهو الوصف الذي عبَّرت به سيدة عن «هذا السجن الذي أسرك العدل بين قضبانه، وصنع لك منه
فراشًا، ومكانًا لقضاء الحاجة، وجعله بذلك مسكنًا شرعيًّا، بصرف النظر عما يمكن أن يصيبك
فيه من
إذلال.»
٢٩٤
تتحدث الراوية في قصة «بيت الطاعة» عن نصيحة أختها الصغرى بأن تختبئ: «ضابط وعسكري
ومعاهم واحدة
بملاية لف بيسألوا عليكي.»
٢٩٥ وتلجأ الراوية إلى الركن بين الدولاب والحائط، تبكي في نشيجٍ مكتوم، وهي تعاني الخوف.
وتُفاجَأ الراوية/الزوجة بأن بيت الطاعة يضم لمبة جاز نمرة خمسة، وقلة قناوي في صحن
ساج، أما
الصالون فلا يعدو كنبة كالمرجيحة، وكرسيين، وترابيزة صغيرة، وأما حجرة النوم فتضم سريرًا
خشبيًّا،
ودولابًا كبيرًا، وشماعة للثياب.
٢٩٦
وحين يأخذ عباس البرعي حكمًا بأن يرى ابنه في قسم الشرطة، تصرخ سيدة: يا ناس … يا
هوه … هو ده كلام
؟! يدخل الولد قسم البوليس لكي يراه أبوه؟!
٢٩٧
ويضغط الفنان على صورة الجريمة التي يحيا الصغير في إطارها، فأمه تذهب به إلى حجرة
الضابط
النوبتجي «ويتلفت الصبي حوله كل مرة في خوف، وهو يرى مرة شرطيًّا يدفع أمامه رجلًا تسيل
الدماء من رأسه،
ومرة أخرى رجلَين ممزقي الثياب يتبادلان أقذع الشتائم، وثالثة امرأة تولول صارخة وهي
تمسك بخناق رجل.
وتشبَّث الصبي بذراع أمه، وهو يتخيل كل لحظة أن شخصًا سيضربه أو يخطفه، ويجلس بجوار أمه
على دكة خشبية في
انتظار وصول الأب.»
٢٩٨
وبعد أن طلب عباس ضمَّ جابر إليه، دفع محامي سيدة بأنه غير أهل لتربيته لأنه بلا
عمل، ولأنه سكير،
ومقامر، ومتشرد … إلخ، وأن هناك شهودًا على ذلك، وردَّ عباس الدفع بسرد تاريخ سيدة، وقال
إنها كانت تعمل في
وجه البركة برخصة، وأن المحكمة تستطيع أن تطَّلع على سجل الرخص، وعلى كشف الصحة.
٢٩٩
•••
تقول كوثر حين يصحب العسكري سيدة إلى بيت الطاعة: «تذهبين إلى بيت زوجك بالبوليس
يا سيدة؟ وفي
زمن تدرِّس في المدارس حقوق المرأة ومساواتها بالرجل، هذا مجتمع عجيب يا سيدة … لقد بتُّ
أبغض هذا الزواج
الذي قد يشدُّني إلى زوجي ذات يوم بالبوليس.»
٣٠٠
ولا يخلو من دلالة، ذلك التصرف الذي أقدمت عليه المرأة المتزوجة، أسلمت نفسها لرجل
لا تعرف من هو،
ولم يسبق أن التقيا، حتى إنه تصورها مومسًا، فسألها وهو يفارقها: كم؟
٣٠١ ونتيجة للفراغ والملل والإهمال، استسلمت زبيدة هانم من أول يوم عرفت فيه رجلًا غير زوجها
«فلم تكن تعرف شيئًا آخر يمكن أن تقابل رجلًا من أجله، إلا أن تعطيه جسدها.»
٣٠٢
وحين بدأ فكري أفندي (الحرام) في البحث عن الأم التي ارتكبت الخطيئة، فإنه كان على
ثقة أن الفاعل
لا بد أن يكون امرأة، ولا بد أن تُضبَط، أما الرجل فإن دوره غير مهم!
وكما يقول الفنان «في الصعيد لا تستطيع امرأة في الثلاثين أن تعيش في بيت لا رجل
له، دون أن
تلوك سمعتها ألسنة الناس.»
٣٠٣
وعلى الرغم من إدانة الفنان لبديعة
٣٠٤ التي جسَّدت إغراءات الشيطان للزوج الصالح، حتى أوقعته في الخطيئة، فإنها كانت «رائدة»
ليس
في مجرد اقتحام الفتاة المصرية للعمل الوظيفي، ولكن في العمل بعيدًا عن الأسرة في مدينة
إقليمية.
ويبدي الزواج دهشته، قبل أن تُوقِعه الفتاة في شباكها: كيف تعيش فتاة في مثل سنها
وحدها؟
تجيبه الزوجة: إن أمها تفخر بها وتقول: إن ابنتي رجل!
– ما شاء الله! أهذا معقول؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تسافر امرأة مسيرة
يوم وليلة
إلا ومعها ذو رحم محرم.
– تغيَّرت الأوضاع، وانقضى ذلك الزمان.
وانطلاقًا من إيمان الفنان بأن المرأة ناقصة عقلٍ ودين، فقد كانت المسكينة بديعة هي
«الطُّعم» الذي
دفع به إلى الزوج لإيقاعه، لكنها — بعيدًا عن قسوة نظرة الفنان — فتاة مصرية استطاعت
أن تجاوز النظرة
المتزمتة إلى قضية اشتغال المرأة، فضلًا عن إقامتها بمفردها في مدينة بعيدة، ولم تعُد
إلى مدينتها وبيت
أسرتها لعيبٍ فيها أو لخطأ ارتكبته، لكن والدها هو الذي سعى إلى إعادتها!
•••
كان مبعث إقبال حلمي (المستحيل) على المحامية فاطمة، وإعجابه بها، ثم اشتهائه لها
(لم تكن بينهما
علاقة حب من أي نوع) شخصيتها الجريئة، والمقتحمة، ولأنها كانت عكس زوجته تمامًا، تقول:
ما لكم دائمًا تُصابون بالدوار حينما تسمعون عن امرأة تقود وتأمر؟
– لأن المرأة تقود وتأمر فعلًا بدون حاجة إلى مظاهرات وإضرابات وخُطب، لأننا نحبها
ونسلمها ذقوننا،
فيصبح الرأي رأيها، والكلمة كلمتها.
– أنا أرفض هذه القيادة التي أفوز بها لمجرد تنازلكم، إنه غرور منكم أن تُوقِفوا
حياتنا على حبكم،
أنا أيضًا لي غروري، أنا أريد أن أغتصب حقي بيدي، وآخذه رغمًا عنكم.
٣٠٦
وكانت فاطمة تقول: «أنا شخصيًّا أعتقد أن الله قطع إصبع حواء، وصنع منها آدم، وما
زالت المرأة — إلى
الآن — تصنع الرجال بإصبعها؛ إنها تشير في أي مكان إلى الرجل، فيتبعها، وما يلبث أن يصبح
زوجها، وأنا في
المحكمة أشير بإصبعي وأنا أترافع، وأنقذ أعناقكم يا رجال من المشانق، هكذا بإصبعي فقط.»
٣٠٧ وكانت فاطمة هي التي طلقت زوجها، لأن الحرية — في تقديرها — أجمل شيء في الدنيا «أجمل
شيء
في الحياة أن تعيش لا تعرف ماذا يحدث لك غدًا.»
٣٠٨
ويسألها حلمي: ألَا تخافين من كلام الناس، وأنت تعيشين هكذا: زوجة، مطلقة، في بيتٍ
طويل عريض وحدك،
حرة كما تشائين؟
فتجيب: ومن هم الناس الذين أعمل حسابهم؟ كل الناس كذابون، ثرثارون منافقون تافهون.
أنا أعطي لهم
المثل، وهم يمشون خلفي، ويقلدونني، إن كل جارة من جاراتي تتمنى أن يكون لها مكتب مثل
مكتبي، وعمل ناجح،
وزوج تطلقه، وتعيش حرة مثلي، لكنها تقول كلامًا آخر حينما تسألها، لسانها يقطر كذبًا
وحسدًا … أتريدني أن
أحسب حسابًا لمثل هذه المرأة؟
٣٠٩
ويسألها الراوي: لماذا حدث الطلاق بينك وبين زوجك؟
تقول: لأنه رجل مغفل، مثل كل الرجال المغفلين، يريدني أن أكون جارية يملكها، لا زوجة
يشاركها
حياته، يريد أن يجري ويلهو على كيفه، ثم يعود إلى البيت ليجدني راكعة عند قدميه، أقول
له يا حبيبي، يا
معبودي، كأني أرض وقف مكتوبة باسمه، يتركها خرابة مائة سنة ثم يعود فيجدها ما زالت خرابة.
وتقول فاطمة في غيظ: لماذا تطالبون المرأة وحدها بأن تكون مخلصة؟ لماذا لا تطالبون
الرجل
بالإخلاص؟ لماذا تغتفرون له عندما يخطئ، ولا تغتفرون للمرأة؟
يقول حلمي: لأن المرأة تحمل ثمرة خطئها، لأن خيانة المرأة معناها طفل غريب في العائلة.
– وخيانة الرجل معناها أيضًا طفل غريب في عائلة أخرى.
– عائلة أخرى بعيدة عنا.
٣١٠
وتجاهر فاطمة بآرائها لحلمي، إنها ترفض الشرف والغيرة والعرض المقدس.
ويهتف حلمي: أنت تخرِّفين، ولو كنتِ زوجتي لشنقتك!
فتقول في بساطة: لو كنتُ زوجتكَ لما علمتَ شيئًا عني، لأنك أبله، ولأنفقت عمرك في
عباءتي، وإغلاق النوافذ والأبواب
حتى لا تطولني الشمس، ولضيَّعت حياتكَ وعقلكَ في الغيرة على مدامتك المحصنة فاطمة.
٣١١
وتحب فاطمة حلمي، وتهمل الكثير من آرائها، وتنتابها مشاعر متناقضة، أرضيتها الحيرة،
وسقفها بلا
حدٍّ: «كنت أنا التي ألهو بالرجال، كنت أنا التي أرفضهم، وأكسر قلوبهم، ماذا حدث لي؟»
٣١٢
•••
لم تعُد المرأة الصالحة هي التي ينطبق عليها قول بيركليس بأنها ينبغي ألَّا تتعلم
أبدًا، صارت المرأة
الصالحة تتعلم، وتعمل، وتصل إلى أرقى المناصب. يقول الفنان (أين صديقتي اليهودية): «كان
العمل محرمًا على
البنت، فضيحة، عيب.»
٣١٣
كان رأي الزوج أن اقتحام المرأة لميادين العمل «مما تلجأ إليه بنات اليوم، ليس إلا
ضلالًا عن
طريق الطبيعة والحق، وثورة على أمر الله وما خُلقنا له.»
٣١٤ وتحدث الأب عن العالم الذي فسد بسبب فجر النساء، فبعد أن كانت المرأة تغادر بيتها بالحجاب،
صارت تخرج بدونه، بل وخرجت إلى العمل مثل الرجل، وزاد التبجُّح ببعضهن إلى حد جعل أكمام
الثياب قصيرة،
فيظهر نصف الذراع، وربما الذراع كلها،
٣١٥ بل إن الشيخ أبو العيون الذي وجد تخريجًا لسفور المرأة، وخروجها إلى الحياة العامة،
ما لبث
أن اعتبر سعي المرأة إلى الوظيفة من أعظم النكبات على سلامة المجتمع؛ لأنها ستفقد — على
حد تعبيره —
وظيفتها الجنسية، وتعطل أنوثتها، وتهدم بيدها أساس حياتها النوعية.
٣١٦
تروي المدرسة في مذكراتها المنسية أنها — قبل أن تحصل على الليسانس — كانت تسمع بأذنيها
في الطريق
إلى بيتها بالسيدة زينب، مَن يقول: البنت المدرسة دي فاهمة إنها حاجة؟! إيه يعني معلمة
بثمانية جنيهات؟ من
أين تأتي بهذه الفساتين؟! طبعًا تعود إلى البيت بعد المغرب، تدَّعى أنها كانت في المدرسة،
كلام
فارغ!
٣١٧
وقد حطم مصطفى (في قافلة الزمان) تقاليد العائلة عندما خرج مع خطيبته بمفردهما لمشاهدة
موكب الملك
فاروق بعد عودته من إنجلترا، في طريقه إلى قبر والده،
٣١٨ وعندما استأذن حسنين (بداية ونهاية) في أن يصحب معه بهية إلى السينما، وافق والدها قائلًا:
أظن العالم الحديث يستسيغ هذا السلوك بين خطيبَين!
٣١٩
ويهبنا الفنان هذه الصورة الموحية، عن شابَّين في حوالي الخامسة والعشرين «يعجزان
أن يقضيا أوقات
فراغهما فيما يُسكِن ثائرهما، ويجلب السرور، أو يُذهِب الكآبة، فإن تنزَّها فهما يجوبان
الطرقات المزدحمة،
فيأخذ لبَّهما منظر السيدات، وخاصة الأجنبيات، حيث برزن سافرات، تلمع وجوههن، وأذرعهن
عارية، وأجسامهن
وقد بدت فاتنة داخل لباس رشيق، وهما يقضيان الساعات وقوفًا في محطة الرمل، يتطلعان إلى
الرائحات
والغاديات في سكونٍ ظاهرٍ ودأب جم وثورة داخلية، تود لو تحطم هذا السكون، وهذا الأدب.»
٣٢٠
ويبيِّن وضع المرأة عن بُعدٍ سلبي في الشبان الذين كانوا يقفون في الترام، أمام باب
الحريم «كلوح
اللطزان لا أكثر ولا أقل، يبرم شنبه تارة، ويلعب حواجبه تارة أخرى، ويلف سلسلة ساعته
الدوبليه على
أصابعه، ثم يتنهد ويعدل طربوشه، وباختصار ناقص يطبلوله يرقص.»
٣٢١
وكانت مفاجأة الحوذي الأسطى محمود (مذكرات عربجي) — ذات يوم — حين طلبت سيدة أن يذهب
بها إلى
«تيرو» روض الفرج: «التيرو؟ أقسم لك — أيها القارئ — أني غالطت سمعي، وسألت مرة ثانية
قائلًا بعد أن
أحنيت رأسي لأسمع: سيادتك بتقولي على فين؟
– شيء غريب … على التيرو … أنت مبتسمعش؟!
والله ما كان يخطر لي على بالٍ — أنا العربجي الذي أقضي أكثر أوقاتي في معاشرة البهائم
— إنه يقصد
سيداتنا عمدًا، مع توفر سوء القصد والنية، وفي عصرية من رمضان، هذه البؤر التي أولها
«أونطة»، وآخرها
موت وخراب ديار، مع ما يتخلل ذلك من إراقة ماء الوجه، وبالاختصار، يسدل الستار — أخيرًا
— على بيع و«طيران» العقل، وخراب البيوت المستعجل.
٣٢٢
ويشير الفنان إلى حوادث الفتيات مع سائقي السيارات الخاصة التي انتشرت في أواسط
الثلاثينيات
٣٢٣
لقد تربَّت المرأة ونشأت على عشرات القيم والعادات والتقاليد، قابلها سماع وقراءة
ومشاهدة في وسائل
الإعلام والثقافة المختلفة، عن العلاقات العاطفية والجنسية التي تتم بين أطراف متكافئة،
وكان ذلك
التناقض بين الموروث والواقع مبعثًا لحيرة دارت في دوامتها غالبية فتيات الطبقة الوسطى
اللائي أتيحت لهن
فرص الدراسة والعمل، فالزوج — في الأحلام — فارس يمتطي جوادًا، والزوج — في الواقع —
موظف مستور، يسبق
طلبه يد فتاته مساعي الخاطبة، أو مجيء أفراد أسرته للمعاينة وإبداء الرأي.
ولعل الشاب المصري كان يساعد على استمرارية تلك الحيرة، بسعيه إلى إقامة علاقة، فإذا
أراد الزواج
تزوج من فتاة أخرى، لأنه — في أعماقه — يرفض التحرر إلا فيما يتصل بالعلاقة العابرة،
وإن طالت.
أما العلاقة الأسرية، فإنه يلجأ — لإقامتها — إلى كل القيم والتقاليد والعادات الموروثة!
أعلنت
الفتاة (فتاة صامتة) أن خروج الفتاة مع الشاب — منفردة — قبل الزفاف، ليس من الأمور المستحبة
إطلاقًا.
٣٢٤ وكان وصفي (قصر على النيل) يقابل ابنة عمه، ثم تزوج غيرها، لأنها — في تقديره — قد تسعى
إلى
غيره كما سعت إليه، واتَّسق ذلك التصرف مع كراهية وصفي لأم وديدة التي حدَّدت لوصفي موعد
اللقاء الأول، ثم
أصبحت رسولًا بين الحبيبين: «إنها هي، هي وحدها التي فرقت بينه وبين هواه، إنها هي التي
وضعت هذا الحائل
بينه وبين سهير.»
٣٢٥ وذهب نظيم باشا (حواء بلا آدم) إلى أن المرأة — أيًّا يكن مستواها، ومهما يكن علمها
— ناقصة
عقلًا وحنكة وتجربة، والواجب عليها شرعًا ولياقة، أن تنصاع إلى الرجل، لا أن تجري في
رعونة وراء
عواطفها.»
٣٢٦
كانت «المرأة الجديدة» أولى مسرحيات الحكيم التي يبدي فيها معارضته الشديدة لحرية
المرأة، واشتغالها
بالوظائف العامة، حتى لُقِّب — فيما بعد — باسم «عدو المرأة»، وكتب فكري أباظة في «اللواء»
(٥/ ٩/ ١٩٢١م)
يعقب على خطة الحزب الديمقراطي بمساواة الرجل بالمرأة في الوظائف وسائر الأعمال: «… بمعنى
أنه ما دام
هناك وزير ومدير وشيخ جامع وحكمدار وباشجاويش وخفير من الجنس الخشن، وجب حتمًا أن يكون
هناك — مقابل ذلك
— وزيرة ومديرة وشيخة جامع وحكمدارة وباشجاويشية وخفيرة من الجنس اللطيف، وما دام أن
هناك نايبًا أو نوابًا
عن كل مركز في الجمعية الوطنية، وجب أن يكون هناك «نايبة» أو «نوايب» من الجنس اللطيف
أيضًا! وما دام أن
هناك حوذيًّا وكمساريًّا وكناسًا من الجنس الخشن، وجب أن يكون هناك حوذية وكمسارية وكناسة
من الجنس اللطيف
كذلك! فكرة جميلة وعملية سهلة، ولكن نسى «الحزب» مسألة جديرة بالنظر، وهي أن الوظائف
والأعمال الإدارية
لا تتفق وطبيعة النساء أبدًا.»
٣٢٧ أضاف فكري أباظة في «الأهرام» (٢٥/ ٦/ ١٩٢٢م) «ماذا تكون الحال لو احتدم الجدال بينها
—
المرأة العضو في البرلمان — وبين أحد النواب الخشنين، فبدرت من هذا زغرة أو شخطة في سبيل
الصالح العام.
إن النائبة — لرقة شعورها ودقة إحساسها — ربما ضجَّت بالبكاء والعويل من شدة التأثير،
وربما قذفت عليه من
فِيها مختلف الدعوات الصالحات متشفعة بالأولياء والأنبياء، ثم لا تلبث أن تنتابها حُمَّى
عصبية تشنجية،
فنحتاج لدق الزار في رائعة النهار؟! أو تخيَّلها أمًا حنونًا حملت معها في دار الندوة
طفلها الرضيع على
ذراعيها، ثم احتدمت المناقشة، وتصادف أن طغى أحد البراغيث على الطفل فقرصه، فضجَّ هذا
بالبكاء من شدة
الألم، ألَا تظن صوت هذا الطفل كافيًا لإيقاف المناقشة في الميزانية، وإرباك الأعمال
بالكلية؟ أو تخيَّلها
تركت أولادها لزوجها الوقور في المنزل، واشتغلت هي بحماسٍ في التقنين والتشريع، وبينا
هي كذلك، وإذا
بحاجب المجلس يُخطِرها بأن أطفالها يبكون لحاجتهم للرضاع؟ تظنها تفضِّل التشريع على ابنها
الرضيع، أو سن
القوانين على أولادها المساكين؟!»
٣٢٨
•••
في ١٩٢٥م بلغ عدد الطلاب في مصر نسبة ٢٠٪ من مجموع الصبية البالغين سن التعليم، وكانت
الطالبات
يمثِّلن خُمس عدد الطلاب، أما في ١٩٤٥م فقد قُدِّر عدد الطلاب بنسبة ٤٠٪ من مجموع الصبية
البالغين سن التعليم،
وارتفعت نسبة الطالبات إلى الخمسين.
٣٢٩
وفي ١٩٤٥م بلغ عدد العاملات في الصناعة ١٦٠١٦ عاملة، وكان عدد المشتغلات منهن في
صناعة النسيج
والملابس ٩٢٨٦ عاملة، يمثِّلن خُمس الأيدي العاملة في صناعة النسيج.
٣٣٠
ثم دلَّت الإحصائيات (١٩٤٧م) على أن المرأة امتد نشاطها إلى مختلف المهن، وأن نسبة
العاملات فوق سن
الخامسة بلغ نحو ٤٣٫٣٪ من جملة السكان.
وبالطبع، فإن اختلاط الجنسين، ونزول المرأة إلى العمل، ومشاركتها في الحياة العامة،
ظواهر
إيجابية، تؤكد المرأة — من خلالها — قدرتها على المشاركة في حياة المجتمع. وكان غريبًا
أن تعطي الحكومة
رخصة للمرأة، لكي تشتغل بالبغاء الرسمي، أو رخصة للاشتغال خادمة في البيوت، بينما تُغلِق
في وجهها أبواب
العمل في البنوك والمحال التجارية، وتستند إلى العرف والتقاليد في الاقتصار على استخدام
الأجنبيات.
٣٣١ وكانت نوال (توبة نوال) واحدة من المصريات القلائل اللائي عملن في الشركات الكبيرة،
إلى
جانب عددٍ كبير من اليهوديات والمتمصرات.
٣٣٢
•••
لماذا عملت المرأة؟ هل لإرضاء النفس، أو تحقيق الذات، أو لسد الاحتياجات الاقتصادية،
أو للمساهمة
في مواجهة الأسرة لأعباء الحياة؟
٣٣٣
إن العمل — في تقدير إنجي أفلاطون — يعني للمرأة تحرُّرها من ربقة الرجل، وهو — بالقطع
— ليس
تحررًا مطلقًا، إن «تحرير المرأة لا يمكن أن يتم في منعزلٍ عن بقية قضايا الحرية، والمرأة
حينما تثور على
الرجل، فهي تثور من أجله أيضًا، كما أنها تثور نيابة عن كل مقهور آخر. قضية الحرية ليست
خاصة بها، لهذا
فهي لا يمكن أن تحدث بدون تضامن مع بقية الفئات المضطهدة، وهو خير وسيلة لتجنُّب الخطأ
الذي يمكن أن ينجم
عن تولي المرأة معركة تحرير نفسها بنفسها، ولنفسها.»
٣٣٤
لكن سعي المرأة إلى الوظيفة لم يقتصر — كما أشرنا — على الأسباب الاقتصادية؛ اتجه
الكثير من
الفتيات إلى الوظيفة لمجرد تأكيد الذات، أو لحب العمل في ذاته.
يسأل كامل رؤبة لاظ فتاته رباب قبل أن يعقد قرانهما: هل تواصلين العمل في وظيفتك إذا
تم الأمر كما
أرجو؟
تجيب: ولِمَ لا؟ إني أحب عملي حبًّا جمًّا.
٣٣٥
وحين تزوجت أنصاف «مسعود» لم يكن المال هو الدافع، كما ادَّعت أمام أهل زوجها، وإنما
كانت في حاجة
إلى رجل، كانت تنظر من نافذتها تتابع النسوة، ترى شعورهن المبتلة، عيونهن المكحَّلة،
وربما تابعتهن من
خلف الشيش حتى لا يرينها، ولمَّا تزيَّنت مثل النساء سمعت امرأة تتساءل: لماذا تتزين
ما دامت بلا
رجل؟!
٣٣٦
الطريف أن بعض الظواهر السلبية هي التي أتاحت للمرأة أن تحصل على فرص عمل أوسع، فقد
بدأ أصحاب
الأعمال — في مطالع الثلاثينيات — يفضِّلون تشغيل النساء، لقلة الأجر الذي تتقاضاه المرأة
— نسبيًّا — عن
أجر الرجل، ولاحتمال تركها الخدمة بسبب الزواج، مما يخفِّف من أعباء صاحب العمل من حيث
المكافأة، فضلًا عن
أن المرأة لم تكن تعنى بالنواحي النقابية، ومن ثَم فقد صدر القانون رقم ٨٠ لسنة ١٩٣٣م
بمنح المرأة العاملة
بعض المزايا، لإغراء الفلاحات على العمل بمصانع النسيج، وإغراء بنات المدينة على العمل
بالمحلات
التجارية.
٣٣٧
وإذا كان مما يؤخذ على طلعت حرب أنه عارض «تحرير المرأة»، وردَّ عليه بكتابه «الرد
على تحرير
المرأة»، فإن الشركات التي أنشأها بنك مصر شهدت المرأة المصرية سافرة، وعاملة، وشهدت
المرأة المصرية
ممثلة أيضًا في شركة مصر للتمثيل والسينما، كما أن شركة مصر للغزل والنسيج تولَّت إنتاج
ثياب المصريات «لكنها لا تنتج أحجبة لوجوههن.» والتعبير لمحمود كامل.
٣٣٨
وفي ١٩٢٧م بلغ عدد النسوة اللائي يشتغلن بالصناعة ٤٨٧٦٧ امرأة، منهن ٢١٩٣١ امرأة يشتغلن
بصنع
ملابس السيدات، ونسبة النساء إلى مجموع المشتغلين بالصناعة ٨٫٩٪، وإلى مجموع المشتغلين
بالتجارة
٩٫٦٪.
كان أغلب عمل المرأة في مهنٍ محددة، مثل صناعات الغذاء، وصناعة الملابس، والصناعات
الصغيرة،
والأعمال الكتابية، والتدريس، والتمريض، والعمل البيتي. وجميعها مهن يُفترَض أنها تتطلب
مهارة أقل، وبقدرة
أقل من الحرية، مقارنة بأعمال الرجل (كانت وزارة المعارف العمومية، إلى أوائل الثلاثينيات،
تفصل كل
مدرسة تتزوج شابًّا يعمل في نفس عملها! (أزهار، ٢٠١)).
ثم لم يعُد عمل المرأة يقتصر على المهن التي اعتُبرَت تقليدية بالنسبة لها، ثمة مهن
ووظائف أخرى
تولَّتها المرأة في معظم المجالات التي بدت مغلقة الأبواب أمامها، وأكد المعنى كُتاب
كبار انطوت مقالاتهم
على معانٍ كثيرة، ليست السخرية أشدها! أذكر — على سبيل المثال — مقالات فكري أباظة وتوفيق
الحكيم.
والملاحَظ أن تطور الوسائل والأدوات المنزلية قد ساعد على توفير جهد المرأة، وهيَّأ
لها بالتالي فرصة
الخروج إلى العمل، وبعد أن كان عمل المرأة مقصورًا — إلى نهايات الحرب العالمية الأولى
— على الزراعة،
فقد بلغ عدد النساء المشتغلات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ٨٤١١٧٨ امرأة
في ١٩٢٧م، ثم
قفز العدد إلى ١٣٦٣٧٥٦ امرأة في ١٩٢٧م.
٣٣٩
•••
بالطبع، فإن عمل المرأة خارج بيتها، لم يحُل بينها وبين دورها الأساس في البيت، كزوجة
وأم، واتجهت
آراء كثيرة إلى أن دور المرأة الأكثر أهمية هو دور الزوجة والأم.
٣٤٠ ولم يجد الأب (كفارة الحب) خيرًا للمرأة من الزواج وتدبير مملكة البيت وإنجاب البنين،
وتربيتهم «ليكونوا لنا في الحياة عونًا، وبعد الحياة ذكرًا، وللعالم عمرانًا، أما هذا
الاقتحام لميادين
العمل مما تلجأ إليه بنات اليوم، فلم يكن عنده إلا ضلالًا عن طريق الطبيعة والحق، وثورة
على أمر الله،
وما خلقن له.»
٣٤١ وكانت أمينة زوجة سليم باشا (الحصاد) على يقين بأنه «على الرجل أن يسعى، وعلى الزوجة
أن
ترعاه، وترعى بيته وأولاده.»
٣٤٢ واستقرت سميحة (نحن لا نزرع الشوك) في البيت، بعد حصولها على الابتدائية من مدرسة السَّنية،
وجدت أمها أن من الخير لها أن تمارس شغل البيت، استعدادًا للزواج، كان رأي الأم أنها
مهما تعلمت،
فمصيرها إلى بيت الزوجية، ومن الخير أن تُؤهل له.
٣٤٣ وكانت سعاد (رائحة الورد وأنوف لا تشم) أمًّا لثلاث بنات، تؤمن بأنه ليس هناك مستقبل
لأي بنت
إلا الزواج، مهما تطورت حياة البنات، ومهما بلغت من مكانة علمية واجتماعية، فإن البنت
لا يمكن أن تستكمل
كيانها، أو شخصيتها الاجتماعية، إلا بالزواج.
٣٤٤
وكان لإقبال الفتيات — بعد التخرج في الجامعة — على وظيفة المدرسة، تأثيره في تخريج
أفواج من
الفتيات المتعلمات.
٣٤٥
– لِمَ تقبل الفتيات على كلية الآداب؟
– لأن وظيفتهن التدريس هي أوسع الوظائف صدرًا لهن.
٣٤٦
وحين قال كامل رؤبة لاظ (السراب) لأمه، إنه ينوي التقدُّم لخطبة فتاة تعمل مدرسة،
قالت في استياء:
مدرسة؟! إن بنات الأسر الطيبة لا يشتغلن مدرسات … والمدرسة إما أن تكون عادة دميمة، أو
مستهترة
مسترجلة!
٣٤٧
ولم تُخفِ الأم (توبة نوال) تأثُّرها لزواج ابنها الوحيد من فتاة زميلة لها في الشركة
التي يعمل بها،
يعني فتاة تعمل مع الرجال.
٣٤٨ ويقول عم صقر الساعي (المرايا): «لا تصدق أن فتاة شريفة تقبل أن تعمل وسط الرجال!»
٣٤٩
وتقول إحدى السيدات لجارة لها: أما سمعت بالخبر العجيب؟
تضيف: توحيدة بنت أم علي بن عم رجب.
– ما لها كفى الله الشر؟
– توظفت في الحكومة.
– توظفت في الحكومة؟!
– أي والله! موظفة! تذهب إلى الوزارة، وتجالس الرجال!
– لا حول ولا قوة إلا بالله، إنها من أسرة طيبة، وأمها طيبة، وأبوها رجل صحيح!
وتحاول المرأة أن تجد تبريرًا لاشتغال الفتاة، فتقول: يمكن لأن البنت غير جميلة؟
تقول الجارة: كانت ستجد ابن الحلال على أي حال!
٣٥٠
وكان رأي خديجة (السكرية) أنه لا تسعى إلى الوظيفة إلا الفتاة البائرة، أو القبيحة
المسترجلة.
في قصة «لن أقرأ الصحف» يبين الفنان عن رفض مؤكد لاشتغال المرأة، فبعد طول تردد،
وافق الأب على
تعليم ابنتَيه، ثم على اشتغالهما، لكن كبرى البنتَين حملت سفاحًا من علاقة مع رئيس لها،
وتموت الفتاة،
ويحبس الأب أختها في البيت حتى لا تلقى المصير نفسه.
٣٥١
في المقابل، فقد دافع البعض عن نزول المرأة إلى العمل، بالتأكيد على أنه «كما قد
توجد منحرفة بين
ستات البيوت، فقد توجد مستقيمة بين الموظفات.»
٣٥٢
ومع أن هربرت سبنسر
Herbert Spencer دعا — لفترة طويلة — إلى أن
تكون للمرأة حقوق مساوية تمكِّنها من منافسة الرجل، فإنه ما لبث أن عدل عن رأيه، وأعلن
أنه إذا فهمت
المرأة كل ما يحتويه العالم المنزلي لما رضيت عنه بديلًا.
٣٥٣ دور ربة البيت هو الأهم في حياة المرأة، بصرف النظر عن مكانتها الاجتماعية والوظيفية،
بل
والاقتصادية، إنه — ذلك الدور — هو الذي يحدد وضع المرأة في المجتمع، هي لا بد أن تقف
في موضع تالٍ لموضع
الرجل، هو الآمر، وهي التي تنفذ. ويؤكد الراوي أن الرجل كل حياة المرأة، ومحور وجودها،
المرأة تتخلى عن
كل شيء في الحياة إذا ظفرت برجل، إنها بدونه خيمة بلا عماد، أو بيت بلا سقف،
٣٥٤ حتى سامية (بين الأطلال) للسباعي، التي كانت تكره تبعية المرأة للرجل، صارت — حين تجلس
إلى
جوار كمال — تتلهف على هذه التبعية!
ولا يخلو من دلالة قول الراوية (شرق المتوسط) «النساء في بعض اللحظات، يقلن كلمات
كبيرة، لكن ما
يقلنه مجرد كلمات.»
٣٥٥
•••
لا شك أن ما سبق عرضه، يصعب أن ينطبق على «كل» المجتمعات العربية، ثمة الكثير من الشواهد
بأن
المجتمعات العربية لم تعُد تَدين للتسلط الذكوري، بالصورة التي بدت شبه ثابتة منذ عصور
الحريم، وامتدادها
في الأسرة (المثل: أسرة أحمد عبد الجواد) ثم تحرك الصورة تكويناتها، وعمقها، وألوانها،
وظلالها — على
نحوٍ أو آخر — في الانعكاسات التي تبين عنها الأعمال الإبداعية منذ مطالع القرن العشرين،
تماهيًا مع
الخطوات التي قطعتها المرأة، إلى الأمام، أو إلى الخلف (رفعت المرأة الحجاب في ثورة ١٩١٩م،
ثم أعادته
بعد ثورة ١٩٥٢م!) وإن كان مما يهمنا — في هذه الملاحظات الختامية — أن نركز على خطوات
الأمام في مسيرة
المرأة المصرية:
-
الرفض الحاسم لعمل المرأة لم يعُد قائمًا، كان العمل الوحيد المسموح للمرأة بأدائه —
عدا
استثناءات تؤكد القاعدة — هو العمل الزراعي من أمور البيت، ورعاية البهائم، وتربية الطير،
والعمل في
الحقل، مستأجِرة أو أجيرة، والتردد على السوق للبيع والشراء، ثم عملت المرأة في مجالات
مختلفة، كان مجرد
التطلع إليها أقرب إلى المستحيل، أذكِّرك بمسرحيات الحكيم التي نالت فيها المرأة من سخرية
الفنان
ومؤاخذاته.
-
تبدَّلت الأحوال إلى حد أن المطالبة بعمل المرأة، لم تعُد تقتصر على المرأة وحدها، الرجل
— في
أحيان كثيرة — يشترط عمل المرأة، أن تكون المرأة عاملة، موظفة، لها إيرادها الثابت الذي
يعينه على أعباء
الحياة.
٣٥٦
-
طالبت المرأة — لأعوامٍ طويلة — بحق العمل، فلما حصلت على هذا الحق، ونتيجة للظروف الاقتصادية
القاسية، أصبح الرجل هو الذي يطالبها بهذا الحق، اعتبره واجبًا، ضرورة، واعتبره شرطًا
مهمًّا لقبوله
الزواج من فتاة ما: ماذا تعمل؟ وهل لها إيراد؟
لم يعُد الشاب يختار الزوجة لأنها تجيد أعمال البيت من طهي وترتيب وشطارة، فهي قد لا
تجيد شيئًا من
ذلك، أو لا يهبها وقت عملها الوظيفي أو المهني فرصة لتحقيقه … لكن الشاب يقبل بها للعديد
من العوامل،
ومنها مساعدته — براتبها — في الإنفاق على البيت.
وقد أظهرت الأم (توبة نوال) تأثُّرها لزواج ابنها الوحيد من فتاة تعمل في شركة مع الرجال،
ثم ما
لبثت أن اقتنعت بمطالب العيش المادية،
٣٥٧ وتُلقي الظروف الاقتصادية ظلها في قول البنت لفتاها إنها ستتزوج، ويومئ الشاب إلى المسكوت
عنه في قوله: ستتزوجين خاتمًا وشقة.
٣٥٨
-
في المقابل، فإن سعي المرأة المعاصرة إلى العمل، والتمتع بأقصى قدر من الحرية، كان يهدف
— في
نهايته — إلى اختيار — أو قبول — من تريده زوجًا لها، من اختارته فهو اختيارها، بلا ضغط
ولا قهر.
وتضاعفت أعداد مدارس البنات، وتخرج آلاف الفتيات في الجامعات، وأصبح حق المرأة في الظهور
في المجتمع
متاحًا بصورة مؤكدة، ولم يعُد من المشكلات التي يصعب التغلب عليها، أن تفاجأ المرأة في
الأوتوبيس بأن
شيئًا مدببًا يندس بين ردفيها!
٣٥٩
لكن المسألة — في بُعد سلبي لها — تحوَّلت إلى مجرد زيادة أفواج المستهلكات لأدوات
التجميل الواردة
من الغرب، فالمشاركة — بمعناها الكامل — مفتقَدة، لا تستطيع المرأة — ارتكازًا إلى أنها
ناقصة عقل ودين —
أن تملك حق الطلاق — مثلًا — بالصورة المطلَقة التي يملكها الرجل (تقول له، صارخة أو
متوسلة: طلقني!
فيوافق بالقول: أنت طالق، أو لا يوافق)، والمناقشات لم تصل إلى بر حول ما إذا كان من
حق المرأة أن تخرج
إلى الحياة العامة، أو أن الأولى بها أن ترعى بيتها، زوجها والأولاد؟
هوامش