أرض النفاق

أرض النفاق تذكِّرنا برواية «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي، من حيث ارتكاز العملَين إلى النقد الاجتماعي المباشر، وإلى جو «الفانتازيا» الذي تتحرك من خلاله الأحداث.

وإذا كان الراوي في حديث المويلحي قد التقى بالباشا الذي خرج إليه من بين المقابر، ليصحبه في جولة، يتعرفان — من خلالها — إلى الأبعاد السلبية في المجتمع المصري في أواخر القرن التاسع عشر، فإن الراوي في أرض السباعي يلتقي بصاحب دكان الأخلاق، ليتعرَّف في بضاعته، ومن خلال جولاتهما أيضًا، إلى الأبعاد السلبية في المجتمع المصري، في أواخر النصف الأول من هذا القرن.

الراوي يصادف دكانًا لم يرَها من قبل، برغم أنها في الطريق إلى بيته، وضع صاحبها لافتة كتب عليها: تاجر أخلاق بالجملة والقطاعي، فالبداية إذن تضعنا في جو «الحلم» رغم رفض الفنان لذلك المعنى في ختام روايته.

ويسأل الراوي صاحب الدكان عن طبيعة تجارته: ما هذا؟

– تضحية.

– وهذا؟

– مروءة.

– وهذا الكيس الذي على الرف؟

– إخلاص.

– وهذا الذي في الركن؟

– شهامة.

ويروي له الرجل قصة الدكان. كان في بداية إنشائه يضم كل أنواع البضاعة، الطيب والشرير على السواء، لكن الناس أقبلوا على شراء الأنواع الشريرة وحدها، وكان النفاق أشد تلك الأنواع رواجًا، فلم يجد حاكم البلاد وسيلة إلا أن يلقي بكمية النفاق الباقية في النهر، ليحصل كل إنسان على شيء من النفاق، وأصبح النفاق جزءًا عضويًّا فيما يشربه الناس ويأكلونه، وأصبح بعض نفوسهم وأخلاقهم «أضحوا قوم النفاق، وأضحت أراضيهم أرض النفاق.»١
يبدي الراوي استعدادًا للاقتناع، ويحصل بالفعل على كمية من مسحوق الشجاعة، وكان أول ما أقدم عليه، بعد أن بدأ تأثير المسحوق يسري في جسمه، أنه ألقى بالطربوش الذي كان يضعه على رأسه: «هذا الوعاء الأسطواني الأحمر ذو العنق، الذي شدَّت به خيوط سود مبرومة، هو المسخرة بعينها، نحمل رأسنا بلا أي مبرر ولا فائدة.»٢

أما تصرفه الثاني، فقد كان خناقة حامية مع سائق الأوتوبيس الذي اعتاد أن يهمل الوقوف في المحطة، بصرف النظر إن كان الأوتوبيس خاليًا أم كانت المحطة تشغى بالجمهور المنتظِر، وينتهي به الأمر إلى قسم الشرطة لتجرَّه شجاعته إلى الدخول في معركة مع رجلٍ يضرب زوجته، فيتعاون الزوجان — بالطبع — على ضربه.

يغادر القسم إلى مبنى الجامعة العربية، فيستبدل بلافتة «الأمانة العامة» لافتة أخرى «الخيانة العامة»، ويعود إلى القسم، ثم يغادره إلى البيت، ثم إلى الديوان، ويصطدم في كل تصرف تمليه الشجاعة، برفضٍ من المجتمع، حتى أهل بيته ظنوا أنه فوجئ، ويعود إلى صاحب الدكان يطلب مسحوقًا مقابلًا للشجاعة قبل أن تتبدَّد حياته.

ولأن بضاعة الشر كانت قد نفدت جميعها، فقد اقترح الرجل عليه أن يستبدل بمسحوق المروءة، مسحوق الشجاعة، ربما تكون المروءة ذات تأثير أقل من تأثير الشجاعة، لكن مروءته الطارئة تجر عليه الكثير من المآزق والمواقف المحرجة، وضعته — للمرة الثانية — في إطار تهمة الجنون، فأسرع عائدًا إلى دكان الأخلاق، ليسرق كيسًا صغيرًا قال له الرجل إنه يضم خلاصة ما في الدكان من مساحيق الأخلاق الطيبة، ثم يلقي به في قاع النهر ليتساوى كل إنسان في شرب خلاصة الأخلاق الطيبة، فلا تصبح صورته كأنه يرتدي زيًّا كاملًا في مستعمرة للعراة!

يُحدِث المسحوق تأثيره في أخلاق الناس، فيرفضون النفاق بشتَّى صوره وأنواعه، وتحدث لذلك ردود فعل عنيفة، تضطر الدولة معها إلى إلقاء القبض عليه، وعلى صاحب الدكان، وتقديمهما إلى المحاكمة بتهمة تلويث المياه بجراثيم الأخلاق،٣ لكن الأمور بدأت تستقيم «بعد فترة اضطراب، فتولَّى الأمر قوم غير منافقين، وأجريت فيها — لأول مرة — انتخابات حرة، وتكوَّن برلمان بلا نفاق، فأضحى الشعب حقًّا هو مصدر السلطات، وبدأ في إصلاح حاله، وإقالة عثرته، ووُضعَت من أجله المشروعات النافعة المجدية، ورُدَّت إليه حقوقه الضائعة، وأخذ من غنيه حق فقيره، وأُطعِمَ من جوع، وكُسِيَ من عري، وأضحى يتمتع في عيشه بما يتمتع به الآدميون.»٤

•••

أتصور الفنان قد أراد أن يجعل من أحداث روايته حلمًا، يستعرض — من خلاله — بعض السلبيات التي كان المجتمع المصري يعانيها آنذاك، ثم أدرك وهو يوشك أن يضع القلم، غلبة النقد الاجتماعي المباشر على الفنية الروائية، فلم يجد حاجة لأن يُوقِظ الراوي من حلمه؛ طغى ما بها من حقائق — على حد تعبيره — على ما بها من خيال، ورفض الفنان — من ثَم — أن تكون مجرد حلم «هي صيحة مخلصة منطلِقة من أعماق صدري.»٥
الرواية تعلو ببعض النقدات الاجتماعية المباشرة، مثل قول الراوي: «تلك هي العلة في هذا البلد، إن الذي يحس بالمصائب لا يملك منعه، والذي لا يملك منعه لا يكاد يحس وجوده … إن الذين بيدهم أمره — البلد — لا يحسون بأمره، ولا يدركون من أمره شيئًا، كيف يحسون جوعه وبطونهم ملأى مكتظة؟ كيف يذكرون أنه يشرب من ماء الترع إذا كان يشربون ماء فيشي؟ وكيف يدركون أنه في حاجة لأنابيب مياه إذا كانوا يأخذون مياههم من الفريجيدير؟! كيف يبصرون عريه وهم يرفلون في النايلون والشاركسكين؟ وكيف يبصرون هزاله، وأجسادهم السمينة المربربة تنضح منها قطرات النعيم؟ … إلخ.»٦ والفنان تأخذه الحماسة، فيقترح أن يتقاضى رئيس الوزراء — في شهر ما — أربعة جنيهات، يقضي بها حاجته وحاجة أسرته من مأكل وملبس ومسكن، وأن يقطن — ذلك الشهر — في عشة من عشش الترجمان وزينهم، حتى يحس البؤس الذي يعانيه الفقراء.٧

لم يكن رئيس الوزراء وحده موضع إدانة الفنان، فقد أدان الأحزاب، والأغنياء، وأمين الجامعة العربية، والوزراء، وسائقي الأوتوبيسات، والفقراء أيضًا لأنهم لا يعنون بمظهرهم، وعقدة النقص الكامنة في نفوسنا، والطربوش، والبوليس، والأفندية الذين يزوغون من دفع قيمة التذكرة، والأجانب، والموظفين، والجهاز الحكومي، وتزييف الانتخابات، والمظاهرات المدمرة، ومدير مصلحة التنظيم، والشحاذين، وكثرة النسل، ومرشح المجالس النيابية … إلخ.

الراوي يصف الجهاز الحكومي بأنه «آلة خرِبة عتيقة، محطمة، مهشَّمة، مركبة على قاعدة من السخافات والتعقيدات، يديرها أناس كأنهم تنابلة السلطان، ليس لهم في العمل رغبة ولا دافع كأنهم في سخرة، ليس هناك منهم من يحس بحقيقة واجبه.»٨
مع ذلك، فإن الراوي نفسه كان يتبع ثلاث طرق إذا تأخر في الحضور إلى الديوان، أولاها أن يمر على أي مكتب آخر قبل الذهاب إلى مكتبه، ويحمل منه بضعة دوسيهات، يتشاغل بقراءتها حتى يدخل مكتبه، فيقذف بها فوقه وهو يردد كلمات الشكوى من كثرة العمل. أما الطريقة الثانية فهي أن يدَّعي مرض زوجته أو حماته، وأنه قضى الليل كله ساهرًا لهذا السبب، وأما الطريقة الثالثة فهي أن يزعم المرض لنفسه، وأنه يوشك أن يموت.٩
لا شك أن اللحظة التي يساوم فيها المرشح ناخبيه — بتأثير مسحوق الأخلاق — لانتخابه، مقابل مبالغ مالية، هي إدانة مباشرة لأخلاقيات الشعب المصري؛ فالمساومون لم يكونوا فئة قليلة ولا كثيرة، إنما كان كل الجالسين في السرادق يستمعون إلى برنامج المرشح الانتخابي.١٠
رفض أسلوب المظاهرات هو موقف حمدي في «نحن لا نزرع الشوك»، حمدي وراوي «أرض النفاق» يتساءلان بكلمات لا تكاد تختلف: ماذا يريد هؤلاء الحمقى؟ وماذا يمكن أن يفيدوا، أو تستفيد البلد، من هذا العبث؟١١
تحمل الرواية دعوة باكرة لتحديد النسل حتى لا تمتلئ الأرض «بالذرية التي لا يعرف أصحابها كيف يطعمونها.»١٢ ويضغط الفنان على حقيقة «تكاثر البلد من الناحية السفلى، وتضخمها في الجزء البائس التعس.»١٣ فالطبقة الوسطى وما فوقها، يحجم غالبية أفرادها عن الزواج، فإذا تزوجوا حددوا نسلهم، أما الطبقة الأدنى فإن أفرادها يتميزون بتعدد الزوجات، وبالتناسل الذي لا يعرف رابطًا. وكما يقول الفنان «هكذا يضع البلد بين أنانية أهل المال والنعمة، الذين يأبون أن يتزوجوا أو يتناسلوا ليريحوا أنفسهم ويقوها شر المسئولية، وبين جهل أهل الفقر والشقاء المتوالدين كالذباب ليستزيدوا أنفسهم فقرًا وشقاء.»
يضيف: «لا بد من قانون لتنظيم هذه الأوضاع، إن حرمة التناسل ليست من حق الأفراد، بل من حق الأمة؛ فالأبناء أبناء الوطن قبل أن يكونوا أبناء آبائهم.»١٤
ولعل العيب الرئيس في الرواية أن البعد الاجتماعي — بكل ما يشتمل عليه من صراعات طبقية وقوى متسلِّلة ورافضة ومتمردة وثائرة — يبدو غائبًا. تقول بنت الشاطئ: «فلا يقولن قائل إن كل الأقلام في مصر كانت مأجورة للطغاة، وإن الكُتاب جميعًا كانوا في ركب ذوي الجاه والسلطان من أعداء الشعب وعملاء المستعمر وجبابرة الأقطاع، وهذه أرض النفاق تشهد بأنه كان فينا مَن حملوا أمانة القلم، وحاربوا به في المعركة الكبرى بلا جبن ولا نفاق.»١٥

•••

«جمهورية فرحات» قصة قصيرة ليوسف إدريس، هي المخرج اليوتوبي من المأزق الذي عاناه المجتمع في «أرض النفاق»، لكن حلم إدريس يصدر عن الشاويش فرحات في يقظته الحالمة، ورغبته المخلصة في أن يجاوز المجتمع المصري ظروفه القاسية في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، فهو حلم يقف على أرض الواقع، ويحتمل السؤال والنقاش والرفض والموافقة، بعكس حلم السباعي الذي يكتفي بأن يضع أمامنا بعض صور الحياة السلبية في المجتمع المصري، نقدات صريحة مباشرة لبعض نقائصنا الاجتماعية، تكتفي بالمناقشة والملاحظة دون أن تهبنا حلًّا إيجابيًّا من أي نوع.

الصول فرحات يلتقي السجين السياسي في قسم الشرطة، يخاطبه كأنه يعرفه، وكأنهما صديقان، يعرض حلولًا من اختراعه للمشكلات التي يعانيها المجتمع، بحيث تقترب الفوارق الاجتماعية، ويسود العدل، ويؤدي كل مواطن ما عليه، ويحصل على حقوقه. مجتمع فرحاتي إن جاز التعبير، تغيب فيه السلبيات التي تفرض ظلَّها الثقيل على المجتمع المصري، وتحل — بدلًا منها — مظاهر أخرى، إيجابية، تصبح بالتدريج هي الصورة الحقيقية للمجتمع.

وإذا كان من حق الصول فرحات — مثل أي إنسان — أن يحلم بيوتوبيا لنفسه، ولناسه — فإن روايته للسجين السياسي — الراوي — بالذات، لا تخلو من دلالة. إن السجين السياسي يجد — حتى في صول القسم — مَن يشاركه حلم الغد الأفضل، برغم اختلاف النظرة والوسيلة؛ فهو إذن لا يبذل التضحية في الخواء، لكنه يقاسم الناس — كل الناس — أحلامهم وأمانيهم في أن يجاوزوا الواقع القاسي الذي يحيون في إساره.

أخيرًا، فإن «جمهورية فرحات» تختلف — بصورة جذرية — عن يوتوبيات توماس مور وصموئيل بتلر ووليم مورس وﻫ. ج. ويلز في أنها لا تنطلق في المجرد، ولا ترسم عوالم وهمية لأناسٍ غير موجودين، لكنها تحاول أن تصنع عالمًا جديدًا لأناس يحيون في الفقر والمعاناة، هم الملايين من أبناء الشعب المصري.

•••

ثمة يوتوبيا الانسحاب، واليوتوبيا الاجتماعية البنائية، والفانتازيا الاجتماعية، وبالطبع، فإن يوسف السباعي — ويوسف إدريس من بعد — لم يرفضا المدنية الحديثة، ولا أدارا لها ظهريهما ليبنيا عالمًا جديدًا من صنع خيالهما، وقلمهما، مثلما تدعو إلى ذلك يوتوبيا الانسحاب، لكنهما زاوجا بين اليوتوبيا الاجتماعية البنائية والفانتازيا الاجتماعية، وإن غلبت على محاولتيهما السخرية الهادئة — أو المُرَّة! — مما يحيط به من واقع.

لقد حاولا تطبيق القصة اليوتوبية الناجحة، التي تنقل الفكرة، أو الرسالة، دون أن تحصر نفسها في إطار الدرس التعليمي، أو الموعظة الأخلاقية، بالجمع بين الجد والمرح، بين التعليم والتسلية، مثلما فعل والتر بيزانت في روايته «أناس من جميع دروب الحياة ومسالكها».

هوامش

(١) يوسف السباعي، أرض النفاق، مكتبة مصر، ٣٧.
(٢) المصدر السابق، ٥٦.
(٣) السابق، ٤٣٢.
(٤) السابق، ٤٨٤.
(٥) السابق، ٤٨٧.
(٦) السابق، ٥٩-٦٠.
(٧) السابق، ٦٣.
(٨) السابق، ١٣٣.
(٩) السابق، ١١٤.
(١٠) السابق، ٤١٥.
(١١) السابق، ١٤٧.
(١٢) السابق، ٢٣٩.
(١٣) السابق، ٢٣٦.
(١٤) السابق، ٢٣٧.
(١٥) نبيل راغب، الفكر والفن في أدب يوسف السباعي، الخانجي، ٨٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥