ما بعد إلغاء معاهدة ١٩٣٦
لم تكد تظهر في الأفق ملامح قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى تعالت الأصوات
بتعديل معاهدة
١٩٣٦م، وكما يقول صبري أبو المجد، «فلم يكن في الاستطاعة — وقتئذٍ — المطالبة بإلغاء
المعاهدة، خاصة وأن
بريطانيا خرجت من الحرب منتصِرة، أو شبه منتصِرة «ثم أننا لم نكن وقتئذٍ من الوعي، ومن
القوة، بحيث نطلب
الإلغاء لا التعديل.»
١ لكن إلغاء المعاهدة — في الحقيقة — وليس تعديلها، كان شاغل الحكومات المتوالية فيما
بعد
الحرب العالمية الثانية.
كانت الحركة الوطنية الشعبية قد بلغت مدى لم تبلغه منذ ١٩١٩م، وانتفضت الجماهير من
خلال تنظيماتها
المعلَنة والسرية، تهدد الوجود الاستعماري كله، وتهدد التخاذل الحزبي، وتبدي استعدادها
للكفاح المسلَّح.
وردًّا على التسويفات والمماطلات البريطانية، قررت حكومة الوفد إلغاء المعاهدة من
طرفٍ واحدٍ في عام
١٩٥١م.
•••
كانت القضية من وجهة النظر المصرية، قضية استكمال للاستقلال، وحرصًا على حق الشعب
المصري في سيادة
أراضيه، وكانت وجهة النظر البريطانية تعتبر مصر منطقة استراتيجية لحماية المواصلات الإمبراطورية،
ولاستقرار الأوضاع في الشرقَين الأدنى والأوسط.
وحين أشار المفاوض الإنجليزي إلى الخطر السوفييتي، قال محمد صلاح الدين وزير خارجية
الوفد: الشعب يفهم أن الاحتلال حقيقة واقعة، وأن الخطر الآخر هو مجرد تهديد، فلا يمكن
إقناع الشعب
ببقاء الاحتلال لدفع ذلك الخطر.
فقال المفاوض البريطاني: هل يدركون أن خطر الاحتلال الروسي أسوأ من الاحتلال البريطاني؟
أجاب محمد صلاح الدين: من العسير إقناع الشعب بذلك.
٢
وأعلن النحاس في خِطاب العرش الذي ألقاه عند افتتاح دور الانعقاد للهيئة النيابية،
أن «معاهدة ١٩٣٦م
قد فقدت صلاحيتها كأساسٍ للعلاقات المصرية البريطانية، وأنه لا مناص من تقرير إلغائها،
ولا مفرَّ من الوصول
إلى أحكامٍ جديدة، ترتكز على أسسٍ جديدة، تقرونها جميعًا، ألَا وهي الجلاء الناجز الشامل،
ووحدة مصر
والسودان تحت التاج المصري.»
٣
أما وجهة النظر المصرية، فكانت تصدر عن حق استقلالها وسيادتها المعترَف بهما دوليًّا،
أما وجهة
النظر البريطانية فكانت ترفض إجراء أي تعديل فيها قبل الدخول في مفاوضات. وكان الشعب
المصري يرفض كل
وجهات النظر، باعتبار أن تلك المعاهدة غير ذات موضوع، حتى المدن الإقليمية، كان الناس
(تل القلزم)
يتجمَّعون في امتداد الشوارع ومداخل الحارات، ويهتفون: يسقط الإنجليز … تسقط معاهدة ١٩٣٦م.
٤ وحين وصل مصطفى النحاس من الإسكندرية — ليلة انعقاد مجلس النواب — استقبلته الجماهير
بهتافٍ
يكاد يكون واحدًا: إلغِ المعاهدة يا نحاس!
٥ وكان فوزي السيد (واحترقت القاهرة) يؤمن بأن إخراج الإنجليز هو المفتاح، هو نقطة الانطلاق
لهذا الشعب.
٦
مع أن حافظ عفيفي — في تقدير الكثيرين — هو أحد رجالات الإنجليز في مصر، فإنه وجد
في المعاهدة عند
توقيعها ما يبررها «لأنها وليدة حالة سياسية، وأخطار حربية، تهدد مصر، كما تهدد بريطانيا،
بحيث كان من
المقبول أن تتخذ ضمانات، لكن المحافظين، وهم يعلمون علم اليقين أن الخطر الناجم عن المحور
قد زال إلى
غير رجعة — والكلام لحافظ عفيفي — ما زالوا يعملون على الاحتفاظ بالمعاهدة، إن لم يكن
بنصِّها فبروحها،
لأنهم رأوا فيها — إلى جانب الأغراض الحربية — ما يحقق السيطرة على مصر، والتدخل في شئونها.»
٧
•••
بعد أن تعثَّرت المفاوضات — لفترة طويلة — بين الحكومتين المصرية والإنجليزية، أعلن
مصطفى النحاس في
٨ أكتوبر ١٩٥١م إلغاء معاهدة ١٩٣٦م، واتفاقيتَي ١٩ يناير و١٠ يوليو ١٨٩٩م بشأن إدارة
السودان.
جرى الإعداد لإلغاء المعاهدة بسرية بالغة، لم يعلم به سوى مصطفى النحاس ومحمد صلاح
الدين وإبراهيم
فرج وفؤاد سراج الدين، فضلًا عن وحيد رأفت الذي صاغ مراسيم الإلغاء.
٨
كان النحاس يخشى معارضة الملك فاروق لإلغاء المعاهدة، لذلك فقد اجتمع وزراؤه صباح
يوم إلغاء
المعاهدة، وأخذ عليهم عهدًا وإيمانًا مغلظة ألَّا يفشوا نبأ الإلغاء قبل أن يعلنه بالفعل،
وظل النبأ
محاطًا بالكتمان، حتى ألقى النحاس خُطبته في مجلس النواب.
٩
يقول كريم ثابت، إنه كان في مقدمة اهتمامات النحاس — عند تأليف الوزارة — أن يسوي
القضية الوطنية
مع الإنجليز، إما باتفاقٍ ودي، أو بإلغاء المعاهدة، وكان على يقين أنه لا سبيل إلى تحقيق
ذلك، ما لم يكن
على وفاقٍ تام مع الملك، كي لا يقيله في وقتٍ غير مناسب.
١٠
ويروي عبد الفتاح حسن أن الملك حاول بالفعل — قبل عودته من الخارج — في نهاية صيف
١٩٥١م، افتعال
أزمة مع وزارة الوفد للتخلص منها، قبل إقدامها على إلغاء المعاهدة، بأن طلب من النحاس
إخراج الوزيرَين
مصطفى النحاس وعبد الفتاح الطويل، لكن النحاس أفشل المحاولة.
١١
استند النحاس في قراره بإلغاء المعاهدة إلى أنها عُقدَت في ظل الاحتلال البريطاني،
وبالتالي فإنها
كانت تخلو من شرط الاختيار الكامل في الجانب المصري، كما أنها «تتناقض مع اتفاقية قناة
السويس، ومع
ميثاق الأمم المتحدة، وكلاهما أولى منها بالتنفيذ والاحترام.» وشدَّد النحاس على تكرار
إخلال بريطانيا
لأحكام المعاهدة، وأنهم لا يتمسكون بالمعاهدة إلا من حيث تكريسها للاحتلال، أو للعبث
بوحدة وادي النيل.
أما القيود والالتزامات فقد كانت — في تصرفاتهم — بلا قيمة حقيقية، وأشار إلى انتهاج
الإنجليز بالنسبة
للقضية الفلسطينية سياسة عدائية تعرِّض مصر لأشد الأخطار، وانتهى الرجل إلى مقولته الشهيرة:
«من أجل مصر
وقَّعت معاهدة ١٩٣٦م، ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها.» وقال النحاس: «لقد أدَّت
الحكومة واجبها بالكامل،
والكلمة الآن للشعب.» و«سرت في الوادي نفحة من روح ١٩١٩م.»
١٢
شهدت المدن المصرية، ومدن القناة بخاصة — في اليوم التالي — مظاهرات ضخمة معادية للوجود
الاحتلالي، وواجهتها قوات الإنجليز بإطلاق الرصاص، فاستُشهِد ١٦ مواطنًا في الإسماعيلية
والسويس، وجُرح أكثر
من ٥٠ مواطنًا، وهاجم المتظاهرون — ردًّا على ذلك الفعل الإجرامي — بعض المراكز البريطانية،
وفي مقدمتها
«مركز النافي» بالإسماعيلية، واستولوا على ما به من مواد غذائية، ثم أضرموا فيه النيران.
في ١٦ أكتوبر اندلعت المظاهرات في مدن القناة، تُعلِن تأييدها لإلغاء المعاهدة، وتطالب
بالسلاح،
وتشكيل كتائب التحرير، وواجهت القوات البريطانية تلك المظاهرات بالعنف، وأطلقت الرصاص
على المتظاهرين،
وسقط ثمانية من الشهداء في الإسماعيلية، وخمسة في بورسعيد، فضلًا عن أكثر من ٩٠ جريحًا،
واحتلت القوات
البريطانية كل المكاتب والمصالح الحكومية بمنطقة القناة، وطردت الموظفين المصريين. وفي
اليوم التالي —
١٧ أكتوبر — شنَّت القوات البريطانية هجومًا على القوات المصرية التي كانت تعسكر بجوار
كوبري الفردان،
واستولت على الكوبري، بعد أن قتلت عددًا من الجنود المصريين، وأسرت آخرين. وفي ٢٦ أكتوبر،
قام عمال
المعسكرات البريطانية بإضرابٍ كبيرٍ، ورفضوا زيادة ٢٠٪ في أجورهم، كمحاولة من السلطات
البريطانية لإبقائهم
في المعسكرات، كما امتنع عمال الشحن والتفريغ في الإسكندرية والسويس وبورسعيد عن شحن
السفن
البريطانية،
١٣ وهجر سائقو القطارات ومعاونوهم أعمالهم، ورفضوا تزويد القطارات بالماء والوقود، فتعطلت
عن
السير.
يقول كريم ثابت (واحترقت القاهرة):«إن المفاجأة التي لم تكن في حسبان أحد، لا الملك،
ولا الحكومة
نفسها، أن الحكومة لا تكاد تعلن إلغاء المعاهدة، حتى يتولى الشعب بنفسه، على الفور، تحويل
هذا الإلغاء من
حبرٍ على ورقٍ إلى حقيقة مادية، فإذا بالفدائيين يخوضون المعارك بالفعل في بورسعيد والإسماعيلية
والسويس،
ثم جاءت هذه الطامة الكبرى بانسحاب الألوف من العمال في القاعدة الإنجليزية، وبدأت الاصطدامات
والمعارك
الدامية … وقد أخذت الحكومة بما حدث، ولم تستطع إلا أن تجاري التيار الشعبي حتى لا يفلت
من يدها
الزمام.»
١٤
اجتمعت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية، وقررت تأييد مصر في خطوتها الوطنية،
وأصدر طه حسين
وزير المعارف العمومية قرارًا بإيقاف الدراسة في الجامعات والمدارس.
•••
أعلنت السفارة البريطانية، في مساء اليوم الذي أعلن فيه النحاس إلغاء المعاهدة «أن
قيام الحكومة
المصرية بإلغاء المعاهدة التي أبرمتها مع بريطانيا سنة ١٩٣٦م من جانبٍ واحد، لا يستند
إلى أساسٍ قانوني،
ما دامت تلك المعاهدة لا تتضمَّن مبدأً يجيز نقضها في أي وقت، وتعتبر حكومة صاحب الجلالة
البريطانية معاهدة
١٩٣٦م قائمة، نافذة المفعول، وتنوي التمسك بحقوقها المنصوص عنها في هذه المعاهدة.»
١٥
في مساء اليوم التالي، قال ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا، في مجلس العموم البريطاني:
«إن
إقدام حكومة مصر — بزعامة مصطفى النحاس — على إجلاء الإنجليز من منطقة قناة السويس، يُعتبَر
ضربة أخطر
وأشد مهانة لبريطانيا، من اضطرارها إلى الجلاء عن عبدان بإيران في عهد مصدق.» وصرح وزير
الخارجية
البريطاني أن بلاده ستقابل القوة بالقوة إذا اقتضى الأمر لبقاء قواتها في منطقة القناة،
وأصدر السير
أرسكين القائد العام للقوات البريطانية في منطقة القناة، أمرًا عسكريًّا يوميًّا، قال
فيه: «لقد اتخذنا
الخطوات اللازمة للمحافظة على مراكزنا، وسنظل هنا حتى تعود الحكومة المصرية إلى صوابها.»
١٦
وفي ١٣ أكتوبر ١٩٥١م تقدمت حكومات الدول الأربع — بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة
وتركيا — إلى
الحكومة المصرية، بمشروعٍ للدفاع المشترك، تشترك — من خلاله — قوات الدول الأربع مع القوات
المصرية،
فضلًا عن قوات من أستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا في حماية قناة السويس،
١٧ وامتداد الاحتلال إلى جميع المواني والمطارات والمرافق المصرية، وقد رفض مجلس الوزراء
المصري — في ١٤ أكتوبر — ذلك المشروع.
كان أخطر ما في المشروع أنه يستهدف تحويل الاحتلال البريطاني لمصر إلى احتلال دولي،
ويربط مصر
بحلف الأطلنطي، ويدوِّل الدفاع عن مصر، وعن قناة السويس. وعهدت الدول الأربع إلى القوات
البريطانية
بتنفيذ المشروع بالقوة، وبينما كان محمد صلاح الدين وزير الخارجية يقرأ الإنذار، كانت
ثلاث ناقلات جنود
بريطانية قد وصلت إلى بورسعيد، تحمل إمداداتٍ لتشارك في غزوٍ محتمل، واحتلت القوات الإنجليزية
الجمارك
والحجر الصحي والسكك الحديدية والكباري، ومرافق محافظات القناة الثلاث والقنطرة وكوبري
الفردان، وعزلت
القوات المصرية في شرق القناة عن القوات المصرية في غربها، واستولت على المعدية التي
تربط بين بورسعيد
وبور فؤاد، فقلَّ التموين في بور فؤاد، واضطرت أسر كثيرة للهجرة إلى بورسعيد، وواصلت
أسر أخرى رحلتها عبر
بحيرة المنزلة،
١٨ وقامت القوات الإنجليزية كذلك باعتقال المئات من المواطنين الذين قاوموا تحركاتها، أو
رفضوا
التعاون معها.
١٩
لكن عنصرًا جديدًا فرض نفسه على الموقف، هو الاستقالة الجماعية للعمال المصريين —
أكثر من ٦٠ ألف
عامل — من القواعد البريطانية، وكانت الحكومة المصرية قد رفضت المشروع في ١٥ أكتوبر،
أي بعد أقل من ٤٨
ساعة على تقديمه!
•••
تراوحت ردود الأفعال — نتيجة لقرار إلغاء المعاهدة — بين الإعجاب والتهوين. قال حامد
برهان
(الباقي من الزمن ساعة): «لا يقدر على إلغائها إلا من قدر على عقدها، هو الوفد دائمًا
وأبدًا.»
٢٠ وتوسَّط الغلام الصغير (مظاهرة) الردهة فور إذاعة النبأ دون أن يلتفت إلى وجود سيده،
وهتف:
«فليسقط الطغاة! لا معاهدة بعد اليوم!»
٢١ وإذا كان البعض قد اعتبر الإلغاء ضربة معلم، فإن آخرين أشاروا إلى أربعة فبراير، ومجيء
النحاس إلى الحكم على دبابات الإنجليز. وزاد آخرون، فراهنوا على أن هذه لعبة جديدة للإنجليز
ليدخلوا
القاهرة، وشكَّك البعض في قيمة إلغاء المعاهدة، دون أن تعد العدة لطرد الإنجليز.
٢٢
كان رأي أحمد حسين — وهو أحد أبرز معارضي النحاس — أنه «ما كان ليلغي المعاهدة لولا
ضغط الشعب
الهائل في هذا الاتجاه.»
٢٣ ويذكر مصطفى سويف أنه توجس خيفة من عواقب الإعلان المفاجئ عن إلغاء معاهدة ١٩٣٦م من
جانب
مصر، واعتبره قرارًا أملته على الوفد ضرورات المزايدة السياسية على الأحزاب الأخرى، وقرأ
فيه مغامرة غير
محسوبة.
٢٤ ويقول الرجل (حتى مطلع الفجر) «باسم الشعب وقعت المعاهدة، وباسم الشعب ألغيتها، ثم ماذا؟
لا شيء إلا أنه يطيل أيامه في الحكم على حساب الملايين الضائعة، لأنه لا يجرؤ أحد على
الجلوس أمام
التركة الثقيلة التي يخلفها هذا المأفون، الذي نسي أنه بتوقيع المعاهدة داس ألوف الشهداء،
وضمن بقاء
الإنجليز، يقتلون، ويهتكون، وينهبون إلى ما شاء الله، وأخيرًا يلغي المعاهدة باسم الشعب،
أي شعب هذا
الذي يرمي بأحشائه استجابة لحركات بهلوانية من عميل أتت به الدبابات الإنجليزية إلى الحكم.»
٢٥
يقصد النحاس للأسف!
وينسب الفنان (واحترقت القاهرة) إلى النحاس، أن إلغاء المعاهدة كان مجرد خطوة تكتيكية،
فهو يقول
للملك: «وسوف تلتهب مصر كلها بالحماسة، وستقف صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص خلف حكومة
الشعب المتمتعة
بثقة جلالتكم.» وبضيف: «المهم في ذلك كله يا مولاي، هو أثر هذه الخطوة الجريئة في القضاء
على الروح
الخبيثة، التي بدأت تستشري في البلاد، واجتراء المعارضة على جلالتكم، وعلى حكومة الشعب.
لقد فكرنا في كل
شيء، إن الاضطهادات والمصادرات والقبض والاعتقالات، انتهت بنا إلى ما تشكو منه جلالتك،
ونشكو منه كلنا،
وليس سوى هذه الخطوة ما يصحح الأوضاع، ويرد الأمور إلى نصابها، ويعيد إلينا زمام المبادرة.»
٢٦
من الغريب — كما يروي كمال رفعت في مذكراته — أن الإخوان المسلمين اعتبروا إلغاء
المعاهدة تهورًا
من حكومة النحاس، لكنه تهور في صالح الإخوان «الوفد حاليًّا لا يخيف الإنجليز، لأن الإنجليز
عارف كويس
جدًّا إن فيه قوة تانية في البلد اللي هي إحنا، فإذا لم يقتنع الوفد بقوتنا، فلن تفلح
أية محاولة له،
إحنا لازم نسيب الوفد يغرق لوحده، وينتهي.»
٢٧
•••
كان إصرار الإنجليز على البقاء في منطقة القناة لثلاثة أسباب، هي: توافر الأيدي العاملة،
سهولة
المواصلات، وفرة المواد التموينية،
٢٨ ولحرمان الإنجليز من هذه الميزات الثلاث، امتنع العمال عن العمل في المعسكرات البريطانية،
وفتحت مكاتب العمل أبوابها لتسجيل أسماء العمال الذين رفضوا التعاون مع قوات الاحتلال،
وهجروا ثكناتها
في القناة، وأوقفت الحكومة مد عربات السكك الحديدية إلى المعسكرات، واتفق المتعهدون المصريون
على
الامتناع عن إمداد قوات الاحتلال بالسلع التموينية،
٢٩ بحيث اضطر الإنجليز إلى استيراد احتياجاتهم من الخارج، وتكبَّدوا بذلك خسائر فادحة.
يقول
الراوي (تل القلزم) «بمجرد إلغاء المعاهدة، أعلن العمال المصريون تمرُّدهم، وتدفقوا من
البوابات في طريقهم
إلى مدنهم وقُراهم، وهم لا يمتلكون قوت غدهم.»
٣٠
وفي ٢١ أكتوبر أصدر مجلس الوزراء مجموعة من القرارات السرية، التي تجعل من تنفيذ
إلغاء المعاهدة
واقعًا مفروضًا، ومنها اتخاذ كل السبل المؤدية لعدم تعاون العمال المصريين مع القوات
البريطانية، وعدم
مغادرة الجيش المصري الموجود بالسودان لثكناته مهما تكن الظروف، ومقاومة أية محاولة لاستفزازه،
أو
لإجباره على مغادرة السودان،
٣١ وتحريض موردي التموين على سلوك المسلك ذاته، وصرف استمارات مجانية للعمال المصريين الذين
يهجرون العمل في القناة، وإرجاء اتخاذ قرار يتعلق بالحاكم العام للسودان، وعدم مغادرة
القوات المصرية
الموجودة بالسودان تحت أي ظرف، ومقاومة اجتياز القوات البريطانية منطقة القناة مهما تكن
النتائج، ومنع
تقديم أية معاونة للسفن التي تحمل تموينًا، أو عتادًا، للقوات البريطانية، وقرارات أخرى
أعلن بعضها،
واتخذ البعض الآخر طابع السرية، وكانت جميعها تستهدف ممارسة أقصى ما يمكن من ضغوط، لإجبار
الحكومة
البريطانية على الامتثال للإرادة المصرية، بإلغاء المعاهدة، وإخراج قواتها من منطقة القناة.
وفي ١١ ديسمبر ١٩٥١م، أصدرت حكومة الوفد قرارات أخرى تمثِّل تواصلًا في الاستجابة
للضغوط الشعبية
العنيفة، ومنها سحب السفير المصري من لندن، وإنهاء عقود الموظفين الإنجليز العاملين في
الحكومة المصرية،
«لأنها لا تستطيع أن تضمن سلامتهم في مواجهة الغضب الجماهيري العارم.»
٣٢ وإصدار تشريع بتوقيع عقوبات على التعاون مع القوات البريطانية، وتشريع بإباحة حمل السلاح
لكي يتمكَّن الشعب من الدفاع عن نفسه.
٣٣
ومع أن تلك القرارات لم تُوضَع موضع التنفيذ بصورة جدية، فإنها أحدثت أثرًا في الشارع
المصري يصعب
تجاهله.
لم تكن الحكومة المصرية تستطيع أن تقرن إلغاء المعاهدة بقطع العلاقات الدبلوماسية،
حرصًا على بعض
المصالح الخاصة بمصر لدى إنجلترا، كأثمان مبيعات القطن، والأرصدة الإسترلينية، وغيرها،
اكتفت ببعض
الإجراءات ذات الصبغة الدبلوماسية الهادئة، ومنها — كما أشرنا — سحب سفير مصر لدى لندن
— عبد الفتاح
عمرو باشا — الذي ما لبث الملك أن عيَّنه مستشارًا له.
٣٤
•••
ماذا عن السودان؟
في مساء الثامن من أكتوبر ١٩٥١م، وهو اليوم نفسه الذي أعلن فيه النحاس إلغاء المعاهدة،
أصدرت
السفارة البريطانية بيانًا، قالت فيه: «إن قيام الحكومة المصرية بإلغاء المعاهدة التي
أبرمتها مع
بريطانيا عام ١٩٣٦م من جانبٍ واحد، لا يستند إلى أساسٍ قانوني ما دامت تلك المعاهدة لا
تتضمن مبدأ يجيز
نقضها في أي وقت، وتَعتبر حكومة صاحب الجلالة البريطانية معاهدة ١٩٣٦م قائمة نافذة المفعول،
وتنوي التمسك
بحقوقها المنصوص عنها في هذه المعاهدة.»
وفي الثامن عشر من نوفمبر ١٩٥١م، أصدرت السفارة بيانًا خاصًّا بالسودان، رفضت فيه
فكرة إجراء
استفتاء في السودان، لصعوبة الاتصال بالسودانيين في معظم المناطق الزراعية والصحراوية،
وعدم نمو الوعي
الوطني بين أهالي السودان. وأكد البيان أنه من المستحيل إجراء الاستفتاء بشكلٍ يمكن أن
يفهمه أهالي
السودان، الذين يعنون أساسًا بمسائلهم المحلية في أضيق معانيها، والذين لا يدرك أغلبهم
معنى المسائل
الوطنية الأوسع نطاقًا.»
٣٥ وفي أوائل ١٩٥٢م، أعلن الحاكم العام في السودان مشروع دستور للحكم الذاتي للسودان، بعد
أن
ألغت وزارة الوفد اتفاقية ١٨٩٩م، وبسطت التاج المصري على السودان.
٣٦
•••
بلغ الشعور الوطني ذروته، عندما دُعي إلى تنظيم مظاهرة في ذكرى ١٤ نوفمبر ١٩٥١م،
شارك فيها حوالي
مليون مواطن، يتقدمهم الزعماء وقادة الأحزاب، وسارت المظاهرة في شوارع القاهرة لمدة سبع
ساعات كاملة،
وكانت صامتة، وإن رفعت عشرات اللافتات التي تبين عن شعور غلاب، ولم يحدث ما يسيء إلى
جلال
المظاهرة.
٣٧
نشرت «الأهرام» (١٥ نوفمبر ١٩٥١م) عن المظاهرة القومية الكبرى التي نُظمَت في اليوم
السابق، وضمَّت
آلاف السيدات والفتيات السافرات والمحجبات وذوات الملاءة اللف، والعاملات بمهن مختلفة
مثل الطب
والمحاماة والتمريض … إلخ. وأكدت الأهرام أن مصر جنَّدت نساءها «بلى، دفعتهن الوطنية،
فتقدَّمن الصفوف في
أروع مظاهرة قومية شاهدتها البلاد.»
تكوَّنت اللجنة النسائية للمقاومة الشعبية برئاسة سيزا نبراوي، وتألفت لجنة مماثلة
من النواب
الشبان،
٣٨ وتألَّفت الكتائب برئاسة الفريق عزيز المصري، كما تألَّفت لجنة للتنظيم بإشراف الدكتور
بلال،
وأخرى للحرس الوطني برئاسة اللواء صالح حرب، وثالثة للميثاق الوطني من شباب الأحزاب.
تحوَّلت المقاومة السلبية — بالتدريج — إلى مقاومة شعبية مسلحة، شملت مدن القناة
الثلاث، وسقط
العشرات من الشهداء والجرحى، في معارك ضارية بين قوات الفدائيين والقوات البريطانية.
وكما يقول الراوي
(مذكرات منسية) فقد أنشئت في مديرية الشرقية ترسانة للسلاح، وتألَّفت لجان للتمويل المالي
من الموسرين،
ولجان لتجنيد الأطباء والممرضات، وأخرى لإنشاء معسكرات سرية، تُشَن منها الهجمات على
القاعدة البريطانية
في القناة.
٣٩
تدرَّب الكثير من الشبان — في الصحراء الغربية — على استخدام السلاح، وكانوا على
ثقة أن عام ١٩٥٠م
سيكون عامًا حاسمًا في حياة مصر،
٤٠ ويقول الراوي (ضد مجهول) «فوجئت بأن بعض الضباط الذين عرفتهم في فلسطين هم الذين عرفتهم
ينقلون لنا — سرًّا — كميات من أسلحة الجيش وذخائره.»
٤١
حدد الفدائيون أربع وسائل لضرب قوات الاحتلال: تدمير المعسكرات والمخازن الإنجليزية،
تمزيق خطوط
المواصلات التي يفيد منها العدو، الحيلولة دون وصول الإمدادات التموينية إلى قواته، جعل
الحياة
الاجتماعية قاسية على جنوده.
٤٢
ومع أن أعدادًا من الضباط المصريين قد أسهموا في العمليات الفدائية بأنفسهم، أو بتزويد
الفدائيين
بالسلاح، وبتدريبهم على استخدامه، فإن الحكومة حرصت على تجنيب الجيش المصري — كوحدات
نظامية — في تلك
المعارك، حتى لا تتخذ القوات البريطانية من ذلك ذريعة للتقدم خارج مدن القناة، لأنها
كانت تتميز
بتفوق كمي وكيفي مؤكد. مع ذلك، فقد سُمِح لأعدادٍ من ضباط وجنود الجيش بالعمل كمتطوعين
داخل قوات
البوليس.
٤٣
يروي كمال رفعت في مذكراته أن ضباط البوليس قاموا بدورٍ عظيم في تنظيم انسحاب العمال
من معسكرات
الجيش الإنجليزي،
٤٤ ولم يكتفِ البوليس المصري برد اعتداءات القوات البريطانية، أو حماية المواطنين من تلك
الاعتداءات، وإنما شارك بدورٍ إيجابي وفعَّال في العمليات الفدائية. ويتحدث مراسل الإذاعة
البريطانية في
القاهرة عن كمينٍ نصبه البوليس المصري لدورية من البوليس الحربي الإنجليزي. ذلك الكمين،
الذي أزال أية
شبهة في أن يقوم البوليس المصري بدورٍ معاون — أو يحتفظ بموقفٍ سلبي في الأقل — للقوات
البريطانية.
٤٥
يشير فؤاد سراج الدين إلى أنه «كان هناك فدائيون من الشباب الجامعي وشباب من الإخوان
المسلمين،
وكان هناك بعض ضباط من الجيش، تبيَّن — فيما بعد — أنهم من الضباط الأحرار، هؤلاء شاركوا
في العمليات
الفدائية، لكن الدور الأكبر كان لقوات البوليس من ضباط وجنود، كانوا يرتدون الملابس المدنية
كالأهالي
على أنهم من الشباب المصري الفدائي.»
٤٦ يضيف سراج الدين: «لقد قدَّمنا لمعركة القناة كثيرًا من ضباط البوليس، وكان هؤلاء يرتدون
الملابس المدنية ليظهروا في صورة فدائيين، حتى لا نعطي الإنجليز حجة ضد الحكومة، وضد
البلد كلها، لأنهم
لو أحسُّوا — بصفة قاطعة — أن الحكومة تقاومهم في منطقة القناة بضباطها ورجال بوليسها،
وأن هؤلاء هم الذين
يقومون بأعمال التخريب التي كانت تقع كل يوم، وكل ساعة، في منشآتهم العسكرية، اعتبروا
هذا بمثابة حرب
رسمية بين الدولتين.»
كذلك فقد لعب الكونستبلات الوطنيون دورًا مهمًّا في المقاومة، حيث كانوا ينقلون أخبار
تحركات
القوات البريطانية إلى الفدائيين، واستُشهِد الكونستابل فريد يسري، كما أُسِر عدد كبير
من الكونستبلات.
واعترف أنطوني إيدن وزير خارجية بريطانيا، بالدور الذي كانت تقوم به قوات البوليس المصري
في مساندة
أعمال الفدائيين، بل والتخطيط والاشتراك في عمليات فدائية، فالنشاط الفدائي كان مدعومًا
في معظم الأحيان
— على حد تعبيره — بمفارز من البوليس الاحتياطي المصري، واتجه نشاط تلك القوات أساسًا
إلى تخويف العمال
المصريين العاملين في معسكرات القناة، ثم المشاركة في الأعمال الفدائية ضد قوات الاحتلال.
٤٧
تعدَّدت الاشتباكات المسلَّحة بين قوات الشرطة والقوات البريطانية، وسقط ضحايا من
الجانبين، ثم كانت
ذروة هذه المعارك، ما شهدته محافظة الإسماعيلية في ٢٥ يناير ١٩٥٢م.
ويوضح عبد الفتاح حسن أن حكومة الوفد كانت قد أعدَّت خطة سرية، لنسف توصيلات المياه
والكهرباء
والمجاري إلى المعسكرات البريطانية، مستعينة في ذلك بخبيرين في حرب العصابات من الألمان،
يقيمان في
البرازيل، وطلب الوزير — بالفعل — استقدام الخبيرَين قبل حريق القاهرة بأيامٍ قليلة.
٤٨
كان للإخوان إسهامهم الإيجابي في معارك القناة، وهو ما أكده الشيخ محمد الغزالي في
جريدة «المصري»
(١٩٥١م) «لقد أدى الإخوان واجبَهم في معركة القناة، وللأمة أن تعتمد على رجولتهم دائمًا
في رد الأذى، ودفع
العدوان.»
ومع ذهاب معظم المؤرخين إلى أن اليسار المصري لم يخُض تجربة الكفاح المسلح، فإن رفعت
السعيد يشير
في مذكراته إلى أن منظمة «حدتو» رفعت — منذ ١٩٤٥م — شعار «الكفاح المسلح طريق الخلاص.»
٤٩ وكما لاحظ محمود (الآخرون) حين سافر إلى الإسماعيلية في شتاء ١٩٥١م مندوبًا لجريدته،
فإن
كلمات الكفاح والبطولة والنصر وغيرها، كانت — وقتذاك — بمثابة الخبز اليومي لمشاعر الناس
الجائعة إلى
الحرية.
٥٠ وبالطبع، فقد كانت فرصة العمل الفدائي أوسع في منطقة القناة، لوجود معسكرات الإنجليز،
ولتوافر السلاح في أيدي جنود الاحتلال أنفسهم، ولن يتطلب الأمر سوى الجرأة وسرعة التنفيذ.
٥١
وحين نشبت معارك الفدائيين، انضم إليها الابن (رجل يعيش) واستُشهِد، وعاش الأب —
عبد الفتاح أفندي —
على تلك الذكرى.
٥٢ وكان ابن التاجر زهران حسونة (المرايا) أحد شهداء معارك القناة.
٥٣
يروي الفنان (البطل الصغير) قصة الصبي نبيل منصور، في الثانية عشرة من عمره، تسلل
إلى معسكرات
الإنجليز، وزرع في أنحائها حزم قطن مبللة بالبترول، ثم أشعل فيها عود ثقاب، ورآه جنود
الإنجليز، فصرعوه
برصاصاتهم، بعد أن أضاف اسمًا جديدًا في قائمة شهداء المصريين، دفاعًا عن استقلال بلادهم.
٥٤ وثمة رواية عن بطولة تلميذ، حصل على سلاح جندي إنجليزي بقطعة خشب صغيرة، جاء من خلفه،
ووضعها في ظهره، موهمًا إياه أنها ماسورة مسدس، وطلب إليه أن يرفع يديه، ونزع سلاحه،
وضربه بقبضته على
رأسه، واختفى.
٥٥
وكان مواطنو مديرية الشرقية يُطلِقون الدجاج من أقفاصه، ويهشمون البيض، ويحُولون
دون وصول التموين
إلى المعسكرات البريطانية،
٥٦ بل إن عمليات تفتيش الأهالي أصبحت مصدر إزعاجٍ لجنود الإنجليز أكثر من كونها مصدر إزعاج
للأهالي؛ فقد كان الصبية يزحمون اللوريات التي تعبر الطريق ذهابًا وإيابًا، ليرهقوا الدوريات
في عمليات
تفتيش متصلة، دون أن يتركوا لهم فترة راحة في الشمس المحرقة!
٥٧
وكانت الأعمال الفدائية التي تلت إلغاء المعاهدة، هي «الانعطافة» التي غادر من خلالها
حسان
(الشارع الجديد) واقعه الأليم، منذ انضمامه إلى قوات الأتراك في الحرب العالمية الأولى.
انشغل بقراءة
الصحف، وتمنى لو ساعدته سنه وصحته على السفر إلى القناة، ومشاركة الفدائيين بطولاتهم،
واسترد ثقته بالناس
من حوله، وراح يغمغم في إعجاب: «هذا شعب عظيم، لن يموت.»
٥٨
كانت الصحف — كما يقول الراوي — (التذكار الخالد) تتحدث عن الفدائيين، والعصابات
المسلحة من جنود
الاحتلال، تأخذ على المواطنين منافذ الطرق، ومصر تنبض كلها بثورة وطنية يغذيها شباب لم
يكونوا قد ظهروا
بعدُ على خشبة المسرح، والحكام حائرون بين الأجنبي الذي يحميهم والشعب الذي يطلب منهم
— فقط — عدم الوقوف
بينه وبين حقه الطبيعي في الدفاع عن الكرامة،
٥٩ وخرجت المظاهرات تهتف: السكسون تحت النعال … السلاح السلاح يا نحاس … رجل الساعة النحاس
… زعيم
الأمة النحاس … يسقط حلف الدول الأربع.
٦٠
ورغم رفض الأب (الآخرون) لتطوع محمود في عمليات الفدائيين، وبكاء أمه خوفًا من أن
يفقد حياته،
فإنه فرَّ من أسرته، وانضم إلى صفوف الفدائيين.
٦١ حتى عبده القواد هجر مهنته، وسافر إلى القناة «من نهار ما عرف إن الإنجليز راح يضربوا
فينا،
راح اتدرَّب، ولبس لبس الميدان، وراح على هناك.»
٦٢ وردد الأولاد (المعركة): يا ربنا يا عزيز … ضربة تاخد الانجليز. وكان قد أصبح لمصر عشرات
الشهداء حتى نهاية العام.
٦٣
ومع أن الأب (زهر الليمون) حاول أن يعيد ابنه من القناة، بعد أن انضم إلى الفدائيين،
فإن الابن ظل
يحارب الإنجليز حتى أُحرقَت القاهرة، فاضطر للعودة، وأغلق غرفته على نفسه، وظل أيامًا
لا يخرج، ولا يكلم
أحدًا.
٦٤
وكانت عملية إزالة كفر أحمد عبده مؤشرًا للمعاناة التي تلقتها سلطات الاحتلال من
العمليات
الفدائية، قال الخال إن الإنجليز يريدون إنشاء طريق مباشر إلى خزان مياه، وهذا الطريق
بكفر أحمد عبده.
والواقع أن الإنجليز لم يكونوا يقصدون الطريق، لكنهم أرادوا أن يهدموا المأوى الذي يلجأ
إليه
الفدائيون.
٦٥
نفذ الإنجليز تهديداتهم بالفعل، ودمرت بيوت الكفر بالألغام، وسوته البلدوزورات بالأرض،
ولجأ أهله
إلى المدارس والأحواش والبيوت التي فتحت لهم أبوابها، لم يترك التدمير جدارًا قائمًا.
٦٦
يقول تواب: من واقع نشراتهم، لم تقل حملة نسف كفر عبده عن ستة آلاف جندي.
– كل هذا من أجل كفر من العشش والزرائب؟
– من العشش والزرائب والحبايب.
– ها ها … ها …
– وما لا يقل عن مائة دبابة.
– قل مائتي دبابة من واقع نشرتهم الرسمية.
– والله ما كان ينقص إلا القاذفات يا عبد السميع.
– لقد استعملت القاذفات أيضًا، رأيتها بعيني هاتين كأنها حرب رومل.
– كانوا فشلوا تمامًا في معرفة مخابئ الفدائيين، فقرروا نسف الكفر.
٦٧
كان لحادثة نسف كفر أحمد عبده تأثيرها الإيجابي في نفوس الفدائيين؛ ففي ١٢ ديسمبر
١٩٥١م هاجموا
معسكر القرش الخاص بلواء المدرعات، ونجحوا في تدمير أكثر من خمس دبابات وأربع مصفحات
واثنتي عشرة سيارة،
فضلًا عن الحرائق التي قضت على الكثير. وفي اليوم التالي نسف الفدائيون الخط الحديدي
في المعسكرات
البريطانية، كما هاجموا معسكر «الإرشادات» بالقنابل الحارقة، وزجاجات المولوتوف، وأيضًا
هاجموا معسكر
المثلث.
وبعد أن تصاعدت أعمال العنف والإرهاب من جانب القوات البريطانية ضد القوى الوطنية
والمواطنين
العاديين — حادثة كفر أحمد عبده على سبيل المثال — اتخذ مجلس الوزراء في ١١ ديسمبر ١٩٥١م،
عدة قرارات
لمساندة الأعمال الفدائية ضد قوات الاحتلال، من بينها استدعاء السفير المصري في لندن
(عبد الفتاح عمرو)
وبناء مساكن للأهالي الذين دمَّرت قوات الاحتلال بيوتهم، وإصدار قانون لمعاقبة كل من
يتعاون مع قوات
أجنبية ضد مصالح البلاد، وإباحة حمل السلاح لكل المواطنين في وادي النيل،
٦٨ كما أعلنت الحكومة عن إيجاد عملٍ لكل من كان يعمل بمعسكرات الإنجليز.
٦٩ ويؤكد صلاح الشاهد — في مذكراته — أن الحكومة كانت تشتري السلاح من الصعيد، وكان النائب
الوفدي رفيق الطرزي يرسل السلاح من بلدته — منفلوط — إلى الفدائيين بالقناة، كما كان
عبد الهادي غزالي
محافظ بورسعيد ينقل السلاح — بسيارته الخاصة — إلى الفدائيين.
٧٠
حاولت الحكومة أن تستورد السلاح من الاتحاد السوفييتي، في أثناء معارك القناة، لكن
المسئولين
السوفييت اعتذروا، وتعلَّلوا، بارتباطاتهم الكثيرة، الأمر نفسه بالنسبة لدول المجموعة
الاشتراكية؛ فقد
امتنعت عن تزويد مصر بالسلاح، مراعاة لمصالحها مع بريطانيا.
٧١
كانت معركة التل الكبير — كما يروي وجيه أباظة في مذكراته — أولى المعارك المفتوحة
التي واجه فيها
الفدائيون قوات ضخمة من البريطانيين، وحاربوا ببسالة أشادت بها جميع الصحف والإذاعات
البريطانية،
٧٢ وكانت الكلمات الوطنية المتحمسة تتدفق على كل لسان، حتى على ألسنة الفلاحين في داخل
الحقول.
٧٣
ظلَّت أحاديث الناس تتناقل أسماء الإنجليز والكتائب والفدائيين وكفر عبده والدبابات
وأرسكين
والعساكر المصريين،
٧٤ وتكررت الأحاديث عن جندي البوليس الذي رفض أن يطلق الرصاص على المتظاهرين، وجندي الجيش
الذي
هتف مع الشعب بحياة الجيش مع الشعب، والصحفي الذي رفض أن يبيع قلمه للاستعمار رغم حاجته
الشديدة إلى
المال … إلخ.
٧٥
•••
كانت خطة الإنجليز للقضاء على المد الشعبي الثوري، هي الاستيلاء على المرافق الحيوية
والأماكن
المهمة في مدن القناة الثلاث: بورسعيد والإسماعيلية والسويس، وقطع المواصلات بين مدن
القناة وبقية
المدن المصرية، بل لقد امتد الوجود الاحتلالي الإنجليزي إلى مدينة التل الكبير التابعة
لمديرية الشرقية،
استغلالًا لوجود معسكر لهم هناك، كما أنشئُوا نقاط تفتيش في أبو حماد والقرين والعباسة،
وتعرض العديد من
مدن الشرقية وقُراها لغاراتٍ انتقامية وحملات تفتيشية.
في موازاة تصعيد القوات البريطانية من عملياتها العسكرية ضد المدنيين في منطقة القناة،
وتشجيع
الحكومة المعلَن لعمليات الفدائيين، فإن رجال القسم المخصوص كانوا يطاردون القيادات الوطنية،
ويضيِّقون
الخناق على المتطوعين، حتى الأسلحة كانوا يصادرونها، ويلقون القبض على أصحابها.
٧٦
والحقيقة أن حكومة الوفد كانت تؤيد — علانية وسرًّا — معارك الفدائيين ضد الوجود
البريطاني في
القناة، اشترت الأسلحة من خارج وداخل البلاد، وشجعت كل الهيئات التي أبدت رغبتها في القتال
على خوض
القتال فعلًا، وأشركت المئات من ضباط وجنود البوليس بثيابٍ مدنية، بل إن فؤاد سراج الدين
يروي في مذكراته — أو ذكرياته — أن الأسلحة كانت تُخزَّن في بدروم بيته، قبل أن يتسلمها
قادة الجماعات الفدائية إلى منطقة
القناة، تحت حماية البوليس.
٧٧ مع ذلك، فإنه يمكن مؤاخذة الحكومة على أنها اكتفت بإلغاء المعاهدة، دون أن تعمل لما
بعد
الإلغاء، بأن يتحوَّل الحزب إلى حزبٍ ثوري مناضل، ويصبح إلغاء المعاهدة بداية لكفاحٍ
شعبي مسلح.
إذا كان العمال قد اندفعوا للإضراب بعد إلغاء المعاهدة، فإن معظم القيادات السياسية
لم تتخذ — في
تقديرهم — الخطوات التي تناسب إقدامهم على التخلي عن مصدر العيش «والله عال، آدي تالت
يوم، فاضل يفصلونا
وما نلاقيش ناكل، لا الحكومة نافعانا، ولا حد سائل فينا.»
٧٨
وفي المقابل من الموقف الرائع الذي أخذته الجماهير المصرية ضد الوجود البريطاني في
القناة، فقد
واجهت مؤامرات الرأسمالية المحلية، متمثلة في قيام الشركات بعمليات فصلٍ جماعية، وهو
ما عبَّرت عنه جريدة
«الملايين» في ٢٥ نوفمبر ١٩٥١م بقولها إنه يحدث «في الوقت الذي أثبتت فيه الطبقة العاملة
المصرية نضوجًا
ووعيًا سياسيًّا متقدًا، بموقفها الوطني الرائع حيال العمل في معسكرات الإنجليز في القنال،
مما جعلها
حقًّا محطَّ أنظار الشعب المصري بأسره، والعالم أجمع، ولم يثبت ما أثير من أن أصحاب المصانع
دبَّروا مؤامرة
مشتركة مع سلطات الاحتلال لضرب عمال مصر، وتعطيل كفاحهم من أجل حرية بلادهم، ضحَّى عمال
مصر في القنال
بأرزاقهم، ونفَّضوا أيديهم من سبَّة العمل مع العدو المغتصِب، فأصبح الواجب أمام الحكومة
والشعب المصري هو
إيجاد العمل اللائق لهذه الجموع من العمال.»
٧٩ وشهدت شوارع القاهرة تململ عشرات الألوف من عُمال القناة الذين طالت استقالاتهم من وظائفهم،
دون أن توفِّر لهم الحكومة وظائف بديلة.
كانت رسائل محمود (الباب المفتوح) إلى أخته ليلى تبين عن الأوضاع القاسية في منطقة
القناة، من
شعور للفدائيين بالغربة، ونقص للأسلحة والتنظيم والملابس والغذاء.
٨٠ وكان رأي سليمان أفندي (الباب المفتوح) أن «الحكومة غير جادة في موقفها؛ فالجيش — مثلًا
—
لم يشترك في المعركة [أكدت روايات كثيرة على مشاركة الضباط الأحرار في المعارك] وعناصر
الخيانة متوفرة
في السراي والأحزاب، وفي الحكومة نفسها، والجواسيس من المصريين يملئُون منطقة القناة،
والمواد الغذائية
تُهرَّب إلى القوات البريطانية على مرأًى من الحكومة، وعلى مسمع منها، وماذا تستطيع الشجاعة
والبطولة أن
تفعلا تجاه هذه العوامل؟ وماذا يستطيع حفنة من الفدائيين أن يفعلوا وهم يواجهون الجيش
الإنجليزي المزوَّد
بأحدث الأسلحة؟!»
٨١
في المقابل، فقد علت آراء بأن الموجة الشعبية كفيلة بأن «ترغم الحكومة على اتخاذ
إجراءات حازمة،
وإلا تعرضت للسقوط، وكفيلة بأن تخرس الملك، وتسحق عناصر الخيانة، والكفاح لن يبقى محصورًا
على حفنة من
الفدائيين، بل سيمتد تدريجيًّا حتى يشمل الجيش والشعب بأكمله.»
٨٢
يقول الفنان: «كان يسوءنا جميعًا أننا نجلس في المقاهي لنتحدث دون أن نفعل شيئًا،
نشاهد من بعيد
كأن المعركة لا تعنينا، وكأن هؤلاء الفدائيين يدافعون عن بلدٍ آخر غير بلدنا.»
٨٣
•••
في ٢٤ ديسمبر ١٩٥١م، أصدر الملك أمرًا بتعيين حافظ عفيفي باشا رئيسًا للديوان الملكي،
دون أن يشاور
حكومة الوفد في الأمر، كان لتعيين الرجل في هذا المنصب دلالة خطيرة، فقد كان معروفًا
بميوله الإنجليزية
السافرة (دعك من كلماته المغايرة التي أشرنا إليها) وكان قد أدلى بحديثٍ إلى «الأهرام»
انتقد فيه — بشدة
— إلغاء حكومة الوفد لمعاهدة ١٩٣م٦، وأيَّد دخول مصر في اتفاقيات الأحلاف مع دول الغرب،
٨٤ لكن حكومة الوفد لاذت بصمتٍ غير حكيمٍ تجاه هذا التصرف، الذي كان — في أقل تقدير — متنافيًا
مع المبادئ الدستورية. ولعلنا نتذكر — في هذه الواقعة بالذات — موقف الوفد إزاء تعيين
الملك لعلي ماهر
رئيسًا للديوان الملكي في ١٩٣٧م. ثمة تناقض حاد، ومؤكد، بين الموقفَين، وكان سبب التناقض
هو إيمان الوفد
بأن البقاء في الحكم يستلزم الخضوع للإرادة الملكية!
ولأن الحكومة قد التزمت صمتًا غير حكيم، فقد أصدر الملك — في اليوم التالي مباشرة
— قرارًا بتعيين
عبد الفتاح عمرو — سفير مصر في لندن آنذاك — مستشارًا للديوان الملكي في الشئون الخارجية،
مع احتفاظه
بمنصبه الأول، وكانت كل مواهب الرجل السياسية أنه كان من أشد أصدقاء الإنجليز، حتى لقد
وصفه أحمد حسين
بأنه يصلح سفيرًا لبريطانيا في مصر أكثر مما يصلح سفيرًا لمصر في بريطانيا! ثم أصدر الملك
قرارًا
ثالثًا بتعيين إلياس أندراوس باشا — ذلك المنتمي عقلًا ووجدانًا ومصالح إلى الإنجليز
— مستشارًا ثقافيًّا
له، وكان هدف الملك — فيما يبدو — توضيح حقيقة الأمر للحكومة البريطانية، وأنه إذا كانت
حكومة البلاد
تتجه نحو اتخاذ بعض المواقف المتشددة حيالهم، فإن الملك يحرص على اتخاذ مواقف مناقضة،
هي تعبير عن
تقديره وصداقته للإنجليز.
المؤسف في الأمر كله، أن الحكومة الوفدية ظلَّت على صمتها، لم تحركها اعتداءات الملك
الصارخة على
الدستور، ورفض الجماهير المصرية لتلك التعيينات، ممثَّلة في مظاهرات صاخبة، تركزت في
القاهرة والإسكندرية،
تنادي بسقوط «حافظ عفيفي المجرم»!
يشير الفنان (واحترقت القاهرة) إلى أنه بينما كانت المظاهرات الصاخبة تطوف الشوارع،
تنادي بسقوط
حافظ عفيفي، كان أعضاء نادي محمد علي يستقبلون الخبر بعاصفة من التصفيق — باعتبار أن
ذلك سيكشف لهم عن
الاتجاه الحقيقي للملك.
٨٥
الغريب أن موسى صبري حاول تصوير قبول حافظ عفيفي منصب رئيس الديوان، ثم إصراره على
البقاء في
المنصب، كأنه واجب وطني حرص الرجل على أدائه، فقد سأله أحد أصدقائه: كيف تبقى في هذا
الجو العفن؟ إن كل
دقيقة تمر عليك في خدمة هذا الماجن — الملك — هي على حساب سمعتك وكرامتك ومصلحة الوطن،
وقال حافظ عفيفي
إن استقالته في جيبه، وإنه لم يفقد الأمل.
٨٦
كان تقدير عويس باشا (١٩٥٢) للأمور أن القوات البريطانية لن تعجز عن استيراد الطعام
من قبرص
بالبواخر والطائرات.
٨٧ ويبدي عصام (الباب المفتوح) دهشته: «الشعب … الشعب المصري يحارب الإمبراطورية البريطانية
… يا
أخي فكر في الموضوع بتعقُّل.»
٨٨
كان من قيادات الحكم آنذاك أحمد خشبة باشا الذي تولى وزارة الخارجية في حكومة السعديين.
وعلى الرغم من أنه من الصعب أن تُوجَّه إلى الرجل تهمة بالعمالة، فلعله يجب أن نشير
إلى أن رأيه كان
يتجه إلى انضمام مصر للمعسكر الغربي باعتباره مسألة مفروغًا منها، وأن إنجلترا هي أقوى
قوة في الأرض،
فمصر لا يمكن أن تأخذ منها شيئًا إلا ما ترضاه لها، وشعب صغير كمصر يصعب أن يحصل على
الاستقلال الكامل،
ولكن عليه أن يختار من بين أنواع الاستعمار أهونها. ولم يجد الرجل حرجًا في القول إن
الإنجليز خير
الظالمين!
٨٩ وحين مات أرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا السابق (١٩٥١م) كتب أحد كبار الكُتاب: «ويكفي
للدلالة على ما كان يأخذه عليه المحافظون أنه إذا كان إذا تحدث إلى المسئولين عن سلامة
الإمبراطورية في
صدد مصر، أنه يتحدث وهو يفكر في رفاهية الفلاحين المصريين، أكثر مما يفكر في أهمية قنال
السويس للدفاع
عن بلاده.»
٩٠
كان غالبية الرأسماليين الكبار يفضِّلون البقاء خارج الأحزاب تحت شعار «المستقلين»
ليكونوا في طلب
السراي أو الاستعمار، كلما أُعِد لانقلابٍ جديد.
يقول محمود كامل إنه حول موائد نادي محمد علي، كان يجتمع ما بين مائة وعشرين إلى
مائة وخمسين من
الوزراء السابقين، في انتظار أن يعهد إليهم بمنصبٍ في وزارة قادمة، وعلى حد تعبير محمود
كامل، فقد مثَّل
هؤلاء الرديف الاحتياطي للهيئة المشرفة على السلطة التنفيذية.
٩١
ويتحدث حسين شاكر باشا (شيء في صدري) عن تلك الشخصية الضعيفة، الدنيئة، التي كانت
تُرشَّح دائمًا
لرئاسة الوزارة في كل أزمة. إذا أراد الإنجليز تنفيذ سياسة لهم، جاءوا به رئيسًا للوزارة،
وإذا أراد
الملك تحقيق بعض أطماعه جاء به إلى الوزارة.
٩٢
وعقب إعلان النحاس إلغاء المعاهدة، طلبت فاطمة هانم زاد التركية الأصل (١٩٥٢) وضع
مجوهراتها
ونقودها في خزينة بجنيف، وقالت في لهجة حازمة بالتركية: «غاب نهار هذه العائلة، كما غاب
نهار عائلة عبد
الحميد!»
٩٣
وثمة رأي آخر، انتهازي، يعبِّر عنه أحد الباشوات (واحترقت القاهرة) بالقول: «ألم
ينسحب خمسون ألف
عامل من القاعدة البريطانية، وزحفوا جميعًا إلى القاهرة، هذه هي بذرة البروليتاريا يا
إكسلانس.»
٩٤ أضاف الباشا: «في رأيي أنه لم يعُد هناك حل للموقف، إلا أن يعود الإنجليز لاحتلال القاهرة
والإسكندرية، ووضع حدٍّ لهذا العبث.»
٩٥
أما الأستاذ الجامعي (الباب المفتوح) فقد كان يرى في المثقفين فئة ممتازة، ليس من
واجبها أن تحارب
في سبيل الوطن، وكان إلغاء معاهدة ١٩٣٦م — في رأيه — عملية بها من الحمق أضعاف ما فيها
من الشجاعة، ألَّبت
على مصر قوى الاستعمار، في حين أن البلاد أضعف من أن تواجه تلك القوى.
وذهب الكثيرون إلى رأي محمد حسن زوج أم رضوان ياسين (السكرية) «أتتوهم حقًّا أن الإنجليز
يمكن أن
يخرجوا من مصر؟»
٩٦ ويقول الباشا (شيء في صدري): «لقد ذهب الصغار والحفاة المضللون بإيمانهم، وفي أيديهم
بنادق
كلعب الأطفال، ذهبوا ليموتوا، فقط ليموتوا، والحكومة من ورائهم تُزيدهم تضليلًا، فتُشعِل
من حماسهم لتتخذ
منهم أداة تهدد بها الملك حتى يبقيها في الحكم، وأنا، وأنا أتبرع من مالي للكتائب التي
تكوَّنت لتحارب
الإمبراطورية البريطانية في القنال. إن الأطفال يطرقون بابي، وفوق ظهورهم بنادق، وفي
جيوبهم خناجر،
ويطالبونني بالتبرع … فأتبرع خوفًا وجبنًا، وأنا أعرف مصيرهم، إني أتبرع بثمن قبورهم،
كلهم سيموتون، كلهم
مضللون، والملك أيضًا يتبرع، إنه أيضًا يخاف، وهو لن يضيره تبرعه حتى يكسب هتافًا باسمه
من هذه الشفاه
البريئة المضللة في إيمانها، وسيبقى تبرعه دائمًا وهميًّا، إنه لن يدفع شيئًا، فقط سيعلن
تبرعه.»
٩٧
كان ثمة خونة، مثل عطية (الرماد المشتعل) الذي كان متعطلًا، ثم أقدم على الخيانة،
عمل على تبليغ
الإنجليز بأماكن وجود الفدائيين، والعمليات التي يعدُّون لها، فقتله الفدائيون، وتركوا
جثته في العراء
دون أن يتقدَّم أحد لدفنها.
٩٨ وثمة أعداد من المواطنين، اكتفوا بمتابعة أنباء المعارك، حتى أعلن الراوي (الرماد المشتعل)
في أسف: «إذا كنتم جميعًا تكتفون بالكلام … فمن الذي يقاتل الإنجليز؟!»
٩٩
بلغت خيانة أعضاء جماعة إخوان الحرية، حد إمداد معسكرات الإنجليز بالخضر والفاكهة،
بعد أن امتنع
التجار عن إمدادهم بها، وزادت، فدبَّرت إحراق كنيسة بالسويس لإثارة فتنة طائفية في البلاد،
ففي ٤ يناير
١٩٥٢م شهدت مدينة السويس ذلك الحادث الإجرامي الخطير، بهدف تقويض دعامات الوحدة الوطنية،
وتحريض الأقباط
على عدم ممارسة أي نشاط سياسي. كان الفاعل شابًّا عمل لفترة طويلة في معسكرات الإنجليز،
وله سجل حافل
بالسوابق الإجرامية. وبلغ من تأثير ذلك الحادث أن أعلن غالبية الأقباط إصرارهم على إعادة
بناء كنيسة
السويس ومدرستها بأموال الطائفة اليهودية، ورفض أية هبة أو تبرع من الدولة، ومطالبة الوزير
القبطي
بالاستقالة، فضلًا عن عدم الاشتراك في أية وزارة مقبِلة ما لم تراع مطالب الأقباط وحقوقهم،
لكن المبادرات
التي قام بها بعض الزعماء الأقباط، كان لها تأثيرها في رأب الصدع الذي تهدد الحركة الوطنية،
ونبهت
الأقلام الواعية — لكُتاب مسلمين وأقباط — إلى الهدف الحقيقي من ذلك الحريق، وأن وراء
ما حدث أصابع
أجنبية، هي — بالتحديد — إنجليزية، لذلك أصدر عبد الفتاح باشا حسن وزير الشئون الاجتماعية
قرارًا بحل
جماعة إخوان الحرية.
١٠٠
وبعد أن أخفقت محاولة إحراق كنيسة السويس في تفجير الفتنة، استبدلت بها خطوة أخرى،
أخطر، هي حرق
القاهرة نفسها.
يعبِّر الرجل (المكافح المجهول) عن موقف الفئات الانتهازية من تطورات الأحداث: «إن
الشعب قد جُنَّ،
إنهم يحطمون كل شيء، جهلة ومتشردون، إن الحركة الوطنية ليست بهذا الجهل، تصور أنهم لا
يعرفون كيف ينطقون
باسم إنجلترا صحيحًا باللغة الإنجليزية؟!» وتقول المرأة: «لماذا تريدون إخراج الإنجليز؟
إنهم رجال
لطاف، إنهم يمثِّلون بحقٍّ الجنتلمان، الجنتلمان الذي لا يفشي سر مخدع امرأة.»
١٠١
•••
بصرف النظر عن النهاية المأساوية التي انتهت إليها معارك القناة، وهي حريق القاهرة،
فإن السؤال
الذي يجب مناقشته: هل حققت معارك القناة أهدافها؟
يجيب فؤاد سراج الدين: «أقرر أن معركة القناة قد أثمرت الثمرة المرجوة منها، وتحقق
الهدف الذي كنا
نسعى إليه من ورائها، إننا لم نقصد من هذه المعركة أن نشن حربًا على الإنجليز، فلم يكن
لنا قدرة على هذه
الحرب، ولم يكن من صالح مصر أن تأخذ معركة القناة صورة الحرب الرسمية ضد القوات البريطانية
في قواعدها.
ولذلك حرصنا حرصًا بالغًا على أن تأخذ المعركة صورة كفاح وطني شعبي يقوم به أفراد من
الشعب من تلقاء
أنفسهم، بدافع وطنيَّتهم ضد الإنجليز.»
١٠٢
إذن، فلم تكن المقاومة التي قامت بها كتائب التحرير تهدف إلى التقتيل والإفناء، لكنها
كانت تهدف
إلى إحداث القلق، وإشاعة الخلل والفوضى داخل معسكرات الإنجليز.
١٠٣
استطاعت عمليات القناة في مدى قصير نسبيًّا — ١٨ أكتوبر ١٩٥١م إلى ٢٥ يناير ١٩٥٢م
— أن تحقق نتائج
ملموسة في قتل وجرح وأسر العشرات من الضباط والجنود الإنجليز، وتدمير ونسف المنشآت والمعسكرات
الإنجليزية، واضطرت قيادة القوات البريطانية إلى إعادة توزيع وحداتها في امتداد مدن القناة،
بل واحتلت
بعض مدن محافظة الشرقية، وأمرت بترحيل أسر الضباط والإداريين الإنجليز إلى بلادها، وفرض
التوتر نفسه في
كل قرارات القيادة البريطانية وتحركاتها.
وحتى ١٣ يناير ١٩٥٢م، كانت السفارة البريطانية — كما جاء في «أخبار اليوم» — ترى ضرورة
إيجاد حل
يقوم على أساس جلاء القوات البريطانية في مصر، وأن العسكريين البريطانيين أنفسهم أصبحوا
يعتقدون بضرورة
هذا الحل، لاستحالة تدعيم القاعة العسكرية في الظروف القائمة، وفي وسط المقاومة الشعبية
المتزايدة.
هوامش