حريق القاهرة

يُعَد حريق القاهرة في السادس والعشرين من يناير ١٩٥٢م أثرًا مباشرًا لإلغاء معاهدة ١٩٣٦م، فقد تصاعدت حركة المقاومة والمقاطعة ضد الإنجليز ومعسكراتهم في منطقة القناة، وحدثت اتصالات سرية ومعلنة، وأضيرت مصالح، واستفاد تجار وخونة.

•••

في ليلة الجمعة ٢٥ يناير، حاصرت قوات إنجليزية ضخمة مبنى محافظة الإسماعيلية، وثكنات بلوكات النظام المجاورة لها. بدت الشوارع مليئة بجنود المظلات البريطانيين، يحتمون خلف أكياس من الرمل ومتاريس وسواتر وأسلاك شائكة، وأحاطت الدبابات الشيرمان الضخمة بمبنى المحافظة، وصوَّبت مدافعها نحو المبنى. وفي الحديقة التي لم تكن تبعد عن المبنى أكثر من ٣٠ أو ٤٠ مترًا، كانت تتراص أكثر من ٢٠ دبابة بريطانية بجوار بعضها البعض، بينما احتلت خمس دبابات أخرى الشارع الموجود على يمين المحافظة، وصوَّبت مدافعها إلى المبنى. وفي الشارع الأيسر صوَّبت خمس دبابات أخرى مدافعها إلى مبنى المحافظة في الجانب الآخر، وعلى الطريق الخلفي تكرر نفس الموقف، وحول مبنى ثكنات بلوك النظام كان الحصار بنفس الطريقة، وبالنوع نفسه من الدبابات.

لم يكن هناك أحد من كبار المسئولين بالمحافظة، ثمة بعض صغار الضباط والعساكر احتموا وراء شبابيك المبنى المتهالك، صمموا على القتال بأسلحتهم وذخيرتهم المحدودة. ويقول بسيوني (حتى مطلع الفجر) في انزعاجٍ شديد: «المحافظة محاصَرة بالدبابات، الأوامر لرجال الشرطة أن يقاوموا، كيف يقاومون الدبابات بأسلحة من أيام نابليون؟ مؤامرة فلسطين من جديد، مؤامرة الخونة!»١ وحاول أهالي الإسماعيلية أن يساعدوا قوات البوليس المحاصَرة، زوَّدوهم بالمؤن والذخيرة، لكن المعركة طالت إلى نهايتها المحتومة.٢
كان اليوم التالي يوم جمعة، إجازة للموظفين والطلبة،٣ في الصباح الباكر طلب الجنرال إكسهام قائد القوات البريطانية بمنطقة الإسماعيلية من البكباشي (المقدم) بوليس شريف العبد ضابط الاتصال المصري، أن يسلم جميع أفراد الشرطة بالإسماعيلية أسلحتهم إلى القوات البريطانية، وأن يجلوا عن دار المحافظة، وعن الثكنات، إلى خارج منطقة القناة.٤

أجاب قائد بلوكات النظام اللواء أحمد رائف، ووكيل المحافظة علي حلمي (كان مقر المحافظة في بورسعيد) على الإنذار البريطاني بالرفض، وأكد فؤاد سراج الدين وزير الداخلية على رفضهما، وطالب بعدم التسليم، ومواجهة القوة بالقوة، والصمود إلى آخر طلقة.

حدَّد القائد البريطاني خمس دقائق مهلة، يبدأ بعدها تنفيذ الإنذار بهدم دار المحافظة والثكنات على مَن فيها، وأصر رجال البوليس على الرفض، وقال اليوزباشي مصطفى رفعت للقائد البريطاني: لن يستلم البريطانيون منا إلا جثثًا هامدة.

دارت معركة غير متكافئة بين قوات الجيش البريطاني المزوَّدة بالمدافع والدبابات، وقوات البوليس المصرية المسلحة بالبنادق القديمة، استمرت نحو ساعتين. ولم يتوقف إطلاق النار إلا بنفاد الذخيرة، وسقط ٥٠ شهيدًا، وجُرِح ٨٠ ضابطًا وجنديًّا. وقال محمود: «البلد اللي فيها أبطال زي العساكر بتوع الإسماعيلية، مش ممكن تكون دي نهايتها. كانوا معزولين، وكانوا عارفين إن البلد تخلَّت عنهم، وكانوا يقدروا يسلِّموا، يرفعوا منديل أبيض أو قميصًا، ومع كده ما سلِّموش، ماتوا على رجليهم.»٥ وذاعت أخبار المعركة، ووضع الناس آذانهم قرب أجهزة الراديو، وقطعت الإذاعة برامجها، وأخذت في بث الأناشيد والأغنيات الوطنية.٦

كانت تلك المجزرة الدموية، هي المدخل الأساس لأحداث اليوم التالي في مدينة القاهرة.

•••

في بيت الطالبات بالدقي، طُرح السؤال: ماذا تفعل البنات؟

قالت هيام: مش أحسن نسافر لأهالينا.

ردَّت نوال: أهلنا كلهم في مصر، الخطر في القنال معناه خطر علينا كلنا، وفي بيوتنا كلنا.

– طب نعمل إيه؟

– لازم نعمل حاجة.

– نجمع فلوس نشتري بلوفرات للفدائيين.

– لكن المعركة أسرع من كدة.

وفي اليوم نفسه، أُغلقَت أبواب الجامعة، بعد أن سرت الثورة في الطلاب، وطالبوا بالسلاح لمقاتلة الإنجليز الذين أغاروا على الإسماعيلية.٧

•••

أخذ البعض (حتى مطلع الفجر) على الحكومة أنها ألقت بجنود البوليس في وجه قوات الاحتلال، دون أن تمكِّنهم من الدفاع عن أنفسهم.٨
ولعلِّي — شخصيًّا — أختلف مع حلمي سلام في دفاعه عن موقف فؤاد سراج الدين من أحداث ذلك اليوم الحزين، فهو يرى — بمقاييس الشرف — أن فؤاد سراج الدين لا يستحق اللوم على الأمر الذي أصدره لرجال البوليس بالمقاومة، وبالصمود فيها لآخر طلقة معهم «إلا بمقدار ما يستحقه رجل قاوم لصوصًا مسلحين، كانوا يحاولون السطو على أرضه وعرضه، فمضى يقاوم هؤلاء اللصوص، حتى سقط شهيدًا دون أرضه وعرضه.»٩

أصدر فؤاد سراج الدين أوامره لقائد القوات المدافِعة عن مبنى المحافظة بأن تقاتل لآخر رجل، ولآخر رصاصة، فهل كان يعي حقيقة الموقف، أو أنه أعطى أوامره تجاوزًا للمثل بأن الذي يده في الماء يختلف عن الذي يده في النار؟ هل صدر الأمر عن تدبُّر وفهم وإدراك للمسئولية، أو أنه كان مجرد تعبير عن الشرف والكبرياء؟

فؤاد سراج الدين لم يقاوم، ولم يسقط شهيدًا، إنما الذي قاوم، وقاتل، واستُشهِد، هم أبناء الشعب من جنود الأمن المركزي بمحافظة الإسماعيلية، كل الذي أقدم عليه فؤاد سراج الدين من بطولة هو أمره لجنود الأمن المركزي بأن يدافعوا برصاص البنادق عن مبنى المحافظة، ضد قوات تفُوقهم كمًّا وكيفًا، دون أن تعنيه النتائج في قليلٍ ولا كثير، لأن النتائج كانت شبه يقينية، وهي انتصار البريطانيين بصورة حاسمة!

•••

هل كانت مذبحة الإسماعيلية ضمن خطة محسوبة للتخلص من حكومة الوفد، التي كانت تساند العمليات الفدائية؟

يقول فؤاد سراج الدين في حوار صحفي إن الهجوم البريطاني على مبنى مديرية الأمن بالإسماعيلية، لم يكن لمجرد تأديب قوات الشرطة المصرية التي كانت تساند قوات الفدائيين، وإنما كانت هناك أهداف أخرى، ربما كان من بينها تحقيق التمرد الذي واجه به رجال قوات الأمن صباح السادس والعشرين من يناير.١٠ يضيف سراج الدين: «يبدو لي أن هذه الورقة الأخيرة كانت محاولة للتخلص من حكومة الوفد التي سبَّبت للإنجليز كل هذه المتاعب، والتي أثارت عليهم الرأي العام كله، خصوصًا بعد أن تبيَّن لهم بجلاء أن الحكومة المصرية الوفدية هي التي تساند فعلًا معركة القنال، وتموِّلها بالسلاح والمال والرجال، وكان هذا واضحًا في كتاباتهم واحتجاجاتهم الرسمية لنا، على موقف رجال البوليس بجانب الفدائيين، ومؤازرتهم لهم، فكان لا بد لهم — في النهاية — من خلق الظروف التي تتيح للملك فاروق تحقيق أمنيته في التخلص من حكومة الوفد. لذلك دبَّروا معركة الإسماعيلية، وكان أساس تقديرهم ما سيكون لهذه المعركة من رد فعل على الرأي العام المصري، خصوصًا في القاهرة، وخاصة بين الشباب والطلاب، ورتَّبوا بينهم وبين أنفسهم وبين معاونيهم في القاهرة إمكانية استغلال هذا الأثر في إحداث بعض الشغب في القاهرة، فيتيحون للملك فرصة إقالة حكومة الوفد بحجة عجزها عن حفظ النظام، وهذا ما تم فعلًا.»١١

الكلمات تحمل إدانة مباشرة للملك، ليس في مجرد تدبير مذبحة الإسماعيلية، وإنما في تدبير حريق القاهرة.

أما ما يذهب إليه حلمي سلام من أن إقالة الملك لمصطفى النحاس لم يكن مبعثها إلا رغبة في اللعب بالزعامات الجديدة، فهو — في تصوري — تبسيط شديد للأمور، لأن الأحداث كانت تتفاعل بدرجة لا تتيح لأحدٍ — حتى الملك — أن يجد فرصة للعب!١٢ وهو ما سنتناوله في فقرات تالية …

•••

لم يسمع الراديو — صباح ٢٦ يناير — يعقب بكلمة واحدة على مذبحة المحافظة التي حدثت في اليوم السابق.١٣ لكن السادس والعشرين من يناير ١٩٥٢م بدأ برفض عمال مطار القاهرة إمداد الطائرات البريطانية بما تحتاجه من الوقود،١٤ وفي السابعة والنصف صباحًا، غادر حوالي ثلاثمائة من جنود بلوكات النظام ثكناتهم بالعباسية، ومعهم أسلحتهم، واتجهوا نحو جامعة فؤاد، وهم يهتفون: أين السلاح؟ نريد أن نذهب إلى القنال!١٥ أين الجيش؟ فليحيا جنود البوليس الأبطال … البوليس مع الشعب … إلى القناة،١٦ وانضم إلى المظاهرة أعدادٌ كبيرة من طلبة الجامعة، كما انضم أعداد من طلبة الأزهر إلى بعض جنود البوليس في مظاهرة أخرى، اتجهت إلى ميدان عابدين.١٧
تعدَّدت المظاهرات، وتكاثرت تطلب السلاح لمقاومة الاحتلال. يقول الراوي (المارد): «ضرب الإنجليز الأنذال الجنود المصريين البواسل، بعد أن فرغ سلاحهم وطوَّقوهم بالدبابات.»١٨ ووقف عبد الفتاح حسن يخطب في المتظاهرين، ودار حوار بين الوزير وقادة المتظاهرين، يصفه الزوجان «لاكوتير» بأنه صورة رائعة للوعي الثوري للجماهير المصرية، فقد خاطب عبد الفتاح حسن المتظاهرين قائلًا: هذا يومكم، ستثأرون لشهدائكم، وسنعرض صدورنا لرصاص العدو معكم، بل وفي مقدمتكم. لكن الجنود كانوا قد فكُّوا أزرار جاكتاتهم، ووضعوا أذرعتهم فوق أكتاف الطلبة المتظاهرين، وأزاح عددٌ كبيرٌ من الضباط كاباتهم إلى مؤخرة رءوسهم، واتجه الجميع إلى الوزير بنظراتٍ مستخفَّة، وظلت جموع المتظاهرين تتزايد، تحمل عددًا من رجال البوليس على الأعناق، وتردد الشعارات الوطنية.
اتصل الحوار ثلاث ساعات بين الوزير والمتظاهرين الذين حدَّدوا مطالبهم بمقاطعة بريطانيا، وإشراك الجيش المصري في المعركة ضد قوات الاحتلال، وتوقيع معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفييتي،١٩ وهتف أحد ضباط الجيش — واسمه محمد عبد الخالق — من فوق أعناق المتظاهرين: أيها الوزير … الجيش للحرب … لماذا لم ترسلونا إلى القنال، دفاعًا عن إخواننا جنود البوليس؟!
أحدثت هذه الكلمات تأثيرًا بالغًا في نفوس المتظاهرين، وعلت الهتافات بسقوط الإنجليز والاستعمار، وغادرت المظاهرات مبنى رئاسة الوزراء وهي تواصل هتافاتها.٢٠
تحوَّلت المظاهرات إلى حرائق وتدمير، ﻓ «الأدخنة تنعقد كالحة في السماء، ومبانٍ كثيرة تتلظى الجحيم، وألسنة اللهب تطل منها كألسنة الشياطين، ومحلات منتزعة الأبواب، وعساكر الجيش بلباس الميدان وخوذاته، ودوريات بوليس في عربات.»٢١
تلبَّد جو القاهرة، احمرَّت السحب، وتصاعد الدخان هنا وهناك، واندلعت النيران، واتجهت جماعة من الشبان ومعها صفائح ومشاعل ومعاول وهي تصيح «شبت» — تقصد فندق شبرد — وأحرقوا — قبل أن يصلوا إليه — بنايات أخرى، وانتشر التدمير في شوارع القاهرة المختلفة، وأمسى الحريق مدينة بأسرها،٢٢ النار في الأرض، والدخان في السماء — والتعبير للفنان — والناس يفرون في الشوارع مذعورين، والصراخ والفزع في كل مكان.٢٣ تصاعد اللهب الأزرق إلى السماء، ابتلع شبرد وشملا وشيكوريل وملاهي عماد الدين وطلقات الرصاص تدوي، وموجات الناهبين تتلاحق، تسرق، وتدعو للثورة.٢٤ «بدا وسط المدينة كما لو كان قد تعرض لقصفٍ جوي.»٢٥ وتركزت الحرائق في شارع الهرم، بعد أن قضت على المواقع الحيوية وسط البلد،٢٦ وجد الرعاع — على حد تعبير الفنان (المارد) في فوضى الحريق فرصة للنهب، وتركز هجومهم على قلب العاصمة، حيث المتاجر الكبيرة،٢٧ وطبع العمال — حالًا — منشورات تدعو لوقف الحرائق، والتصدي للخونة، حملها مندوبون، وداروا بها على التجمعات العمالية، وحاول العمال منع المتظاهرين من تدمير المركبات العامة وسيارات النقل، بعد أن طالت النيران بعض مركبات الترام،٢٨ وكما يقول الفنان، فقد كانت القاهرة تحترق بالفعل، وشوهد الدخان على بُعد أميال، رغم أن الهواء كان راكدًا، ولو كانت الريح شديدة في ذلك النهار، لاحترقت العاصمة عن آخرها بلا شك.٢٩ ويقول الراوي (أنا الشعب): «كانت ألسنة اللهيب تطل من نوافذ الطبقات المتتالية كأنها تشير إليَّ من الطريق تطلب الغوث، وأين الإسعاف؟ ولم يكن هناك أيضًا رجال مطافئ، كأن المدينة قد خلت من الحكومة.»٣٠
كان أمين (المارد) قد سمع في الإذاعة قبل أن يخرج من بيته، بحريق القاهرة، لكنه لم يتصور أن الأمر يصل إلى هذه الدرجة من السوء، ووصل الدخان إلى خياشيمه، وكانت أخشاب العمارات تطقطق، والسماء تلفُّها سحب الدخان الكثيفة.٣١
ويلخص الفنان (قصة حب) ما حدث بعناوين سريعة: الحرائق تجتاح القاهرة … الأجانب يُذبحون في الشوارع … السلب والنهب والقتل يدور على قارعة الطريق … الانفجارات تترى في أنحاء العاصمة والدماء تسيل في شوارعها … النحاس يطلب إعلان الأحكام العرفية … قوات من الجيش تُستدَعى … الحالة تنذر بخطورة بالغة.٣٢
وتساءل غريب (المعركة): «أهكذا يشفون غليلهم من حادث الإسماعيلية، بعد أن هدم الإنجليز المحافظة، وأبادوا ستين من جنود مصر؟ هل أصابهم الظلم والاضطهاد بالبله والهستيريا؟»٣٣ وقال محمود (الباب المفتوح): «الحريق دا هو النهاية، نهاية معركة القنال.»٣٤

•••

في الصباح، كانت الصحف تفيض بأخبار الإنجليز الذين قتلوا في القناة عددًا من رجال البوليس المصري،٣٥ قرأ الراوي (مجموعة الطوابع) العناوين المثيرة عن ضرب الإنجليز لمبنى محافظة الإسماعيلية بالمدافع الثقيلة، وقتل جنود بلوكات النظام، وأدرك الراوي أن المظاهرات رد الشعب على العدوان.٣٦
انتهى اليوم بحرق القاهرة، وإعلان الأحكام العرفية، وتعطيل الدراسة، ومنع التجول، وبدء حملة واسعة من الاعتقالات: «كل واحد كان يُقبَض عليه في ذلك اليوم بسبب وبدون سبب، لأنه شيوعي أو إخواني أو أمريكاني أو إنجليزي أو مصري أو متشرد أو صعلوك أو مشبوه أو مراقب أو سيئ الحظ، ألقته المصادفة بقرب واحدة من العمارات الكثيرة التي تحترق.»٣٧
حين وصل حمزة (قصة حب) إلى محطة العاصمة، قادمًا من الشرقية، فاجأته الأدخنة المتصاعدة في السماء، والمباني التي اصطبغت بحمرة النيران، والبيوت المنتزَعة الأبواب، المنهوبة، والأنقاض، وجنود الجيش، ودوريات البوليس، والجو المشبَّع بظلال أيدٍ سوداء أثيمة، ورائحة مؤامرة تختلط برائحة بارود.٣٨
لكن البعض وجد في أحداث اليوم الحزين إيجابية، ينبغي التوجه إليها: «دي نار بصحيح، لكن كان لازم تولع علشان نعرف كل الأخطار، وكل الأعداء، ما تخافوش … بعدها ييجي النور.»٣٩

•••

يصف الفنان تغيُّر صورة الحياة عقب الحريق، وما تلاه من أحداث: «كانت الدنيا لا تزال صبحًا، والشمس توزع صفرتها على الناس والأشياء بسخاء. وتألم حمزة لمنظر الناس، كأن قد مضت شهور وهو في سرداب تحت الأرض خرج منه يومها. كانت فيهم ملامح أهل القاهرة، الذين رآهم لشهورٍ طويلة قبل الحريق. كانت زحمتهم هي هي، وإسراعهم إلى أعمالهم هو هو، ولكن كان يخيم عليهم صمتٌ بغيضٌ، وكانت سرعتهم غريبة هي الأخرى، فهي ليست سرعة الإنسان النشيط، ولكنها سرعة المرعوب، سرعة الذي يجري خوفًا من الكرباج. وكان الترام لا يزال يعوي ويسير، والعربات الكارو تتأرجح وتجعجع وتركض أحصنتها، والتاكسيات لا تزال تحوِّم حول الزبائن والدكاكين مفتحة الأبواب، والكنَّاسون يعملون، وأحيانًا تسمع في سماجة الصبح ضحكات وشتائم، ولكن كل ما كانت تقع عليه عيناه كان خاليًا من الحياة، كله خالٍ من أية حياة. الناس شخوص، والحركة في الشارع تدور كأنها على شاشة باردة في فيلم رسوم متحركة، والحديث والضحكات تخرج لا معنى لها، أقرب إلى الأصوات التي تخرج عن الأحجار إذا سقطت، أو الأخشاب إذا احتكت، منها إلى أصوات تخرج عن أفواه بشر. وتساءل حمزة: أين الروح في هذا كله؟ وهل يصدق إنسان أن تلك هي القاهرة التي كانت قبل ٢٦ يناير، وهؤلاء هم الناس الذين قاموا بمظاهرة ١٣ نوفمبر، والذين أمسكوا وزيرًا ذات يوم من تلابيبه، وقالوا: أين السلاح؟»٤٠
كانت الخسائر مذهلة: ٣٠٠٠ محل، ١٠٧ مكاتب أعمال، ١٣ فندقًا، ٤٠ دارًا للسينما، ١٦ ناديًا، ٣٢ مطعمًا وصالة رقص وملهى، ٨ محال لبيع السيارات، مصرفًا واحدًا، ٩٢ بارًا.٤١ وبلغ عدد القتلى ٢٦ شخصًا، بينما بلغ عدد الجرحى والمصابين ما يقرب من ٦٠٠ شخص،٤٢ وطالت النيران ساق الأم، فظلَّت مشوَّهة حتى آخر العمر.٤٣
احترقت القاهرة، وخلت الطرق من التراموايات والسيارات، وانتشرت الخوذات النحاسية والأزرار الصفراء والوهج والحرمان والمدافع والبنادق والشحاذون والضيق والعصي،٤٤ وانتشرت الكلمات — والقول للفنان — حول زجاجات الويسكي التي انسكبت، وعمليات النهب التي تمت، كأن القاهرة مدينة مليئة باللصوص وقطاع الطرق.٤٥
كان الحريق سببًا في إجهاض محاولات إنشاء الاتحاد العام لعمال مصر … حدث الحريق في اليوم السابق للموعد المحدَّد لاجتماع المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام، حضر للمشاركة فيه عمال سودانيون، أعلنوا استعدادهم لتكوين اتحاد عمال وادي النيل.٤٦
أما الأحكام التي صدرت ضد المتهمين بإحراق القاهرة، فقد تراوحت ما بين أشغال شاقة مؤبدة، وخمسة عشر عامًا، وكانت أحكامًا قاسية للغاية، أثارت الرأي العام ضد القاضي حسين طنطاوي رئيس المحكمة العسكرية.٤٧

•••

لعل أخطر الهتافات، التي ردَّدها المتظاهرون، المطالبة بشراء السلاح من الاتحاد السوفييتي، والاتفاق مع حكومته، ردًّا على اقتحام الدبابات البريطانية بمبنى مديرية أمن الإسماعيلية، وقتلهم لجنود بلوكات النظام.٤٨
يُرجِع كمال الدين رفعت بداية التدمير إلى العفوية، حين رأى المتظاهرون في الحادية عشرة والنصف صباحًا، رجلًا يحتسي الخمر في شرفة كازينو أوبرا مع إحدى الراقصات، وعنَّف بعض المتظاهرين الرجل على استهتاره، فدافع عن نفسه بإجابة غير لائقة، وتطور النقاش إلى مشادة، فاشتباك. ثم هجم المتظاهرون على الكازينو، وراحوا يحطمون أثاثه، ثم امتد التدمير إلى أماكن أخرى.٤٩ وكان عبد الرحمن شعبان (المرايا) جالسًا في «الترف كلب» مع بعض أصدقائه الإنجليز، عندما هاجمه المتظاهرون فقتلوه ضمن من قُتِل من رواد النادي.٥٠
لكن «العفوية» تخلَّت عن مواقعها للتدمير المنظم، لفرقٍ منظمة من محترفي الحرق والتخريب «انقضت على قلب العاصمة في سيارات الجيب، وتحمل أحدث أساليب الحرق والتدمير وأشدها فاعلية. وكانوا يقومون بمهمتهم بأعصاب باردة دون أن يصدر عنهم شعار، أو تصدر عنهم كلمة أو إشارة، كان عملهم مدروسًا.»٥١
يذهب مرتضى المراغي إلى أن الذي أحرق القاهرة لم يكن فردًا واحدًا، إنما هي جماعة أو جماعات منظمة، أعدَّت عُدتها لذلك، ولا يمكن أن تكون أدوات الحرق وكسر الخزائن والأبواب التي وجدت أمام المتاجر والفنادق والبنوك جاهزة.٥٢ ويقول صلاح الشاهد: إن «المواد التي استُعملَت في الحريق لم تكن في متناول الأفراد، ولا يمكن للأفراد الحصول عليها بسهولة،٥٣ وكان الأمر مدبَّرًا بدقة تامة، بدءًا بمصر الجديدة، وانتهاءً بحلوان.»٥٤
وثمة واقعة تشير إليها منيرة حسني، عن قادة المتظاهرين في حريق سينما ريفولي الذين فكُّوا صرر النقود الفضية، وراحوا يبعثرونها على الجماهير التي انشغلت بجمعها.٥٥
لذلك، فإني أختلف مع الرأي في نسبة حريق القاهرة إلى مظاهر الغليان والاضطرام الشعبي،٥٦ فلم يكن ما حدث عفوًا ولا مصادفة. ثمة تدبير محدد كان وراء الحرائق التي شهدتها القاهرة في ذلك اليوم، بل إن الشابين اللذين دخلا صالة فندق شبرد، وألقيا فيها بسائل، ثم بعود كبريت، ليحترق الفندق العتيق في لحظات … هذين الشابين كانا يعرفان جيدًا أن أسقف الفندق جميعها من الخشب سريع الاشتعال،٥٧ وفي شهادة علي ماهر أمام المحكمة في قضية أحمد حسين، أشار إلى أن «الأدوات المستعمَلة في الحريق ليست طبيعية، ولا يدبِّرها رجل الشارع، ولا بد أن الحوادث دُبرِّت من مدبرين.»٥٨
مع ذلك، فإن أحمد حسين — المتهم الأول — ينفي تهمة التحريض عن أي إنسان، ويرفض تأثير أية صحيفة، أو كاتب، أو زعيم من الزعماء، أو حزب من الأحزاب.٥٩

•••

تبدأ رواية «السمان والخريف» بحريق القاهرة، إنها نقطة الارتكاز والمنطلق الذي كان إرهاصًا للحدث العظيم في صبيحة الثالث والعشرين من يوليو. وكما يقول الكاتب الهندي ديوان برندرانات Dewan Brindranatg «فإن النيران أتت أيضًا على بنيان الحكم والمجتمع والسلطة التي يمثِّلها فاروق لأتباعه، وبهذا يمكن أن يقال إن السادس والعشرين من يناير ١٩٥٢م هو أول أيام الثورة المصرية.»٦٠ ذلك لأن النتيجة المؤكدة، وربما الوحيدة، التي أفرزها حريق القاهرة، هي إيقاف حركة النضال المسلح، وإقالة وزارة النحاس التي ألغت معاهدة ١٩٣٦م، وفتحت أبواب العمل الفدائي ضد قوات الاحتلال.

سأل عيسى الدباغ: ماذا في البلد؟

أجاب رجل: القيامة قامت.

– تعني مظاهرات احتجاج؟

قال الرجل وهو يجري: أعني النار والخراب.٦١
لم ينسب الفنان بواعث الحريق إلى جهة محددة، لا السراي ولا الإنجليز ولا الأحزاب أو الجماعات السياسية، إنما هو حريق شامل شوَّه وجه القاهرة: البترول يُراق، والحرائق تُشتعَل، والأبواب تُحطَّم، والبضائع تنتثر، والتيارات تتدافع كالأمواج المتلاطمة، والجنون نفسه بلا رقيب، والقاهرة تثور، ولكن على نفسها؛ إنها تنتحر.٦٢ أدرك عيسى الدباغ (السمان والخريف) — لحظة مشاهدته للمأساة المروعة — أن الخطر يتهدد صميم حياة المصريين، يتهدد القاهرة والمعركة القائمة في القناة والحكومة.٦٣
أما هؤلاء الذين راحوا يحرضون المتظاهرين على التدمير: احرق … خرِّب … يحيا الوطن … فقد لاحظ عيسى الدباغ (السمان والخريف) أنهم وجوه غريبة، لا هي من حزبه — الوفد — ولا من الأحزاب الأخرى، إنها وجوه غريبة تفوح منها رائحة الغدر.٦٤

تساءل عيسى الدباغ: الأحزاب؟

قال شكري باشا عبد الحليم: هي أضعف من أن تدبر أمرًا.

– من إذن؟

– الأمر ليس بالوضوح الذي تظنه، قد تتسلل من السراي تعليمات معينة، قد يمرح جواسيس الإنجليز ويعيثون فسادًا، ولكن يخيل إليَّ أن المد بدأ طبيعيًّا جدًّا، ثم انتهز النهازون الفرص.٦٥
وقال شكري باشا: قل في هذا اليوم ما شئت، أين الوزير؟ لا أحد يدري! أين البوليس؟ لا أحد يدري! أين الجيش؟ لا أحد يدري، اختفى الأمن، وزحف الشيطان.٦٦
وقال عيسى الدباغ لنفسه: «إن فرقة كاملة من الإنجليز لتعجز عن إحداث عُشر هذا الخراب، وقال: انتهت معركة القنال، خسرنا المعركة،٦٧ وقال: «حريق القاهرة أثبت أن الخونة أقوى من الحكومة والشعب معًا.»٦٨

•••

يروي ريمون فلاور أن مصطفى النحاس انشغل في ذلك النهار المأساوي، بتلقي العناية بأظافره على يدي متخصص في فن البديكير، واكتفى بأن أرسل عربة مصفحة لإحضار حرمه من عند مصفف الشعر الخاص بها في قصر النيل.٦٩
واتهمت «أخبار اليوم» فؤاد سراج الدين، وزير الداخلية المُقال، صراحة، وأشارت إلى أنه رفض مرتين نزول قوات الجيش لإيقاف الحرائق،٧٠ وهو اتهام لا قيمة له في ضوء عمالة «أخبار اليوم» المعلَنة — آنذاك — للسراي، فضلًا عن أن الاتهام اقتصر على التراخي، والإهمال في معالجة الموقف.
وإذا كان الملك قد كرر الاتهام لفؤاد سراج الدين، بالمسئولية عن الحريق، فإن سراج الدين ردَّ بأن الملك هو الذي يتحمَّل المسئولية، لأنه رفض إنزال الجيش لمواجهة الأحداث.٧١
الغريب أن فؤاد سراج الدين قلَّل — فيما بعد — من خطورة الأحداث التي شهدها اليوم الحزين: «حريق القاهرة؟ أحب أن أقول لك إن هذا الوصف فيه شيء كثير من المبالغة، لأنه لو رجعت إلى الإحصاء الرسمي لهذه الحوادث، ستجد أن المحلات الكبرى التي أُحرقت، كانت محدودة جدًّا مثل شيكوريل وشبرد وثلاث أو أربع محلات، والباقي محلات صغيرة جدًّا وبعض بارات.»٧٢
أكد تقرير النائب العام أن حريق كازينو أوبرا وقع قبل تدفق المظاهرات على رئاسة مجلس الوزراء، وإلقاء عبد الفتاح حسن خُطبته الشهيرة في المتظاهرين، وهي الخُطبة التي اعتُبرَت تحريضًا مباشرًا على التدمير والتخريب وإشعال الحرائق.٧٣

الوفد لا يمكن أن يكون مسئولًا عن حرق القاهرة، لأن في مقدمة أهداف الحريق كان ضرب حكومة الوفد بتهمة عدم قدرتها على السيطرة على الموقف، وحماية أرواح المصريين والأجانب وممتلكاتهم، إلى جانب الهدف الأهم، وهو إخماد المقاومة المسلحة ضد الوجود البريطاني في منطقة القناة.

لذلك، توقَّع عيسى الدباغ أن يُرفَع الستار في الغد عن مأساة حقيقية، طوفان يقتلع الحكومة والحزب وشخصه في النهاية.٧٤ وجاءت نتائج الحريق — بالفعل — سلبية تمامًا بالنسبة للوفد، بل إن ٢٦ يناير شهد — عمليًّا — نهاية الوفد في ساحة السياسة المصرية، حتى لقد تمنى أحد الكُتاب لو أن قيادة الوفد رفضت الإقالة التي تزامنت مع مواجهة الملك وسلطات الاحتلال ضغوطًا شعبية عنيفة «ولو بقي الوفد وتحدى، أو خرج واستنكر الاستقالة، وندَّد بها، وأعلن استمرار الثورة، ونزل قادته إلى الشارع، وقادوا الجماهير ضد الملك والاحتلال، لكان قد غسل كل الإهانات وكفَّر عنها، واحتفظ بشرفه الوطني، واسترد كل اعتباره.»٧٥
أما محمد عودة، فهو يرفض تحمُّل الوفد مسئولية حريق القاهرة، لأن الذي أحرقها — كما يقول — هو الاستعمار، لكن من الصعب أن يُعفَى الوفد من المسئولية، وخاصة فؤاد سراج الدين وزير الداخلية حينذاك، والذي كان يقود المواجهة والمعركة، وكان يعرف مدى الأخطار والمؤامرات المحيطة، لكنه لم يحِط بها بما يكفي.٧٦
ولعلنا نجد في الكتاب الرسمي الذي قدمته السفارة البريطانية إلى حكومة علي ماهر، تطلب اتخاذ إجراءات ضد الوزيرين السابقين فؤاد سراج الدين وعبد الفتاح حسن، بحجة إهمالهما في صيانة الأمن، حتى وقع الاعتداء على الممتلكات والرعايا البريطانيين، بل وتحريضهما على ذلك، بالإضافة إلى الضربة القاسية التي تلقتها حكومة الوفد عقب الحريق، لعلنا نجد في ذلك ما يؤكد ابتعاد حكومة الوفد تمامًا عن الاشتراك، أو التمهيد، لليوم المأساة بأية صورة من الصور.٧٧

•••

ثمة من اتهم الملك بتدبير الحريق للتخلص من حكومة الوفد، وضرب حركة المقاومة الشعبية في مدن القناة، الراوي (الإدانة) يقول: «كانت حرائق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م مدبَّرة بأيدي الإنجليز والملك» … «كانت الحرائق تستهدف إشغال الجماهير الملتهبة بالسخط والنقمة على مذابح الأمس، الذي التحمت فيه الشرطة والشعب التحام اللحم والدم والفداء.»٧٨ بينما أكد البعض (١٩٥٢) أن الملك كان خائفًا، وقد فزع عندما وصلته أنباء الحريق، وليس من المعقول أن يحرق الملك عاصمة ملكه ليتفرج عليها، وولي عهده عمره سبعة أيام.٧٩ ويقول سليم باشا (الحصاد): «يُخيَّل إليَّ أن الملك ضالع في حريق القاهرة، لماذا لم يرسل بعض رجال حرسه لإخماد الفتنة قبل أن يستفحل أمرها؟! وكيف طاوعه قلبه على أن يخطب في ضباط جيشه، ويقول لهم: إنه ابن إبراهيم باشا، وإنه يضع ابنه وديعة في أيديهم، ثم يدعوهم إلى تناول الغداء والنيران مندلعة على بُعد أمتار من قصره، لقد رفض أن يقابل فؤاد باشا لما طلب مقابلته، كان يبيِّت الغدر بالوزارة.»٨٠
يشير صلاح الشاهد إلى أن أعوان الملك، مثل كريم ثابت وإلياس أندراوس وحافظ عفيفي، أفلحوا في إقناعه بأن الوفد يعد لعزله عن العرش،٨١ وقيل إن الملك — حسبًا للتوقعات — بعث بمجوهرات إلى الخارج،٨٢ وكان رأي اللواء عويس باشا (١٩٥٢) أن الإطاحة بحكومة الوفد أصبحت ضرورة، بعد أن تعقَّدت الأوضاع في مدن القناة، وترعرعت التنظيمات المعادية داخل الجيش،٨٣ ويقول رئيس الديوان للملك (واحترقت القاهرة): «لا أكتمك يا مولاي أن أول ما خطر بذهني عندما سمعت أنباء ما حدث بالأمس في الإسماعيلية، أن أقترح على جلالتكم تأجيل حفلة اليوم، وأعترف لمولاي بأنني لم أفهم — في بادئ الأمر — إصرار جلالتكم على قيام الحفلة في موعدها، وتشديدكم على ضرورة شهود كل المدعوين لها من رجال الجيش وقادة البوليس. أما الآن، وبعد أن تطورت الحوادث بهذه الصورة ونحن على وشك إعلان الأحكام العرفية، وإقالة الوزارة، وإعادة التصالح مع الإنجليز … لست أعرف، لست أدري، إن خطة جلالتكم بدأت تتجلى لي بكل روعتها.»٨٤

الكاتب يتهم الملك إذن بتدبير الحادث، أو أنه — في الأقل — استغلَّه استغلالًا سيئًا، رغم أن اللواء عويس باشا (١٩٥٢) خادم الملك وأخلص ضباطه، قد لاحظ — قبل حريق القاهرة بأيام — أن قوات الإنجليز تخبئ في مبنى منعزل خلف ربوة عالية في ميدان الهاكستب، كميات من الفئوس والبلط الحديدية والقضبان ومواد لإشعال الحرائق، ومواد أخرى لإطفائها.

هتف اللواء في غضب: هذه المواد تكفي لحرق القاهرة.

فقال الكولونيل الإنجليزي سفينكس مبتسمًا في خبث: لا إطفاء دون إشعال!٨٥
على الرغم من ذلك، فإن إحساسًا خفيًّا خامره بأن جلالته كان على معرفة بتلك الخطة الجهنميَّة.٨٦
أما حسان (الشارع الجديد) فقد بلغت ظنونه اليقين من أن الملك هو المسئول عن أحداث اليوم الأسود: «لماذا يلومني الناس على الشراب؟ ماذا في دنياهم يستحق أن أفيق من أجله؟ أأفيق لأرى ملكًا يحرق عاصمة ملكه؟ ليدق مسمارًا في نعش الأحرار؟ ليمكن للاحتلال في البلاد؟»٨٧ ويتساءل سالم جبر منفعلًا (المرايا): «ما هذا الذي يحدث بالوطن؟ الملك جُنَّ، وكل شيء ينهار.»٨٨ حتى المخرج الأمريكي زخاري (ست الحسن والجمال) اتهم الملك بأنه أحرق القاهرة مثل نيرون «وكان يترأس مأدبة، وعشرات الراقصات يرقصن.»٨٩
اتهم عبد القدوس الملك والإنجليز، بأنهما «المستفيدان من الجريمة البشعة»، و«صاحبا المصلحة الحقيقية في النتائج التي أدى إليها حريق القاهرة.»٩٠ لكن عبد القدوس ما لبث أن تخلى عن اتهامه للملك، وقصره على الإنجليز!
وكان الحريق — في تقدير أحمد عباس صالح — لإبعاد حزب الوفد عن الحكم، ووقف الاندفاع نحو الإصلاح، ومقاومة الاستعمار مقاومة عنيفة، وإقامة نوع من الحكم الاشتراكي الديمقراطي.٩١
يتحدث الراوي (زمن الحرية) عن الجملة التي دوَّت في أذنه، وعلِقت بقلبه، حين قال أبوه إن الضحية الحقيقي في أحداث الحريق هو النحاس باشا، الذي تآمر عليه الملك (الملك إذن هو المتهم)، وأقام حفلة لضباط الجيش والشرطة في قصر عابدين، بينما القاهرة تحترق، ولا تجد من ينقذها.٩٢

•••

لعلنا نجد بداية ظهور تدخُّل القصر لتحويل مسار الحركة الوطنية، في تعيين الملك فاروق لحافظ عفيفي وعبد الفتاح عمرو في ديوانه الخاص، وهو قرار فسَّرته الجماهير المصرية — وكان تفسيرًا ملهمًا وصحيحًا — بداية تدخُّل مريب، ومباشر، من القصر لعرقلة الزحف الجماهيري عن بلوغ أهدافه القومية، ومن ثَم خرجت المظاهرات في المدن المختلفة تحتج على صدور القرار، وتُلقي هتافات معادية.

يلخص محمد أنيس تعليقات الصحف البريطانية — آنذاك — حول هذا القرار بأن الهدف من تعيين عفيفي وعمرو، كان إقامة صلة ودية بين السراي والإنجليز في وقتٍ اشتدَّت فيه الحركة الوطنية ضد الاستعمار البريطاني، وأنها أجمعت على أن ذلك التعيين جاء بنصيحة من الدوائر الحاكمة في لندن، وأنه كان مؤشرًا لصدامٍ متوقعٍ بين القصر والوفد.٩٣
بذل حمزة (قصة حب) جهدًا كبيرًا لإقناع بدير أن الملك والإنجليز هم الذين أحرقوا القاهرة، وكان بدير يرفض تصور أن الملك يقدِم على تلك الجريمة: «ملك إيه اللي يحرق البلد؟! بقى ده كلام … أنا معاك صحيح إنه راجل خمورجي وبتاع نسوان، إنما حرق البلد دي مسألة تانية!»٩٤
إحسان عبد القدوس يوافق على هذا الرأي، وهو ما يتباين — كما أشرنا — مع رأي سابق له: «دور الملك فاروق كان المستفيد، لكن لا أعتقد أنه كان متعمدًا الحريق، يجوز أنه فكر في أن يستفيد من الحريق بعد أن حدث، أو أن هذا الحريق خفَّف من بعض الاتجاهات المضادة له، لكن حريق القاهرة — في النهاية — لم يكن في صالحه، لأن الحريق ليس في صالح الحكم، وكان هو الحاكم، والحاكم ليس من صالحه إثارة الخلل في الأمن لهذه الدرجة.»٩٥
ينفي موسى صبري الاتهام — ضمنًا — حين ينقل قول الملك غداة الحريق: «أنا كنت متأكد إن ده حيحصل … اسألوا كريم … أنا قلت كده … يا حبيبي يا كريم الثورة على الأبواب … الزمام فلت.»٩٦
بل إن أنور السادات يتحدث عن الذعر الذي أصاب الملك عقب الحادث مباشرة، والتفكير المضطرب الذي كان يدفعه إلى اتخاذ قرار في المساء، مخالفًا لما اتخذه في الصباح، حتى إنه فكر في الهرب من البلاد، وأعد نفسه للسفر فعلًا.٩٧
أما صلاح نصر، فيذهب إلى أن الملك تآمر مع الإنجليز في وضع خطة محكَمة مشتركة لهذه الجريمة، واشترك فيها البوليس السياسي، بهدف التخلص من حكومة الوفد، والقضاء على الحركة الوطنية التي اشتد أوارها.»٩٨ وتنقل الفنانة إنجي أفلاطون عن زوجها أنه رأى بعينيه إبراهيم إمام رئيس البوليس السياسي، يتفرج — راضيًا — على سينما ريفولي وهي تحترق، أدركنا — والكلام لإنجي أفلاطون — أنه تم تنفيذ مؤامرة إحراق مدينة جميلة، عريقة، من أجل تحطيم المد الثوري، وقمع الحركة الوطنية، وكان الملك يقيم في يوم الحريق مأدبة لكبار ضباط الجيش.٩٩
طعن الملك الوفد من الخلف بالحريق، وما أعقبه من مؤامرات.١٠٠
ويروي صلاح الشاهد أن الملك صارح حافظ عفيفي باستيائه من موقف الإنجليز، وأنهم تخلَّوا عن مساندتهم للقصر، فالتقى حافظ عفيفي بالسفير البريطاني، وعاد إلى الملك ليبلغه القول: إنني أرجو جلالتك أن تضبط أعصابك عدة أيام قليلة،١٠١ ويذكِّرنا محمد عودة بقول الحاكم البريطاني في رواية «القنصل عند غروب الشمس» للكاتب الإنجليزي جيرالد هينلي: «عند اشتداد الأزمة في مستعمَرة أفريقية، نُشعِل حريقًا كبيرًا ليلتهم كل شيء، ويفاجئهم، ويتركهم مذهولين … يتركهم لا يدرون كيف حدث، ولا ماذا يفعلون بإزائه … لنُشعِل حريقًا كبيرًا الآن، وقبل أن تفوت اللحظة، قبل أن تغرب الشمس!»١٠٢

•••

لعلنا نجد إرهاصات المؤامرة في الحملات التي واجهتها حكومة الوفد، عقب إلغاء المعاهدة، بدءًا باتهامها للحكومة أنها قد تعتقل الفدائيين، وانتهاءً بإلباسها أثواب الفساد واستغلال النفوذ.١٠٣

حين سأل قائد قوات الجيش التي نزلت لإنهاء الفوضى، مراد الخولي نائب محافظ القاهرة عن المساعدات التي يطلبها، قال الخولي: اعتبر أنه ليس هناك جندي بوليس واحد في القاهرة، واستلم البلد كما تراها مشتعلة بالنيران في كل مكان.

وأشار إلى فندق شبرد الذي كانت النيران قد أتت عليه، وإلى مباني شارع فؤاد التي لحقتها الحرائق كذلك.١٠٤
وفي وصف الفنان، فقد كان شارع فؤاد من أوله إلى آخره، بل قل من ميدان الأوبرا حتى قصر النيل، عبارة عن فرن مشتعل ونار متأججة.١٠٥ ويقول مرتضى المراغي: «أنا شخصيًّا، أعتقد أن فاروق — رغم أني كنت أحبه وأستلطفه — هو الذي كان وراء حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م ليقضي على شعبية النحاس في ذلك الوقت، خصوصًا بعد إلغاء النحاس معاهدة ١٩٣٦م.»١٠٦ ويشير المراغي في مذكراته، إلى أن الوليمة التي دعا إليها الملك، حدَّد لها الواحدة والربع بعد ظهر السبت ٢٦ يناير في قصر عابدين، ورافقها بعض الظواهر الغريبة، من بينها أن الدعوة وُجِّهت قبل ٢٤ ساعة من موعد الوليمة، وأنها أُبلغَت تليفونيًّا إلى الضباط المدعوين، وأنه قد دُعي كل ضباط حامية القاهرة، في حين لم يُدع إليها ضباط حامية الإسكندرية، أو القناة.١٠٧ ومع تعاظم أعداد المدعوين من ضباط الجيش والبوليس، فإن وزيرَي الداخلية فؤاد سراج الدين والحربية مصطفى نصرت — المسئولين عن هؤلاء الضباط — لم تُوجَّه إليهما الدعوة.١٠٨
أما صلاح نصر فقد لاحظ أن رجال البوليس «كانوا لا يتعرضون للعابثين، إن لم يشتركوا معهم.»١٠٩

ويدخل حلمي على والده (الحصاد) قائلًا: القاهرة تحترق.

– كيف هذا؟

– حرق الغوغاء كازينو أوبرا وشيكوريل وشبرد وكل دور السينما … النيران مندلعة في كل مكان.

– وأين البوليس؟

– البوليس لا يحرك ساكنًا، رأيت عسكري البوليس يغدو ويروح في اطمئنان، وكازينو أوبرا يحترق، كأنما الأمر لا يعنيه.

قال الباشا: انتهز الشيوعيون الأوغاد فرصة اضطراب النظام، وراحوا يخربون، إنهم يريدون إذاعة الفساد حتى ينقضوا.

قال حلمي: «ما أكثر طوائف المخربين الذين يشتركون في حريق القاهرة، «الإخوان المسلمون» يحطمون الحانات، ويريقون الخمور، ويشعلون في البارات النيران، وشبان «مصر الفتاة» يشتركون معهم في إحراق الملاهي ودور اللهو، و«الشيوعيون» يؤججون نيران الفوضى، والذين لا خلاق لهم ينتهزون هذه الفرصة ليسرقوا وينهبوا.»١١٠
أما مذكرات كمال رفعت، فهي تؤكد أن جميع أصابع الاتهام تشير إلى الاستعمار والملك، يدل على ذلك منطق الأحداث الذي يشهد أن الشريكين كانا يواجهان ثورة شاملة، وأنهما الوحيدان اللذان كسبا من الكارثة، ولو إلى حين.١١١

•••

من المؤكد — في تقدير محمد أنيس — أن الذين خططوا لحريق القاهرة، وباشروا تنفيذه هم الجهة الأكثر كسبًا من هذا الحريق، أي الإنجليز،١١٢ ذلك لأن «تصاعد عمليات الفدائيين المصريين في منطقة القنال، خلال شهر يناير، يشير بوضوحٍ إلى اتجاه أصابع الاتهام نحو بريطانيا في حريق القاهرة، لأننا يجب ألَّا ننسى أن السبب الرئيس في الحريق هو وضع حدٍّ لحركة الفدائيين المصريين في القنال ضد قوات الاحتلال البريطاني.»١١٣
ويدلل فؤاد سراج الدين على اتهامه للإنجليز بأنهم كانوا وراء أحداث الحريق، بما قاله علي ماهر — الذي تولَّى رئاسة الوزارة في أعقاب إقالة الوزارة الوفدية — في معرض التقليل من المعارك التي كان يشنُّها الفدائيون ضد الوجود البريطاني في منطقة القناة: «تستطيع بريطانيا أن تفتعل حادثًا ما في القاهرة، أو في أي مكان في مصر، وتتخذه ذريعة لإقالة الوزارة الوفدية، واستدعاء شخصية مصرية أخرى لتولي الحكم بعد مصطفى النحاس.»١١٤
في رواية الفنان (١٩٥٢) أن بعض الإنجليز خمنوا أن أصابع الجنرال إرسكين واضحة وراء أحداث الحريق. يضيف إلى أدلة الاتهام ما قيل من أن موظفي الشركات الإنجليزية غادروا مكاتبهم قبل الحريق بثلاث ساعات، وأُقفِلت أبواب تلك الشركات في العاشرة والربع صباحًا، وأن بنك باركليز نقل دفاتره — قبل الحريق بيوم — من فرع قصر النيل إلى فرع الموسكي، وهو ما أتاح للبنك أن يفتح أبوابه للعملاء في اليوم التالي للحريق. كذلك فقد ترك المدير الإنجليز لسينما ريفولي رسالة للمدير العربي يبلغه فيه بموعد لقاء في السينما، في الحادية عشرة صباحًا، لكن الرجل لم يحضر في الموعد، وتثبت سجلات فندق «شبرد» أن اثنين من الإنجليز حضرا قبل الحادث بيومين، ثم اختفيا يوم الحادث. وهناك شخص إنجليزي اسمه جمال الدين ألدن، أسلم، وتزوج مصرية، ويتكلم العربية بطلاقة، ويُعَد من أنشط عملاء المخابرات البريطانية، وقد شوهد مندسًّا وسط المتظاهرين.١١٥
وثمة ملاحظة تتصل باﻟ «ترف كلوب» الذي كان يزدحم ظهر كل يوم بالأعضاء — من ٤٠ إلى ٥٠ عضوًا — لكن عدد من كانوا فيه يوم الحريق لم يزد عن ١٠ من المتقدمين في السن، ربما لأنهم لم يحذروا.١١٦
أما جمال حماد، فقد اتهم الملك بالتآمر مع الإنجليز في تدبير أحداث اليوم الأسود، الأمر الذي أتاح — في تقديره — «تحقيق الغرض الذي استهدفه من تدبيره، وهو التخلص من حكومة الوفد، والقضاء على حركة التحرر الشعبي التي كانت على وشك أن تجني ثمارها بإرغام الإنجليز على الجلاء عن منطقة قناة السويس.»١١٧ وهذا هو ما توصل إليه لويس عوض في قوله، إن الملك والإنجليز كانوا أصحاب مصلحة في الإطاحة بالنحاس بعد إلغاء المعاهدة.١١٨
وعلى الرغم من الكلمات التي كتبها موظف المخابرات البريطاني كريسويل في تقرير له بأن الأمور كانت «على شفا الكارثة في ٢٦ يناير، وإذا ما وصلت الجماهير يومئذٍ إلى قصر عابدين لتحققت ثورة على الطريقة الكلاسيكية.»١١٩ وهي كلمات تنفي مسئولية الإنجليز عن الحريق، فإن معظم الإدانات تتجه نحو الإنجليز والملك. إنه — أي الملك — «ركن أصيل في المؤامرة، يحبس كبار ضباط الجيش عن القيام بواجبهم في ضرب الفتنة، ويأمر البوليس السياسي، الخاضع له، بشل أية حركة يمكن أن تقوم بها قوات الشرطة لمواجهة الموقف.»١٢٠ وقال رجل من الذين اقتيدوا للتحقيق (رجال في العاصفة): «أنتم لن تحاكمونا، لن تستطيعوا، لن تستطيعوا أن تحبسونا، الذين حرقوا البلد هم الملك وأعوانه والإنجليز.»١٢١
اللافت أن مجلس الوزراء كان قد أصدر قرارًا — في ١٤ يناير ١٩٥٢م — بإلغاء جمعية «إخوان الحرية» التي أنشأها الإنجليز في مصر لتنفيذ مخططاتهم، بعد أن قدَّم عبد الفتاح حسن وزير الشئون الاجتماعية تقريرًا يتهم فيه هذه الجمعية بإحراق كنيسة السويس يوم ٤ يناير ١٩٥٢م، وكانت تلك ضربة خطيرة إلى نشاط الإنجليز في مصر، في وقتٍ كانت الخطط تُوضَع لقيام الجمعية بدورٍ يتفق مع محاولة تغيير الأوضاع المتردية بالنسبة لإنجلترا في المنطقة.١٢٢
إذن، فلم يكن المقصود بمذبحة ٢٥ يناير — شأن الاستفزازات السابقة — تحدي الحكومة الوفدية، واحتلال مواقع جديدة أو ما شابه ذلك، إنما كان المقصود بها تهيئة مسرح العاصمة لأحداث اليوم التالي.١٢٣

ويشير كمال رفعت إلى أن النحاس قدَّم استقالته في الرابعة مساء، لكن الملك — رغبة منه في أن يحمِّل حكومة الوفد تبعات الحريق — رفض الاستقالة، فأصدر مجلس الوزراء — في الحادية عشرة مساء — قراراتٍ بإعلان الأحكام العرفية، ومنع التجول، واعتقال الفدائيين والقيادات الشعبية.

في اليوم التالي، أقال الملك حكومة النحاس بعد أن ورَّطها في أداء المهمة القذرة حتى النهاية١٢٤ «أسفنا أشد الأسف لما أصيبت به القاهرة أمس، من اضطرابات نتجت عنها خسائر في الأرواح والأموال، وسارت الأمور سيرًا يدل على أن جهد الوزارة التي ترأسونها، قد قصر عن حفظ الأمن والنظام، لذلك رأينا إعفاءكم من منصبكم.»١٢٥
يذكر راشد البراوي أن النية كانت متجهة إلى إقالة الوزارة الوفدية، فور وقوع الأحداث، لكن الملك قرر الانتظار حتى تنتهي من الأعمال القذرة، مثل إعلان الأحكام العرفية، وحظر التجول، واعتقال أعداء السراي … إلخ، ثم بعث إليها بكتاب الإقالة.١٢٦
ولعل ما يؤكد الدور المشبوه الذي لعبه كلٌّ من الإنجليز والسراي، أو هما معًا ما أثير من أن حكومة الوفد كانت قد حددت ٢٦ يناير موعدًا لقطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا، وموعدًا لبدء المفاوضات مع الاتحاد السوفييتي من أجل علاقات دبلوماسية أكثر تقدمًا.١٢٧

•••

لم يكن أمام الاستعمار سوى أحد سبيلَين: أن يذهب بقواته لاحتلال القاهرة، أو أن يحرِّض على إجراء انقلاب عسكري بواسطة الملك وعملائه. وكانت العقبة أمام السبيل الأول أن التقدم صوب القاهرة كان معناه مواجهة احتمال الحرب الشعبية الشاملة. أما السبيل الثاني، فقد كانت العقبة أمامه أن الانتماء للثورة أصبح سِمة الغالبية العظمى من ضباط الجيش، وكان عدد كبير منهم يقودون المعارك في القناة. ولم يكن أمام الاستعمار بالتالي إلا أن يفتش عن وسيلة أخرى، أشد غدرًا وتأثيرًا، للقضاء على حركة الفدائيين في القناة، وحركة الجماهير في الداخل، وإضعاف روح المقاومة عمومًا.١٢٨
لعل في مقدمة العناصر الظاهرة التي تبيِّن عن أصابع الإنجليز في حريق القاهرة، نصيحة الجنرال أرسكين لأصدقائه من الإنجليز المقيمين في القاهرة، بمغادرتها قبل ٢٦ يناير بأيامٍ قليلة.١٢٩
اللافت أن الإنجليز كانوا قد أقاموا معسكرًا خاصًّا في كسفريت، معزولًا عن العالم الخارجي، يتبع مباشرة قسمًا خاصًّا بالمخابرات البريطانية اسمه Freelance Intelligence. ضم هذا المعسكر خليطًا من المغامرين والقتلة والمجرمين المحترفين، يقومون بتدريباتٍ على أعمال العنف والنسف والتخريب والتجسس، وكان من المحظور تمامًا دخول أحد إلى المعسكر، أو الخروج منه. وكما يقول سعد زهران: «وما كان نزلاء هذا المعسكر العجيب ليقبلوا تلك الحياة الإنسانية الغريبة، لولا أن أحكام الإعدام، أو تأبيدات الليمانات، أو انتقام المخابرات، تنتظرهم في خارجه.»١٣٠ وثمة رواية أن مالطيًّا ضُبِط وهو يقود سيارة لوالده الذي يشتغل بالسفارة البريطانية، وكانت هذه السيارة تنقل بعض الأشخاص الذين أسهموا في إشعال الحرائق.١٣١
اللافت أيضًا أن المادة التي استُخدمَت في إشعال الحرائق، هي نفس المادة التي ألقتها الطائرات الإنجليزية والفرنسية على بورسعيد في نوفمبر ١٩٥٦م.١٣٢

•••

محمد عودة يوجِّه اتهامه إلى جماعة إخوان الحرية، إنهم «بلا شك، وبكل الفوائد التي جنيت، أول المشبوهين.»١٣٣
يصف الفنان (العنقاء) إخوان الحرية بالخدم، وأنهم كانوا «مجرد ركيزة من ركائز الحلفاء، حين كانت الحرب دائرة، ولم يعُد لوجودهم الرسمي مبرر، أو حتى إمكانية بعد الحرب عندما اشتد الشعور الوطني ضد الإنجليز إلى درجة الغليان.»١٣٤

أنشأت هذه الجماعة في ١٩٣٢م إنجليزية اسمها مس فريا ستارك، بهدف نشر تفسيرات واضحة للديمقراطية، والتنبيه على أخطار الديكتاتورية، وخاصة في النظام الشيوعي، ولم يقتصر نشاطها على مصر فقط، لكنه شمل أقطارًا عربية عديدة من بينها العراق وفلسطين وإمارات الخليج.

ضمَّت الجماعة في مصر — ١٩٥٢ — أكثر من ستة آلاف عضو، وتمركزت في فترة ما قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية في آداب القاهرة، حيث كان يرأس قسم الأدب الإنجليزي مستشرق بريطاني، هو البروفسور «سكيف»، الذي استطاع أن يجنِّد عددًا كبيرًا من طلاب القسم لجماعة إخوان الحرية، أتاح لهم الإنجليز — بعد التخرج — مواقع مهمة في الشركات الإنجليزية، أو الخاضعة لنفوذ الإنجليز، مثل شركة شل، والمكتب الدولي لتوزيع الشاي، وغيرها.

عندما انتهى الوجود الإنجليزي المعلَن داخل مؤسسات الدولة، كان أعضاء الجماعة هم المسيطرين على مراكز الإدارة العليا، وصار لها فروع ووكلاء في المدن والقرى المختلفة، وكان النشاط الثقافي من أبرز أنشطتها، فقد امتلكت مطبعة في شارع محمد علي، وأصدرت نشرة دورية، كما اصطنعت مشروعات للعديد من الكُتاب، وأتاحت لهم تسهيلات من خلال مطبعتها.

أما رئيس الجماعة في عام الثورة، فهو الإنجليزي «فاي»، يقابله رئيس مسلم هو الشيخ الزواوي، الذي أعدَّه الإنجليز — فيما يبدو — لمواجهة الشيخ البنا في جماعة «الإخوان المسلمين»، بل إن الجماعة — في بعض الاجتهادات — كانت هي المقابل لجماعة «الإخوان المسلمين»، وهي قد أنشئت لمناهضتها.١٣٥

وفي مايو ١٩٥١م بدأت جريدة «الجمهور المصري» حملة واسعة على جماعة إخوان الحرية، واتهمت الجماعة بأعمال الجاسوسية، وصدر قرار حكومة الوفد بحل الجماعة، وقبض البوليس السياسي على عددٍ كبيرٍ من أفرادها.

تواصلت حملة «الجمهور المصري» إلى نشوب حريق القاهرة، وفرَّ الشيخ الزواوي — تحت تأثير هذه الحملة — إلى خارج مصر، حيث رتبت له المخابرات البريطانية منصب المفتي في أحد البلدان الآسيوية. وتبين من سجلات الجماعة التي حصلت عليها حكومة الثورة، أنها ضمَّت ٥٠ ألف اسمٍ من المصريين.١٣٦ وقد أكد سيد عشماوي — في دراسة له عن إخوان الحرية — أن الشبهات قوية جدًّا، بل تكاد تكون مؤكدة، إنها المسئولة عن حريق القاهرة «ويكفي أنه من الثابت أنها كانت تعمل لحساب المخابرات البريطانية.»١٣٧
في شهادته أمام القضاء، تحدث عبد الفتاح حسن — وزير الشئون الاجتماعية في حكومة الوفد — عن الأيدي المدبِّرة للحريق، وأكد أن جماعة إخوان الحرية هي التي دبرت الحادث، وخططت له، مستهدفة القضاء على المد الثوري الشعبي، وإقالة وزارة الوفد من الحكم … وأن السراي تعاونت مع أفراد الجماعة في تحقيق كل ذلك المخطط، وهو ما تمثَّل في مأدبة قصر عابدين ظهر يوم ٢٦ يناير ١٩٥٢م، التي دعا إليها فريقًا كبيرًا من ضباط الجيش والبوليس، دون أن يُستثنى مأمور قسم واحد من تلك الدعوة. وأضاف عبد الفتاح حسن أن إهمال بعض المسئولين عن الأمن وبعض قيادات الجيش، قد ساعد على تفاقم الحالة. وأكد — ختامًا — أن أحمد حسين لم تكن له يد في تلك الحوادث.١٣٨

•••

هل كان الحريق جزءًا من مخطط أمريكي؟

يجيب إحسان عبد القدوس: «لا … أنا أعتقد أن إدخال أمريكا في الموضوع هو افتعال متعمد، أمريكا لم يكن لها دخل بحريق القاهرة … فلماذا؟ وما الذي تستفيده أمريكا؟ الإنجليز موجودون، ولم تكن توجد ثورة ضد أمريكا في مصر. كانت العناصر المعادية للأمريكان محدودة، ولا تشكِّل خطرًا عليهم، فلا أعتقد أن أمريكا، ولا حتى الملك اشتركوا في الحريق، وأنا أركز على الإنجليز … لا يمكن أن تكون هناك جهة مستفيدة أكثر من الإنجليز أنفسهم، لأننا كنا أيامها قائمين بحركة كفاح مسلح في القناة. كانت المعسكرات الإنجليزية تهاجم، واستطعنا أن نُتعِب الإنجليز جدًّا، وكان من عادة الإنجليز، أو السياسة الإنجليزية في مصر، أنهم في كل حدث كبير يحاولون إثارة البلد بمشكلة جديدة، بحيث ينشغل الناس عن التوجه ضدهم.»١٣٩
أما محمد صلاح الدين وزير خارجية الوفد، فقد كان رأيه أن أصابع الاتهام تشير إلى الولايات المتحدة بتدبير الحريق، وإن ذهب إلى أن «الأمريكان — بمخابراتهم الواسعة — شاركوا في حريق القاهرة لحساب الملك.»١٤٠ وأشار محمد صلاح الدين — في حوار آخر — إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي المتهم الأول في إحراق القاهرة، وأنها كانت المحرك الأول للأحداث التي جرت قبل وبعد الحريق، لأنها أرادت أن تصفي النظم الديمقراطية في مصر حتى يتسنى لها ضرب الحركات الوطنية،١٤١ كما أن واشنطن أخذت على حكومة الوفد امتناعها عن التصويت في مجلس الأمن إلى جانب حكومة الولايات المتحدة في مشكلة كوريا، كانت توجيهات مصر لمندوبها في الأمم المتحدة أن المشكلة لا ناقة لنا فيها ولا جمل، وأنه يجدر بنا ألَّا نزج بأنفسنا في نزاعاتٍ دولية، تلهينا عن مشكلتنا في طلب الاستقلال الكامل. وأشار صلاح الدين — في الوقت نفسه — إلى حرص أمريكا على تصفية اليسار المصري، وهو ما تبدَّى في المبادرة باتهام الشيوعيين بأنهم هم الذين أحرقوا القاهرة،١٤٢ والدليل، تلك الملصقات التي عُلقَت على جدران المباني بالقاهرة، مساء ٢٥ يناير، وصباح ٢٦ يناير — أي قبل أن تشتعل الحرائق — وعليها عنوان «الشيوعيون فعلوا هذا»، وبها صورة لرجلٍ يحمل شعلة للإحراق، وهو أسلوب تتسم به — في الأغلب — عمليات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.١٤٣
الرأي نفسه يذهب إليه إبراهيم فرج — الوزير الوفدي — وأن الأمريكان — بمخابراتهم الواسعة — قد شاركوا في حريق القاهرة لحساب الملك،١٤٤ وضد الوفد: «أعقب إقالة حكومة مصطفى النحاس — بعد هذا الحادث — حكم فاسد فاشل، حسبوا فيه أنهم يقضون على ثقة الأمة بالوفد. وكان السفير الأمريكي جيفرسون كافري هو محرك الدُّمى المصرية التي استُخدمَت لتحقيق هذا الهدف الإجرامي.»١٤٥

•••

من كان وراء الشعارات التي أُلصقَت في اليوم التالي، على البنايات المحترقة، وكُتِب عليها «الشيوعيون فعلوا هذا»؟

واضح أنها جهة يقف نشاطها في المقابل من نشاط الشيوعيين، ولعلها إخوان الحرية التي كانت تابعة للمخابرات البريطانية.

لكن التهمة بإحراق القاهرة لم تُوجَّه إلى الشيوعيين، ذلك لأنه قد أُلقي القبض عليهم في منازلهم، بينما وُجِّه الاتهام إلى رئيس الحزب الاشتراكي وعدد من أعضائه، لأنهم كانوا في الشارع عند وقوع الأحداث، ليتعرفوا — كما قالوا — إلى طبيعة التطورات، أو ليحرضوا — كما قال قرار الاتهام — على تفاقم الأحداث التي دبروا لها.

يشير إبراهيم طلعت في مذكراته إلى اتهام عبد الناصر للإخوان المسلمين، بأنهم كانوا الأداة المنفذة لأحداث الحريق، وأكد أن الإخوان رفضوا — منذ البداية — مبدأ الكفاح المسلح، وقال الهضيبي — زعيم الإخوان — علِّموا أولادكم الدين قبل محاربة الإنجليز، وقال الشيخ فرغلي قائد الجماعة في الإسماعيلية: إن على النحاس أن يجني ثمار حماقته وحده لإلغائه المعاهدة.

اتهم عبد الناصر أعضاء الجماعة، بأنهم كانوا وراء إحراق كنيسة الأقباط بالسويس، وهي الحادثة التي كادت تؤدي إلى فتنة طائفية مدمرة. أما حريق القاهرة، فقد كان نتيجة تواطؤ بين الإنجليز والملك، واستغل الإخوان لتنفيذ هذا المخطط، وكان قائد جنود بلوكات النظام الذين خرجوا في مظاهرات، ضابطًا من الإخوان المسلمين، اسمه عبد الهادي نجم.

أما الجهاز السري للجماعة، فقد أفاد — كما يروي معارضو الجماعة — مما لديه من أسلحة لبدء الحرائق في كازينو أوبرا، باعتباره وكرًا من أوكار المعاصي، ومن الكازينو انتقلوا إلى المحال العامة ودُور السينما والبارات والفنادق والبنوك، يشي بتدخلهم غلبة المسحة الدينية على الزي الذي كان يرتديه عدد ممن شاركوا في الحوادث، وعلى عمليات الحرق والتدمير، فقد تركز معظمها في دور اللهو، بالإضافة إلى العبارات التي كان يرددها قادة المتظاهرين، مثل: الله أكبر … أحرقوا محل الكفار … إلخ.١٤٦
أكد عبد الناصر أن قادة الإخوان استغلوا «أن أحمد حسين ركب مع بعض أعوانه سيارة كان يتفقَّد بها الحالة، فأشاعوا أنه ورجاله هم الذين أحرقوا القاهرة، وحرضوا على ذلك، وساندهم أن جريدتهم [الاشتراكية] كانت تهاجم بعض المحال التي شملها الحريق.»١٤٧ وقال عبد الناصر إن «جميع المحلات والمباني التي احترقت يوم ٢٦ يناير قد تم حرقها بطريقة واحدة، بطريقة البودرة الحارقة … ولا يملك هذا السلاح إلا الجهاز السري للإخوان، حتى الجيش ما عندهوش هذه البودرة … أنا أعرف ذلك.»١٤٨

•••

يتحدث رفعت السعيد عن حملات الاعتقالات الواسعة في المنصورة — حدثت بالطبع في مدن أخرى — والتي سبقت إعلان نبأ الحريق، وإعلان الأحكام العرفية١٤٩ مما يلقي ظلالًا داكنة على دور البوليس السياسي.
الاتهام يوجِّهه جمال سليم إلى البوليس السياسي: «استمعت إلى شهود الحادث من جديد، وقرأت الوثائق التي لم يُقدَّر لها أن ترى النور، ورأيت أصابع البوليس السياسي في كل حريق: في الأوبرا، وفي سينما ريفولي، وفي بنك باركليز — الإسكندرية الآن — رأيت هذه الأصابع تحت رماد القاهرة المحترقة.»١٥٠ ويوزع الكاتب اتهامه أيضًا على الولايات المتحدة وبريطانيا والرجعية المصرية والسراي وعملائها.
لكن معظم المصادر، وأقوال غالبية الشهود، أكدت أن اللواء إبراهيم إمام رئيس القلم السياسي أدى دورًا سلبيًّا للغاية في مواجهة الأحداث، أو أنه أدى دورًا إيجابيًّا في تحريكها.١٥١
نسب إليه وزير الداخلية فؤاد سراج الدين أنه صاحب الأمر بعدم تفريق المظاهرات، مخالفًا للوزير، وأن جميع موظفي الداخلية وغيرها قرروا أنهم شاهدوه — اللواء إمام — في مناطق مختلفة، وأنه نصح مدير «أجانس فورد» بنقل سياراته، مما يدل على أنه كان على علمٍ سابق بما حدث. مع ذلك، فإنه لم يحاول تقديم معلومات من أي نوعٍ لتنبيه الحكومة إلى الحدث المتوقع، وأكد سراج الدين أن النائب العام أغفل كل تلك الوقائع في تحقيقه مع اللواء إمام، كما لم يستدعِ الأشخاص الذين ذكرهم سراج الدين بالاسم.١٥٢
كان المتوقع أن تقع بعض المظاهرات الطلابية، فأُعلنَت حالة الطوارئ منذ الصباح الباكر، وتكرر صدور التعليمات بتفريق المتظاهرين، ورابطت قوات كبيرة من الجنود أمام المعاهد والمدارس لمنع المظاهرات المتوقعة، لكن التعليمات التالية التي أصدرها اللواء إمام بالسماح بالمظاهرات، هي التي أتاحت تنفيذ المخطط المرسوم سلفًا،١٥٣ وقيل إن حملة اعتقالات بدأت في الإسكندرية قبل أحداث الحريق بأربع وعشرين ساعة، بل إن بعض ضباط البوليس السياسي سحبوا أموالهم من البنوك تخوفًا من فشل مؤامرة الحريق.١٥٤ وعندما دُعيَت قيادات الشرطة إلى المأدبة الملكية، حضرها مأمورو الأقسام فما فوق، لم يتخلف سوى اللواء إمام، الذي علم بحريق الأوبرا، فانتقل إليه، ثم اللواء مراد الخولي حكمدار العاصمة الذي لحق به، ثم لم يعودا إلى المائدة.١٥٥
يروي أحمد مرتضى المراغي، الذي تولى وزارة الداخلية في وزارة علي ماهر التي أعقبت إقالة وزارة الوفد، أن القسم السياسي حاول أن يلصق تهمة إشعال الحريق بالحزب الاشتراكي وحده، فقد تقدم إليه رئيس المباحث بتقريرٍ مدعم برسمٍ هندسي لبعض أحياء القاهرة، وأسهمٍ تشير إلى مواقع بعض الأبنية، يصحبه رسم آخر عن قنابل حارقة ومعاول لم أرَ لها مثيلًا من قبل، «أما التقرير فيشير إلى الرسوم الهندسية لأحياء القاهرة والأماكن المُشار إليها بأسهمٍ لحرقها، والصور الموجودة في الرسم الآخر للقنابل الحارقة، والمعاول وُجدَت جميعها في دار الحزب الاشتراكي، وكان يُسمَّى من قبل: مصر الفتاة، وهذا الحزب يرأسه أحمد حسين المحامي. أخذت أقلِّب الرسمَين، فوجدت الافتعال واضحًا فيهما، إنهما مطبوعتان بالزنكوغراف، ولما كنت أعرف خبيرًا أجنبيًّا في الزنكوغراف، كنت أستعين به حين كنت مديرًا للأمن العام، فاستدعيته. ولما اطَّلع على الرسم، قال إن رسم الزنكوغراف لا يمكن أن يكون قد تم بواسطة خبير في المباني، أو في المفرقعات، وأنه يظن أنه يعرف أن المطبعة التي طُبِع فيها الرسمان، وهي مطبعة بسيطة جدًّا في زقاقٍ من حي الفجالة بالقاهرة، طلبت من النائب العام أن يتولى التحقيق، فأرسل أحد وكلاء النيابة إلى المطبعة، وأجرى تحقيقًا انتهى إلى أن أحد ضباط القسم السياسي في محافظة القاهرة هو الذي حمل الرسم إلى المطبعة، وطبع هذه الوثيقة الزائفة. أصبح السؤال الكبير هو: لماذا يريد البوليس السياسي أن يُلقي التهمة على الحزب الاشتراكي وحده؟!»١٥٦
فؤاد سراج الدين يهبنا رواية تتهم البوليس السياسي بالوقوف وراء أحداث ذلك اليوم، فقد أصدر إبراهيم إمام أمرًا إلى مساعدي الحكمدار ومفتشي البوليس — صبيحة ٢٦ يناير — بعدم تفريق المظاهرات، مخالِفًا بذلك التعليمات الصريحة الواضحة من وزير الداخلية. يضيف سراج الدين: «علمت أن الحكمدار مراد بك الخولي كان قادمًا حوالي الساعة ١١ صباحًا من شارع إبراهيم باشا، فرأى مظاهرة تسير، والبوليس لا يفرِّقها، فدهش للأمر حيث إن التعليمات تقضي بالتفريق، وسأل الحكمدار مساعده صادق بك لمعي عن سبب عدم تفريق المظاهرة، فقال المساعد إن إمام بك أمر بعدم تفريق المظاهرات في ذلك اليوم، كما علمت من المحافظ بالنيابة بعد الحوادث، أن عبد العزيز بك علي مفتش فرقة ب أخبره أنه رأى ميدان عابدين ممتلئًا بالمتظاهرين، ولمَّا أراد تفريقهم قيل له إن إمام بك أمر بعدم تفريق المظاهرات، كما قُدِّمت إلى مذكرة من زكريا أفندي راشد عما شاهده من أن حوادث ذلك اليوم تنطق بوضوحٍ بالموقف الزري المريب الذي اتخذه إمام بك في ذلك اليوم.»١٥٧
في شهادته، قال العميد محمد حلمي صديق — الملازم أول يوم الحريق — إن اللواء إمام لم يستمع إلى اقتراحه بضرورة مقاومة المخربين بحزم، وإنه — اللواء إمام — تراخى في مواجهة عمليات التدمير، مما أتاح انتشارها. وذكر أبو الخير نجيب رئيس تحرير جريدة «الجمهور المصري» أنه شاهد اللواء محمد إبراهيم إمام يقف في موضعٍ بالقرب من سينما ريفولي وقت احتراقها، وأنه لم يحاول التدخل. أما الدكتور عزيز فهمي، فقد أشار في شهادته أمام المحقق، إلى أن أفراد البوليس السياسي ظلُّوا يتابعون إشعال النار في «الترف كلوب»، وعلى وجوههم إمارات الرضا عما يحدث.١٥٨

•••

الثابت تاريخيًّا أن البوليس السياسي، والأجهزة الأمنية الحديثة بعامة، قد أنشأتها سلطات الاحتلال البريطاني، وقد تمصَّرت تلك الأجهزة فيما بعد، لكنها لم تتخلص من مرض العداء للجماهير.١٥٩
كانت حادثة إطلاق إبراهيم ناصف الورداني الرصاص على بطرس غالي، هي بداية الاغتيال السياسي في مصر، وهي أيضًا باعث إنشاء جهاز البوليس السياسي (مباحث أمن الدولة بلغة الفترة التالية) فقد أنشئ مكتب الخدمة السرية بقيادة ضباط إنجليز لمراقبة الأنشطة السياسية داخل البلاد. تغيَّر اسم المكتب — فيما بعد — إلى القلم المخصوص، والقسم السياسي، والفرقة ب، والإدارة الأوروبية نسبة إلى رئيسها الإنجليزي.١٦٠
يقول ملن شيتهام مستشار الداخلية ونائب المعتمد البريطاني إلى لورد جراي وزير الخارجية البريطانية في ٢٣ يونيو ١٩١١م عن ظروف إنشاء مكتب الخدمة السرية: «قبل مقتل بطرس غالي على يد إبراهيم الورداني، وما تواتر عن قيام تنظيمات للجمعيات السرية كان ينتمي إليها الأخير، فإن معلوماتنا عن هذه الجمعيات كانت قليلة، لذلك أصدرتُ — فور تعييني بنظارة الداخلية — أمرًا لهارفي باشا حكمدار بوليس القاهرة، أن يتم تنظيم مكتب خدمة سرية للنشاط السياسي، ليقوم بصفة خاصة بجمع المعلومات عن الجمعيات السرية، ويتولى مراقبتها. وقد بدأ هذا المكتب في ممارسة عمله منذ نحو ستة شهور، ويشرفني أن أرفق تقريرًا مبدئيًّا يعرض ما توصَّل إليه المكتب فيما يتعلق بالجمعيات السرية، ويلاحظ أن هذه الجمعيات كانت كثيرة العدد، وأن أعضاءها كانوا ينتمون إلى طبقة واحدة، هي الطلبة، وليس هناك أكثر من ثلاث أو أربع جمعيات تحتاج إلى النظر في أمرها بعناية، وسيواصل المكتب تحرياته، وآمل أن يجمع في فترة وجيزة، معلوماتٍ كاملة عن هذا الموضوع.»١٦١
كانت تلك هي بداية البوليس السياسي، ففي فترات السلم كان يراقب التحركات الداخلية المناهضة للاحتلال، ثم أضيفت إليه — بقدوم الحرب — حماية أمن جيش الاحتلال، وخطوط مواصلاته، ثم جعل البوليس السياسي نفسه في خدمة السراي والإنجليز، باعتبارهما المؤسستَين الثابتتين، أما الحكومات المتوالية فهي طارئة، يلبي البوليس السياسي أوامرها بقدر ما تعمل في خدمة السراي والإنجليز.١٦٢
الملاحظ أن التسمية التي ظلت تُطلَق على رجال البوليس السياسي — في أعوام ما قبل الثورة — «رجالة الصاغ»، لأن الصاغ (الرائد) إمام كان أول رئيس مصري لقسم البوليس السياسي في محافظة العاصمة. ويصف إحسان عبد القدوس إبراهيم إمام بأنه «كان يمثِّل — عن جدارة — ذراع الأخطبوط الإرهابي للسلطة المعادية للشعب، والرجل الذي أوقع بكل الثوريين الشرفاء قبل ثورة ٢٣ يوليو.»١٦٣ أما محمد الجزار، فقد «منحه القدر لقبًا معبرًا باستحقاق عن الدور الذي لعبه في حياة الشعب المصري طوال الأربعينيات، وحتى ٢٣ يوليو.»١٦٤

•••

كان أحمد قدري (المرايا) واحدًا من ضباط البوليس السياسي، شخصية مخيفة، نُسجَت حولها أساطير الرعب، واشتُهر عنه تعذيبه للشبَّان ذوي الاتجاهات السياسية، فهو يجلدهم، ويطفئ السجاير المشتعلة في جفونهم، ويخلع أظافرهم بآلات التعذيب.١٦٥
برَّر أحمد قدري تعذيبه للشبان الوطنيين، بأنه كان يفعل ذلك كوظيفة «عمل ليس إلا، له مقاييسه من الإتقان، وتقديره في حساب الواجبات العامة.»١٦٦
ولا شك أن الحياة التي اختارها أحمد قدري — منذ شبابه الباكر — هي التي أهَّلته للعمل في البوليس السياسي. كان يتردد على حي البغايا، في الوقت الذي كان شباب في مثل سنِّه يسقطون تحت سنابك الخيل وبالرصاص، في المظاهرات التي كانت تدعو إلى الاستقلال والدستور، وظلَّت تلك حياته بعد التخرج، وإن تغيَّرت طبيعة المغامرات. ثم بدأ حياة جديدة بالتحاقه بالبوليس السياسي؛ انقلب شخصية مخيفة، يعمل لها الوطنيون والعملاء ألف حساب، وتعرَّض لمحاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة، مع ذلك، فإنه رفض أن يتحمَّل مسئولية ما فعل. كان — في تصوره الشخصي — أداة وليس فاعلًا أصليًّا، و«من الخطأ أن نحمِّل السيارة تبعة ما حدث، التبعة تقع على السائق، أو الطريق، أو المصنع، أو الضحية نفسها، أما السيارة فلا ذنب لها!» وتساءل — بعد أن أصبحت وظيفته البشعة ماضيًا — لِمَ لم نعذب أحدًا في عهود الوفد؟ المسألة أنه يوجد نوعان من الحكومة، حكومة يجيء بها الشعب، فهي تعطي الفرد حقَّه من الاحترام الإنساني، ولو على حساب الدولة، وحكومة تجيء بها الدولة، فهي تعطي الدولة حقَّها من التقديس، ولو على حساب الفرد.١٦٧
كان اسم محمود الدباغ (في بيتنا رجل) شيئًا خطيرًا، رهيبًا، يقترن في أذهان الطلبة والمثقفين بالاعتقال والتفتيش والسجن والتعذيب، وكانوا يهتفون برأسه في كل مظاهرة.١٦٨

وحين قام محمود الدباغ بتفتيش بيت مصطفى زاهر، استعان الابن محيي بمعلوماته القانونية، وسأل الدباغ: حضرتك معاك أمر من النيابة بالتفتيش؟

فأجاب الرجل ببساطة: يا سيدي ما تدقش!

– إنما القانون بيحتم إن …

– هوه فيه قانون؟

– أيوة فيه قانون.

– عندكم بس … في الكلية … في كراسة المحاضرات … إنما البلد ما فيهاش قانون!١٦٩
كان سجن الأجانب يخضع للبوليس السياسي بصفة مباشرة، وبالذات فيما يتصل بالقضايا السياسية، فإذا صدر أمر من النيابة بالإفراج عن متهم ما في قضية سياسية، لا بد لإدارة السجن أن تستأذن البوليس السياسي قبل تنفيذ هذا الأمر، وكان لرجال البوليس السياسي أن يدخلوا ويخرجوا بدون إذن من النيابة.١٧٠
لجأ البوليس السياسي إلى استقطاب الطلبة — بمرتبات شهرية — لمراقبة أنشطة زملائهم،١٧١ كان شوكت المغربي (الشوارع الخلفية) أحد هؤلاء الذين اتصلوا بالبوليس السياسي، فوشى بالشيخ علي وميخائيل أفندي، وبزملائه، وتقاضى — مقابلًا لذلك — ثلاثة جنيهات.١٧٢ كذلك كان إحسان (الكهف) واحدًا من الذين بدءوا — منذ بداية حياتهم الجامعية — في تزويد البوليس السياسي بالمعلومات عن زملائه من الطلبة، واتجاهاتهم السياسية، وما يعدون له من إضرابات ومظاهرات، ثم آثر إحسان أن يمضي في الشوط إلى نهايته، فبدأ في الكتابة في الصحف، مدافعًا عن وجهات نظر السلطة الحاكمة، ومفندًا للاتجاهات الوطنية!١٧٣

أنصت يحيى (الشارع الجديد) إلى من يهمس في أذنه: ما رأيك في عمل لن يكلفك جهدًا، يدر عليك بعض المال الذي يمتعك بوجودك.

فقال يحيى في حماسة: هذه يدي، قُدني إليه الساعة.١٧٤
ووجد يحيى نفسه في موضع التجربة، عندما حضر اجتماعًا طلابيًّا تقرر فيه الإضراب في اليوم التالي، سار يبحث عن تليفون بعيد عن الكلية، لكنَّ صوتًا تعالى في أعماقه: خائن … خائن … وغمره شعورٌ بالارتياح وهو ينكص عائدًا، وقد حسم أمره.١٧٥
ويُدين أحد الكُتاب البوليس السياسي والسراي في عمل خياني، حين اشتركا في «تهريب» الصهاينة الذين قُبِض عليهم في أثناء حرب ١٩٤٨م.١٧٦
وعلى الرغم من الإطار الذي تحددت في داخله صورة ضباط البوليس السياسي، فقد كان من بين أفراده من انحازوا إلى وطنيَّتهم. الضابط كمال الصفطاوي (الشوارع الخلفية) — على سبيل المثال — كان يحرص على شرب سيجارة المصري أفندي، وهي نوع من السجاير لا يدخنه غير الشباب الذين يتحدثون دائمًا عن الحرية والدستور والاستقلال.١٧٧

يواجهه شكري عبد العال بالسؤال: لكن يا ابني، هل انت عارف انت بتخدم مين دلوقت؟

يتذكر الضابط الشاب تلك المظاهرات التي كان يشارك فيها وهو طالب في الخديوية الثانوية، يهتف بسقوط الإنجليز وحياة وادي النيل. لكن الأيام فرضت على حياته تغيُّرًا مؤكدًا وعميقًا، أصبح راسل باشا — حكمدار العاصمة — أشد ما يخيفه، وهو لا يفكر في التمرد على الإطلاق، ذلك لأن مجرد التفكير في أنه قد يفقد مرتبه، يزعجه. إن مرتبه يكفي بالكاد قيمة الأدوية التي يعالج بها أمه المصابة بالشلل بعد موت أبيه، بالإضافة إلى إعالته لأخ في المدرسة الحربية، وأخ ثانٍ في المدرسة السعيدية، وأخت أرمل مات زوجها، ولم يترك لها إلا الفقر وطفلين. إنه يقترض إلى جانب مرتبه ليواجه النفقات المتزايدة، ومن ثَم فإن أعماقه تهمس وهو ينظر إلى شكري عبد العال الذي واجهه بالسؤال القاسي: «أنت يا حضرة الصاغ شكري عبد العال رجل آخر، وأنا أنحني أمامك الآن إكبارًا لك. في أيامك، ضربتَ رئيسك الإنجليزي ولم تبالِ، من يدري ماذا كانت ظروفك؟ ربما لم تكن لك وقتها أمٌّ يقتلها — فجأة — أن يتأخر عنها الدواء! إنك لم تجرب هذا العذاب الذي أعانيه كل شهر، عندما أتحسس حساباتي لأوفر أولًا ثمن الدواء لأم ربما ماتت أمام عيني، لو لم يكن لنا بيت بعناه.»١٧٨
مع ذلك، فإن كمال لم يفقد ذاته تمامًا، فهو يكتفي بتأكيدات سكان البيت أن عبد الحي لا يخفي في شقته منشورات، أو مطبوعات، مناوئة لنظام الحكم، ثم يهمس لعبد العزيز قبل أن ينصرف: «اسمع يا عبد العزيز … عبد الحي طالع النهاردة في الغالب، هو وكل الطلبة اللي قبض عليهم في جريدة الجهاد، أنا أعتقد كده، لكن كلهم حيظلوا تحت المراقبة، والإفراج عنهم حيكون مجرد مصيدة لغيرهم.»١٧٩

ويبلغ تعاطف كمال مع الحركة الوطنية ذروته، في استطاعة جنوده اللحاق بعبد الرافع ورفاقه وهم يحاولون الفرار.

تأهَّب الجنود بالفعل، وشرعوا البنادق بالسونكي إلى شوقي وسعد، بينما التصق بقية الزملاء بالحائط يمسكون أنفاسهم، لكن الضابط الشاب ابتسم، وتابع سيره وهو يهز رأسه صائحًا في الجنود: «مش هم دول، مش معقول يهربوا من هنا، حا يطلعوا إزاي من الباب الورَّاني ده؟ يظهر إنهم لسة في الشقة ما لحقوش يهربوا، قدامي يا عسكري أنت وهوَّه على شقة عبد الرافع.»١٨٠ ويقول له شكري عبد العال: «أنا فخور بمعرفتك يا ابني، أنا صحيح تشرَّفت بمعرفتك، برضه البلد لسه فيها خير كتير، على رأي أمير الشعراء المرحوم شوقي بيه: وبورك في الشباب الطامحين.»١٨١
توَّج كمال الصفطاوي سلسلة مواقفه الوطنية، بالزواج من سميرة بنت شكري عبد العال، الضابط الذي أحيل إلى الاستيداع بسبب مواقفه الوطنية، رغم التأويلات التي قد يفسر بها رؤساؤه هذا الزواج، بل ورغم المتاعب التي قد يعانيها منه.١٨٢

•••

هل حدث الحريق بتدبير من الضباط الأحرار؟

يجيب فؤاد سراج الدين على السؤال: «أنا لا أوافق على هذا الرأي، لأنه من الضروري أن نتساءل عن الهدف، أو النتيجة التي كانوا يريدون الحصول عليها من هذه الحوادث، قلب نظام الحكم مثلًا؟ بعد الحريق، وفي نفس اليوم، أعلنَّا الأحكام العرفية، والبلد كلها، بما فيها القصر والوزارات ومحطة الإذاعة، كانت تحت حراسة الجيش، وكانت قواته تحتل الأماكن الهامة كلها، فلماذا لم يقلبوا نظام الحكم، ويستولوا على الحكم، وقد كان في أيديهم فعلًا؟!»١٨٣ ويقول صلاح نصر: «كان حريق القاهرة مفاجأة تامة لتنظيم الأحرار، ولم يكن حتى في مقدوره حينئذٍ أن يقوم بمثل هذا العمل.»١٨٤
لكن مؤرخ الإخوان حسن العشماوي يرى في اتهام السفارة البريطانية أو الملك، نوعًا من الدعاية،١٨٥ ويؤكد العشماوي أن مادة اﻟ ت. ن. ت. التي استُخدمت في إشعال الحرائق، يصعب الحصول عليها في مصر إلا من مخازن الجيش، وأن عبد الناصر هو الذي كان يحتفظ بها،١٨٦ وكانت الأسلحة والذخائر والمواد الناسفة والحارقة التي أعلن ضبطها في يناير ١٩٥٤م هي المتبقية من أحداث الحريق.١٨٧
الرأي نفسه يذهب إليه أحمد أبو الفتح، فضباط عبد الناصر — على حد تعبيره — كانوا منغمسين في الحريق بواسطة المواد الحارقة والناسفة، فلما تمت المؤامرة على النحو الذي أرادوه، تخلصوا من صناديق المواد الناسفة والحارقة في أقرب منزل يعرفون صاحبه، لم يمنعهم من ذلك غياب صاحب البيت، فتركوا «الصناديق» لزوجته، واختفوا.١٨٨
يتحدث إبراهيم طلعت عن الشائعات التي ترددت عن قيام الضباط الأحرار — وعلى رأسهم جمال عبد الناصر — بحرق القاهرة، سعيًا للقيام بانقلابٍ في ظل منع التجول الذي فُرض بعد الحريق، والذي أشرف عليه الجيش.١٨٩

وفي دراسة لسهير إسكندر تثير ملاحظة أن «حريق القاهرة هو الحدث الوحيد الذي لم تحققه الثورة، رغم أنها حققت جميع القضايا»، وتؤكد الباحثة أن من وسائل إخفاء معالم أي جريمة، أو عدم جدية التحقيق بشأنها، أو الرغبة في الوصول إلى نتائج مسبقة، هو إحالة القضية إلى جهاتٍ خاصة كالقضاء العسكري، أو إلى جهات سياسية للتحقيق مثل لجنة برلمانية أو شخصية سياسية، مثل سليمان حافظ.

ومن الثابت أن سليمان حافظ الذي أوكل إليه نظر القضية، قد لعب دورًا خطيرًا في ترسيخ التقاليد الديكتاتورية في أوساط الثورة، وأنه كان معاديًا للوفد بشكلٍ خاص، وهو مَن دُبِّرت ضده هذه الجريمة أساسًا.١٩٠
في المقابل، فقد اتهم عبد الناصر الإخوان المسلمين بجريمة الحريق «حرقوا القاهرة علشان يحكموا، ولما ما قدروش دبُّوا الراجل الطيب — يقصد أحمد حسين — علشان يتشنق لهم، وعلشان كده إحنا أفرجنا عنه، وحفظنا القضية.»١٩١ وأشار عبد الناصر إلى معركة القوات البريطانية مع جنود الأمن بالإسماعيلية في اليوم السابق، وكيف أن قواتهم حاصرت مبنى الشرطة الملاصق للمحافظة، وكيف قصفته بمدافع الميدان، بعد أن طلبوا من الجنود والضباط الاستسلام وتسليم أنفسهم وأسلحتهم، ورفض رجال الأمن ذلك، وقاوموا حتى آخر طلقة في بنادقهم العتيقة، رغم هدم المبنى عليهم.
في رواية عبد الناصر، بدأت أحداث ذلك اليوم (٢٦ يناير) بامتناع عمال الطيران عن تزويد الطائرات الأجنبية بالوقود، ثم بخروج جنود بلوكات النظام بالقاهرة يحملون السلاح بقيادة ضابط من الإخوان، هو عبد الهادي نجم، في مظاهرة، توجَّهت إلى الجامعة، حيث انضم إليها أعداد من الطلاب الغاضبين لمذبحة الإسماعيلية، وانضم إليهم آخرون، ثم مضت المظاهرة إلى ميدان عابدين، فمنعتها قوات الجيش، فتوجهت إلى ميدان الأوبرا، وبدأ إحراق الميدان، بتحريضٍ وإشراف مباشر من الجهاز السري للإخوان … «وفي ظل هذه الفوضى، استطاع الإخوان بأسلحتهم الحديثة التي ينفردون بحيازتها، أن ينتقلوا من كازينو أوبرا، إلى بقية المحال العامة.»١٩٢ واستغل قادة الإخوان — الكلام لعبد الناصر، والمذكرات لإبراهيم طلعت — أن أحمد حسين ركب مع بعض أعوانه سيارة كان يتفقد بها الحالة، فأشاعوا أنه ورجاله هم الذين أحرقوا القاهرة، وحرضوا على ذلك، ساندهم في ذلك أن جريدتهم الاشتراكية كانت تهاجم بعض المحال التي شملها الحريق.١٩٣
يشير إبراهيم طلعت إلى أن عبد الناصر بدل اتهامه — بعد أن صفَّى الإخوان — فوجَّه إلى الشيوعيين تهمة إحراق القاهرة «انتهزوا فرصة ذهاب المواطنين الأحرار إلى القنال، وحرقوا القاهرة لبث الفوضى، وهم مستعدون لذلك دائمًا من أجل سادتهم الذين يمدونهم بالمال.»١٩٤
لكن بعض المصادر في تنظيم الإخوان المسلمين دافعت عن عبد الناصر، ارتكازًا إلى سؤاله أحد قيادات الجماعة، إن كانوا هم الذين يقومون بالأحداث، وعرضه المساعدة فيما يحدث، القائد الإخواني نفى أية صلة بين الجماعة والحوادث، واعتبر سؤال عبد الناصر وعرضه، دليلًا على أنه كان مستعدًّا للاشتراك في عمليات الحريق، لكنه لم يشترك بالفعل، وهو لم يكن يعرف بالضبط مَن الذي يُحرِق القاهرة، وربما لم يكن عبد الناصر يعنيه الاشتراك — والتحليل للإخوان — وإنما الذي كان يشغله هو جس نبض الإخوان، لتبين ما إذا كانوا على صلة بالحوادث.١٩٥
بالنسبة للجيش عمومًا، فالفنان يذهب إلى أن حيدر باشا تردد في إنزال الجيش إلى الشوارع لإعادة الطمأنينة، خشية أن ينضم الجيش إلى الشعب،١٩٦ وهذا ما نجد تأكيدًا له في الرواية التاريخية. قال حيدر لفؤاد سراج الدين، حين طلب منه نزول قوات الجيش: «إن معظم الجنود حديثو العهد بالالتحاق بخدمة الجيش، وإن معظم ضباطهم من الضباط الشبان. وصارحني معاليه — الكلام لسراج الدين — بأنه يخشى إذا نزلت هذه القوات إلى المدينة، أن تنضم إلى المتظاهرين، وهنا تقع الكارثة الكبرى على البلد كلها.»١٩٧
لكن تصاعد الأحداث يجبر سراج الدين على التعامل مع المظاهرات بالعنف، يقول لعثمان المهدي باشا رئيس أركان حرب الجيش: «لأي سبب إذن نزل الجيش إلى المدينة إذا لم يكن القصد هو قمع هذه الاضطرابات بكل الوسائل، ومنها ضرب النار، إنك لا تقدِّر خطورة الحالة، وإني أقول لك بأعلى صوتي، إننا أمام ثورة منظمة لقلب نظام الحكم، وها أنا أعطيك أمرًا بوصفي وزيرًا للداخلية ورئيس البوليس بضرب النار في المليان، وأقرر ذلك على مسمع من رئيس الديوان والقائد العام للقوات المسلحة، فبلِّغ ذلك الأمر إلى قواتك فورًا.»١٩٨ وأعلن حلمي (الحصاد): «لقد أقررنا بعجزنا عن حفظ النظام لما طلبنا الاستعانة بالجيش، ولا أحسب أن الملك سيدع هذه الفرصة تمر بسلام.»١٩٩
المتواتر — في كل الروايات — أن الجيش وإن تأخر نزوله (في الرابعة بعد الظهر، وصلت الدفعة الأولى من قوات الجيش إلى حديقة الأزبكية (حريق القاهرة، ٤٤)) فقد أفلح في منع تصاعد المد إلى منتهاه، وهو تدمير القاهرة كلها، بالإضافة إلى تقدير قيادات الجيش خطورة الموقف، وتمكُّنها من التعامل معه بمسئولية واضحة. ومما يثير التأمل هتاف المتظاهرين — للمرة الأولى — «الجيش جيش الشعب».٢٠٠
كان الحريق دافعًا أساسيًّا لانخراط الضابط علي عبد الواحد (رد قلبي) في تنظيم الضباط الأحرار، كان في طريقه إلى سراي عابدين لحضور مأدبة الغداء التي دعا لها الملك فاروق قيادات الجيش، وفاجأته في الطريق جموع المتظاهرين تهتف: إلى القنال يا جيش الحفلات … إلى القنال يا جيش الخمر والقمار … «وأحس بكراهية لهذه الحشود، وللحكومة التي ورَّطت الجيش فيما لا حيلة له فيه، وللملك الذي أساء إلى الجميع بمجونه وعبثه.»٢٠١

•••

لعل «حتى مطلع الفجر» هي العمل الإبداعي الوحيد الذي أدان الجيش، وأنه هو المحرك لأحداث السادس والعشرين من يناير.

قال رجل: المدبِّرون اختاروا التوقيت، انتهزوا اجتماع الملك بكبار المسئولين، وأسرعوا إلى العمل. بعد قليلٍ ينضم الجيش، وتعود البلاد إلى أصحابها.

قال رجل آخر: الجيش؟! وهل اجتمع الملك إلا بقادة الجيش؟! إنها مؤامرة يا حضرة، صح النوم! الضباط يُختَارون على الفرازة، أولاد الأعيان والملَّاك، ماذا ينقصهم حتى يثوروا؟! عشم إبليس في الجنة!٢٠٢

•••

فماذا عن المتهم الذي قُدِّم إلى القضاء بتهمة إحراق القاهرة؟

لقد نشرت الصحف — عقب الحريق — تصريحات لمرتضى المراغي، أكد فيها أن الحكومة وضعت يدها على المحرضين نهائيًّا، وكان المقصود بذلك هم الاشتراكيين.٢٠٣
ألَّف أحمد حسين رواية هي «واحترقت القاهرة» يتناول فيها إرهاصات ذلك اليوم الأقسى في حياة مصر، وبواعثه، ونتائجه. كانت الأحداث في تقدير الفنان — نحن نتحدث عن رواية — دون تدبير مسبَق على الإطلاق. كانت عناوين الصحف الصباحية تروي مأساة اليوم السابق: «المدافع البريطانية تهدم مبنى المحافظة فوق رءوس المدافعين، الضباط والجنود … إلخ.٢٠٤

وبدأت المظاهرات الصاخبة تملأ شوارع القاهرة، وانضم عساكر بلوك النظام إلى المتظاهرين — احتجاجًا على ما جرى لزملائهم — وتعالت الهتافات: نريد السلاح … نريد السلاح … إلى القنال … إلى القنال … الموت للإنجليز.

أشرف عدد من الضباط الأحرار على قيادة المظاهرات، وأضربت أعداد كبيرة من العمال عن العمل في المصانع، وطالبوا بالذهاب إلى الجبهة، وامتنع موظفو الحكومة عن التوجُّه إلى دواوينهم، وترددت هتافات بتدخل الجيش لمحاربة الإنجليز، وترددت هتافات أخرى ضد الملك وولي العهد (هل هو الأمير الصغير أحمد فؤاد، أو ولي العهد العجوز محمد علي؟) وزاد من حماسة الجماهير التي احتشدت حول مجلس الوزراء، خروج وزيرَي الشئون والدفاع إليها، يعلن نزول الوزراء إلى الشارع للكفاح مع الشعب.٢٠٥ وكما يقول الوزير شمس الدين (فؤاد سراج الدين) فإن الحكومة كانت تقدر أنه بعد حوادث اليوم السابق، لا بد أن تقوم مظاهرات، ومن ثَم انتشر ضباط القسم المخصوص في أنحاء القاهرة لمراقبة الموقف، وإبلاغ المسئولين تطورات الأحداث، واتجه القسم الأكبر من المتظاهرين إلى قصر عابدين، وكان الملك يحتفل بعيد ميلاد ولي العهد، وتقاطرت عربات الجيش محمَّلة بالضباط والجنود، لحضور الحفل، فكانت الجماهير تلقاها بصفير الاستهجان، وعبارات التهكم: يحيا شهداء البوليس! ألَا تخجلون من أنفسكم؟ أهذا كل ما تفلحون فيه؟ الموت للخونة! الموت للإنجليز!
«ولم يلبث قلب القاهرة أن تحوَّل إلى كتلة متراصَّة من الكيان البشري، طلابًا وعمالًا ورجال بوليس وضباط جيش أحرارًا.»٢٠٦
أما محمد أنيس، فهو لا يعفي قيادات الحزب الاشتراكي، ولا كوادره، من المشاركة في أحداث اليوم الحزين، لكن أنيس — إدراكًا لمعنى الإسهام بوعي في إحراق القاهرة — يعود فيجد أن «هؤلاء الذين كانوا ينتمون للحزب، واشتركوا في الحرائق، لم يدركوا الأبعاد الحقيقية للمؤامرة»، وأنها كانت عناصر [أحمد حسين وأنصاره] تم استغلالها بدرجة وبأخرى في الموقف، والسراي أيضًا تم استغلالها لكي تؤدي دورًا معينًا في الموقف، وتظل المسئولية — بالكامل — ملقاة على عاتق المخابرات البريطانية.»٢٠٧
ينقل رفعت السعيد رواية شاب اسمه محمد الزبير، استُدعي — مع آخرين — إلى مقر الحزب الاشتراكي في عابدين، مساء يوم ٢٥ يناير، حيث أصدر لهم القيادي فؤاد نصحي تعليماتٍ بإشعال حرائق في قلب العاصمة، ووُزِّعت عليهم — بالفعل — زجاجات من البنزين، وكرات من القماش، لاستخدامها في إشعال الحريق.٢٠٨
يقول مرتضى المراغي في مذكراته: «كانت تقارير البوليس والمباحث حول حريق القاهرة متضاربة، فقد ذكر بعضها أن محمد فرغلي — من زعماء جماعة الإخوان المسلمين — كان يحرض الجماهير على حرق دُور اللهو والفنادق. وكانت هناك تقارير أخرى تؤكد أن بعض الشيوعيين اشتركوا أيضًا في المظاهرات وإشعال النار.»٢٠٩ وقد وردت أسماء فتاتَين شيوعيتين هما عايدة السحيمي وإجلال السحيمي، واسم الطالب عبد المنعم تمام، على اعتبار أنهم رءوس الشيوعية في هذه المظاهرات، لكن معظم التقارير — وكان هذا واضحًا أمامي منذ الأيام الأولى لعملي وزيرًا للداخلية، منذ صباح الإثنين ٢٨ يناير ١٩٥٢م — كانت تحاول الإمساك برقبة الحزب الاشتراكي، ورئيسه أحمد حسين.٢١٠
وفي محاكمة أحمد حسين أشيرَ إلى «الكلفتة» التي تم بها نظر القضية حتى يظل رئيس المحكمة — حسين طنطاوي — في منصبه قبل أن يحل موعد إحالته إلى المعاش، برغم محاولات الحكومة لإصدار قانون استقلال القضاء بعد التعديلات التي أدخلت عليه، والتي كانت ترفع سن الإحالة إلى المعاش إلى ٦٥ سنة بدلًا من ستين، لكن المحاولة لم تنجح بفضل القضاة أنفسهم الذين اجتمعوا في ناديهم، واعترضوا على هذا القانون.٢١١
دافع أحمد حسين عن نفسه بأنه أمضى يوم ٢٦ يناير مريضًا في بيته، وشهد عشرة شهود أو أكثر أمام المحكمة العسكرية العليا، وفي التحقيق، أنهم اتصلوا به تليفونيًّا للسؤال عن صحته، بسبب ما نُشِر في الصحف من أنباء مرضه، بالإضافة إلى أن شهودًا آخرين شهدوا أن أحمد حسين اتصل بهم ليطلب منهم الاتصال بالمسئولين لإنقاذ البلاد من الكوارث التي توشك أن تحل بها.٢١٢
وينفي أحمد حسين تهمة التحريض عن الجميع، وأن حوادث ٢٦ يناير «لم تقع نتيجة تحريض محرض، أو بتأثير صحيفة أو كاتب أو زعيم من الزعماء، أو حزب من الأحزاب، فما كان لإنسان، كائنًا من كان، مهما بلغت قدرته، أن يلهب مشاعر الجماهير هذا الإلهاب، وأن يشحن نفوسها بالسخط، وأن يحملها على فقدان كل وعي، وكل تقدير، فيدفعها للتخريب والتدمير على هذا النطاق الواسع الشامل، الذي لم يفرق بين عدو أو صديق.»٢١٣
بل إن الرجل ينفي التهمة عن الملك نفسه! «فمسئولية الملك السابق عن هذا اليوم، وعن تطور حوادثه إلى هذه الخاتمة التعسة، هي مسئولية لا شك فيها، وهي على أهون أحوالها، صورة من صور الارتكاب بالترك، أو صور الارتكاب الناشئ عن رعونة، أو عدم احتياط وتوقٍّ، أو إهمال.»٢١٤
يؤكد أحمد حسين المعنى، بالإشارة إلى الكلام الكثير الذي قيل عن دور الملك في الأحداث «ولكننا قوم اشتغلنا طوال حياتنا بالدفاع عن الحق، والتمسك بالقانون، والتزام أصول المرافعة، ولذلك فلا نقول إلا ما هو وراد في الأوراق، ولا نُلقي التهم جزافًا، ولا نتجنَّى على أحد، والأوراق شاهدة من خلال هذا التحقيق الذي أجراه النائب العام، على أن المسئولين جميعًا كانوا يعرفون أن يوم ٢٦ يناير سيكون يومًا عصيبًا، وأنهم دعوا لأخذ الاحتياطات.»٢١٥
إنه يصِف ما حدث بأنه ثورة «اشترك فيها رجال بلوكات النظام والشعب، وانطلقت قوة التدمير من عقالها، فحطمت كل دُور السينما والحانات ومصالح الإنجليز في مصر»،٢١٦ و«هذه الثورة كانت رد فعل للكبت الذي عاناه الأحرار في منطقة القناة، وكانت تعبيرًا حازمًا عن السخط والحيوية الفائضة، التي لم تجد متنفسًا لتصريفها في حرب الإنجليز.»٢١٧
مع أن محمد أنيس يستدل على اشتراك أحمد حسين وأنصاره في مؤامرة الحريق بعدة وقائع، من بينها: الحملة الضارية التي كانت تشنُّها صحف الحزب الاشتراكي ضد حكومة الوفد والملك والإنجليز في آن، ودعوة الجماهير إلى حرق بعض الأماكن وإزالتها، وهي الأماكن التي أُحرقَت في ٢٦ يناير، ثم خروج أحمد حسين إلى الشارع في عربة ستروين عليها العلم المصري، والجماهير تهتف: الزعيم … الزعيم، فضلًا عن التحركات المشبوهة التي قامت بها قيادات الحزب الاشتراكي في شوارع القاهرة، طيلة ذلك اليوم.٢١٨

مع ذلك، فإن كل الدراسات الحديثة والوثائق التي كُشِف عنها مؤخرًا — والكلام ليونان لبيب رزق — أثبتت أن أحمد حسين وزملاءه أبرياء من تهمة إحراق القاهرة، بل إن مرتضى المراغي يدافع عن أحمد حسين، وأن اتهامه بالتحريض على حرق القاهرة لا يعدو اتهامًا تلفيقيًّا، فلم يكن «عداء البوليس لأحمد حسين جديدًا، بل كان في الواقع يسبق أحداث حريق القاهرة، وكانت وزارة الوفد قد أصدرت أمرًا بالقبض عليه، لكنه اختفى، وفشل البوليس في معرفة مكانه.»

يضيف المراغي: «وربما كان من أغرب الحكايات التي جرت في ذلك الوقت، تلك التي أعلنت أنهم قبضوا على أحمد حسين في عربة كانت تجوب القاهرة ليلًا، في حين أن التجوُّل كان ممنوعًا اعتبارًا من التاسعة مساء حتى السادسة من صباح اليوم التالي، وكانت الأحكام العرفية المفروضة في ذلك الوقت لا تسمح لأحدٍ بأن يخرج إلى الشارع، إلا إذا كان حاملًا تصريحًا خاصًّا بذلك، وإلا تعرض لإلقاء القبض عليه، وربما لإطلاق النار عليه إذا قاوم دوريات البوليس المنتشرة.»٢١٩

كان أحمد حسين هو المتهم الأول في تقدير السلطات الحاكمة آنذاك.

يقول له مصطفى أمين: إن جميع الرسميين يؤكدون أن الاشتراكيين هم المسئولون عن حرق القاهرة.

– ولكن …

– ويعتبرونك أنت شخصيًّا المسئول الأول عن هذا العمل، وقد شاهدك عشرات ومئات من الشهود وأنت تطوف القاهرة بسيارة ستروين، تحرض الجماهير على الحرق والنهب والقتل.٢٢٠
رُوي أن أحمد حسين قبض ٥٠ ألف جنيه ثمنًا لإحراق القاهرة، وقيل إنه شوهد أثناء خروجه من السفارة البريطانية، أو أنه احتمى بها، وأكد آخرون أنه شوهد يغادر المفوضية الرومانية، وحدد البعض رقم الشيك الذي تسلمه، ونشرت الصحف — عقب الحريق — تصريحات لمرتضى المراغي، أكد فيها أن الحكومة وضعت يدها على المحرضين نهائيًّا، وكان المقصود بذلك هم الاشتراكيين.٢٢١

ثم احترقت القاهرة، والبداية — كما يرويها الفنان — حين وقعت عينان على ضابط كبير يحتسي الخمر بملابسه الرسمية في شرفة كازينو أوبرا، وتساءل صاحب العينين في حدة: أَوَلم يكفكم الجبن والتقاعس عن الجهاد، فجئتَ تحتسي الخمر على رءوس الأشهاد؟!

فأجابه الضابط الكبير في غضبٍ: اخرس يا كلب يا قليل الحياء، أنا حر أفعل ما أشاء!

«ويندفع الكلب قليل الحياء نحو هذا الضابط الذي يغص صدره وكتفاه بالشارات العسكرية … إلخ.»٢٢٢
كانت غطرسة ضابط كبير إذن هي الشرارة التي أشعلت الحريق، وهو سبب تاريخي فيما يبدو، وليس سببًا فنيًّا، ذلك لأن الرواية أقرب إلى السيرة الذاتية، ثم شارك الكبت الذي كانت تحمله الجماهير الغاضبة في سكب المزيد من البنزين على النيران المشتعلة، ثم انتهزت الفرصة جهات عيَّنها الكاتب، تدخلت، وحاولت أن تدمر ما تريد، ليكتمل بتباين الأهداف حرق القاهرة كلها. يقول الفنان: «كأنما تحوَّلت الجماهير إلى آلة أوتوماتيكية، يستطيع أي إنسان أن يضغط على زر لكي يدفعها إلى الحركة وتنفيذ المطلوب.»٢٢٣

صاح قائل: إلى سينما ريفولي … إلى الدار الإنجليزية.

لم يشِر الكاتب إلى هوية مصدر الصوت، وإن كان من المشاهد المألوفة قبل الحريق، وقوف بعض أفراد من الحزب الاشتراكي، ومعهم لافتات تدعو إلى عدم دخول سينما ريفولي، الدار الإنجليزية، لكن الكاتب يؤكد منذ البداية عدم صلته شخصيًّا، وصلة حزبه، بأحداث اليوم المشئوم.

فما هي الجهات التي ركبت الموجة لتتصاعد الأحداث، حتى يتحوَّل قلب القاهرة إلى أطلال ودخان؟

ثمة حوار بين رجلين، يحاول الفنان من خلاله أن يشير إلى صلة الإخوان المسلمين بالأحداث: «يقول عضو من الإخوان: نظفنا الحي من الخمارات.

فيهتف فيه عضو آخر: اسكت، اسكت، أنت مجنون، نحن لم نرَ شيئًا، ولم نفعل شيئًا.»٢٢٤

وحوار بين رجلين في مكان آخر، يشي بأن الشيوعيين المصريين لم يفلتوا الفرصة: «إنها الثورة التي عملنا من أجلها يا رفاق، حتى اللصوص حاولوا أن يفيدوا من الحرائق والدمار بالسطو على المحال التجارية.

– يا ولد يا دنجل … ماذا تنتظر؟

– تحت أمرك يا معلمي!

– يا ولد إذا لم تغتن اليوم، فلا نلوم إلا أنفسنا.»٢٢٥

أما فوزي السيد — ولعله أحمد حسين نفسه — فهو بعيد منذ البداية عن كل ما جرى، لقد دعا — قبل الأحداث بيومين — إلى مؤتمر صحفي، حذَّر فيه من الكوارث التي توشك أن تتردى فيها البلاد، وأعلن انسحابه من الحياة العامة، ولم يغادر منزله طيلة يوم الحريق، وإن أبدى إشفاقه غير المحدود — حين انتشرت الحرائق — على القاهرة الغاضبة، المتوترة، المجنونة، التي فقدت رشدها، وتحاول أن تقتل نفسها، بل إنه رفع سماعة التليفون من بيته الذي لم يكن غادره، واتصل بعلي نادر: مصر في خطر يا باشا … يجب أن تبذل جهدًا لإنقاذها.

– تقصد المظاهرات الصاخبة التي تملأ البلد؟٢٢٦
أما أعضاء الحزب — الاشتراكي — فإنهم أول من يدرك مشاعر زعيمهم في تلك اللحظات التي يبتلع فيها وحش الدمار عاصمة البلاد: «إنني أكثركم ثورة وتمردًا كما تعرف، وأنا أعرف بفوزي السيد، إن قلبه سوف يتمزق عندما يسمع عن حرق الإنجليز في التِّرف كلوب، إن جسدي يرتجف.»٢٢٧

•••

من الذي حرق القاهرة؟

ظل السؤال بلا إجابة حاسمة. أُلقي القبض على المئات، وقُدِّم العشرات إلى المحاكمة، وأشارت الحركات الوطنية إلى السراي، وأقالت السراي حكومة الأغلبية بتهمة التهاون، وحامت الشبهات حول سلطات الاستعمار، وشمل الاتهام بعض الحركات المتطرفة.

أما أحمد حسين، فإنه يشير إلى أن كل الأطراف كانت تريد إحداث بعض القلاقل لحسابها، الملك يريد أن يستند إلى تلك القلاقل في إقالة الوزارة الوفدية، والوفد يريد أن يستند إليها في إحراج الملك، والإنجليز يعتبرونها أفضل الفرص لتصفية المقاومة ضد الوجود الاحتلالي، والاشتراكيون أيضًا — والاعتراف لأحمد حسين — يريدون «بعض القلاقل لإثبات وجهة نظرنا من سوء الحالة»، وكان الإنجليز — كما يقول أحمد حسين — هم الذين أشعلوا عود الثقاب.٢٢٨
يستطرد الفنان (شيء في صدري) فيُلقي تبعة الحريق — بصورة محددة — على لسان حسين شاكر باشا، على الرأسمالية المستغلة التي أحسَّت الخطر يتهدد مصالحها، يقول: «كان لا بد أن نصنع شيئًا لنُوقِف هذه المهزلة، إن الأطفال والحفاة يموتون، وموتهم لا يهم أحدًا، ولكن المهم أن الإنجليز بدءوا يغضبون، بدءوا يتذكرون قصة الناموسة التي قتلت فيلًا، وهم — إذا غضبوا — فقدوا ثقتهم في الملك، وفي الحكومة، وفي الرءوس التي تحدد نظام الحكم في مصر، كان يجب أن نفعل شيئًا لنحمي أنفسنا من غضب الإنجليز، وفعلنا. حرقت القاهرة، ووقفت أشاهد ألسنة النار وأنا أفرك كفي، كأني أتدفَّأ بها.»٢٢٩
أيًّا يكن المدبِّر والفاعل في حريق القاهرة، فمن المؤكد أن الجماهير العادية قد شاركت في إشعال الحرائق والنهب والتدمير، لا لطبيعة مدمِّرة، وإنما رد فعل — طال اختزانه — لسني الظلم السياسي والاجتماعي، وعلى حد تعبير جان وسيمون لاكوتور فإنه «انفجار حقد انتقامي لدى شعب تم تحدِّيه في بؤسه الذي لا يُحتمَل، من جانب بذخ البلاط والأجنبي.»٢٣٠ وتقول الفتاة (بيت الطالبات): «القاهرة الجميلة، ومنين النار دي؟ عملوها ناس مننا، إيديهم سمر زينا.»٢٣١
شارك البعض في إشعال الحرائق، بعد أن فوجئ بالحرائق فعلًا، تصوروا أنها الثورة التي يترقبها المصريون منذ أجيال، فراحوا يحرقون الحانات والملاهي الليلية،٢٣٢ وكما قال سيد الحلواني (القاهرة تحترق) فإنه «ليس حريقًا من الحرائق المعهودة، بل لقد حانت ساعة الطاغية، وقام الشعب قومته، والحرائق تنتشر في كل مكان، وربما التهمت العرش، وتحوَّلت عابدين إلى نار جهنم الآن.»٢٣٣ ويقول كحيلة (في إحدى حارات القاهرة): «إن الجواهر والثياب التي كانت تُقلع عيون الغلابة والمحرومين من التطلع إليها، لن تلبث أن تكون بينهم هنا.»٢٣٤ وكانت مبروكة (الرجل الذي فقدَ ظله) واحدة من هؤلاء الذين وجدوا في ذلك اليوم فرصة للحصول على أي شيء: «كنت عائدة عصر يوم من بيت ستي، وفي يدي صرة الأكل، وإذا بي أُفاجأ بالمدينة تحترق، النار تشتعل في الدكاكين، والدخان يملأ الشوارع، وناس تجري نحو النار، وناس تجري من النار، والزجاج يملأ الأرض تحت قدمي، وصرخات بعيدة تقترب، وصبية يحملون أقمشة ويطارد بعضهم بعضًا وسط الطريق. كان الخراب في كل مكان، والسماء سوداء، والريح الباردة تلهب وجهي. خُيِّل إليَّ أن الدنيا قد جنَّت، ورأيت أمامي دكانًا كبيرًا يندفع إليه بعض الصبية، وينفلت من بينهم رجال يحملون أقمشة من كل صنف، فاندفعت إلى داخل الدكان كالمسعورة، أخطف كل ما أراه، أخطف بعيني وبيدي وبجسمي …»٢٣٥ أما حسن كنج (مقامات ريان) فقد كان واحدًا من الذين اشتركوا في عمليات السلب والنهب، وإن دفع الثمن شقيقه حسن، النقاش، حين أُلقي القبض عليه — ظلمًا — بتهمة حرق القاهرة.٢٣٦ وتخرَّج إبراهيم (الغضب) في الجامعة، وتنقَّل بين المكاتب يبحث عن وظيفة، حتى ضاقت به الدنيا تمامًا، وفي شارع سليمان باشا «اشتم رائحة الثورة من الأنفاس المتحركة في الطريق، كان هناك شيء لم يدركه يجري في قلب القاهرة، شيء لم يكن في حسبانه، ولكن حدوثه كان مقدَّرًا بعد العناوين المثيرة التي ظهرت في صحف الصباح عن معركة الإسماعيلية بالأمس بين جنود بلوكات النظام والإنجليز.»٢٣٧

زاد نشاط الجموع، وبدأت أبواب المتاجر تتحطم، والأثاث يُلقى من الشرفات، والنيران تشتعل في المتاجر والبيوت، وأجراس عربات المطافي تدوي في كل مكان، وانضم إبراهيم — في لحظات غضبه — إلى الناهبين، وامتدت يده ليسرق عقدًا من الجواهر الثمينة، ويدسه في جيبه، وظنَّه بعض المتظاهرين جاسوسًا فطاردوه، حتى اختفى في شقة سيدة بإحدى العمارات، وتنصت صاحبة الشقة — وهي راقصة — إلى مأساته، ويصارحها بأنه قد سرق مثل الآخرين.

– لقد فعلت ما فعل الناس، وجدتهم يسرقون ويغشون ويكذبون، ففعلت مثلهم.

– وهل الناس جميعًا هكذا كما تصورت؟ أنت ناقم على المجتمع لأنك عاطل … ولماذا تبحث عن وظيفة في الحكومة؟ ابحث عن عمل آخر … وهناك عمل لكل من يكافح.

– ما الذي أفعله وأنا فقير؟ والأجانب يسيطرون على كل الأعمال الحرة، ويمسكون الخيوط في أيديهم، ولا أحد يستطيع أن يتسلل من هذا الحصار.

أشفقت الراقصة على ظروفه، ودعته إلى قضاء بقية اليوم في ضيافتها، ومنحته جسدها — كما هو متوقع! — وترك لها العقد بجوار الفراش، وخرج — دون أن تشعر — إلى الطريق، ولم يكن يعرف أن التجول ممنوع في هذه الساعة، وظنَّه أحد الجنود لصًّا من الذين تسللوا إلى المتاجر التي تحطمت أبوابها، فأطلق عليه النار، وقتله!٢٣٨
جمال الشرقاوي يذكِّرنا بمذبحة الإسكندرية، لكن الأمر في حريق القاهرة جاء على خلاف المذبحة، الحريق — في تقديره — لم يكن بتدبيرٍ أجنبي؛ كان عملًا محليًّا، قامت به العناصر الرديئة من الشعب.٢٣٩
لقد شاركت فئاتٌ من المواطنين، من الطبقات الأدنى تحديدًا، في أحداث ذلك اليوم، لكنها لم تدبِّر له، ولا تعمَّدت إحراق مدينتها، وتفسر الست عزيزة معنى ما حدث في قولها (قضية الشاويش صقر) في خوفٍ مستسلم «هو بعد ما الحرايق شعللت، يبقى فاضل إيه؟»٢٤٠

وإذا كانت «العلمية» ترفض أن يكون التأكيد الحاسم هو سبيل الرأي الذي يتوخى الموضوعية، فلعلي أتجاوز عن هذا المطلب في التأكيد على أن حريق القاهرة لم يكن ردَّ فعل غاضبًا من الجماهير المصرية بعد مذبحة الإسماعيلية.

ذلك هو الاجتهاد الأسهل الذي توصَّل إليه أستاذنا المؤرخ عبد الرحمن الرافعي، ومعناه — ببساطة — أن الجماهير المصرية هي التي أحرقت عاصمة بلادها.

ما حدث — في تقدير الرافعي — «عمل محليٌّ محض، وأهليٌّ صرف، وقد انبعث من النفوس المريضة بين المواطنين»، وأغفل الرافعي عشرات العوامل التي تجعل من حرق القاهرة مطلبًا مهمًّا لقوى بذاتها كان يشغلها المد الثوري في الذات المصرية، إلى حد بشَّر بتغيير خريطة الحياة السياسية في داخل المجتمع المصري.

من هنا أيضًا، فإني أرفض وجهة النظر التي وصف من خلالها محمود حسين أحداث ذلك اليوم؛ إنها وجهة نظر بالغة الضيق، إن لم تكن متعسفة وخاطئة، وظالمة أيضًا، فالحريق — كما يرى — شبَّ في الأمكنة التي ترمز إلى امتيازاتٍ طبقية لا تملك الجماهير منفذًا لها، والأمكنة التي تعبِّر عن مظاهر الترف الاستعماري، والثروة، والمقامات الإمبريالية العليا، ثم اتَّجهت — بعد الظهر — في مظاهرة كبرى إلى سفارة الاتحاد السوفييتي، تعبيرًا عن تعاطفها. ويؤكد الكاتب نظرته الضيقة الظالمة بقوله: «وهنا لا بد من التشديد على واقعة لا مجال للالتباس في شأنها، ذلك أن التيار الرئيس الذي وجَّه مجموع المتظاهرين كان صحيحًا، لأنه انبثق من حاجة أصيلة لدى الجماهير المعدمة، وكان متجهًا في صوره المختلفة ضد أعداء الشعب.»٢٤١
إن العناصر الشعبية — في تقدير كمال رفعت — غير مسئولة عن الإساءة إلى الحركة السياسية التي شهدها صباح السادس والعشرين من يناير، إلا في حدود الاعتداء على كازينو أوبرا، والذي كان يمكن أن يمر دون أن تترتب عليه نتائج ذات بالٍ، لكنها — مع ذلك — هيَّأت المسرح لظهور المجرمين الحقيقيين بصورة تبدو طبيعية، وتوالت الأحداث مما وسَّع التهمة، وصعَّب من إلصاقها على أفرادٍ بالذات.٢٤٢
واللافت أن اللجنة التحضيرية للاتحاد العام لنقابات العمال بالقطر المصري، كانت أول هيئة تُصدِر بيانًا تستنكر فيه حريق القاهرة، وتؤكد أن أعمال التخريب والشغب لا تخدم إلا الاستعمار، وأنه لا سبيل إلى إجلاء الاستعمار إلا بالكفاح الإيجابي المنظَّم والمحدَّد الأهداف، وبتوحيد الصفوف.٢٤٣
حريق القاهرة فعل مدبَّر، ومتعمَّد، جريمة مع سبق الإصرار والترصد بلغة القانون. مع تعدد الذين نالتهم شبهة الإدانة، فإنه من المستحيل تصور أن العفوية هي الشرارة التي أحدثت الحريق. وكما يقول محمد أنيس فثمة علامات واضحة تدل على أن «المخطط كان مرسومًا ومنفَّذًا بدقة بالغة.»٢٤٤

تقول ليلى (الباب المفتوح): الواقع إن الناس مظلومين، الناس خرجت عشان تحتج على المذبحة بتاعة الإسماعيلية، والسراي والعناصر الرجعية انتهزوا الفرصة عشان يطعنوا الحركة الوطنية.

يقول محمود: الخيانة ما ابتدتش النهاردة بس، الخيانة ابتدت من أول يوم، وآدي النهاية، الحريق دا هو النهاية، نهاية معركة القنال.٢٤٥

لقد خرجت الجماهير إلى شوارع القاهرة، تطلب الثأر للشهداء من جنود البوليس في مذبحة الإسماعيلية.

من هنا يأتي اختلاف عبد العزيز الدسوقي مع الرأي الذي انعقد عليه إجماع كل الآراء والتحليلات، فهو يسمي حوادث السبت الدامي بأنها ثورة القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م، وأنها كانت رد فعلٍ للكبت الذي عاناه الأحرار في منطقة القناة، وكانت تعبيرًا عن السخط والحيوية الفائقة التي لم تجد متنفسًا لتصريفها في حرب الإنجليز.٢٤٦

وإذا كان أحمد حسين قد اعترف بأن كل القوى السياسية تطلَّعت إلى الهزة المحسوبة التي تصور كل طرف أنه سيفيد من نتائجها، فإن النتيجة المدمرة — أيًّا كان المدبِّر — قرَّبت النهاية بالنسبة للجميع، حتى الذين حققوا انتصاراتٍ وقتية، مثل الملك والإنجليز والقوى المناوئة للوفد.

فبعد ستة أشهر بالتحديد قامت ثورة ٢٣ يوليو، لتُسقِط الملك، وتحل الأحزاب، وتعجِّل بخروج الإنجليز، ولتحدث تغيُّرًا مؤكدًا في بانورامية الحياة السياسية المصرية.

هوامش

(١) حتى مطلع الفجر، ١٣٩.
(٢) المصدر السابق، ١٤٠.
(٣) ١٩٥٥، ٨٣.
(٤) جاء في نص الإنذار: مقر القيادة البريطانية — الآلاي الثالث مشاة — قوات الشرق الأوسط البرية١٠ — عهد إليَّ أن أبلغكم بما يلي: إن البوليس الاحتياطي المصري في الإسماعيلية يأوي أشخاصًا خارجين على القانون يهاجمون القوات البريطانية … وهذا الموقف يشكِّل تهديدًا. من هنا، فقد أمرت بإبعاد كل البوليس الاحتياطي عن المنطقة، وللتأكد من تنفيذ هذا الأمر فورًا، يُجرى الآن حصار ثكنات البوليس الرئيسة. وإني أطلب إلى كل قوات البوليس النظامية والاحتياطية أن تتجمع فورًا، بدون أسلحتها، أمام ثكناتها، على أن يتقدم أكبر الضباط مرتبة في كل ثكنة إلى المدخل لتلقي التعليمات في الساعة السادسة والربع، وإذا لم يتم ذلك، أو في حالة إطلاق النار على قواتي، فإني سأستخدم القوة المتاحة لي لتنفيذ أوامري، وعليكم إبلاغ هذا الأمر فورًا إلى كبار ضباط البوليس غير كل القوة الموجودة.
(٥) الباب المفتوح، ١٤٧.
(٦) ١٩٥٢، ٨٣.
(٧) فوزية مهران، بيت الطالبات، هيئة الكتاب، ٤٤-٤٥.
(٨) حتى مطلع الفجر، ١٤٠.
(٩) أيامه الأخيرة، أيامه الأخيرة، ٢١١.
(١٠) الشرق الأوسط، ١٨/ ١٠/ ١٩٨٠م.
(١١) المرجع السابق.
(١٢) أيامه الأخيرة، ٢٢٠.
(١٣) قصة حب.
(١٤) محمد أنيس، حريق القاهرة، ٣٠.
(١٥) المرجع السابق، ١٥٢-١٥٣.
(١٦) جمال سليم، البوليس السياسي، ٢٣٦-٢٣٧.
(١٧) محمد أنيس، حريق القاهرة، ١٥٢-١٥٣.
(١٨) محمود البدوي، المارد، الغزال في المصيدة، الكتاب الفضي.
(١٩) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ١٠٨-١٠٩.
(٢٠) مذكرات مرتضى المراغي، أكتوبر ٢/ ٢/ ١٩٨٦م.
(٢١) قصة حب.
(٢٢) أمين ريان، المعركة، دار الفكر العربي، ١٤٨.
(٢٣) محمود البدوي، مجموعة الطوابع، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٢٤) حتى مطلع الفجر، ١٥٦.
(٢٥) ريمون فلاور، مصر من قدوم نابليون حتى رحيل عبد الناصر، ت. سيد الناصري، المجلس الأعلى للثقافة، ١١٧.
(٢٦) ١٩٥٢، ١١٧.
(٢٧) المارد.
(٢٨) ١٩٥٢، ١١٧.
(٢٩) يوسف الشاروني، حريق القاهرة، أجداد وأحفاد، هيئة قصور الثقافة.
(٣٠) محمد فريد أبو حديد، أنا الشعب، دار المعارف، ٣٥٣.
(٣١) المارد.
(٣٢) قصة حب.
(٣٣) المعركة، ١٥٠.
(٣٤) الباب المفتوح، ١٤٧.
(٣٥) يوسف الشاروني، حريق القاهرة.
(٣٦) مجموعة الطوابع.
(٣٧) رعشة، قصص مصطفى محمود.
(٣٨) قصة حب.
(٣٩) بيت الطالبات، ٤٨.
(٤٠) قصة حب.
(٤١) مذكرات مرتضى المراغي، أكتوبر، ٢٦/ ١/ ١٩٨٦م.
(٤٢) البوليس السياسي، ٢٣٦-٢٣٧.
(٤٣) حسني حسن، اسم آخر للظل، شرقيات، ٨٠.
(٤٤) يوسف الشاروني، الحذاء، الأعمال الكاملة.
(٤٥) ١٩٥٢، ١١٦.
(٤٦) عبد المغني سعيد، الحركة النقابية المصرية، الكاتب، مايو ١٩٧٠م.
(٤٧) أحمد حسين، في ظلال المشنقة، كتب للجميع، ٣٣.
(٤٨) محمد عودة، ميلاد ثورة، ٩٩.
(٤٩) مذكرات كمال رفعت، ١٦٣.
(٥٠) المرايا، ٢٦٠.
(٥١) المصدر السابق، ١٦٣.
(٥٢) المصور، ٨/ ٤/ ١٩٨٣م.
(٥٣) ذكرياتي بين عهدَين، ٩٦.
(٥٤) المصدر السابق، ٩٦.
(٥٥) منيرة حسني، أيام في الهيئات السياسية، ٤٩.
(٥٦) الكاتب، يوليو ١٩٧٠م.
(٥٧) الشرق الأوسط، ٢٢/ ١٠/ ١٩٨٠م.
(٥٨) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٧١.
(٥٩) قضية التحريض على حريق القاهرة، ٥٠٩ وما بعدها.
(٦٠) الفكر المعاصر، أغسطس ١٩٦٧م.
(٦١) السمان والخريف، ٦-٧.
(٦٢) المصدر السابق، ٧.
(٦٣) السابق، ٧.
(٦٤) السابق، ٩.
(٦٥) السابق، ١٤.
(٦٦) السابق، ١٣.
(٦٧) السابق، ٨.
(٦٨) السابق، ٢٦.
(٦٩) مصر من قدوم نابليون حتى رحيل عبد الناصر، ٢٩٦.
(٧٠) البوليس السياسي، ٢٧٦.
(٧١) الوفد، ٩/ ٤/ ٢٠٠٢م.
(٧٢) الشرق الأوسط، ٢٢/ ١٠/ ١٩٨٠م.
(٧٣) المرجع السابق.
(٧٤) السمان والخريف، ٧.
(٧٥) محمد عودة، روز اليوسف، ٥/ ٩/ ١٩٧٧م.
(٧٦) المرجع السابق.
(٧٧) ذكريات سياسية، ١٠٣.
(٧٨) كامل سعفان، الإدانة، مطبعة حسان، ٣٢٩.
(٧٩) ١٩٥٢، ٢٠٩.
(٨٠) الحصاد، ٣٨١.
(٨١) ذكرياتي في عهدَين، ٨٩.
(٨٢) ١٩٥٢، ١٤٨.
(٨٣) المصدر السابق، ٢٣.
(٨٤) واحترقت القاهرة، ٤٦٣.
(٨٥) ١٩٥٢، ١٣٢.
(٨٦) المصدر السابق، ١٣٤.
(٨٧) الشارع الجديد، ٥٥٠.
(٨٨) المرايا، ١٢٨.
(٨٩) فتحي غانم، ست الحسن والجمال، روايات الهلال، ٩.
(٩٠) الجديد، أول يونيو ١٩٧٤م.
(٩١) عمر في العاصفة، ٧١.
(٩٢) عبد البديع عبد الله، زمن الحرية، دار غريب، ٢٠٠١م، ١٣.
(٩٣) محمد أنيس، حريق القاهرة، ٢٢.
(٩٤) قصة حب.
(٩٥) الهدف الكويتية، ٥/ ٥/ ١٩٧٧م.
(٩٦) قصة ملك و٤ وزارات، ٣١.
(٩٧) أنور السادات، أسرار الثورة المصرية، كتاب الهلال، ١٩٥٧م، ٢٤٢.
(٩٨) مذكرات صلاح نصر، المصور، ٣/ ١/ ١٩٨٦م.
(٩٩) نحن النساء المصريات، ١٤٠-١٤١.
(١٠٠) أيام لها تاريخ، ١٠٦.
(١٠١) ذكرياتي في عهدَين، ٩٥.
(١٠٢) محمد عودة، الوعي المفقود، ٩٢-٩٣.
(١٠٣) ذكرياتي في عهدَين، ١١١.
(١٠٤) حريق القاهرة، ٤٤.
(١٠٥) يوسف الشاروني، حريق القاهرة.
(١٠٦) أكتوبر، ٢٨/ ٧/ ١٩٨٥م.
(١٠٧) مذكرات مرتضى المراغي، أكتوبر، ٢/ ٢/ ١٩٨٦م.
(١٠٨) المصدر السابق.
(١٠٩) مذكرات صلاح نصر، المصور، ٣/ ١/ ١٩٨٦م.
(١١٠) الحصاد، ٣٦٥-٣٦٦.
(١١١) مذكرات كمال رفعت، ١٦٨.
(١١٢) محمد أنيس، حريق القاهرة، ٥٢. والملاحظ أن محمد أنيس قد اتهم الحزب الاشتراكي أيضًا، وهو الذي كان يعادي الإنجليز، كما اتهم حيدر باشا بأنه كان متواطئًا، بل وساعد في بعض أحداث ذلك اليوم.
(١١٣) المرجع السابق، ١١.
(١١٤) المصور، ١٩٨٢م.
(١١٥) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٤٤.
(١١٦) المرجع السابق، ٤٤١-٤٤٢.
(١١٧) أكتوبر، العدد ٤٣٥.
(١١٨) أوراق العمر، ٢٤٧.
(١١٩) الهلال، نوفمبر ١٩٨٤م.
(١٢٠) سعد زهران، حركة التاريخ المصري من إلغاء المعاهدة إلى حريق القاهرة، الطليعة، يونيو ١٩٦٥م.
(١٢١) ضياء الشرقاوي، رجال في العاصفة، رحلة في قطار كل يوم، الدار القومية للطباعة والنشر.
(١٢٢) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٣٨٤.
(١٢٣) مذكرات كمال رفعت، ١٥٨.
(١٢٤) السابق، ١٦٨.
(١٢٥) أيامه الأخيرة، ٢٢٠.
(١٢٦) حقيقة الانقلاب الأخير في مصر، ١٩٦.
(١٢٧) لمعي المطيعي، هذا الرجل من مصر، الوفد، ٣٠ /٥/ ١٩٨٧م.
(١٢٨) مذكرات كمال رفعت، ١٥٧.
(١٢٩) حريق القاهرة، ٥٣.
(١٣٠) سعد زهران، الطليعة، يونيو ١٩٥٦م.
(١٣١) ذكريات سياسية، ١٢.
(١٣٢) الحركة الوطنية المصرية، ١٢٦.
(١٣٣) محمد عودة، قصة ثورة، ١٠.
(١٣٤) العنقاء، ٢٧.
(١٣٥) الشهيد حسن البنا، ٣٨.
(١٣٦) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٤٢٧–٤٢٩.
(١٣٧) الرأي الأردنية، ٩/ ٨/ ١٩٧٦م.
(١٣٨) ذكريات سياسية، ٩٧.
(١٣٩) الهدف الكويتية، ٥/ ٥/ ١٩٧٧م.
(١٤٠) الرأي الأردنية، ٢/ ٨/ ١٩٨٦م.
(١٤١) الدعوة، يناير ١٩٧٧م.
(١٤٢) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٤٦٤.
(١٤٣) الوفد، ٢١/ ٢/ ١٩٨٥م.
(١٤٤) المرجع السابق.
(١٤٥) عبد العال الحمامصي، هؤلاء يقولون في السياسة والأدب، دار المعارف، ٥٥.
(١٤٦) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٢٤٨-٢٤٩.
(١٤٧) روز اليوسف، ١٧/ ١/ ١٩٧٧م.
(١٤٨) المرجع السابق.
(١٤٩) مجرد ذكريات، ١: ٨٨.
(١٥٠) البوليس السياسي، ٨.
(١٥١) المرجع السابق، ٢٦١.
(١٥٢) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٥٤٢–٥٤٤.
(١٥٣) البوليس السياسي، ٢٦٦.
(١٥٤) الحركة الوطنية المصرية، ١٢٢.
(١٥٥) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٥٤٧.
(١٥٦) المصور، ٨/ ٤/ ١٩٨٣م.
(١٥٧) البوليس السياسي، ٢٥٨.
(١٥٨) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٥٢٥.
(١٥٩) البوليس السياسي، ٥٣.
(١٦٠) المرجع السابق، ١١.
(١٦١) السابق، ٢٥.
(١٦٢) السابق، ١٦٢.
(١٦٣) الجديد، أول مايو ١٩٧٣م.
(١٦٤) المرجع السابق.
(١٦٥) المرايا، ٢٤.
(١٦٦) المصدر السابق، ٢٧.
(١٦٧) السابق، ٢٧.
(١٦٨) في بيتنا رجل، ٣٨٧.
(١٦٩) المصدر السابق، ٣٩٢-٣٩٣.
(١٧٠) المحاكمة الكبرى، ٦٦-٦٧.
(١٧١) الشارع الجديد، ٤٠١.
(١٧٢) الشوارع الخلفية، ٥٢٨.
(١٧٣) محمد جلال، الكهف، الرواية.
(١٧٤) الشارع الجديد، ٤٠١.
(١٧٥) المصدر السابق، ٤١٣-٤١٤.
(١٧٦) البوليس السياسي، ٤٢.
(١٧٧) الشوارع الخلفية، ٢٥٠.
(١٧٨) المصدر السابق، ٢٦٣.
(١٧٩) السابق، ٢٧٣-٢٧٤.
(١٨٠) السابق، ٤٦٩.
(١٨١) السابق، ٢٧٣.
(١٨٢) السابق، ٥٤٧.
(١٨٣) الشرق الأوسط، ٢٢/ ١٠/ ١٩٨٠م.
(١٨٤) مذكرات صلاح نصر، المصور، ٣/ ١/ ١٩٨٦م.
(١٨٥) حسن العشماوي، الإخوان والثورة، ١٨.
(١٨٦) المرجع السابق، ٢٠.
(١٨٧) السابق، ٢٢.
(١٨٨) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٢٨٣.
(١٨٩) مذكرات إبراهيم طلعت، ٤٤٦.
(١٩٠) الوفد، ٣١/ ١/ ١٩٨٥م.
(١٩١) مذكرات إبراهيم طلعت، ٢٤٧.
(١٩٢) المصدر السابق، ٢٥٤-٢٥٥.
(١٩٣) السابق، ٢٥٥.
(١٩٤) السابق، ٢٥١.
(١٩٥) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٢٥٠-٢٥١.
(١٩٦) الحصاد، ٣٨١.
(١٩٧) محمد أنيس، حريق القاهرة، ١٥٤.
(١٩٨) البوليس السياسي، ٢٥٢.
(١٩٩) الحصاد، ٣٦٨.
(٢٠٠) مذكرات منسية، ٢٢.
(٢٠١) يوسف السباعي، رد قلبي، الخانجي، ٨٤٢.
(٢٠٢) حتى مطلع الفجر، ١٥٤.
(٢٠٣) في ظلال المشنقة، ٢٦.
(٢٠٤) أحمد حسين، واحترقت القاهرة، المطبعة العالمية، ١٩٦٨م، ٥٢. ويقول عبد العزيز الدسوقي — نقلًا عن أحمد حسين — إن «واحترقت القاهرة» هي التاريخ الكامل مائة في المائة (القاهرة، ٢٠/ ٨/ ٢٠٠٢م).
(٢٠٥) واحترقت القاهرة، ٤٢٨.
(٢٠٦) المصدر السابق، ٤٤٤.
(٢٠٧) حريق القاهرة، ٥٤.
(٢٠٨) مجرد ذكريات، ١: ٩٠.
(٢٠٩) أكتوبر، ٩/ ٢/ ١٩٨٦م.
(٢١٠) المرجع السابق.
(٢١١) قضية التحريض على حريق القاهرة، ٤٠١.
(٢١٢) المرجع السابق، ٥٤٢.
(٢١٣) السابق، ٥٠٩.
(٢١٤) السابق، ٥١١.
(٢١٥) السابق، ٥١٠.
(٢١٦) الدسوقي، أحمد حسين، ١٥٦-١٥٧.
(٢١٧) المرجع السابق، ١٥٧.
(٢١٨) محمد أنيس، حريق القاهرة، ٤٠.
(٢١٩) أكتوبر، ٩/ ٢/ ١٩٨٦م.
(٢٢٠) واحترقت القاهرة، ٤٦٩.
(٢٢١) في ظلال المشنقة، ٢٦.
(٢٢٢) واحترقت القاهرة، ٤٤٤.
(٢٢٣) المصدر السابق، ٤٤٦.
(٢٢٤) السابق، ٤٥٩.
(٢٢٥) السابق، ٤٥٣.
(٢٢٦) السابق، ٤٤٨.
(٢٢٧) السابق، ٤٥١.
(٢٢٨) من حوار لأحمد حسين، آخر ساعة، ١٩٧٦م.
(٢٢٩) شيء في صدري، طبعة مكتبة مصر، ١٩٧٨م، ٤٧١.
(٢٣٠) «مصر: ولع فرنسي»، ٣٠٠.
(٢٣١) بيت الطالبات، ٤٧.
(٢٣٢) مقامات ريان، ٩٤.
(٢٣٣) أمين ريان، القاهرة تحترق، الثقافة، أبريل ١٩٧٦م.
(٢٣٤) مقامات أمين ريان، في إحدى حارات القاهرة.
(٢٣٥) الرجل الذي فقد ظله، ١: ١٦٧.
(٢٣٦) مقامات ريان، ٩.
(٢٣٧) محمود البدوي، الغضب، مجلة «القصة»، يوليو ١٩٦٤م.
(٢٣٨) المصدر السابق.
(٢٣٩) جمال الشرقاوي، حريق القاهرة، ٦٣-٦٤.
(٢٤٠) قضية الشاويش صقر.
(٢٤١) الصراع الطبقي في مصر، ٩٨-٩٩.
(٢٤٢) مذكرات كمال رفعت، ١٦٦.
(٢٤٣) الحركة العمالية في مصر، ١٣٨.
(٢٤٤) محمد أنيس، حريق القاهرة، ٣١.
(٢٤٥) الباب المفتوح، ١٤٦-١٤٧.
(٢٤٦) الدسوقي، أحمد حسين، ١٥٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥