قصة حب واغتيال الإرادة
يصف ماهر شفيق فريد رواية يوسف إدريس «قصة حب» بأنها «قصة حبٍّ مصرية، تحمل كلَّ
مذاق الحياة الشعبية
في الشوارع والحواري والأزقة، ليس فيها ادِّعاء ولا بطولات مصطنَعة، وإنما هي ذات صدق
آسر، ومعرفة ثاقبة
بالطبيعة البشرية، وفيها حسٌّ فكاهي فريد، وابتعاث حي للأجواء والأماكن والطعوم والروائح،
وغوص في أعماق
النفس، دون سفسطة ولا تعالم.»
١
كان إبراهيم حمدي (في بيتنا رجل) يؤمن بأن العنف هو السبيل الوحيد لتحقيق الحرية،
بينما كان إيمان
حمزة (قصة حب) أن العنف هو السبيل الوحيد لتحقيق الحرية، وتحقيق التحرر أيضًا؛ فالقضية
ليست في جلاء
الاستعمار وحده، لكنها في نسج ظروفٍ أفضل للملايين من الكادحين والبسطاء.
حمزة يختلف عن إبراهيم في أنه كان يتعامل مع القائم، ويُعد للمتوقع من زاويتين: الزاوية
الوطنية،
والزاوية الاجتماعية. أما إبراهيم، فلم يكن إقدامه على قتل الباشا بهدفٍ طبقي، وإنما
لأن الرجل كان أحد
أعوان الاستعمار في مصر. وحمزة يختلف عن إبراهيم في أن إبراهيم ابن أحد الموظفين الذين
يعنيهم البعد
القومي في القضية، بينما حمزة ابن عسكري دريسة، كان البُعد الاجتماعي هو المنطلَق في
سعيه نحو الثورة ضد
الاستعمار، وضد الظلم الاجتماعي في آن «الحكاية يا سيد مش حكاية الإنجليز … دي حكايتنا
إحنا … حياتنا،
ومستقبلنا.»
ترك حمزة دراسته الجامعية، وعمل موظفًا بإحدى الشركات، في حين واصل نضاله ضد الوجود
الاحتلالي.
وإذا كانت النظرة الرومانسية التي تضع «البطل الوطني» في إطارٍ من الأسطورة، هي التي
أملت على نوال
موقفها من إبراهيم حمدي، فتعرض سمعتها وحياتها للخطر، فإن النظرة نفسها كانت هي التي
قادت فوزية في «قصة
حب» إلى حد الزعم بلجنة وهمية، وبأنها تستطيع أن تخفي له حقيبة الديناميت، وبأنها — في
الواقع — زميلة
نضال، لا وقت للحب في ذهنها ولا في حياتها … أرادت التعرف — بالفضول — إلى الفدائيين،
وكيف يمارسون
حياتهم، لكنها ما تلبث أن تفيق من «الانفصام» الذي تجره إليها تلك النظرة، وتصارح حمزة
بكل شيء، وأن
اللجنة من نسج خيالها، وأنها لا تقوى على فعل أشياء كثيرة، وأنها تحبه،
٢ فهل كانت فوزية عضوًا في اللجنة، أو أنها — كما تشير الرواية — مجرد لجنة وهمية؟
اللافت أن الشخصيات في رواية إحسان عبد القدوس «في بيتنا رجل» أقرب إلى ردود الأفعال،
فيما يقدِم عليه
إبراهيم حمدي من أفعال، أما شخصيات يوسف إدريس، فقد كانت تتصرف بوحي من ذاتيتها المستقلة
التي قد تتأثر،
لكنها تؤثر أيضًا، وتقبل، وترفض، وتشارك، وتسهم في تصاعد الحدث وتنميته.
الشخصيات التي اتصل بها إبراهيم حمدي هي — في إطارها العام — أسرة الموظف مصطفى زاهر،
حتى عبد
الحميد، ابن الأخ الخائب، تشدُّه إلى الأسرة عاطفة ومصالح. أما الشخصيات التي اتصل بها
حمزة (قصة حب) فقد
كانت ذات ملامح واضحة متميزة، بدءًا بفوزية التي تتخلَّى عن «الرومانسية»، وبدير الذي
يؤمن بالصداقة،
وبالحب، ويؤمن بالحياة الهادئة أيضًا، ويحيا — في الوقت نفسه — في عزلة عن الشعب تمامًا،
٣ فهو يقتني غسالة ومكنسة وثلاجة وبوتاجاز، وغيرها من وسائل المدنية الحديثة، وكل تفكيره
ينحصر في شئونه الذاتية، وأبو دومة الذي يُعَد مثلًا للمواطن المصري البسيط — يرفض حتى
أن يتقاضى مقابلًا
لما فعل، وكان كشفه يعرضه لخطر السجن!
٤ وأم محمود — زوجة أبو دومة — التي يدعو وعيها وفكرها حمزة إلى ترشيحها للجنة الكفاح
المسلح،
وسعد الذي ضيَّعه انقلاب السادس والعشرين من يناير، ورشدي الذي أسلم بكارته الوطنية لمضاجعة
البوليس
السياسي.
•••
كان حمزة ثوريًّا حتى الأذنين، يجد نفسه في الثورة إطلاقًا، ليست الثورة ضد الاحتلال
البريطاني
وحده، ولكن الثورة ضد كل ما هو فاسد وزائف ومتعفن،
٥ كان ثوريًّا كاملًا،
٦ حتى الحب، أنكره في البداية على نفسه، حتى الموسيقى، كان يفضِّل أسطوانة «مارش العبيد»
لتشايكوفسكي، كان يرى في نغماتها أنين البشرية كلها تحت لسعات العسف، وبحثها المرهف عن
المصير،
٧ بل إنه أنكر على نفسه الفرار من وجه السلطة، فذلك تعبير عن الفشل، والأيام تنقضي، والمعركة
تخمد جذوتها، وتهمد نيرانها الراقدة تحت الرقاد، وهو جالس يلعب، ويحب، ويناقش مشاكله
الخاصة «هراء ما
فعله، وهراء ما يفعله، وهراء تلك الساعات التي تمضي، والأيام التي تنقضي، والمعركة تموت
ولا تنتظر،
هراء. لن يُخرِج الإنجليز ترتيبه وتنظيمه وقيادته المزعومة للمعركة وهو مختبئ في القاهرة؛
مكانه هناك في
التل الكبير أو القرين أو الإسماعيلية أو أية مصيبة.»
٨
حين جاءته فوزية، أحس بفرحٍ عادي، ورهبة غير عادية أيضًا «إن مجيئها ليس له إلا معنى
واحد، أنها
استجابت وجاءت، وأن الظلام الذي تراكم في نفسه، وشوَّه أمامه طريق المستقبل، قد انقشع
فجأة، وحفل الطريق
بنورٍ باهر فياض.»
٩
لم يكن حمزة — حتى اللحظة التي التقى فيها للمرة الأولى بفوزية — يثق بالفتيات، ولا
بما يمكن أن
يقمن به، وإن كان يردد دائمًا أنه لا فرق بين الرجل والمرأة، وأن لها مثل ما له من حقوق،
١٠ وبدأت فوزية، شخصية فوزية، تفرض عليه نفسها: «هناك شيء محير يحيط بتلك الفتاة، لا بد
أن في
الأمر سرًّا لا يدريه، إنه لا يحبها؛ إذ الحب في نظره علاقة لا تنمو هكذا بمجرد نظرات
وكلمات ولقاءات،
الحب الحقيقي علاقة مادية يقتضي وجودها زمنًا وعشرة وتجربة يمر بها الرجل والمرأة، فتصهرهما
في بوتقتها،
فإذا لم يكن يحبها فماذا يدفعه إليها؟!»
١١ ثم أصبحت فوزية — في أعقاب حريق القاهرة — صلته الوحيدة بالعالم الخارجي: «بقى شوفي
يا ستي …
أنا بقيت زي الفار في المصيدة بعد ما فقدت كل اتصالاتها … ودلوقتي أنتِ الصلة الوحيدة
اللي باقية لي …
فاهماني إزاي؟»
١٢
كان لفوزية — في المقابل — رأيها في المثقفات، اللائي لا يعرفن شيئًا من أمور الحياة
الأسرية.
يسألها حمزة إن كانت تعرف صنع القهوة، فتجيبه في دهشة: طبعًا أعرف! أنت فاكرني مثقفة
متعفنة؟
دانا اللي شايلة بيتنا كله وشغله … دلوقتي حتشوف القهوة.
١٣
•••
نحن لا نعلم عن الظروف الأسرية لفوزية، وإن بدا من تصرفات الفتاة أنها أسرة أميل إلى
التحرر، فقد
قضت معه وقتًا طويلًا، بل إنها أمضت ليالي بعيدًا عن أسرتها دون أن يبين من أقوالها وتصرفاتها
أنها تخشى
المساءلة.
من المؤكد أن شخصية الأب كان لها تأثيرها الواضح في تشكيل شخصية فوزية، فعلى الرغم
من أنه قد تخرج
في دار العلوم التي كان خريجوها ينتسبون — بصورة وبأخرى — إلى التيارات المحافظة، فقد
كان له رأيه في
وجوب أن يكون للفتاة استقلالها وحريتها في أن تصوغ مستقبلها بيدها.
حين عاتبه البعض على تشغيله لابنته مطَّ شفتَيه، وقال: ما عيب إلا العيب، والذين يعملون
أشرف من
الذين لا يعملون.
ولما تقرر نقلها إلى طنطا، وعلت عبارات الإشفاق من أن تحيا هناك بمفردها، قال: اللي
ما يقدر يحافظ
على نفسه حيحافظ عليه غيره؟
بل لقد أخبره البعض أنه رآها محمولة على الأعناق في عابدين، في مظاهرة ١٣ نوفمبر،
وهي تهتف، فقال
في بساطة: كلموها هي … أنا أبوها مش سيدها!
١٤
بعد أن سيطر حب فوزية على حمزة، بدأ يتساءل: هل ستسير حياته كلها هكذا، معارك وكفاح
وتربص وحذر؟
كم تبدو الراحة والمتع الصغيرة التي لا يزاولها، حلوة؟ كم يبدو بيت هادئ وزوجة وأولاد
جميلة؟ أحيانًا
يهفو إلى قضاء يوم على شاطئ البحر في مصيف، أحيانًا يود الذهاب إلى الأوبرا … أحيانًا
يريد أن يرى
أوروبا.
١٥
أما فوزية، فقد كانت الرسالة التي بعثت بها إليه، تعرية كاملة لموقفها، وإدانة لتصرفاتها،
فهي إذا
كانت قد اتهمته بأنه خان دوره وثقته فيها، فإنها كانت تتهمه بنفس ما اقترفته. وصارحته
— في بساطة — أنها
مثَّلت أمامه دور البطولة، وإن كان الحب وحده هو الشعور الذي تسلل إلى نفسها، حين التقت
به للمرة الأولى
في معسكر التدريب.
وعلى الرغم من عدم وجود لجنة مدرسات بالمعنى المفهوم، فإنها قد وجدت من نفسها الجرأة
لأن تسميها —
بالفعل — لجنة، ووعدته بجمع التبرعات، لكن المبلغ الذي جمعته كان قروضًا من زميلاتها
في المدرسة بحجة
علاج أبيها المريض، وتقول في رسالتها: «كان كل همي هو أنت والظهور أمامك، ولما جاء ٢٦
يناير، لن تستطيع
أن تصور مبلغ فرحي حين أمكن أن أعثر عليك بعدها … ليس ذلك لأنني كنت مهتمة بقضيتنا الوطنية
هذا الاهتمام،
وإنما لأني كنت قد بدأت أهتم بك، وأفكر فيك، وأنا طالبة في كلية الآداب، ورأيت مئات الطلبة،
وقابلت في
حياتي عشرات الرجال، ولكني لم أهتز، ولم أحفل بأحدٍ غيرك، كأنهم جميعًا كان ينقصهم شيء
وجدته لديك، أو
كأنني أنا كان ينقصني شيء، ووجدته عندك … وإذا كنت قد ناقشتك أحيانًا، وتحدثت معك عن
الكفاح والعمل
والواجب، فما كان ذلك لإيماني، بل كان لأنني وددت دائمًا أن أرضيك.»
١٦
ثم زاد من إقبالها عليه، تلك الحياة الغريبة التي كان يحياها: التخفي والأسمنت والأصدقاء
الذين
يختفون، وكانت المسألة — في مجموعها — أقرب إلى المغامرة التي تلتذ بخوض غمارها، بل إنها
عندما تطوعت
لإخفاء الديناميت، فكرت في أن تتركها في التاكسي وتختفي، لكنها وجدت في ذلك مخالفة للثقة
التي أولاها
إياها، وحملت الحقيبة إلى بيتها.
كانت تلك الحادثة بالتحديد، ذات تأثير مهم على حياتها وأفكارها، فقد أدركت أن العمل
السياسي ليس
«منظرة»، ولا إثبات للرجال أن المرأة ليست أقل منهم، ولكنها نضال وكفاح من أجل قضية كبرى.
تقول فوزية: «كنت آتية وفي ضميري كل ما أملكه من إرادة لأحاول أن أصلح نفسي وأتعلم
منك، ثم أفاجأ
بك تقول ما قلت، وتعترف لي أنك أنت الآخر ضعفت مثلي وأحسست ناحيتي … إلخ، ولك أن تتصور
مبلغ خيبة الأمل
التي أُصبت بها، ومبلغ الضياع الذي وجدتُ نفسي أعانيه، وقلتُ لك ما قلت، وقلتَ لي ما
قلت، وخرجت من عندك
وأنا لا أدري ماذا أفعل … ظللت في الفراش ساعات كثرة، أفكر في أحسن الوسائل لذبحك وتأنيبك
ولفت نظرك،
كانت دوامة تدور في رأسي، فلسببٍ ما كنت لا أتوقع أن تحبني، أو إذا أحببتني لا تصارحني
بهذا الحب، كأن
البطل الذي في خيالي كان يجب أن يفعل هكذا، لسببٍ ما نحرم على أنفسنا أن تنال ما تشتهي
بكافة الحيل
والعقبات … وهل هذا مستحيل؟ وهل هناك تعارض بين أن تحب، وبين أن تكافح من أجل كل ما أنت
مؤمن
به.»
١٧
لعل ما قالته فوزية قد كرَّرته نوال (بيت الطالبات) — تقريبًا — في قولها: «هوَّه
معقول نسيب مائة شاب
يدافعوا عنا، ويموتوا هناك لوحدهم، لازم نعمل أي حاجة، نروح معاهم، نموت إحنا كمان يمكن
ضمير العالم
يتحرك.»
١٨
ويصارحها حمزة — في المقابل — بقوله: «أنتي نسيتي حاجات كتير وحمِّلتي نفسك كل الخطأ
… نسيتي إن فترة
نشاطك كانت فترة إقبال من كل الناس على المساهمة في القضية، وإن الفترة اللي بدأت فيها
اللي بتسميه
مغامرة كانت فترة إرهاب … يعني الفترة اللي بتظهر فيها الانحرافات والمغامرات.»
تشير إليه كمثلٍ مخالف لذلك، فيقول لها ببساطة: «انتي واخدة عني فكرة مثالية قوي
… أنا مش بطل ولا
كلام من ده … فاهماني إزاي؟ أنا من دم ولحم، وعندي نفس المشاكل الجنسية والنفسية اللي
عند كل الشبان اللي
زيي، وأنا برضه لما اتصلتي بيَّ، كنت مبسوط لأني حاشتغل مع واحدة حلوة زيك، وبرضه لما
ابتديت أعجب بك،
وأدخل في الغميق، كنت فاهم إن فيه تعارض، أنا إنسان زيك تمام.»
١٩
حين أصبح حبهما حقيقة، يعترف كلٌّ منهما للآخر، بأن عناقهما لم يكن مجرد عناقٍ بين
رجل وامرأة، بين
شاب وفتاة، بين محبَّين فاض بهما الشوق … «كانت صغيرة، دقيقة بين ذراعيه، وكان الفم الذي
يطبق عليه هو فم
فوزية الثائرة الزميلة، والقلب الذي يدق بعنفٍ في حضنه هو قلب امرأة ناضلت وتناضل، والرأس
الذي بين
راحتيه هو ما يدور فيه القلق الدائم الشريف على مصير شعبه، والأصابع التي تضغط على ذراعيه
وتسترفقه، هي
نفسها الأصابع التي حملت حقيبة الديناميت، وحملت إليه الجنيهات، والتي مَن يدري ماذا
تحمل غدًا. لم تكن
هناك أنثى حبيبة في ناحية، وزميلة كفاح في ناحية، ولم يكن نصفه حمزة الثائر، ونصفه الآخر
حمزة الرجل، بل
لم يكن هناك فوزية وحمزة، كان هناك لقاء ضخم رائع.»
٢٠ كانت فوزية هي التي بادرت إلى مغازلة حمزة، وهي التي بدأت بتقبيله، ولما أراد أن يعبِّر
عن
حبه لها، قال: «أنا حبيت مصر فيكي … حبيت النيل اللي ف دمك، وبياض القطن اللي ف وشك،
وشمسنا الحلوة اللي
عسِّلت ف عنيكي.»
٢١
وكان توالي أيام القلق والخوف، واكتشاف كل منهما لما يحمله الآخر في داخله من حقائق
ربما لا تبدو
في تصرفاته الظاهرة، العابرة … كان ذلك كله وراء قول فوزية لحمزة: تعرف إنك لذيذ … أنا
كل دقيقة باكتشف فيك حاجات تتحب.
– وأنا كل دقيقة باحس بالتغيير اللي عملتيه في نفسي.
– أنا عملت تغيير؟
– كتير.
– مثلًا؟
– مثلًا، كنت واخد الكفاح بشكلٍ بطولي، كنت فاهم إني باضحِّي عشان الناس، فلازم يحبُّوني
ويفردولي
مكانة، كأني مسيح، فاهماني إزاي، ودلوقت شعرت بقضيتنا كبيرة، وبدوري فيها متواضع، وكل
ما بشوف ظلم،
باشعر إن اللي باعمله مهما كان قليل. مثل تاني: كنت حاسس بالغربة، وإني صحيح بقوم بدوري
اللي بيخدم
الناس، إنما كنت بعيد عنهم، أنتِ خلِّتيني أشعر بأني ارتبطت بالمجتمع ارتباط وثيق، إني
بقيت منه.
٢٢
أصبح الحب هو الدافع لأن يناضل حمزة، حب الناس والوطن وفوزية، وإن لم يُعلِن عن حبه
لفوزية، حتى لا
تُصدَم إذا قُبِض عليه، وكان الحقد — قبلًا — هو الذي يحركه، والحقد قصير العمر، أما
الحب، فهو ذو مدى بعيد.
كان يحقد على الظلم والاستعمار والوزارات العميلة، لكن الحب غيَّر من نظرته إلى القضية،
فهي — في
الدرجة الأولى — قضية الشعب وأهدافه، وهناك لن تجد سبيلها إلى الحل، إلا إذا كان الفرد
مؤمنًا — بداءة —
بالشعب، وبضرورة أن يجد مكانًا تحت الشمس. وكان هذا الحب الإيجابي هو المنطلق لأن يضغط
حمزة على وجوب
التخلي عن المعاني المجردة.
«– إحنا ضيعنا وقت كتير … ولازم نبتدي … ونبتدي بالناس اللي حوالينا … إحنا قدامنا
حاجات كتير لازم
نعملها.
تقول فوزية: بس الناس اللي حوالينا مش شايفة فيهم حد ينفع.
يقول: إزاي ما فيهمش حد؟ شوفي يا فوزية، صحيح فيه ناس أحسن منهم، بس لازم تعرفي إن
في كل إنسان
جزء طيب ونضيف وثوري، وعلى استعداد لخدمة المجموع، وجزء آخر وحش وفردي ومناقض له تمام
… المقاومة هي
مجموع الأجزاء الصالحة في الناس، وهي دي اللي بتدفع المجتمع لقدام، وهي دي اللي بتغيَّر.»
٢٣
كان الحب أيضًا، هو الباعث لأن يقرر حمزة إعادة تكوين اللجنة حالًا، منه ومن فوزية
وأم محمود وسيد
ومسعود، وأن يحيل المدافن إلى ترسانة، تقود — بواسطتها — اللجنة كفاحًا ضاريًا لتعبئة
الرأي العام، حتى
تستأنف المعركة.
٢٤
إن «قصة حب» — كما يصفها محمود أمين العالم — تعبير بالغ الأهمية عن مفهوم اجتماعي
جديد
للحب.
٢٥
•••
أما بدير، فعلى الرغم من صداقته الحميمة لحمزة، إلا أنه كان له أفكاره المناقضة. يسأله
حمزة: «ما فيش أخبار جديدة؟
– ما فيش … بس فيه إشاعة كده إن الوزارة حتستقيل.
– ما هي أدَّت دورها … خلَّصت على المعركة، وأعلنت الأحكام العرفية.
– والله الحكاية بقت نيلة قوي … تفتكر يعني حنفضل كده على طول؟
– طبعًا لأ … بس لا يمكن حا يحصل أي تغيير، إلا إذا استؤنفت معركة القنال.
– يا جدع بطَّل بقى … ما راحت الهوجة بتاعة زمان دلوقتي، والناس خلاص سكتت، وكل واحد
بيقول: ابعد عن
الشر وغني له.»
٢٦
ويقول بدير: طبعًا … ما هو المسألة يا يكون فيها وطنية وكفاح يا بلاش … يا كلام في
السياسة يا ما فيش
كلام … يا أخي متفضونا بقى، وتخلوا الناس يكلوا عيش.
٢٧
وبينما كان حمزة مشغولًا بالأسمنت (الألغام) والخوف من أن تهتدي السلطة إلى مكانه،
فإن بدير كان
يشرح نظريته في الحياة الأسهل، بلا حاجة إلى خدم، ولا متاعب من أي نوع.
– خدامين إيه؟ أولًا كل الخدامين بلا استثناء حرامية … وثانيًا بيكلفوا كتير … وثالثًا
تبص تلاقي
الواحد منهم مشاركك في عيشتك، على إيه ده كله؟! غسيل؟ جبت غسالة بالكهربا. كنس؟ جبت برضه
مكنسة. طبيخ؟
ما لوش لزوم، آكل في المطاعم أحسن، وإن هف على الواحد حاجة يبقى يعملها بنفسه، على الأقل
يضمن نضافتها،
ويتسلى، وبتبقى لذيذة جدًّا.
٢٨
وعندما بدأت العلاقة بين حمزة وفوزية تشغل بدير، فإن مرتكز أفكاره هو أن الجنس إطار
حتمي للعلاقة
بين الرجل والمرأة.
يسأله — يومًا — في جدية: قول لي يا حمزة … وصلت معاها لفين؟
– هي مين؟
– إحنا حنلف على بعض؟! وصلت ولَّا ما وصلتش؟
– يا جدع بلاش هزار في الحاجات دي.
– بستها؟! أنا ما يهمنيش حتى إذا كنت وصلت إلى ما بعد البوسة.
– يا بدير بطَّل كلام فارغ.
– وحياة أبوك لا أنت قايل … عملت معاها إيه؟
٢٩
ثم بدأ بدير يناقش ما تصوره حبًّا من ناحيته لفوزية.
«– اسمع.
– إيه؟
– افرض إنك بتحب واحدة جدًّا.
– طيب فرضت.
– وما تعرفش إذا كانت بتحبك ولَّا لأ … تعمل إيه؟
– أولًا أنا مش سفسطائي علشان أقعد أفرض حاجات في الهواء، لازم أعرف إيه هي المشكلة؟
ومين
صاحبها؟ ثانيًا: ما تحاولش التنكر، لأن عيبك إنك كذاب فاشل، ومش معقول يعني إنسانيتك
تحبك دلوقت،
وتهتم بواحد صاحبك ومشكلته. الساعة اتنين، فقوللي بتحب مين بقى سعادتك؟»
٣٠
ووشت تصرفات بدير بحبه لفوزية، فما أن تدخل الشقة حتى يبدو عليه الارتباك، ولا يستقر
في مكان
واحد. يغادر الحجرة، ثم يعود إليها، ويتحدث ويسكت ويضحك، ويعرض عليها أن يستمعا إلى أسطوانة
لفريد
الأطرش،
٣١ وكانت غضبة بدير، وإصراره أن يأخذ حمزة فوزية، وأن يتركا البيت حالًا، ووصفه إياها
بالشرموطة … كان ذلك كله تعبيرًا عن حبه لفوزية، ذلك الحب الغريب الذي لم يقوَ بدير على
إعلانه، وإن عذَّبه
وأضناه، وكان ذلك بالنسبة لحمزة المذهول اكتشافًا جديدًا، بدأ يراجع معه حساباته وآراءه
في الحياة
والناس «وخُيِّل لحمزة أن نظرته إلى بدير، وإلى الناس عامة، تغيرت، بل لا بد أنها تغيرت،
ولا بد أنه كان
مخطئًا إلى حدٍّ ما في استيعابه للجماعة البشرية. كان يؤمن أن الناس تتطور، لكنه يدرك
الآن أنه كان يرى
ذلك بطريقة آلية … إن الناس ليسوا أرقامًا، ولإرادتهم ولعواطفهم دخْل في تطورهم المحتوم،
إن الناس ليسوا
آحادًا وعشرات لا تملك إلا أن تتكاثر وتتناقض وتصنع التاريخ بحركتها.»
٣٢
ولعلنا نجد ذروة التناقض بين موقف كلٍّ من حمزة وبدير في الحوار الذي أراد بدير —
حين بدأه — أن
يحمي حمزة من الخطر الذي كان يتهدده.
– اسمع يا حمزة … انت تعرف إن مصلحتك هي مصلحتي، وانت زي أخويا تمام، وبقى لنا ييجي
١٥ سنة زُملا
وأصحاب، وأنا عايز أقول لك حاجة: ما تهدى بقى يا خويا يا حمزة، وتفضك من الحكاية دي،
كفاية بقى ضيعت كام
سنة من عمرك هدر، وما عدشي في العمر قد ما مضى، انت طول عمرك حتفضل هربان ومرفود ومانتاش
لاقي تاكل، لا
مؤاخذة يعني يمكن يكون كلامي شديد شوية، إنما الحقيقة كدة.
٣٣
إذا كان بدير قد اقتنع بأنه «الظاهر مافيش فايدة» فإن تأثيرات الحوار قد انعكست على
نفس حمزة
إحساسًا بالغربة، داخل الشقة الفاخرة. حتى كلمة «الشعب» بدت له غريبة وسط قطع الأثاث
الفاخرة، وانثالت —
في المقابل — صور حياته الأولى: عزب الدريسة التي شهدت طفولته وصباه، وأبوه عامل الدريسة،
والمجتمع الذي
ينتزع قُوته اليومي من أنياب أيام قاسية.
مع ذلك، فإنه من الظلم وضع بدير في الخانة نفسها التي نضع فيها رشدي، فقد كان رشدي
عميلًا للبوليس
السياسي، يتجسَّس على الوطنيين. أما بدير، فإنه لم يقُم بأي عمل ضد وطنه أو مواطنيه،
وبعد أن طرد حمزة من
بيته، ما لبث أن شعر بفداحة ما فعل، فكتب بروازًا في عمود الاجتماعيات، يطالب حمزة بالعودة:
«ولدي حمزة:
عُد إلى المنزل، وحقك علينا.»
٣٤
كان ذلك دليلًا على طبيعة بدير الحقيقية وأخلاقه.
•••
كانت أحداث ٢٦ يناير، والأيام التالية، دافعًا لأن يتخلى سعد عن النضال، وينشغل بحياة
مشبوهة. لقد
تصرف بنذالة، عندما طلب منه حمزة إخفاءه: «والله يا حمزة … انت عارف أنا ساكن مع أهلي
… ومش عارف أعمل
إيه … مشكلة غريبة … طب مش تقوللي من يومين تلاتة … مثلًا … كنت أعرف أتصرف … كنت عرفت
أعمل حاجة … لا مؤاخذة
يا حمزة … باردون.»
٣٥
إذا كان سعد هو أحد هؤلاء الذين تخلَّفوا عن مسيرة النضال، دون أن يتبدَّد الأمل
في عودتهم، فهو قد
عاد — فعلًا — في نهاية القصة. سعد مثل للثوريين الذين قد ينعزلون عن الشعب، لكنهم يعودون
إلى الشعب في
النهاية. أما رشدي، صاحب الوجه الدائم الاحتقان، المنتفخ بالسمنة، والعينين الصغيرتين
المدسوستين في
ملامحه، والكلمات الضخمة الجوفاء … فقد ثبت أنه يعمل مع البوليس السياسي،
٣٦ كان أحد هؤلاء الذين آثروا التخلي عن النضال ذعرًا من عواقبه، بعد أن فَرضت الأحكام
العرفية
ظلالها القاسية من اعتقال وسجن وتعذيب وتشريد.
٣٧
لم يكن حمزة يعرف شيئًا على الإطلاق عن إسماعيل أبو دومة ذي الوجه الجاف الأسمر الخشن،
والذقن
النابت، والشارب، والعين الحولاء، والكلمات السريعة الثرثارة … لكن عبارة «كل أسمنت وانت
طيب» التي ودَّع
بها أبو دومة حمزة، وهو ينطلق بالديناميت بعيدًا عن المقابر، وَشت بأنه يعرف السر الذي
يخفونه عنه، وأنه
على استعدادٍ ليصونه،
٣٨ ووجد حمزة نفسه مدفوعًا لأن يصارح الرجل بحاجته إلى الاختفاء.
ويقول أبو دومة: دانا أخبيك وأخبيك وأخبيك … دانا أوَديك في حتة ما يعرفهاش الجن الأحمر.
ويتساءل الرجل في استنكار: بس حترضى تروح هناك يا سعادة البيه؟ مش معقول.
– معقول قوي، أرضى قوي، في أي حتة، فين؟
– هناك في الملك ده.
– هناك فين؟
– في أي حوش من الأحواش بتوع الجبانة.
٣٩
وما كاد حمزة يضع في يد أبو دومة الجنيه، مقابلًا لإيوائه ليلة في المقابر، حتى نفض
الرجل ذراعه
في غضب، وترقرقت عيناه بالدموع وهو يقول: «الله … إيه ده يا سي حمزة؟ أنت بتشتمني … هو
أنا راجل واطي …
أنا فقير، فقير … إنما برضه عندي مروءة … ولَّا إكمني يعني فقير … دانت ضيفي يا سي حمزة
… دانت راجل متعلم
وتفهم … والحمد لله يا أخي ربك ساترها … لا لا لا يا سي حمزة … أنت والله كأنك قلعت الجزمة
وضربتني … دانت
كأنك تفيت في وشي … روح يا شيخ الله يسامحك.»
٤٠
يصفه حمزة بأنه «رجل عجيب … كل يوم بيمر على الواحد في المعركة بيتعلم منه حاجات
كتير ما كنتش
شايفها شفتها، وحاجات ما كنتش لامسها خلتيني ألمسها وأقدَّرها، أنا كنت باكافح زمان لأني
كنت مجرد إنسان
حاقد على الظلم والأعداء، إنما الاستعمار ممكن ينتهي، والظلم ممكن يتشكل، والقضية مداها
أبعد من كده
بكتير، القضية مش قضية الأعداء، لا، دي قضية الشعب وأهدافه.»
٤١
أبدى حمزة خوفه من مصارحة إسماعيل أبو دومة لزوجته بأن «سي حمزة مضاضي الإنجليز …
وبينه وبين
الحكومة شوية.»
فقال الرجل في بساطة: «أصل لا مؤاخذة يا سي حمزة … مفيش بيني وبين أم محمود سر …
إحنا ع الخير والشر
سوا.»
٤٢
يصف أبو دومة زوجته بأنها «متعلمة، بتقرا الجرانين وتكتب، وأسمع أنا وهي الراديو،
تفهم هي كل حاجة
زي البربند، وأنا ولا كأني سمعت، دي في السياسة إكس.»
٤٣ وتقول فوزية: «أنا يا حمزة باستغرب جدًّا على أبو دومة ده ومراته … تصور واحدة بتقرا
وتكتب زي
دي تجوز ليه واحد زيُّه؟
– وليه ما تجوزوش؟
– لأن كان ممكن تجوز أحسن منه.
– أحسن زي مين؟
– أصغر منه بكتير ومركزه أحسن.
– شفتي بقى إن ساعات حكم الناس البساط بيبقى أحسن من حكمنا؟ شفتي بقى إنها ما بصتش
لحاجات من
دي؟! لازم فيه حاجة عجبتها فيه … لازم … الست دي باين عليها معدنها سليم جدًّا … دي لازم
في يوم من الأيام
يبقى لها دور.»
٤٤
أما سيد إبراهيم الذي كان يبدي غضبه لأنه لم يشارك في الحركة الوطنية بالصورة التي
يأملها، وأخفى
الديناميت في المقابر رغم خطورة ذلك، والذي ما إن علم بسؤال حمزة عنه حتى سعى إليه في
مقبرة داود باشا،
ومعه عدة الشاي، ليقضي الليل إلى جواره، يؤانسه. وقال حمزة لنفسه: أين أنت يا أستاذ بدير
لترى أني لا
أضيع حياتي من أجل الناس عبثًا، كل واحد منهم يستاهل أن أضيع عمري من أجله.
٤٥ سيد كان — في الأصل — عاملًا في معسكرات الإنجليز بالقناة، ثم تركها بعد إلغاء المعاهدة،
فهو يختلف عن حسين كرشة وعباس الحلو اللذين استغنت عنهما السلطات البريطانية عقب انتهاء
الحرب العالمية
الثانية.
•••
الرواية تبدأ في يناير ١٩٥٢م، قبل أيام قليلة من الحدث الأسود الذي دمَّر القاهرة،
حمزة — في البداية
— هو الأستاذ حمزة عضو اللجنة المسئول عن معسكر التدريب، وفوزية هي الآنسة فوزية سكرتيرة
لجنة المدرسات
للمقاومة الشعبية.
٤٦
كان المعسكر الذي أنشأه حمزة واحدًا من عشرات المعسكرات التي أقيمت في القليوبية
والشرقية
والبحيرة، وغيرها من محافظات مصر، وكان الفدائيون يواجهون العديد من المشكلات، أخطرها
ندرة السلاح
ورداءته، حتى البنادق التي كانوا يستعملونها قديمة جدًّا. يتناول حمزة البندقية، ويتفحصها،
ويغمض عينًا،
وينظر في الماسورة بالعين الأخرى، وهو يغمغم: «مليانة وساخة … اديني شوية جاز … وحتة
اسطبة … دي طلياني …
خدوها الإنجليز من الطلاينة … واحنا أخدناها من الإنجليز.»
٤٧
إذا كانت «القرين» هي التي صدَّرت الكوليرا من نفايات المعسكرات الإنجليزية بالقناة
إلى داخل مصر
في ١٩٤٧م، فإن القرين في ١٩٥١م هي التي صدَّرت المقاومة الشعبية إلى المعسكرات الإنجليزية
بالقناة. كان الجو
العام يدل على أن التيار الشعبي الجارف قد اكتسح أمامه كل مؤسسات الرمل، وأن الشعب —
وحده — أصبح هو
الحاكم.
تسأل فوزية: هوَّه ده المعسكر؟
يجيب حمزة: آه.
– وفيه متطوعين كتير؟
– مش كتير … إنما كل يوم بيكتروا … بكرة دي كلها حتتملي طوابير وتمرينات.
– ومين اللي حيدرب؟
– ضباط متطوعين.
– منين؟
ثم ثبت — فيما بعد — أن المؤامرات كانت تُدبَّر في الخفاء. لاحظ حمزة — في القرين
— عند سماعه نشرة
الثامنة والنصف من مساء ٢٦ يناير، أن الراديو لم يعقِّب بكلمة واحدة على مذبحة المحافظة
التي حدثت في
اليوم السابق، وكانت الأخبار عادية، ولما انتقل مؤشر الراديو إلى محطة لندن، فوجئ بأن
الأحكام العرفية
قد أُعلنَت في مصر، بعد أن اجتاحت الحرائق القاهرة، وجرت عمليات السلب والنهب والقتل،
وأنذرت الحالة
بخطورة بالغة.
حاول حمزة — بكل السبل — أن يعود إلى القاهرة، ولما أصبح في ميدان المحطة «رأى الأدخنة
تنعقد
كالحة في السماء، ومباني كثيرة تتلظى كالجحيم، وتبدو حمراء غامقة في سواد الليل، وألسنة
اللهب تطل منها
ألسنة الشياطين، ونارًا تتفحم، وأخشابًا تتوهَّج، ومحلات منتزَعة الأبواب، مدشوشة المحتويات،
والقاهرة الحبيبة
تنزف أطرافها خرائب وأنقاضًا، وتتساءل بناياتها الواجفة عن المصير، وعساكر الجيش بلباس
الميدان وخوذاته،
ودوريات بوليس في عربات، والوزارة أقيلت، وأحكام عرفية جاءت، أسود من الأدخنة التي في
السماء، وأفظع من
اللهب الذي يجتاح الأرض، حين رأى وسمع، شعر بالجو مشبعًا بظلال أيد سوداء أثيمة، ورائحة
مؤامرة تختلط
برائحة بارود أجهض انفجاره، والعلامات تشير إلى مستقبل قاتم.»
٤٩
واجه حمزة ما واجهته كل جماعات الفدائيين، انتشر البوليس السياسي، وتزايدت الحملات،
وفتح الهاكستب
أبوابه، يستقبل المئات من المشتغلين بالعمل السياسي والفدائي.
٥٠ وقارن حمزة بين ما كانت عيناه تستقبلانه من وقع الأحداث على الملايين من
البسطاء المتجهين إلى أعمالهم، والعائدين منها، فعندما كانت المعارك في القناة دائرة،
وأخبار هجمات
الفدائيين تتوالى، كانت الوجوه التي تقع عليها عينا حمزة «جادة صارمة، يُخيَّل إليه أن
بريقها شرر رغبات
كامنة تتحرر، وانطلاق ثورة، وعندما كانت تتناهى إليه الأصوات، كان يحسبها دائمًا حفيف
مظاهرات أو جئير
إضرابات، ورغم البرودة والغيوم التي تحجب وجه الشمس، فالدنيا كلها كان لها رائحة، رائحة
خاصة ينتفض لها
الجسد كرائحة فوهة بندقية حديثة الإطلاق.»
٥١
لكن تلك الصورة تأخذ سبيلها – لا بد — إلى التغير بعد أحداث اليوم الأسود، من وراء
زجاج السيارة
راح حمزة يتأمل وجوه الناس: «كانت فيهم ملامح أهل القاهرة الذين يعرفهم، ما في ذلك من
شك، ولكنهم كانوا
غير الناس الذين رآهم لشهور طويلة قبل الحريق، كانت زحمتهم هي هي، وإسراعهم إلى أعمالهم
هو هو، ولكن كان
يخيم عليهم صمتٌ بغيض، وكانت سرعتهم غريبة هي الأخرى، فهي ليست سرعة الإنسان النشيط،
ولكنها سرعة
المرعوب، سرعة الذي يجري خوفًا من الكرباج.»
٥٢
ثم يفيق الناس شيئًا فشيئًا من تأثير الصدمة، ويلمح حمزة — فيما بعد — في وجوه الناس
«ربيعًا قبل
الأوان، وجدِّية من يعمل، وبريق الأمل الذي يصاحب العمل. كان الناس قد أفاقوا من صدمة
الحريق، ورفعوا
الرءوس في خوف أول الأمر، وبدءوا يتهامسون بالشائعات، ثم علا الهمس حين تحققت بعض الشائعات،
وأصبحت
حديثًا يُقال، وعرف الناس مَن الحارق، ومَن الضارب.»
٥٣ وآمن حمزة — من خلال توالي الأحداث — أن الحكاية ليست حكاية الإنجليز، لكنها حكاية
المصريين، حكايتهم ومستقبلهم لأعوام مائة في الأقل.
٥٤
وعلى الرغم من سجن القلق والترقُّب الذي وضع حمزة نفسه فيه، فإنه لم يفقد إيمانه لحظة
في أن يرفع
الشعب راية النضال من جديد.
تقول له فوزية في ضيق: تعرف أنا النهاردة كنت حانفجر … الناس خلاص استسلموا، عاملين
زي التمساح
الميت مهما تنغز فيه ما يحسش، إيه ده؟ ده لو كانوا عشرين مليون دودة، ما كانوش استموتوا
بالشكل
ده.
يقول حمزة: بس أنت غلطانة إذا كنتي فاكرة إن الشعب مستسلم … انتي شايفة الظاهر بس،
وعمر المظاهر
ما تصلح أساس للحكم … شعبنا ده فيه قوة مقاومة لا يمكن تصورها، قوة مريعة مستخبية ورا
السبح والصهينة
وضرب الدنيا صرمة.
٥٥
كانت كلمات حمزة لفوزية — بعد الحريق مباشرة — «خليكي على اتصال دائم بيهم … فهميهم
إن المعركة لم
تنته … فهميهم إن الشعب بيستعد لانقضاض أشد وأقوى … الظروف اللي هوَّه فيها ظروف طارئة
… نكسة لا أكثر ولا
أقل … إنما الغليان مستمر.»
٥٦ كان الشعب — كما رآه حمزة يوم ٦ مارس — يملك الوعي والإرادة والفعل، لكن كان ينقصه التنظيم،
كان ينقصه شباب من نوعيته، من نوعية حمزة «محتاج إليَّ ولغيري علشان ننظمه وندخل بيه
معركته الفاصلة.»
اكتشف حمزة — متأخرًا — أن النضال لا يحتجب، ولا يُمارَس في الشقق الفاخرة، ويصعب
أيضًا أن يتحقق
النضال في المقابر، وأن الوسيلة الحقيقية كي يمارس الثوري ثوريته، هي النزول وسط الجماهير،
بكل ما يعنيه
ذلك من مخاطر، وثورية أيضًا!
لذلك كان إصرار حمزة — عندما حاول المخبرون أن يلقوا القبض عليه — أن يفلت من قبضتهم،
كان الشعور
بالراحة يغمره حين صادف هذا الموقف قبلًا، وكان يدرك أن مهمته قد انتهت، وأن القبض عليه
حفل تتويج على
أعمال قام بها، لكنه هذه المرة بالذات أحس أن اعتقاله سيقذف به بعيدًا عن الأحلام التي
يحلم بها لنفسه
ولفوزية وسيد إبراهيم وأم محمود، وللملايين من الكادحين والبسطاء.
نفَّذ حمزة إصراره فعلًا، واستطاع أن يفر من قبضة المخبرين، ليجد الملاذ في أحضان
الناس، في شارع
السد المزدحم الصاخب الذي يصبح الإنسان فيه قطرة في بحر البشر، سقطت نظارة حمزة الطبية،
فاستغنى عنها
بأن ترك مقوده لزحام الناس، يخفونه عن المخبرين الذين كانوا يطاردونه، ويوجهونه — بإرادتهم
— إلى الطريق
الذي كان ينشده. استطاع أن ينجو بنفسه من مطارديه، وينجو من الإحباط والفشل واليأس، عندما
انضم إلى جموع
البسطاء والغلابة، فذاب فيهم، أصبح واحدًا من تيارهم المتدفق، فصعبت على مطارديه ملاحقته.
وعاد سعد إلى المقابر ليبدأ في تكوين اللجنة، وليفاجأ حمزة بأن «سعد» — ذلك الذي تصرف
بنذالة معه
— ينتظره، كما رجع بدير عن موقفه — الغريب فعلًا — ليبدو الأمل في المستقبل أكثر إشراقًا.
من المؤكد أن حمزة قد وعى الدرس جيدًا، وأن النضال من قلب الجماهير هو السبيل الأصوب،
وأن عودته
إلى القرافة كانت لإعداد نفسه وزملائه لجولة جديدة، بصورة مغايرة لكل جولاته السابقة،
وليس «بنفس
الطريقة معزولًا مع جماعته الصغيرة، بعيدًا عن زحام الناس» كما يقول سامي خشبة في دراسته
الممتعة عن
شخصية حمزة.
٥٧
إذا كان بعض المثقفين قد أظهروا انتهازية وضيعة، فإن البسطاء والكادحين قد أظهروا
— في المقابل —
مواقف غاية في النُّبل والشرف، فسماعين أبو دومة يضع نفسه في أتون الخطر عندما يدعو حمزة
وفوزية إلى
الإقامة في مدفن أحد الباشوات، وسيد محمد إبراهيم يقيم معهما في المدفن ليؤنس وحشتهما،
وليعد لهما ما قد
يحتاجانه من طعام ومشروبات.
«قصة حب» تطرح أهمية أن يشارك المثقفون في الحركة الوطنية، إنهم يتحوَّلون إلى مثل
أعلى للأدنى ثقافة،
وللبسطاء من المواطنين.
يقول سيد إبراهيم لحمزة: «كل ما اشوف واحد متعلم زيك وسايب عيشة لوكس، وجاي يناهد
ويَّانا … إحنا
اللي الواحد بتطلع روحه علبال ما يطلع اللقمة … أبقى عايز أقوم على أولاد الكلب أخنقهم
واحد واحد [يقصد
الإنجليز].»
٥٨
وتقول فوزية: «تعرف أنا النهاردة كنت حانفجر … الناس خلاص استسلموا، عاملين زي التمساح
الميت، مهما
تنغز فيه ما يحسش، إيه ده، ده لو كانوا عشرين مليون دودة، ما كانوش استموتوا بالشكل ده.
يقول حمزة: أنت شايفة الظاهر بس، وعمر المظاهر ما تصلح أساس للحكم … شعبنا ده فيه
قومة مقاومة لا
يمكن تصورها، قوة مريعة مستخبية ورا السبح والصهينة وضرب الدنيا صرمة.»
٥٩
وكان التجار والشركات الذين لم يتركوا مناسبة تمرُّ، أيام الكفاح المسلح لتأكيد تأييدهم
التام
للفدائيين، هم الذين حفلت الصحف — بعد أحداث ٢٦ يناير — بتأييدهم لرئيس الحكومة الجديدة
«منقذ البلاد
وحامي الأوطان».
٦٠
من المهم ألَّا نغفل العشرات الذين دخلوا السجون متحمسين، وخرجوا وقد طلَّقوا السياسة
والوطنية، وكل
ما يمت إليهما بصلة، وكأنما كان السجن هو الحجة التي ينتظرونها لينفضوا أيديهم من المعركة.
٦١
هوامش