قوى مؤيدة ومضادة

ما هو المناخ الذي كانت تتنسَّم هواءه الجماهير المصرية حوالي أعوام الثورة العرابية؟ ما هي القوى المؤيدة والمضادة التي أسهمت في تصعيد الثورة، وفي انتكاسها؟

ثمة تحليل وضعه اللورد كرومر للطبقات التي كانت ستضار، والطبقات التي ستفيد من نجاح الثورة. يقول كرومر: «إذا تجنَّبنا الخوض في التفصيلات، وتحدَّثنا — بشيء من الدراية — عن الطبقات المختلفة في المجتمع المصري، فإنني أتساءل: أين هي العناصر التي كان يمكن اختيار حكومة ثابتة من بينها، ما دام مبدأ «مصر للمصريين» الذي اعتنقه الثوار، يؤدي — على الأرجح — إلى التخلص من العناصر الآتية:

  • الجاليات الأوروبية بكل ما يملك أفرادها من ذكاء ومال واستعداد للحكم.

  • الخديو، ليحل محله على التحقيق رجال من نوعية محمود سامي البارودي وأحمد عرابي.

  • الأرمن بكل ما عُرِف عن نشاطهم في الصناعة، وقوة احتمالهم في العمل.

  • الطبقة المصرية الأرستقراطية، وغالبيتها من الأتراك الذين كانت لهم أراضٍ واسعة، وتوافرت فيهم خصال الطبقات الحاكمة وتقاليدها. ولا يغيب عن البال أن الوطنيين والعصاة استطاعوا القضاء — بالفعل — على هذه الطبقة التي حكمت البلاد عدة أجيال.

وأما باقي العناصر التي كان يُكتَب لها البقاء لو نجحت الثورة، فهي:

  • الفلاحون الغارقون في أبعد أغوار الجهالة، ولا يعنون كثيرًا بمن يحكمهم، ما داموا لا يُرهَقون بالضرائب، ولا يفهمون عن حركة عرابي إلا لأنها تنقذهم مما عليهم للمرابين اليونانيين من ديون.

  • طبقة صغيرة من المُلاك ومشايخ البلد والعُمَد، الذين يمثِّلون أصحاب الملكيات الصغيرة، ولا تزيد معلوماتهم ولا قدرتهم على الحكم، إلا قليلًا من معلومات سواد الفلاحين.

  • الأقباط الذين كانت ديانتهم تحُول — عاجلًا أو آجلًا — دون الاتفاق مع العرابيين في العمل، ودون التسلط على المسلمين، حتى في حالة قبول حكمهم. وإذا نحن فرضنا ظفرهم بهذا السلطان، فإنهم ما كانوا يوجِّهونه للمصلحة العامة.

  • الطبقة الدينية، وعلى رأسها علماء الأزهر.

إن هذه العناصر المصرية هي التي كانت تبقى لينحصر فيها الحكم، ومع أن الطبقة الأخيرة — الدينية — أصغرها عددًا، فإنها أهمها قيمة، وأشدها تأثيرًا، لأن تعاليم أفرادها تنفذ دائمًا إلى أعماق النفوس من اللحظة الأولى.

وعلى الرغم من اختلافنا الموضوعي مع هذا التقسيم الذي جعل من علماء الدين — مثلًا — طبقة دينية، ونسب الأتراك إلى الطبقة الأرستقراطية المصرية، وليسوا بعد سوى متمصرين. ثم التفسير المتعسف وغير المنصف لكل هذه «الطبقات» — كما أسماها اللورد كرومر — فإنه يهمنا في هذا المجال أن نقف أمام الفئات التي كان لها دورها المباشر والفعلي في أحداث الثورة.

•••

ظلت حياة الفلاح المصري — منذ أقدم العصور — صورًا عديدة لوضعٍ قائم لا يعرف التغيُّر. إن الوضع في أيام توفيق لا يختلف عما كان في أيام إسماعيل والأسرة العلوية من قبل، فالمماليك والعثمانيون، إلى عهود الفراعنة. ولم يخرج الفلاح المصري في نظرته إلى ممثِّلي السلطة، طوال تلك العهود، عن الرهبة والشك والخوف والإذعان المظهري والمجاملة الشكلية، بينما يقابل تلك النظرة من ممثِّلي السلطة حرص على إقامة الحواجز وتعالٍ وتباعد وتصورات طبقية. من هنا، فإن المؤرخ لا تكاد تستوقفه ظاهرة معينة في عصر بالذات. الأمر — في كل العهود — لا يخرج عن فلاح أجير، أو مالك لقطعة أرض، يفلح النظام الإقطاعي — في كل الأحوال — أن يجعل منه رقيقًا يعمل بالسخرة. ففي عهود الفراعنة — مثلًا — نجد هذا النص الأدبي الذي يمجد مهنة الكتابة، ويفضِّلها على سائر المهن، وفي مقدمتها الفلاحة: «لقد بلغني أنك هجرت الكتابة، وانهمكت في الملاهي، وصممت على العمل في الحقول، وأدرت ظهرك لكلمات الإله، ألم تفكر في حال الفلاح عندما يسجل المحصول؟ لقد أكل الدود نصف القمح، والتهم فرس النهر ما تبقَّى، وامتلأت الحقول بالفيران، ونزلت فيها أرتال الجراد والماشية تلتهم ما فيها، والطيور تسرق منها، فويلٌ للفلاح. والباقي الذي يوضع في الجرن، ينتظره اللصوص للإجهاز عليه، بعد أن تكون الآلة المصنوعة من النحاس قد تحطمت، وزوج الخيل قد مات عند الحرث والدرس. وها هو الكاتب يرسو على الشاطئ ليسجل المحصول ومعه العمال يحملون عِصيًّا، والزنوج الحراس يحملون جريد النخل ويقولون: أحضر القمح، ولا قمح هناك. وعندئذٍ يُطرَح الفلاح أرضًا ويُضرَب، ثم يكبَّل بالقيود ويُلقى في النهر، وتوثق امرأته كذلك أمامه، ويوضع أولاده في الأغلال، ويتركهم جيرانهم ويفرُّون، ليهتموا بأمر غلالهم.»

وتنقضي آلاف السنين، وتندثر حضارات، وتزدهر حضارات، وتلمس عصًا التغيير كل شيء ما عدا مجتمع القرية الذي لم يتغير عن نفس مكوناته ومظاهره وطبيعة حياته. لهذا فإنه ليس من الغريب أن يتعب طلاب المدارس بين الطولونيين أو الإخشيديين أو الأمويين أو المماليك أو العثمانيين، فإنها صورة متكررة إلى حدٍّ بعيد. وفي قصة «حصير الجامع» يؤكد الفنان أن الأساس واحد، خليط من الريبة والاستخفاف، وشيء من الرضا المغتصب، وطاعة كلها تمثيل كاذب. هذا الشعور هو قوام مجاوبتهم لكل تدخل في أمورهم. من يقدِّر سوء حظهم لأن كل المحاولات تأتي من أجنبي عنهم — حكومة أو موظفًا — لا يفهمهم، يعيش في وادٍ، وهو في وادٍ، إن لم يكن غرضه ملء جيوبه، اقتصر في تدخله على التافه الغث السخيف، وترك ما هو لديهم قرين الحياة ومستلزماته.»١

•••

وثمة كتاب يُعَد من أوائل الكتب التي تناولت حياة الفلاح المصري الاجتماعية، وهو «هز القحوف في شرح قصيد أبي شادوف» للشيخ يوسف الشربيني. وكما يذكر محمد فهمي عبد اللطيف، فإن هز القحوف من أوائل الكتب التي طُبِعت في مطبعة بولاق مع ألف ليلة وليلة وغيرها من كتب القصص والنوادر والفكاهة. صدرت طبعته الأولى في مطبعة بولاق عام ١٢٨٢ﻫ، ثم طبع على مطبعة حجر بالإسكندرية عام ١٢٨٩م، ثم صدر في طبعات شعبية من مطابع حي الأزهر ومكتبات الصنادقية.٢
يصف محمد لطفي جمعة مؤلف هز القحوف بأنه «فهم روح عصره، وحاول الإصلاح عن طريق التهكم، ووصف حياة الفلاحين في مصر في أوائل القرن التاسع عشر، بعد أن أتم دراسته في الأزهر الشريف، فوضع صورة جميلة صادقة عن حياة بلاده، فيها بعض التجني والمبالغة، ولكنه كان يقصد إلى التهكم للموعظة لا للإهانة.»٣ ويشير شوقي ضيف — في المقابل — إلى أن هز القحوف أُلِّف «لغرض التقليس والتندير على أهل ريف مصر.»٤ ويقول أحمد أمين في قاموسه للعادات والتقاليد والتعابير المصرية، «إن لهذا الكتاب الذي يستهزئ به الناس قيمة كبرى، ففيه وصف اجتماعي دقيق لحالة الفلاحين في عصره، وبؤسهم، وظلم الحكام لهم، وأنواع عاداتهم في المأكل والمشرب، وفيه تدوين للغة الفلاحين كما ينطقونها عادة، وأغانيهم.» ثم يضع أحمد أمين، الشيخ الشربيني في مدرسة التنكيت القاهرية، التي تبدأ بابن دانيال مؤلف «خيال الظل» وابن سودون مؤلف «نزهة النفوس ومضحك العبوس»، ثم صاحب «هز القحوف». وأخيرًا، الشيخ حسن الآلاتي مؤلف كتاب «ترويح النفوس ومضحك العبوس». وهذا التحديد الذي وضعه أحمد أمين يُعَد في مقدمة الأسباب التي تدفعنا إلى رفض الكتاب، لأن الشيخ الشربيني لم يعبِّر في كتابه إلا عن السخرية الفجة بالفلاح المصري، أشبه بما كان يناله هذا الفلاح كل ليلة في أوائل القرن على مسرح الريحاني من تعريض هزلي، باعتباره كشكش بيه عمدة كفر البلاص. إن الغرض النبيل الذي يصف به أحمد أمين مؤلف كتاب «هز القحوف» لا يمكن أن يكون كذلك أمام تقويمه للفلاح المصري بأنه «على قسمين: قسم ناجٍ ناجب، وقسم خائن خائب.» وهو يصف أهل الريف بأن «طبعهم كثيف، وأخلاقهم رذيلة، وذواتهم هبيلة، ونساءهم مزعجات … وذلك من كثرة معاشرتهم للبهائم، وملازمتهم لشيل الطين، وعدم اختلاطهم بأهل اللطافة، وامتزاجهم بأهل الكثافة، كأنهم خُلِقوا من طينة البهائم.» ثم هو يذكر أن لهم أسماء «كأسماء العفاريت، كبرغوث وزعيط ومعيط والعفش.» ومن عاداتهم أن يسموا بالاسم الذي يُنطَق عند ولادة الولد، فإذا سمعوا: يا أعمش، سمَّوه عميش … وإذا سمعوا: هات الزبل، سموه زبيلة، وسموا أيضًا أبو ريالة وأبو زعيزع وأبو قدح وأبو حشيشة وأبو كنون، وسموا بربور. ومن أسمائهم: زعرة وبعرة وبروة، ويكنون بأم جعيص، وأم دواهي، وأم بعيص. وترى أولادهم غارقين في الجلة، ينامون في المدود، ويشربون من المترد، عمره في دناسة، وأمه في نجاسة. وإذا درج في الحارة، لا يعرف غير الطبلة والزمارة، لعبه حول العجلة، وأكله بجوار الجلة. ويقول الرجل عن الفلاحين: ثيرانهم قد أخبرت عنهم … بأنهم من طينة واحدة. وينصح قارئه بالقول: أهل الفلاحة لا تكرمهم أبدًا … فإن إكرامهم في عقبه ندم … يبدو الصياح بلا ضرب ولا ألم … سُود الوجوه إذا لم يُظلَموا ظَلموا. ويحذِّر من سكنى الريف: لا تسكن الريف إن رُمْتَ العلا … إن المذلة في القرى ميراث … تسبيحهم: هات العلف حط الكلف … علق لثورك جاءك المحراث!
إن الغرض النبيل الذي يصف به أحمد أمين مؤلف كتاب «هز القحوف» لا يمكن أن يكون كذلك أمام هذه الكلمات التي يتحدث فيها عن أهل الريف: «إذا أقاموا أفراحًا لا تكون إلا بالعياط والصراخ والصياح وشدة الاضطراب والكرب، وربما وقع فيها البطح والضرب، وشاهدنا كثيرًا من أفراحهم وما يقع فيها من عدم نجاحهم، وأمورهم ليس لها انضباط، وأحوالهم شياط وعياط … لا يرحمون صغيرًا، ولا يوقِّرون كبيرًا، يجتمعون لحساب المال في المساجد، وليس فيهم راكع ولا ساجد، أولادهم دائمًا عرايا، وتراهم في صورة المجانين، الرحمة فيهم قليلة، والرأفة متروكة ذليلة … أما سوء أخلاقهم وقلة لطافتهم، فمن كثرة معاشرتهم للبهائم والأبقار، وعدم اكتراثهم بأهل اللطافة، وامتزاجهم بأهل الكثافة، ولملازمتهم المحراث والجرافة، وهز قحوفهم حول الأجران، وطردهم في الملق والغيطان، ودورانهم حول الزرع، ونطهم في الحصيدة والقلع؛ إذ الواحد منهم لا يعرف غير الحزام والنبوت والنقز والساقية والفرقلة والعياط والفارة والطبلة والزمارة … إلخ.» ويتحدث الشربيني عن «قلة عقلهم — الفلاحين — وكثرة جهلهم وسوء أخلاقهم وعدم اتفاقهم؛ إذ كلهم في الظاهر مسلمون، والقتل عندهم مثل الديون. وأيضًا عندهم قلة الوفا، وعدم الأنس والصفا، لا يؤدون الفرض، ولا يعرفون السنة من الفرض. إن عاملتهم أكلوك، وإن نصحتهم أبغضوك، وإن أقمت لهم الشرع رفضوك، وإن ألنت لهم الجانب مقتوك. العالِم عندهم حقير، والظالم عندهم كبير. أمورهم معاند، وليس عندهم فوائد. عندهم قابض المال أعز من العم والخال، سُود الوجوه، إذا رأوا معروفًا أنكروه.» ويصف أولاد الفلاحين بأنهم «مثل أولاد الهنود أو أولاد القرود، ترى الواحد منهم دائمًا مكشوف الرأس، غارقًا في الساس، ونومه في المدود، وشربه من المترد، ولعبه حول العجلة، وإذا درج في الحارة لا يعرف غير الطبلة والزمارة، والطرد خلف الثور والفحل، لا يلبس على طهارة قميصًا، وعيشه دائمًا في تنغيص، خالٍ من التنظيف، وكلهم قحوف من قحوف الريف.» بل إن الشربيني ينصح قارئ كتابه بالقول: «أهل الفلاحة لا تكرمهم أبدًا، فإن إكرامهم في عقبه ندم. لا تسكن الأرياف إن رُمْتَ العلا، إن المذلة في القرى ميراث.»٥
وفي المقابل من آراء يوسف الشربيني، فثمة رأي أن ما يبدو على الفلاح المصري وسلوكه جهلًا وتخلفًا، ليس إلا مظهرًا سطحيًّا خلَّفته غزوات البدو والأتراك، لا يمس الجوهر ولا الأعماق. ويستعيد الكاتب رأي الفرنسي في «عودة الروح»: «ثِق يا مستر بلاك إن الفاسد من هذه الأخلاق ليس من مصر، بل أدخلته عليها أممٌ أخرى كالبدو أو الأتراك مثلًا، ومع ذلك فلا يؤثر هذا في الجوهر الموجود دائمًا.»٦

•••

وربما لا يكون من الصواب أن نصِف «هز القحوف» بأنه يعكس الصراع الاجتماعي بين الفلاحين والحضريين، بين الريف والمدينة، وسخرية الحضريين من الريفيين، وتندُّرهم عليهم، واستعلاء المدينة على القرية … «فالفلاحون مجتمع غريب، جماعة خارجة تواجه بالعداء والسخرية والتهكم، وتعكس سخريات الكتاب وفكاهاته وتصويره المضحك لطباع أهل الريف، نزعة المدينة إلى الوقوف صفًّا واحدًا وجبهة متماسكة ضد القرية للاحتفاظ بامتيازاتها على القرية، وتبرير ما يقع على الفلاحين، فهم يستحقون كلَّ ذلك، وهم جديرون بضحكنا لأنهم جنس غريب عنا.» فالكتاب إذن يعكس، ولو بشكلٍ ضمني، «رغبة في التغيير ودعوة إلى التنبيه، وإنما يعكس نزعة إلى التبرير، وتحيُّز المدينة ضد القرية وتحاملها عليها وظلمها لها.» ربما يجانب الصواب مثل هذا الرأي؛ لأن المجتمع المصري آنذاك — العصر المملوكي التركي — بريفه وحضره، كان يعاني تخلفًا قاسيًا زريًّا. وكانت صورة ذلك المجتمع — عمومًا — أقرب ما تنتمي إلى القرون الوسطى. بل إنه — حتى أوائل هذا القرن — كان يكفي المرء أن يعبر ميدان العتبة الخضراء إلى الجمالية، ليجد نفسه في القرن الثالث عشر، فالماء النقي لم يكن عرف طريقه بعدُ إلى معظم أحياء القاهرة، والسقَّا يحمل الماء إلى البيوت في قِرب، والطبيب لا يجد سوقًا رائجة أمام الداية والحلاق، والأزقة والحواري لا تعرف الإضاءة على الإطلاق، ويحرسها خفير بنبوتٍ ولبدة. وكل مظاهر الحياة تنتمي إلى الريف المصري بفقره وتخلفه. ولم يكن أبناء القاهرة قد عرفوا السفن ولا القاطرة بعدُ، يشي بذلك وقفة أطفال الحسينية المتحيرة أمام رسم ساذج لقطار على واجهة باب أحد الحجاج، «وكانوا في قرارة نفوسهم يتمنون أن يروا سفينة أو قطارًا، وما كان يجرؤ أحدهم على أن يتمنى أن يركب القطار يومًا، فأين ذلك القطار؟ وإلى أين يركبونه؟»٧ وكان الموسكي وميدان العتبة الخضراء حيًّا للجاليات الأجنبية، تُغلَق أبوابه كل مساء، وتخلي الحكومة مسئوليتها عن سلامة الأجانب الذين يبقون خارجه بعد إغلاق الأبواب، وفي السطور الأولى من رواية «في قافلة الزمان» تأخذنا قاهرة المعز بهدوئها، ومآذنها المائة السامقة الشامخة (هل كان عدد المآذن مائة بالتحديد)؟ «لفها والمدينة ظلام دامس، فما انبعث من نافذة بصيص نور، وما مدَّ مصباح شعاعه الباهت ليبدِّد بعض ذلك الظلام الذي تكاثفت طبقاته، فما كان ينير الدور إلا ذبالات خافتة متذبذبة، ينبعث ضوءها من فتيلة نحيلة، تمتص زيتها من وعاء صفيح ضئيل، فكان نورها يرتعش ويضطرب كأنفاس محتضر في النزع الأخير، لا يكاد يهتك سترًا من أستار الظلام، أو يفضح ركنًا من أركان المكان، أو يهدي قائمًا في الليل، ما لم يتناول الذبالة في يده، لتنير له ما تحت قدميه، وتزيح له في جهدٍ ومشقة طبقة من طبقات الظلام المتراكمة أمامه، لا تتعدى أفتارًا أو أشبارًا. وما كانت مسالك المدينة العتيقة تنار بالليل، فما كان ثَم مصابيح، وما كان الناس بحاجة إلى ما ينير لهم السبيل، فقد كانوا يعودون إلى دورهم إذا ما آذنت الشمس بالمغيب، ويدعون المدينة للظلام والهدوء والسكون، في حراسة مآذنها القائمة أبدًا، الساهرة أبدًا، والمتطاولة على السماء، حتى تكاد تطعن بأطرافها المدببة كبدها، وكانت تطل على الأحياء القانعة المتواضعة في حدب ورفق وحنان.»٨

وقد أدت غلبة الطابع الريفي على المجتمع المصري — حتى أوائل القرن — إلى اتسام بواكير القصص المصرية بتعبيرٍ ملحٍّ عن حياة الريف، بعكس النتاج القصصي منذ الثلاثينيات، والذي يعبِّر غالبًا عن مشكلات إنسان المدينة.

ليس ثمة استعلاء من المدينة على القرية إذن، لأن طبيعة المثقفين المصريين أنهم يعتزون بأصلابهم الريفية، ولأن تعاسة القرية كانت تقرب — إلى حدٍّ كبير — من تعاسة المدينة. بل إن معظم أبناء المدينة — وما زالوا — هم، في الواقع، من أبناء الريف، والشيخ الشربيني بالذات من بلدة شربين، وقد عاش فيها فترة طويلة من حياته، وكان كتابه إحدى ثمارها. وعلى ذلك، فإن النظرة الواعية المسئولة ترفض طفح الشماتة الذي يفيض به كتاب الشيخ الشربيني على واقع مؤلم يرتديه الفلاح المصري، دون أن ينسج خيطًا واحدًا في صنعه.

•••

وفي الكتاب القيم الذي وضعه يوسف نحاس بعنوان «الفلاح: حالته الاقتصادية والاجتماعية» (١٩٢٦م) يعرض لنا المؤلف حياة الفلاح المصري منذ آخر عهد المماليك: كان يحكم البلاد نحو ٢٥ ألف مملوك، جميعهم من الرقيق الذي جلبه النخاسون من بلاد الفرس وملدافيا والأفلاخ والقوقاز واليونان، وكانوا يخرجون من أسواق النخاسة ليصبحوا جنودًا وخدمًا للبكوات، ثم يرِثون — فيما بعد — أملاكهم. ويصف فولناي — الذي زار مصر عام ١٧٨٥م — هؤلاء المماليك بقوله: «… وهم من مواليد الديانة الإغريقية، يختنون وقت شرائهم. ليسوا إلا ملحدين لا عقيدة لهم ولا يقين، حتى في نظر الأتراك. هم غرباء بعضهم عن بعض، لا تصلهم رحم كما تصل سائر الخلق، لا أقارب لهم ولا ولد. لم يحسن إليهم الماضي، فلم يقدموا عملًا صالحًا بين يدَي المستقبل. الجهل غالب عليهم، والخرافات مالكة عقولهم بحكم التربية. القتل يردهم وحشيين، والصخب والهياج يدفعهم إلى الثورة. عندهم ما عندهم من المكر السيئ بسبب الائتمار الخفي. لا يأنفون من كتمان ما بهم، فهم في هذا جبناء، يرتكبون أنواع المفاسد والمفاسق … تلك هي الفئة التي تقبض على أزمة الأمر في مصر الآن.»

هؤلاء المماليك كانوا هم سادة المجتمع المصري، وسادة الفلاح المصري بخاصة. وكان أسلوب سيطرتهم على مقدرات الفلاح وحياته غريبًا وشديد التعقيد. كان السلطان في رأس القائمة، يليه في الترتيب الإقطاعي أو الباشا الذي يقوم مقامه ويحكم ولاية مصر، ثم يأتي الملتزمون أو ملاك الأرض، الذين كانوا يدخلون في مزايدة علنية لشراء القرى، وكان الملتزم الذي يرسو عليه المزاد يتسلَّم وثيقة تُسمَّى «التقسيط»، تُثبِت التزامه، وتتضمن القرار الصادر إلى أهالي القرى بإطاعة أوامره، ودفع الإتاوة إليه. وكانت هذه الوثيقة بمثابة أمر تمليك للأرض وللبشر في كل القرى التي تدخل في دائرة أملاكه. ومن هنا، كانت أراضي كل مملوك تُسمَّى «الوسية» نسبة إلى «الأوسية» التي كانت لسادة القرون الوسطى في أوروبا، وكان أهم ما يتسم به العهد المملوكي، هو انعدام الحرية الشخصية، وفداحة الضرائب، والسخرة، والإهمال، والفوضى الإدارية والقضائية. وعمومًا، فقد كان ذلك العهد — كما يجمِع المؤرخون — من أحلك العهود التي عانى الفلاح المصري عسفها وربقتها، ثم وُلي محمد علي عرش مصر، فأصبح نصف دخله من ضريبة الخراج التي فرضها على الفلاحين. ويقول يوسف نحاس إن حالة الفلاح لم تتحسَّن طفرة في عهد محمد علي، وإن رجال الإدارة قد ارتكبوا استباحات كثيرة. وكان أشد ما يعبِّر عن الظلم جباية الضرائب عينًا، وسياسة الاحتكار التي رأى فيها محمد علي إحدى الوسائل لزيادة الدخل. ويتحدث علي بك (الذئب والفريسة) عن محمد علي الذي جمع حجج الأرض من الفلاحين، وحرقها، جاعلًا من الدولة — ممثَّلة في ذاته — المالك الوحيد لجميع الأراضي.٩ وفي رسالة من الرسول البابوي أوتينفلس إلى أمير ميترنيخ بفيينا، أشار إلى أن محمد علي يمتلك محصول القطن، الذي يجبر الفلاحين على زراعته، ويقدِّر ثمنه — تعسفيًّا — بواسطة موظفيه، إلى جانب أنه يحتكر محاصيل البلد وحبوبه لمضارباته.١٠ استعان محمد علي بالجاليات الأجنبية لتسويق صادرات الزراعة المصرية، بعد أن فرض احتكاره على معظم الأراضي الزراعية المصرية.

•••

طبَّق محمد علي مبدأ الاحتكار على معظم الحاصلات الزراعية، وبعض المنتجات الصناعية، فأصبحت التجارة الداخلية في مصر مقيَّدة بعد أن كان الفلاح والصانع — من قبل — حرًّا في تصريف منتجاته «إن مصر مزرعة واحدة متسعة الأرجاء، يتحكم فيها رجل واحد، يستعبد الرجال الذين يعملون من أجله دون أن يطعمهم.»١١ فلما ألغى الاحتكار، عادت التجارة الداخلية إلى حريتها ونشاطها السابق.١٢ ومع أن محمد علي قد قضى على الملكية الفردية للفلاحين، فإنه — في الوقت نفسه — وضع في نهاية حكمه (١٨٤٢م) أساس الإقطاع الزراعي بمنح أسرته ورجال حاشيته حقَّ الانتفاع بمساحاتٍ هائلة من الأراضي، عُرِفت بالجفالك — الشفالك — وخوَّل لهم حق ملكيتها، والتصرف الشرعي فيها، وأعفاهم من الضرائب. كما منح مشايخ القرى خمسة أفدنة عن كل مائة فدان من زمام القرية، لا يدفعون عنها ضريبة لقاء خدماتهم للحكومة، وقد سُميَت تلك الأراضي «مسموح المشايخ».١٣ وحين ألغى محمد علي نظام الالتزام، قرر للملتزمين راتبًا سنويًّا باسم «الفائض» يُصرَف مدى الحياة، وترك لهم أراضي الوسية معفاة من المال، لاستغلالها طيلة حياتهم، سواء بالزراعة أو بالتأجير. فإذا مات الملتزم، أضيف الفائض وأرض الوسية إلى الحكومة.١٤ وكما وقف عبد الرحمن الرافعي موقفًا مؤيدًا لسياسة إسماعيل، وقف يوسف نحاس موقفًا أشد مغالاة في التأييد والتماس النية الحسنة لمحمد علي، لكن هذا التأييد العاطفي المتحمس الذي تنبض به كلمات يوسف نحاس، يقوِّضه — من الأساس — كلمات الجبرتي الذي عاصر محمد علي، وعرض لمظالم عهده من واقع مشاهدته اليومية. فهو يكتب في تأريخه لعهد محمد علي — مثلًا — أن الجلادين من أعوان الحكومة كانوا «إذا لم يجدوا الرجال المطلوبين لدفع الضريبة، عمدوا إلى الأطفال والنسوة يصبُّون العذاب عليهن، وينهبون كلَّ ما يصادفونه من مال أو خزين، وما أكثر ما كانوا ينزعون الأقراط من آذان النساء، وينزعون معها قطعًا من آذانهن تقطر بالدم وتضج بالألم.» وكان من نصوص قانون الفلاح الذي أصدره محمد علي في ١٨٣٠م ما يلي: من يأخذ بهيمة بغير إذن صاحبها، أو بغير رضاه، ويشغلها في الطاحون أو المحراث، يُضرَب ٢٥ كرباجًا … من لم يهتموا — من الفلاحين — بإعداد الأرض للزراعة الشتوية، ويهملوا في حرثها أو عزقها، أو قطع ما فيها من الأعشاب، أو يهملوا ري أطيانهم أو خدمتها، وحصل بسبب ذلك تلف في الزراعة، ينبَّه على الواحد منهم أول مرة، فإن لم ينتبه وعاد، فيُضرَب في المرة الثانية خمسين كرباجًا، ويُضرب في الثالثة مثلها … من لم يحضر إلى أشغال الترع والجسور، أو يحضر ثم يهرب، أو يهرب، أو يتسبَّب في هروب أحد إن كان شيخ حصة، يُضرَب مائتي كرباج، وإن كان قائمقامًا يُضرَب ٣٠ كرباجًا، وإن كان فلاحًا يُضرَب ٢٥ كرباجًا … من لم يأخذ محراثه في وقت التحضير للزراعة، ويهب إلى غيطه، أو يتكاسل في تحضير أرضه، يُضرب ٥٠ كرباجًا، ويُجبر على شغله بمحراثه حتى يخضر أرضه … إذا قام أحد الفلاحين أو المشايخ بكسر ساقية أو حرقها أو هدمها، أو سرقة آلاتها، وكان شابًّا، فإنه يُرسل إلى الجهادية.١٥
ولعل الطبيعة الموضوعية لمسرحيات «المحبظين» في عهد محمد علي — وهم الفئة من الممثِّلين الذين كانوا يعرضون مسرحياتهم في بيوت الأغنياء، كما يعرضونها في الأماكن العامة، ومن حولهم يتجمع الناس … لعل في هذه المسرحيات، التي عُرض بعضها أمام الباشا، ما يؤكد طبيعة المظالم التي كان يعانيها الفلاح المصري في عهد محمد علي.١٦

ثم ولى عرش مصر خلفاء محمد علي، وظلت العلاقة بين الفلاح والسلطة على حالها. كتب رفاعة الطهطاوي في «مناهج الألباب» يقول: «… ثم إن المقتطف لثمار هذه التحسينات، المجتني لفوائد هذه الإصلاحات الفلاحية، الناتجة — في الغالب — عن العمل، واستعمال القوى الآلية، والمحتكر لمحصولاتها الإيرادية، إنما هو طائفة الملاك. فهم دون أهل الحرفة الزراعية، يتمتعون بأعظم مزية. فأرباب الأراضي والمزارع هم المغتنمون لنتائجها العمومية، والمتحصلون على فوائدها، حتى لا يكاد يكون لغيرهم شيء من محصولاتها له وقع، فلا يعطون للأهالي إلا بقدر الخدمة والعمل، وعلى حسب ما تسمح به نفوسهم في مقابلة المشقة. يعني أن طائفة الملاك في العادة، تتمتع بالمتحصل على العمل، ولا تدفع في نظير العمل الجسيم، إلا المقدار اليسير الذي لا يكافئ العمل. فما يصل إلى العمال في نظير عملهم في المزارع، أو إلى أصحاب الآلات في نظير اصطناعهم لها، هو شيء قليل بالنسبة للمقدار الجسيم العائد إلى الملاك.» وبعد عودته من أوروبا، كتب أديب إسحاق يصف الفلاح المصري في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: «تذكرت زارعكم بين شيخٍ يأمره، وعمدة ينهاه، ومأمور ينهبه، ووزير يتصرف في ماله كيف يشاء. وتخيلتكم بين السواقي والأنهار، تشتغلون سحابة اليوم، لتجتمعوا على القصعة السوداء، وتلتهموا فتات الشعير، وتنكبوا على الترعة، فتشربوا الماء الكدر، ثم تعودون إلى الأرض تزرعونها، والغلة الوفيرة تحصدونها، ثم يأتيكم المالك مطالبًا، والشيخ غاضبًا، والمأمور ناهيًا … ثم تنصرفون إلى أكواخ بالية تشبه قبورًا توالت عليها السنون.»

الصورة هي هي على اختلاف العصور. لا تغيُّر إلا في أسلوب الكاتب الذي يسِم عصره (حتى أساليب الكتابة تتغير) بينما الفلاح يعاني من نفس المظالم التي يمارسها حكام كل العهود. لا اختلاف بين إخشيدي أو طولوني أو عثماني أو مملوكي. فالفلاح محصول وضرائب، يقوم عليهما الأساس الاقتصادي لكل عصر … ولا شيء بعد!

وثمة رواية لتوفيق الحكيم، تبين عن تواصل الصورة وثباتها، منذ زمن الفراعنة إلى زمننا الحالي. فبعد أن تُرجمَت «يوميات نائب في الأرياف» للحكيم إلى الفرنسية، وصل الفنان خِطاب من عالم أوروبي في الآثار يخبره — دهشًا — أن علاقة الحاكم بالمحكومين في الريف المصري الحاضر — كما صوَّرها الحكيم في روايته — تكاد تطابق تلك العلاقة نفسها في حياة الفلاحين في مصر القديمة، وأن طريقة قيامهم بالشكوى والتظلم من حكامهم، مشابهة لما حدث منهم قبل الميلاد بألف عام.١٧

•••

وصف أحمد عرابي الثورة — في بعض رسائله إلى بلنت — بأنها «حركة الفلاحين»، وهو وصف يقترب من الواقع إلى حدٍّ بعيد. بل إنه تعبير متكامل عن هذا الواقع الملحمي الذي كانت مشكلات الفلاح عاملًا حاسمًا في تحديد أبعاده، كان هناك عشرات الضرائب التي لو دفع الفلاح بعضًا منها، فلن يستطيع دفع الآخر، وتظل المشكلة على حالها، مثل ضريبة الأرض، وضريبة السدس، وضريبة إعانة الحرب، وضريبة الفردة، وضريبة الملح، وضريبة علف الماشية … إلخ. وكان يكفي أن يتأخر أي فلاح في تسديد جزء من الضرائب التي لا يعرف لها مقدارًا ولا موعدًا، ليُشَد إلى عمود خشبي ويُجلَد، قبل أن يمزِّق أحشاءه الخازوق.١٨ وفي مذكرات القنصل البريطاني حينذاك: «… استوفيت أمس كل الأموال المطلوبة لدفع الفوائد، ولكن أخشى أن يكون هذا قد تمَّ بثمنٍ غالٍ فاحش دفعه الفلاحون، وكسر ظهورهم: بيعت محصولاتهم المقبِلة عنوة، وانتُزعت منهم الضرائب مقدمًا بالإرهاب، وإنني لأخشى أن الإدارة الأوروبية تقضي من حيث لا تشعر على كل ثروة مصر الزراعية، ولا شك أننا نتحمل نصيبًا من هذه المسئولية الخطيرة.»١٩
كان الفلاحون — في تقدير المراقبين الأجانب — هم الجهة الوحيدة التي يمكن الحصول منها على ديون إسماعيل. يقول ديرفيو في رسالة لأندريه: «نحن جميعًا ننتظر بفارغ الصبر عودة الخديو. إن قناصلنا مصمِّمون على دفعه إلى تسوية كل ديونه لدى التجار الأوروبيين، ولن نقبل منه أوراقًا بل نقودًا، وعليه أن يدبِّر هذا من جيوب الفلاحين الذين أخذوا في إخفائها لسنين طويلة.»٢٠ وإذا كانت ديون المرابين اليونانيين قد استغرقت الفلاحين، فإن الثورة كانت — في الأقل — خلاصًا لهم، على المستوى النفعي الشخصي، من تلك الديون، فضلًا عن تبشيرها بإلغاء السخرة. وجد الفلاحون في أحداث الثورة مناسبة لتصفية حساباتهم مع المرابين الأجانب من أرمن ويهود ويونانيين. كما ارتفعت الطلبات بإسقاط ديون الحكومة وديون الفلاحين.٢١ كانوا جميعًا أشبه بفورشيون بطل بلزاك العجوز الذي كان لا يفتأ يردد: «إننا لم نتخلَّ عن الفلاحة في الأرض، وهي عملنا الوحيد. وما زلنا نزاولها بأيدينا، سواء كان السيد أم محصل الضرائب هو الذي يستولي على خلاصة جهدنا وعملنا، فليس لنا إلا أن نكدح حتى تخرج أحشاؤنا.» ومن وثائق العهد الإسماعيلي ما يوضح أن الضرائب التي كان يعاني من فداحتها صغار الفلاحين، وكانت تُجبى منهم بأساليب غاية في البشاعة والقسوة، لم يكن يدفعها كبار الملاك، حتى اضطر إسماعيل إلى إصدار أمر بضرورة تسديد ما عليهم من ضرائب متأخرة: «إن أغلب الأموال والعشور المتأخرة لغاية توت سنة ١٢٨٨م، جميعها طرف ذوات جهادية وملكية وأفراد مستخدمين، وأما أهالي البلاد، فإنهم سدَّدوا ما عليهم، وإنه مع ما مضى من المواعيد السابق أعطاها للمذكورين عن سداد الذي عليهم، قد أعطى لهم ميعادًا أخيرًا قبل نحو السنة بخمسة أيام، وتأكد عليهم عن السداد، وما أثمره. بل لم يزل حاصل منهم التطويل والتأخير، حتى إن السنة مضت، وما دفعوا المتأخر عليهم منها. وحيث إن الواقع من أولئك الذوات وأفراد الخدمة ما لهم موقع، ولا كان يجب عليهم التأخير في تسديد المطلوب منهم للميري. ومهما أعطي لهم من المواعيد، ما أفاد ولا أثمر. فلهذا صار من الاقتضاء التذكُّر في هذه المسألة بالمجلس الخصوصي، والتحرير من المجلس إلى حسن باشا راسم مفتش الأقاليم بوضع الحجز الشديد على مزروعات وساير موجودات ومواشي كل من كان متأخرًا من الأشخاص المذكورين في تسديد المطلوب منه لغاية توت سنة ١٢٨٨م.»٢٢
وكان من أهم عوامل الثورة أيضًا، بشاعة النظرة إلى الفلاح، إلى حد وصف الخديو لقادة الثورة بأنهم «مجموعة من الفلاحين أولاد الكلاب.» ويقول أحمد بك ذو الأصل التركي لابنته: «إيه اللي تتوقعيه من الفلاحين إلا الغدر؟»٢٣ كان لقب الفلاح يحمل كل المعاني المهينة التي ألحقها المجتمع الطبقي المتمصر والأجنبي بالمصريين، وكانت الطبقات الحاكمة قد أعفت الفلاحين — في توالي القرون — من الخدمة العسكرية. ومنذ الفتح العربي ظلَّت الخدمة العسكرية مقصورة على المماليك الذين يُستجلَبون من بلاد مختلفة، بينما لم يكن الفلاحون يتسلَّحون بأكثر من الهراوات. مع ذلك، فإن وجودهم في المجتمع المصري كان محسوسًا، وإن لم يقوموا بدورٍ حقيقي في مقاومة الاحتلال العثماني، أو في مقاومة الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، اكتفوا بالدعاء على الأتراك أولًا، ثم على الفرنسيين.٢٤
لكن الصورة — فترة الثورة العرابية — تغيَّرت إلى حدٍّ كبير، كانت الثورة — على نحو ما — تعبيرًا عن رد الفعل الإيجابي من الفلاح ضد كبار الملاك، حتى إن ضابطًا مرَّ على فلاحي الزقازيق في حقولهم، وقال إن الأطيان المملوكة لأصحاب الأراضي هي ملك حلال لهم في الواقع، فضلًا عن أن جانبًا من النضال المصري كان موجهًا ضد العناصر التركية والشركسية التي سحقت — بالقوانين الجائرة — إرادة الفلاح المصري. وكان تأثير حادثة اعتداء ضباط الجيش على رئيس الوزراء نوبار، ووزير المالية ولسن، حادًّا وسريعًا في المدن المصرية؛ وعلى سبيل المثال، فقد تشجع فلاحو سوهاج على أن يضربوا مأمورَي التحصيل، وأن يتحصنوا في الجبال، ودعوا جميع المطالبين بالضرائب المتأخرة، ليتحصنوا معهم، وفشلت كل محاولات السلطة في الوصول إليهم.٢٥ وقد تكررت — بالفعل — ثورات الفلاحين في العهد الإسماعيلي بسبب نظام السخرة، وفداحة الضرائب، حتى لقد سافر الخديو بنفسه إلى الوجه القبلي للإشراف على إخماد إحدى الثورات هناك، واستعان في ذلك بقوات الجيش. وكتبت جريدة «البروجريه» المصرية (١٤ / ٧ / ١٨٦٩م) «إن الفلاح المصري قد بدأ يخرج من صمت العبودية الذي كان يرزح تحته قرونًا، وبدأ يجأر بالشكوى مما لم يرد عن مثله في مصر.»٢٦ وقبل حركة ٩ سبتمبر كتب مراسل «التايمز» اللندنية: «لست مبالغًا إذا قلت إن في القاهرة الآن مئات من المشايخ، كل منهم يمثِّل قرية، جاءوا بعرائضهم التي تطالب بتخفيض الضرائب، وقد كوَّنوا جموعًا محتشدة أمام أبواب النظارات، يعترضون النظار في غدوهم ورواحهم، وعرائضهم تملأ مكاتب الموظفين.»٢٧ وعندما أبانت الثورة العرابية عن هويتها، كتب مراسل «البول مول جازيت» يقول: «إن من الخطأ البيِّن قبول ما يؤكده البعض من أن الحركة مقصورة على مدينتَي القاهرة والإسكندرية، فقد سنحت الفرصة خلال الشهور الثمانية عشر الأخيرة لزيارة عدد كبير من القرى. ويمكنني القول — بكل تأكيد — بأن كل الرجال البارزين، من مشايخ البلد والمديرين — من غير الأتراك — ومختلف المفتشين، وكل الناس الذين يؤثرون على الجماهير، شديدو الحماسة لمساندة الحزب الوطني. ومن المؤكد أن الفلاح لا يعرف كثيرًا عن الأمور السياسية، ولكن خبرته بتداخل الأتراك والأوروبيين بشئونه الخاصة، مما يجعله ينظر إلى هذا التداخل بعين الشك. فالأتراك يلجئون إلى الكرباج ليبتزوا منه كل ما يمكنهم ابتزازه من قروشه، والمرابون اليونانيون والإيطاليون يقومون بنفس الشيء بالالتجاء إلى المحاكم المختلطة، فليس من العجيب إذن أن سيد الفلاح شيخ قرية، وعن طريقه: الحزب الوطني.»٢٨ وفي ذروة مواجهة الثورة للتحدي، طلب عرابي معونات من الفلاحين، تُخصَم قيمتها من الضرائب المستحقَّة عليهم؛ فتعمد مشايخ القرى أن يرفعوا قيمة المعونة التي يقدمها ملاك الأراضي من الأتراك والشراكسة. وكانوا يواجهون المتظلم بقولهم: هل أتيت من بلادك بأطيان؟ إنما هذه أطيان القطر، ونحن أبناء القطر، فلا يحق لغيرنا أن ينتفع بها. أتيتمونا فقراء لا تملكون أرضًا ولا فلسًا، فصرتم الآن أصحاب أراضٍ وأملاك تحرموننا من خيرها. وعمومًا، فقد كان عام الثورة هو العام الوحيد في حياة الفلاح المصري، ربما منذ آلاف السنين، الذي لا يصافح فيه الكرباج ظهره، حتى ليبدي أحد الأجانب خوفه من أن يؤدي إلغاء الكرباج إلى تصور الفلاح أنه «يستطيع الوصول إلى ما يسمونه له حرية، لأن الفلاحين اعتادوا منذ القدم أن يخضعوا لحكمة فردية قوية.»٢٩

•••

وعلى الرغم من دور الفلاح في صنع الثورة العرابية، وفي تصعيدها، حتى قُضي عليها تمامًا، ولم يبقَ سوى أبناء الفلاحين — الذين كانوا قوام جيش الثورة — يدافعون حتى الموت في «قلعة الأبطال» … على الرغم من ذلك، فإن آمنة تقول لابنتها في «دعاء الكروان»: «انظري إلى هؤلاء الرجال والنساء، وإلى هؤلاء الفتيان والفتيات، قد ملأهم النشاط، وبعث فيهم الجد حياة لا جد فيها، فهم يذهبون ويجيئون، وهم يعملون لا يعرفون كللًا ولا سأمًا، وأصواتهم ترتفع لا بالشكوى ولا بالأنين، وإنما ترتفع بهذا الغناء الساذج الحلو الذي يبعث في الجو نغمات ساذجة حلوة، والذي يصوِّر الأمل في غير إسراف، والرضا في غير استكانة، والاطمئنان في غير حزن، وحب العمل على كل حال، والثقة بالله على كل حال.»٣٠ ويذهب البعض إلى أن «الفلاح لم يشعر بسوء الأوضاع التي كان فيها، ومن ثَم يثور ضد الإقطاعيين: لقد كان — على حد تعبير الكاتب — يأكل خبز الذرة مؤتدمًا بالملح والمش فيحمد، ويشرب الماء العكر القذر فيشكر. وما جاء الشعور بسوء حاله إلا من ناحية جماعة من المفكرين والشعراء، والأدباء الذين رأوا حاله لا تسر نفسًا ولا ترضي أحدًا، وأحسوا بالظلم الواقع عليه، والهوان الغارق فيه، فأكبروا إنسانيته أن تهبط إلى هذا المصير، الذي لا فرق فيه بين إنسان وحيوان، وأشفقوا على آدميته المهدَرة وكرامته المسلوبة وإنسانيته المغصوبة، فأخذوا يصورون ذلك في شعرٍ أول الأمر، وفي نثر آخر الأمر … إلى أن جاءت الثورة المباركة، فحررت هذا الإنسان من ظلم المالك وطغيان الملك وفساد الحكم.»٣١ والغريب أن هذا الرأي يجد انعكاسًا له في بعض الأعمال الإبداعية المعاصرة، فثمة الذي يثور من أجل خلاص الفلاحين، وهو من بيئة غير بيئتهم، فيرفضونه عندما يذهب إليهم ليناقشهم في تعاسة الحياة التي يحيَونها. يصرون على أن هذه الحياة هي ما ألفوه واستكانوا إليه عبر آلاف السنين، وكل شيء يجب أن يظل على ما هو عليه، فليس في الإمكان أبدع مما كان، بل إنهم يرفضون مجرد الرأي بأن الأرض كروية «إننا نعرف أن الأرض قطعة كبيرة مسطحة وثابتة ومثبتة بالجبال، إذا تحركت فإن الجبال تتحرك من مكانها والأنهار.»٣٢ إن أحدًا من أهل قرية القتيل لا يعبِّر عن أدنى استجابة للأمل في المستقبل، فحياتهم هي الماضي والحاضر والمستقبل، وهم على استعداد لرجم من يدعونهم إلى تغييرها. إن البطل يصرخ فيهم: إنني حضرت إلى هنا، لأن هذه الأرض تريد سواعدكم مع ساعدي، لنزرعها من جديد، إنها أرض خصبة غنية، إنها تستطيع أن تعطي كثيرًا. لقد كانت تعطي باستمرار. لقد ظلت تطعم العالم كله على مر السنين، وما زالت قادرة على أن تقوم بهذا الدور مرة أخرى. فقط يجب أن نعرف كيف نستغلها. إنه ليس سهلًا، الطريق طويل، ولكننا نستطيع أن نقطعه. ضعوا أيديكم في يدي، لا تبتعدوا، سأقول لكم ما الذي يجب أن نفعله.٣٣ فيرد عليه الجميع واحدًا وراء الآخر، في لهجة قانعة راضية، لا أقول يائسة! «الحياة الجديدة أن تبدِّل حياتنا … طرق حرثنا وريِّنا وزرعنا … تريد أن تقلب الأرض؟ تريد أن نرسمها من جديد؟ ونشق فيها شوارع طويلة عريضة؟ وميادين واسعة؟ وعمارات؟ ونزرع حدائق نملؤها بالورود؟ وننيرها بالنيون؟ تريد أن نحوِّل الليل إلى نهار؟ تريد أن نغيِّر الطبيعة؟ تريد أن نبدِّل الكون؟ تريد أن نفسد العقول؟ أهذه هي الحياة الجديدة؟ إننا قانعون بحياتنا … إننا قانعون بيومنا … قانعون بغدنا … لقد ورثنا الأرض هكذا، ويجب أن نبقيها كما ورثناها.»٣٤ حتى الإحساس بالظلم، يريد الكاتب — ثم الفنان من بعده — ألا يكون حقًّا للفلاح المصري، فهما ينسبان كل الفضل في التعبير عن الظروف القاسية التي كان يحيا أسيرًا لها، إلى بعض المواطنين من غير بيئة الفلاحين، الذين أحسُّوا في أحواله بما لم يحس. ويثير نجيب محفوظ في «خان الخليلي» بما يكاد يبدو اتفاقًا في الرأي بأن «الآخرين» هم الذين يتولَّون الدفاع عن الفلاح. فهو يقول على لسان أحد أبطاله: الفلاح مضغوط تحت المستوى الأدنى للإنسانية، فلا يمكن أن يطالب بشيء، ولكنْ خليق بكل إنسان أهل لشرف الإنسانية أن يمد يده، ليرفع عن كاهله هذا الضغط؛ وقديمًا حارب الرقَّ الأحرار لا العبيد.٣٥ والكلمات لأحمد راشد المحامي الذي يَدين بالماركسية، والتي تعد ديكتاتورية البروليتاريا بُعدًا أساسيًّا في أيديولوجيتها. وقد عبَّر الأستاذ نبيه — وهو محام أيضًا — عن بُعدٍ انتهازي في تلك النظرة، من جانب أعداد من المثقفين في قوله: إذا ألححنا في إيقاظ هؤلاء النائمين، نقموا علينا إزعاجنا إياهم، وكانوا في مقدمة الذين يصلوننا الحرب، وليس يخفى عليك أنهم ما زالوا كالأغنام لا يميزون بين ما ينفعهم وما يضرهم. ويقول له عبد الخالق أفندي: إذا كان هذا اعتقادك، فلِمَ تريد أن تكون ممثلًا لهم، ولِمَ تدعوهم لإنابتك عنهم؟

– لأني أريد الدفاع عنهم، والأخذ بيدهم رغمًا عنهم.

– لن تستطيع أن تأخذ بيدهم حقًّا ما لم تكن تشعر نحوهم بالتقدير والاحترام، وقد طالما رأينا في تاريخ النهضات أفرادًا رفعتهم شعوبهم إلى منصة الزعامة، ليتولوا الذود عنها، فلما بلغوها أصبحوا يأتون ما كانوا يعيبون غيرهم. وما ذلك إلا لأنهم في قرارة أنفسهم لم يكونوا يؤمنون بالشعب.٣٦ وانطلاقًا من نفس النظرة الانتهازية، يقول مظهر باشا لأحد الأطباء الشبان الذين أذهلهم واقع القرية المصرية: الفلاح لا يشعر أن له حقوقًا مهضومة، فهو قانع بعيشته، ولئن علَّمتموه ألَّا يقنع بها، فإنكم تكونون أنتم الذين تسبِّبون له الألم والشقاء. إنكم عاجزون عن إمداده بما تزعمون أنه ينقصه، ولذلك لا أرى ثمة حجة إلى تفتيح عينيه لرؤية ذلك النقص المزعوم. لكن الطبيب الشاب يقول في تأكيدٍ: الألم هو المنبه للخطر؛ فلو أن الذي تعرضت يده للنار لم يشعر بالألم من جراء ذلك، لانتهى الأمر باحتراق يده جملة، ومن الخطأ أن نبقي هذه الأحوال البشعة على ما هي عليه اعتمادًا على أن عينَي الفلاح مغلقتان. إن الفلاح يرى ويميز كثيرًا، ولكنه يغض طرفه أحيانًا، ويكظم غيظه، ثم يثأر لنفسه عند سنوح الفرصة ممن يستحق وممن لا يستحق، والجناية في ذلك واقعة على المجتمع كله.٣٧

•••

إن إسماعيل يعترف في حديث له مع شيفر (١٨٦٣م) «إن أعمال القناة وحدها تقتضي تجريد ٦٠ ألفَ رجلٍ شهريًّا، والاستياء اليوم جدِّي، وقد يثير القلق غدًا، فإن جميع الأسلحة التي كانت مخزونة في مصر، وباعها المغفور له سعيد باشا، قد بقيت في البلاد، وأعلم أن فريقًا كبيرًا قد اشتروا — بثمنٍ بخسٍ — ما لا يقل عن ثلاث بندقيات ليستطيعوا أن يحتفظوا بواحدة على الأقل، يوم يجرَّدون من السلاح.»٣٨ إذن، فقد كان الفلاحون المصريون — باعتراف الخديو نفسه — يعدُّون للثورة منذ العهد الإسماعيلي، وكانوا يشترون الأسلحة التي تحقق حلم الثورة. ولم يكن ثمة قوًى ضاغطة — من خارج الريف — تدفعهم إلى ذلك، وإنما كانت دوافع الإعداد للثورة نابعة من الظروف القاسية التي يحيون أسارى لها، ولم يكونوا بحاجة لمن يضع أيديهم على موضع الكرابيج في ظهورهم، أو يحدِّثهم عن بشاعة السخرة، أو ينعى فداحة الضرائب بما يزيد — أضعافًا — عما تغلُّه الأرض. وأقبل آلاف الفلاحين على الانضمام لجيش العرابيين، بعد أن كان الفرار من الجهادية — الجندية — هو تصرف غالبية الفلاحين، إلى حد إصابة النفس بعاهات خطيرة، كفقء العين أو بتر الأطراف.٣٩ تطوع خمسة آلاف من أبناء الفلاحين لحمل السلاح، وحراسة شواطئ بحيرة المنزلة من نواحي دمياط والمطرية والمنزلة، خشية أن يحاول الإنجليز النزول هناك، ووزَّع قادة الثورة على تسليح القرى المجاورة لبحيرة المنزلة، كما وزعوا ألفي بندقية على العُمَد والمشايخ والفلاحين لتولي مسئولية الدفاع عن شواطئ البحيرة،٤٠ ونزح من كل قرية شبابها وعصيهم إلى المعركة، وتحوَّل الريف المهزول إلى منبع خصب فياض، يرسل الطعام والحديد والإنسان إلى أرض المعركة،٤١ ووهب الأهالي في إحدى القرى كل شيء، كل ما في القرية من دجاج وبيض وطعام، وحتى الشباب، ولم يعُد فيها من الرجال غير قلة من الرجال العجائز،٤٢ واستولى الفلاحون على مصانع السكر في المنيا، واعتبروها ملكًا لهم. كما استولوا على بعض معامل حليج القطن في مديرية البحيرة، ولجئُوا إلى السلاح — في بعض الحالات — للاستيلاء على أراضي كبار الملاك.٤٣ وكان الفلاحون يأملون أن تَفتح لهم المعركة عالمًا جديدًا من الراحة: «لو أن عرابي ينتصر، فلن تمرَّ عليهم إذن أيام جديدة من الشقاء، لن يعرفوا الجوع، ولن يُساقوا مرة أخرى، لا هم ولا أبناؤهم، تحت وهج الشمس وقرع السياط، يضربون بفئوسهم الصخور، ومن حولهم يتساقط الموتى، والعرق يختلط بالجثث كتلك الأيام المشئومة في حفر قناة السويس.»٤٤ وبعد دخول توفيق القاهرة مع الجنرال ولسلي قائد جيش الاحتلال، قال: «إن هذا كله قد تم لتأديب الفلاحين أولاد الكلب!»٤٥

•••

يقول فرانز فانون: «إن طبقة الفلاحين في البلاد المستعمَرة، هي الطبقة الثورية الوحيدة. إن هذه الطبقة لا تخشى أن تخسر بالثورة شيئًا، بل تطمع أن تكسب بالثورة كل شيء، والفلاح المنبوذ الجائع هو الإنسان المستغل الذي يكتشف، قبل غيره، أن العنف — وحده — هو الوسيلة المجدية.»٤٦ وثمة رأي أن ثورات الفلاحين المصريين — قبل الحملة الفرنسية — كانت تحمل مضمونًا واحدًا، هو المضمون الاجتماعي، لكنها — منذ تلك الحملة — «أخذت، أحيانًا، تحمل إلى جانبه مضمونًا سياسيًّا، وهذا يوضح أن الفلاح كان في هذا الوقت المبكر لديه من الوعي ما يجعله قادرًا على أن يتخطى حدود التركيز على حاجاته الشخصية ومجتمعه الضيق، إلى الاهتمام بالمجتمع الكبير الذي يعيش فيه، إلى مجتمع الوطن.»٤٧ وقد تعدَّدت ثورات الفلاحين في العهد الإسماعيلي في أبو تيج بسبب نظام السخرة، وفي جرجا لإرهاقهم بالضرائب، وقد سافر الخديو إلى الوجه القبلي، وأشرف — بنفسه — على إخماد تلك الثورات.٤٨ والحقيقة أن الفلاح المصري له دوره في صنع كل الثورات التي شهدتها مصر منذ عهود الفراعنة إلى قيام ثورة الثالث والعشرين من يوليو ١٩٥٢م. ومع أن قيادات الثورة — من العسكريين تحديدًا — كانت تنتمي إلى الطبقة الوسطى باعتبار أوضاعها الوظيفية، فإن أصولها الاجتماعية كانت تنتمي إلى الفلاحين. لقد التحق هؤلاء القادة بالجيش — كجنود — في عهد سعيد باشا، ثم ترقَّوا من تحت السلاح. تحققت لهم مكانة اجتماعية، وإن ظلُّوا على ولائهم للفلاحين، وللشعب بعامة، بل إن ثورة يوليو — مثل الثورة العرابية، وثورات أخرى سابقة، يرجع تاريخ أولها إلى ستة آلاف وأربعمائة سنة، عندما شتم المصريون فرعون علانية، لاستبداده وظلمه، ورفضوا دفع الضرائب، واستباحوا لأنفسهم مخازنه وقصوره، ورفعوا شعار: ليس بيننا مكان للأغنياء! ثورة يوليو لم تكن — في الدرجة الأولى — سوى ثورة فلاحين. وقد أشار جاك بيرك إلى هذه الحقيقة في قوله: هذه الثورة ثورة فلاحين رغم أن الفئوس لم تهوَ على أعناق الإقطاعيين. إن أبناء القرية سافروا إلى القاهرة، ودخلوا الجامعة، وتخرجوا فيها أطباء ومهندسين ومدرسين ومحامين، بل وسافر بعضهم إلى أوروبا للتخصص … وهؤلاء هم أبطال الثورة.
إن الظلم لا يحرك الشعوب، ولكن يحركها الوعي به، هذه حقيقة. وقد كانت الثورات المختلفة التي قام بها الفلاح المصري منذ عهود الفراعنة، تعبيرًا عن إدراكه للمظالم التي تحيَّفته، ورفضه الإيجابي لها.٤٩

•••

أما الطوائف الحرفية — ولم يشِر إليها كرومر في تقسيمه — فقد كانت، حتى أواخر القرن التاسع عشر، هي التعبير عن الطبقة العاملة المصرية. وكانت هذه الطوائف من أهم المعاقل الثورية ضد الحكم الأجنبي، وكانت — بتركيبها الهرمي ووحداتها السكنية مثل الصنادقية والنحاسين والفحَّامين والكحكيين والمغربلين — ذات تأثير مباشر، لدقة تنظيمها، وتماثلها الاجتماعي، وسرعة استجابتها للأحداث القومية. كان لكل طائفة من التجار أو الصناع في مدينة القاهرة، وغيرها من المدن الكبرى، شيخ يفصل في المنازعات التي تقوم بين أفراد طائفته، ولا يسمح لأحدٍ بالانضمام إلى الطائفة إلا إذا حصل على تصريح منه بذلك.٥٠ وكان الشيخ يتمتع بسلطة واسعة على أعضاء الطائفة، فهو يتولى توزيع الضرائب المفروضة على الأعضاء، وله حق توقيع العقوبات على المخالفين منهم، وكانت سلطته القضائية محترمة من الجميع، وتصل — رغم عدم استنادها إلى القانون — إلى الحكم بالسجن أو الغرامة أو إغلاق المحل أو الحرمان من عضوية الطائفة.٥١ وأحيانًا، كان أفراد الحرفة الذين يعتنقون ديانة واحدة، يكوِّنون طوائف خاصة بهم، كما كوَّن التجار طوائف طبقًا للبلاد التي ينتمون إليها.٥٢
وكان يتم تصنيف بعض الطوائف الحرفية، بحسب انتماء أفرادها الديني؛ بحيث إن الذين يعتنقون ديانة واحدة من كل حرفة يكوِّنون طوائف خاصة بهم.٥٣ وكانت المصاهرة — في الأغلب — من بواعث توثُّق العلاقة بين أبناء الحرفة الواحدة.٥٤ بل إن الأب الصانع/الحرفي كان يحرص على أن يتعلَّم أبناؤه صنعته، لتبقى الحرفة متوارَثة في الأسرة، وليكون الأبناء ورثة الآباء في عملهم، مثلما هم ورثتهم في مالهم، وليظل اسم الأسرة عنوان جهدها.٥٥ ولم تكن آداب المهنة تسمح للصبي بأن يستقل عن معلمه، إلا إذا مات المعلم، أو أذِن لصبيه في الاستقلال.٥٦
وثمة إحصائية عن صادراتنا الصناعية إلى الخارج في عام ١٨٣٦م، تؤكد التفوق الصناعي الذي حققته طوائف الحرفيين، فقد بلغت قيمة المنسوجات المصدَّرة إلى الخارج ٥١٠٠٠ جنيه بنسبة ٢٫٥٪ من المجموع، على الرغم من أن الصناعة المصرية، والمهن الحرفية بعامة، ظلَّت تعاني منذ أخذ السلطان سليم أمهر الصنَّاع المصريين إلى تركيا، وقضى على أكثر من خمسين صناعة يدوية؛ إذ لم تجد لها صانعًا. وقد تعرضت هذه الطوائف في عهد محمد علي لضربات متعددة، نتيجة مباشرة لنظام الاحتكار، ثم بواسطة رأس المال الأجنبي، الذي فرض بضائعه ومنتجاته على السوق المحلية، مما أفقد الصناعة الوطنية القدرة على تسويق منتجاتها. ثم كان صدور القانون المقرر لحرية العمل والصناعة عام ١٨٩٠م إعلانًا رسميًّا بالقضاء على هذه الطوائف. ومن الخطأ نسبة تلاشي نظام الطوائف إلى ذلك القانون، ففي الحقيقة أننا نجد إرهاصات انحلال هذه الطوائف منذ عهد محمد علي، عندما أنشأ بعض المصانع الكبيرة التي التحقت بها أعداد من العمال والحرفيين، كوَّنوا طبقة عاملة جديدة، كانت أساسًا لنمو الطبقة العاملة المصرية. وكان قانون إلغاء حق الشيوخ في الولاية القضائية على أفراد الطائفة، وسحب حقوقهم في تأديبهم (وقد صدر في عهد سعيد). كان هذا القانون مَعلمًا في طريق اختفاء هذه الطوائف، وكان المَعلم الثاني منع رؤساء الطوائف في العهد الإسماعيلي من جمع الضرائب من أفراد طوائفهم وتوريدها للحكومة. ثم شكَّل تغلغل الرأسمال الأجنبي إلى داخل الحياة الاقتصادية المصرية، مَعلمًا خطيرًا ومهمًّا في طريق القضاء على هذه الطوائف تمامًا. فقد تغيَّرت طبيعة النظام الاقتصادي المصري، بإنشاء المصانع والشركات والمرافق التي التحق بالعمل فيها أعدادٌ هائلة من الصنَّاع والحرفيين. وأدت الاستثمارات الرأسمالية الواسعة إلى وجود صناعات ضخمة، مثل شركات السجاير والسكر وحليج الأقطان والترام والغاز وغيرها، وضمَّت هذه الصناعات أعدادًا كبيرة من العمال، كانوا نواة الحركة العمالية المصرية. ولعله يمكن اعتبار الورش الصغيرة في المدن، امتدادًا للحرفيين من حيث «اليدوية» في التصنيع، والعلاقات شبه الأسرية بين صاحب العمل والعاملين، كذلك فقد أدى فتح الأسواق أمام البضائع الأجنبية، وقيام الوحدات الإنتاجية الحديثة، وإنشاء بعض المصانع كالسجاير والأسمنت والطوب والملابس والورق والبيرة والسكر والزيوت … أدى ذلك كله — وغيره — إلى نشوء تجارة التجزئة، قوامها أعداد من الفلاحين المُعدَمين والحرفيين، ومن ثَم نشوء طبقة البرجوازية المصرية من صغار التجار.٥٧
واللافت أن الطبقة العاملة المصرية قد تكوَّنت من عناصر ثلاثة: الفلاحين الذين هجروا الريف إلى المدينة. أصحاب الحرف الذين انتهى عندهم نظام الطوائف، فطوَّروا خبراتهم مع استخدام المصانع للآلات الحديثة. العمال الفنيين من أبناء دول البحر المتوسط، والذين قدِموا فرارًا من تفشي البطالة في بلادهم.٥٨

•••

«قلعة الأبطال» تخلو من أي دور لطوائف الحرفيين في أحداث الثورة العرابية، وإن أشار الفنان (مصر للمصريين) إلى غياب الأسطى علي عن القاهرة أكثر من شهر، أغلق فيه دكانه، وحمل البندقية مع جيش عربي، تاركًا طفله وزوجته وأمه.٥٩ إن الفلاحين هم أبطال الثورة التي قادها المثقفون، لكن ظلالًا شديدة القتامة تحجب كل دور للحرفيين. والواقع أنه كان لهذه الطوائف دورها في تدعيم جبهة الثورة بالتبرعات التي حققت فائضًا في مخازن الجيش، يفوق ما كان عليه قبل نشوب المعارك، باشتراك أفرادها في المعارك التي خاضها الشعب دفاعًا عن ثورته. ومن الناحية الموضوعية، فقد كانت هذه الطوائف من أشد فئات المجتمع تلهفًا على تجسيد أهداف الثورة، رغبة في القضاء على النفوذ الأجنبي الذي قيَّد حركتها، وأصابها بالشلل. حدَّد الفنان أبعادًا ثلاثة لأحداث روايته: الفلاحين والقادة من مدنيين وعسكريين، ثم السراي. من هنا، تبدو الصورة البانورامية للأحداث ناقصة، إن أردنا شمولها لكل فئات المجتمع. اكتفى الفنان بأن يعبِّر بالفلاحين عن ملايين البسطاء من أبناء الشعب، وبالقادة عن الجهد الإيجابي في تجسيد الثورة، ثم بالسراي عن نظام الحكم الإقطاعي والسيطرة الأجنبية، وهو اختيار جيد لعمل فني، لكنه — تاريخيًّا — يهمل الدور الذي شاركت به كل فئات الشعب في صنع الثورة، وفي تجسيدها. لقد شارك حامد ويوسف ونفيسة وعمار والشيخ إبراهيم وكل شخصيات «قلعة الأبطال»، آلاف المواطنين من الصناع والحرفيين والتجار في الحلم بالثورة، والسعي إلى تحقيقها، ثم بالجهد الإيجابي في درء الخطر عنها.

•••

حاولت رءوس الأموال الوطنية مواجهة مشكلة الديون في العهد الإسماعيلي، حتى لا يضار الوطن، أو يشملها الضرر أيضًا. تلك قضية أخرى، لكن جريدة «التجارة» تشير — في أوائل عهد توفيق — إلى أن «جماعة من التجار، ومنهم حضرة الفاضل أمين أفندي شميل، فزعت بهم غيرتهم إلى تقرير أمر يحاولون به تخليص الوطن من أسر الدَّين في ظرف ٢٨ سنة، وهو أنهم يفتتحون بنكًا وطنيًّا يكون رأسماله ١٤ مليونًا من الجنيهات، تُجمَع من سائر أفراد الفرقة على أقساط ثلاثة أو أربعة.»٦٠
وقد أدى التجار دورًا يصعب إغفاله في أحداث الثورة العرابية: التاجر القاهري حسن موسى العقاد — مثلًا — تزعَّم حركة تقديم عريضة، في أوائل حكم توفيق، إلى لجنة تصفية الدَّين، تندد بإلغاء قانون المقابلة، وتدعو إلى تنظيم حركة احتجاج على ذلك الإلغاء. لكن رياض باشا رئيس الوزراء حينذاك، قبض على قادة الحركة، ومن بينهم حسن العقاد، وحوكِموا، ونُفي العقاد إلى السودان، فلم يعُد إلا في وزارة شريف بعد التاسع من سبتمبر ١٨٨١م. وقد لعب العقاد دورًا مهمًّا في أحداث الثورة العرابية، وأمدَّها بالكثير من احتياجاتها المادية.٦١

•••

كان تعاظم النفوذ الأجنبي، في مقدمة الأسباب التي أدت إلى قيام الثورة، وقد عبَّر أحمد عرابي عن مدى نفوذ الجاليات الأجنبية في المجتمع المصري، عندما قال في لجنة التحقيق «من المعلوم أن مصر مسكونة بأجناسٍ مختلفة، وكل جنس عليهم يُعتبَر حزبًا، كما أن أهل البلاد حزب قائم بذاته، يُطلَق عليه لفظ «فلاحين» إذلالًا لهم.» وكتب عرابي في رسالة إلى يعقوب صروف: «إن معظم المرابين الذين عاثوا في البلاد بالفساد، وغشُّوا الأهالي بمعاملاتهم الخداعية، حتى استولوا على كثير من أطيان المصريين وعقاراتهم، وجرَّدوهم عن أملاكهم، هم من الأروام اليونانيين، وإن أغلب القضايا والدعاوى المفتريات التي تُقام ضد الأهالي هي صادرة من رعايا اليونان.»٦٢ وقد تركزت الاستثمارات الأجنبية في ثلاثة مجالات أساسية هي: المرافق العامة، الصناعة، التجارة.٦٣ وعندما يعرض بعض أصدقاء النديم عليه، أن يدير مشروعًا تجاريًّا، يقول ساخرًا: إذا أردت أن تضمن نجاح المشروع، فاحضر لي قبعة من الغد، ويصبح اسمي الخواجة دميان!٦٤ وحين ينصح الأفغاني عبد الله النديم بضرورة أن يرحل إلى الإسكندرية، يسأله النديم: وماذا أفعل هناك؟ فيجيب الأفغاني: تسألني ماذا تفعل هناك؟ اذهب إلى الإسكندرية، وستجد هناك آلافًا من اليونانيين والقبارصة والمالطيين والإيطاليين والفرنسيين والإنجليز والشوام والمغاربة، ووجه سؤالك مهم. قل لهم: لماذا تركوا بلادهم وجاءوا إلى بلدك؟ لماذا قطعوا مئات الأميال فوق المياه، لا يملكون غير ثيابهم، إلى بلاد لا يعرفون حتى لغتها، ليصبحوا بعد شهور أصحاب دكاكين ومقاهٍ وملاهٍ ومدارس وصحف وكنائس، بينما تسألني أنت: ماذا أفعل في الإسكندرية؟٦٥

•••

ولعله يمكن تحديد بدء تعاظم النفوذ الأجنبي الاستعماري، بنهاية إمبراطورية محمد علي، عندما وفد إلى البلاد مئات الأجانب من جنسيات متعددة، لم يقف نفوذهم عند العاصمة وحدها، لكنه امتد فشمل الريف كله، بواسطة القروض التي تُرَد بالربا (زاد عدد الأوروبيين من ثلاثة آلاف عام ١٨٣٦م إلى ثمانية وستين ألفًا في ١٨٧٨م). لم يكن عدد الأجانب في مصر — عند مجيء الحملة الفرنسية — يزيد عن مائة شخص. ثم تزايد عددهم في عهد محمد علي لاستقدامه تخصصات شتى في الهندسة والزراعة والطب وغيرها، فضلًا عن الفنيين في الجيش والمصانع الحربية.٦٦ واستطاع بعض الأجانب حيازة الآلاف من الأفدنة، بعد أن منحهم محمد علي أطيانًا من الأبعادية، صارت لهم ملكًا مطلقًا طبقًا لقرار ١٨٤٢م. كما نال هؤلاء الأجانب أطيانًا أخرى طبقًا لنظام العهدة.٦٧ كذلك فقد استعان محمد علي بالجاليات الأجنبية لتسويق صادرات الزراعة المصرية، بعد أن فرض احتكاره على معظم الأراضي الزراعية المصرية. وفي رسالة من الرسول البابوي أوتينفلس إلى أمير ميترنيخ بفيينا، أشار إلى أن محمد علي يمتلك محصول القطن الذي يجبر الفلاحين على زراعته، ويقدِّر ثمنه — تعسفيًّا — بواسطة موظفيه، إلى جانب أنه يحتكر محاصيل البلد وحبوبه لمضارباته.٦٨

كان حرص محمد علي على إقامة دولة من الموظفين والأتباع، من الأتراك والألبان والأوروبيين، ونبذ القوى الشعبية، عاملًا مهمًّا في اكتساب «المسألة المصرية» لصفتها الدولية. وقد أكد هذه الصفة معاهدة لندن التي عُقدَت في ١٨٤٠م، وهي المعاهدة التي حددت مستقبل العلاقات بين مصر والباب العالي، واشترطت في أحد بنودها عدم إجراء تغيير في هذه العلاقة إلا بالرجوع إلى الدول الأوروبية الموقِّعة على المعاهدة. منذ ذلك الوقت، تأكدت الصفة الدولية للمسألة المصرية، وتركز التنافس بين إنجلترا وفرنسا، وتبادَل حكام مصر الولاء نحو هذه الدولة أو تلك. ومن جهة أخرى، فقد كان تكوين طبقة أرستقراطية تَدين بالولاء للحاكم وحده، هو حلم محمد علي الذي سعى إلى تحقيقه بشراء بعض الأحداث من الأجانب، وعهد بتعليمهم إلى أساتذة متخصصين في مدرسة خاصة بالقلعة. وكان هؤلاء الأحداث من الأتراك والشراكسة والجيورجيين والأكراد والأرمن، ثم أقطع محمد علي بعض أعوانه أراضي زراعية ليصبحوا بُعدًا جديدًا في هذه الطبقة. ثم ظهرت في حياة المجتمع المصري — في عهد إسماعيل — جالية جديدة، تتألَّف من العناصر الشامية التي بدأت تفِد إلى مصر، نتيجة لأزمة صناعة الحرير في لبنان، والاضطهادات الدينية على عهد السلطان عبد الحميد. وكان إسماعيل أسير حلمه بجعل مصر قطعة من أوروبا، فألحق عددًا كبيرًا من أبناء الشام بالوظائف الحكومية، لإتقانهم اللغات الأجنبية، ولدرايتهم الوظيفية. كما قامت أعداد كبيرة منهم بأعمال السمسرة والرهونات على القطن بين الفلاحين. وعند مجيء الاحتلال البريطاني، حرص على تغذية العداء بين العناصر الشامية التي دانت لها مناصب البيروقراطية في البلاد، وبين طبقة المثقفين المصريين. وجرت بين الطرفَين مساجلات ومهاترات، شهدت أطرافًا منها جريدة «المؤيد» التي كانت تتولى الهجوم على الجالية الشامية في مصر، وجريدة «وادي النيل» التي أفردت صفحاتها للرد على هذا الهجوم. وبلغت المشكلة ذروتها حين تعرَّض رياض باشا رئيس الوزراء، عام ١٨٩٥م، إلى ضغط شديد من المثقفين المصريين، دفعه لمحاولة استصدار قانون يحرِّم على الشوام تولي المناصب الحكومية في مصر. لكن اللورد كرومر حال دون صدور هذا القانون، وأعلن أن «مثل هذا القانون لن يرى النور، ما دام هناك جندي بريطاني واحد في شوارع القاهرة.» وثمة جاليات أخرى، كانت كل واحدة منها تحيا حياتها الخاصة، في عالمها المغلَق الذي لا صلة له على الإطلاق بأية جالية أخرى. وكانت البلاد تزخر بعشرات الصحف التي تناصر فئة أو جالية بذاتها: صحافة الأحرار ضد السلطان، وصحافة الأرمن واليهود ضد الدولة العثمانية، وصحافة المصريين ضد الجالية الشامية، وصحافة الجالية الشامية ضد القوى الوطنية المصرية، وصحافة تَدين بالولاء للإنجليز ضد فرنسا والدولة العثمانية. وفي المقابل، صحافة فرنسية وتركية تناهض السيطرة الإنجليزية، وصحافة ماسونية ضد الجزويت، وصحافة تنفق عليها سلطات الاحتلال لتعبِّر عن مبادئه، وتهاجم الأفكار الوطنية. أما الصحيفة الرسمية للدولة — الوقائع المصرية — فقد كانت تعاني السيطرة العثمانية، إلى حد أنها كانت تكتب باللغتين العربية والتركية، وكانت مواد الصحيفة تكتب أولًا بالتركية، ثم يُترجَم بعضها إلى العربية، وعندما تولى رفاعة الطهطاوي رئاسة تحرير «الوقائع» أصر على أن تكون العربية ناحية اليمين من الصحيفة، والتركية ناحية اليسار، وأن تُقدَّم كل المواد بالعربية أولًا، ثم يُترجَم بعضها إلى التركية.

•••

بلغ متوسط أعداد الأجانب الذين دخلوا البلاد في الفترة من ١٨٥٧م إلى ١٨٦١م — عهد سعيد — ٣٠ ألف أجنبي كل عام.٦٩ وأسهمت شركة قناة السويس في إدخال الآلاف من الأجانب من جنسيات شتى، فكان يصل إلى مدن القناة الثلاث — بورسعيد والإسماعيلية والسويس — أعداد متواصلة من الأجانب، غالبيتهم لا يحملون جواز سفر أو تذاكر مرور، وأنشَئوا لأنفسهم جاليات هائلة، ومارسوا التجارة. بل لقد افتتح الكثير منهم بيوتًا للبغاء في مدينة السويس لأول مرة في تاريخها.٧٠ وزاد من أعداد الأجانب وجود خط السكة الحديد بين الإسكندرية والقاهرة، فسهَّل على آلاف السائحين أن يفِدوا من بلادهم إلى الثغر، ومنه إلى القاهرة فيقيمون فيها. وكانت الحرب الأهلية الأمريكية قد خمد أوارها في ١٨٦٥م، فسعى الكثير من الأمريكيين لزيارة مصر، سائحين أو مبشِّرين، أو للمشاركة في مشروعات اقتصادية وتجارية.٧١
بالإضافة إلى ذلك، كانت القروض الأجنبية التي حصل عليها إسماعيل، هي السبب المباشر في انتهاء التجارة الخارجية كلها إلى الشركات الأجنبية. ثم انتهت التجارة الداخلية أيضًا إلى التجار الأجانب الذين تسللوا إلى مدن الأقاليم الرئيسة، ليفتحوا المتاجر والملاهي والحانات، «وهكذا انتهت طبقة التجار الوطنيين إلى أن تبيع للناس بعض المنتجات الوطنية، كالعطارة والخردوات والمنسوجات المحلية والجلود والأواني الفخارية والخشبية.»٧٢ ويصف النديم مدى تسلل الأجانب إلى كل الإدارات المصرية: «تخيَّل نفسك عائدًا إلى وطنك بعد غيبة سبع سنوات، وحين تصل إلى الإسكندرية، فسوف تجد قائد الميناء بحارًا إنجليزيًّا، فإذا وصلت حقائبك بالجمرك، فستجد مديره إنجليزيًّا كان موظفًا سابقًا بمصلحة البريد. فإذا أردت أن تسافر إلى القاهرة بالسكة الحديد، فسوف تجد هذا المرفق يُدار بواسطة موظفين إنجليز وهنود وفرنسيين. فإذا شئت أن ترسل تلغرافًا إلى أهلك تنبِّئهم بوصولك فستجد المشرف على التلغرافات موظفًا إنجليزيًّا أيضًا، وإذا شئت أن ترسل لأصدقائك خطابات تخبرهم بقدومك، فستجد مصلحة البريد مرءوسه موظف سابق في البريد الإنجليزي.»٧٣ وبعد أن أخذ شأن التجار الوطنيين يظهر شيئًا فشيئًا في أواسط القرن التاسع عشر «حين رُدَّ إلى المصريين شيء من حرية، أو حين أتاحت لهم النهضة شيئًا من سعة العيش»،٧٤ فإن الخوف ملأ النفوس من سطوة الاحتلال، إلى حد تملك الحيرة «يوسف» بين أصدقائه، فقد رفض الجميع ترجمة الرسالة التي كان يريد إرسالها إلى وزير خارجية بريطانيا، يشكو له فيها الشركة الإنجليزية التي كانت تُرغِم التجار على شراء البضاعة الكاسدة.٧٥ كان وهم كل من عرض عليه يوسف الرسالة ليترجمها، يثق أن اللورد سيعرفه من أسلوبه، ولو كُتبَت الرسالة بخط غيره!

كان ممنوعًا سؤال أي أجنبي في أمر — مهما تبلغ تفاهته — إلا بحضور مترجم من القنصلية. فإذا لم يحضر المترجم — مع تكرار طلبه — اضطر صاحب الحق إلى اللجوء لقنصلية المشكو في حقه ليُلقي بنفسه في دوامة مساومتها. وكان ممنوعًا تفتيش بيت لأجنبي إلا بعد استئذان القنصلية التي يتبعها، وأن يصحب الموظف المصري مترجَمٌ من القنصلية، جرت العادة أنه يبلِّغ صاحب البيت قبل التفتيش، ليخفي ما قد يؤخذ عليه. وكان لا يجوز نقض الحكم الصادر عن القنصلية إلا أمام محكمة الاستئناف في الدولة التي يمثِّلها القنصل. وكانت النتيجة الطبيعية لذلك كله، استهانة الأجانب بأرواح المصريين وحقوقهم، حتى إن اللورد كرومر يصف عهود الامتيازات بأنها «قد تحوَّلت إلى أغراض خسيسة، من أمثلتها أن تحمي جهنم القمار، كما تحمي بائع الخمور المغشوشة، والتاجر في السلع المسروقة، والصيدلي الذي يبلغ به التهاون أن يعطي السم القاتل بدلًا من الدواء الموصوف.» أما دين قانون التصفية، فقد كان يعني — بأبسط عبارة — أن الديون التي أُخذَت من المصريين، بينما لم يلغَ شيء من أموال الأجانب، رغم التشكك في سلامة الديون الأجنبية. وأضافت الامتيازات بُعدًا مهمًّا في سيطرة الأجانب على مقدرات الحياة المصرية. وقد منحت السلطات العثمانية استثناءات قانونية للأجانب في ولاياتها، تجاوزًا للقوانين العثمانية التي كانت تحرِّم الأعمال المصرفية لاعتمادها على عامل الربا. وكانت تلك الامتيازات محدودة الأثر والتأثير في الولايات العثمانية، عدا مصر التي تحوَّلت الامتيازات فيها إلى سيطرة أجنبية محكمة على الاقتصاد المصري. وكان عدد الدول المتمتعة بالامتيازات الأجنبية في مصر ١٧ دولة. ويقول النديم على لسان مصر: «أصبحتُ بين الغرباء كالأجير والخادم المستعبد، فما رأيت في قصر لطيف فذاك للمسيو، وما نظرت من جفالك، وما سمعت من رفعة وإنعام فهو للسنيور، وقد صار الإسكافي عندنا مهندسًا، والمزيِّن طبيبًا، وخادم الخيل رئيسًا، وذليل بلاده وطريدها عزيزًا ومحبوبًا، وأهلي يجاهدون في خدمتي فتدركهم جهالة أمرائي بالهزيمة، وأرضي ملكًا لأوضاعٍ لا يملكون القوت في بلادهم، وإرادتي أجنبية محضة في يد من لا يعرف لغتي، ولا ينظر لي إلا بعين الهوان.»

لقد أُنشئت جمعيات ونقابات، ضمَّت العمال الأوروبيين المهاجرين في الإسكندرية والقاهرة بين ١٨٧٥م و١٨٨٢م. وثمة روايات عن النشاط الإيجابي — تأييدًا للثورة العرابية — من بعض «جمعيات الفعلة». بل إن «جمعية الفعلة الطليان» بعثت إلى عرابي ببرقية تساند الثورة ضد المؤامرات الأوروبية الاستعمارية.

•••

كانت الثورة إذن ضد النفوذ الأجنبي بعامة، وليس ضد النفوذ التركي وحده، بل إن النديم وجد في طبقة الأرستقراطية المصرية كذلك أحد بواعث الثورة. ففي حوار بينه وبين أحد تلاميذه، يقول النديم: «الشورى هي غرس الأفكار في أرض التبادل، وسقيها بماء الحرية، وخدمتها بيد الاعتدال، لتثبِت العدل وتزهر الحق وتثمر العمران، ولا يقوم بها إلا عاقل عالِم بأحوال الدول الأخرى واتجاهاتها، خبير بأحوال أمته وحاجاتها … حر في فكره، لا يرى إلا منفعة وطنه، بحيث لا ترهبه الظواهر ولا تخيفه الهيئات.

التلميذ : وهل يوجد في وطننا من فيه أهلية لذلك، أو جامع لهذه الخصال، غير الأغنياء والوزراء؟
النديم : لا يخفاك أن الوطن فيه الذكي والبليد، والغبي والنبيه، والغني والفقير، والأمير والحقير … فإن كان الانتخاب قاصرًا على الأغنياء دون الأذكياء كان مجلس النواب وبالًا على الشعب والوطن.
التلميذ : من أين يأتي الوبال وهم من أهل الوطن الحائزين للرتب العالية، وهم أدرى بحال الوطن وصالح المواطنين.
النديم : لا يخفاك أن ابن الغني مولَع بالاستبداد والاستعباد، فهو يميل إلى استخدام الفقراء بلا مقابل، وضرب الضعفاء من غير أن يعارَض أو يحاكَم، وهذا بعينه هو الاستبداد المضر بالشعب، على أن أباه إذا كان من حكام البلاد، فإن أغلب الحكام متسلطون على المحكومين تسليط الهواء على النار، يضربون ويحبسون وينهبون. ومن كانت هذه أفعال أبيه، كان بعيدًا عن الحق، أجنبيًّا في الإنصاف، لا يميل للمساواة، ولا يعترف للفقير بحقٍّ معه في الوجود، فوجود مثله في مجلس النواب علَّة لزيادة هلاك الشعب، فيشرِّعون من القوانين ما يضمن مصالحهم، ليضعفوا بذلك حدة أذهان الفقراء، ويحبسوا الثروة لأنفسهم.
التلميذ : وإن كان من أولاد الأتراك الذين تولوا مناصب الرئاسات في الدولة؟
النديم : اعلم أن الحكم على شيء فرع عن تصوره، ولا نحكم على الرؤساء الأتراك إلا بعد معرفة أسباب ثروتهم، فإن كانت بجدِّهم واجتهادهم كانوا أحرص الناس على حفظ الهيئة الاجتماعية، وإن كانت بطريق الظلم والنهب والرشوة، كانوا أشد ضررًا لحبهم الظلم الذي صيَّرهم في هذه الثروة، بعد أن كانوا لا يملكون قوت يومهم. ومن هذا القسم من لم يرَ الريف ولا يعرفه، فكيف يكون نائبًا عنه؟ وقد يكون فيهم كثير من أهل الخبرة والدراية، ولكن حبهم لذاتهم يعطي كثيرًا من الضرر. فإذا وجدوا في مجلس النواب، ولم يكن معهم أحد من النبهاء الأذكياء من أهل البلاد، كان نواب هذا المجلس عبارة عن لعبة يديرونها كيف شاءوا. فإذا تشكَّل المجلس من هذين القسمَين — الرأسماليين المصريين والرؤساء الأتراك — جعلتكم الدول رواية تياترية يشخصونها في المحافل، ليضحكوا على أهلها.٧٦
إن المملوك خورشيد في قصة غادة حمانا (١٩٣٠م) يُباع إلى رجب حمدي باشا، أحد ياوران الخديو إسماعيل بألف ليرة ثانوية. وفي مدى ثمانية عشر عامًا يصبح المملوك أميرالايًّا في الجيش المصري، ولم يكن قد بلغ الثالثة والثلاثين من عمره بعدُ. بل إنه يشغل وظيفة كاتم سر عثمان رفقي باشا ناظر الحربية المصرية وساعده الأيمن، بعد أن جمعتهما الكراهية المشتركة للضباط المصريين … ذلك المملوك هو كل المماليك الشراكسة والأتراك الذين كانوا يشكِّلون العقبة الكأْداء أمام ترقي الضباط المصريين إلى الرتب الأعلى.٧٧ وقد ضغط حمدي خورشيد على أن والده — الضابط التركي — كان من بين أسباب اندلاع الثورة العرابية. فقد رُقي إلى رتبة الأميرالاي وهو في سن الثلاثين، فغاظ ذلك عرابي ورفاقه، وقدَّموا عريضة إلى رياض باشا، يطلبون فيها — ضمن مطالبهم — «إجراء تحقيق في كفاية الذين فازوا بالترقية حديثًا دون استحقاق.»٧٨

•••

لا شك أنه في مقدمة الأسباب التي أدت إلى قيام الثورة العرابية، ما كان يعانيه المصريون من الغزاة الأتراك والجركس. ونتذكر المثل «آخِر خدمة الغز علقة». لذلك فإن مطالبة قادة الحركة العرابية بالمساواة بالعناصر التركية، إنما كانت تعبيرًا عن مطالبة المصريين جميعًا بالمساواة بالجنسيات الوافدة. وربما ارتكزت الآراء — التي تجد في تعاظم النفوذ التركي وحده باعثًا على قيام الثورة — إلى حركة الجيش، فقد كانت رتبة القائمقام هي الترقية النهائية للضابط المصري، أما الرتب الأعلى فهي لأفراد العائلة الخديوية، وللضباط الشراكسة والأتراك. وكان من ثمار ذلك تأليف أول جمعية سرية عام ١٨٧٦م برئاسة عرابي، لتحرير الجيش المصري من سطوة النفوذ الأجنبي. ثم كانت مظاهرة الجيش ضد وزارة نوبار (١٨٧٩م) منعطفًا مهمًّا في سير الأحداث، واشتداد ساعد القوى الوطنية داخل الجيش.

والحق أن النفوذ التركي كان أشد تأثيرًا من سواه، لأنه كان يجد مباشرته في حكام البلاد أنفسهم الذين يرجع إدوارد لين جرائم القتل والسرقة وغيرها، إلى سوء معاملتهم واستبدادهم، مما ألجأ الشعب إلى ممارسة العنف، وارتكاب أبشع الجرائم. كانت الجريمة — كما يقول إدوار لين — «نادرة الحدوث في مصر». ثم تحوَّلت أخلاق المصريين نتيجة للمعاملة القاسية التي كانوا يلقَونها على أيدي الحكام الأتراك في استبدادهم وبطشهم، حتى قيل فيهم المَثَل «ظلم الأتراك ولا عدل العرب.» وثمة ظاهرة أخرى يؤكد بها لين رأيه: إنه لم يشاهد مصريًّا يضرب حيوانًا إلا في المدن التي امتد إليها النفوذ الأجنبي، مثل الإسكندرية والقاهرة، وعلى الرغم من أن محمد علي قد وُلي عرش مصر بإرادة الشعب المصري، فإن رأيه في هذا الشعب — بعد أن غدر به، ونفى زعيمه عمر مكرم، وكسر شوكة إرادته تمامًا — بأنه «لا يصلح إلا لحمل الأثقال وسوق الحمير.» وظل ذلك الرأي محورًا لنظرة العائلة المالكة — في امتداد حكمها — إلى المصريين، حتى إن الأمير عمر طوسون الذي يُعَد من أصلح رجال هذه الأسرة، وأكثرهم ثقافة، كتب يحمد لمحمد علي أنه أقصى المصريين عن الارتقاء إلى مراتب القيادة في الجيش، فيقول عنهم إنهم «عندما يرتقون إلى مراتب القيادة، لا يُحسِنون القيام بواجبهم، ولا يعتزون بكرامة مراكزهم.» ثم يقول «وربما كان هذا من حظ محمد علي ويُمن طالعه، لأن المصريين شعب سريع التقلُّب، وهو من هذه الوجهة لا يُؤمَن جانبه، فلو سلمت قيادة الجيش إلى ضابط من جنسه، لخيف أن يَنزعوا يومًا إلى الفتنة والتمرد.» ومع ذلك، فإنه لا يخلو من دلالة حث إبراهيم باشا أحمد، عم الخديو، المجلس العرفي على استمرار المقاومة ضد الإنجليز، وقال إن القاهرة غاصة بالجند ومخازن الحربية ملأى بالسلاح والذخيرة والميرة ووسائل الدفاع متوافرة، والواجب هو الدفاع، ما دام هناك بقية.»٧٩

•••

كان أول ظهور لطبقة الملاك المصريين، في أعقاب اللائحة السعيدية التي صدرت في ١٥ أغسطس ١٨٥٨م.٨٠ لقد أباحت للمصريين ملكية الأطيان، وحرية التصرف فيها بالبيع والرهن. كما أعفت الفلاحين من متأخرات بلغت ٨٠٠ ألف جنيه، وكان طبيعيًّا أن يُقبِل المصريون على حيازة الأرض. وتكوَّنت — شيئًا فشيئًا — طبقة من ملاك الأرض المصريين، أخذت تنافس الأتراك في الثروة، وإن عجزت عن منافستها في النفوذ والسلطان.٨١ وبالطبع، فقد كانت هناك عوامل أخرى، أتاحت — في مجموعها — قيام طبقة ملاك الأرض المصريين. ثَم تكون مجلس شورى النواب، بداية فعلية لاستناد السلطة الحاكمة — الخديو — إلى طبقة الملاك المصريين، في محاولة لكسب ثقتهم وتأييدهم، بإشراكهم — ولو مظهريًّا — في ممارسة الحكم بجانبه. ولعله مما ينبغي تأكيده، أن أعضاء مجلس النواب حتى عام الثورة، كانوا من طبقة كبار الملاك. ولم يكن ثمة مَن يمثِّل التجار والحرفيين والمثقفين وغيرهم من فئات المجتمع، فيما عدا بعض التجار الذين انتُخبوا باعتبارهم من الأعيان.٨٢
وتُعَد المجالس النيابية التي توالت — منذ بدأ مجلس شورى النواب أعماله في عصر إسماعيل — سجلًا تاريخيًّا للقيادات العاملة بالسياسة من طبقة الأعيان المصريين.٨٣ ويقول بلنت: «وفضلًا عن أن عرابي قد رأى أعيان الفلاحين يسعون إليه، فإنه قد رأى المطالبين بالدستور كذلك يجعلون منه حليفًا لهم. وقد كان الكثيرون منهم أعضاء في الطبقة الحاكمة، وكانوا في قرارة أنفسهم يقاومون حرية الفلاح كما يقاومها رياض نفسه.٨٤ وكان عطا المراكيبي (حديث الصباح والمساء) واحدًا من هؤلاء الذين لم تدخل الثورة العرابية وجدانهم من مدخل وطني، وإنما من زاوية الخوف على أملاكه وأمواله. من هنا كان تأييده للثورة، وتبرعه بشيء من المال، فلما تبدى الفشل، انحاز على الفور إلى جانب الخديو والإنجليز.٨٥ ولأن «الباشا» كان واحدًا من الذين مهدوا لدخول الاحتلال الإنجليزي مصر، فقد احتفظ حول قصره بعددٍ من جنود الإنجليز، وكان على ثقة أن الجميع يكرهونه، ويريدون أن يبطشوا به.٨٦ والواقع أن موقف الأعيان كان — في مجموعه — تأييدًا للثورة. لقد تعوَّدوا السيادة من الأتراك والشراكسة، والخضوع الذي لا يُناقَش من جانب المصريين، بصرف النظر عن حظهم من الثراء أو الثقافة. فالمصري فلاح، والفلاح ليس أهلًا للسيادة أو القيادة. وها هو ذا زعيم من أبناء الفلاحين، لا يكتفي بأن يناقِش حق المصريين تحت الشمس، لكنه يدعو — وكانت آنذاك دعوة مستغربة وخطرة — أن تكون مصر للمصريين! وأكد توالي الأحداث أن ما يبدو غريبًا وخطرًا، هو حقيقة، وأن هذه الحقيقة فرضت نفسها، حتى على الخديو. وأصبح الفلاح، الضابط المصري أحمد محمد عرابي، أملًا لمن يغنهم حظهم من الثقافة والثراء، من أن يكونوا — دومًا — في مراتب تالية للسادة الأتراك والشراكسة، وقدِمت أعداد كبيرة من الشيوخ والأعيان إلى عرابي، محمَّلين بالهدايا — وسيلة المصريين للتعبير عن محبتهم — وأبدوا إعجابهم بأول زعيم مصري فلاح! وكان إبراهيم باشا أحمد — عم الخديو — أعلى الأصوات الداعية إلى استمرار المقاومة. دعا المجلس العرفي إلى وجوب دعم وسائل الدفاع عن القاهرة، وأكد توافر الجند والسلاح والذخيرة بما يجعل من دخول قوات الاحتلال إلى القاهرة أمرًا بالغ الصعوبة، لكن المجلس العرفي كان قد اتخذ قراره بالاستسلام وانتهى الأمر.٨٧

•••

اختار عبد الحميد جودة السحار في «قلعة الأبطال» نموذجًا وضع فيه كل خصائص الجاليات الأجنبية والمتمصرة، والتي كان تعاظُم نفوذها في مقدمة أسباب الثورة. ثم كان تسلُّل بعض أفرادها إلى الثورة، وخيانتهم لها، عاملًا مؤكدًا في فشلها … ذلك هو سلطان باشا. ينتمي إلى أسرة بدوية، في إحدى قرى مديرية المنيا. تعلَّم القراءة والكتابة على يد معلم للقرآن، فلما كبر عُيِّن عمدة لقريته، ثم تدرج — ارتكازًا إلى انتهازية أصيلة! — في الوظائف الإدارية حتى أصبح مفتشًا للوجه القبلي. وكان في مقدمة أهدافه السعي لإرضاء كل رغبات ومطامع الخديو إسماعيل، حتى لقد أصبح خديويًا صغيرًا في الصعيد. فلما قامت الثورة العرابية عُيِّن سلطان باشا رئيسًا لمجلس النواب. وكان من الطبيعي أن يتقرَّب إلى العرابيين، ويحرضهم على إسقاط الخديو، توصلًا إلى منصب الوزارة، لكن العرابيين تبيَّنوا عِمالته، وميله للخديو. وعندما أخذ الخلاف بين العرابيين والخديو أبعاده الخطيرة، سافر إلى الإسكندرية، وأعلن وقوفه — صراحة — إلى جانب الخديو.

كان الإمام يرى أن أشد المصريين خيانة لوطنهم هو سلطان باشا، يليه في الخيانة عمر لطفي باشا محافظ الإسكندرية. الأول — كما يقول الإمام — أشعل نار الحرب، ثم نكص على عقِبيه، والثاني دبَّر حادثة الإسكندرية، ليقيم الحجة بأن عرابي عاجز عن ضبط الأمن. كان موقف سلطان من عرابي أشبه بما فعله يهوذا الذي باع المسيح؛ فهو لم يكتفِ، في بدء صلته بالثورة، أن تتحقق الأهداف التي قامت من أجلها بصورة سليمة، لكنه وجد انتصارها في ضرورة قتل الخديو: «لن تستقر أمور البلاد إلا إذا خلعنا توفيق. فقال عرابي: هذا ليس بالرأي. فثار سلطان وقال: اقتلوا الثعبان سلالة الجناة الناهبين الذين باعونا للأجانب، وزاد فطالب بقتل الخديو.»٨٨ وكان النديم قد اعترض — بحسِّه المرهف — على رئاسة محمد سلطان لمجلس النواب، وعلى مشاركته في تطورات الأحداث عمومًا، وقال لعرابي إنه — أي سلطان — تلميذ في مدرسة الظلم، وتربية الخديو إسماعيل. فقال له عرابي: لم تعد بعتبك ما في قلبي، ولكن لا بد للصياد من صحبة الكلب.٨٩ ثم بدأت قوات الاحتلال في غزو البلاد، فانتقل سلطان مع الخديو إلى قصر رأس التين، ليكون معه في حماية السلطان.

•••

كان سلطان باشا تجسيدًا للخيانة التي أسهمت في دخول قوات الاحتلال، ويقول النديم إنه عندما احتدمت المعارك «أخذ حزب المنافقين يبعث كتبه إلى المذبذبين، وفيها الوعد بالنقد والنيشان والرتب وشرف العنوان، يقودهم في ذلك شيطان، تَسمَّى بسلطان.»

أما لماذا اختار سلطان جانب قوات الاحتلال بعد أن كان من أشد مؤيدي الثورة (هل كان ذلك فعلًا؟) فإن السحار يرجع ذلك إلى ثروته وجاهه وكبريائه وغروره «كل أولئك أورده موارد الهلاك؛ كانت له الصدارة في أي اجتماع، وكان ينظر إلى عرابي — في أول أيامه — نظرة الرعاية التي يمنحها الكبير الصغير، وكان يرى فيه أداة لتحقيق مآربه، وتنفيذ أحلامه. فلما رأى أن عرابي ليس بالمطية التي تقوده حيث يشتهي، وأن عرابي صار وزيرًا، وزعيمًا للأمة، حقد عليه. وزاد في حقده أن غضَّ الطرف عنه، ولم يفكر أحد في أن يقلده الوزارة، على الرغم من تعاقب الوزارات، فوسوس له شيطانه أن المصريين لم يوفوه حقَّه من الاحترام، فانضم إلى الإنجليز لعلَّه ينال ما تهفو إليه نفسه من توقير وجاه.»٩٠ وفي ٢٨ سبتمبر ١٨٨٢م ذهب وفد من زعماء الإقطاعيين — على رأسهم سلطان باشا والسيوفي والشواربي ومحمود سليمان — إلى رياض باشا، وأبلغوه باعتزامهم تقديم هدية قيِّمة إلى كل من الأميرال سيمور قائد الأسطول الإنجليزي، والجنرال ولسلي القائد العام للجيش الإنجليزي، والجنرال دوري الذي كان أول من دخل العاصمة بعد سقوط التل الكبير، وقد أذن لهم رياض بتقديم الهدايا، فقدَّموها من أموالهم «الخاصة»!٩١ وبينما كان حاكم البلاد يستعرض قوات الاحتلال، وهي تشق طريقها إلى قلب العاصمة، وعشرات الآلاف من الثوار يُقبَض عليهم ويُقدَّمون إلى المحاكم، وأحكام الإعدام تُنفَّذ علنًا في الميادين، وقادة الثورة يتم نفيهم إلى خارج البلاد؛ كان سلطان يتلقَّى إنعام الخديو عليه بوسامٍ لقاء خيانته، ويحصل على لقب «سير» من الحكومة البريطانية، فضلًا عن مكافأة قدرها عشرة آلاف جنيه ذهبًا «هدية لما حصل له من الضرر والتعدي على شخصه وأقاربه، وإتلاف موجوداته، ومقدار جسيم من مزروعاته.»٩٢ هذا الموقف الذي اتخذه يهوذا المصري من الثورة العرابية، يجد نقيضه في موقف الإمام محمد عبده، فالأول بذل جهده لمنع أحداث الثورة من التفاقم، حتى لا تؤدي إلى احتلال البلاد، ثم لمَّا هدد أسطول العدو ميناء الإسكندرية، أعلن الإمام مناصرته للثورة، وأصبح من أشد دُعاتها. أما الثاني، فقد وهب لنفسه — بداءة — منصب الزعامة من الثورة، وأعلن خيانة الخديو، واتَّهمه ببيع البلاد للأجانب، ثم كان — فيما بعد — إحدى القوى الأساسية التي ارتكزت عليها قوات الاحتلال في ضرب الثورة من الداخل. ولعلنا نتفهَّم في ضوء ذلك، إقدام هدى شعراوي — ابنة الخائن — إلى إخفاء بنوَّتها منه، أو أبوته لها، ٦٣ عامًا، حتى توفيت في ١٢ أغسطس ١٨٨٤م، انتسبت إلى اسم زوجها بدلًا من اسم أبيها، أو اسم عائلتها «انطلاقًا من الشعور بالذنب.»٩٣

•••

لقد برزت فئة كبار الملاك في ظل الوجود الاحتلالي؛ وَهب لهم الأراضي، وأنعم عليهم بالألقاب والرتب، وأسند إلى أفرادها المناصب الإدارية والقضائية، وعيَّن منهم المديرين والمأمورين ورؤساء المجالس. وبدأت تلك الطبقة تؤدي — منذ مطالع القرن — دورًا بارزًا في حياة مصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية.٩٤ ومن هنا، جاء وصف اللورد كرومر للعائلات الأرستقراطية بأنها «أصحاب المصلحة الحقيقية»، وقول اللنبي إنه من الممكن أن يجلو الإنجليز عن مصر وهم مطمئنون إلى أنهم خلقوا طبقة من الكبراء يمكن لإنجلترا أن تستأمنهم على سياستها في هذه البلاد.»٩٥ وسنعرض لذلك كله — تفصيلًا — في فقرات تالية.

•••

أين موضع المرأة في الصورة البانورامية للمجتمع المصري آنذاك؟

نحن لن نجده — بالطبع — في «قلعة الأبطال»؛ إن نفيسة نموذج لنظرة الفنان إلى المرأة عمومًا، فهي — في رأيه — ناقصة عقل ودين، وهي في حاجة دائمة إلى ظل الرجل وعونه وحمايته. تلك هي الصورة النمطية — أو تكاد — التي نجدها في معظم أعماله، منذ «في قافلة الزمان» روايته الأولى. نفيسة تبيع ماشيتها لقاء أيام تقضيها في ظل أي رجل. قد تنتمي — بالفعل — إلى ذلك المجتمع الذي تقضي فيه أمينة — بعده بأجيال — ربع قرن من حياتها حبيسة البيت في «بين القصرين»، ولعلها انعكاس صادق لصورة المرأة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، لكن السحار حرص على أن تكون هذه هي صورة المرأة — كما قلنا — في معظم أعماله.

وعلى الرغم من ذلك النمط السلبي الذي عبَّر به السحار عن المرأة المصرية، فإنه لم يستطع إغفال الدور الإيجابي الذي شاركت به في تجسيد الثورة، منذ وقفت عائشة الكودية تشير على توفيق بأن يلبي مطالب الشعب، إلى نزول درويش باشا مندوب السلطان إلى الإسكندرية، موفدًا من قِبَل السلطان للنظر في أمر اللائحة، فكان الأولاد يصيحون: اللايحة … اللايحة … فترد النساء: مرفوضة … مرفوضة. وكانت زوجة رياض — المصرية — وراء إبلاغ الضباط الثلاثة: عرابي وعبد العال حلمي وعلي فهمي، بتفصيلات مؤامرة عابدين، فاستعدوا لها.٩٦ ثم نقلت إليهم الزوجة أيضًا تدبير الخديو لدسِّ السم لهم.٩٧ أما جليلة مرسي الطرابيشي فقد «اختلطت صورة عرابي في رأسها بعنترة والهلالي وآل البيت.»٩٨ فلما قامت المعارك، وقفت المرأة العادية إلى جانب الرجل، وشاركت النساء في تقديم الذخائر والماء إلى الجنود، وساعدن في تضميد الجرحى، ونقلهم إلى المستشفيات، واستُشهدت امرأتان في اليوم الأول للمعارك. ويقول برودلي إن عرابي وجد «في الحريم وبين سيدات مصر تأييدًا للقضية الوطنية، ومبادئ عرابي منذ اللحظة الأولى. وقد ظللن ثابتات على حماستهن وتأييدهن، حتى اللحظة الأخيرة، لمَّا تلاشت الومضة الأخيرة في الأمل.»٩٩ ويؤكد برودلي أن الحماسة قد جرفت حتى أميرات الأسرة المالكة الخديوية، فيما عدا أم توفيق وزوجته.١٠٠ وفي اليوم التالي لضرب الإسكندرية، بدأت نساء الأسرة المالكة والأسر الكبيرة حملة لجمع التبرعات والأغطية، وألَّفن فرقة لإعداد الضمادات ومداواة الجرحى، عملت — بالفعل — في معركة كفر الدوار.١٠١ وهو تصرف يؤكد شعبية الثورة، وأنها لم تكن مجرد ثورة عسكرية، لم تكن مجرد انقلاب عسكري، بل لقد خرج في مظاهرات النديم، التي نظمها لاستقبال درويش باشا، أعداد من المومسات «تسللن إليها من أوكارهن التي تتوارى في الأزقة المختفية خلف الشوارع كآثار الجراح القديمة، ولم يغضب أحد من الناس.»١٠٢ وعندما استولى السير كالفن، المراقِب المالي الإنجليزي، على أموال الخزانة المصرية، وأودعها خزائن الأسطول الإنجليزي في ميناء الإسكندرية، أقبل المصريون — من كل الطوائف والطبقات — على التبرع بما في حوزتهم من أموالٍ وغلال وعتاد وجياد ودواب … إلخ. وكان في مقدمة المتبرعين سيدات الأسرة المالكة مثل الأميرة خوشيار أم الخديو إسماعيل التي تبرعت بخيول عرباتها، واقتدى بها بقية أفراد الأسرة. وبعد انحياز توفيق المعلَن للإنجليز، عقدت نساء البيت المالك اجتماعًا لدراسة الموقف، وأجمعن على الاعتراف بعرابي وحده زعيمًا شعبيًّا لكل المصريين، وكتب له الكثيرات من فتيات العائلة المالكة رسائل وبرقيات إعجاب وتقدير. بل لقد دفعت الحماسة فتاة من العائلة إلى كتاب رسالة لعرابي صدَّرتها بالقول: «إلى منقذ مصر»، وعرضت عليه فيها الزواج لتقف إلى جواره وتؤيده، وردَّ عليها عرابي شاكرًا، وطلب منها أن تؤدي واجبها الوطني في موقعها.١٠٣ وأهدت أنجة هانم — أرملة الخديو الراحل سعيد باشا — إلى عرابي خيمة زوجها. وكتبت الأميرة رسالة إلى برودلي تشكره فيها على دفاعه عن العرابيين، وقالت الأميرة في رسالتها إن عرابي «كان أول وزير مصري حمل الأوروبيين على طاعته. وقد رفع المصريون رءوسهم في عهده، ولم يجرؤ اليونانيون ولا الإيطاليون على الاعتداء على القانون. فلما هزمته الخيانة ونُفي، أصبح المصريون وحدهم هم الذين يقعون تحت سلطان الشرطة، ويفعل الأوروبيون ما يشاءون.»١٠٤ وحتى بعد فشل الثورة، فإن أميرات الأسرة المالكة حرصن على موقفهن المؤيد لعرابي وثورته. لم يمنعهن من ذلك خوف انتقام الخديو، وبقين إلى جانب عرابي حتى لحظة مغادرته مصر إلى المنفى، أثناء رحلة القطار من قصر النيل إلى السويس، تلقَّى عرابي العديد من الهدايا، بعث بها إليه سيدات الأسرة العلوية: معطف، مصحف، سجادة صلاة وغيرها. ويقول محمود فهمي باشا: «ورأيت في ذلك الوقت بعيني ما حدث من غيرة الأهالي لجهة رأس التين وأم كببة وطوابي باب العرب، وهمَّتهم في مساعدة عساكر الطوبجية من جلبهم المهمات والذخائر وطراطيش البارود والقذائف، هم ونساؤهم وأولادهم وبناتهم والبعض من الأهالي صار يعمِّر المدافع ويضربها على الأسطول.»١٠٥ وبعد أن قُضي على الثورة، ولاذ عبد الله النديم — في أعوام اختفائه — ببيت أحد العُمد، مات رجل البيت، فجاءت الزوجة بأكبر أبنائها، وكان في الخامسة عشرة من عمره، وقالت له: هذا عبد الله النديم الذي جعلت الحكومة لمن هداها إليه ألفي جنيه. أفتريد أن تؤديه وتكرم مثواه كما فعل أبوك، أم ترغب في حطام الدنيا، لأكون بريئة منك إلى يوم الدين. فقال: حاشا لله أن أخفر ذمامي. فسترين أني أحافظ عليه محافظتي على عرضي، ولن يصل إليه أحد بسوء ما دمت حيًّا، فقالت الأم: بارك الله فيك.١٠٦ وكان تحريض زوجة العمدة الذي مات، والنديم لائذًا ببيته، بأن تستمر الحياة في البيت كما كانت عليه قبل غياب العائل تجسيدًا رائعًا لما بذلته المرأة، حتى من بعد القضاء على الثورة.

وعمومًا، فإن للمرأة موضعها الذي لا يمكن تجاهله في صورة المجتمع. وذلك ما سنناقشه — بالتفصيل — عندما نصل إلى أمينة «بين القصرين».

هوامش

(١) يحيى حقي، حصير الجامع، أم العواجز، هيئة الكتاب.
(٢) محمد فهمي عبد اللطيف، سقط المتاع، ٦٨-٦٩.
(٣) المقتطف، أبريل ١٩٤٣م.
(٤) الكاتب المصري، يناير ١٩٤٧م.
(٥) لمزيد من الاطلاع، يُرجع إلى: يوسف الشربيني: هز القحوف في شرح قصيد أبي شادوف، إعداد محمد قنديل البقلي، دار النهضة المصرية، ١٩٦٣م.
(٦) عبد المحسن طه بدر، الروائي والأرض، دار المعارف، ١٠٧.
(٧) عبد الحميد جودة السحار، في قافلة الزمان، ٣٧.
(٨) المصدر السابق، ٣.
(٩) عبد الرحمن فهمي، الذئب والفريسة، أبوللو، ٢٠١.
(١٠) أنجلو ساماركو، وثائق البحرية المصرية في عهد محمد علي، ت. ولاء عفيفي النحاس، دار الكتب والوثائق المصرية، ٦٧.
(١١) رسائل من مصر، ١٠١.
(١٢) المرجع السابق، ٢٦٥.
(١٣) حسين فوزي النجار، أحمد لطفي السيد، أعلام العرب، ١٨.
(١٤) تاريخ مصر الاقتصادي في القرن التاسع عشر، ٨٦.
(١٥) المصور، ٢٢ / ١ / ١٩٦٦م.
(١٦) ثمة مسرحيات تبدأ ببعض الرقصات، ثم يدخل إلى الحلقة شخصيات المسرحية: الناظر وشيخ البلد وخادمه والكاتب القبطي والفلاح المدين للحكومة بالضريبة وزوجة الفلاح. ويقول الناظر: ما هو المستحق على عوض بن رجب؟ فيقول الموسيقيون والراقصون الذين يقومون بدور فلاحين سذج: اسأل القبطي أن يبحث في السجل. ويحمل الكاتب القبطي «دواية» كبيرة في منطقته، ويلبس عمامة سوداء. ويسأله شيخ البلد: ما هو المبلغ المكتوب إلى جانب اسم عوض بن رجب؟ فيجيب الكاتب: ألف قرش. فيقول شيخ البلد: وكم دفع منها؟ فيقول الكاتب: خمسة قروش. ويقول شيخ البلد مخاطبًا الفلاح: يا رجل … لماذا لا تدفع النقود؟ ويرد الفلاح قائلًا: ليس عندي نقود. فيصيح شيخ البلد قائلًا: ليس عندك نقود؟ اطرحوه أرضًا. ثم يأتون بكرباج، ويأخذون في ضربه، وهو يصيح بالناظر مستنجدًا: وحياة شرف ديل حصانك يا بيه … وحياة شرف عصبة مراتك يا بيه. وبعد أن يقول هذه التوسلات المضحكة عشرين مرة، يتوقف الضرب، ويؤخذ الفلاح فيُلقى به في السجن. ثم تأتي إليه زوجته، وتقول: كيف حالك؟ فيجيب قائلًا: اعملي معروف فيَّ يا امرأتي … خذي بعضًا من الكشك والبيض والشعرية، واذهبي بها إلى الكاتب القبطي وتوسلي إليه أن يُطلق سراحي. وتضع المرأة الكشك والبيض والشعرية، كلًّا في سلة، وتذهب بها إلى بيت القبطي، وتسأل الناس هناك قائلة: أين المعلم حنا الكاتب؟ فيقولون: ها هو جالس هناك. فتقول له المرأة: يا معلم حنَّا اعمل معروف … اقبل مني هذه وأطلق سراح زوجي. فيسألها: من هو زوجك؟ فتقول: الفلاح الذي يدين بألف قرش. فيقول لها: أحضري عشرين أو ثلاثين قرشًا، وأعطها رشوة لشيخ البلد. وتذهب المرأة، ثم تعود والنقود في يدها، وتعطيها لشيخ البلد. فيقول شيخ البلد: ما هذه؟ فتقول المرأة: هذه رشوة، فخذها وأطلق سراح زوجي. فيقول لها شيخ البلد: حسنًا، اذهبي إلى الناظر. فتدخل المرأة، وتغيب لحظات، تخطط فيها عينيها بالكحل، وتخضب يديها ورجليها بالحناء، ثم تعود إلى الناظر وتقول: مساء الخير يا سيدي. فيقول الناظر: ماذا تريدين؟ فتقول المرأة: أنا زوجة عوض بن رجب الذي يدين بمبلغ ألف قرش. فيسألها الناظر: ولكن ماذا تريدين؟ فتقول المرأة: إن زوجي سجين، وأتوسل إليك أن تطلق سراحه، وهي إذ تحدِّثه تبتسم له، وتظهر له بالإيماءة والإشارة أنها ستدفع الثمن. وبعد ذلك يُطلَق سراح الزوج.
(١٧) أحاديث توفيق الحكيم، ١١.
(١٨) العودة إلى المنفى، ١: ٤٨.
(١٩) محمد عودة، ميلاد ثورة، ١٠٤.
(٢٠) بنوك وباشوات، ٢٦٥.
(٢١) فكر، العدد الأول.
(٢٢) إسماعيل كما تصوره الوثائق الرسمية، جورج جندي وجاك تاجر، مطبعة دار الكتب الرسمية، ١٩٤٧م، ١٠١.
(٢٣) محمد جلال، القضبان، دار الهنا للطباعة، ٥٢.
(٢٤) مجلة «أكتوبر»، ٢١ / ٣ / ١٩٨٢م.
(٢٥) العودة إلى المنفى، ١: ٩٢.
(٢٦) محمد عودة، قصة الحزب الأول، الكاتب، يونيو ١٩٦٤م.
(٢٧) تاريخ الفكر الاشتراكي في مصر، ١٩٣.
(٢٨) أحمد عبد الرحيم مصطفى، مصر والمسألة المصرية، دار المعارف، ١٩٦٢م، ١٦٧.
(٢٩) محمود الخفيف، أحمد عرابي الزعيم المُفترى عليه، ١: ١٨٩. وقد أبدى كرومر تفاخره — فيما بعد — بأن المعتمد البريطاني هو الذي أبطل الكرباج.
(٣٠) طه حسين، دعاء الكروان، دار المعارف، ١: ٧٦-٧٧.
(٣١) محمد عبد الغني حسن، الفلاح في الأدب العربي، دار القلم، ١٩٦٥م.
(٣٢) عبد المنعم سليم، السعادة الزوجية، القتيل، مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٦٨م.
(٣٣) المصدر السابق.
(٣٤) المصدر السابق.
(٣٥) نجيب محفوظ، خان الخليلي، مكتبة مصر، ٨٩.
(٣٦) عصام الدين حفني ناصف، عاصفة فوق مصر، ١١٠-١١١.
(٣٧) المصدر السابق ٨٩.
(٣٨) إسماعيل كما تصوره الوثائق الرسمية، ١٠٥.
(٣٩) فكر، العدد الأول.
(٤٠) القرية المصرية في أعقاب معركة التل الكبير.
(٤١) عبد الرحمن الشرقاوي، تلك الحرب المقدسة، أرض المعركة، مطبعة الاعتماد.
(٤٢) المصدر السابق.
(٤٣) المصدر السابق.
(٤٤) المصدر السابق.
(٤٥) رجاء النقاش، أدباء معاصرون، كتاب الهلال، ٦٢.
(٤٦) فرانز فانون، معذبو الأرض، ١٣٨-١٣٩.
(٤٧) دنشواي، ١٣.
(٤٨) المرجع السابق، ١٢.
(٤٩) ملاحظات ثلاث يجدر بنا أن نناقشها: (أ) يقول البارودي في «قلعة الأبطال»: «كنا نرى — منذ بداية حركتنا — إلى قلب مصر جمهورية مثل سويسرا، وعندئذٍ كانت تنضم إلينا سوريا، ويليها الحجاز، ولكنا وجدنا العلماء لم يستعدوا لهذه الدعوة، لأنهم كانوا متأخرين عن زمنهم. ومع ذلك، سنجتهد في جعل مصر جمهورية قبل أن نموت.» والواقع أن الدعوة إلى الجمهورية لم تأخذ صفة العزم الأكيد كما يبدو في «قلعة الأبطال»؛ فقد أشار الإمام محمد عبده إلى أن عرابي اقترح بالفعل خلع إسماعيل، ووافق الأفغاني على قتله «ولكن لم يكن من المستطاع — في ذلك الوقت — تأسيس جمهورية، إذا نظرنا إلى حالة الجهل الذي كان سائدًا في العقول.» بل إن عرابي يقول في المذكرات التي نشرها بلنت في كتابه، بالحرف الواحد: «… ثم خُلع إسماعيل، فزال عنا عبء ثقيل، ولكن لو كنا نحن قد فعلنا ذلك بأنفسنا، لكنا تخلَّصنا من عائلة محمد علي بأجمعها، ولم يكن فيها أحد جدير بالحكم سوى سعيد، وكنا — عندئذٍ — أعلنَّا جمهورية.» لم تكن الدعوة إلى الجمهورية إذن، أكثر من أمنية راودت زعماء الثورة في نهاية العهد الإسماعيلي، دون جهدٍ حقيقي في تحويلها إلى واقع. (ب) أجمع المؤرخون على أن العناصر الوطنية كانت تعد رياض باشا ألدَّ أعدائها، وعلى الرغم من هذا، فإن السحار جعل منه مصلحًا اجتماعيًّا، وربما كان كذلك بالفعل، لكن الفنان أشار إلى أن هذه الإصلاحات يقف وراءها قناصل الدول الأجنبية. فالخديو توفيق يقول: «إذا اشتد الجدل بيننا، وأصررت على فعل شيء، هدَّد بتدخل القناصل، فهم يؤيدونه.» ويُرجِع الرافعي بعض أسباب ظهور الثورة إلى سياسة رياض باشا، فهو قد استهدف لحركة مقاومة قوية، لِما بدا منه من المعارضة في إنشاء مجلس النواب، وانحيازه للنفوذ الأجنبي، وما عُرف عنه من استخفافٍ بميول الشعب، وعدم اكتراثه لآراء الخاصة من الكبراء والأعيان، وإصراره على قمع كل معارضة بالشدة، واضطهاده المعارضين، ومن أمثلة ذلك اضطهاده الصحف المعارضة لوزارته. وأغلب الظن أن تعاطف السحار مع رياض، كان نتيجة مباشرة لموقف الإمام محمد عبده من الثورة العرابية. فقد كتب الإمام — مثلًا — قصيدة يهاجم فيها حركة الجيش في التاسع من سبتمبر، والتي أسفرت عن طرد رياض باشا، يقول فيها:
رياض راعٍ وعقلي من
حواريه
ويقول:
قامت عصابات جند في مدينتنا
لعزل خير رئيس كنتُ راجيه
ذاك الذي أنعش الآمال غيَّرته
وخلَّص القطر فارتاحت أهاليه
قاموا عليه لأمرٍ كان سيدهم
يخفيه في نفسه والله مبديه
هذه القصيدة، وغيرها من الرسائل والمقالات التي هاجم فيها الإمام الثورة، وخلع على رياض صفة المصلحين الكبار، لم تكن — في رأيي — إلا تأثرًا بما أسداه رياض إليه، مثل إسناد رئاسة تحرير «الوقائع المصرية» إلى الإمام في ذروة غضب الخديو عليه، لكن «رياض» كان تلميذًا لإسماعيل، وهو قد بدأ منذ اليوم الأول لتوليه السلطة في تطبيق مبادئ أستاذه: «سلطة مطلقة، وحكم استبدادي، حرية لمن يتقرَّب إليه زلفى، وضرب بيدٍ من حديد ونفي وسجن لمن ينقده أو يعارضه.» غير أن هذه السياسة لم تكن تطبَّق إلا على المواطنين المصريين، فإن واجه أولياء نعمته من أصحاب النفوذ الأجنبي، فهو حمل وديع وتابع أمين، لا يرى بأسًا من إغضاب الخديوي وإغضاب الأمة في سبيل إرضائهم (عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية، ٩٣). (ﺟ) اعتمد عبد الحميد جودة السحار في أحداث روايته — بصورة أساسية — على كتاب «تاريخ الأستاذ الإمام»، لذلك فإن قصور الاعتماد على المرجع الواحد يبدو واضحًا في سرده لبعض أحداث الثورة، فهو لم يعنَ — مثلًا — بمنشور الثورة العرابية الذي يقول عن وزارة رياض بالحرف الواحد: «إن الوزارة الرياضية قد ركبت متن الشطط، وعدلت عن الصراط المستقيم، ولم يكن مقصدها إلا مؤديًا إلا إلى اضمحلال البلاد وتلاشيها، بما هو جارٍ من بيع أراضٍ كثيرة للأجانب، ووجود كثير منهم في إدارات الحكومة ومصالحها بالرواتب الفادحة، والسعي في رفع الأحجار الطبيعية الموجودة في بوغاز الإسكندرية، وإن سكوتنا وإضرابنا عن ذلك، يُعَد من العجز والجبن والتفريط في وطننا ومقر نشأتنا، فاعلموا — يا معاشر الوطنيين — أن أولادكم المنتظمين في سلك الجهادية، قد اتكلوا على الباري سبحانه وتعالى، وعزموا على منع كل ما من شأنه الإجحاف بحقوقكم، وذلك لا يتم إلا بسقوط وزارة رياض باشا، وتشكيل مجلس النواب، ليحصل الوطن على الحرية المبتغاة.» رياض باشا في «تاريخ الأستاذ الإمام» هو الذي ألغى السخرة الشخصية، وأمر بالعدالة في توزيع مياه النيل، وألغى نحو ٣٠ ضريبة من الضرائب الصغيرة، وأبطل استعمال الكرباج في تحصيل الأموال الأميرية، وأصدر أوامره بمنع الحبس في تحصيل الحقوق، سواء كانت أميرية أو شخصية. وفي المقابل، فإن رياض باشا — في كتب كل مؤرخي الثورة العرابية، ومن بينهم قادة الثورة أنفسهم — ألد أعداء العناصر الوطنية. كان النفي إلى السودان أخف أنواع عقوباته، وكان وراء نفي الأفغاني، وصادر كل الصحف التي وجَّهت إليه نقدًا، حتى اضطر النديم إلى استخدام الرمز في أعماله الشعرية خوفًا من بطشه. وقد حاول نفي النديم، لكن علي فهمي قائد حرس الخديو، تصدى له قائلًا: إن النديم منا نحن معشر العسكريين وإن لم يحمل سلاح العسكرية، ولئن أخذتموه بغتة من البلاد، حافظنا عليه بالمُهَج والأرواح.
(٥٠) إنجليزي يتحدث عن مصر، ٢٤.
(٥١) الحركة العمالية في مصر، ٥١.
(٥٢) المرجع السابق، ٢١.
(٥٣) المرجع السابق، ٢١.
(٥٤) نجيب محفوظ، السراب، مكتبة مصر، ٢٠٢.
(٥٥) محمد حسين هيكل، لله في خلقه شئون، قصص مصرية، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى.
(٥٦) حسين مؤنس، البئر، إدارة عموم الزير، دار المعارف.
(٥٧) عبد العزيز رفاعي، الطابع القومي للشخصية المصرية، ١٧٨.
(٥٨) الحركة العمالية في مصر، ٤٥.
(٥٩) عبد الرحمن الشرقاوي، مصر للمصريين، أرض المعركة، مطبعة الاعتماد.
(٦٠) الأصول التاريخية، ٦٩.
(٦١) المرجع السابق، ٦٨.
(٦٢) الهلال، مارس ١٩٧١م.
(٦٣) الحركة العمالية في مصر، ٤٠.
(٦٤) العودة إلى المنفى، ١: ٥٩.
(٦٥) المصدر السابق، ١: ٧١.
(٦٦) الهلال، فبراير ١٩٨٧م.
(٦٧) تاريخ مصر الاقتصادي في القرن التاسع عشر، ٨٦.
(٦٨) وثائق البحرية المصرية في عهد محمد علي، ٦٧.
(٦٩) بنوك وباشوات، ٨٠.
(٧٠) قناة السويس حقائق ووثائق، حسين مؤنس وآخرون، اخترنا لك، ٢٩.
(٧١) رسائل من مصر، ١٣٥-١٣٦.
(٧٢) العودة إلى المنفى، ١: ٥٧.
(٧٣) صلاح عيسى، الثورة العرابية، ١٧٣.
(٧٤) طه حسين، شجرة البؤس، ٨.
(٧٥) عبد الحميد جودة السحار، الشارع الجديد، ٣٣.
(٧٦) علي الحديدي، عبد الله النديم، أعلام العرب، مكتبة مصر.
(٧٧) محمود طاهر حقي، غادة حمانا، كتب للجميع.
(٧٨) المصدر السابق.
(٧٩) القرية المصرية في أعقاب معركة التل الكبير، ١٩.
(٨٠) فجر الحياة النيابية في مصر الحديثة، ١١.
(٨١) أحمد لطفي السيد، ٢٨.
(٨٢) الثورة العرابية، ٢٥٣.
(٨٣) أحمد لطفي السيد، ٢٧-٢٨.
(٨٤) أحمد عرابي، ٨٦-٨٧.
(٨٥) نجيب محفوظ، حديث الصباح والمساء، مكتبة مصر، ١٦٢.
(٨٦) عبد الرحمن الشرقاوي، الفأس، أرض المعركة، مطبعة الاعتماد بالقاهرة.
(٨٧) علي محمد بركات، القرية المصرية في أعقاب معركة التل الكبير ١٨٨٢–١٩٠٦، دراسة مصوَّرة، ١٩٨٢م.
(٨٨) أحمد عرابي، ٢٦٢.
(٨٩) عبد الله النديم ومذكراته السياسية، ٦١.
(٩٠) قلعة الأبطال، ١٧٢.
(٩١) محمود عبد المنعم مراد، الثورة المُفترى عليها، طريق الحرية، كتب للجميع.
(٩٢) زكي فهمي، صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال العصر، ﺟ أول.
(٩٣) سيد عويس، التاريخ الذي أحمله على ظهري، كتاب الهلال، ٢: ٧٢.
(٩٤) سعد زغلول، ١١٧-١١٨.
(٩٥) إبراهيم عامر، الأرض والفلاح، ١٤١.
(٩٦) مصر والمسألة المصرية، ١٣٦.
(٩٧) المرجع السابق، ١٤٠.
(٩٨) حديث الصباح والمساء، ٤٢.
(٩٩) Broadley A. M: How We Defended Arabi, Chapman And Hall, Limited , London , 1884 , P. 374.
(١٠٠) Ibid P. 377.
(١٠١) محمد عودة، سبعة باشاوات، ٣١.
(١٠٢) العودة إلى المنفى، ٢: ٥٥.
(١٠٣) سبعة باشاوات.
(١٠٤) الهلال، أغسطس ١٩٨١م.
(١٠٥) أحمد عرابي الزعيم المُفترى عليه، ٢: ١٩.
(١٠٦) سلافة النديم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥