العد التنازلي للثورة

على الرغم من تعدد الأحداث الخطيرة، والمأساوية، التي شهدها المجتمع المصري قبل ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، فلعل أهم تلك الأحداث هي:

  • قضية الأسلحة الفاسدة.

  • زواج فتحية شقيقة الملك من رياض غالي.

  • تعيين حافظ عفيفي رئيسًا للديوان الملكي.

  • حريق القاهرة، وإعلان الأحكام العرفية، وتوالي التشكيلات الوزارية بعد إقالة حكومة الوفد.

يضيف أنور السادات سببًا خامسًا، هو تصرفات قيادة الجيش وكبار الضباط الذين وضعوا أنفسهم في أحذية فاروق!١
كانت الفترة من ٢٦ يناير ١٩٥٢م إلى ٢٣ يوليو من العام نفسه، هي فترة المخاض، قبل أن يأتي المولود. وكما يقول مرتضى المراغي فإن توالي تأليف الوزارات — منذ حريق القاهرة — كان يعكس الوضع غير المستقر القائم آنذاك.٢ كانت نُذُر الانفجار لائحة، حتى إن الشركات السياحية نصحت المتعاملين معها بأن يتجنَّبوا زيارة مصر، خوفًا من الأحداث المحتمَلة.٣

•••

يصف الفنان (القنبلة) طبيعة الحياة في القاهرة عام ١٩٤٩م بأن رائحة الرعب كانت تملأ سماء المدينة «وكل إنسان — على التقريب — يخرج من بيته، لا يعرف أيعود أم لا يعود»، فالرصاص يُطلَق في عز النهار، والمحال التجارية والشركات ودور السينما تُنسَف بالقنابل، ومحكمة الاستئناف يُكتشَف فيها قنبلة … إلخ.٤

وفي ٤ يناير ١٩٥٢م قام عدد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين بقتل مواطنين أقباط في مدينة السويس، وسحل جثثهم إلى الكنيسة القبطية بالمدينة، وحرق الكنيسة جميعًا. وقد اعتذر رئيس الوزراء مصطفى النحاس عن الحادثة البشعة لبطريرك الأقباط الأرثوذكس، وكتب نظير جيد (الأنبا شنودة، بطريرك الأقباط فيما بعد) في مجلة «مدارس الأحد» يعلِّق على الحادثة، وأنها ليست مسألة شخصية بين الوزارة وبابا البطريرك، وإنما هي هدر لمشاعر ملايين الأقباط، ولا تُحل هذه المشكلة بعناق، أو اعتذار، أو عبارات مجاملة، أو وعود، وإنما تحتاج إلى عمل إيجابي سريع، يشعر به مسيحيو مصر أنهم في وطنهم حقًّا، ويشعرون معه أن هناك حكومة، وأن هناك مشاركة وجدانية لهم في شعورهم.

يتحدث الفنان (قصة حب) عن الأيام التي أعقبت حريق القاهرة، بأن حظر التجول فُرِض، وكثَّف البوليس السياسي نشاطه، وشملت الحملات البلاد جميعًا، واستقبل معسكر الهاكستب مئات المواطنين.٥ ويصف حمزة دور وزارة علي ماهر التي أعقبت حكومة الوفد (٢٧ / ١ / ١٩٥٢م–١ / ٢ / ١٩٥٢م) بأنها «خلَّصت على المعركة، وأعلنت الأحكام العرفية.»٦ ويقول عبد الفتاح حسن في ذكرياته السياسية إنه تلقَّى تقريرًا خاصًّا من غير رجال البوليس السياسي، يؤكد فيه صاحبه أن هناك تدبيرًا يُراد به التخلص من وزارة الوفد، وتكليف علي ماهر بتشكيل الوزارة خلفًا لمصطفى النحاس، الأمر الذي يعني أن علي ماهر كان ضالعًا في المؤامرة، أو أنه — في الأقل — كان على علم بها! وكان في مقدمة ما حرص عليه علي ماهر طلب قوائم بأسماء كل الفدائيين الذين عملوا في منطقة القناة.٧

مع ذلك، فإن علي ماهر هادن الوفد، وأعلن أن سياسته ستكون استمرارًا لسياسة «سلفه العظيم» مصطفى النحاس، فكسب تأييد الوفد والبرلمان، وخفض أسعار بعض المواد التموينية، ووعد بأنه سيبدأ المفاوضات مع الإنجليز لتحقيق الجلاء، وخلف هذا الستار سُحب الفدائيون من القناة، واعتُقل الكثير من الأحرار، واستؤنفت أعمال الشحن والتفريغ للقوات البريطانية.

الراوي حسين باشا شاكر (شيء في صدري) يصف هدوء الشارع بعد إقالة وزارة الوفد، واستبدال وزارة علي ماهر بها، بأنه هدوء كاذب. لقد مُنِع التجوُّل، وراح رجال الجيش يهتفون في وجه كل عابر: قف … من أنت؟٨ لكن الأحزاب كلها — كما يقول الراوي — (شيء في صدري) لم تعُد تملك شيئًا، بعد أن فقدت سيطرتها على الحكم، لم يعُد زعيم ولا قطب من أقطاب السياسة يفيد شيئًا، فقدوا نفوذهم، وأصبحوا أضعف من أن يستند إليهم أحد، وأضعف من أن يواجهوا المارد الجديد الذي انتصب واقفًا في الشارع.٩
ورغم ظروف الأحكام العرفية والطوارئ والقبض على الفدائيين، فقد أقدم فلاح في الإسماعيلية (١٩٥٢) على عملية فدائية، دمَّر فيها محطة الكهرباء بالمدينة، وقتل ثلاثة ضباط وثمانية جنود من الإنجليز.١٠ ويشير محمد عودة إلى أن رسولًا من الضباط الأحرار ذهب إلى الحكومة المقالة (الوفد) يعرض أن يقوم الحزب والجيش بإعلان الثورة، وخلع الملك، وباستمرار الكفاح المسلح، لكنَّ الوفديين حرصوا على الشرعية القائمة،١١ وتوالت الأحداث وصولًا إلى يوم الثالث والعشرين من يوليو ١٩٥٢م.

يقول الرجل (المرايا): أصبح الوفد كزعيمه، فهو شيخ طيب هرم، يزحف إليه العجز والتدهور.

– لا يمكن أن تدوم الحال على هذا المنوال … فماذا عن الغد؟

– ما زال الوفد أفضل الجميع، وسيضطر الملك إلى استدعائه عاجلًا، اتقاءً لانفجار ثورة شاملة.

– الثورة أفضل من الوفد.

– وفي الانتظار الإخوان والشيوعيون.

– لا أغلبية لهؤلاء أو أولئك.

– الوطن غير مؤهل للشيوعية، ولا عقيدة هناك جديرة باستيعاب الشباب المتفتت بين الثورة والانحلال.١٢
ونشر النبيل عباس حليم (١٩٥٢) في الصحف بيانًا بعنوان «الميثاق الوطني»، ضمَّنه عدة بنود: تحقيق الأهداف الوطنية للبلاد بتحقيق الوحدة والجلاء، وإلغاء الأحكام العرفية فورًا، وإجراء انتخابات حرة بواسطة وزارة محايدة للشبهات.١٣
حين كوَّن الهلالي وزارته التي أعقبت وزارة علي ماهر، أعلن اعتزامه إلغاء الاستثناءات التي منحتها حكومة الوفد لبعض كبار الموظفين، وأبقى الاستثناء الذي حصل عليه السباحون المصريون الذين عبروا المانش، واعتبر ذلك محاربة للوفد «لا خفاء فيها.»١٤ أوقف الهلالي الحياة النيابية، وعطَّل الدستور، وصادر الحريات، وفتح المعتقلات، ورفع شعار التطهير، وإن كان الهدف — على حد تعبير حلمي سلام — «تطهير البلاد من أعداء النظام.»١٥
مع ذلك، فقد وجد الهلالي أن أحمد عبود باشا مُدان للحكومة بضرائب قيمتها خمسة ملايين جنيه، فطلب من وزير الخزانة إرسال إنذار إليه على يد محضر بالدفع، أو الخضوع لإجراءات الحجز على ممتلكاته، ودفع عبود إلى الملك مائتي ألف جنيه، أقال بها وزارة الهلالي بعد أربعة أشهر من تأليفها، وفاز عبود بالملايين الخمسة.١٦

يسأل الباشا (الحصاد) ابنه حلمي: هل بلغك إشاعة المؤامرة التي دُبِّرت في باريس؟

قال الابن: ما أسرع انتشار الإشاعات، بلغني أن عبود باشا وكريم ثابت باشا وأنطون بولي اجتمعوا في باريس، وقد دفع عبود باشا لعملاء الملك مليونًا من الجنيهات الإسترلينية للتخلص من وزارة نجيب باشا … إلخ.١٧

قفزت بنا «السمان والخريف» — منذ حريق القاهرة — إلى أكثر من ذروة، حتى وقفت عند نهاية ليست محددة تمامًا، استطاع عيسى الدباغ — بوصوليته وانتمائه الحزبي — أن يحقق مركزًا اجتماعيًّا مرموقًا، لكن لجان التطهير التي شكَّلتها الثورة بعد قيامها، أبعدته عن منصبه، وعن الوظيفة جميعًا، ومرَّ عيسى بأزمة حقد ضد النظام الجديد، انعكست عليه، وعلى علاقاته بالناس من حوله، حتى وجد في الانتماء إلى الثورة هربًا من سفح الضياع الذي لجأ إليه، يمتص فيه أحزانه وحقده.

في ١٣ يوليو ١٩٥٢م — أي قبل قيام الثورة بعشرة أيام — أكدت السفارة البريطانية في تقرير لها عن الأوضاع في مصر، أنه «لن يحدث شيء ذو أهمية خلال الأشهر الثلاثة القادمة.»١٨ وفي ليلة الثورة، كتب كريسويل، الموظف بالمخابرات البريطانية في تقريره السري إلى وزارة الخارجية البريطانية: «وعلى العموم، فإنني أرى أن الأحوال الآن أكثر مدعاة للاطمئنان.»١٩
كان ذلك هو تقدير موظف المخابرات البريطاني للأمور، وكان للضباط الأحرار تقدير آخر … في الليلة نفسها، وربما في اللحظات نفسها — حوالي منتصف الليل — كان كريسويل قد بعث تقريره، وكان يوسف صديق يقود قواته للاستيلاء على مقر قيادة القوات المسلحة بسراي القبة. وكما يروي فريد زعلوك وزير التجارة والصناعة في وزارة الهلالي الثانية، فقد اتصل به الهلالي مساء ٢٢ يوليو في منزله، وأبلغه بأن هناك «ثورة في البلد»، وأن وزير الداخلية مرتضى المراغي أكد وجود تمرد داخل القوات المسلحة، وطرح الهلالي فكرة إصدار الأمر للواء أحمد طلعت محافظ العاصمة لإنهاء التمرد … لكن زعلوك أبدى تخوُّفه — في حالة القبض على الثائرين — من انتشار الثورة في صفوف القوات المسلحة.٢٠

•••

لسنا ندري: كيف بنى جلال الدين الحمامصي اجتهاده أن الشعب — أو أغلبيته — لم يكن يثور كثيرًا أو قليلًا لمسائل داخلية بحتة، ولهذا «فلولا ثورة الجيش لظل الحكم الفاسد قائمًا حتى اليوم.»٢١
ثمة من لم تكن تعنيهم السياسة وقضاياها وألاعيبها (في الظلام)، وإذا ما ذكرت السياسة، قفزت إلى أذهانهم أسماء عدد من الباشوات والبكوات وأصحاب العزب، أما إذا ذكرت الحكومة، فإن صورتها لديهم هي العساكر ذوو السترات الصفراء، أما الدستور والحرية والوحدة والجلاء، فجميعها كلمات بلا دلالة واضحة، أو محددة.٢٢

في المقابل، فقد كانت ثورات الفلاحين في قرى بهوت وكفور نجم وغيرها، ضد الأسر الإقطاعية، معلمًا مهمًّا في طريق الثورة الشاملة، المرتقبة.

وكان إلغاء معاهدة ١٩٣٦م، وبدء معارك الفدائيين ضد الوجود الاحتلالي في معسكرات القناة فضلًا عن انسحاب أكثر من ٧٠ ألف عامل، كانوا يعملون في تلك المعسكرات، معلمًا آخر في طريق الثورة القادمة.

وإذا كان حريق القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢م قد أجهض كل تلك الإرهاصات المبشِّرة، فالمؤكد أن ملامح الصورة كانت ستشهد تغيُّرًا فعليًّا، وأن الثورة كانت لا بد قادمة، شعبية خالصة، روافدها في القناة وكفور نجم وبهوت، ومظاهرات الطلبة والعمال ضد السراي والأحزاب والإنجليز، أصبحت المظاهرات ظاهرة يومية، وتعالت الهتافات: يحيا، يعيش، يسقط، إلى الجحيم … إلخ.٢٣
في حديث لمجلة «روز اليوسف» (٢٦ سبتمبر ١٩٥٠م) قال السياسي حافظ رمضان: «أعتقد أن الحالة الداخلية قد بلغت حدًّا من المفاسد لا مزيد عليه، مما يجعل كل إنسان له عقل يدرك أن البلاد أصبحت في ثورة فكرية ونفسية، وأتوقع أن تتطور هذه الثورة الفكرية إلى ثورة شعبية أو عسكرية، وإنَّا مقبلون على هذا.»٢٤ وقد قُدِّم خالد محمد خالد إلى القضاء لتأليف كتاب «من هنا نبدأ» بثلاث تهم هي: إنه تعدَّى علنًا على الدين الإسلامي، وإنه حبَّذ وروَّج علنًا، مذهبًا يرمي إلى تغيير النظام بالقوة، وأنه حرَّض علنًا على بُغض طائفة الرأسماليين، بما من شأنه تكدير السلم العام،٢٥ وكان الكتاب — في تقدير زكي نجيب محمود — علامة أخيرة على الطريق المؤدية إلى ثورة يوليو ١٩٥٢م.٢٦
يقول حسن الدباغ (السمان والخريف) لابن عمه عيسى: «صدِّقني، لقد عم الفساد، لا هَمَّ لأحد من أصحاب السلطان اليوم إلا الإثراء المحرَّم، إننا نستنشق الفساد مع الهواء، فكيف نأمل أن يخرج من المستشفى أمل حقيقي لنا؟»٢٧ ويقول الدباغ: «يجب أن يذهب الإنجليز والملك والأحزاب، وأن نبدأ من جديد.»٢٨ ويكتب محمد مندور (١٩٤٦م): «يُخيَّل إلينا أن هؤلاء الباشوات في نوم عميق، وأن يقظتهم ستكون مزعجة.»٢٩ بل لقد وجدت الأميرة شويكار رفقي (١٩٥٢) في اضطراب أحوال البلاد، ما يذكِّرها بسقوط أسرة عبد المجيد، أو الثورة البلشفية الحمراء.٣٠

•••

حدَّد دين أتشيسون وزير الخارجية الأمريكي (١٩٥٢م) صورة المنطقة، إبان تلك الفترة، بأنها «كصورة من رسم كارل ماركس شخصيًّا؛ فجماهير البروليتاريا تعيش في فقرٍ مدقعٍ، ولا وجود لطبقة متوسطة، بينما توجد طبقة حاكمة صغيرة فاسدة، يتحكم بها الأجانب الذين يسعون إلى استغلال موارد لا تُقدَّر بثمن، سواء أكانت نفطًا أم قنالًا، فهل هناك فرصة أفضل من هذه لتحريك المشاعر الكامنة المعادية للأجانب، كي تحطم الأجنبي ونظامه، وتستبدل مكانه نظامًا شيوعيًّا؟»٣١

ولعل في مقدمة إيجابيات الأحزاب، ما أدَّته من دور ملحوظ — يصعب إغفاله، أو التهوين منه — في إيقاظ الوعي السياسي عند القاعدة العريضة من الجماهير، ووضعها في دائرة الانتماء للقضايا العامة والالتزام المسئول.

أما أهم سلبيات الأحزاب، فهي الاستاتيكية في الطابع والحركة، فضلًا عن أوتوقراطية القيادة، بحيث يبدو رئيس الحزب — وقياداته — في الصورة، دون أن يكون للقاعدة أي تأثير حقيقي. كان رئيس الحزب هو كل شيء، واستطاع تحالف السراي والإنجليز أن يقوم بدورٍ في التفريق بين الأحزاب، وهو ما تبدى في فرض حكم أحزاب الأقلية في أحيان كثيرة، ثم في فرض حكم حزب الأغلبية في أحيان أخرى، وكان الهدف — أولًا وأخيرًا — تحويل رؤساء الأحزاب إلى دُمى تحركها أصابع كل من السراي أو الإنجليز، أو هما معًا.

الحمامصي يبسِّط الأمور بأكثر مما ينبغي في تصوره لأسباب رفض الشعب لأحزاب الأقلية، أو السبب الوحيد — بتعبير أدق — وهو انعدام المحبة بين الطرفين،٣٢ يتناسى الكاتب فترات حكم زيور ومحمد محمود وإسماعيل صدقي والنقراشي وإبراهيم عبد الهادي، تلك السلسلة من الانقلابات الدستورية المتوالية التي تحوَّلت فيها مصر كلها إلى معتقل كبير.

كانت الثورة هي المنفذ الوحيد للخروج من مأزق التحالف الاستعماري الملكي الحزبي (كانت بعض الأحزاب متواطئة — في الأقل — مع ذلك التحالف بمجرد قبول التحرك في إطاره) ذلك لأن التحالف كان قد برَّر مشروعيته، وحماها — في الوقت نفسه — بالعديد من التشريعات والقوانين التي تجرِّم أية محاولة للرفض، فضلًا عن الثورة. كانت الثورة هي الجسر الوحيد للانتقال من مجتمعٍ إلى مجتمعٍ.

تعاقبت أربع وزارات في مدى ستة أشهر، خلفت وزارة علي ماهر وزارة الوفد التي أقالها الملك، فلم يطل عمرها أكثر من خمسة أسابيع، أعقبتها وزارة الهلالي التي لم تعمر هي الأخرى طويلًا، فقد قدمت استقالتها في ٢٨ يونيو١٩٥٢م، وتألفت وزارة برئاسة حسين سري. وتولى نجيب الهلالي آخر وزارات ما قبل ثورة يوليو. ويقول الدكتور زهير كامل (المرايا): «ما هذا الذي يحدث للوطن؟ الملك جُنَّ، وكل شيء ينهار.»٣٣
ويرى الرجل (الحصاد) أن المعركة الخفية بين الضباط الأحرار والقصر كانت هي الباعث الحقيقي لاستقالة وزارة حسين سري، وقيل إن الملك عيَّر حسين سري، وصارحه أن استقالته فرار من الميدان، وجبن لا يليق برئيس وزارة، لكن حسين سري أصر على استقالته.٣٤

•••

كان المجتمع المصري يعتمد — أساسًا — على الزراعة التي كوَّنت — آنذاك — حوالي ٤٥٪ من الدخل القومي، وكان يشتغل فيها ما لا يقل عن ٦٠٪ من رأس مال المجتمع، ويشتغل فيها أكثر من نصف العاملين به، فالمزارعون الذين يشتغلون في أراضيهم ٥٤٥٩٢٠، والمزارعون الذين يشتغلون في أرض يستأجرونها ٦٧٨٥٥٩، والمزارعون الذين يساعدون ذويهم ١١٧٤٣٥٣، والمزارعون بالأجرة ١٣٩٣٠١٧،٣٥ ولم تزد نسبة الملاك الزراعيين — قبل الثورة — على ١٣٪ من جملة العاملين في الزراعي. مع ذلك فلم يكن متوسط الفرد منهم يزيد عن ٢١٤ فدانا، وكان أقل من ٦٪ من الملاك يستحوذ على حوالي ٦٤٫٥٪ من مساحة الأرض المزروعة، بينما تبلغ ملكية ٩٤٪ حوالي ٣٥٫٥ من تلك المساحة، وكان نصيب المحاصيل الزراعية من الصادرات في ١٩٥٢م نحو ٩٠٪، وكان القطن وحده يمثِّل نحو ٨٥٪ من قيمة الصادرات التي اتجه ٧٩٪ منها إلى الدول الغربية.
وكما يقول الراوي، فقد كان القطن عملة من مختلف الرتب، قصير التيلة وطويلها، منوفي وكرنك وأشموني.٣٦
كانت الحالة الاقتصادية ترتبط دائمًا بأسعار القطن، إذا ارتفعت أسعاره عم الرخاء كل المواطنين، بصرف النظر ما إذا كانوا من المنتجين، أم من المواطنين العاديين، فإذا انخفضت الأسعار خيَّم شبح الكساد على الجميع، وكانت المضاربات في الأسعار أخطر ما تواجهه تجارة القطن، وصغار التجار والمزارعون بخاصة،٣٧ وكان آلاف الفلاحين، أصحاب الملكيات الصغيرة، يبيعون القطن بنصف الثمن، لقاء تأجيل التسليم حتى جني القطن.٣٨

بعد نشوب الحرب الكورية في يونيو ١٩٥٠م، تدخَّلت الحكومة في سوق العقود سنتين متواليتين، في تحيُّز واضح لاثنين من كبار تجار القطن: أحمد فرغلي وعلي أمين يحيى. وعندما بدأ الطلب على القطن يهبط، عملت الحكومة على إبقاء الأسعار مرتفعة على غير الحقيقة، مما أدى إلى بوار محصول القطن موسم ١٩٥١-١٩٥٢م، وأغلق الكثير من مصانع النسيج الصغيرة، وفقدَ الكثير من العمال وظائفهم.

وحين طالب أحمد حسين وزير الشئون الاجتماعية في حكومة الوفد، فرض الضرائب التصاعدية، ووضع حدٍّ أدنى للأجور، لقَّبه زميله حامد زكي بالوزير الأحمر، مع أن المنطلق الذي كان يتحرك منه أحمد حسين كان هو محاولة منع انتشار الشيوعية،٣٩ لذلك فقد اعتبر القضاء الدعوة إلى الاشتراكية أمرًا مشروعًا ومطلوبًا، ففي حكم محكمة جنايات مصر — ٢٥ فبراير ١٩٤٧م — جاء: «إذا جاءت عبارة الشيوعية — وهو مذهب اقتصادي لا شك فيه، منتشر في البلدان الأوروبية المتحضرة — في المنشور على اعتبار أنه نظام اقتصادي اجتماعي يخدم الطبقات، باعتبار الأمة مصدر السلطات، فليس الغرض من هذه العبارة تجنيد الشيوعية الروسية، وهي البلشفية، بل المقارنة بين الديمقراطية وبين مذهب الشيوعية التي تطبِّق قواعدها حكومة العمال في إنجلترا الآن.»٤٠
أدانت المحكمة دفاع الطبقة الحاكمة عن الدستور، وأن مواده يجب أن تظل مصونة لا تُمَس، فإن مواد الدستور ليست لخدمة طبقة من الطبقات، وهي «في نهاية الأمر ليست آيات منزَّلة حتى تعنوا لها الجِباه، وإنما هي مواد وضعتها أيدي البشر، فلا بد أن تستجيب لآلام البشر، وليس الدستور سجنًا تقيَّد فيه إرادة الشعب، بل هو بيت أقامه الشعب، ومن حقِّه أن يعيد تنظيمه وترتيبه بالطرق السلمية المشروعة.»٤١
كان حكم محكمة جنايات مصر انتصارًا مؤكدًا للاتجاه الاشتراكي، الذي وصفه وزير المالية بأنه بغيض، وأنه يجب ألَّا يمرَّ بالخاطر!٤٢ لكن الحكومة لم تركن إلى اليأس، وأصرت أن تمضي في معركتها ضد الشيوعية/الاشتراكية، فأوحت إلى أحد نوابها بأن يتقدم بثلاثة مشروعات بقوانين، تهدف إلى القضاء على الحركة الاشتراكية بالقضاء على صحافتها. كان المشروع الأول يبيح للحكومة إلغاء الصحف، وتعطيلها إداريًّا. أما المشروع الثاني، فهو يعيد عقوبة إلغاء الصحف نهائيًّا، وأما المشروع الثالث فيتصل بالإجراءات الصحفية، بحيث يمكن البت — بسرعة — في قضايا الصحف. ومن الواضح أن المشروعات الثلاثة كانت تهدف — كما أشارت المحكمة — لتغليب مصالح طبقة على مصالح بقية الطبقات.
ظلت أدوات الفلاح — كما كانت منذ آلاف السنين — المحراث الذي يجرُّه الثور، الفأس والشادوف والطنبور، والساقية لري الغيطان، والجاموسة التي تدور معصوبة العينين وهي توصل مياه النهر إلى القنوات.٤٣
ويرى الشاب الثري أنه لا قيمة لحياة الفلاحين، فهم يموتون كثيرًا كالذباب، ويولدون كثيرًا كالبعوض، ولا تحس الدنيا بذهابهم ومجيئهم.٤٤
ويشير الكاتب إلى ما كانت تحفل به مديرية الشرقية من تفاتيش، حتى إن الملك فؤاد استولى على ما تبقى من أرض إنشاص والفاروقية، وجعلها حدائق ومزارع يعمل فيها الفلاحون بالسخرة.٤٥ ويقول الرجل: «ما أشقى الفلاح! وما أرخص حياته، في بلد هو عمادها، بل عجلة الحياة فيها، يُفني عصارة الحياة في الأرض، حتى تستنفد قواه وقوته، ولو رأيته وهو عائد من الحقل مع مغرب الشمس، والصفرة تعلو وجهه، والغبار يملأ عينيه، ويسد أنفه، وإذا هبط منزله يشارك السائمة المأوى، فيفقد بهجة الحياة ونعيمها، ويستسلم — صاغرًا — للمرض.»٤٦ وانعكس ذلك — بالطبع — في هجرة الكثيرين الأرض ليعملوا سُعاة في المكاتب.٤٧
أهمل كبار المُلاك توقعات ثورة الفلاحين القادمة؛ عاشوا في وهم استطاعة إيقاف الزمن، والاستمرار في إيقاع حياتهم إلى الأبد.٤٨
وبعد أن كان متوسط الدخل السنوي للفرد في ١٩٣٩م عشرة جنيهات، قلَّ في ١٩٥٢م إلى ٩٫٤ نتيجة عدم تمشي الزيادة الإنتاجية مع زيادة السكان،٤٩ وكانت الصادرات لا تزيد عن ١٤٠ مليون جنيه، والواردات لا تزيد عن ١٨٠ مليونًا، بمعنى وجود عجز قدره ٤٠ مليون جنيه.٥٠ وثمة ٢١٨٥ مالكًا، يملك كل واحد منهم ما متوسطه ٥٥٠ فدانًا، ومنهم ١٨٨ مالكًا، يملك كل واحد منهم ما متوسطه ٢٦٠٠ فدان، وكان لمعظم الشركات في مصر حسابان، حساب مزيف تقدمه لمصلحة الضرائب، وحساب سري تسجِّل فيه أرباحها الحقيقية، وتحتفظ به لنفسها.٥١
ظل «ملوك وأمراء وباشوات وبكوات ينهبون البلد، والشعب لا يجد لقمة العيش.»٥٢ وبدأ المصري يتخلى عن الصفة التي كان يتسم بها طوال تاريخه — وهي ارتباطه بالقرار «قراري»، وتطلعت البطيخة لأن تحيا خارج لبشتها، ثم لم يعُد السفر — في عقود تالية — اغترابًا وعذابًا فحسب، إنه أيضًا طريق الأحلام المستحيلة.٥٣

•••

أما الصناعة، فقد كان نصيبها من الدخل القومي لا يزيد على ١٠٪، وتُقدَّر نسبة من كانوا يعملون فيها بحوالي ٨٫٥٪ من جملة العاملين. وفي١٩٥٠م بلغ دخل الصناعة المصرية ١٠٥ ملايين جنيه، بنسبة ١٢٫٢٪ من مجموع الدخل القومي الذي بلغ ٨٦٠ مليونًا من الجنيهات.٥٤

وأشار تقرير الأمم المتحدة الذي صدر عام ١٩٥٠م إلى أن نصف في المائة من السكان في مصر يحصلون وحدهم على خمسين في المائة من مجموع الدخل كله، وكان أقل من ثلاثة آلاف شخص ينتمون إلى نحو مائتي عائلة يملكون اثنين ونصف مليون فدان، أي ما يقرب من نصف مساحة الرقعة الزراعية.

كان في القاهرة بخاصة حوالي عشرة آلاف من كبار مُلاك الأسهم والسندات وأعضاء مجالس إدارات الشركات المالية والعقارية والتجارية والصناعية وغيرها، بالإضافة إلى مائة ألف مالك صغير للمصانع والورش والمحال التجارية، و٢٦٥ موظفًا حكوميًّا، ومليون عامل وحرفي أجير، وحوالي مليون ونصف المليون بدون مهن محددة.٥٥ وكان لإنشاء البنك الصناعي (١٩٤٩م) أثرٌ كبيرٌ في المساعدة على تكوين بعض الشركات الصناعية الجديدة، رغم إمكانياته المحدودة آنذاك.
وقد وقع خلال ١٩٥٠م، ٤٩ إضرابًا عُماليًّا، زادت في العام التالي، وقرأ المعتقلون السياسيون في الزنازين أخبارًا في الصحف قوَّت من عزائمهم: ٢٦ ألف عامل نسيج بمصانع المحلة يُضرِبون عن العمل، مصرع أربعة عمَّال وإصابة مائتين ونقل ١٧ إلى المستشفى في حالة خطرة، عربات الجيش المصفَّحة ترابط داخل المدينة حول المرافق والمصالح الحكومية، في الإسكندرية امتنع الصولات والكونستبلات وجنود البوليس عن العمل، مظاهرات العمال والطلبة في شبرا الخيمة تتحرك إلى معسكرات قصر النيل، تهتف لرجال البوليس، وتؤكد تضامنها مع عمال المحلة، ويتساءل العامل عطية الوسيمي — داخل الزنزانة — متحسرًا: خسارة يحدث كل هذا ونحن جلوس هنا، نقرأ الأخبار فقط!٥٦

•••

كانت ميزانية مصر في ١٩٥٠م، ٢٠٦ ملايين، وتبلغ الأجور والمرتبات مائة مليون و٦٥٤ ألفًا، وكانت نسبة عدد المشتغلين بوظائف الحكومة في ١٩٥٠م إلى عدد سكان البلاد ٢٫٢٪، وفي بريطانيا ١٫٣٪، وكانت الحكومة المصرية تنفق ميزانيتها على الموظفين ٣٥٪ بينما تنفق بريطانيا ٩٪.

حدد الفنان مأساة الموظفين بأن الضرائب قليلة جدًّا، أقل مما ينبغي، والمرتبات قليلة جدًّا، أقل مما ينبغي، والعدل يقتضي أن تُضاعَف الضرائب، وأن تُضاعَف المرتبات.٥٧
ووجد وزراء حكومة الوفد في مطالبة زميلهم أحمد حسين بوضع حدٍّ أدنى لأجور العمال، ما دفعهم لتسميته «الوزير الأحمر».٥٨
كان أسهل القرارات التي اتخذها الباشا، فصل أحد العمال، لأن «مصلحة الشركة تقتضي ذلك، وأن السياسة العامة قد اتجهت إلى التوفير في عمال المصانع.»٥٩
ويعدِّد الراوي (بصقة على دنياكم) ما ينوي إنجازه، لو قُدِّر له أن يصبح رئيسًا للوزراء: «ينفِّذ قانون تحديد الملكية، ويحرم على كل من يملك أكثر من خمسين فدانًا أن يشتري أرضًا أخرى، ويدفع الملاك على أن يعطوا لأجرائهم قدر ما يأخذون منهم، ويُوقِف الإنفاق على تجميل سراي الزعفران وأحياء الأغنياء، ليعتني — بدلًا من ذلك — بالأحياء الفقيرة، ويُوقِف كذلك حفلات التهريج الحكومي، ويمنع الوساطات والاستثناءات.»٦٠
كان ذلك هو ما دعا إليه مؤتمر حزب الفلاح الاشتراكي القاهرة — ١٦ سبتمبر ١٩٥١م —: تحديد الملكية الزراعية، بحيث لا تقل عن فدان لكل فلاح، ولا تزيد عن خمسين فدانًا،٦١ وكان قد جاء إلى مصر في ١٩٥١م مدير أقلام المخابرات الإنجليزية، وحصل على فتوى من شيخ الأزهر ووكيل الأزهر ومفتي الديار المصرية، بأن الإسلام يحرِّم تحديد الملكية.٦٢
يشير سيد قطب إلى جمعية الفلاح، التي كوَّنها أحمد حسين وزير الشئون الاجتماعية في حكومة الوفد، عقب عودته من رحلة إلى الولايات المتحدة؛ قدَّم استقالته من الوزارة، ثم ألَّف الجمعية التي جعلت في مقدمة أهدافها تحقيق العدالة الاجتماعية للفلاحين والعمال، وهلَّلت الصحافة الأمريكية للجمعية بما يبين عن طبيعة العلاقة بين الجمعية والسياسة الأمريكية في المنطقة.٦٣
مع ذلك، فإن النظرة إلى المستقبل هي أن الحياة ستتطور، فتُبنى مئات السدود والخزانات، ويُنمحى الظلام من الريف، وتضاء القرى بالكهرباء، وتُقام المصانع الصغيرة والكبيرة، وتُمَد الطرق، وتُبنى المستشفيات والمدارس، ويتعلم أبناء الفلاحين، ويحيا الناس في أمنٍ من الخوف، ومن الفقر.٦٤

•••

إذا كانت مشكلة الزحام قد فرضت نفسها في أعوام ما بعد قيام ثورة يوليو، فإننا نتعرَّف إلى إرهاصاتها في كتاباتٍ تسبق قيام الثورة. كان عدد سكان مصر (١٩٤٩م) حوالي عشرين مليون نسمة، بينما كانت جملة مساحة الأرض المنزرعة حوالي ستة ملايين فدان.٦٥ وكما يقول جمال حمدان، فإن «كل طفل يُولَد بفمٍ واحد، ولكن بذراعين اثنتين، وصحيح أن على كل جيل أن يحل مشكلته، ويترك المستقبل آملًا أن تحله الأجيال القادمة بعلمها الأكثر تطورًا، ولكن من الصحيح أيضًا أن كل فم يولد يأكل طويلًا قبل أن تعمل ذراعاه، وأن جيلنا ورث مشكلة الأجيال السابقة، ونحن — بالتأكيد — نسيء إلى الأجيال القادمة إذا تركنا لهم المشكلة مضاعفة.»

لقد أثبت التعداد السكاني عام ١٩٤٧م أن زيادة النسل، وزيادة الكثافة السكانية بالتالي، من أهم أسباب هجرة العمال من الريف إلى الحضر.

ولعل مساوئ زيادة النسل تجد انعكاسًا لها، في إجابة طفلة صغيرة، فقيرة (اليوم السادس) على سؤال الجدة أم حسن: مَن يعتني بك؟

– لا أحد! إننا أربعة عشر شخصًا في المنزل!٦٦

وكان والد شافعي (منتصر دائمًا) شديد الفقر، لأنه كان كثير العيال، وزوجته ولود.

ورغم الرأي الذي يذهب إلى أن «من الحكمة والتعقل ألَّا ينجب الناس أطفالًا إلا إذا وثقوا بأن هؤلاء الأطفال سيكون لهم على أقل تقدير، نفس فرص التعليم والتربية ومستوى المعيشة الكريمة التي لآبائهم، وإن لم يكن أكثر»٦٧ فإنهم — على حد تعبير الفنان — يثقون أن كل مخلوق يأتي إلى هذه الأرض ورزقه معه، ذلك ما كان يؤمن به الرجل (مولود سعيد) عندما طلب من زوجته أن تحمد الله على نِعَمه الجزيلة بكثرة أولادهما، لأن كريمة هانم — على غِناها — تتمنى أن تُرزَق ولدًا يؤاخي بنتها الوحيدة.٦٨ «مولود سعيد، ورزق جديد».٦٩ ويتصور عبده (غصن الزيتون) والد عطيات الذي قارب الستين، أنه قد خرج من البيت ذات صباح ولم يعُد، أو أنه قد دخل البيت ذات مساء، ولم يخرج، فانقطع بذلك المدد الشهري الذي لم يكن يزيد عن عشرين جنيهًا، فماذا يكون مصير الصغار الكثيرين الذين يتزاحمون على حفنة من الرز،٧٠ لكن الأب لم يتخلَّ عن يقينه بأن الله الذي يشق الأفواه كفيل بإطعامها.٧١
لذلك، فقد دعا البعض إلى تحديد سكان كل قرية، ودفع الأعداد الزائدة على الهجرة إلى الأراضي التي لم تُستصلَح بعدُ من الأراضي البور.٧٢

لم يكن تحديد النسل — كدعوة — قد ظهر بعد، مع ذلك، فقد دعا يوسف السباعي إلى تنظيم النسل «لا بد من قانون لتنظيم هذه الأوضاع، إن حرمة التناسل ليست من حق الأفراد، بل من حق الأمة؛ فالأبناء أبناء الوطن قبل أن يكونوا أبناء آبائهم.»

ولاحظت الأبحاث أن غالبية الأسر المصرية توافق على تنظيم النسل، وإن لم تحاوله بالفعل.٧٣
وتُعَد رواية «الوشاح الأبيض» لمحمد عبد الحليم عبد الله دعوة باكرة — نسبيًّا — لتحديد النسل، فقد كتبها الفنان في الخمسينيات، وإن تناولت فترة الأربعينيات من القرن العشرين. تصرخ الزوجة: ألححت عليك كثيرًا، ولكنك لم تستمع إلى ندائي، لكأننا نعبِّئ أطفالنا في العلب، وقد اقترحت عليك أن نضع حدًّا لهذه الفوضى كما فعل كثير من الناس … ولكن … آه.٧٤
في المقابل، فقد كان ثمة زوجة أخرى، قامت ببضع زيارات لطبيب، توقفت بعدها عن إنجاب الأطفال «لذلك ترينني أؤدي أعمالي بسهولة، ليس هناك إلا أنا وأخي.»٧٥ وتقول نادية لصديقتها درية التي تعاني كثرة الإخوة والأخوات: «إن الطبيب يا صديقتي قد وضع حدًّا لهذه المعركة الصاخبة القديمة!»٧٦ وتنظر درية إلى إخوتها الذين تكدسوا في الحجرة «جملة من الأطفال أنتجوهم بلا حساب، أنتجهم مزاج خالص لم يكن فيه شيء من الجد، فلو كانوا لعبًا، أو فراخ دجاج، لدخل طلب السوق في حساب المنتجين!»٧٧
وإذا كان والد نادية صديقة الأسرة قد حل مشكلته المادية بتحديد النسل، فإن الأب ظل يدافع عن الملاحظات بقسوة ظروف أسرته المادية مع كثرة الأبناء، بالقول: «خليها على الله.»٧٨

•••

في تقرير رسمي عن التمريض، ذكر وكيل وزارة الصحة (١٩٤٨م) إنه «بحالته الموجودة الآن يكاد أن يكون اسميًّا، وقد دلَّت التجربة طوال عشرات السنوات الماضية على أن مدارس التمريض — بنظامها الحالي — لم تستطع تأهيل الخريجات للاضطلاع بواجب الممرضات، وتحمُّل مسئوليتهن، إلا في حالات قليلة لا تُعتبَر قياسًا.»٧٩ وفي عام ١٩٥١م كان عدد الأطباء في مصر ٣٤٨٧ طبيبًا فقط، بنسبة طبيب واحد لكل ستة آلاف من السكان، وسرير واحد لكل خمسة آلاف من السكان،٨٠ وكان ٣٠ ألف مريض بالسل لا يجدون مكانًا في المصحات الصدرية،٨١ أما «التيفوئيد» فقد اعتبره الفنان من الأمراض المتفشية في مصر.٨٢
كان عدد اللائقين جسمانيًّا لأداء الخدمة العسكرية، حوالي السُّدس من مجموع الشبان الذين استُدعوا لأدائها، وبلغ عدد المصابين بالرمد الحبيبي ١١ مليونًا ونصف المليون، بنسبة ٧٠٪ من مجموع المصريين، وعدد المصابين بالبلهارسيا ١٢ مليونًا، أي ٧٥٪ من السكان، وعدد المصابين بالأنكلستوما ٨ ملايين، أي بنسبة ٥٠٪ من السكان، وعدد المصابين بالديدان المعوية الأخرى ٨ ملايين، بنسبة ٥٠٪، بالإضافة إلى المصابين بالأمراض الأخرى سواء كانت معدية أو غير معدية، وهي أمراض تكفي — في مجموعها — لإصابة شعب تعداده ٥٠ مليونًا، بحيث يصيب كل شخص منهم مرض واحد،٨٣ وكان ٩٠٪ من السيدات في القرى يُعالِجن رمد العين بروث البهائم، ويعالجن سعال الأطفال بشرب البول في الصباح الباكر، على الريق.٨٤

•••

ثمة إشارة سريعة إلى مشكلة الصبية المشردين في قصة «ناني والقطة السمراء» هؤلاء الذين تكدسوا على رصيفٍ «وضع كلٌّ منهم رأسه، حيث يضع الآخر قدمَيه، في محاولة لالتماس الدفء الذي لا يوفِّره سقف أو ثوب»٨٥ وكانت الدولة تنظر إلى المشردين — آنذاك — على أنهم — على حد تعبير أحد رؤساء الحكومات — زبالة مصر.٨٦ وقد عانى حسن من الفقر، فكان صيدًا سهلًا لتجار المخدرات، باع البضاعة لحسابهم، وجرت النقود في يديه، لكنه ما لبث أن وقع في قبضة الشرطة.٨٧
الرجل في قصة «الغد» لإحسان عبد القدوس حاصرته الظروف الاقتصادية، فوضع فصًّا تحت لسانه «وبدأت صورة الغد تتلاشى.»٨٨ ومثلما تخلَّص الرجل في قصة إحسان عبد القدوس من مشكلاته، بشراء قطعة حشيش، فإن حميدة يعجز عن مواجهة المطالب المتزاحمة حوله، فيدفع الجنيهات الخمسة والعشرين التي يملكها، مهرًا لزوجة جديدة!٨٩ وفي قصة «أنشودة الغرباء»: «والتفت إليَّ الشيخ شبراوي، فوجدته يلوك في فمه شيئًا، وأمامه قدح القهوة السادة، فابتسمت.»٩٠ وكما يقول الفنان (حياتنا لها رائحة) إنهم يحرقون همومهم مع أنفاس الحشيش،٩١ تعاطي الحشيش عملية هروبية من الواقع، حتى أحمد عاكف (خان الخليلي) عندما يريد أن يفرَّ من أزمته، فإنه يفر إلى الحشيش. وكتبت «الأهرام» (٢٢/ ٤/ ١٩٥٠م) أن كمية الحشيش التي دخلت البلاد في الأشهر الأربعة الأخيرة، تساوي أربعة ملايين جنيه، أي حوالي ١٢ مليون جنيه في السنة، ما يُضبَط من الحشيش يبلغ نحو ٢٠٪ فقط من الكميات التي تتسرب إلى داخل البلاد، وكان حسن واحدًا من هؤلاء الذين اضطرتهم الظروف الاقتصادية القاسية إلى الاتجار بالمخدرات.٩٢ وجاء في تقريرٍ لمكتب مكافحة المخدرات أن حوالي ٥٠٪ من المصريين أصبحوا يتعاطون الحشيش، وينتمون إلى الجنسين، وإلى كل الطبقات، وحجة مدمن الحشيش أن القرآن حرَّم الخمر والميسر، ولم يحرِّم القرآن الحشيش،٩٣ وقد تعاطى ضابط القلم السياسي ممدوح الشربيني (العنقاء) الحشيش، لأن تحريمه لم يرِد في آيات القرآن، فضلًا عن أن الحشيش لم يكن يكلِّفه شيئًا، فقد كان يتسرب إليه، وإلى زملائه، مما تصادره الحكومة.٩٤ وكما أشرنا فقد كان من الأسباب المهمة لتعاطي الحشيش، إطالة فترة مضاجعة الزوجات،٩٥ ويقول الشيخ عباس (أيام الإنسان السبعة): ما سمعناش حد من المتقدمين ولا من المتأخرين حرَّم الحشيش، الخمر حرام صحيح، إنما الحشيش نبات، زي أي نبات.٩٦ ولم ينكر المعلم شعبان (ذكريات دكان) أنه يدمن على تعاطي الأفيون، وكان دفاعه أن الأفيون لا خير ولا شيء مثله يشد الأعصاب ويروَّق الدم، أما ما يبدو عليه من نحافة، فمن أثر صفراء في كبده، وأما السعال فمبعثه كثرة التدخين.٩٧
وكانت زوجة رحمي أفندي صرَّاف الشركة (قضية الشاويش صقر) تحرضه على السرقة بقولها: «اسرق يا أخي، أنت موش صراف الخزنة؟ اختلس لك حاجة، اخطف أنت راخر، كتير من البهوات البشوات بيخطفوا يا سيدي ويمتعوا نفسهم … إيه يعني اللي حا يجرى لك؟ بالكتير سنتين ولا تلاتة في السجن … وبعدين تطلع راجل غني قد الدنيا! ثم أصيب الرجل بالجنون. كان يهبُّ من نومه، ويصيح: عاوز آكل المدير! أو يصيح: عاوز آكل عضو مجلس الإدارة! سيبوني أشبع! عاوز أقطعه بسناني!٩٨ وكان الجوع — وحده — هو الذي حوَّل صابر (نهاية المطاف) — فجأة — إلى لص، لم تكن السرقة مما يخطر له ببال، لكن صراخ البطن أفقده وعيه، ولم يعُد أمامه إلا أن يسرق،٩٩ وكان الرجل (في ظلال الخطيئة) يرى ألفاظ الشرف والكرامة والرجولة جميلة حقًّا ما دام الفم الذي يرسلها بعيدًا عن قبضة الحرمان!١٠٠

•••

يصف سلامة موسى الفترة من ١٩٤٧م إلى ١٩٥٢م بأنها كانت «انحدارًا يكون انهيارًا في السياسة والأخلاق، فقد ظهرت حركات رجعية أوشكت على إحالة بلادنا إلى جهنم، وأصبح الزعماء والساسة الذين كانوا نحترمهم لكفاحهم، متسلقين يرغبون في الوصول إلى القمم، وهي — في الأغلب — قِمم الثراء والسلطان، دون أي حساب للشعب، بل تجاوزت هذه الحال إلى مَن نسميهم أدباء وصحفيين ومؤلفين كبارًا، فقد ارتشوا إلا الأقلين، عن ضمائرهم، وصاروا يؤلفون ويكتبون، كما لو كانوا يكتبون إعلانات مأجورة في الصحف.»١٠١
مع ذلك، فإن الصحف — والقول لأحمد بهاء الدين — «كتبت في سنتي ١٩٥٠م و١٩٥١م ما لم تكتبه قَط»،١٠٢ وظهر العديد من صحف المعارضة: اللواء الجديد، الكاتب، الملايين، الجمهور المصري، الدعوة، الاشتراكية … إلخ.
كانت الصحافة تضغط على دور الزعيم المرتقَب: «لم تعد الأبصار تقع على رجل يمكن الركون إليه» إننا نفقد الرجاء في أي زعيم، على كل مصري أن يتحرك، لا بد من صحوة، ثم فورة، ثم ثورة تحطم الأغلال» … «إن الشعب يفتقد قيادة توجيهية فدائية حازمة.» وأشارت الصحف إلى آمال الجماهير في «زعيم جديد يحقق وحدة البلاد بقوة إيمانه، وصلابة إرادته، وإنكاره لذاته، وعندئذٍ يتحقق النصر»، وكتبت «الجماهير» لا بد لنا أن نلقي نظرة عامة على موجة القلق التي غمرت الفئات الصغيرة، والوسطى، وجماهير العمال والكادحين. ففي السنة الأخيرة (١٩٤٧م) توالت اعتصامات وإضرابات من العمال وموظفي التلغراف والمدرسين والمهندسين وصغار رجال البوليس١٠٣ والتجار الصغار، «ومعنى هذا أن جماهير شعبنا الكادحة، والأجيرة، تتحرك لتحصل على مستوًى لائق بكدِّها.»١٠٤
والواقع أن بلادنا شهدت — لأول مرة — هذه الظاهرة التاريخية، وهي أن الفئات الصغيرة والدنيا من الطبقة المتوسطة قد اتخذت سلاح الإضراب — وهو سلاح الطبقة العاملة — وسيلة لتحقيق أهدافها المعاشية،١٠٥ تعدَّدت الإضرابات العمالية، وإضرابات الموظفين والمهنيين، حتى رجال الدين قادهم الإمام الأكبر إلى قراءة سورة «العصر» على الحكومة، وكتبت «الإجبشيان جازيت»: «إن السؤال الجريء هو: إلى متى ستتجاهل مصر أن ما يقرب من ثلاثة أرباع سكانها يعملون من شروق الشمس إلى غروبها لمصلحة أفراد قلائل.»١٠٦ أما روز اليوسف، فقد تحدثت عن «الذين لا ينتظرون هذه الثورة، ولا يحسبون حسابها، أغبياء، بلغ من ضيق عقولهم وسواد ضمائرهم، أن أخرجوا الفلاح من طائفة الآدميين، فليس من حقه أن يحس، ولا أن يتذمر، ولا أن يطالب بحقه، ولا أن يثور.»١٠٧
وبالنسبة للكُتاب، فقد كتب محمد التابعي: «يحيا الظلم، ظلم كل جبار عاتية، معتز بسلطانه وسطوته، يدوس القوانين ولا يبالي، وظلم كل كبير فاسق، وكل عظيم فاجر، يسرق ولا يبالي، ويختلس ولا يبالي، ويثلم الأعراض ولا يبالي، ويهدر الكرامات ودم المواطن، ويجعل من مصر أمثولة السوء، وبصقة كريهة في فم الزمن.»١٠٨ أما خالد محمد خالد، فقد كتب: «ألا ليت المسئولين في هذا البلد يقرءون التاريخ، إذن لرأَوا وراء كل ثورة قامت على ظهر هذا الكوكب، ركامًا هائلًا من القوانين الظالمة.»١٠٩ ودعا خالد محمد خالد — صراحة — إلى الاشتراكية، وأنها النظام الذي حقق العدالة الاجتماعية في معظم دول العالم، في أعقاب الحرب العالمية الثانية،١١٠ وتساءل محمد عصفور: «أليس من الغريب أن يعاقب قانوننا الجنائي على الدعوة إلى سيطرة طبقة على طبقة، في حين أن هذه السيطرة جعلها الاستعمار في مصر حقيقة واقعة؟ وبماذا نفسر الحرب الهائلة التي استهدفت لها الدعوة الاشتراكية، إلا أن تكون حماية لنظام اجتماعي طبقي؟»١١١ وأضاف إحسان عبد القدوس أن «نظرة واحدة إلى ميزانية الدولة المصرية، تكفي لتحريضك على اعتناق الشيوعية، أو على الأقل تقنعك بأن الشيوعية على حق، وأن الثائرين على نظام الطبقات في مصر ليسوا مجرد حاقدين، وإنما هم علماء في علم الأرقام، فأرقام الميزانية تسجل أن قيمة الضرائب المفروضة على أصحاب الأراضي الزراعية تبلغ ٤٧٠٠٠٠٠ جنيه، في حين أن ميزانية مصلحة الري، التي تقوم على خدمة هذه الأراضي وتنظيم ريها، تبلغ ٦٢٠٠٠٠٠ جنيه، أي أن مصر تتبرع سنويًّا للسادة أصحاب الأملاك بمبلغ ١٥٠٠٠٠٠ جنيه.»١١٢

كانت مخصصات الملك بالميزانية حوالي عشرة ملايين جنيه، وهي تساوي ٥٪ من مجموع الميزانية العامة للدولة، وقاد كريم ثابت مستشار الملك الصحفي أوركسترا الصحافة المأجورة، فعزفت ألحان التمجيد لفاروق ومآثره، وحاول التحرك في الكواليس خدم الملك وحاشيته من أمثال محمد حسن، ومحمد فهمي حسين، وغيرهما، وكتبت صحف الغرب — من ناحية أخرى — عن الراقصة سامية جمال باعتبارها «الراقصة الرسمية للحكومة المصرية».

ويطرح السؤال نفسه: هل هاجم الكُتاب نظام الحكم دون تدبُّر لردود الأفعال؟

يقول حلمي سلام: «رُب سائل يتساءل: هل كنا مجانين ونحن نكتب ضد أولئك الطغاة؟ ضد الملك، وضد حاشيته، وضد أعوانه؟ تلك الكلمات التي كانت كأسنة الحرب، مدوية كطلقات البنادق؟! أم أننا كنا مؤيدين بسلطان خفي، أقوى من سلطان الملك، وسلطان حاشيته، وسلطان عملائه؟! وأن هذا السلطان الخفي الذي كنا مؤيدين به، هو الذي كان يشجعنا على أن نقول ما كنا نقوله، ونكتب ما كنا نكتبه؟! والحقيقة أننا لم نكن مجانين حين كنا نقول ما نقوله، ونكتب ما كنا نكتبه، بل الصحيح أننا كنا في قمة عقلنا، ولأننا كنا في قمة عقلنا، فقد فتح العقل عيوننا أوسع ما تكون على نيران الفساد التي كانت قد اشتعلت من حولنا، وكادت تلتهم كل شيء.»١١٣

•••

كتب نجيب محفوظ في ٣ سبتمبر ١٩٤٥م — وكان في الرابعة والثلاثين — «لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتمًا لفن جديد، يوفِّق — على قدر الطاقة — بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال، وقد وجد العصر بغيته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار، فليس لأنه أرقى من حيث الزمن، ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله مؤرخًا للعصر، فالقصة — على هذا الرأي — هي شعر الدنيا الحديثة.»١١٤

والحق أنه كان لنتائج الحرب العالمية الثانية — على المستويين المحلي والخارجي — تأثيرها المؤكد في الإبداعات الروائية والقصصية. ثمة إضرابات العمال، وثورات الفلاحين، ومظاهرات الطلبة، ونشوء التنظيمات السياسية، المعلَنة والسرية، وثمة الأحداث السياسية العالمية.

يصف الفنان (قصة حب) ملامح الناس — في الفترة القليلة التي سبقت قيام الثورة — بأنها كانت حادة صارمة، كأن بريقها «شرر رغبات كامنة تتحرر، وانطلاق ثورة.» أما الأصوات فهي أشبه ﺑ «حفيف مظاهرات، أو جئير إضرابات» ولها رائحة خاصة «ينتفض لها الجسد كرائحة فوهة بندقية حديثة الإطلاق.»١١٥ ويعترف حسين شاكر باشا (شيء في صدري) — فيما بعد — أنه في غمار جنونه قد سد أذنَيه عن أصوات تنبعث من الشارع، أصوات كالزئير تعلو رءوس ناس لا أعرفهم، ناس فقراء، ناس يقتربون وفي أيديهم هراوات ليطاردوا بها الكلب المسعور، ويقول حلمي (الحصاد) لأبيه: «أعتقد أن شيئًا ما سيقع، فلا أظن أن المظاهرات التي هتفت بسقوط فيفي وحافظ عفيفي، والشتائم القاذعة المكتوبة على الحوائط في كل الأحياء التي تنعت الملك وأمه بأقبح الصفات، وهذه التطورات السريعة التي نعيشها الآن ليس لها دلالتها، أحس أن شيئًا هامًّا، لا أدري ما هو، ستتمخض عنه الأيام القادمة.»١١٦

الغريب أن الملك كان له — كما أثبتت محاكمات الثورة — معاونوه الذين ينقلون إليه كل ما يحدث ضده في الجامعة، وفي المدارس، وكانت الصحف الأجنبية التي تهاجمه تواجه المصادرة في المطار، ولا تدخل البلاد، وإن تبع ذلك تقارير بما تضمنته من مواد.

صارت اللعنات تنصبُّ على الملك في المقاهي والأماكن العامة،١١٧ وقيل إن الملك سيستأجر جنودًا مرتزقة لأنه لم يعُد يثق بأحد.١١٨ وكان المسئول — المأمور أو العمدة — الذي يريد أن يكيد لأحد الأهالي، يدس في جيبه — بواسطة أعوانه — منشورات ضد الملك، وهو لا يدري.١١٩

وعندما انضمَّت أمينة (أنا حرة) إلى إحدى الجمعيات الخيرية، قال لها عباس في قسوة: وليه ما تنضميش لصالة بديعة؟

– قصدك إيه؟

– الجمعيات دي مش أكتر من صالة بديعة، شوية ستات ماشيين عريانين، يبيعوا لحمهم مع الويسكي لأسيادنا الأغنياء.

– ده علشان الفقرا.

– الفقرا أصحاب حق، مش لازم يعيشوا على الإحسان، لازم يفضلوا فقرا، ويمرضوا، ويموتوا، ويشوفوا الغُلب، لغاية ما يثوروا، ويطالبوا بحقوقهم.

أضاف عباس: حساب الناس هو حساب الثورة، لازم تقوم ثورة، لازم كلنا نحترق، ونحرق معانا كل شيء، مش ممكن نبني إلا لما نهدم، فاهمة؟ لازم تقوم … تقوم.١٢٠

تبدأ أحداث رواية محمد عبد الحليم عبد الله «للزمن بقية» قبيل ثورة يوليو مباشرة، ذلك ما يشي به قلق الأغنياء، وتوقع الجميع — فقراء وأغنياء — لغدٍ جديد.

إن نظرة طه النجومي تخلو من كل تلك الشعارات التي يثرثر بها فلاحو الأعمال الروائية سواء كانوا من المُلاك أو الأُجراء، رضاء الفلاح بواقعه هو نبض «زينب» و«دعاء الكروان» و«بعد الغروب» وغيرها، إنه يحيط بأبعاد هذا الواقع، وبما يرين عليه من قسوة وبشاعة، لكنه لا يقدِم حتى على الرفض، فضلًا عن التمرد أو الثورة. فلاحو هيكل تعودوا ذلك الرق الدائم، ينحنون لسلطانه من غير شكوى، ومن غير أن يُدخِل إلى نفوسهم قلقًا، يعملون دائمًا، ومن غير ملال، ويرقبون بعيونهم نتائج عملهم زاهرة ناضرة، ثم يقطف ثمرتها سيدٌ مالكٌ كم فكر في أن يبيع قطنه بأغلى ثمن، ويؤجر أرضه بأرفع قيمة، وفي الوقت عينه يستغل الفلاح نظير قوته الحقير، ولم يدر بخاطر السيد يومًا أن يمد له يد معونة، أو أن يرفعه من درك الرق الذي يعيش فيه.١٢١
أما فلَّاحو «دعاء الكروان»، فهم يذهبون ويجيئون، وهم يعملون لا يعرفون كللًا ولا سأمًا، وأصواتهم ترتفع لا بالشكوى ولا بالأنين، وإنما ترتفع بهذا الغناء الساذج الحلو الذي يبعث في الجو نغمات ساذجة حلوة، والذي يصدر الأمل في غير إسراف، والرضا في غير استكانة، والاطمئنان في غير حزن، وحب العمل على كل حال، والثقة بالله على كل حال.١٢٢
وفي «بعد الغروب» يتحوَّل واقع القرية إلى لوحات تنبض بالجمال: «فمنازل الفلاحين تحلم — وحدها — في خلاء المنازل، والقمر يصب نوره على الحقول التي تكتسي تربتها ببقايا أعواد القمح، فتخالها تحت القمر قد غُطيَت بملاءة منشورة. ويعمد بعض الفلاحين إلى أن يكوِّموا السماد في الأرض، أيام التحاريق، كومات صغيرة متقاربة، ثم يغرقوها بالماء قبل بدء الموسم، فتتخذ الأرض عن ذلك منظرًا أروع سحرًا، فنظنها بالليل بحرًا ساكنًا، أطلَّت من أديمه رءوس الجزائر.»١٢٣

صلاح النجومي ينتمي إلى أسرة من ملاك الأراضي، لكنه يرفض الأوضاع القاسية للأُجراء وصغار الملاك، ويدين كبار المُلاك الذين يُعَد شقيقه طه النجومي واحدًا منهم (الموقف نفسه الذي اتخذه حامد في «زينب» هيكل، وإن اكتفى حامد بالمشاعر الوجدانية!) وكان يناوئ شقيقه — فكرًا وأسلوب حياة — في دفاعه عن الفلاحين.

لقد تساءل صلاح النجومي في أسًى، وهو يرى الأوضاع القاسية للفلاحين: بالله، ماذا سيحرك كل هذا؟١٢٤ ويغني الفلاحون، فيواصل النجومي تساؤله: «كيف أن هؤلاء الناس يستطيعون الغناء، وإذا استطاعوا، فكيف يستمرئونه؟»١٢٥ وأدرك أن نظرات الفلاحين أصبحت مكبَّلة، وتصور أنه سيستطيع — ذات يوم — إطلاق سراحها.١٢٦
كانت الفلاحة — في رأي طه النجومي — تعني الأرض، الأرض لا تنبت حبة الفول إلا إذا شرختها، فهي قاسية، والعمل فيها بالتالي قاسٍ، ومن يريد أن يعمل بالفلاحة، لا بد أن تكون أخلاقه مثل الأرض، أن يكون وحشًا، أو أن تأكله الأرض.١٢٧ وكان طه النجومي يأخذ من القوى البشرية أقوى طاقة، تبلغ مع غروب الشمس شبه الموت، وكان العمل يتم في هدوء، مثل تنفُّس النباتات، والتعبير للفنان.
استطاع طه النجومي أن يجعل أهل قريته يفضِّلون الصمت على الشكوى، ثم تعوَّدوا ذلك بمرور الوقت، فأصبحت نظراتهم مكبَّلة.١٢٨ أحرق طه المستشفى الحكومي الذي شُيِّد على ربوة قريبة من قريته لعلاج مرضى البلهارسيا والإنكلستوما، فلم يستطع أحد من الفلاحين أن يذكر اسم من أحرق المستشفى!١٢٩ وقال النجومي للفلاحين: إن البول الدموي علامة للصحة، فهو يدل على كثرة الدم!١٣٠ كان انشغاله بزيادة مساحة الأرض التي يمتلكها يوازيه انشغاله بأن يحيا أُجراء هذه الأرض دون مستوى الحياة، وربما كان السليم أفيد للعمل في الأرض من المريض، لكن السليم يستطيع أن يرفض، وأن يتمرد، وأن ينشد العمل — إذا أراد — في أرضٍ أخرى، أما الذي يعاني المرض، فإن أحلام تبديل الواقع لن تدور في باله!

وعندما أشار صلاح النجومي — الابن الأصغر للنجومي الكبير — على الفلاحين أن يأخذوا فترة من الراحة، لم ينظروا إليه على أنه نصف نبي، أو شاب رحيم، بل على أنه مجرد شاب فيه كل أخلاق آل النجومي، وإن كانت سنه الصغيرة لم تسمح لتلك الأخلاق أن تعلن عن نفسها بعدُ، جرو ذئب لم تنبت أظفاره، وحين تنبت تنمو معها أخلاق الذئب كاملة. وكانت نظرة المسروق إلى السارق الذي يبدي عطفًا، هي التي أملت عليهم أن يتكاسلوا لمَّا هتف بهم: هيا، عودوا إلى العمل، وهي التي حرضتهم على إطالة فترة تناول الغداء. ولو أن العلاقة صحيحة من البداية لكان من البديهي أن يقابل النفس المشفقة اعتراف بالجميل وامتنان وعون على المساعدة أن تتصل وتمتد، لكن الأمر — في تقدير الأجراء — لم يكن يعدو نسائم طيبة هبَّت في غير موعد، فحاولوا استرواحها قدر ما استطاعوا.

وفي المساء قال له محمد الجندي: يقولون إنك لم تنجح.

– في الشهادة؟

– في تشغيل الأنفار.

– أخذت منهم آخر ما عندهم.

– صحيح، لكنهم كل يوم يأخذون منهم أكثر من آخر ما عندهم … بقر يُضرَب ليُحلَب.١٣١

ويومًا، يواجه طه شقيقه بالقول: أنا لا أعرف ماذا تريد؟ أنت ضيَّعت شبابك، وأخاف أن تضيِّع مالك، وما للفلاحين الذين نكتب عنهم؟ هل يحس الحصان بزهوٍ إذا رسمت صورته على جنيه من ذهب؟! كأنك لست ابن فلاح، لقد جرَّبتهم أنا بطريقة أحسن من طريقتك، واسأل الشيخ المأذون، أنت لا لا تعرف عنهم شيئًا.

– هل تذكر عبد المعطي التركي؟

– نعم، فلاح وليس تركيًّا، وأمهر شاب في عمله.

– عال، هو نفسه، واسأل الشيخ المأذون، إنه لا يأكل اللحم إلا في المآتم والأفراح وبعض المواسم والأعياد، وهو قوي يحب عمله، ولأجل خاطر كتاباتك عملنا تجربة، أعطيناه ما يجعله يأكل اللحم مرتين في الأسبوع، ويشتري الفاكهة والسكر ويدخن كيف يشاء (وضحك طه) هل تدري ماذا حدث؟ كل صباح كنا نراه يستحم في الترعة، وأنت تعرف لماذا. ويتأخر في النوم، وأنت تعرف لماذا. وبدأت زوجته تتلوى وهي تمشي، وارتفع صوت أولاده، وبدا شبه مخلول … ها ها ها.

رد صلاح في دهشة: لأنه مثلًا، صار في حكم أي ثور، من حقه أن يملأ بطنه ليجر المحراث، ويفرز عرقه ويشتهي بقرة.١٣٢

تحوَّل الفلاح — بالقهر — إلى ثور يأكل ويخصِّب. ونتذكر ثيران عبد الحميد جودة السحار في «الشارع الجديد»، هؤلاء الذين اتهمتهم النظرة السريعة للفنان بأن حياتهم لا تعدو مشكلة إدمان أو جوع جنسي، دون أن يعنيه أن يطرح السؤال: لماذا؟

تبيَّن لصلاح النجومي — هل هي وجهة نظر الفنان؟ — أن أصحاب الحرية الذين يحتاجون إليها، أحيانًا ما يكونون أعداءها،١٣٣ فهي نظرة أكثر تشددًا من نظرة عصام الدين ناصف في «عاصفة فوق مصر»، بل إن رفض مجاوزة الفلاحين للواقع، ربما يأتي من القريبين منهم طبقيًّا، فالدادة شيرين يهولها اعتزام الباشا توزيع كمية من الأقمشة على أبناء الفلاحين، وتقول: إنكم تعودونهم الترف والترفُّه، لماذا لا تطهون لهم الديوك الرومية أيضًا، وترسلونها إليهم ليطعموها؟!١٣٤

من هنا، كانت محاولة صلاح النجومي لنقل معركة الدفاع عن الفلاح إلى القاهرة، بعد أن راعه استنامة الفلاحين إلى ظروفهم، و«بعض البشر مثل أرض المستنقعات قد تكون مهدًا لجنة في المستقبل، لكنها اليوم إن زُرعَت الأشجار فيها بين الماء والغاب، أكلتها بوحشية.»

وسافر صلاح البحيري إلى القاهرة بالفعل، ليمارس نضالًا من أجل «إطلاق سراح النظرة واللسان واليد.»١٣٥
أدرك صلاح النجومي — متأخرًا — أن الحرية ليست في الهروب إلى أوروبا، لكنها في تحرير أبناء قريته من الفلاحين، وممن؟ من أبيه وشقيقه الأكبر، ويكتشف الفنان — أو يُعيد الاكتشاف — أن المحتاجين إلى الحرية أحيانًا ما يكونون أعداءها.١٣٦

وكما فعل نجيب محفوظ في «بين القصرين»، عندما اختار أسرة أحمد عبد الجواد وفروعها، لتكون تعبيرًا عن تطورات الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية في المجتمع المصري، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، وكما فعل السحار نفسه في «الشارع الجديد» و«في قافلة الزمان» بالتعبير عن تطورات الأحداث القومية في الفترة من مطالع القرن إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، من خلال حياة أسرة الحاج أسعد، وامتداداتها، فقد اختار عبد الحميد جودة السحار أسرة سليم باشا شلبي في «الحصاد» ليعبِّر عن الفترة التاريخية التي تبدأ قبيل الحرب العالمية الثانية، وتمتد حتى قيام الثورة. حاول الفنان أن يعرض للمظالم التي تعرَّض لها الفلاح المصري في شيء من العطف والحماسة، لكن الرواية تحفل — في تقديري — بالقصور عن معالجة المشكلة، لأن الفنان لم يضعها في سياقها الموضوعي.

إن الباشا الذي اختاره الفنان بطلًا لروايته هو — في الدرجة الأولى — رجل عصامي، بدأ حياته فقيرًا معدمًا، حتى أصبح — بجدِّه واجتهاده — مالكًا لعشرة آلاف من الأفدنة، بل إنه لم يكن على فساد أهل ذلك العهد من الإقطاعيين والباشوات، إلى حد أنه لم يقبل أن تدفع له البنوك فوائد على أمواله المودَعة فيها، باعتبار أن هذه الفوائد نوعٌ من الربا، وكان يمر على بيوت فلاحيه في ليلة النصف من شعبان، ليوزع عليهم الحبوب بنفسه، فضلًا عن اثني عشر ألف جنيه زكاة عن أمواله، كان ينفقها في وجوه الخير كل عام.

ولعلي أختلف مع القول إن «القارئ المنصف لا بد أن يحسَّ عطفًا شديدًا على الباشا، ولا يستطيع أن يحمِّله مسئولية المأساة التي انتهت إليها حياته.»١٣٧
لقد حصدت رياح الثورة كل ما بناه خلال عمره الذي شهد فيه صورة السلطان حسين وهي تهبط من مكانها لتُرفَع صورة فؤاد، ثم صورة فؤاد وهي تنكس لتُرفَع صورة فاروق، ثم صورة فاروق تُرفَع إيذانًا بزوال عهد الملكية تمامًا. الرجل — في رواية الفنان — عصامي، بدأ حياته فقيرًا معدمًا، وظل يكافح حتى أصبح مالكًا لعشرة آلاف فدان «وكان حريصًا على ماله بعض الشيء، وهو أمر طبيعي لا يمكن أن يؤخَذ عليه، خاصة وأنه كان على جانب كبير من التقوى والإيمان، حتى إنه لم يكن يقبل أن تدفع له البنوك فوائد على أمواله المودَعة فيها، ويعتبر هذه الفوائد نوعًا من الربا، وكان حريصًا على أن يمر على بيوت الفلاحين في عزبته في ليلة النصف من شعبان، ليوزع عليهم الحبوب بنفسه، وكان يصرف في وجوه الخير كل عام، اثني عشر ألف جنيه زكاة عن أمواله.»١٣٨

إن تلك المبررات تحتاج إلى مراجعة شديدة، في ضوء الوسيلة التي اتَّبعها الباشا لتنمية ثروته.

أما الحبوب التي كان يحرص على توزيعها على الفلاحين في ليلة النصف من شعبان، فهي محاولة «مظهرية» لتسكين نفوس الفلاحين على الواقع المؤلم الذي يحيَون في إساره، وأسباب أخرى من واقع الرواية نفسها. حتى المعونات التي كان يتصرف بها الباشا، كان فلاحو قريته يتلقَّونها بفتور، فالإحساس المؤكد الذي يحيَون به، أن ما يتصدَّق به الباشا عليهم إن هو إلا جزء يسير من حقهم، بل إنه بعض ما يسلبهم إياه لتمتلئ به كروش أهل المدن، وجيوش الحلفاء، وتتضخم به أموال الباشا،١٣٩ بل إن الفنان يسخر من هؤلاء الذين يتصدقون ببعض أموالهم لفقراء مكة والمدينة — ليضعوا بذلك أساس قصورهم في الجنة، متناسين أن أبناء بلدهم — وربما بعض أقاربهم — قد يكونون في حاجة أشد إلى تلك الصدقات.١٤٠

أما رواية السباعي «رد قلبي» التي كتبها بعد الثورة، فقد حاول فيها أن يعرض للإرهاصات التي مهدت لقيام الثورة، اختار قصة حب بين علي، ابن الريس عبد الواحد الجنايني عند الأمير إسماعيل، وبين بنت الأمير. وكبر علي، وأتيح له مواصلة تعليمه حتى تخرج ضابطًا في الجيش، وتقوم الثورة، ويكون واجبه فيها مصادرة أملاك الأمير إسماعيل، فيذهب إلى القصر، وقلبه يضطرم بمشاعر المحِب الذي سينقذ حبيبته من وراء سجن رهيب. ويرفض شقيق الحبيبة أن يسلم القصر لعلي ورفاقه، ويُطلِق عليهم الرصاص، فيبادلونه بالمثل، ليلقَى مصرعه، ويصاب الحبيبان، وينقلان إلى المستشفى، ثم — في النهاية — يعتصران شفاههما في قبلة حارة، عنيفة، بعد الشفاء.

الرواية — رغم غلبة الجو السياسي على أحداثها — لا تخرج عن اللون الرومانسي الذي يسِم أعمال السباعي، لكنها — في كل الأحوال — محاولة ناجحة لتسجيل أحداث تلك الفترة المهمة في تاريخنا القومي. كانت «الثورة» هي الباب الذي طال انتظار العاشقَين لانفراجه، حتى ينفَذ حبهما خلل الأوضاع الطبقية الصارمة، كانت الأميرة إنجي ستظل في موضعها المرتفع عن الضابط علي، مهما ترقَّى في سلك الضباط، لأن النشأة والأسرة التي ينتمي إليها أحد الطرفين، كانت ذات تأثير مباشر في إمكانية زواجه بالطرف الآخر، وكان لا بد أن تتغير صورة المجتمع، ليسهل على كلا العاشقين أن يقترن بصاحبه.

•••

من الذي يحرك الشارع؟

سؤال ألقاه على نفسه حسين شاكر باشا (شيء في صدري) ثم أجاب عليه: «لا أحد يدري. إن في الشارع جمعيات سياسية كثيرة، وأحزابًا صغيرة، ونقابات، وهيئات، وشيئًا اسمه «الهيئة العليا للعمال والطلبة» وجماعات إرهابية تغتال، وتُطلِق الرصاص، وتقذف القنابل … إن الشارع يقوده وعي، وعي لا يتمثل في شخصٍ واحدٍ، ولا في هيئة واحدة، وعي فطري أثارته كتابات الصحف، ومزايداتها الوطنية، والفساد الجاهل في أداة الحكم، وضيق الناس وفقرهم.»١٤١

لقد تشكَّلت من بين صفوف الطبقة البرجوازية الصغيرة عدة تنظيمات وتيارات سياسية من فاشستية وشيوعية ودينية، وانقسمت هذه الحركة بشكلٍ عام إلى تيارَين قويَّين متصارعين: التيار اليساري الذي قاده تحالف الشيوعيين، مع عناصر من يسار الوفد، التيار الديني الذي مثَّله الإخوان المسلمون.

وأقدم الشاب الصعيدي على توزيع المنشورات الخطية على طلبة المعهد الديني بأخميم، ومدرسة الصنايع، وثانوية الملك فؤاد، ضد فاروق وإبراهيم عبد الهادي.١٤٢
ويروي حسين شاكر باشا (شيء في صدري) — وهي رواية لا تخلو من غرض! — أنه قد لجأ إلى وزراء حكومة الأغلبية ليفتح عيونهم على المأساة التي تقترب منهم، فالشارع يفلت من أيديهم، وعلى وشك أن يتغلَّب عليهم، لكن وزراء حكومة الأغلبية كانوا في ظلام أطماعهم وجشعهم، لا يرَون ولا يسمعون ولا يقتنعون، إن الملك معهم، والإنجليز معهم، وهذا يكفيهم ليبقوا في الحكم، ويمعنوا في جشعهم، إن الشارع لم يعُد له حساب عندهم.١٤٣

وقد أدلى حافظ رمضان بحديثٍ لمجلة «روز اليوسف» (٢٦/ ١٠/ ١٩٥٠م) ذهب فيه إلى «أن الحالة الداخلية قد بلغت حدًّا من المفاسد لا مزيد عليه، مما يدعو كل إنسان له عقل يدرك أن البلاد أصبحت في ثورة فكرية ونفسية، وأتوقع أن تتطور هذه الثورة الفكرية إلى ثورة شعبية أو عسكرية، وإنَّا مقبلون على هذا.»

وفي صباح ٢٢ يوليو، كتب كامل الشناوي في عموده اليومي «وجهة نظر»: «تروي الأساطير أن ديوجنيس حكيم اليونان، خرج من داره يومًا، وفي يده مصباح، وظل يطوف بشوارع أثينا، باحثًا عن شيء، ودهش أهل أثينا عندما رأوا حكيمهم يحمل المصباح في ضوء النهار، والشمس مشرقة، وسألوه: ماذا تصنع يا ديوجنيس؟ أجاب: أبحث عن رجل.»

أضاف الشناوي: «مصر تحمل مصباحها في يدها ليل نهار، تنقِّب عن رجل … لكن المصباح سينضب زيته، وينطفئ، قبل أن تجد مصر رجلَها، إنها تبحث عنه بين طائفة من الساسة تجاوزوا مرحلة الرجولة، وعبثًا تحاول أن تعيدهم إلى هذه المرحلة، لتدع مصر مصباحها، ولتبحث بلا مصباحٍ في صفوف الشعب عن الرجل الذي تنشده.»١٤٤
ولا تخلو قصة «الخادم» — التي نُشرَت صبيحة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م — من دلالة. لم يكن الفنان — حين كتب قصته — يدري أنه في صبيحة اليوم الذي تُنشَر فيه قصته ستتحقق الثورة التي أشارت إليها القصة. هنداوي، ابن القرية، يعود من المدينة إلى قريته، ليقود أبناءها في ثورة ضد العمدة ومظالمه، إرهاص مؤكد بالثورة الوشيكة.١٤٥

وقد أنفق سليم باشا شلبي (الحصاد) عمره في تكوين الآلاف العشرة من الأفدنة؛ نسج المؤامرات والمكائد، وبذل من ضميره، وخاض صراعاتٍ مع أقرب الناس إليه، ثم جاءت ثورة يوليو، فحصدت كل ما زرعه.

هوامش

(١) أنور السادات، أسرار الثورة المصرية، ٣٠.
(٢) أكتوبر، ٢٧ / ٧ / ١٩٨٥م.
(٣) الحركة الوطنية المصرية، ١١١.
(٤) سعيد عبده، القنبلة، شُرابة الخُرج، كتاب اليوم.
(٥) قصة حب.
(٦) المصدر السابق.
(٧) ذكريات سعيدة، ٧٣.
(٨) شيء في صدري، طبعة مكتبة مصر، ٤٧٢.
(٩) المصدر السابق، ٤٧٢.
(١٠) جميل عطية إبراهيم، ١٩٥٢، روايات الهلال، ١٨٠.
(١١) ميلاد ثورة، ٤.
(١٢) المرايا، ١٢٨-١٢٩.
(١٣) ١٩٥٢، ٢٠٢.
(١٤) ذكرياتي في عهدَين، ١٩٢.
(١٥) أيامه الأخيرة، ٢٢٤.
(١٦) مذكرات مرتضى المراغي، أكتوبر، العدد ٥٠١.
(١٧) الحصاد، ٤٠٠-٤٠١.
(١٨) الهلال، نوفمبر ١٩٨٤م.
(١٩) المرجع السابق.
(٢٠) ذكرياتي في عهدَين، ٢٢٥.
(٢١) معركة نزاهة الحكم، ٢.
(٢٢) نجيب الكيلاني، في الظلام، الشركة العربية للطباعة والنشر، ١٤٠.
(٢٣) أحمد رشدي صالح، رجل يشتري الحب، هيئة الكتاب، ٢٦٢.
(٢٤) محمد نجيب، شخصيات وذكريات، كتاب الجمهورية، ١٢٨.
(٢٥) خالد محمد خالد، من هنا نبدأ، مكتبة الأنجلو المصرية، ٨-٩.
(٢٦) زكي نجيب محمود، قيم من التراث، هيئة الكتاب، ١٩٩٦م، ٢٢٥.
(٢٧) السمان والخريف، ٢٤.
(٢٨) المصدر السابق، ٢٥.
(٢٩) محمد مندور، كتابات لم تُنشَر، كتاب الهلال.
(٣٠) ١٩٥٢، ٤١.
(٣١) الثقافة العالمية، يناير ١٩٨٦م.
(٣٢) معركة نزاهة الحكم، ٢.
(٣٣) المرايا، ١٢٨.
(٣٤) الحصاد، ٤٠٤.
(٣٥) إبراهيم عامر، الأرض والفلاح، ١١٦.
(٣٦) علي شلش، عزف منفرد، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٣٧) مذكرات إبراهيم طلعت، ٣٢٨.
(٣٨) محمد روميش، فرح سلامة، الليل الرحم، روايات الهلال، ديسمبر ١٩٨٦م.
(٣٩) موسى صبري، قصة ملك وأربع وزارات، دار القلم، ١٧.
(٤٠) محمد عصفور، فلنحكِم الأغلال، المطبعة العالمية، الطبعة الأولى، ١٤٨.
(٤١) فلنحطم الأغلال، ١٥٠.
(٤٢) المكرميات، ٥.
(٤٣) بيت الأقصر الكبير، ٦٠.
(٤٤) يوسف جوهر، الحب أقوى من الموت، المصباح الأعمى، هيئة الكتاب.
(٤٥) الأيام والليالي، ٤٣.
(٤٦) يوسف المعناوي، الأقدار، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ١٩٤٦م، ٤٥.
(٤٧) فؤاد قنديل، شفيقة وسرها الباتع، دار الغد العربي، ١٩٨٦م، ٤٤.
(٤٨) بيت الأقصر الكبير، ١٣٨.
(٤٩) كان متوسط الدخل الفردي بالدولار الأمريكي في ١٩٤٩م — مائة دولار، بينما كان متوسط دخل الفرد في فرنسا وبلجيكا وهولندا بين ٤٥٠ و٦٠٠ دولار، وبريطانيا والسويد وسويسرا بين ٦٠٠ و٩٠٠ دولار، والولايات المتحدة أكثر من ٩٠٠ دولار.
(٥٠) روز اليوسف، العدد ٩٩٩.
(٥١) شيء في صدري، طبعة دار الهلال، ٤١.
(٥٢) كامل سعفان، قبل أن تفيض الكأس، مطبعة حسان، ١٢٠.
(٥٣) طه وادي، أبوح يا أبوح، العشق والعطش، مكتبة مصر.
(٥٤) حسن الساعاتي، التصنيع والعمران، ٢٣.
(٥٥) الطليعة، أبريل ١٩٧١م.
(٥٦) محمد صدقي، سبعة في زنزانة، أحزان الفارس الضرير، هيئة الكتاب.
(٥٧) طه حسين، خطر، المعذبون في الأرض، اقرأ.
(٥٨) قصة ملك وأربع وزارات، ٢٢٢-٢٢٣.
(٥٩) يوسف السباعي، ألهاكم التكاثر، يا أمة ضحكت، الكتاب الذهبي.
(٦٠) يوسف السباعي، بصقة من دنياكم، يا أمة ضحكت، الكتاب الذهبي.
(٦١) الطليعة، سبتمبر ١٩٧٠م.
(٦٢) الشيعة في الميزان، ٣٧٥.
(٦٣) علي عشماوي، التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين، دار الهلال، ٨٤.
(٦٤) محمود البدوي، هذه هي الحياة، حارس البستان، الدار القومية للطباعة والنشر.
(٦٥) حلقة الدراسات الاجتماعية للدول العربية، كتاب الدورة الثالثة، ١٢٨.
(٦٦) أندريه شديد، اليوم السادس، ١٠٤.
(٦٧) مشكلة السكان في مصر، ٧٣-٧٤.
(٦٨) محمد عبد الحليم عبد الله، مولود سعيد، النافذة الغربية، مكتبة مصر.
(٦٩) المصدر السابق.
(٧٠) غصن الزيتون.
(٧١) السابق، ١٤٢.
(٧٢) صفحات من التاريخ، ٣٢–٣٤.
(٧٣) حي محرم بك، ١٢٩.
(٧٤) محمد عبد الحليم عبد الله، الوشاح الأبيض، ١٤.
(٧٥) المصدر السابق، ١٥.
(٧٦) السابق، ١٥.
(٧٧) السابق، ١٥.
(٧٨) السابق، ١٤.
(٧٩) دقات الأجراس، ١٧٨.
(٨٠) المصدر السابق، ١٧٣.
(٨١) المصور، ٢٥/ ٨/ ١٩٥٠م.
(٨٢) سلوى في مهب الريح، ٨٠.
(٨٣) صفحات من التاريخ، ٤٠.
(٨٤) من هنا نبدأ، ٢٠١.
(٨٥) محمد أبو المعاطي أبو النجا، ناني والقطة السمراء، الفيصل.
(٨٦) محمد سالم، أستاذ في الحارة، دار الفكر العربي، ١٩٦٣م، ٦.
(٨٧) محمود السعدني، جاء الشتاء، السماء السوداء.
(٨٨) إحسان عبد القدوس، الغد، منتهى الحب.
(٨٩) ثروت أباظة، حية، ذكريات بعيدة، دار القلم.
(٩٠) يوسف إدريس، أنشودة الغرباء، الهلال، سبتمبر ١٩٨٤م.
(٩١) محمد صدقي، حياتنا لها رائحة، دار سعد مصر.
(٩٢) جاء الشتاء.
(٩٣) حيرة.
(٩٤) العنقاء، ٩٣-٩٤.
(٩٥) بيت الأقصر الكبير، ٥٥.
(٩٦) عبد الحكيم قاسم، أيام الإنسان السبعة، هيئة الكتاب، ١٣٩.
(٩٧) يحيى حقي، ذكريات دكان، أم العواجز، هيئة الكتاب.
(٩٨) قضية الشاويش صقر، ٤٦.
(٩٩) أحمد عباس صالح، نهاية المطاف، القصة، ٥ أبريل ١٩٥٠م.
(١٠٠) عاشور عليش، في ظلال الخطيئة، مجلة القصة، ١٠ مارس ١٩٥٠م.
(١٠١) تربية سلامة موسى، ٢٦٣.
(١٠٢) فاروق ملكًا، ٤٠-٤١.
(١٠٣) فشل إضراب البوليس (١٩٥٠م) بعد أن حاصرت قوات الجيش نادي ضباط البوليس في الأزبكية، حيث تجمع الضباط المضربون من أجل الترقيات وتحسين المرتبات وظروف العمل (توفيق عبد الرحمن، منزل من دورين، دار البستاني، ٢٣).
(١٠٤) منزل من دورَين، ٢٣.
(١٠٥) الجماهير، العدد ١٤.
(١٠٦) فلنحطم الأغلال، ١٣٧.
(١٠٧) روز اليوسف، ٣/ ٧/ ١٩٥١م.
(١٠٨) آخر ساعة، ١١/ ٧/ ١٩٥١م.
(١٠٩) أيامه الأخيرة، ١٤٣.
(١١٠) من هنا نبدأ.
(١١١) فلنحطم الأغلال، ١٥٠.
(١١٢) من هنا نبدأ، ٩٤.
(١١٣) أيامه الأخيرة، ١٢٤-١٢٥.
(١١٤) الرسالة، ٣/ ٩/ ١٩٤٥م.
(١١٥) قصة حب.
(١١٦) الحصاد، ٤٥.
(١١٧) السمان والخريف، ٢٩.
(١١٨) المصدر السابق، ٣١.
(١١٩) سليمان فياض، الغزوة الواحدة بعد الألف، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(١٢٠) أنا حرة، ١٩١-١٩٢.
(١٢١) زينب، مكتبة النهضة المصرية، ٢٢.
(١٢٢) دعاء الكروان، الطبعة الأولى، ٧٦-٧٧.
(١٢٣) محمد عبد الحليم عبد الله، بعد الغروب، مكتبة مصر، ١٠٨.
(١٢٤) محمد عبد الحليم عبد الله، للزمن بقية، مكتبة مصر، ١٣٣.
(١٢٥) المصدر السابق، ٢٨.
(١٢٦) السابق، ١٣٣.
(١٢٧) السابق، ٢٦.
(١٢٨) السابق، ١٣٣.
(١٢٩) السابق، ١٥.
(١٣٠) السابق، ٢٤.
(١٣١) السابق، ٣٠.
(١٣٢) السابق، ١٣٤-١٣٥.
(١٣٣) السابق، ١٤١.
(١٣٤) سلوى في مهب الريح، ١٧٤.
(١٣٥) للزمن بقية، ١٢٢.
(١٣٦) المصدر السابق، ١٤١.
(١٣٧) عبد الحميد جودة السحار، القصة من خلال تجاربي الذاتية، ٥٧.
(١٣٨) المرجع السابق، ١٥٧-١٥٨.
(١٣٩) الحصاد، ٧٦.
(١٤٠) المصدر السابق، ١٠٥.
(١٤١) شيء في صدري، طبعة مكتبة مصر، ٤٧٠.
(١٤٢) عبد العال الحمامصي، عميش في إيطاليا، بئر الأحباش، أصوات أدبية.
(١٤٣) شيء في صدري، طبعة مكتبة مصر، ٤٦٨-٤٦٩.
(١٤٤) الأخبار، ٢٢/ ٧/ ١٩٥٢م.
(١٤٥) عبد الرحمن الشرقاوي، الخادم، المصري، ٢٣/ ٧/ ١٩٥٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥