تلك الملامح المتغيرة
في ١٥ أكتوبر ١٩٤٩م أُلغيَت المحاكم المختلطة، وانتقلت سلطتها إلى المحاكم الوطنية،
وكانت قد أُنشئت
في ٢٨ يونيو ١٨٧٥م، وتم تطويرها في ١٥ أكتوبر ١٩٣٧م.
أفضت كل الدروب إلى نهاية أحقاب من تاريخ مصر، بحيث انقسمت الحياة المصرية آنذاك إلى
جزأين، قبل،
وبعد. كانت المحاكم المختلطة — حتى عام ١٩٤٩م — أي قبل الثورة بثلاثة أعوام — هي التي
يوكل إليها تاريخ
الامتيازات والمحاكم المختلطة وشرائط نقل الملكية والتوثيق.
بدأ الوطنيون في الالتحاق بالمهن والوظائف التي كان يشغلها الأجانب، وكان تخرج الطبيب
الشاب،
وعمله في القرية، إيذانًا بزوال عهد الخواجة فوتي الذي ظل يعالج أهل القرية سنوات طويلة،
ويبتزهم في
الوقت نفسه.
١
ومع أن مظاهر النفوذ الأجنبي قد اختفت — على نحو ملموس — في الحياة المصرية، منذ نهاية
الحرب
العالمية الثانية، فإن تأثيرها الحقيقي لم يضعف كثيرًا، بل إن النفوذ المختفي راح يؤدي
وظيفته بأسلوبٍ
غير معلَن.
ولعلنا نجد مثلًا لذلك الأسلوب في زوجة حسين شاكر الإنجليزية (شيء في صدري) كانت وراء
معظم صفقاته
التي استطاع أن يصعد بها إلى سماء الحياة الاقتصادية في مصر، ومدام جورجيادس اليونانية
الأصل التي كان
محيي بك عارف يهبها فحولته، وينسب أمواله لها، مقابلًا لتهريب أمواله إلى اليونان.
وقد ظلَّت القاهرة بعامة أسلابًا موزَّعة — والتعبير للفنان — «حي السكاكيني وغمرة
والظاهر وكمية
اليهود فيه هائلة. أحلى بنات وأبرع دعارة ومشاهير المرابين، الطلاب في شبرا ولهم مدارس
كالخمائل، ومن
حولها أسوار، وممنوع مرور المصريين، الأروام والأرمن في السبتية، والفرنسيون والبلجيكيون
في هليوبوليس
وعين شمس. أما المعادي والزمالك وجاردن سيتي وكل النيل، فللأسياد الإنجليز. تسألني عن
الباشوات والبكوات
والأمراء، مع هؤلاء طبعًا، وهم أجانب أكثر من الأجانب. أما بقية الناس، لحم المدينة،
ففي أدغال ومستنقعات
ومخازن وبشر، مثل الحسين والسيدة والمغربلين وسنقر وباب الشعرية وأرض الخفير … وبرافو
للاستعمار
الإنجليزي!»
٢ لكن أعداد الجاليات الأجنبية تقلصت — فيما بعد — إلى حدٍّ كبير، عدا الجالية التركية
التي
ذابت — بتأثير الدين الواحد — في المجتمع المصري، لم تعد إلا اللكنة التي تدل — كما يقول
أبو حنفي في
قصة عباس الأسواني — على الأصل التركي.
وعلى المستوى العربي، فقد وُقِّعت في ١٩٥٠م معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون
الاقتصادي،
واستُحدثَت — فيما بعد — مؤسسات إقليمية، ومنظمات متخصصة، شبيهة بالمنظمات المنبثقة عن
الأمم المتحدة،
كاليونسكو العالمية، ومثيلتها اليونسكو العربية.
وأصدرت سلسلة «اقرأ» كتابًا في ١٩٥٠م، عن مشهد العالم — كما يتصوَّره الكاتب — في
بداية الألفية
الثالثة، وذهب الكاتب إلى أن إسرائيل ستظل قائمة، ولن تصبح — كما جرت التسمية آنذاك —
مزعومة!
ونتيجة لقدوم الجنود الأمريكان إلى مصر، أعوام الحرب العالمية الثانية، بدأ انبهار
رجل الشارع
المصري ﺑ «النموذج الأمريكي»، كان الجنود الأمريكان ينفقون عن سعة، بعكس الجنود الإنجليز
الذين كانوا
يتسوَّلون ويسرقون ويخطفون الأموال!
٣
•••
وحين عُيِّن حمدي (سلوى في مهب الريح) في وظيفة مدرس براتبٍ قدره خمسة عشر جنيهًا،
قال لسلوى: ما رأيك؟
أجابت: دخلٌ طيب.
وقالت: إنه ييسر لي أن أحيا حياة هادئة.
٤
وكان رأي الأم في ذلك المرتب، أنه لا يكفي لأن تشتري الزوجة التي تكرم نفسها معطفًا
لائقًا.
٥
وعندما يُعلن الابن (بعد الغروب) رغبته في العمل، يقول له الأب: «أنا لا أحب تسفيه
الرأي، ولا
الجدل الطويل العقيم، وإنما أقول لك يا بني، وأنا رجل طالت صحبتي للذهب: إنك إن أقدمت
على هذا، فلن تكون
غنيًّا، ستكون أداة من لحم ودم تستخدمك الدولة، وتمدك بزيتٍ يسمونه قُوتًا، فإذا ما فسدت
الأداة دفعوا عنه
تعويضًا يسمُّونه مكافأة أو معاشًا، وهو شيء لا يغني فتيلًا عن شيخٍ ضعيف يدب في طريقه
إلى القبر، وقد تكون
كثير الأولاد كأبيك، فلا تورِّث أبناءك إلا فقرًا ويُتمًا؛ إياك والبريق الكاذب.»
٦ ألا تذكِّرنا هذه الكلمات بما قاله أحمد عبد الجواد لابنه كمال حين أعلن اعتزامه دخول
كلية
المعلمين؟
•••
يقول الرجل: «عيب هذه البلاد الأوروبية العظيمة أنها لا تعرف كيف تأكل، إن بلادنا
جنة، إنك بخمسة
جنيهات تستطيع أن تأكل كل شيء في بلادنا. تصور طبق الشركسية بالفراخ أو الملوخية بالأرانب،
أو الكشك
الصعيدي بالضاني الصغير، أو … أو … صدقني أن بلادنا جنة، ولكنا لا ندرك قيمتها إلا عندما
نغادرها إلى
الخارج.»
٧ وكان مرتب محسن أفندي (انفجار) من عمله ستة جنيهات، يدفع منها جنيهًا أجرًا للمسكن،
وثلاثة
جنيهات على مأكله وملبسه، وجنيهَين يرسلهما كل شهر إلى والدته وإخوته في القرية، أما
ثمن الحلاقة
الممتازة فعشرة قروش، والوجبة الكاملة في مطعم فاخر، فلا تزيد عن ثلاثين قرشًا.
٨
وترك الراوي في قصة «امرأة في الجانب الآخر» خمسة وعشرين قرشًا مع مفتاح شقته، فلما
عاد من عمله،
وجد الطعام على المائدة، وعلى المكتب ورقة فيها حساب الطعام، والمبلغ الذي تبقَّى منه.
٩ وكان مرتب محسن أفندي (انفجار) ستة جنيهات، ينفق منها جنيهًا واحدًا أجرًا للمسكن، وثلاثة
على مأكله وملبسه، وجنيهين يرسلهما كل شهر إلى والدته وإخوته في القرية، وحين دخل مطعمًا
أنيقًا، وتناول
طعامًا جيدًا لم يذقه في حياته، فإنه قد دفع ثلاثين قرشًا لتلك الوجبة.
١٠
•••
دخلت في العديد من القرى مظاهر ثقافية مادية، كالسيارة والراديو والصحف، وأخذ التعليم
في
الانتشار.
١١ وصار دكان الحاج علي (هارب من الأيام) — على سبيل المثال — هو وسيلة المتعلمين في قرية
السلام: الحاج علي الطحان، المعلم الإلزامي، خطيب الجمعة، المأذون، لسماع الراديو، والتعليق
على
الأحداث.
١٢
لكن مظاهر التخلف في القرية المصرية ظلَّت قائمة إلى حدٍّ كبير، عمَّق منها رضا الفلاحين
عن واقعهم،
وميل بعض المتعاملين مع الفلاحين إلى استاتيكية أوضاعهم. وعلى سبيل المثال، فقد وَلدت
أم الراوي (آخر
العنقود) ست مرات، مات منهم ثلاثة قبل أن يتمُّوا العام، وواحدة قبل أن تتم العامين،
وظل الراوي وأخته
سعدية، وفي المرة السابعة ماتت الأم بتأثير نزيفٍ حاد، لم تعرف الداية كيف توقفه.
١٣ ويروي الفنان عن المرأة التي مات زوجها، فلجأت إلى التسول حتى تُطعِم وليدها،
١٤ ويروي الفنان أيضًا عن تردد السيدة على ديوان وزارة الصحة، طلبًا لشهادة الوراثة، ورغم
كثرة
تردُّدها، فإنها أصرَّت على عدم أخذ حقِّها بالرشوة.
١٥
وفي بحوث المعهد العالي للخدمة الاجتماعية بالإسكندرية، يبين لنا أن الأسر المصرية
— في المدينة
والقرية — لا تزال تلجأ إلى الداية في عمليات الولادة، وأن نسبة الأسر التي تلجأ إلى
الأطباء الخصوصيين،
أو المستشفيات الخاصة قليلة جدًّا.
١٦
•••
في ١٩٢٥م كان عدد الطلاب في مصر يبلغ نسبة ٢٠٪ من مجموع الصبية الذين بلغوا سن التعليم،
وكانت
الطالبات يمثِّلن خُمس عدد الطلاب. أما في ١٩٤٥م، فقد بلغ عدد الطلاب نسبة ٤٠٪ من مجموع
الصبية الذين بلغوا
سن التعليم، كما ارتفعت نسبة الطالبات في ذلك العدد إلى الخمسين.
١٧
وبالنسبة للتعليم عمومًا، فقد زادت ميزانية وزارة المعارف العمومية (١٩٥٢م) من مليون
و٦٠٠ ألف جنيه
في ١٩٢٠م، بما يمثِّل ٤٪ من مجموع ميزانية الدولة، إلى ٢٩ مليون جنيه عام ١٩٥١م، بما
يمثِّل ٢٣٪ من الميزانية.
وقد مات شعبان أفندي (البصمة) غمًّا لضياع هيبة الوظيفة، بعد أن تجرَّأ بعض الفلاحين،
ووقَّعوا
بإمضاءاتهم على الاستمارات، بدلًا من استخدام الختم «ما دام الفلاحين حيمضوا، لزومنا
كلنا إيه؟! لزومنا
إيه؟!»
١٨
أنشئت جامعة إبراهيم باشا (عين شمس) في ١٩٥٠م، وزاد عدد طلبة الجامعات من لا شيء
تقريبًا في ١٩١٣م
إلى ٤١ ألف طالب في ١٩٥١م،
١٩ وقد عاب قطامش (١٩٥٢) على مجانية التعليم التي نفَّذتها حكومة الوفد، أنها جعلت السقَّا
يعلِّم
ابنه في مدرسة السعيدية.
٢٠ وثمة مَن وضع مجانية التعليم في إطارٍ مشبوه، إلى حد المطالبة بأن تتحرك القوى الطليعية،
وأن
يكون تصديها لهذه المؤامرة من ألزم الواجبات،
٢١ أثيرت اتهامات بأن المجانية في الجامعات تُمنَح لأبناء الوزراء والإقطاعيين.
٢٢ ويقول إحسان (الكهف): كيف يريدون إعفاء أولاد الأغنياء من دفع المصروفات؟ من يقول إن
أولاد
الباشوات والبكوات يتعلمون بالمجان؟ إنني أشك، لا، بل أجزم بأن هذه الحملة يغذيها بعض
كبار
الأغنياء.
٢٣
كان رأي طبقة السراة أن «صنف فلاح يفهم بالجلد.»
٢٤ وكان طه حسين وزير المعارف العمومية في حكومة الوفد قد أجرى إصلاحات مهمة في التعليم،
في
مقدمتها تقرير مجانية التعليم الثانوي والفني، وتغذية التلاميذ على نفقة الدولة، وتوحيد
نظام التعليم في
المرحلة الأولية في المدارس الابتدائية، وفتح آلاف الفصول الجديدة، وقد أخذ الراوي (السحر
الأسود) على طه
حسين تلك القرارات، لأنها — في تقديره — ستتيح الفرصة لأبناء البوابين والحوذية وباعة
الخضار وغيرهم، كي
يتسلقوا في سُلَّم المكانة الاجتماعية عن طريق التعليم.
٢٥
•••
وعلى الرغم من ذلك، فإن الرجل يؤكد «إننا نرجو أن يأتي الوقت الذي يمثل الفلاحين فيه
بالبرلمان،
فلاحون منهم، والعمال عمال منهم، وعندئذٍ تكون الطبقات العظمى من الأمة ممثَّلة فيه.
– ما هذا؟ أتتصور أن يذهب فلان الأجير إلى البرلمان ليمثِّل جماهير الأُجراء المماثلين
من العاجزين
عن كسب عيشهم؟ أتريد أن يذهب إلى هناك عاري الجسم حافي القدمين؟ إنه يكون منظرًا لطيفًا
حقًّا. تصوره
يقف على المنصة، وفوق رأسه طاقيته الصوفية، ليخطب في النواب حقًّا، إنه لمنظر ينوء به
الخيال
الخصيب.
– ولم لا؟ إنه هو الصورة الحقيقية للملايين من المصريين. إن الأفندية والبكوات والباشوات
والأساتذة الذين يعمر بهم البرلمان، لا يمثِّلون حقيقة إلا نسبة ضئيلة جدًّا من سكان
مصر، وإننا نريد أن
نعرف: هل خُلِق البرلمان ليمثِّل الرأي العام، أو ليمثل السادة فحسب، وليذهب مع الشيطان
العبيد؟
– لكنك نسيت أن هذه الغالبية العظمى من السكان التي تنخرط في سلكَين: أُجراء الريف
وأُجراء المدن من
الفلاحين والعمال لا يعرفون مجرد القراءة والكتابة. إنهم غارقون في بحور الجهالة، فكيف
تتصور أن يقف
أحدهم بمجلس النواب ليتكلم باسم نظرائه، أو حتى باسم نفسه. إنه لا يكاد يفهم شيئًا، إنه
بحاجة إلى
وصاية، فهل تريد منه أن يبدي رأيًا في السياسة، أو يجادل في أمورها، أو يناقش؟»
٢٦
وكان من أهم المشكلات التي يعانيها أبناء القرية المصرية رزية الجهادية، ومصيبة البحر
— النيل —
حين يفيض.
٢٧ ويقول رشاد (رجل يشتري الحب): الفلاحون يقسمون القادمين من المدينة إلى أقسام، فهم إما
محضرون أو أطباء أو وكلاء نيابة.
٢٨
•••
في ١٩٤٧م، صدر قانون التجنيد الجديد الذي ألغى البدَل النقدي، وخفَّض مدة الخدمة
العسكرية الإلزامية
من خمس إلى ثلاث سنوات، وسنة واحدة لذوي المؤهلات، وسمح بتأجيل تجنيد الطلبة حتى سن ٢٧
عامًا.
٢٩ ولأن بطاقات تحقيق الشخصية لم تكن منتشرة، فقد كان لشيخ الحارة دوره المهم في ضمان المشتبَه
بهم، أو المتعاملين مع الشرطة عمومًا.
٣٠ وقد ضمن شيخ الحارة «أزهار» رغم أنه لم يكن يعرفها، ولم تكن تقيم في دائرته، بل وفي
دائرة
قسمه، فإنه قد وافق على ضمانها حالًا لقاء عشرة قروش.
٣١ ثم فقدت وظيفة شيخ الحارة قيمتها — بالتدريج — في وسط جموع حافلة من أفراد غرباء عنه
لا
يعرف عنهم شيئًا.
٣٢
•••
يقول الرجل: «إن الألقاب قد وُزِّعت بغير حساب، حتى لم يعُد في مصر من الأفندية إلا
عمر أفندي ويوسف
أفندي.»
٣٣
وقد ناقش سليم علوان (زقاق المدق) — لفترة طويلة — اقتراحًا بأن يتبرع بقدر من المال
لأحد
المشروعات الخيرية، حتى ينال رتبة البكوية. وأظهر الرجل ترددًا، فحثَّه الصديق بالقول:
كيف لا تكون بيكًا
والبلد ملأى ببكوات وباشوات دونك مالًا وجاهًا ومقامًا.
٣٤ أما الباشا (إني راحلة) فقد تبرع بمبلغٍ ضخم لمشروعٍ خيري، فمُنِح رتبة الباشوية.
٣٥
ويقول عثمان (الحصاد) لعمه سليم شلبي: «فكرت طويلًا في العشرة آلاف جنيه التي دفعناها
ثمنًا للباشوية المنتظَرة، فوجدت أنها لا تستأهل
مثل هذا المبلغ الكبير، عشرة آلاف جنيه لقاء كلمة؟
– أتعتقد أن الباشوية لا تساوي عشرة آلاف جنيه؟
– اعتقاد اليقين.
– وأننا مغبونون في هذه الصفقة؟
– غبنًا ما بعده غبن.
– ما زلت غبيًّا كعهدي بك، هذه أربح صفقة عقدناها.
– أربح صفقة؟
– وأفضل عملية استثمارية قمنا بها.
– لا أفهم شيئًا.
– لو كنت تفهم لما كان هذا حالك، أبواب الوزارات كلها ستُفتَح في وجوهنا ما دمنا
نحمل الباشوية،
الموظفون سيتنافسون في تلبية رغباتنا، الأرض البور التي اشتريناها ستُشَق فيها ترعة،
أربعة آلاف فدان من
الأرض البور تصبح جنة وارفة الظلال، ألا يساوي ذلك ما دفعناه؟»
٣٦
وحين قدَّم محمد خطاب مشروعه لتحديد الملكية إلى البرلمان، تطوع المفتي بإصدار فتوى،
ملخصها أن
توزيع الملكية مخالِف لتعاليم الدين، ونبَّه خِطاب الرجل إلى أن المشروع خاص بتحديد الملكية،
فأصدر المفتي
فتوى ثانية بأن تحديد الملكية مخالِف لما جاء في كتاب الله.
٣٧
وثمة ثلاثة، كانوا يحتلون قمة رأس المال المصري الخاص، وهم: علي أمين يحيى، محمد فرغلي،
أحمد
عبود، وهذه الأسماء الثلاثة بالذات كانت تمثِّل قمة الرأسمالية، سواء من ناحية السلطة،
أو من ناحية الجاه
والثروة، أو من ناحية التعاون مع الرأسمالية الأجنبية، وإن كانت طبيعتهم — كرأسماليين
— تجعلهم — في
كثير من الأحيان — يختارون لأنفسهم طريق مصلحتهم الذاتية.
وكان شيخ المسجد في القرية الصغيرة، يواجه الانتقاد بأنه لا هَمَّ له في دنياه —
على كثرة ما يحفظ من
سِيَر ومواعظ — سوى أن يملأ كرشه الواسع، ويزيد ماله بالبيع المؤجَّل بربا النسيئة، زاعمًا
أنه مشروع على
مذهب ابن حنبل، وأنه يصلي ويفتي بمذهب، ويتاجر بمذهب آخر، وباب الفتاوي والأقوال مفتوح
المصاريع.
٣٨ واقتحمت المرأة المصرية مجال السلك الدبلوماسي للمرة الأولى في ١٩٥٠م، عندما عُيِّنت
الآنسة
علية فهمي ملحقة صحفية في باريس لشئون السياحة والدعاية، واشترت السيدة زينب الوكيل (حرم
مصطفى النحاس)
قصرًا في بيروت. ورفضت المحكمة الشرعية شهادة أم كلثوم؛ لأنها مغنية، وهو ما يناقض من
تغيُّر الصورة —
وهنا المفارقة الغريبة — إلى العاملين في الصالات والكازينوهات. وكما يقول الراوي، فإن
هذه الطائفة من
أهل الفن قد أصبح لها اعتبارها ومكانتها.
٣٩
•••
وإلى الخمسينيات، كانت الباخرة هي الوسيلة الأولى للسفر إلى الخارج، وحين يطرح حسين
على ليلى
إمكانية لحاقها به في الخارج، فإنه يشير إلى الباخرة التي تستقلها، ولا يتحدث عن الطائرة.
٤٠ ولم تكن الثلاجة قد دخلت معظم البيوت المصرية، فالأسر تغلي ما تبقى من الأكل وتضعه في
البلكونات حتى لا يحمض.
٤١ وبدلًا من اللمبة نمرة ٦، والكلوب، بدأ يتردد على الألسنة مفردات مثل: السلك المكسي،
والسلك
العريان، والبريزة، والكوبس، والماس، والفولت، والكيلو وات.
٤٢ والدلالة واضحة في دنو الأم من مصباح الكيروسين، لتتذكر بأنه قد وُضِع مكانه زر
النور.
٤٣
ويصف الفنان لحظات العتمة التي كانت تعيشها القرية المصرية قبل أن يدخل النور: يسود
الظلام، ويرقد
الفلاح بجانب زوجته. ومع الظلام تنطلق الجن والعفاريت الزرق، وينطق الوسواس الخناس. ليس
للزوج شغلة، أو
مشغلة، ستكون خير وسيلة لقتل الوقت، وخير نزهة للبدن والخيال ملاطفته لزوجته، وإن كان
لها بالنهار
مجافيًا، وإن كان قد شبع منها كل الشبع، وإن كان التعب قد هدَّ حيله، وبعد تسعة أشهر
بالتمام والكمال
يُرزَق الأب بالابن العاشر، أو الثاني عشر.
٤٤ وكان الأطفال الصغار أسعد الجميع لوفاة الشيخ فراج، فلن يكون مساء يوم الوفاة كئيبًا
مثل
بقية الليالي؛ ستَشِع أنوار الكلوبات، ويمتد نورها في الساحة، ويلعبون حتى الفجر دون
أن يزجرهم أحد،
لانشغال الجميع بالمأتم، ويأكلون اللحم على روح المرحوم.
٤٥ ويقول الرجل (إبراهيم الكاتب) «إنكم يا أبناء المدن لم تألفوا النظر في الظلام!»
٤٦ وكان رأي المتعلمين من أبناء القرى، أن دخول الكهرباء سيغير من كل شيء «ستحيل الأسود
إلى
أبيض، والركود إلى حركة ونماء، وستدفع بكل ما في حياتنا إلى الأمام، خطوات وخطوات.»
٤٧ وكانت علاقة الرجل (الفراشة) بفانوس النور تعود إلى أيام طفولته. كانت مصابيح الغاز
— آنذاك
— جديدة في القاهرة. وكان هو — وغيره من الصبيان — إذا أقبل المساء، يطوفون شوارع الحي
وحاراته، خلف ذلك
الرجل الذي يرتدي بذلة وعمامة ويسير حافيًا، وفي يده عصًا طويلة، في آخرها شعلة يُوقِد
بها مصابيح الغاز
بعملية فنية عجيبة، والأولاد من خلفه عشرات، يزنونه مترنمين كأنهن كورس كبير: عفريت الليل
بسبع رجلين.
ظلت أحياء وقرًى بأكملها — لأعوام طويلة — تعاني غياب النور الكهربائي (أذكِّرك ﺑ
«أرخص ليالي») وتكتفي
بالمصابيح البترولية، لمبة نمرة خمسة، نمرة عشرة، الكلوب، وغيرها،
٤٨ وكانت معظم مدن الصعيد تُضاء بالكلوبات ولمبات الجاز.
٤٩ وحين تعرَّف الشاب الريفي (مجرد ذكريات) على الكهرباء للمرة الأولى، تصور أن إطفاءها
بنفخ
اللمبة، وليس بالضغط على المفتاح.
٥٠
ثم لم يعُد مصباح الشارع هنا غازيًّا، بل كهربائيًّا، كان المصباح يقوم في صندوق
زجاجي قاعدته صغيرة،
ولكن أعلاه متسع.
٥١
•••
أخلت مدينة العصور الوسطى مكانها للمدينة الحديثة؛ ذوَى السقا والحمير وعربات الخيل
والبغال
والنحاس والمشربيات والفوانيس وخيال الظل والأراجوز … إلخ.
٥٢ كما تناقصت الخيول في القرى، حلَّت بدلًا منها السيارات واللوريات،
٥٣ وشحب عصر عربات الكارو ذات العجلتين أو العجلات الأربع، حلَّت بدلًا منها سيارات النقل
الخفيف
والمتوسط والثقيل.
وإذا كان الحوذية قد بدءوا يشهدون غروب نفوذهم منذ بداية الخمسينيات على وجه التقريب،
فإنهم كانوا
— إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية — قوة لا يستهان بها، حتى إن المحامي حنفي جمعة
لجأ إلى المعلم
حسن، رئيس نقابة الحوذية، ليعاونه في الانتخابات.
٥٤
ذهب العصر الذهبي للحنطور، ضيَّقت المحافظة الخناق عليه، وحددت لمسيره شبكة ملتوية
من الطرق، بعيدة
عن قلب المدينة، واقتصر على نقل السياح. ويقول عم محمود لنفسه: «نعم، ذهب العصر الذهبي
للحنطور، وضُيِّقت
عليه الخناق، وحُدِّدت لمسيره شبكة ملتوية من الطرق بعيدة عن قلب المدينة.»
٥٥ أصبح الحنطور وسيلة ترفيه ونزهة، وليس وسيلة مواصلات حقيقية، ولم يعُد أمام أبو زينهم
الحوذي
إلا أن يتذكر أيامًا كان يقف فيها أمام لوكاندة «شبت» — شبرد — وملهى «الباريزيانا» بعربته
التي كانت
من أكثر عربات الأجرة أناقة في العاصمة، كان طربوشه الأحمر الطويل مكويًّا، وجواداه الأبيضان
محط أنظار
الجميع، على الدوام.
٥٦
•••
في أخريات الحرب العالمية الثانية، قال حسين شداد (السكرية) لكمال عبد الجواد: هذا
الطربوش الذي
لم يعُد أحد يلبسه غيرك!
٥٧ لكن الطربوش — في تقدير آخرين — كان هو التعبير عن «المصرية»، ولا يخلو من دلالة اشتياق
الرجل إلى الطربوش إبان إقامته في باريس، إنه يشتاق إلى الطربوش، فهو إذن يشتاق إلى مصر.
وكان محمد علي هو أول من أدخل صناعة الطربوش في مصر بعد سنة ١٨٠٨م، ومن الغريب أن
الإنجليز كانوا
أحرص على أن يرتدي الموظفون المصريون طرابيشهم الحمراء، حتى في تلك الحفلات الرسمية التي
يُدعَون إليها
«إنها مظهر من مظاهر سيادتهم.»
٥٨ كما بدأ الطربوش في الاختفاء، وهو ما حدث للملاية اللف، كما اختفى البرقع، وأصبح الوجه
سافرًا،
٥٩ ثم تحوَّل باعة — ومكوجية — الطرابيش — فيما بعد — إلى تجارة الخردوات والهدايا واللعب
والسجاير، وامتنع الكثير من الشبان عن ارتداء الطربوش، باعتباره أثرًا من آثار العهد
التركي،
٦٠ ولأنه غير عملي. وإذا كان فكري أفندي (الحرام) قد وضع منديله أسفل الطربوش بهدف أن يجعل
منه
قبعة، فإن الرجل كان يفعل ذلك — في الحقيقة — ليحُول بين عرق جبهته وقفاه، وبين حافة
الطربوش. وحين
اضمحلت مهنة كواء الطرابيش، نتيجة لتخلي الناس عن عادة استخدام الطربوش، باع الرجل «عدَّته»،
وتقلَّب بين
حِرف عديدة لا حصر لها، وتنبَّأ الفنان أن الطرابيش والجلابيب والقفاطين والعمائم، ستصبح
من الشذوذ المضحِك
للكبار، حين يراهم الأطفال في المستقبل.
٦١ كما قَلَّ ارتداء اليشمك والتربيعة والمنديل بأويه، وابتعدت المرأة (الملاءة اللف) عن
البيئة
التي نشأت فيها، والتي تفرض على المرأة — منذ أن يخرطها خرَّاط البنات — الملاءة اللف
والبرقع، ترقَّت من
خادمة إلى مربية أطفال، وتقاضت راتبًا لا بأس به، وتشرَّبت مظاهر المدنية، فبدَّلت من
أزيائها، بما يعني
أننا نرتدي الثياب حسب البيئة والطبقة التي ننتمي إليها،
٦٢ وعندما تزوجت من صاحب مقهًى صغير، أصر على أن ترتدي الملاءة والبرقع، كلما خرجت من بيتها
إلى
بيت مخدومها. رفضت، لكنه أصر، أكد أنه لا يحتمل أن يرى زوجه تسير في شوارع بولاق مكشوفة
الوجه، وترتدي
ثوبًا يكشف عن صدرها وذراعيها، وارتدت المرأة الملاءة والبرقع، لكنها حرصت على أن تخلعهما
في بيت
مخدومها، وكانت بذلك تؤكد انتماءها إلى بيئة مغايرة، وطبقة أخرى!
٦٣ وكانت ملاحظة السفير البريطاني (١٩٤٧م) أن مصر قد تطورت في السنوات العشرين الأخيرة،
وأن
أبرز ما في هذا التطور هو ارتقاء أزياء السيدات المصريات، حتى أصبحت تماثِل أزياء أوروبا!
٦٤ وكان الشبان يسرِّحون شعورهم إلى الوراء، لأن تلك كانت الموضة آنذاك، تأسيًا بالنجم
أنور
وجدي،
٦٥ وحلَّت السوستة في البنطلون محل الأزرار، وبدأت دكاكين المخدِّمين في إغلاق أبوابها،
أو تغيير
أنشطتها إلى أعمال منافية للآداب.
٦٦
ورغم هذا، فإن أحمد عباس صالح يلاحظ أن نسبة عالية من سكان المدن — عدا سكان الريف
— لم يكونوا
يعرفون أي شكل من أشكال النعال.
٦٧
ولأن السباعي ابن مدينة، وتغيب عنه تقاليد الريف، فقد جعل الفتى والفتاة يتنزَّهان
على مرأًى من
الجميع، لمجرد أن والدَيهما قرآ الفاتحة.
٦٨ وكما يقول الفنان، فإن ما أصبح عاديًّا الآن من مظاهر المدنية الأوروبية الحديثة، كان
يُعَد
فضيحة شائنة تكفي للقضاء على سمعة عذراء، قبل الآن بعشرة أعوام.
٦٩
•••
ومن الصور التي اختفت، أو أوشكت على الاختفاء: الملاية اللف، بائع العرقسوس، السقا،
الأراجوز،
الفونوغراف، الزار، مبيض النحاس، الطرابيشي، المحمل، الحنطور، الحمَّام الشعبي، طاسة
الخضة، موكب جهاز
العروس، عفريت الليل، الذي كان يردِّد الأطفال وراءه: عفريت الليل بسبع رجلين، عاري القدمين
حاملًا عصًا
طويلة، يضيء بنهايتها أعمدة النور التي يُستخدَم فيها غاز الاستصباح،
٧٠ القرداتي،
٧١ معه القرد والعنزة ذات البردة الحمراء والكلب ذو الجلاجل،
٧٢ الكواليني، السنَّان (سنَّان السكين)، الحمَّار، البرادعي (صانع برادع الحمير)، السروجي
(صانع
سروج الخيل)، بائع الدندرمة، بائع النداعة أو الحلابسَّة، حلوى بيضاء على عمود طويل في
نهايته شخشيخة،
يهزها البائع فتحدث صوتًا يجتذب الأطفال،
٧٣ بائع الفانيليا، رقائق من الدقيق سُويَت في صندوق أسطواني الشكل،
٧٤ علي لوز، حلوى مصنوعة من السكر المعقود، فوقها حبات من اللوز المقشور وأجزاء من
الكراميلا،
٧٥ أراجوز المولد، الحاوي، ضاربة الودع، آكلو النار، الرفاعية الذين يستخرجون الثعابين
من
البيوت، الأفندية الذين يتقدمون الجنازات،
٧٦ النقرزان الذي يرقص والصولجان مرتفع على أسنانه،
٧٧ عربة الرش، من ورائها أطفال، شلحوا جلابيبهم إلى الأعماق لتغطي العربة أجسادهم النحيلة
بالمياه المتدفقة منها، وغيرها.
٧٨
وكان مما يعتز به آل العمري، أنه ما من عروس تُزَف إلا وتقتني نحاسها من محل العمري.
٧٩ ثم أدى انتشار الألومنيوم إلى اختفاء مبيض النحاس، بعد أن اختفت الأدوات والأواني النحاسية
التي كان يبيِّضها.
٨٠ وكان مبيض النحاس يتجول في الشوارع والحواري والأزقة، ينادي: أبيَّض النحاس … و… أبيَّض
النحاس.
٨١ عمله يبدأ بإخراج الأجَنَة والقادوم، ويُعِد الحفرة التي سيدفن فيها فوهة المنفاخ، ويرص
فوقها
بضعة قوالب طوب، ثم يُخرِج من «الخُرج» كومة من الفحم، يبدأ في رصِّها في الطرف الآخر
من الحفرة، ثم يحرك
المنفاخ ليشعل النار في الفحم، ويبدأ بعد ذلك في جلي النحاس بالحمرة، ثم يقف في قاع إحدى
الحلل ليدعكها
بقدميه.
٨٢ (لما ضاقت الأمور بمبيض النحاس إبراهيم الرقاص، اشتغل عاملًا بالترحيلة.)
٨٣ وثمة بائع الثلج الذي يحمل على ظهره المقوَّس ألواح الثلج، ليُودِعها في بيوت وقصور
الأثرياء
(أصبحت في خبر كان بظهور الثلاجة!) وذَوت صورة بائع العرقسوس بزيه التقليدي: الفوطة الحمراء
القديمة
النظيفة، لفَّها حول وسطه، وفانلة بمبة بأكمام،
٨٤ يدق بالصاجات النحاسية، وينادي بصوته الرتيب الواهن: يا مرطب!
٨٥ — كم نطقت بالحياة في لوحة محمود سعيد الشهيرة! — وكان عم عوض السماك يتحوَّل في المساء
إلى
منادٍ يناشد الناس العون في البحث عن الأشياء المفقودة، وفي مقدمتها الأطفال طبعًا: يا
ولاد الحلال … ولد
تايه يا ولاد الحلال!
٨٦ وقد تتخلل المناداة على اسم الطفل التائه لفظة «يا عدوي»، حيث إن سيدي العدوي هو الولي
المسئول عن إعادة الأطفال الغائبين،
٨٧ وشحبت عمومًا صورة المنادي الذي ينادي عن الجزارين، وعن أنواع الذبائح، وعن التائهين،
ومواعيد الري والصرف ومقاومة الدودة.
٨٨ وقد يكون المنادي ضريرًا، تقوده طفلة صغيرة، يعلو صوته بين فترة وأخرى: ولد تايه يا
ولاد
الحلال … ولد تاه من امبارح. والمبخراتي رجل أطال ذقنه، ووضع على رأسه طرطورًا. وتدلَّت
في يده مبخرة تصاعد
منها البخور، يديرها وهو يطلق صيحات غير مفهومة، ولا ينصرف حتى يُوضَع المليم أو النكلة
في يده،
٨٩ واختفى دكان الحصري، أو كاد،
٩٠ واختفى السقَّا بندائه الأشهر: يعوض الله! وقَلَّ وجود العرضحالجي أمام أقسام الشرطة
والمحاكم
ومكاتب الشهر العقاري، أجره يخضع للجود أكثر مما يخضع لتسعيرة محددة، زادت أعداد المتعلمين،
فقلَّت الحاجة
إلى العرضحالجية. وكانت مهنة عم سليمان في البلدية، هي توزيع مصايد الفيران على البيوت
التي تشكو من
وجود فيران.
٩١
ولم يعُد الباعة يعلنون عن سلعهم — كما كان الأمر من قبل — بالأغاني،
٩٢ وتحوَّل كرياكو من حمل صندوق الدنيا، وعرض مشاهده على الأولاد، إلى بيع الصابون والمسك
والأمشاط والمناديل الحريرية الملونة وبعض العطور، يطوف بها القرى والعزَب، ومعظم زبائنه
من
النساء.
٩٣ واحتج الحانوتي بأن الطب تقدَّم، فأصاب الحانوتية بوقف الحال، بعد أن صار الموت
نادرًا.
٩٤
•••
في «يا أمة ضحكت» ليوسف السباعي، يقف الرجل أمام لافتة دكان فول كُتب عليها «المطعم
الوطني الوحيد»،
ويتساءل: تُرى من الذي سرق من الآخر لقبه: مطعم الفول أم الزعماء؟!
٩٥ ويقول الحكيم: «إن أولئك الذين يردِّدون زاعمين أن الثورة قد صُنعَت صُنعًا بأيدي بضعة
رجال، هم
وحدهم الذين شعروا بالفساد، في حين أن الأمة كلها من حولهم كانت لاهية ذاهلة، وأن أهل
القلم كانوا كلهم
يحملقون في الفراغ، ولا يسجلون غير مشاعر أهل المريخ … هذا القول يكذب على أدب القصة،
كما يكذب على
الثورة، وكذبه على الثورة أخطر من كذبه على الأدب.»
٩٦
من الصعب تبين الإيجابية — على المستويين السياسي والاجتماعي — في «القاهرة الجديدة»
و«مليم الأكبر»
و«خان الخليلي» و«يا أمة ضحكت» و«أرض النفاق» وغيرها … من الصعب تبين الإيجابية في تلك
الأعمال، إلا بالوقوف
عند أعمال مغايِرة لهؤلاء المبدعين أنفسهم، مثل «هذا هو الحب»، «بين الأطلال»، «إني راحلة»،
«السراب»، «اثنتا عشرة
امرأة»، «بائع الحب»، «صانع الحب»، وغيرها.
ولنقرأ هذه الفقرات: «ثم ناولتها قدح القهوة، وذهبت هي جلست على وسادة وضعتها على
الأرض أمام
الموقدة، ترشف القهوة في سكون، وقد انعكس على وجهها نور اللهب الأحمر. وأغمضت عينيها،
عينَي بقر الوحش
الحزين، ثم قالت بصوتٍ خافتٍ: تعالَ هنا. واقتربت منها: اجلس هنا، اقترب أيضًا! وأراحت
رأسها على كتفي،
وقالت وهي لا تزال مغمضة العينين: كم أنا متعبة. ومررتُ بيدي على شعر رأسها، وفتحت عينيها،
وقالت:
أحيانًا، ولغير ما سبب مفهوم، تجتاحنا تيارات من عواطف متناقضة، فتهزنا حتى الأعماق،
ونحس بحاجة طاغية
إلى صدرٍ نحتمي به، أو كتف نلقي رأسنا عليه، ونستريح … هكذا! … هكذا!
وقالت المرأة، بعد ما بدا أنه لقاء جسدي: هل أنت نادم؟
قال: أنا؟ كان في خاطري أن أسألكِ أنتِ هذا السؤال، هل أنتِ نادمة؟
قالت: نادمة؟ كلا، ولكن أنت! ربما أضفت إلى ذكرياتك ذكرى لم تكن تطلبها، وقد تثقل
عليك.
ثم تضيف المرأة: لم يكن هناك ضعف منك ولا ضعف مني! كلانا كان مفتح العينين وسيد نفسه
تمامًا! وكلانا أراد ما
كان! وما جرى كان أقوى منك ومني، فلماذا نشوِّهه؟ ولماذا نحاول أن نتلمس الأعذار والمَخرج
السهل، ونتهم
الضعف؟!»
٩٧
من هنا، يأتي وصف عبد الرحمن الشرقاوي لسنوات ما قبل الثورة بأن القصة فيها كانت
«تتجه أساسًا إلى
النساء الصغيرات، وإلى العذارى الحالمات، وكان كُتاب القصة في مصر يملكون النفوذ بقدر
ما يثيرون في
النفوس الغضة من أحلام اليقظة، أحلام جنسية في الغالب.»
٩٨ ويضيف إبراهيم ناجي أن فن القصة في مصر (١٩٥٠م) كان يرسف في قيود الرومانسية المفرطة،
رومانسية متشائمة معلولة باكية شاكية، مغالية في الأنين، مسرفة في التأوهات.
٩٩
أما صلاح ذهني، فقد عاب على القصة المصرية أنها تقريرية «الحزن فيها حزن مصري محدود
بالإقليم
والظروف والمناخ، والفرح فيها فرح محلي، والعواطف فيها مدموغة بأسماء المدن والأقاليم.»
١٠٠ وذهب ذهني إلى أن هذا اللون من الأدب يفيد الباحثين عن الجديد الطريف، فيَسُر القارئ
الأمريكي
— مثلًا — أن يقرأ القصة المحلية المصرية، وهو الشعور الذي يتملَّكه وهو يركب الجمل،
وأبا الهول، وقوافل
البدو.
١٠١
والحق أننا لا نعتبر ما سبق من آراء نهائيًّا، أو حاسمًا، لقد حفلت الأعمال الإبداعية
بالتعرية
والإدانة والتنبؤات والتوقعات. كانت «أرض النفاق» و«يا أمة ضحكت» و«القاهرة الجديدة»
و«بداية ونهاية» و«في
الوظيفة» و«مليم الأكبر» و«المعذبون في الأرض» … كانت هذه الأعمال وغيرها وثائق فنية
ضد فترة ما قبل الثورة،
صدرت في العهد نفسه بأحكامه العرفية، وقوانينه المكبِّلة للحريات، وهي — إلى ذلك — تأكيد
بمواكبة الأدب
للمسار الثوري. وكما يقول الحكيم في مقدمة «يا أمة ضحكت»: «ما يقوم دليلٌ على أن الأدب
القصصي قد أدى
مهمته على قدر إمكانه، وعلى قدر ما كانت تسمح به الظروف في تصوير العديد من العيوب، وتسجيل
الكثير من
المشاعر والأفكار التي كانت تشغل الناس في تلك الفترة.» يضيف محمد مندور: «إن الثورة
الفكرية الأدبية
التي يدعو إليها شبابنا الناهض، أقدم من الثورة نفسها، بل لعلها هي التي مهَّدت لتلك
الثورة، وضمنت لها
النجاح بنشر الوعي بين طبقات الشعب المختلفة، وبخاصة بين الطبقة المستنيرة من الشبان،
وتلك هي الطبقة
التي تقود الرأي العام المنساق، أي أغلبية الشعب الساحقة.»
١٠٢
ثمة — على سبيل المثال — «المعذبون في الأرض» الذي نشر طه حسين قصصه — قبل أن يضمَّها
كتاب — في
الفترة من ١٩٤٦م إلى ١٩٤٩م ليعظ — على حد تعبيره — الطغاة والبغاة، ويعزِّي البائسين
واليائسين.
١٠٣
والحق أن اتجاه طه حسين إلى القارئ بالمخاطبة لم يكن وليد ذاته، ولا ابتكارًا غير
مسبوق، سبقه إلى
ذلك كُتاب الواقعية الطبيعية الفرنسية، وفي مقدمتهم بلزاك في قصته «على من يقع اللوم».
الفنان هنا يشغله
توضيح بعض الأمور للقارئ، أو يُظهِر له نوعًا من التحدي، أو السخرية، وهو ما فعله طه
حسين. ويقول أستاذنا
شكري عياد: «ولعلنا لا نغلو إذا قلنا إن «المعذبون في الأرض» هذا الكتاب الذي ينفي عن
نفسه بشدة أن يكون
مجموعة قصص قصيرة، قد حوَّل اتجاه القصص القصيرة في مصر، لقد فتح الباب على مصراعَيه
لتصوير الجوانب
المظلمة من المجتمع المصري قبل الثورة، فاندفع في هذا الباب جيلٌ كاملٌ من كُتاب القصة
القصيرة.»
١٠٤
أهدى طه حسين كتابه إلى «الذين يحرقهم الشوق إلى العدل، وإلى الذين يؤرقهم الخوف من
العدل، وإلى
الذين يجدون ما لا ينفقون، وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون.» وقد شرح طه حسين كلمات الإهداء
في المقدمة
التي أضافها إلى الكتاب بعد قيام الثورة: «لا أجد لتصوير الحياة في مصر أثناء الأعوام
الخيرة من العهد
الماضي، أدق من هذين الإهداءين اللذين يقرؤهما كلُّ مَن تناول هذا الكتاب، فقد كان المصريون
— في تلك
الأعوام القريبة البعيدة — فريقَين: أحدهما يصور الكثرة الكثيرة البائسة التي تتحرق شوقًا
إلى العدل
مصبحة وممسية، وفيما بين ذلك من آناء الليل وأطراف النهار، والآخر يصور القلة القليلة
التي تشفق من
العدل حين تستقبل ضوء النهار، وتفزع من العدل حين تجنُّها ظلمة الليل. وكان فريق الكثرة
ذاك لا يجد ما
ينفق في رزق نفسه، وفي رزق من يعول، فيشقى بما يجد من الحرمان، ويشقى أشد الشقاء، وأعظمه
نكرًا، بما يجد
عياله من الحرمان.»
الكتاب يتناول وضع الطبقات الأدنى، والظلم الذي تئن تحت وطأته من حُكم الإقطاع، فلا
يجد أفرادها في
النهاية إلا الهروب من الحياة. قيمة أعمال طه حسين الحقيقية — في تقدير ماهر شفيق فريد
— «أنها صور
اجتماعية صادقة، تنقل ألوانًا من معاناة الفقراء في صعيد مصر، وتصوِّر ضغوط البيئة على
شخوصٍ محاطة بالجهل
والتخلف.»
١٠٥
أما صالح، فهو — كما يقول طه حسين — «لم يوجد قَطُّ، لأنه يملأ المملكة المصرية من
شرقها إلى غربها،
ومن شمالها إلى جنوبها، يوجد في المدن، ويوجد في كل مكان، يملأ مصر نعمة وخيرًا، يشعر
الناس بأن مصر بلد
البؤس والشقاء، لم يوجد صالح قَطُّ لأنه يملأ المملكة المصرية، وإذا أسرف الشيء في الوجود
فهو غير موجود.»
أضاف الفنان أن في حياة كل واحد منا — نحن كثرة المصريين — شيئًا من صالح «فصالح صورة
البؤس والشقاء
والحرمان، وما أقل المصريين الذين لا يصورون بؤسًا ولا شقاء ولا حرمانًا، وليس البؤس
قاصرًا على هذه
الصفة التي تأتي من الفقر، وما يستتبعه الفقر من الجوع الذي يمزق البطون، والإعدام الذي
يمزق الثياب،
ويظهر من ثناياه الصدور والظهور والأكتاف، ولكن البؤس قد يتصل بأشياء أخرى ليست جوعًا
ولا إعدامًا،
ولكنها قد تكون شرًّا من الجوع والإعدام، لأنها تتصل بالنفوس والقلوب، وإني لأعرف قومًا
كثيرين تمتلئ
أيديهم بالمال، ويعظم حظُّهم من الثراء حتى يضيقوا به، وهم مع ذلك يجدون بؤسًا أي بؤس،
وشقاء أي شقاء،
ويتخذون زهرات الحقول، أو هذا الزهر الذي تصنفه أيدي الحِسان تصنيفًا في الحواضر والمدن
وسيلة إلى ثراءٍ
يصيبونه عند من يكونون أقل منهم غنًى، وأضيق منهم ثراء.» أما أمين «فموجود من غير شك،
لأننا نراه، ولا
نرى غيره، لأنه عظيم الخطر، فهو هذا الصبي الذي ينام جائعًا إذا أقبل الليل، لأن من حقه
أن يتناول
الطعام في إبانه، وأن يأخذ بقسطه من النوم حتى لا تتعرض صحته الغالية لبعض ما يؤذيها،
موجود من غير شك
لأنه لا يملأ القرى ولا يملأ المدن، وإنما هو شخص ممتاز، يمكن أن يُحصى أمثاله وأترابه
إحصاء دقيقًا في
كل قرية، وفي كل مدينة، وهو من أجل ذلك موجود لأن عدده محدود.»
لقد انتهت حياة حسنين كامل علي (بداية ونهاية) بشبهة الانتحار — هل انتحر بالفعل؟
— ولكن بعد أن
مضى في رحلة الصعود إلى غايتها، أما صالح وخديجة وغيرهما من المعذبين في الأرض، فقد ظلوا
على سلبيتهم في
تقبُّل الحياة برضًا واستكانة، وكان التعبير الإيجابي الوحيد — إن جازت التسمية — هو
لجوءهم إلى الانتحار،
والانتحار — في حقيقته — هروب من الحياة.
وعلى الرغم من أن الكتاب لم يكن فيه — على حد تعبير طه حسين — ما يستحق المصادرة،
فليس فيه سياسة
«أو شيء يشبه السياسة، وليس في الكتاب تحريض على النظام الاجتماعي ينكره القانون، وليس
من فصوله فصل إلا
وقد نُشِر في مجلة أو صحيفة سيارة، فلم تنكره الحكومة، ولم تضِق به النيابة، ولم يُقدَّم
كاتبه وناشره إلى
القضاء.»
١٠٦ على الرغم من تلك «الحقيقة» التي يؤكدها طه حسين في مقدمة الكتاب بعد قيام الثورة، فإن
الكتاب ينبض — في الأقل — بالتحريض على النظام الاجتماعي.
وتقديرًا من الصحفيين لطه حسين، فقد أزمعوا أن يختاروه نقيبًا لهم، لكن الملك رفض،
فلما عيَّن طه
حسين وزيرًا للمعارف، قال له في حفل أداء اليمين، أمام الوزراء جميعًا: أنا أعرف الكلام
الذي كتبته عن
المعذبين في الأرض، فاترك مثل هذا الكلام، ولا تعد إليه مرة أخرى،
١٠٧ ثم قال له إنه يعطيه هذه الفرصة للاختبار!
١٠٨ (فاروق ملكًا، ٣٣-٣٤) وقد ردَّ طه حسين على قول أحد شهود محكمة الثورة إنه — طه حسين
— قبَّل
يد الملك فاروق، بأن الله يشهد ما قبَّل يد فاروق، ولا يد أبيه، ولا يد عمِّه السلطان
حسين، ولا يد عمِّه عباس
حلمي الثاني حين كان أميرًا لمصر، ولا يد ملك من الملوك الذين التقاهم «والله يشهد أنني
ما قمت بتقبيل
يد أحد من الناس إلا أن تكون يد أبوَي، أو يد بعض شيوخنا في الأزهر، رحمهم الله، لا أستثني
يد سيدة أجنبية
كانت ترفع يدها إذا لقيتني في بعض المحافل، فتلصقها بشفتي إلصاقًا، واضحك من ذلك إن شئت،
واعبث به إن
أحببت، فليس عليكَ في الضحك والعبث جناح.»
وكانت الدواوين الحكومية هي المجال الذي عبَّر عنه عبد الحميد جودة السحار. ففي مجموعة
«في الوظيفة» —
مثلًا — نجد الرئيس الذي يُوفِد مرءوسه في بعثة إلى الخارج ليخلو له ولزوج المرءوس «الجو»
في غيابه،
والروتين المعقد، والمدير الذي ينصب الشِّباك لموظفيه بحثًا عن عريس ملائم لابنته، والموظف
الذي يهب ذوب
نفسه، ثم لا يصادف إلا الإعراض والنكران … وعشرات الصور التي تعمِّق ظاهرة الفساد الاجتماعي
التي كانت سِمة
للدواوين الحكومية.
١٠٩
وقد استقدمت الحكومة في ١٩٥٠م خبيرًا بريطانيًّا لدراسة النظام الوظيفي في مصر، وتقديم
تقرير بوسائل
معالجة مشكلات الجهاز الحكومي، وذكر الخبير في تقريره أن نسبة عدد المشتغلين بالوظائف
الحكومية إلى عدد
سكان البلاد حوالي ٢٫٢٪، بينما بلغت في بريطانيا ١٫٣٪، وأن الحكومة المصرية تنفق من ميزانيتها
على
الجهاز الوظيفي ٣٥٪، بينما تنفق بريطانيا عليه ٩٪ فقط.
١١٠ وفي تقرير لديوان المحاسبة، ثبت أنه كان مخصصًا لتنفيذ مشروع الصحة القروية ٦٠٠ ألف
جنيه،
أنفق منها ٥٠٠ ألف مرتبات موظفين، ولم يبقَ للمشروع نفسه سوى مائة ألف جنيه!
١١١ وأنشئ بالقاهرة في عام ١٩٥٢م — لأول مرة — مجلس بلدي، وصدر في ١٩٤٧م قانون التجنيد الجديد
الذي
ألغى البدل النقدي، وخفَّض مدة الخدمة العسكرية الإلزامية من خمس إلى ثلاث سنوات، وسنة
واحدة لذوي
المؤهلات، وسمح بتأجيل التجنيد حتى سن ٢٧،
١١٢ ومن أخبار الصحف في عام ١٩٥٠م أن الحكومة عجزت عن دفع مرتبات الموظفين!
أما علي أحمد باكثير، فقد كتب «مسمار جحا» يهاجم فيها الاستعمار البريطاني الجاثم
على أرض
القناة.
ولعله يمكن اعتبار أدب يوسف السباعي — قبل ثورة يوليو — تعبيرًا عن رؤية ضابط في الجيش
يرفض
الأوضاع داخل البلاد.
ذلك ما نجده في «يا أمة ضحكت»، و«نائب عزرائيل»، و«أرض النفاق»، وغيرها من الأعمال
التي كتبها قبل
الثورة، مع إسقاط بعض السخافات مثل «هذا هو الحب» و«من العالم المجهول» و«اثنتا عشرة
امرأة» و«اثنا عشر رجلًا»
وغيرها، صور بالغة الدلالة للسِّمات السلبية التي كان المجتمع المصري يعاني تأثيراتها،
وثمة رأي أنه إذا
أصبح الفن عقبة في سبيل إيصال الرسالة الاجتماعية لدى يوسف السباعي، فإن الأولوية عنده
للتغيير
الاجتماعي.
١١٣
الراوي (نائب عزرائيل) يتحدث عن الكلمات الثلاث: الفقر والجهل والمرض، وأنها أقرب
إلى الألسن،
لكنها لم تغادر حياتنا، لأن «زعماءنا وخطباءنا وشيوخنا ونوابنا وكُتابنا، كلهم — دون
أن نستثني منهم
فردًا — ليسوا إلا مرتزقة.»
١١٤ أما المشروعات المختلفة، فإن المقصود بها غير حقيقتها «وما من مشروع إلا كان أساسه الخداع
والتهريج.»
١١٥ ويقول الراوي: «يُخيَّل إليَّ أن من بيدهم الأمر في هذا البلد المسكين، يشبهون إلى حدٍّ
كبير أولئك
الجنود المرتزقة، وأن عملهم لا يعدو في حقيقته أن يكون أكل عيش، وأن كل مطلبهم هو الغنائم
من مختلف
الأنواع والأشكال، من مال وشهرة وسلطان وجاه … إلخ، وهم يرَون أن خير طريق يوصِّلهم إلى
تلك الغنائم، هو
محاولة التظاهر في سبيل هذا البلد، فتجدهم يتصايحون ويتزاحمون ويخطبون ويكتبون ويبكون
ويستبكون، ولا
يفعلون أكثر من أن يأمروا الناس بالبر، وينسَون أنفسهم.»
١١٦
وقد أرهص الحكيم (١٩٤٨م) بعودة الروح ثانية: «روح مصر الحقيقية لم تذهب، ولن تخمد،
هذا إيماني الذي
لن يزول، ومنذ بدت هذه الروح لعيني عام ١٩١٩م تملَّكتني عقيدة أن هذا الذي أرى ليس شيئًا
جديدًا، ولا
طارئًا، إنما هو شيء موجود دائمًا، باقٍ أبدًا، ولكن روح مصر تنام أحيانًا عندما ينساها
أهلها فلا
يوقظونها، وتتبدَّد أحيانًا عندما يختلس منها أبناؤها أقباسًا ينفقونها في شتى الأغراض،
وتحار أحيانًا
عندما يتعدد الزعماء، فيقودونها كلٌّ في طريق، وهي تظل هكذا، إلى أن يتيح لها القدر —
بين فترة وفترة — من
الظروف والرجال والأحداث، ما يدفعها إلى وحدة الغاية والسبيل والقيادة … عند ذلك يرى
العالم العجيب،
ويصيح الناس، ويهمس التاريخ: انظروا، لقد تكررت المعجزة، وعادت الروح.»
١١٧
ويقدِّم الحكيم كتاب «يا أمة ضحكت» ليوسف السباعي بقوله: «ها هو ذا البرهان، كتاب
نُشِر قبل الثورة،
فليقرأه من لم يزل يرتاب في مشاركة القصة لمشاعر الناس في ذلك العهد.»
•••
يقول يحيى حقي «أنا أزعم أنني ﺑ «قنديل أم هاشم» قد مهَّدتُ للثورة، وتكفي صورة الطبيب
الذي فتح
عيادته في أفقر الأحياء الوطنية، كان يصب «البوريك» من فنجان، تيسيرًا وتخفيفًا من نفقات
العلاج، ثم … هل
تستطيع أن تبيِّن لي الفرق بين بوريك يُصَب من فنجال، وبوريك يُصَب من عدة؟»
١١٨
وعندما كتب يحيى حقي روايته «صح النوم»، جعل أحداث قسمها الأول تدور في أعوام ما قبل
الثورة، بينما
القسم الثاني عقب قيام الثورة، ويفصل بين القسمين عودة الأستاذ إلى القرية، والقرية —
مثل الأستاذ — بلا
اسم، إنها واحدة من قرى مصر، وشخصيات الرواية بلا أسماء كذلك، ثمة الواعظ وصاحب الحان
والقصاب والقزم
وزوج العرجاء والفتى الفنان، هؤلاء هم أبناء الأمس.
كانت القرية تعاني السلبية التي تسيطر على تصرفات أبنائها، فهم أقرب إلى اليأس والاستسلام،
لا
يحبون كتابة العرائض مبرقشة بالأختام، وبصمات الأصابع يحررها الصرَّاف، ولا برقيات الاحتجاج
يدبجها المعلم
الإلزامي بإنشائه البليغ، ولا اللف على الدواوين بقيادة العمدة العجوز، وقد تزهق روحه
من طلوع السلالم.
ولا يكترث أبناء القرية المسكينة لحرمانهم من أساسيات الحياة، حتى شريط السكة الحديد
أبعدوه عنها، ليخدم
أرضًا أخرى بعيدة عن العمران يملكها ناب ذو جاه، وفلسفوا هذا الوضع الجائر بأكثر من منطق،
حتى الجزار
يصل تسامحه إلى حد السلبية، حين تهرب زوجته مع مهرج سيرك، ثم تعود إليه، فيسعها وأبناءها
من المهرج،
لكنها ما تلبث أن تهجره ثانية، وتفر مع صبي طحان.
لكن صحوة غريبة تشمل القرية بعد قيام الثورة — أتصور أن ذلك كله سبقته إرهاصات — دبَّت
حياة جديدة
في الناس والبهائم والأشياء، كان أهلها من قبل مستغرقين في نومٍ عميقٍ، اعتادوا فيه الاستكانة
والتواكُل،
وقبول الضيم، كلما تململوا رأوا القيد يزداد انطباقًا عليهم، فوقر في نفوسهم — من فعل
اليأس — أن لا خير
يُرجى لهم، بل ثبت لديهم — وهذا هو البلاء الأعظم — أن لا خير يُرجى منهم، فلما لم يبقَ
لهم هدف، وضاعت
ثقتهم في أنفسهم، وافتقدوا مَن يقيم العدل بينهم، مالوا إلى النهب. وقد شعرت وأنا أجول
في القرية
ودساكرها، أن الناس قد انتبهوا من نومهم، أيقظهم تولي الأستاذ مقاليد الأمور في القرية،
وإقامته للقانون
بين الناس سواسية، ولِمَا لمسوه فيه من إخلاص وسعي للخير، وانطباق على النية، أيقظهم
أن الجبل الذي كان
جاثمًا على صدورهم قد انزاح فجأة كما تنفجر الفقاعة.
ويتحدث الفنان (للزمن بقية) عن تباشير الثورة التي لاحت في الأفق، فالأغنياء خائفون،
وفترات الخوف
أولى علامات التغيير.
١١٩
وعلى الرغم من انتماء صلاح النجومي إلى عائلة إقطاعية، فإنه ظل على معارضته لكل ما
يحيق بصغار
الفلاحين على أيدي كبار المُلاك، وأعد نفسه — فرارًا من تأزُّمه النفسي — للسفر إلى أوروبا،
متخفيًا في
سفينة تعبر القناة، لكنه ما لبث أن عدَّل محاولته بعد أن فطن في مخبئه/محبسه إلى المعنى
الحقيقي
للحرية التي كان يبشِّر بها حقًّا للفلاحين، وغادر صلاح النجومي السفينة، وعاد إلى قريته،
ليواصل الدفاع عن
الفكرة التي يؤمن بها، وفي القرية «أدرك أن نظرات الفلاحين أصبحت مكبَّلة وهو يحلم بأنه
سيطلق
سراحها»،
١٢٠ وزاد في ألمه أن غالبية من نذر حياته لأجلهم راضون بالواقع الذي يرسفون في أغلاله، وأن
«أصحاب الحرية المحتاجين إليها، أحيانًا ما يكونون أعداءها»،
١٢١ وحين أراد أن يعبِّر بالكلمة عن طريق الكتابة في الصحف، فإن واجبه معالجة انصراف القراء
المتمثِّل في
هبوط مبيعات مجلته، لكن اليأس لم يداخل نفس صلاح، وبالذات حين طالبه الصحفي البدوي السيد
أن يغفر للذين
يغشُّون في سلعة الحرية، فلا يزال في الزمن بقية.
وكتب أحمد حسين في «ظلال المشنقة»: «سوف ندخل السجون إذا شاء الله ودخلنا، ولكننا
على ثقة لا تتزعزع
من أننا سنخرج منها بعد ذلك لنرى الحال غير الحال، والحكام غير الحكام، ولنرى كلمة الشعب
هي العليا،
وكلمة أعدائه السفلى، وتربَّصوا، إنَّا معكم متربصون.»
١٢٢ ويقول خليل (الزعيم) في ضعف: «وماذا نستطيع أن نفعل؟
– نثور في وجه الفساد.
– إنَّا لن نستطيع أن نصلح الكون.
– من قال لك إننا لا نستطيع أن نصلح الكون؟ بل نستطيع — لو تكتَّلنا أنا وأنت وكل
محبٍّ للإصلاح —
لقضينا على الفساد بضربة واحدة.»
١٢٣
ويقول محمد أفندي (قبل أن تفيض الكأس): «لو ثار الجيش حقًّا لتغيَّرت الأحوال.»
١٢٤
•••
كان «المقطم» هو الجريدة الوحيدة التي تصل إلى التفتيش (الحرام)، ربما لأن الخواجا
صاحب التفتيش
كان يفضِّل شراء جريدة أصحابها من الخواجات، أو لأن الجريدة كانت تعنى بنشر الأخبار الزراعية،
أو لأن
الإدارة في العاصمة تشترك في الجريدة بلا أسباب.
١٢٥
وثمة صحف، تعبِّر عنها جريدة «الأيام»، لقد اكتشف يوسف — في خلال الأشهر القليلة
التي تلت اشتغاله
محررًا في «الأيام» أن كل ما تنشره الجريدة له صلة بشهدي باشا: «يا يوسف خد بالك من أخبار
البورصة، يا
يوسف خد بالك من أخبار وزير المالية، أنت عارف إنه زعلان مع الباشا.» حتى البرقيات الخارجية
«الباشا
بيعمل صفقة مع أمريكا، انشر أخبار واشنطن في الصفحة الأولى» حتى أخبار كرة القدم، كانت
الجريدة تشجعها
لترضي الباشا.
١٢٦ يقول يوسف السويفي: «الجرنال بتاعنا عبارة عن بوق دعاية لشهدي باشا، كلنا بنشتغل موظفين
عنده، حتى محمد ناجي صاحب الجرنال، اللي بنى الدار شهدي باشا، اللي اشترى المطابع شهدي
باشا، محمد ناجي
عميل عنده، خدام، مجرد خدام.»
١٢٧
من هنا، كان اختيار شهدي باشا ليوسف خلفًا لمحمد ناجي في رئاسة تحرير «الأيام». يقول
الباشا: «إحنا
عايزين دم جديد، وأنا رجل مغامر، بالعب قمار بطريقتي، ممكن أخلي شاب زيك يتولى إدارة
أكبر شركة عندي لو
وثقت فيه، محمد ناجي يقدر يحارب الوفد، يحارب السعديين، يقدر يكتب فضايح، يقدر يشاكس
القصر، لكن البلد
موش دول بس، البلد فيها دلوقت شيوعيين واشتراكيين وإخوان مسلمين وعفاريت زرق، ما كناش
نسمع عنهم قبل
الحرب، ولو سبنا محمد ناجي لوحده، ح يخسر المعركة.»
١٢٨
وبعيدًا عن العمالة المعلَنة للمقطم، ومهادنة «الأهرام»، وتبعية صحف أخرى يموِّلها
ساسة واقتصاديون،
فقد كان عدد الصحف التي رفعت لواء المعارضة ضد الحكم ستًّا هي: روز اليوسف، اللواء الجديد،
الاشتراكية،
الدعوة، الكاتب، الملايين.
١٢٩
وكانت الصحافة هي وسيلة سيد زهير (أنا الشعب) لتعرية الفساد السياسي والمجتمعي، والدفاع
عن حقوق
الملايين من البسطاء. وفي «أنا الشعب» يروي لنا سيد زهير تلك الفترة التي كان مشغولًا
فيها إلى الأذنين
بالفضائح المتعددة التي كانت تتوالى: فضيحة القطن، فضيحة تجارة المخدرات، فضيحة الراقصة
التي رفعت رأس
رئيس وزراء مصر — عاليًا — برقصاتها في محافل أوروبا، وجزيرة كابري التي صارت بقعة مقدسة
منذ حل بها
الملك وزوجته.
١٣٠
كان سيد زهير يعبِّر عن رفضه لكل ما يجري في مقالٍ يومي بعنوان: «أنا الشعب»، وقد
أهمل كلَّ ما قاساه
من عنتٍ واضطهاد، حتى وجد قلمه الملاذ في قيام ثورة ٢٣ يوليو. ويقول الفنان (شيء في صدري)
إن أصحاب الصحف
تبيَّنوا أن تملُّق الشعور الوطني يرفع التوزيع، ويدر عليهم ربحًا أكثر مما كانوا يقبضونه
في البورصة
السرية، فبدءوا يتزايدون في إثارة الشعور الوطني.
١٣١ ووصفت جريدة «الجماهير» نفسها بأنها صحيفة العمال والفلاحين والطلبة والموظفين
١٣٢ وطالبت «الجماهير» بتوزيع الملكية الزراعية الكبيرة، وزيادة الأراضي الزراعية، وإدخال
آلات
حديثة، بحيث تكون تحت تصرف صغار الفلاحين المتحدين في جمعيات تعاونية،
١٣٣ ونادت الجريدة بإلغاء البورصة نهائيًّا، وبشَّرت بأن النتيجة ستكون زيادة الإنتاج، ورفع
مستوى
المعيشة، وخفض الأسعار.
١٣٤ حتى الكاتب الصحفي مصطفى أمين، كتب في «أخبار اليوم» (٣٠ يونيو ١٩٤٥م) يطالب بالاستقلال
الاجتماعي، ويهيب بالأغنياء أن يعرفوا أن العالم اتجه اليوم إلى العدالة الاجتماعية.
والواقع أن مناخ الحرية الذي ساد البلاد في عهد حكومة الوفد، هو الذي أتاح للأقلام
الصحفية
إمكانية التعبير عن آراء أصحابها، فقد كتب خالد محمد خالد — على سبيل المثال — «من هنا
نبدأ» (عارضه
محمد الغزالي بكتابه «نعلم من هنا») و«مواطنون لا رعايا»، و«لله والحرية» … إلخ، وظهرت
كتابات مهمة
لمصطفى مرعي وأحمد حسين وفتحي رضوان وغيرهم، وكما يقول إحسان عبد القدوس فإن الحكومة
القائمة «رغم كل
ما فعلت، ورغم كل ما أفسدت من دعم، وما اشترت من ضمائر، وما زرعت من فساد، وما سنَّت
من قوانين ظالمة، لا
تزال ترتجف من أن تقف خصمًا أمام القضاء العادل، ولا تزال تخشى أن يكون بين القضاة المصريين
قاضٍ نزيه،
حر الرأي، سليم المنطق، نظيف الذمة، غيُور على العدل وعظمة بلده. إنها حكومة جبانة، فقدت
الثقة بنفسها،
وفقدت الثقة بمبادئها، وعجزت عن أن ترد على حجج خصومها، وعجزت عن أن تجد لها سندًا من
الدستور، أو من
القانون، أو من العدالة، ولم تجد ما تدافع به عن نفسها إلا أن تشرِّع القوانين التي تعفيها
من الوقوف أمام
القضاء، وتحصر سلطة الاتهام والحكم والتنفيذ في يدها وحدها، لتظلم كيفما تشاء، وتبطش
كيفما
تشاء.»
١٣٥
ولعله يجدر بنا أن نشير إلى ما نشرته جريدة «المصري» من كتابات لمحمود عبد المنعم
مراد وعبد
الرحمن الخميسي وعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم وغيرهم، تدعو إلى أدبٍ جديد. وإذا
كانت محاولات يوسف
الشاروني وعباس أحمد وبدر الديب وغيرهم قد مالت إلى التجريب، فإن الغلبة ظلَّت للمدرسة
الواقعية، وكتب عبد
الرحمن الخميسي: «ليتني أستطيع أن أجمع كل إنتاجي السابق من عقول القراء لأشعِل فيه النيران.»
ذلك أيضًا
ما عبَّر عنه إبراهيم الورداني في إدانة ما كتبه من أعمال أدبية «هذا الهش الغث الرخيص
الذي أكتبه، وأصارع
دائمًا من أجل نشره، قشر اللب أو ورق الخس هذا الذي أنادي به على الزبائن في سوق الخضراوات
والفواكه
الصحفية، انطفأ السراج في الأعماق مع هذا اللهاث السخيف والرمح الأجوف على أرصفة الأحداث
مما أسميه —
أحيانًا — بالأدب أو الفن أو الملاغاة.»
١٣٦
وقد ناقش طه حسين دعاة الأدب الجديد أو الواقعية الجديدة، بقوله: «فما يمنعهم أن يكتبوا
كلامًا
يسيرًا كهذا الكلام اليسير الذي يقرءونه في كل يوم، وتقرؤه آلاف مؤلَّفة مثلهم في كل
يوم، ثم ينسَونه كما
تنساه الآلاف المؤلفة، لا يجدون في ذلك مشقة، ولا يحتملون فيه جهدًا، وإنما هي أقلام
تجري، وصحف تُجمَع،
ثم تقدَّم إلى الناس فتُقرأ، وتُنسَى كما تُقرأ، وتُنسى صحف الصباح وصحف المساء. أعرفت
هؤلاء السادة أم لم
تعرفهم بعد، وما زلت في حاجة إلى أن أقدمهم إليك؟! إنهم الواقعيون الذين يملئُون عليك
مصر ضجيجًا وعجيجًا،
وأخذًا وردًّا، واختلافًا وائتلافًا، في هذه الأيام.»
•••
الملاحَظ في قصص ما قبل ١٩٥٢م أنه كان من أسهل الأمور أن يطلب صاحب البيت من البواب
أو الطباخ ترك
عمله، لأنه لم يكن هناك ضمانات في العمل.
محمد صدقي هو القاص الوحيد من أبناء الجيل الثالث الذي خرج من الطبقة العاملة،
وانعكست حياته المليئة بالمعاناة على أدبه الذي عني بالتعبير عن مشكلات الطبقة العاملة.
وكما يقول جول
مان فإن الفنان العبقري هو الذي يستطيع — بقدرته التعبيرية الخارقة، ودقة حسِّه البالغة
— أن يصوغ في شكلٍ
فني، المطامح والمضامين الفعلية — أو الممكنة — للطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها،
أو يتعاطف
معها.
١٣٧
الشخصيات التي تنبض بها قصص محمد صدقي تتعدد ما بين سمكري وعامل في مسبك وبراد ونجار
وخادمة
وعامل زراعي وأسطى في ورشة لحام وأسترجي … إلخ، فضلًا عن الشخصيات التي تنتمي — ماديًّا
— إلى الطبقة
الأدنى. واللافت أن محمد صدقي كان أول من أدخل تعبيراتٍ بعينها في لغة القصة القصيرة،
مثل: المخرطة،
الورشة، طبيب الشركة، مخزن العادم، التروس، الكوماندة، المكن، المزيتة الصفيح، السيور،
نوبة العمل،
الصنعة، النول الخشبي … إلخ.
ولعلي أختلف مع محمود أمين العالم في أن قصة محمد صدقي «في الأوتوبيس» لا تهبنا مجرد
استمتاع سالم
أفندي الموظف الصغير بأنه رجل شريف أمين، بعد أن نادى على الكمساري، ودفع له ثمن التذكرة.
المعنى الذي تضغط عليه القصة أن الضغوط المادية العنيفة هي «المحرِّض» الأقوى للشرفاء
الذين يضطرون
إلى ارتكاب بعض التصرفات السلبية. كان الشعور بالذنب يطارد الرجل في كل مرة يتهرَّب فيها
من الكمساري أو
المفتش، فلمَّا تسلَّم راتبه أول الشهر، ولم تكن الديون قد امتصته بعد، نادى على الكمساري،
قال في ثقة: خذ …
من فضلك … اديني تذكرة. وغادر الأتوبيس وشعور الرضا يملأ نفسه لأنه دفع ثمن التذكرة دون
أن يتهرَّب من
الكمساري، لأنه مارس الإحساس بالشرف.
١٣٨
•••
بالإضافة إلى ما سبق فإن مراجعة الإبداعات التي صدرت قبل الثالث والعشرين من يوليو
١٩٥٢م، ستكشف عن
تغييرات مهمة في شكل الإبداعات ومضمونها، خلال تلك الفترة القصيرة زمنيًّا، وهو ما يبين
— بدرجة وبأخرى —
في قصص يوسف إدريس ويوسف الشاروني وسعد مكاوي وعبد الرحمن الخميسي وشكري عياد وإبراهيم
الورداني
وغيرهم.
لقد عرضنا — في الجزء الثاني من هذا الكتاب — للدور الذي أسهمت به المدرسة الحديثة
في مجالات
الإبداع الفني، ويرى ب. م. كربوشيك أن يوسف إدريس هو — بحقٍّ — الوريث الشرعي للمدرسة
الحديثة، حمل نفس
خصائصها المعرفية والفنية، ودافع عنها من خلال إبداعاته ومساجلاته الفكرية، حتى تأثُّره
بعمالقة الأدب
الروسي: تشيخوف وجوركي وديستويفسكي، إنما هو سير في الطريق التي ارتادها مبدعو المدرسة
الحديثة، وإن كان
تشيخوف هو أقرب الجميع إلى عالمه. وفي تقديمه لمجموعة «جمهورية فرحات»، أشار طه حسين
إلى ما تتسم به
مجموعة «أرخص ليالي» من «تعمُّق للحياة، وفقع لدقائقها، وتسجيل صارم لما يحدث فيها.»
١٣٩
كان يوسف إدريس موجة هائلة، تلتها موجات متتابعة من كُتاب القصة. ولعله يجدر الإشارة
إلى أن معظم
قصص أرخص ليالي (١٩٥٤م) — المجموعة الأولى ليوسف إدريس — قد نُشرت في الصحف والدوريات
قبيل قيام الثورة،
وتُعَد بداية مرحلية للقصة العربية الحديثة، من الصعب تبيُّن عمقها لو أننا اكتفينا بمجرد
الشخصيات التي
كانت نبضًا لليالي إدريس الرخيصة. إن الخصائص التي اتَّسمت بها قصص الثلاثينيات والأربعينيات
موجودة في
قصص إدريس؛ الشخصيات والأحداث لا تختلف — في ظاهرها — عن الشخصيات والأحداث التي تطالعنا
في «أرخص ليالي»، لكن الأماني والتطلعات والأحلام والثورة والإصرار وغيرها من المشاعر،
كانت نبضًا لقصص إدريس.
قصص هذه المجموعة أقرب إلى القصائد الشعرية التي تتغنَّى بحب الفنان لكل ما هو مصري،
والمشكلة
الاجتماعية — تحديدًا هي الخيوط التي نسج منها إدريس أحداث قصصه، والمحتوى الذي تشتمل
عليه يصدر عن
الإحساس العميق بهذه المشكلة. إن التعاطف مع الفئات الكادحة، وليس الغضب على الفئات المستغلة،
هو نبض
هذه القصص، لكنك تطوي الكتاب وقد امتلأتَ بالسخط الذي لا حدَّ له على الأوضاع السلبية
في المجتمع، اللمحات
الواعية التي تنبض بأدق التفاصيل تُغني عن المباشرة، ففي قصة «نظرة» — مثلًا — يشاهد
الراوي خادمة صغيرة
تحمل صينية بطاطس، وتريد أن تعبر الطريق، اهتزت الصينية على رأس الصبية — فجأة — وأسرع
الراوي إلى
إنقاذها دون أن يعبأ حتى بالعربة التي كادت تدهمه، لكن الخادمة كانت قد عدَّلت من وضع
الصينية فوق رأسها،
ووقفت — في ثبات — تتفرج على أولادٍ يلعبون الكرة، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون «ولم تلحظني،
ولم تتوقف
كثيرًا، فمن جديدٍ راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها. وقبل أن تنحرف استدارت على مهل، واستدار
الحِمل معها،
وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة، ثم ابتلعتها الحارة.»
١٤٠ ضمَّن الفنان قصته كل الأهداف التي أراد أن يعبِّر عنها، بداية من الصورة الموحية للخادمة
الصغيرة، إلى سحق أحلام الصبية في التمتُّع بطفولتها مثل كل الأطفال.
الفنان لا يقول لنا ذلك مباشرة، ولا يحمِّل القصة من التفاصيل بما يضفي عليها تقريرية،
الفنان — في
القصة، وفي كتابات إدريس بعامة — لا يضغط على دور الفن القيادي، فليس ثمة صرخة رومانتيكية،
أو نهاية
سعيدة، فرضها الفنان على القصة، وعلى القارئ بالتالي، والذي كان — باعتبار مصريَّته —
يسير في رحلة الكفاح
السلبي التي وصلت — داخل القِدر المكتوم بالقهر — إلى درجة الغليان. اكتفى الفنان بأن
حدَّد أبعاد لوحته
جيدًا، وعني تمامًا بكل الظلال والإيحاءات، ثم وضع ريشته مدركًا أن الشعور السلبي للقارئ
سيولِّد شعورًا
إيجابيًّا يقاضي الظلم والفساد. ثمة حيادية اكتفت بأن ترسم إسكتشًا سريعًا لموقفٍ ما،
يحفل بالجزئيات
الصغيرة والمنمنمات، فيرتفع بها إلى الكليات التي تحدد المشكلة دون أن تطلب حلًّا، إنما
هي تثير في نفسية
المتلقي ما يدفعه إلى التفكير، وإلى التعاطف مع هذه الشخصيات من الطبقات الأدنى. إنها
تختلف عن حيادية
نجيب محفوظ — على سبيل المثال — التي تبين — في الدرجة الأولى — عن إدانة للاستعمار الذي
كان من نتائجه
المباشرة تفسُّخ المجتمع في داخله.
أما حيادية إدريس فهي تعكس تعاطفًا مع الفئات الكادحة، وتعري الأرستقراطية والبرجوازية
الكبيرة
من كل ما يسترون به أنفسهم من زيفٍ وطلاء، لكنها ترسم الموقف كما هو، دون إقحامٍ من الفنان،
ودون أن يحدد
لنفسه موقفًا فكريًّا، أو سياسيًّا، جهيرًا، يعبِّر عنه إبداعه. تبدو تلك الحيادية —
مثلًا — في الحشَّاش الذي
يأتي به الضابط إلى الطبيب ليثبت أنه ابتلع المخدرات، ويدور بين الطبيب والضابط حوارٌ
يتنبهان — من
خلاله — إلى أن اليوم هو موعد سهرة أم كلثوم، فيلبي أحدهما دعوة الآخر إلى قعدة مزاج.
١٤١
ثمة من يصِف يوسف إدريس بأنه «ليس أول من كتب عن الفلاحين في بلادنا، وليس أول من
كتب عن القرية،
ولكن قيمته الحقيقية هي أنه عندما كتب عن القرية قلَّب تربتها، وعرف باطنها قبل ظاهرها،
فخرجت في أدب قرية
مصرية بحقٍّ وحقيق.»
١٤٢ إنه — في تقدير الناقد — يستحضر الريف ويقطر روحه، ويحفظها حية إلى الأبد تحت عدسة الفن
السحرية، المتعددة الألوان.
١٤٣
يوسف إدريس يضغط على المشكلات الأساسية في حياة الفلاح — والمواطن المصري البسيط
— مثل العلاقة
بين المدينة والقرية، والحاجة إلى الطعام، والحاجة إلى تحقيق رغبات المرء الجنسية والوجدانية،
والكراهية
للسلطة، والخوف من الموت … إلخ. ثمة المدرس الذي يجد آمال نفسه التي تبدَّدت، في شاب
من طَلَبته أصبح طبيبًا،
وأبو إسماعين الذي يستطيع — بمفرده — أن يزيح ظل الهجانة الثقيل، بعيدًا عن أبناء قريته،
والأعرابي الذي
يراهن على التهام مائة ثمرة تين شوكي دفعة واحدة «ومشى في الطريق، وبدايات المغص تلوي
أحشاءه، كل ما
يهمه أنه تغذَّى وأسكت عنه — ولو هنيهة — مسامير الجوع، وليكن بعد ذلك ما يكون.» وعبد
القادر طه الذي
استُشهد بأيدي رجال الملك السابق لأنه أعلن احتجاجه على فساد الوضع، والبرعي الذي أمسك
بسماعة التليفون
لأول مرة في حياته، وداعبته أمنية نفَّذها على الفور، طلب المركز، وقال بحرقة: يلعن …
يلعن أبوك يا مركز!
وشبراوي الذي كانت القاهرة في مخيلته شيئًا جميلًا وخطيرًا، فيه عذوبة الحواديت وروعة
الأساطير ورهبة
المجهول. حتى الأسطر الأولى من قصة ألبرتو مورافيا «الطفل» يفيد منها الفنان — ولعله
لم يقرأها — في قصة
«أرخص ليالي»، هؤلاء الذين يعانون غياب الكهرباء، وانعدام أية وسيلة للتسلية، فيلجئُون
إلى الجنس باعتباره
أرخص الليالي: «عندما جاءت السيدة الفاضلة من جمعية رعاية الطفل لزيارتنا كما تزور غيرنا،
سألتنا: لماذا
ننجب أطفالًا كثيرين إلى العالم، فما كان من زوجتي التي كانت في ضيقٍ في ذلك اليوم، إلا
أن قالت لها
الحقيقة البسيطة: لو كانت لدينا المقدرة، لذهبنا إلى السينما في المساء … ولكن هذا هو
الحال، فلأننا لا
نجد المال، نذهب إلى السرير، وهكذا يُولَد الأطفال.»
١٤٤ الموقف نفسه يعبِّر عنه جاك القدري في روايته «ديدرو»: «إنها المتعة الوحيدة لديهم التي
لا
تكلِّفهم شيئًا، وهم ينسلون أثناء الليل، بلا تكاليف عن كوارث نهارهم.»
المعنى نفسه تعبِّر عنه قصة «الزحام» ليوسف الشاروني، حيث تتلاصق أجساد الرجال وأجساد
النساء كلما
جمعتهم عتمة الليل، فيتوالدون كالأرانب.
١٤٥ نماذج تناقض في مشاعرها وتكوينها النفسي، معظم الشخصيات التي قدمتها القصة القصيرة قبل
«أرخص
ليالي»،
١٤٦ وكما يقول يوري ناجيبين، فإن يوسف إدريس «لا يلجأ أبدًا إلى زخرفة أبطاله من الفلاحين
والعمال والسائقين والميكانيكيين وصغار الموظفين وغيرهم من ممثِّلي الشعب العامل … وهو
يصورهم كما هم في
واقع الحياة، بكل ما فيهم من فضائل ونقائص … ولكن قلمه يتأجج بالكره والازدراء للنماذج
الطفيلية من
البيروقراطيين والمستغلين والوصوليين.»
١٤٧
أما المقومات، أو الخصائص، الفنية، فلعلي أشير إلى ما كتبه طه حسين عن يوسف إدريس
بأنه يملك من المتعة والقوة
ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء، ما ينعكس في مجموعته الأولى «أرخص
ليالي» التي نشر
غالبيتها قبل قيام ثورة ١٩٥٢م.
ولعل النقلة المرحلية التي أحدثها يوسف إدريس في القصة القصيرة العربية، تشبه تلك
النقلة المرحلية
التي أحدثها تشيخوف في القصة القصيرة الروسية، وفي العالم، إنها نقلة أقرب إلى الانقلاب
الإبداعي الذي
غيَّر من مذاق وتكنيك القصة القصيرة بعامة «… وقرأ الناس — لأول مرة — قصصًا عن متاعبهم
الصغيرة التي
يشكِّل تعدُّدها مأساة الحياة لكل إنسان، وبدءوا يلمحون في السطور ومضات الأمل، التي
يشكِّل التماعها مستقبل
الإنسان.»
١٤٨
•••
تقول سامية (الرجل الذي فقد ظله): «دنيا السينما غابة مليئة بالذئاب، كلهم ذئاب،
المنتِجون
والموزعون والمخرجون والممثلون والمصورون، كلهم، كلهم ذئاب، حتى الصحفيون الذين يحُومون
حولنا في
الاستديوهات، يلتقطون أخبارنا لينشروها، هم أيضًا ذئاب.»
١٤٩ ويقول الراوي (في فندق الله): «ألا تصدقني يا سيدي؟ إنني أستطيع أن أعدِّد لك عشرين
اسمًا
على الأقل ممن يعمرون الدنيا التي تعيشون فيها، دنيا الفن، وقد أصبحوا يركبون السيارات
الفاخرة، ويملكون
الضِّياع والعمارات، وينعمون بالشهرة، وتُكتَب أسماؤهم بحروف من نور، وكلهم من خريجي
ملجأ الحاجة
نوسة.»
١٥٠
وقد أنتجت السينما المصرية في عام واحد (١٩٥٠م) ثلاثمائة فيلم، وحقق فيلم «غزل البنات»
آخر أفلام
نجيب الريحاني، أمام ليلى مراد وأنور وجدي، نجاحًا هائلًا، وبخاصة لأنه مات قبل أن يكتمل
تصوير الفيلم،
وفي أوائل ١٩٥٢م رفضت الرقابة التصريح بعرض فيلم «الأوسطى حسن» ما لم ينتهِ الفيلم بظهور
لافتة كُتب عليها:
القناعة كنز لا يفنى!
•••
إذا كان من الصعب أن يلتقي العرب حول فكرة واحدة، فقد التقوا — عبر ما يزيد على الأربعين
عامًا —
حول فكرة أم كلثوم، حول صوتها، يستمعون إليه، ويعجبون به، ويخلون له الخميس الأول من
كل شهر، فلا يشغلون
أنفسهم إلا بالتحلُّق حول أجهزة الراديو يستمعون إلى صوت أم كلثوم. يقول الراوي: «من
تركيا إلى المغرب،
تتمتع أم كلثوم بشعبية لا يحظى بها أي إنسان.»
١٥١ أصبحت أم كلثوم هي البديل للوحدة العربية الغائبة، نتحدث عنها ولا نمارسها، نحاول تحقيقها،
فتفشل التجربة في مدى أعوام. كانت سهرة أم كلثوم، أو «ليلة الست» — في الخميس الأول من
كل شهر — هي
الليلة التي يسهر فيها عدد كبير من المصريين حتى مطلع الفجر.
١٥٢ إنها «ليلة الخمر والطرب»
١٥٣ «ليلة متوَّجة».
١٥٤ كان الناس يستعدون لها قبل أسبوع،
١٥٥ وكان أهم ما تذكره سعيد في السجن — ليلة الجمعة الأولى من كل شهر من شهور الشتاء — الأسرة
مجتمعة بجانب الراديو، تستمع إلى غناء أم كلثوم،
١٥٦ ويقول الرجل لصاحبه: «ما قولك في أكلة ملوخية اليوم؟ إن نفسي تشتاق إليها، وتسهر الليلة
لسماع أم كلثوم، إنها ستغني أغنية جديدة»!
١٥٧ كان الجمهور يرفض المط والإعادة من أية مطربة أو مطرب، ما عدا أم كلثوم (كانت «خان الخليلي»
بداية اهتمام نجيب محفوظ بالكتابة عن الغناء ودلالته الاجتماعية والنفسية؛ فالغناء كان
— وما زال — ديوان
الشعب المصري، كما كان الشعر قديمًا ديوان العرب، وقد دخل الغناء في صميم التكوين الوجداني
لنجيب محفوظ
ذاته، إلى حدٍّ فاق الحدود، كأنه خُلِق ليكون موسيقيًّا (كمال النجمي، مطربون ومستمعون،
كتاب الهلال، ٦٦))،
هتافات الاستعادة تعلو من منطلق الإحساس بالطرب، أي مطرب آخر لا يجرؤ على أن يغني للجمهور
أغنية واحدة،
في أكثر من ثلاث ساعات، وكانت جلسات الحشيش مرتبطة بالحفل الشهري لأم كلثوم، والعكس صحيح.
١٥٨ يقول الراوي «كل أكابر البلد ينسطلون ليلة حفل أم كلثوم الشهري.»
١٥٩
لذلك جاء اتهام البعض لصوت أم كلثوم بأنه كان يسري بالخدر في الجسد العربي، وأنه كان
يأتي بالكسل
والقعود والتخاذل، ويُبعدنا عن التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يضيف إليه العالم كل يوم،
ويزيد في أثمان
المخدرات!
أما أشهر أغنيات الفترة — تعبيرًا عن الحنين إلى الوطن — فهي «على بلد المحبوب ودِّيني»
لأم كلثوم،
وتقول وجيدة لمنير (وجيدة) امتى يا منير نروح على بلد المحبوب … امتى؟!
١٦٠
وكان عبد الوهاب يجمع بين التقاليد الموسيقية الموروثة والأساليب الفنية الحديثة،
ومن أغنيات عبد
الوهاب الجديدة: على إيه بتلومني؟ بتلومني ليه؟ يا ما قلبي شكاك، يا ما دمعي بكاك، ما
رحمتنيش
ليه؟
١٦١ … مضناك جفاه مرقده.
١٦٢
وكان الراوي يعشق صوت ليلى مراد، ويتخيل أنهما سيلتقيان يومًا، وتحبه!
١٦٣
ولم يسقط شكوكو — كما يقول يحيى حقي — في الوعظ والإرشاد، لم يبالِ كثيرًا بالنقد
الاجتماعي، وإنما
أراد الفكاهة لمجرد الفكاهة، من أجل خاطر الفكاهة وحدها.
١٦٤
•••
وكان ما فعله المعلم كرشة — في سني الحرب العالمية الثانية — بإحلال الراديو بديلًا
للراوي
الشعبي، مشابهًا لِمَا فعله صاحب البار حين اكتفى بجهاز راديو يذيع موسيقى راقصة، بدلًا
من الفرقة
الموسيقية،
١٦٥ وظل الراوي يعتز لفترة طويلة — بأن أسرته — دون بقية الجيران — تملك جهاز راديو.
١٦٦
•••
ومن ألعاب الأطفال التي اختفى بعضها، وطرأ تغيُّر على بعضها: الاستغماية، سباسب القرع
وجاء خيره،
نطة الإنجليز، الطرة، الفشقة، الساقية الخربانة.
١٦٧
هوامش