ظلال الهزيمة
في ٢٧ سبتمبر ١٨٨٢م عاد الخديو توفيق إلى العاصمة، حيث استقبله الجنرال ولسلي والدوق
كونوت ابن الملكة فيكتوريا، ودخل الخديو قصر الجزيرة في حراسة الإنجليز. وكانت الفرق
الموسيقية — على طول الطريق — تتناوب عزف النشيد الخديوي والنشيد البريطاني: ليحفظ الله
الملكة.
١ تقول الراوية (أحاديث جدتي): «انهزم زعيم البلد ومحط آماله، وانهزم الجيش
مَعقِد الرجاء وسبيل النجاة الوحيد، وختم من جاءونا بالخبر قولهم بأن غدًا يدخل الجيش
الإنجليزي القاهرة ليعسكر في ثكنات العباسية. لن أستطيع أن أصف لك هول وقع هذا الخبر،
لقد أصبح أهل القاهرة كلهم، وقد تملَّكهم الخوف، ودبَّ اليأس في قلوبهم، يتلهَّفون على
الهرب
بأي سبيل، حتى لا يعرضوا أنفسهم لما سينزله بهم الجيش المحتل. أصبحت هذه تذهب عند تلك
لأن بيتها بعيد عن الثكنات كذا من الأمتار كأنما في مثل هذا البعد شيء من الأمان. وفكرت
— كما فكروا — في الهرب والاختفاء، إن بيتنا قريب جدًّا من الثكنات، وفي هذا القرب خطر
علينا عظيم، وكانت لي صديقة تسكن حي بولاق، فقلت أسير إليها لعل في البعد نوعًا من
الأمان، فاستأجرت عربة لم أجد غيرها في مثل هذا اليوم، ورتَّبت حوائجي، وأركبت أطفالي
الصغار، ولكن خاطرًا أفسد عليَّ كل هذا الترتيب. قلت في نفسي: إن دخل الجيش العاصمة،
فالعاصمة كلها في خطر، فما معنى الهروب من حي إلى حي، إن الله إن أراد بنا الشر، لحقنا
أنَّى سرنا، فلِمَ الفرار من المقدور؟ ولم ألتجئ إلى صديقة، ولا ألتجئ إلى الله الذي
سيسمع
دعائي دون شك، وليفعل بعدها ما يريد.»
٢
ولعل أهم ما عني به الاحتلال — منذ دخلت قواته القاهرة في ١٤ سبتمبر ١٨٨٢م — هو
التأكيد على أهمية دوره في الحياة المصرية. فثمة طور جديد دخلت فيه مصر منذ عام
الاحتلال «وهو الاسترشاد بدولة أوروبية عظمى في السير في سبيل تهدئة أحوالها وتنظيم
إدارتها.» كما قامت سلطات الاحتلال بإصلاحات زراعية، توخيًا لتحقيق هدفين: تأكيد الشعار
الاستعماري بأن مصر بلد زراعي لا صناعي، والإفادة من الموارد الزراعية — القطن بخاصة
—
في إمداد المصانع الإنجليزية بالمواد الخام اللازمة لها، وتعالت أصوات تؤكد عجز
المصريين عن تولي المناصب الإدارية، وتلح في وجوب قصرها على الإنجليز. كما تعالت أصوات
أخرى تُدين فرنسا بمظهر الطامع في مصر، توصُّلًا إلى تحقيق تقاعس المصريين عن طلب تأييد
السياسة الفرنسية وحمايتها، لتفقد مصر كلَّ أمل لها في العون الخارجي، وتجد الوقوع في
براثن الاحتلال قدرها المحتوم.
لقد تبادل الناس النكات والحكايات الساخرة عن الضابط خنفس خائن عرابي مع الترك والعربان.
٣ وكان بدراوي عاشور وكيلًا لزراعة رياض باشا، وقد نال رتبة الباشوية في
أعقاب الاحتلال الإنجليزي لمصر.
٤ وثمة رواية (الرئيسة) أن قبيلة «النحارية» اشتُهرت بتربية الخيول المطهمة،
وبتعاونها مع الإنجليز منذ بداية الثورة العرابية، ولما أقام الإنجليز قاعدتهم العسكرية
في السويس، عُقِد اتفاق بين شيخ القبيلة عبد الرحمن عجلان النحاري والقائد الإنجليزي
برايان روبرتسون، لحماية القاعدة من هجمات المصريين، مقابلًا لسكوت الإنجليز عن عمليات
تهريب الحشيش التي يقوم بها أفراد القبيلة، وتمر عبر السويس إلى مركز التوزيع الأساسي
في بلبيس.
٥ ولنقرأ هذه الكلمات لعبد الله النديم: «عندما دخل العدوان، وتربَّع الطَّغام في
الديوان، تجمَّلوا بالثياب، وبرَّموا الأشناب، وانتفخوا بنفس الغير، ونهقوا بصوت الحمير،
وتنهدوا فرحًا واختالوا مرحًا، وجرَّدوا سيوفهم التي ما سُلَّت، وحركوا أيديهم التي قد
غُلَّت، وقابلوا الإنكليز بالولائم، وتقربوا إليهم بالجرائم، وقدم لهم المنافقون النفائس،
وصلَّت لهم النصارى في الكنائس، وتلقَّوهم بالموسيقى والمغاني، وتراقصوا معهم بالغواني،
كأنهم الظافرون بالإنكليز، أو أنهم من غير الوطن العزيز، وجمعوا نقودًا من سائر الناس،
وصنعوا سيفًا لولسلي وسيفًا لسيمور وطبنجتين، مرصعة بالماس، وكتب عليها مشير المنافقين،
هدية ومعرفة جميل من المصريين، فدوَّنوا لهم تاريخ ذلِه، بانتصارهم بعدو الملة. ثم وضعوا
الرحمة تحت نعالهم، وجعلوا القسوة أجمل فعالهم، وداروا حول حزبنا في البلاد، يتصيدونهم
في الأصفاد، ثم ساقوهم إلى السجون، وموارد المنون.»
٦
وللأسف، فقد ظلت التربة المصرية صالحة — للأسف — على امتداد ما يقرب من ثلاثين عامًا،
لإثمار تلك البذور، رغم أن مقاومة قوات الاحتلال بدأت — أو كادت تبدأ — منذ اللحظات
الأولى، عندما خرج بعض أهالي باب الشعرية والحسينية، يحملون الهراوات لمحاربة الإنجليز،
وساروا جماعات إلى قصر النيل وعابدين، لولا أن تدخَّل محافظ العاصمة إبراهيم بك فوزي،
وأقنعهم بعدم جدوى المقاومة حالًا، وأنها لن تؤدي إلا إلى سفك الدماء. وسعى مئات من
الموطنين العاديين، فلاحون وحرفيون وصغار تجار، إلى القلعة — حيث اعتُقل عرابي — يتطلعون
إلى نوافذها من بعيد، ويعبِّرون — دون كلام — عن تعاطف البسطاء من أبناء الشعب مع عرابي،
فاضطرت سلطات الاحتلال إلى نقله إلى سجن «الدائرة السنية». ويروي برودلي أن عرابي قاده
— في أثناء زيارة برودلي له في زنزانته — إلى نافذة صغيرة تطل على الطريق أمام سجن
الدائرة السنية، وقال عرابي: انظر هنا. وأشار إلى عدد من الناس، رجال ونساء وصبية،
تراصوا على الجانب المقابل في الشارع وهم يبكون. ولجأ رجال الشرطة — بعد أن تكاثرت
أعدادهم فصارت زحامًا — إلى تشتيتهم، وأضاف عرابي: هذا المشهد يتكرر كل يوم. وعلى الرغم
من ذلك، فإن عوامل اليأس والقنوط والاستسلام ما لبثت أن تنازعت أبناء الشعب، بعد أن
صدمتهم مهادنة معظم زعماء الثورة للحياة في ظل الاستعمار، وتقديم بعض أبناء البرجوازية
الكبيرة الهدايا للقادة البريطانيين اعترافًا بالجميل في القضاء على «تمرد» العرابيين.
٧ ويقول الرافعي إن الذين أدركوا الثورة العرابية، أو كانوا من رجالها، كانوا
متأثرين بالروح العامة التي خيمت على البلاد، روح الخضوع والاستسلام. وزاد دليل «لوجيه
جان» فوصف المصريين بأن طبعهم هو الطيبة المتهاونة، والميل نحو قبول كل شيء بلا تذمر،
والرضا بالأمر الواقع مهما كان.
٨ لقد بلغت نظرة المصريين إلى تطورات الأحداث حد اللامبالاة، إلى الوجود
الاحتلالي، وإلى قضايا البلاد بعامة، وهو ما شجع سلطات الاحتلال على إذاعة فِرية مؤداها
أن القوة لم تعُد أساس السيطرة البريطانية على مصر، وإنما أصبحت «عاطفة الارتباط
الحقيقية» هي صورة العلاقة بين البلدين.
٩ ويشير هرتزل في يومياته إلى أن تشمبرلن صارحه بأن «الأوضاع ستبقى على ما هي
عليه، لن نترك مصر، هذه كانت نيَّتنا في الأصل، وأنا أعرف ذلك لأني كنت في الحكومة.»
١٠ وفي كتاب «تاريخ مصر من الفتح العثماني» — وهو أحد الكتب التي كانت مقررة
لتدريس التاريخ بالمدارس الثانوية ودار العلوم حتى عام ١٩٢٤م — يذهب المؤلفون إلى أن
مصر
دخلت بعد الاحتلال «في طورٍ جديد، وهو الاسترشاد بدولة أوروبية عظمى في السَّير في سبيل
تهدئة أحوالها، وتنظيم إدارتها.»
١١ وأن إنجلترا «لم تقصد بقاءها بمصر أمدًا طويلًا، بل كانت — على العكس من
ذلك — عازمة على الجلاء عنها، بعد أن تُرسِّخ قدم الإصلاح فيها، وتخرج من الأزمة التي
كانت
سببًا في نزول الجيش البريطاني الديار المصرية. غير أنه حدثت أمور ومشاكل عاقت تقدُّم
مصر
على الوجه الذي تريده إنجلترا، فاضطرت للبقاء فيها إلى اليوم.»
١٢ ولا يخلو من دلالة، قرار الخديو بمنح الجالية البريطانية مساحة واسعة من
أرض الجزيرة بالقاهرة، أنشَئوا عليها نادي الجزيرة، الذي اقتُصرت عضويته على الضباط
والمدنيين الإنجليز.
وكان من أخطر نتائج فشل الثورة العرابية، انفصال مصر — واقعيًّا — عن دولة الخلافة،
وإن تأجَّل إعلان ذلك إلى بدء الحرب العالمية الأولى. وأيًّا كان الرأي في الخلافة
العثمانية، فمن المؤكد أن تقطيع أوصالها، والوثوب على دويلاتها، كان هدفًا غاليًا
للاستعمار الأوروبي. وحين غادر الشيخ معاوية القليوبي (حديث الصباح والمساء) السجن، بعد
قضائه خمس سنوات، وجد نفسه في دنيا غريبة «فلا أحد يذكر الثورة أو أحدًا من رجالها، أو
تُذكَر بعض الأسماء مصحوبة باللعنات.»
١٣ وفي ٣٠ يناير ١٨٩٢م — بعد أن تلاشت حتى الأصداء! — أصدر الخديو توفيق أمرًا
بالعفو عن العرابيين المنفيين، والتصريح لهم بالعودة إلى مصر، ما عدا المنفيين منهم في
سيلان، وكان ممن نُفي منهم: عبد الله النديم، حسن موسى العقاد، محمد عبيد، علي قبودان.
وقد استغل كرومر وضع المرأة في المجتمع المصري، فتحدث عن ضرورة تحرير المرأة العربية
من استبداد الرجل الشرقي، للبرهنة على حاجة الشعب المصري إلى حكم الاستعمار،
١٤ وأصدرت سلطات الاحتلال — في الوقت نفسه — أول تنظيم لمهنة الدعارة في
١٨٩٦م.
•••
كان أول قرار اتخذته قوات الاحتلال، إلغاء الجيش الوطني، وتجريد جميع الضباط الذين
شاركوا في الثورة من رُتبهم، وحرمانهم أي حقٍّ في المعاش أو مرتب الاستيداع. ثم عهد الخديو
إلى ضابط إنجليزي هو السير بيكر
Baker بمهمة تنظيم جيش
مصري جديد، يكون خاضعًا للسيطرة البريطانية «دخلوا مصر وفي جيشها من هم أولو سابقة في
الفضل وخصيص في العلم، ومن حنَّكته السن، وغذَّته التجربة، وخبطته الحروب … فكنت ترى
فيهم
المهندس الماهر، والكيماوي الماهر، والمحيط بفن الحرب وعلم التكتيك ممن تذاوقوا معهم
سِجال الحرب يوم طرقونا، فأشفقوا أن يكون هؤلاء أمام سياستهم صفًّا صلدًا، فزحزحوهم عن
أماكنهم، حتى أصبح الجيش عطلًا من كل رجلٍ مكين، ثم نظروا فإذا المدارس الحربية تغذو
أشبال تلك الأسود لبان العلوم والمعارف، فهالهم أمرها، وأسرعوا في سلبِها كنز علومها،
وتجريدها من حِلى فضائلها … وأراد ربك فأمست وهي أشبه بمصانع الدجاج، يدخل فيها التلميذ،
فلا يسلخ ستة أشهر حتى يغدو وعلى جنبه سيف صقيل، فهو يوم دخل فيها مثله يوم خرج منها،
لا يزيد علمه في الحالين عن يوم خروجه من بطن أمه.»
١٥ ثم عيَّن الخديو أول سردار — قائد عام — إنجليزي للجيش المصري، وظل هذا
المنصب وقفًا على الضباط الإنجليز حتى نهاية عهد الاحتلال. ثم أصدر الخديو مرسومًا آخر
بتعيين الفريق بيكر باشا مفتشًا عامًّا للبوليس المصري، وبعد أن كان عدد المدارس الحربية
في عهد إسماعيل تسعًا، اقتصر على واحدة، وهُدِمت القلاع والحصون، وفُرضت نفقة سنوية لجيش
الاحتلال قدرها ١٥ ألف جنيه. وبذلك أحكم الإنجليز سيطرتهم على كل قوى الأمن الداخلية
والخارجية ولما ينقضي أربعة أشهر على احتلال البلاد، كما ألغت سلطات الاحتلال دستور
١٨٨١م الذي انتهت إليه الثورة العرابية ويُعَد من أرقى الدساتير في العالم آنذاك، وقامت
لجنة التصفية بتخصيص نسبة ٦٦٪ من إيرادات الدولة لسداد دين مصر العام. وفي ١٨٩١م وافق
آل
روتشيلد في لندن وباريس على إقراض تركيا مبلغًا من المال، لتسدد ديونًا عليها عجزت عن
دفعها، واشترط آل روتشيلد أن تتعهد مصر بدفع أقساط الدَّين خصمًا من الجزية المفروضة
عليها، وأصدر السلطان عبد الحميد أمره إلى الخديو توفيق بأن يدفع ٢٨٠٦٢٢ جنيهًا كل عام
إلى روتشيلد لندن وروتشيلد باريس.
١٦ ثم أصدر السلطان عبد الحميد أمرًا آخر إلى الخديو عباس بدفع دين جديد
استدانته تركيا من آل روتشيلد، وظلت الحكومة المصرية تدفع قيمة القسطَين الأول والثاني
حتى سقوط السيادة العثمانية عن مصر. مع ذلك، فإن الحكومة المصرية ظلت تدفع الأقساط إلى
عام ١٩٢٤م عندما تنبهت إلى خطئها، فقرر البرلمان في ٩ يوليو ١٩٢٤م عدم وجوب دفع أقساط
الدَّين التركي. ورفع آل روتشيلد دعوى أمام القضاء المختلط، فأصدر حكمًا بتاريخ ١٥ يونيو
١٩٢٥م بإلزام الحكومة المصرية بأن تدفع إلى آل روتشيلد أقساط الدَّين من ١٩٢٤م إلى ١٩٢٥م،
وأيدت محكمة الاستئناف هذا الحكم.
١٧ وكان تقرير اللورد دوفرين، سفير إنجلترا بالآستانة، الذي حاول — من خلاله —
أن يضع تخطيطًا للدولة المصرية في ظل الاحتلال البريطاني، كان ذلك التقرير تكريسًا
للاحتلال، واستشرافًا لأعوامٍ طويلة قادمة في ظله. وركز التقرير، الذي رفعه صاحبه إلى
اللورد جرانفل وزير خارجية بريطانيا في ٦ فبراير ١٨٨٣م، أي بعد خمسة أشهر فقط من دخول
القوات البريطانية القاهرة، على بعض النقاط التي تساعد على تثبيت الاحتلال، وإضعاف
الشخصية المصرية، وإحلال الجاليات الأجنبية — والإنجليزية بالذات — محل العناصر الوطنية
في مجالات العمل المختلفة. وقد أشار التقرير — ابتداء — إلى أن حق العمل في الوظائف يجب
أل يكون مقصورًا على المصريين، و«أن كل من وُلِد في مصر يكون له حق الدخول في الوظائف
الحكومية، ولو لم يكن مصري الجنسية.»
١٨ ثم أكد التقرير أن مصر «لا تستطيع الآن أن تسترجع استقلالها»، وليست من
الأهلية والكفاءة بحيث تتمكَّن من التمتع بما يُطلَق عليه اسم الحكومة الدستورية.
١٩ أما الجيش، فإن مصر — في تقرير دوفرين — لم تعُد في حاجة إلى أكثر من ستة
آلاف رجل، ينتظم في سلكهم سلالة الأتراك من المتمصرين، بقيادة جنرال إنجليزي، يعاونه
سبعة وعشرون ضابطًا إنجليزيًّا. وأنقصت سلطات الاحتلال قوات الجيش المصري من ٥٠٦٠٠ جندي
إلى ١٢٠٠٠ في نوفمبر ١٨٨٢م — أي في عام الاحتلال نفسه — ثم هبط في ١٨٩٢م، إلى ثلاثة آلاف
فقط.
٢٠ وفي ١٨٦٦م أصدر السلطان العثماني فرمانًا بمنح مصر حق زيادة جيشها إلى ٣٠
ألفًا، ثم صدر فرمان آخر في يونيو ١٨٧٣م يهب مصر الحق في زيادة جيشها إلى أي عددٍ تريد.
٢١ وأدخلت سلطات الاحتلال البدل النقدي عام ١٨٨٦م ليصبح التجنيد في الجيش
مقصورًا على الفقراء، ويُعفى منه أبناء الضباط وعلماء الدين وموظفو الحكومة وطلبة
المعاهد الدينية، كما يُعفى منه من يحفظ القرآن كله. وأما قوات «الجندرمة» — وهي أقرب
إلى قوات الحدود، وإن كانت تابعة لوزارة الداخلية — فإن رئاستها يجب أن تُعهَد إلى مفتش
عام ومساعد له من الأوروبيين، يعاونهما أربعة مفتشين، وثمانية عشر ضابطًا أوروبيًّا.
وأما قوات البوليس، فقد اقترحت السلطة البريطانية أن تعتمد الحكومة — إلى جانب البوليس
المصري — على بعض رجال البوليس الأوروبي، أن يتولى الإشراف على الجندرمة والبوليس مفتش
عام إنجليزي هو بيكر باشا. وبالنسبة للهيئات النيابية، فقد طلب اللورد دوفرين إلغاء
مجلس النواب المصري، وإنشاء نظام تمثيلي آخر يتكوَّن من مجالس المديريات، ومجلس شورى
القوانين، والجمعية العمومية، وضغط على أهمية أن يكون أعضاء تلك المجالس الثلاثة من
الإقطاعيين والأعيان. وبالنسبة للقضاء، فقد اقترح الرجل إدخال العنصر الأوروبي في
المحاكم الأهلية، وأن يكون النائب العمومي إنجليزيًّا. حتى الري، أوصى الرجل بتعيين
مهندس من الهند يتمتع بصلاحيات مطلَقة في التعيين والفصل. ولم تسلم مصلحة السياحة أيضًا
من اقتراحات اللورد بأن يتولى الأعمال الفنية فيها ضباط وفنيُّون من الإنجليز. وثمة
اقتراحات أخرى عديدة، تغلب عليها جميعًا الرغبة في «إنجلزة» الوظائف المختلفة، ومن
المؤسف أن كل تلك الاقتراحات قد وجدت سبيلها إلى التنفيذ — بصورة وبأخرى — في أعوام
الاحتلال التالية.
وعقب تشكيل وزارة بطرس غالي، خاطب الخديو أعضاءها قائلًا: «إن هناك أفكارًا مثل
الأفكار التي يسمُّونها بالوطنية والحرية، عليكم أن تعملوا جهدكم في استئصال الطائش منها،
ورده إلى الصواب» «وأصبح مقهى الأزبكية — مقهى الأفغاني — مكانًا للعُمَد والخواجات
وتجار القطن.»
٢٢
ولا شك أن سماح قوات الاحتلال لقادة الثورة بالعودة من المنافي، قد شكَّل تكريسًا
للوجود الاحتلالي، وغياب توقع ردود أفعال من أي نوع. وكان عرابي في مقدمة العائدين إلى
الوطن «وقد ابيضَّت لحيته — الوصف للأهرام — وانحنت صعدته وهدَّ منه الخذلان والانكسار
والوهن والضعف والتاريخ والمنفى ركنًا من الصيت والسمعة والجبروت، شاده من اسم هذا
الوطن: مصر.»
٢٣ واستقبل أحمد شوقي عودة عرابي بقصيدة تحطُّ من شأن الثورة وزعيمها، وتباينت
كتابات الصحف ما بين الانتقاد القاسي (أبرزها ما كتبه اللواء والمؤيد)، والمناصرة،
وتبرير ما حدث، والإشفاق.
•••
وفي ١٩٠٥م نادى كرومر بأن «الأمة أحوج إلى التعليم الأوَّلي من التعليم العالي.»
ودعا
لإنشاء الكتاتيب، وشجَّع كبار الأعيان على إنشائها، وكان التعليم الثانوي إنجليزيًّا
تمامًا، الناظر والمدرسون والتعليم، ما عدا اللغة العربية.
٢٤ وبعد أن كان عدد طلبة مدرسة الطب ٢٩٠ طالبًا يدرسون بالمجان، تدهورت
المدرسة بعد الاحتلال، حتى إنه لم يتخرج فيها في ١٩٠٧م سوى سبعة أطباء فقط.
٢٥ ويصف سعد زغلول سياسة دنلوب في التعليم بأنها ترمي إلى تضييق دائرة التعليم
حتى لا تشمل إلا عددًا محصورًا من التعليم، ومقدارًا محدودًا من المعلومات.
٢٦ أما الفنان فقد نعتَ دنلوب بأنه «نيرون النظارة في عهد الاحتلال، وصلب
الإرادة في تحريم المجانية على أبناء البلاد، في جميع مدارس مصر.»
٢٧ ويذهب السير فالانتاين شيرول أن الاحتلال البريطاني لم يفشل مثل فشله في
مجال التعليم،
٢٨ فقد كان الهدف من التعليم مجرد تخريج أعداد من صغار الموظفين للحكومة،
٢٩ بلا حوافز، ولا مبادرات خاصة، وغير حاصلين على تعليم حقيقي.
لقد بدأت مشكلة ازدواجية التعليم منذ ولاية محمد علي، حين سمَح بنظامَين للتعليم،
يتباينان بصورة مؤكدة، فقد قامت لائحة رجب (١٢٨٤ﻫ/١٨٦٨م) على تنظيم الصلة بين التعليم
الحكومي والتعليم الأهلي على نحو يحقق تعاونهما في مجال التعليم. تضمنت تحويل الكتاتيب
الكبيرة بالمدن إلى مدارس ابتدائية، ويُكتفى في كتاتيب القرى بتعلُّم القرآن الكريم
والكتابة والقراءة ومبادئ الحساب، على أن يكون تعيين مؤدبي وعرفاء هذه الكتاتيب من
اختصاص ديوان المدارس. واشترطت اللائحة أن تكون كتاتيب القرى حسنة الموقع، لطيفة
المبنى، تأنس بها نفوس الأطفال.
٣٠ ويذهب عزت عبد الكريم إلى أن اللائحة هي «المحاولة الأولى لإنشاء نظام قومي
للتعليم في مصر.»
٣١ وقد عاب البعض على محمد علي سماحه بالمدارس النظامية إلى جانب المعاهد
الدينية، فهو بذلك قد أخلَّ بوحدة النظام التعليمي، فجعله دينيًّا وغير ديني، وكان الأولى
— في تقديرهم — أن يُجرى الإصلاح في المدارس الدينية بما يؤهلها لتحقيق الأغراض التي
أنشئت لها المدارس الجديدة، فتُخرِج أطباء ومهندسين ورجال قانون وصنائع، بل وقادة
عسكريين، درسوا علوم الدين إلى جانب علوم الدنيا.
٣٢
ويشير مصطفى عبد الرازق إلى أن نهضة محمد علي لو أنها «سارت في سبيلها على النحو
الذي
بدأت به، لكنا اليوم نزاحم الغرب بالمناكب في مجال الرقي العلمي.»
٣٣ ولعل ذلك ما ذهب إليه جمال عبد الناصر — فيما بعد — بإصدار قوانين تطوير
الجامعة الأزهرية.
ثمة نظام الكتاتيب التقليدي الذي ينتهي بالمجاورة في الأزهر، ثم الحصول منه على درجة
العالمية.
٣٤ وثمة — من ناحية أخرى — نظام التعليم الأوروبي الذي لا يعطي لعلوم الدين
الاهتمام نفسه الذي يعطيه نظام التعليم الديني. وقد ظل هذا التباين قائمًا، بكل ما
ينطوي عليه من اختلافات في التقاليد والعادات والزي وأسلوب الحياة، وحتى لغة الكتابة
أو
الحديث. وأتصور أن هذه المشكلة المتجددة لم تصل إلى حل «توفيقي» لها إلا في الستينيات
من القرن العشرين، حين بدأت جامعة الأزهر في تدريس العلوم العصرية ممثَّلة في الكليات
النظرية والعملية، كالآداب والطب والتجارة والهندسة وغيرها؛ أصبح من الميسور دراسة علوم
الدين والعلوم الحديثة في آنٍ معًا.
وفي مارس ١٩٠٨م صدر قانون جديد باسم قانون الإصلاح الأزهري، بهدف خروج الأزهر عن
نظامه
القديم إلى نظام مدرسي حديث، يُوزَّع فيه الطلبة توزيعًا إجباريًّا على سنين متتالية،
وعلى
أساتذة معيَّنين، وفي أوقات محددة، تحت مراقبة دقيقة، وامتحانات دورية. وقد وصف مصطفى
عبد
الرازق ذلك النظام بأنه مظهري، فحينما أخذ القائمون على القانون تنفيذه «عجزوا عن ذلك
عجزًا فاضحًا، رجَّ الطلبة والمدرسين رجًّا عنيفًا، وأشاع فيهم الخلل والاضطراب، فامتلأت
نفوسهم حنقًا، وأخذت بوادر الثورة فيهم تتراءى لأعين الناظرين، وتوالت النذر بهبوب
العاصفة. وبعد شهر، أو أقل، خرج طلبة الأزهر إلى الشوارع يهتفون بإصلاح الأزهر،
ويجتمعون في ميادين القاهرة، وداخل الجامع، يتبادلون الخطب في شرح حالهم، ويتواصون
بالثبات والعزم حتى تُجاب مطالبهم، ولقيت حركتهم هذه عطفًا عامًّا، وكان صداها يسري في
أرجاء البلاد مدويًا.»
٣٥
هوامش