فتاة مصر
مما سبق، يمكن أن تتحدد نظرتنا إلى رواية «فتاة مصر» ليعقوب صروف؛ فهي واحدة من
محاولات
التأكيد على الدور الحضاري الذي قام به الاحتلال البريطاني في المجتمع المصري. وربما
صدرت هذه الرواية بالذات لضرورة سياسية بأكثر من أن تكون تعبيرًا عن ضرورة فنية (نشرت
الرواية منجمة في المقتطف سنة ١٩٠٥م، ثم صدرت طبعتها الأولى في كتاب في العام نفسه).
لقد
صدرت في العهد نفسه الذي بدأت فيه عملية نجلزة الوظائف بعد أن اطمأن الاحتلال إلى
مركزه الدولي. ويقول هيكل: «في هذه الظروف، بلغ سلطان إنجلترا في مصر أوج قوته، فلم يكن
أمر ما بالغة ما بلغت تفاهته، يُبرَم أو ينقض من غير إقرارهم عن طريق موظفيهم الذين
احتلوا كل مناصب الدولة الرئيسة، والذين كانت لهم الكلمة النافذة على الموظفين المصريين
مهما يكن منصب الموظف الإنكليزي صغيرًا، ومنصب الموظف المصري كبيرًا» (الملاحَظ أن معظم
أفراد الجالية البريطانية الذين قدِموا إلى مصر، وأقاموا فيها، هم من أبناء جزيرة مالطة
التي كانت أحد ممتلكات التاج البريطاني). ويلاحِظ إبراهيم (النفس الحائرة) أن أعداد
المهاجرين إلى مصر — في أواخر القرن التاسع عشر — تزيد عامًا فعامًا.
١ وبالأرقام، فقد زادت أعداد الأوروبيين — في الفترة من ١٨٩٧م إلى ١٩٠٧م —
بنسبة ٣٥٪ تقريبًا، وكان غالبيتهم من اليونانيين والإيطاليين. أصبح دخول مصر مباحًا
بلا شروط ولا قيود «حتى لكل بلطجي وقواد وتاجر مخدرات ورقيق أبيض. كلهم يجدون في مصر
نِعم
الملجأ والمأمن. استثمار للأموال تحت ظل المحاكم المختلطة، دون دفع مليم واحد لخزانة
البلد الذي ينهبون خيراته، بل إن تصدير الأرباح مباح ومتَّبع. لا عجب أن تولَّى الرأسمال
الأجنبي خنق أنفاس الرأسمال الوطني. الفلاح غارق لذقنه في ديون أرباح الربا، وأرض مصر
تكاد أن تكون مرهونة في البنوك الأجنبية.»
٢ وكما يقول الفنان، فلم يعُد هناك بيع بالأسواق إلا بموافقة محمد سعيد باشا،
الرجل الذي وقَّع معاهدة الاحتلال.
٣ وقد أدَّت الهجرة الأجنبية إلى قيام مشادات بين العمال الوطنيين والأجانب،
سقط فيها قتلى من الجانبَين، وحين عُرضت تلك الأحداث على المحاكم القنصلية، تحيَّزت
للأوروبيين بصورة سافرة.
٤ يقول يحيى حقي: «كان البلد لغير أهله. تجارة الصادر والوارد والمصارف
والشركات، في يد الأجانب، يملكون قدرًا كبيرًا من الأراضي الزراعية، أحياء برمتها
مستعمرات لهم. هم مُلاك مبانيها ومتاجرها، اللافتات مكتوبة بالإفرنجية، الشحاذون في هذه
الأحياء من الأجانب، سائق التاكسي أجنبي، الكمساري في الترام مصري، والمفتش أجنبي.
الكمساري في المترو أجنبي، لأن المترو أرقى من الترام.»
٥ ويُدين إبراهيم بك (النفس الحائرة) عجرفة الجاليات الأجنبية، وأنهم «شامخون
بأنوفهم، يحسبون الشرقي — كانت الهوية العربية تعاني المخاض! — دونهم، بل يحسبونه عبدًا
لهم.»
٦ من هنا، كانت ملاحظة ابن البلد على الظروف الأفضل التي يحياها الأجانب في
بلاده، هي أن «الأمر لله، لهم الدنيا، ولنا الآخرة.»
٧
•••
كانت الإسكندرية هي أولى مدن مصر استيعابًا للأجانب الوافدين الباحثين عن المغامرة،
أو الثراء، أو لقمة العيش. أروام وإيطاليون وإنجليز وأرمن ومالطيون وقبارصة، ومِلل ونِحل
لا حصر لها. وكانت زبيدة (في وادي الهموم) إحدى أختين، قدِم أبوهما من الجزائر، فاستوطن
الإسكندرية. كان متوسط أعداد القادمين إلى الإسكندرية ما بين عامَي ١٨٥٧م و١٨٦١م حوالي
٣٠
ألفًا كل عام، جميعهم من الناحية الفعلية — كما يصفهم ريمون فلاور — حثالة البحر
المتوسط، جمهور أشبه بالمافيا، لا يهمُّه سوى شيء واحد، وهو أسرع وأقصر الطرق لجمع المال.
٨ وفي نهاية عام ١٨٦٠م كتب مهندس فرنسي شاب يعمل في شركة قناة السويس، يصف
مدينة الإسكندرية بأنها مدينة جميلة، وبخاصة الحي الأوروبي، وإن عابها قسوة الأوروبيين
على العرب؛ فهم يضربونهم بقسوة، وكل أوروبي تقريبًا يحمل سوطًا يضرب به عشوائيًّا.
٩ وفي ١٩٠٧م كان عدد سكان الإسكندرية ٤٠٠ ألف نسمة، من بينهم ٩٢٠٠٠ أجنبي، في
حين كان مجموع الأجانب — في مصر كلها — ١٥٠ ألف أجنبي.
١٠ وتصف الكاتبة الإنجليزية سارة سيرانت صورة الحياة في الإسكندرية، بعد فشل
العرابيين: «وبعد ثورة عرابي ١٨٨٢م التي قتل خلالها عدد من البريطانيين [تناست مواطني
مصر!] كما أحرق معظم الحي الأوروبي في المدينة [من الذي أحرقه؟] أعيد بناء وسط
الإسكندرية من جديد على طراز سواحل الريفيرا الأوروبية، وأصبح مقرًّا صيفيًّا للحكومة،
وهناك رسم معاصر يبيِّن ميدان القناصل الذي يحتله الآن ميدان محطة الرمل. وكان هذا
الميدان يضاء بالغاز، وله أرصفة ونوافير، وبه متحف ساهم بالنصيب الأكبر في تمويله تاجر
يوناني، يحوي مجموعة محترمة من الآثار اليونانية والرومانية، وكان به أيضًا دار أوبرا
تجذب الفِرق الغنائية الإيطالية المتجوِّلة بين الحين والآخر، بالإضافة إلى عدة مطاعم
فرنسية جيدة ومدرسة إنجليزية هي «فيكتوريا كوليج» التي أنشئت قرابة نهاية القرن. لقد
كان المقيمون في الإسكندرية [من الإنجليز بالطبع] يحصلون على أكبر متع الحياة ويتجنَّبون
آلامها. وكان المسئولون البريطانيون في القاهرة يصطحبون أصدقاءهم من الوزراء
المصريين إلى ضاحية الرمل كل صيف، حيث يقطعون وقتهم في لعب البريدج وحفلات الشاي،
ويثرثرون خلال ذلك حول اهتماماتهم القاهرية، بينما تتمتع أسرهم في أيام الآحاد بالفرق
الموسيقية التي تلعب في الحدائق التي تفصل بين الرمل ووسط المدينة.»
١١ كان الأجانب يعتبرون كما لو أنهم لم يتركوا البلاد التي قدِموا منها، فهم
يتمتعون بحرية الإقامة وحرية التجارة وحرية التنقل وحرمة المسكن، ولا يمكن القبض عليهم
إلا طبقًا لقوانين بلادهم، أو للقوانين المصرية التي توافق عليها بلادهم، فضلًا عن أنهم
لا يخضعون لأية ضرائب مباشرة.
١٢ أفاد الأجانب من الامتيازات الأجنبية التي كان لها — على حد تعبير اللورد
ملنر في تقريره — حسنات هي أنها تحمي حرية الأجانب وأملاكهم، من حيث إنها تضمن لهم
العدل [!] في أحكام المحاكم، والسلامة من استبداد الحكام المحليين [وماذا كانوا
يستطيعون؟!]، ولها — في المقابل — كما يقول ملنر — سيئات، تبين في إعفاء الأجانب من
الضرائب، ومن اتباع القوانين المحلية واللوائح العادلة «فتؤخر بذلك البلاد تأخيرًا.»
١٣ وفي رواية «أوديسا العصر الحديث» يقول اليوناني استراتيس: «لم أكن أتخيل
أبدًا أن الإسكندرية تضم هذا الجمع العظيم من الناس، وذلك الخليط الهائل من الأجناس
التي تعيش معًا في موطن واحد.»
١٤ وحتى العشرينيات من القرن العشرين، كان الجو كله — على حد تعبير الفنان — أجنبيًّا.
١٥
•••
ولعل أهم ما يستوقفنا عبر صفحات «فتاة مصر» هو التأكيد على الدور الذي بدأت الجاليات
الأجنبية تقوم به في حياة المجتمع المصري. وهو دور يعبِّر — في الدرجة الأولى — عن نجاح
الحضارة الغربية الوافدة في إحلال نفسها محل الحضارة العثمانية الغاربة. لقد كان ثمة
ثلاث طبقات رئيسية، هي:
-
الطبقة الأرستقراطية التركية، ممثَّلة في الخديو والقصر والطبقة التركية والشركسية
التي خلَّفها حكم محمد علي.
-
الطبقة الأرستقراطية المصرية، التي أسهم في خلقها الاحتلال البريطاني.
-
طبقة الشعب والقوى الوطنية.
ثم نما حجم الوجود الأجنبي ممثَّلًا في آلاف الوافدين من الإنجليز والفرنسيين
والإيطاليين والأروام وغيرهم، فشكَّل طبقة لها مصالحها ونفوذها وسندها القوي الممثَّل
في
المحاكم المختلطة.
•••
كان في مقدمة الأهداف التي قامت من أجلها الثورة العرابية، المساواة بين المصريين
والأتراك. وعلى الرغم من فشل الثورة، فقد بدأت شعاراتها تتحوَّل إلى حقائق مجسَّدة، وبدأ
الهدف «الصعب» يأخذ سبيله إلى الواقع شيئًا فشيئًا: ظل النفوذ التركي على تضخُّمه منذ
عهد
إسماعيل، الذي فرض الأتراك والشراكسة على المناصب القيادية في الجيش والدولة، ومنحهم
آلاف الأفدنة من أجود الأراضي الزراعية. وكان ٤٦ ناظرًا في توالي تأليف النظارات
المصرية منذ ١٨٧٧م إلى ١٩١٤م من أصول تركية: شريف، رياض، راتب، أفلاطون، حيدر، رفقي،
شهدي، مظلوم، عباني، رشدي، حشمت، ذو الفقار، محب، ثروت وغيرهم.
١٦ ومع أن الثورة وضعت الجرس في عنق القط، حتى كتب السير كولفن يصف الثورة
العرابية بأنها — في الأصل — حركة مصرية لا شبهة فيها ضد استبداد الحكم التركي «فأما
الأسباب التي أدت مباشرة إلى الأحداث التي نشاهدها، فترجع إلى رد الفعل الذي أدى إليه
ديكتاتورية إسماعيل، وإلى تحرُّر أفكار المصريين الذي تزايد بسبب اتصالهم الوثيق
بالأوروبيين، وأخيرًا إلى تلك الفرصة التي نتجت من وضعٍ شاذ، وجدت مصر نفسها فيه مستقلة
في تصرفاتها عن تركيا، وعن الدولتين الكبيرتين — إنجلترا وفرنسا — ومع أنها موجهة ضد
الأتراك في الأصل، فإنها — في صميمها — نهضة مصرية وطنية.» مع ذلك، فإن السيطرة التركية
ظلت ميسمًا للحياة في مصر، إلى حد أن سلامة موسى يشبِّه المجتمع المصري في أوائل هذا
القرن بأنه كان تركيًّا أو كالتركي، «فكان الاصطياف في إستانبول مألوفًا. وكانت الحكومة
المصرية تؤدي «الجزية» السنوية لتركيا، وكانت العائلات الغنية عائلات تركية خالصة أو
خلاسية، وقلَّما كنا نجد مصريًّا ثريًّا.»
١٧ وتروي فاطمة اليوسف في ذكرياتها أن الأرستقراطية المصرية كلها كانت تقضي
أشهر الصيف على ضفاف البوسفور.
١٨ كما يروي يحيى حقي أن الخديو عباس الثاني كان يبدأ إجازته الصيفية كل عام
بزيارة إستانبول، ليقبِّل أعتاب الخليفة، ويسلم على الصدر الأعظم في الباب العالي، ثم
لا
ينسى أن يدفع البقشيش للباش أغا، وكان سراة مصر يقصدون أيضًا إستانبول لشم الهواء
والرجوع برتبة.
١٩ وفي رواية «الحسناء الوفية» صحب الوالد التركي ابنه بعد أن أتمَّ الثانية عشرة
إلى الآستانة، حيث أدخله في المدرسة السلطانية، فأقام بها أربعة أعوام، ثم استكمل
تعليمه في باريس.
٢٠ ويهبنا الفنان في قصة «حمدان بك» هذه الصورة الدالة: «ذات يوم، أقبل الشيخ
حمودة للاستفسار عن صحة عطوفة الناظر، وفي صحبته رجل نحيف القوام، أنيق الملبس، حبشي
اللون، وما إن رآه خدم القصر حتى هبُّوا لاستقباله استقبالًا حافلًا، وأقبل أغا السراي
يهرول وحيَّاه بخشوع، ثم تقدَّم الرجل الحبشي نحو «الحرملك» يتبعه الأغا، فدهش حمدان
وسأل
عن الرجل، فأخبروه بأنه «باش أغا الجناب العالي الخديوي»، فكاد حمدان يُجَن من الفرح،
وجرى إلى باب الحرملك في ارتقاب نزول الباش أغا وقد وقف مشبك اليدين، مقلدًا وقفة أغا
السراي. ولما أهلَّ «الباش أغا» بطلعته، حيَّاه التحية التركية من الأرض، ومشى خلفه يتملَّقه
بأطيب التمنيات. وسأله الباش أغا: أين الشيخ حمودة؟ فأجاب: إنه في انتظار … وحار اللقب
الذي يلقِّبه به بين شفتَيه لحظة، ثم ألهم فقال: عطوفتكم … إلخ.»
٢١ وعندما عرضت مسرحية محمد تيمور «العشرة الطيبة» ثار الأتراك وطبقة
الأرستقراطية المصرية لِما يحويه الأوبريت من نقد وسخرية بالأتراك.
٢٢ كان الفلاح في نظر السادة الأتراك «بيس مونده»، أي قذر.
٢٣ وما كان يُسمَح له بشرف الجندية
ولا الفروسية، ولا بشرف المصاحبة في حفل أو اجتماع.
٢٤ ويقول المحامي في «حديث عيسى بن هشام»: «كأن الدهر سلَّط المماليك على
المصريين، ينهبون أموالهم، ويسلبون أقواتهم، ثم سلَّطكم الله — يعني الأمراء الشراكسة
والأتراك — عليهم لسلب ما جمعوه، ثم سلَّط عليكم أعقابكم، فسلَّموا مجامع ذلك للأجانب
يتمتعون به على أعين المصريين، والمصريون أولى بالقليل منه.»
٢٥
وعلى الرغم من بقاء الأتراك في مصر مئات السنين، فإنهم لم يؤثِّروا في الطقوس الجنائزية
للشعب المصري. الأتراك لا يعرفون الجنازة، فالمراسم كلها تتم في المسجد، ولا يطلعون
القرافة، ولا يعرفون الخميس والأربعين وطلعة رجب والعيدين، ولا يعرفون الخوص والريحان
والقرص والتمر.
٢٦ وقد أجمع الرحَّالة الأوروبيون على أن الأتراك كانوا معزولين عن باقي الطبقات.
٢٧ وبمُضي الأعوام، لم يعودوا يتذكرون — إلا قليلًا — الشوارع والبيوت في
بلادهم. لا بد أنها قد تغيرت كثيرًا، وأصبح الناس غير الناس. أما الذين وُلِدوا في مصر
أو
جاءوا صغارًا، فلم يكونوا يستطيعون — حين يسمعون الكبار يتحدثون عن ذكرياتهم القديمة
—
أن يتخيلوا تلك البلاد الغريبة.
٢٨ وكان أصل جاد الله عيسى (قصة، فاطمة عبد النور) من المماليك الذين طاردهم
الفرنسيون، ثم نزحوا معهم، وأورثوهم لون العيون الخضر.
٢٩ وكان الحاج مصطفى الحداد (العراوي) ينحدر من صلب أب تركي الجد، وأم مصرية
الجد فلاحة.
٣٠ الأمر نفسه بالنسبة لجد حسين (خادمك المليونير) الذي كان من وزراء تركيا.
٣١ وكانت نبيلة ابنة لأبوَين تركيَّين، وكان هذا سر بشرتها الشقراء، وشعرها الذهبي.
٣٢ وتعزو الراوية (مآذن دير مواس) انتشار البشرة البيضاء والعيون الملونة، في
الكثير من أسر الصعيد إلى العهد التركي. وكانت الدلَّالة أم فائق تركية الأصل، تبيِّن
لكنتها ومفرداتها التركية في حديثها؛ فهي تؤنث المذكر، وتذكر المؤنث، وتخلط عباراتها
ببعض العبارات التركية، مثل خرسيس، ويوك، وغيرها.
٣٣ وبالطبع، فقد تركت القرون الأربعة التي رزح خلالها الشعب المصري تحت وطأة
الاستعمار التركي، بعض التأثيرات في أخلاق المصريين وعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم، تبدَّت
—
مثلًا — في مهاجمة الشيخ علي يوسف — على صفحات «المؤيد» — لشعب اليونان، وتحقيره، لأنه
ثار على الاستعمار التركي، وانتصار بعض الصحف الوطنية لانتزاع تركيا مساحة هائلة من
سيناء، ومحاولة ضمِّها إلى أملاكها في الشام، في المقابل من دفاع السلطات البريطانية
عن
حق مصر في سيناء، وفي استمرار اللغة التركية — كما يقول صاحب الحديث — لغة أصلية. ثم
في
المعارضة القوية من الكُتاب المؤمنين بالدولة العثمانية ضد دعوة «مصر للمصريين»،
وأخيرًا: في انضمام حسان (الشارع الجديد) إلى الجيش التركي في معاركه ضد قوات الإنجليز،
وكان «البوسفور» الذي اتخذه الكازينو الشهير في ميدان محطة القاهرة اسمًا له، دليلًا
على الطابع التركي الذي كان سِمة لجوانب عدة في المجتمع المصري.
٣٤ وثمة الكثير من أسر الصعيد تنحدر من أصول تركية، أوجدها الاحتلال التركي لمصر.
٣٥ ومن الكلمات التي خلَّفها الأتراك، وما زال المصريون يستعملونها: أبلة، هانم.
٣٦ لكن الحضارة التركية لم تُحدِث تأثيرًا عميقًا في الحياة المصرية، يوازي
القرون التي ظلَّت مصر فيها ولاية عثمانية، ذلك لأن الأتراك لم يكونوا — في تقدير الكثير
من الكتابات التاريخية — يمثِّلون قوة حضارية متفوقة، بقدر ما كانوا يمثِّلون قوة عسكرية
تعاني ضحالة التراث الحضاري، فتحوَّلوا إلى عالة على التراث الحضاري المصري منذ الأيام
الأولى للغزوة العثمانية، حين ساق السلطان سليم مئات الفنيين والصنَّاع المهرة من أبناء
مصر إلى الآستانة، ثم اللجوء إلى الأبعاد الحضارية المصرية المختلفة، سواء في العمارة،
أو شكل الكتابة، أو الصناعة، أو الثقافة. وبالتالي، فقد كان الاستعمار التركي نهبًا
حضاريًّا لا يزيد.
٣٧ وهو — بعد أن أنهى وجوده العسكري في عهد محمد علي، ثم السياسي في عهود
خلفائه، إلى إعلان الحماية البريطانية — لم يترك أثرًا حضاريًّا ذا بال، ذلك لأن وجود
الأتراك اقتصر — في الأعوام الأولى من دخول العثمانيين مصر — على القاهرة والمدن الكبرى.
تميزوا عن فئات المجتمع الأخرى بالزي التركي، وبالتصرف على أنهم سادة البلاد، فهم
يعاملون المصريين باعتبارهم الجنس الأدنى. لكن قاسم أمين يذهب إلى أنه «مهما كان الرأي
في حكم الأتراك لمصر، فلا ريب عندي أن الأمة المصرية استفادت منهم كثيرًا، وجدت فيهم
إنسانية راقية، فاقتبست منهم — بالمعاشرة والمصاهرة — النظافة وترتيب المسكن والتفنن
في
الملبس والمأكل، وكثيرًا من العادات الحسنة والصفات الأدبية. وإذا كان التعليم قرَّب
ما
بين الرجال من المسافة، فهي لا تزال إلى الآن بعيدة بين المرأة التركية والمرأة
المصرية، حتى إنك لترى الرجال المهذبين يتهافتون على طلب الزواج بالأولى بقدر ابتعادهم
عن الثانية.»
٣٨ ولأن الفتاة (عودة الروح) كانت بنت أتراك، ورغم أنها كانت أصغر صاحباتها،
فإنها كانت «الشيخة» — والتعبير لأم سنية — وكن يخفن منها، ويحسبن حسابها، ولا لعبة
يلعبنها إلا وتتولى هي الرئاسة، وكن يسمينها «الملكة بنت السلطان».
٣٩ وظلت تركية الباشا (رأس الشيطان) العريقة تأبى أن تهادن، أو يرِق في
معاملته مع الفلاحين وأبناء الفلاحين.
٤٠ ويقول الأب لابنه: «أنت يا بني من أرومة تركية، لست فلاحًا ولا من أبناء
الفلاحين، أنت من طبقة ممتازة.»
٤١ وكان جد فتحي رضوان ضابطًا تركيًّا، قدِم إلى مصر، واختار قرية «المنير»
ليعيش فيها، ثم يُدفَن فيها بعد موته.
٤٢ أما جدته لأمه، فقد كانت من بلاد الشركس، لجأت إلى مصر فرارًا من ويلات حرب
الروس مع الأتراك.
٤٣ وعقب ثورة ١٩١٩م، قرر الباشا (الزوجات العشر) أن يعود إلى تركيا هو وأسرته
للإقامة الدائمة فيها.
٤٤ وعمومًا، فقد توضَّح انحسار الآثار التركية في الربع الأول من هذا القرن:
بدأت الأقليات الأجنبية — وبخاصة الشراكسة والأتراك — تذوب في مجموع الشعب المصري
بعوامل عديدة، مثل المصاهرة. فقد تزوجت خديجة وعائشة من تركيَّين (والملاحظ أن أم إبراهيم
وخليل شوكت هي التي سعت إلى أسرة أحمد عبد الجواد لتزويج ابنتيه، وكانت الأحلام تنأى
عن
تصور ذلك). لم يبقَ لأسرة شوكت من عزة القدِم — وبخاصة بعد توزيع الثروة بالتوارث
والاستكبار على التعليم — إلا الاسم.
٤٥ وكانت الست سرنديل هانم من بقايا الجالية التركية في مصر، تحصل على راتبٍ
بسيطٍ من وزارة الأوقاف أول كل شهر.
٤٦ ووصف الفنان أرملة علي باشا عاصم بأنها واحدة من الأتراك الممصرات، أو المتمصرات.
٤٧ وكان الكثير من المصريين يسافرون إلى إستانبول، يقضي أحدهم هناك شهورًا أو
عامًا، أو قرابة ذلك، ثم يعود ومعه زوجة اقترن بها اتقاء للإثم — في الأغلب — فإذا سافر
ثانية قد يصحب معه الزوجة التركية، ويعود بغيرها.
٤٨ ونتيجة للثراء الذي تحقق للعديد من الأسر المصرية، نتيجة لارتفاع أسعار
القطن وغيره من المحاصيل الزراعية، فقد نشأت ظاهرة مصاهرة الأسر المصرية لأسر من
الأتراك والشراكسة، كما في «ميدو وشركاه» للمازني، و«عودة الروح» للحكيم. كان والد محسن
في
«عودة الروح» فلاحًا مصريًّا تزوج تركية. أقدم على ما فعله عدد من سراة الفلاحين الذين
كانوا يحلمون بالانسلاخ من بيئتهم وطبقتهم، فتزوجوا بأجنبيات، أو من طبقات أعلى. وحرصت
الزوجة التركية في كل مناسبة — وربما بلا مناسبة — على معايرته بأنه فلاح! وحين ثار
محسن، لم تقتصر ثورته على أمه التي تعتز بأصلها التركي المتغطرس، لكنه ثار كذلك على
أبيه ذي الأصل الفلاحي، والذي أسلم مقوده — في تذلُّل غريب — إلى زوجته!
٤٩ وكان أهم ما تعتز به محاسن (ثلاثة رجال وامرأة) أرومتها الشركسية، وإن كانت
رقة الحال قد خفَّفت من غلوائها.
٥٠ وكانت جدة حسن مصطفى أمين (ما تراه العيون) شركسية، زوَّجت ابنتها لمصري،
فأنجبا حسنًا الخالص المصرية.
٥١ الأمر نفسه بالنسبة لأم عدلي بركات (المرايا) التركية، والأب الفلاح
المصري، الثري، واللذين أنجبا غلامَين، أحدهما عدلي.
٥٢ وكان الراوي (البحث عن النسيان) من أب مصري، وأم من أصل تركي.
٥٣ و«في قافلة الزمان» يؤكد الحاج أسعد أنه — يومًا — سيقترن بتركية. وزوَّج
عياد الشركسي ابنته إلى شاب مصري أبيض البشرة، زاعمًا أن هذا يسلكه مع الشراكسة
والأتراك، ويرفعه عن طبقة الفلاحين الغبَّر الوجوه، وإن كانت الحقيقة أنه فلاح ابن فلاح.
٥٤ وكانت مصاهرة الأتراك سبيل أعيان الريف للاندماج في الأتراك، والارتفاع إلى
طبقة الحكام … ذلك ما أقدم عليه — مثلًا — حامد بك العطيفي، بعد أن ورث من جهة أمه
ثلاثمائة فدان من أجود أراضي البحيرة، بينما ظل إخوته من أبيه في إطار ظروفهم كطبقة وسطى.
٥٥ وتزوج المحامي أحمد بك من جيهان هانم التي تنتمي إلى أسرة تركية متمصرة،
ورُزق منها بآمال.
٥٦ كذلك فقد تم العديد من الزيجات ختامًا لعلاقة عمل بين نساء من الأتراك، كن
يملكن مساحات من الأرض هبة أو معاشًا، ولجأن إلى أعيان الريف للإشراف على ما يملكن
وحمايته. وكانت تلك العلاقة تنتهي — في الأغلب — بالزواج، زواج «عمل» من ناحية الزوجة،
وزواج مظهر اجتماعي من ناحية الزوج، بالإضافة إلى عوامل أخرى، مثل العنجهية التركية
التي كانت تحُول بين أفرادها ومصاهرة العنصر المصري، وتأكد وجود طبقة الأعيان المصريين.
ويقول الرجل: «نحن نعرف أن الرجال في بلدنا كانوا يسعون وراء الزواج من المرأة التركية،
لا لجمالها فحسب، وإنما لأنهم يهتمون اهتمامًا خاصًّا بأن ينتمي نسلهم إلى أصل تركي،
فالأتراك حكموا مصر والأمة العربية لعدة قرون، وكانوا أصحاب السلطة التي لا معقب عليها،
فكان الفلاح يشعر في قرارة نفسه أنه إذا ما حكم امرأة تركية في الفراش، فكأنه تحرر من
عبوديته، وخرج عن وضعه الاجتماعي إلى وضع أرقى، وأن أبناءه سوف يتباهون من بعده بأنهم
من نسل تركي حاكم.»
٥٧ وشيئًا فشيئًا، أصبحت الأسرة التي تتألَّف من زوج مصري فلاح وزوجة تركية،
جارية أو مرضعة أو أرمل لضابط أو موظف تركي، أصبحت هذه الأسرة ظاهرة عادية في الحياة
المصرية، وبعد أن كان أبناء الطبقة الوسطى — فما فوقها — يتباهون بالقول إن فلانًا قدِم
من
إستانبول، أصبح قولهم إن فلانًا تعلَّم في بلاد بره!
٥٨ وإن ظل الذين ينتمون إلى أسر تركية — في الريف بخاصة — يشعرون بفارقٍ عرقي
عن هؤلاء الذين ينحدرون من أسرٍ تأتلف من التجار والفلاحين.
٥٩ وكان الأب واحدًا من الأتراك الذين تمصَّروا، كما تمصَّرت أسرته، وإن ظل يحمل
في وجهه، وفي شكله، ما يباعد بينه وبين المصريين.
٦٠ بل إن مأساة أحمد بك (القضبان) تبدَّت في نسبه، ثم في إحساسه المتضخم بذلك
النسب: الدم الأبيض النظيف، طبقة الأسياد التي تحكم الفلاحين.
٦١ وتشير نوال السعداوي إلى جدتها لأمها، وُلِدت من أم تركية، وعاشت في عصر
الحريم، في بيت جدها.
٦٢ وحتى نهاية القرن التاسع عشر — والرواية لتوفيق الحكيم — كان أبناء الطبقات
الموسرة يفضِّلون الزواج من تركيات، ويعتبرون ذلك باعثًا للتباهي، فلما تهاوت دولة
الخلافة، وجد رجال الأسر الثرية مجال التباهي في الزواج من إنجليزيات.
٦٣ وبعد أفول أيام الأتراك، ظل الوالد يدافع عن حكم الأتراك، وكيف أن العيش
يومها كان رخيصًا، والحياة كلها متاع ولذة.
٦٤
والظاهرة التي يلحظها لويس عوض بأن حالات زواج الرجال المصريين من النساء التركيات
أو الشراكسة أو الإنجليز أو الفرنسيين، تكاد تشكِّل القاعدة في اقتران المصريين بالعنصر
الأجنبي، بينما العكس — أي زواج الرجال الأجانب من المصريات — يمثِّل الاستثناء.
٦٥ هذه الظاهرة صحيحة إلى حدٍّ بعيد، إلا فيما يتصل بزواج النساء المصريات من
الشراكسة والأتراك، ذلك لأن الإسلام — وهذا عامل أساس — يبيح زواج المسلم بغير المسلمة،
لكنه يحرِّم زواج المسلمة من غير المسلم. وكل الحالات التي اقترن فيها رجل أجنبي بفتاة
مصرية إنما تمت بين أجنبي وقبطية مصرية، أو بين أجنبي ومسلمة، ولكن بعد أن يُشهِر إسلامه.
وكان نامق (أمواج ولا شاطئ) من أب تركي وأم فرنسية.
٦٦ كما كان مختار (في وادي الهموم) من أصل تركي، وكان والد عشيقته منيرة من
أبوين مغربيين. تزوج الكثير من الأتراك من فتيات مصريات، وصار الأبناء — بالتالي —
يتكلمون اللغة العربية، ويدينون — بحكم المخالطة والبيئة — بالقيم والعادات وسلوكيات
الحياة المصرية.
وقد أدى اختلاط الأسر التركية بالمصريين عن طريق الزواج، إلى سلالة شعبية ذات جذور
أو
أصول تركية، وتَدين لمصر بالولاء الكامل.
٦٧ وإن ظلت كلمة «فلاح» من ألفاظ السِّباب عند بعض هؤلاء الأتراك.
٦٨ ويُعَد مدحت (وطنه قضيته) تعبيرًا عن عملية الذوبان الهائلة للبرجوازية
التركية في المجتمع المصري. فعلى الرغم من حرص أبيه على أن يعزله عن البيئة المصرية،
ويحرِّضه على احتقار المصريين، وينمِّي فيه الإحساس بتفوق أصله التركي، فإنه كان يعاني
فقدان الاهتمامات والآمال والقضية التي يدافع عنها. وجاءت ثورة ١٩١٩م لتؤكد تلك
المعاناة. فزملاؤه في مدرسة الحقوق يقابلون رصاص الإنجليز بالطوب والحجارة والهتاف
والإيمان، بينما هو بلا قضية ولا شيء يهتم من أجله، وحتى لا يفتقد ذاته فقد أهمل وصايا
أبيه، وانضم إلى الثوار.
٦٩
والواقع أن السيطرة التركية الذاوية ظلَّت ميسمًا لتصرفات أفرادها على امتداد فترة
ذوبانهم في المجتمع المصري. فثمة الطبقة العالية المُسماة بالذوات، تسُود فيها اللغة
التركية، وتسيطر عليها التربية العثمانية، أو«العثمللي» كما كانوا يسمُّونها حينذاك.
٧٠ وكان همت بك من سلالة تركية، فهو إذن أبيض الوجه، مورد الخدين، كبير الرأس،
عالي الصوت، لا يتحدث إلا نترًا وعجرفة، ولا يتبادل الاحترام مع مرءوسيه.
٧١ وكان عياد (ثلاثة رجال وامرأة) شركسي الأصل، يؤمن بالشارب المفتول، والعين
الحمراء، والبرجمة في الكلام، والزعقة الشديدة، حين ينادي خادمًا أو غيره، وإن كان
الجرس قريبًا.
٧٢ وكانت الصراحة هي أهم ما يميز الفتاة في قصة «فاكر»، وهي صراحة أرجعها الراوي
إلى «تربيتها التركية بحكم المولد.»
٧٣ وقد وُلِدت نبيلة لأبوين تركيَّين، فأمها زهيرة هانم ابنة علي بك خورشيد، أحد
كبار رؤساء الأقلام في مصلحة حكومية، وأبوها الأميرالاي سامي بك حلمي، أحفظ عليه
الرؤساء الإنجليز في مديريات أعلى النيل، لنزعته التركية الصميمة التي كانت تصبغ
تصرفاته نحو أولئك الرؤساء (محمود كامل، الجارية، آبار في الصحراء، كتب للجميع).
وعندما تصور الناس في شخصية الأم (أين عمري) ميلًا إلى الكبر والتعالي، فإنهم أرجعوا
ذلك إلى أصلها الشركسي.
٧٤ ومع أن الفلاحات كن يعبِّرن عن الفرحة بقدوم السيدة التركية، فإنها طردتهن
بالقول «يالله يا ولية أنت وهيه … على داركم! على داركم! ويبدي ابنها اعتراضًا مؤدبًا:
ليه يا نينة تطرديهم؟ حرام! فتجيبه بالقول: حرام إيه؟ دول فلاحين!»
٧٥ وكانت تركية الباشا العريقة هي الدافع لقسوته على أبناء الفلاحين، بصرف
النظر عن أوضاعهم الاجتماعية.
٧٦
ويقول أحمد عبد الجواد (بين القصرين) لأرملة المرحوم شوكت: فآل شوكت أناس صداقتهم
شرف، لا لأصلهم التركي فحسب، ولكن لمرتبتهم الاجتماعية وعقاراتهم الكثيرة ما بين
الحمزاوي وبين القصرين. ودلالة الكلمات واضحة بأن العنصر التركي يكفي لعراقة الأسرة.
ولم تكن موافقة عياد الشركسي على خطبة ابنته لمحمود المصري إلا لبياض وجهه، مما يسلكه
مع الشراكسة والأتراك، ويرفعه عن طبقة الفلاحين الغبر الوجوه، وإن كانت الحقيقة أنه
فلاح ابن فلاح. وكان التحدث باسم التمدُّن وسيلة الزوجة التركية (عودة الروح) للتأثير
في
زوجها، وإخضاعه لها، وقطع الصلة بينه وبين أقربائه من الفلاحين «من إمتى يا حضرة العمدة
الفلاح؟! أنت تنكر إني أنا اللي مدِّنتك وعلمتك الأبهة؟!»
٧٧ وساعد الزوجة على تحقيق بغيتها ضعف شخصية الزوج، ورغبته الملحَّة في
الاندماج الكُلي في جو الأتراك والمتترِّكين من طبقة الحكام. كانت الزوجة تسعى إلى تخليص
الزوج الفلاح من كل انتماءاته الطبقية. وكان الزوج يساعدها على ذلك بطموحه لمستوى
اجتماعي مرتفع، لكن الابن — محسن — رفض أفكار أمه وتطلعات أبيه، وانحاز إلى الفلاحين
المصريين في تعاطف رومانسي لم تعِنه بيئته على إنضاجه.
٧٨
وثمة حوار بين الزوجة التركية والزوج الفلاح في دولت، يذكِّرنا بحوار مشابه بين الزوجة
التركية والزوج الفلاح في عودة الروح:
– إنت تحمد ربنا إنك تزوجتني، وإني قبلتك.
– وهل اعترضت على شيء يا ست جلسن؟
– آ … أنت لم تعُد تطيق أن تراني، لم أعد أصلح! ربنا قادر يبهدلك أنت أيضًا. لا تتعال
أو تتفاخر برجولتك، في ثانية ربنا قادر يجعلك نجعة! فاهم؟!
– يا ست جلسن أنا عملت إيه؟ قولي لي ماذا عملت؟ أنا رجل في حالي … من بيتي لشغلي،
ومن شغلي لبيتي.
– كلام! كله كلام، واللي تحسبه موسى تلاقيه فرعون.
– أنا يا ست جلسن؟!
– آ … أنت عينك زائغة، تندب فيها رصاصة.
– لماذا؟ ألقى أحلى منك؟!
– أنا خلاص عيانة … تلاقيك بتبص لغيري.
– من قال هذا؟
– كل أصحابي، كل أصحابي قالوا الرجالة كلهم كده.
– وتصدَّقي أصحابك وتكذِّبيني؟
– طبعًا، أصحابي كلهم أولاد ملوك وبرنسات، إنما أنت إيه؟
– أنا زوجك يا ست جلسن.
– أنت فلاح، ما كنتش أرضى بك خدَّام عندي!
٧٩
ويذهب الفنان (خط العتبة) إلى أن الشراكسة والشركسيات مثل رائع من جمال الرجولة
والأنوثة، وكلا الجنسين يمتاز بطول القامة ومتانة بنيات الجسد، وسواد الشعر مع نعومته،
وكبر العينين، وحلاوة التقاطيع.
٨٠ وقد ظلت البشرة البيضاء ميزة يمكن للمرء أن يتباهى بها، وربما تعرَّض للحسد
بتأثيرها. أم سعد — مثلًا — كانت تمدح الناس بأنهم بيض، وكانت تشتم ابنتها الكبرى بأنها
زرقاء اللون كالفلاحين. وحين تمنى العمدة أن ينجب ولدًا جميلًا، فإنه قرن أمنيته بالزواج
من فتاة بيضاء، استوثق أنها من سلالة أتراك وشراكسة إلى سابع جد.
٨١ ويصف الراوي إحدى السيدات بأنها «ناضجة الأنوثة، يزيِّن وجهها العاجي حُسن
تركي ممصَّر.»
٨٢ وكان أدهم أفندي يعتز بأنه رجل تركي من رجال زمان.
٨٣ وتوالت العقود، وظلت النظرة إلى المرأة ذات البشرة البيضاء تخمن أن أصولها
تعود إلى أم شركسية، أو أب تركي.
٨٤
لم يحدث الذوبان في المجتمع المصري إذن بين يوم وليلة. ولا يخلو من دلالة تلك الجلسة
التي كان يفِد إليها رجال من الأتراك في المقهى المُطل على محطة السكك الحديدية بالمدينة
الريفية. يُخرِج لهم عجوز من بني جلدتهم لفَّة من الصحف التركية، يأخذونها ويتصفَّحونها،
ويقرأ لهم أوراقًا تحوي أخبار الأتراك في المدن الأخرى: بنت فلان تزوجت، وفلان مريض أو
مات، وأحدهم افتتح متجرًا جديدًا … إلخ.
٨٥ «ولأنهم لن يرحلوا، فقد أخذوا يشترون الأرض، وكانوا يتاجرون أيضًا ويكسبون،
وبنوا بيوتًا جميلة متجاورة خارج البلدة.»
٨٦ وكان النساخ (مقامات ريان) واحدًا من آخر سلالات الأتراك.
٨٧
ومنذ بداية العشرينيات، لم يعُد للأقلية التركية دور إيجابي في تطور الحياة
الاجتماعية، أو السياسية، داخل المجتمع المصري. قنع الأتراك بثرواتهم الموروثة، وأقبلوا
على حياة الفراغ والبطالة. وقد ذهبت خديجة إلى بيت آل شوكت وهي تحمل مفهومًا جديدًا كان
البيت يحيا على نقيضه. فهي تعلن لأم خليل شوكت، في صراحة قاسية: أنتم لا عمل لكم
إلا الأكل والشرب؛ سيد البيت الحقيقي من يخدمه.
٨٨ (وهو ما يذكِّرنا بوصف ليون الأفريقي الأتراك أنهم كسالى، وأن المصريين ألطف
منهم، ولا يصنعون الكثير من الإساءات). وكانت خديجة تقول عن إبراهيم وخليل شوكت:
«كلاهما، زوجي وزوجها — تعني زوج عائشة — في الغباء سواء، لا يكادان يبرحان البيت ليل
نهار، لا هم ولا عمل … أما زوجها فوقته كله ضائع بين التدخين وعزف العود كأنه شحاذ من
الشحاذين الذين يمرون على البيوت في الأعياد. وأما زوجي فلا تراه إلا مستلقيًا يدخن
ويثرثر حتى يدوخ دماغي.»
٨٩ وفي المقابل، فقد حرص المصريون على كل فرص التعليم، ومارسوا التجارة التي
كانت — أو كادت — وقفًا على الأتراك، ثم انتهى الحال بالجالية التركية إلى معاناة نفس
الظروف التي يحياها المجتمع المصري، وعلى حد تعبير صاحب «الحديث» فإنهم لم يكتفوا بأن
«يكونوا أربابًا للمصريين حتى شاركوا معهم الأجنبي في تلك الربوبية، فغلبهم عليها،
وأشركهم مع المصريين في العبودية، وتشبَّهت الموالي بالعبيد.» وكان مروان أمين، في
الثلاثينيات من القرن العشرين، من جدة جركسية، وإن أعلن اعتزازه بمصريته الخالصة،
فالمصري — في تقديره — هو من يحب مصر (سمارة الأمير، الحب فوق هضبة الهرم، مكتبة
مصر). وبعد أن كان أبناء الذوات يتباهون بالقول إن فلانًا قدِم من إسطنبول، أصبح قولهم
إن فلانًا تعلَّم في بلاد برَّه.
٩٠ وكانت الطبقة الاجتماعية الجديدة التي راحت تحتل المواقع التي خلَّفتها
الأرستقراطية التركية، تتمثَّل في المحامين والأطباء والمهندسين وشباب الضباط والكُتاب
والصحفيين والمدرسين والمثقفين عمومًا،
٩١ فضلًا عن كبار الملاك. كذلك فقد اتسعت ظاهرة مصاهرة أعيان المصريين للطبقة
التركية «في ظل الاحتلال نتيجة للتغيرات التي طرأت على أحوال المجتمع المصري، والتي كان
أبرزها مزاحمة هؤلاء الأعيان المصريين للأتراك بثرائهم وثقافتهم، وبما نالوا من مناصب
في الدولة، الأمر الذي حدا بهذه الطبقة التركية إلى أن تجدد من دمائها بإصهارها إلى هذه
العناصر الصاعدة في المجتمع، وخاصة بعد أن فقدت الكثير من عنجهيتها وأسباب وجاهتها.»
٩٢ وكانت عزيزة (أديب) الفتاة التي أحبها الفتى الريفي في الصعيد ذات أم تركية
وأب ألباني.
٩٣ ومن المثير للتأمل أن نبيلة وُلِدت لأبوين تركيَّين، وقضت طفولة سعيدة، ثم عانت
أيامًا قاسية، فلما ماتت دُفِنت في مقابر المجاورين.
٩٤
ومن الغريب أن الأقلية التركية قد أسهمت في بعض مظاهر التحرر التي كان رفْع الحجاب
واحدًا منها، ولعله من المصادفة أن قاسم أمين كان من أصل تركي. وكان إيمان المصريين
المطلق ببعض المعتقدات، كالحسد مثلًا، يقابله من الأقلية التركية سخرية بها. وكان آل
شوكت يخوضون في أمور شتى بلا خوف، كأحوال الجن وسِيَر الموت والمرض.
٩٥ وصارحت حرم المرحوم شوكت أحمد عبد الجواد بأنه يغالي في المحافظة على أسرته
مغالاة خرقت المألوف، وأنه يجمل به أن يأخذ نفسه بشيء من الهوادة والرفق.
٩٦ ويرجع جرجي زيدان أسبقية الأتراك في التحرر، إلى شدة اختلاطهم بالأجانب،
وحرصهم على مجاراة المدنية الحديثة. وقد شكَّلت مصاهرة أحمد عبد الجواد لعائلة شوكت
رافدًا من بدايات التحرر في حياة الأسرة: تغيَّر نبض جلسات العصر تمامًا، وأصبحت الفكاهة
والدعابة — والرقص أحيانًا — من مميزاتها، وتلاشت الحواجز أمام خروج الشقيقتَين لزيارة
أمهما، أو للفسحة، وصار من المألوف أن تنال خديجة زوجها — وحماتها أيضًا — بلسانها
السليط.
•••
أما الجالية الشامية، فلا نكاد نصادفها في الأعمال التي تعرض للفترة من أواخر القرن
التاسع عشر، إلى ثلاثينيات القرن العشرين، فيما عدا ليالي سطيح وبعض قصص عيسى عبيد.
٩٧
كانت الحركة الأدبية والفنية تعتمد — في الدرجة الأولى — على العناصر الشامية، مثل
صاحب «الهلال» وأصحاب «المقطم» و«المقتطف». و«كانت كل الصحافة بقضها وقضيضها في يد الشوام.»
٩٨ وتعرَّف المصريون من ترجمات الشوام إلى داروين وأصل الأنواع، ونيتشه، وكونت،
ومبدعي روسيا القيصرية، وفولتير، وروسو، ومونتسكيو، وفرويد، وجوستاف لوبون، وغيرهم من
أدباء ومفكري الغرب. ويقول سطيح: «هذا صاحب «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» — الكواكبي
—
بلبل أفلت من يد الصياد فغنَّى، وشم نسيم الحرية فتمنى، وهذا صاحب «المنار» — رشيد رضا
—
فاءت له الحرية بمذقة من الظل، وجاءته سماء الاستقلال بقليلٍ من الظل، فصاح صيحة في خدمة
الدين، اخترقت أحشاء الهند والصين، وذلك صاحب «أشهر مشاهير الإسلام» — جرجي زيدان —
غادر أرض الشام فألَّف، ونزل في دار الأمان فصنَّف.» وقد ظل الفن المسرحي لفترة طويلة
وقفًا على أبناء الشام. وبينما كانت المرأة المصرية تعاني قيود الحجاب، كانت عناصر
نسائية شامية تقوم بالتمثيل على مسارح القاهرة، مثل ألمظ ستاتي وإبريز ستاتي ومريم سماط
ووردة ميلان وصالحة قاصين … إلخ، فضلًا عن تولي السوريين للعديد من المناصب الإدارية
والحكومية الهامة.
إن دخول هذه الجالية إلى حياة المجتمع المصري، يعود إلى العهد الإسماعيلي الذي كان
ينشد السِّمة الأوروبية، فعين أعدادًا كبيرة من العناصر الشامية في الوظائف العامة،
لإتقانهم اللغات الأجنبية من ناحية، ولتمرُّسهم على أساليب الإدارة الأوروبية من ناحية
أخرى. بالإضافة إلى اشتغال أفراد الجالية بالسمسرة والرهونات على القطن بين الفلاحين،
وهو العمل الذي ظل وقفًا على المرابين الأوروبيين لفترة طويلة. وقد نصحت الشامية روزة
فتاها بالهجرة إلى مصر «حيث التجارة تتقدم، وأبواب الاستخدام في دوائر الحكومة مفتوحة
لمن كان نظيرك.»
٩٩ ويقول الشاب: «هذا جل ما أقصده يا سيدتي، فقد قرأت اتفاقًا في إحدى الجرائد
عن احتياج الدولة الإنجليزية إلى تراجِمة ليصحبوهم في الحملة التي تسير بقيادة جوردون
باشا إلى السودان، فانفصلتُ عن شغلي، وها أنا ذا ذاهب إلى مصر الآن لأعرض نفسي في مقدمة
الطالبين.»
١٠٠ ويشير الفنان إلى أن قلم الترجمة في المصالح الحكومية صار من أهم الأقلام
داخل تلك المصالح، فموظفوها يُحسِنون التكلم بالإنجليزية، ويعتزون بارتفاع مكانتهم
الوظيفية والاجتماعية.
١٠١ وثمة عامل مهم في ظهور العناصر الشامية في الحياة المصرية، فقد كانت
المذابح التي جرت في سوريا عام ١٨٦٠م من الأسباب المباشرة لرحيل أعداد كبيرة من المثقفين
السوريين إلى مصر، واشتغالهم بالصحافة والنشر، فثمة جرجي زيدان الذي أصدر «الهلال»، وآل
تقلا الذين أصدروا «الأهرام»، وآل متري أصحاب «دار المعارف»، وأصحاب «المقطم» صروف ونمر
وسركيس، وسليم حموي صاحب «الكوكب الشرقي»، وأديب إسحاق محرر «مصر»، وسليم النقاش
وصحيفته «التجارة والعصر الجديد»، وسليم عنحوري وصحيفته «مرآة الشرق» وغيرهم. كما فرَّ
عدد كبير من أفراد الجالية الشامية — والمسيحيين بخاصة — من الاضطهادات الدينية التي
قادها رجال السلطان عبد الحميد، ولتأزم صناعة الحرير بصورة حادة، مما أفقد الاقتصاد
السوري أهم موارده. وكانت «روزة مصرية النشأة، سورية الأصل، هاجر والدها من سوريا
لأسباب، أهمها: تأخُّر البلاد، وتقهقر انشغالها، وكساد تجارتها، وقلة أرباحها، ومن ثَم
فضَّلا الهجرة إلى مصر، حيث التجارة تتقدم، وأبواب الاستخدام في دوائر الحكومة مفتوحة.»
١٠٢ كذلك كان الشاب عزيز الحلبي (الوارث) من أسرة سورية هاجرت إلى مصر بعد
أحداث ١٨٦٠م في سوريا، وسكنت القاهرة، وعمل أفرادها بالتجارة، فنجحوا، وأثروا.
١٠٣
والملاحَظ أن معظم الوظائف الكتابية والحسابية — قبل مجيء الاحتلال — كانت في أيدي
الأقباط، فلما زادت هجرة الشوام فرارًا من اضطهاد دولة الخلافة، استبدلتهم سلطات
الاحتلال بالأقباط بحجة معلَنة، وهي أن نظام الأقباط الحسابي بالدانق والقيراط، وهو نظام
لا يدرَك إلا عندهم وحدهم، وكان من الضروري تغييره إلى نظام عصري، فهو إجراء «لا مناص
منه في سبيل الإصلاح.»
١٠٤ أما محمد شفيق غربال فيشير إلى سببٍ آخر في قوله: «على أنني أعتقد إنه إذا
كان الإنجليز قد عملوا في بداية الأمر على إحلال الشوام محل الأقباط، لهذا السبب أو
ذاك، فإنما كان ذلك لخلق نوعٍ من المنافسة بينهم وبين الأقلية الأخرى، وهي الأقباط، في
السعي للتقرب من الاحتلال، ولطبعهم بالثقافة الإنجليزية، وليكون له الفضل من بعد إذا
هو
أعادهم إلى هذه الوظائف، وقد أعادهم فعلًا، فأصبح الكثيرون منهم في المصالح الأميرية،
وخاصة أن الكثيرين منهم تهذَّبوا في مدارس الأمريكان. وقد ساعدت هذه السياسة الاستعمارية
في خلق جيل من الأقباط مال إلى الإنجليز بحكم الثقافة الاستعمارية التي تشرَّبها، وبحكم
ارتباطه بالكنيسة الإنجيلية، والتخلي عن مذهب الكنيسة الوطني، وهو ما جعل جورست حريصًا
على تأكيده في تقريره عن سنة ١٩٠٨م.»
١٠٥ مما قد يوحي بانعدام دور الجالية الشامية في حياة المجتمع المصري آنذاك،
برغم أنها — تاريخيًّا — كانت من العوامل المؤثرة في طبيعة هذا المجتمع، وفي تغيير بعض
ملامح صورته. فلم تكن الإدارة وحدها ولا موظفي الحكومة وحدهم — في أوائل الاحتلال
البريطاني — شوامًا — لا، بل إن أول من كتب اللغة العربية للجمهور — في وسطٍ تغلب عليه
التركية — كان هم الشوام. في هذا الوقت، لم تكن تجد طبيبًا إلا شاميًّا، ولا مترجمًا
إلا شاميًّا. أدق تخصصات التعليم كانت في يد الشوام، أما في التجارة، فلم يكن تجار
الحرير والصوف إلا شوامًا، وفي المأكولات لا تاجر حلويات إلا شامي … وبعد دخول
الاحتلال، حرصت السلطات البريطانية على تدعيم نفوذ هذه الجالية.
١٠٦ حتى ابنة المأمور — في القرية الجنوبية البعيدة — كان أستاذها سوري الجنسية.
١٠٧ كما حرصت سلطات الاحتلال — بصورة أساسية — على الارتفاع بالمنافسة بين
العناصر المثقفة المصرية، وبين العناصر الشامية التي كانت تسيطر على قيادات
الوظائف الحكومية إلى أقصى قِممها. ونشبت بالفعل عشرات المعارك التي بذل الاحتلال جهدًا
إيجابيًّا في إضرام نيرانها، وتبدَّى ذلك في هجوم جريدة «المؤيد» التي كان يتولى تحريرها
الشيخ علي يوسف، على الجالية الشامية، ثم في رد جريدة «وادي النيل» التي كان يتولى
تحريرها الأستاذ مشاقة، بمساجلات وصلت إلى حد السِّباب العلني. وأعلن سليم سركيس غضبه
من
أنه «كلما استاء مصري من سوري، قام يقول: إننا دخلاء، وإننا جئنا إلى مصر عُراة حُفاة،
لا
قوت في بطوننا، ولا مال في أيدينا.»
١٠٨ وأضاف قوله: «أما كوننا دخلاء، فيكذبهم صياحهم الذي ملئوا به الأرض في
الطول والعرض. وكلما قلنا إن مصر ليست عثمانية، قامت علينا القيامة، وقالوا: بل نحن
أصدق من العثمانيين ولاء وطاعة لأمير المؤمنين. إذن هم إخواننا في الوطنية والتابعية،
فمصر عثمانية حسب زعمهم، وسوريا ولاية أيضًا، لكنها أقرب صلة بالدولة، وأكثر تعلقًا
بها، لأن ليس لها امتيازات، ولا فيها من يخالف أمر السلطان، بخلاف مصر التي أصبح
السلطان فيها من قبيل الفاكهة في غير وقتها. وعلى كل حال، فإذا جاريناهم على اعتقادهم
إن مصر عثمانية، فسوريا عثمانية، والمصري والسوري أخَوَان في التابعية، فلسنا إذن دخلاء.»
١٠٩ وحين ألقى روزفلت خِطابه في الخرطوم، ثار عليه المصريون، وكتبت «الشعب» — جريدة الحزب
الوطني — مقالًا ضد روزفلت، اتهمت فيه السوريين المقيمين في مصر أنهم هم
الذين أفهموه ما أوغر صدره على المصريين، ثم وجَّهت اتهامات قاسية إلى الجالية السورية.
وقد أخذت تلك المعارك شكلًا خطيرًا، حين حاول رياض باشا (عام ١٨٩٠م)، تحت ضغط المثقفين
المصريين من ناحية، ولدافع الدين من ناحية أخرى، حيث كانت غالبية العناصر الشامية تتولى
المناصب الحكومية، إصدار قانون يقصر تولي المناصب الكبرى على المصريين. وقد أثارت هذه
المحاولة نقاشًا حادًّا ومريرًا، حسمه اللورد كرومر بإعلانه «إن مثل هذا القانون لن يرى
النور ما دام هناك جندي بريطاني واحد في شوارع القاهرة.»
١١٠ وفي «ليالي سطيح» يتساءل أحد أبناء الجالية الشامية: «لماذا يكرهنا المصريون؟» فيعدد
له سطيح أسباب كراهية المصريين لهم بقوله: «إنني لا أكذب الله، لقد أكثرتم من
التدخل في شئونهم، فعزَّ ذلك عليهم، من أقرب الناس إليهم. نزلتم بلادهم فنزلتم رحبًا،
وتفيأتم ظلالها فأصبتم خطبًا، ثم فتحتم لهم أبواب الصحافة فقالوا أهلًا، وحللتم معهم
في
دور التجارة فقالوا سهلًا. ولو أنكم وقفتم عند هذا الحد لرأيتم منهم ردًّا صحيحًا،
وإخلاصًا صريحًا، ولكنكم تخطيتم ذلك إلى المناصب، فسددتم طريق الناشئين، وضيَّقتم نطاق
الاستخدام على الطالبين، وأنتم تعلمون أن المصري يعبد خدمة الحكومة، فهو يصرف إليها
همَّه، ويقف عليها علمه، فهي إن فاتته فاته الأمل، وفتر نشاطه عن السعي والعمل. وهو لا
يفتأ ينتظر الدخول فيها بقية عمره، انتظار القوم عودة الحاكم بأمره، فما ضرُّكم لو
جاملتموهم، فرغبتم عن الانكباب في دخول ذلك الباب؟ أليس لكم عنه مندوحة، وأمامكم وجوه
الرزق كثيرة، ومادتكم في الكسب غزيرة؟ حبَّبت إليكم الحركة، وحبَّب إليهم السكون، وجبلتم
على الجد، وجبلوا على المجون، فاصرفوا نفوسكم عن مزاحمتهم في أعز الأشياء عليهم، حتى
تخلق الحاجة في نفوسهم شعورًا جديدًا، فيحس ناشئهم أنه إنما يتعلم لنفسه ولأمته، لا
لخدمة حكومته.»
١١١
وما من شك أن الجالية الشامية — مثل سواها من الجاليات الأجنبية الأخرى — كانت تشكِّل
مجتمعًا صغيرًا داخل المجتمع المصري، يختلف عنه في غالبية الملامح والصفات. واللافت أن
أكثر الفتيات السوريات كن يتكلمن في المدارس بالفرنسية، وأهملن العربية إلى حد نسيان
مفرداتها،
١١٢ وتعلمت في إحدى مدارس الراهبات في سوريا، ثم تزوجت شابًّا إيطاليًّا جاء بها
إلى الإسكندرية.
١١٣ ويصف الراوي (طريق النسر) بعض شخصياته بأنهم كانوا طبقة وسطى، لكن ثقافتهم
تنتمي — بشكلٍ ما — إلى شوام مصر المتفرنسين الذين أخذوا بجانبٍ من حضارة أوروبا، وساروا
على منوالها.
١١٤ كان الشباب اللبناني والسوري يقلد الأوروبيين في كل شيء «وأقصى أمانيهم أن
يُظهِروا أنهم أوروبيون.»
١١٥ ثم أضافت بعض العائلات — مثل عائلة زدوري — مصرية النشأة، إلى أنها سورية المنبت.
١١٦ فإذا كانت خديجة وعائشة قد انتظرتا داخل أسوار بيت بين القصرين، حتى تقدمت
حرم المرحوم شوكت لخطبتهما من السيد أحمد عبد الجواد دون أن تقع عليهما عينا رجل، فإن
ماري (١٩١٨م) كانت هي التي سعت لتزويج نفسها من فؤاد العبداوي، بعد أن أحست بذبول فرصة
الزواج. كانت تلحظ بعين الدهشة «تلك الخلاعة المخجلة التي انتشرت انتشارًا فظيعًا بين
الفتيات العصريات، فإذا خرجت إلى الطنف، ورأت شابًّا في الطريق، أو في إحدى نوافذ
الجيران، ينظر لها، فإنها لا تجيبه على نظرته بابتسامة كما تفعل البعض من بنات جنسها،
ولكنها تسرع إلى الدخول وتغلق باب الطنف وراءها. وإذا سارت وتبعها شاب منقادًا بقوى
سحرها، فإنها تستمر في سيرها بدون أن تلتفت إليه، كأنها لا تشعر ولا تبالي به، فيحمله
الخجل أو الإعياء على تركها وشأنها، وإذا زارهم شاب، وحاول أن يفتح باب الغراميات،
فإنها تقطع حديثه بلطف، بتغييرها موضوع الحديث مثلًا، أو تترك مكانها بحجة قضاء عملٍ
ما.»
١١٧ (ألَّا يتناقض ذلك تمامًا مع واقع المشربيات التي يُعَد نظر عائشة من أخصتها
إلى «المنتظر» جريمة ما بعدها جريمة؟!) ولم تكن ماري تحب فؤاد العبداوي (وهل عرفت
فتاتا «بين القصرين» ذلك الحب يومًا؟!) لكنها أقنعت نفسها بأن الزواج من رجل يحبها ولا
تحبه، خير من أن تتزوج ممن تحبُّه ولا يحبها، فهو في الحالة الأولى يسير على حسب
مشيئتها وهواها، وفي الحالة الثانية يُخضِعها لأوامره وقسوته واستبداده، ومن ثَم سعت
—
صبيحة يوم أحد — إلى كنيسة الشوام في الفجالة، حيث يلتقي أفراد الجالية الشامية «لتتمكن
من تمثيل دور من أدوار الخلاعة النسائية» (ونتذكر المحنة الأليمة التي واجهتها أمينة،
لأنها زارت الحسين في غيبة زوجها بعد ربع قرن من الحياة داخل جدران البيت). ولم تنقض
أيام قليلة حتى تقدَّم فؤاد العبداوي لخطبتها من أمها «فأجابته إلى طلبه مسرورة، حتى
بدون
أن تستشير زوجها» (أحمد عبد الجواد في «بين القصرين» يرفض خطبة الضابط الشاب لعائشة،
لأنه
لم يسع إلى مصاهرته هو). وبالإضافة إلى ذلك، فإن التعلم في مدرسة الراهبات، والبيانو
الذي تُعزَف عليه الألحان الكشكشية والأدوار الشائعة، وسيادة المرأة المتزوجة على المنزل
«وقبضها على مقاليد الأمور»، وأليس التي توقع عشرين شابًّا في شِباك الوهم «إنها بتحبهم،
وهي ما بتحبش حد منهم.» وحفلة عيد رأس السنة التي يلتقي فيها الجميع للعب الورق، ويوم
الاستقبال الذي تخصصه كل أسرة لضيوفها … ذلك كله يتناقض — بصورة أساسية — مع واقع
الحياة في البيئة المصرية، التي اختفت ملامح المرأة فيها وراء حجاب كثيف. ولعل وفرة
كتابات عيسى عبيد وشحاتة عبيد في العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة، أنهما من بيئة
مسيحية تنتمي إلى أصول شامية. وكانت تلك البيئة تميل إلى التحرر، فالاختلاط مباح،
والأسر تجتمع — رجالًا ونساء — في زيارات متبادَلة، نقيضًا لما كانت تحرص عليه الأسر
المصرية حينذاك، ومن ثَم فقد أتيح للأخوين فرص الكتابة في العلاقات العاطفية بين
الجنسين، التي يُعَد الاختلاط باعثها الأساس.
١١٨ ثم بلغ انغماس أبناء الجالية الشامية في الحياة السياسية المصرية، حدَّ
انضمام أحد القيادات الشامية — وهو فرح أنطون — إلى حزب الوفد، وجعل جريدته «الأهالي»
منبرًا وفديًّا، فلم يبدِّلها إلا حين أعلن سعد زغلول في تصريح لجريدة «الأخبار» عن
استعداده للتفاوض مع الإنجليز، وبدأت الأهالي في انتقاد سعد زغلول.
١١٩ ويقول بطل قصة «غريب» لحبيب الزحلاوي — وهو سوري فرَّ من مطاردة السلطة في دمشق
له في ١٩١٣م: «طوتني مصر كما طوت الآلاف من الناس الذين وفدوا مثلي عليها، فأقلمتني
بإقليمها، ونفخت فيَّ روحها، وألهمتني وحي بيئتها، فصيَّرتني كأحد أبنائها، أقوم بالواجب
المفروض بمثل ما يقوم به كل مصري مخلص حر.»
١٢٠ وقد لاحظت ثريا أن ظاهرة زواج الفتيات المسيحيات — لا سيما السوريات — من
الشبان الوطنيين، أخذت تشيع بكثرة.
١٢١ وإلى أواخر الأربعينيات، كان البقال الشامي (طريق النسر) في اسبورتنج
بالإسكندرية — مع أنه وُلِد وتربى في مصر — ما زال يتكلم باللهجة الشامية.
١٢٢
•••
يبقى السؤال: لماذا اضمحلت المؤثرات التركية — والشامية — في المجتمع المصري، لتحل
محلها المؤثرات الفرنسية والإنجليزية، وليزداد اتجاه مصر نحو الغرب بوجه عام؟
من البديهي أن الاحتلال البريطاني كان يعبِّر في الدرجة الأولى عن الحضارة الغربية،
التي تختلف في أدق مكوناتها عن حضارة العثمانيين. لذلك كان أول ما أقدمت عليه سلطات
الاحتلال، إدخال الطابع الأوروبي في كل مظاهر الحياة المصرية. وظهر — في أوائل القرن
العشرين — عنصر جديد، هو الأعداد الهائلة من الموظفين الإنجليز، التي بدأت تحتل الوظائف
الحكومية منذ توقيعٍ بين حكومتَي إنجلترا وفرنسا، الذي اطمأن به الاحتلال البريطاني إلى
مركزه الدولي، وقام إلدون جورست المعتمد البريطاني بفتح مكتبٍ دائمٍ في العاصمة
البريطانية، لتوظيف البريطانيين في إدارات الحكومة المصرية. وتفاقمت تلك الظاهرة بعد
إعلان الحماية حتى وصل عدد الموظفين البريطانيين إلى ١٦٠٠، بينما لم يزِد عددهم في عهد
كرومر عن مائة وخمسين. وكان متوسط ما يتقاضاه الموظف الإنجليزي ٣٠٣ جنيهات، بينما كان
متوسط ما يتقاضاه الموظف المصري ٣٢ جنيهًا، أي أن النسبة كانت واحد إلى ١٠.
١٢٣ وقد عبَّر فكري أباظة عن القلق الذي صاحب هذا الاحتلال الوظيفي في مقال
بجريدة «الأهرام» (٥ ديسمبر ١٩١٩م) قال فيه: «وفد علينا هذين اليومين جيشٌ جرَّار من
شبان
الإنجليز، زاحمنا في أصغر وظائف مصر العزيزة، وصارت حكومتنا مع الوافدين على النصف
الثاني من المبدأ المشهور: أحرار في بلادنا، كرماء لضيوفنا، فألحقتهم بالوظائف الفنية
وغير الفنية، وترتَّب على هذا خروج عدد كبير من الموظفين المصريين، فالتجئوا إلى المحاكم
طالبين العدل والإنصاف. وكان دفاع الحكومة — ولا يزال — ملخصًا في كلمتين: رفتناه
للاستغناء، ولو أنصفت لقالت: رفتناه للاستبدال.»
لم يكن ذوبان الجاليتين التركية والشامية في المجتمع المصري إذن، تعبيرًا عن انحسار
سيطرة الجاليات الأجنبية، بقدر ما كان منطلقًا لنمو جاليات أجنبية أخرى. وكما يقول لويس
عوض، فقد كان الاحتلال البريطاني لمصر بمثابة بوليصة التأمين للأجانب المحليين،
ولمصالحهم في مصر، وإن هجرة الأجانب الضخمة إلى مصر لم تبدأ حقًّا إلا بعد الاحتلال البريطاني.
١٢٤ ويقول مؤلف كتاب «بنوك وباشوات»، فمع «دخول محاسن ومساوئ التمدن الغربي في
مصر، دخلت أفضل وأسوأ عناصر أوروبا والبحر المتوسط: أصحاب البنوك والمرابون، التجار
واللصوص، السماسرة الإنجليز الهادئون وتجار الشرق الأدنى الزئبقيون، موظفون لمكاتب
الشركات الجديدة، وعاهرات في ميدان القنصلية في الإسكندرية، باحثون منقطعون لمعابد
أبيدوس والكرنك، وقتلة ورجال أسرار في حواري القاهرة.»
١٢٥ والملاحَظ أن الأوروبيين في عهد إسماعيل بلغوا أكثر من مائة ألف، لم يدفعوا
للخزانة المصرية قرشًا واحدًا:
١٢٦ المرابي اليوناني الذي باعت له خديجة خلخالها في «قلعة الأبطال»، وبولينو
باشا الذي كان يبيع الماء للأغنياء في أيام التحاريق، ويبيعه للفقراء في أيام الفيضان،
واليوناني الذي كان يصحب الجابي ليرهن الأرض التي لا يدفع أصحابها الضرائب … كل هؤلاء
أصبحوا في عهد الاحتلال قوة لها خطرها. أحكموا قبضتهم على اقتصاديات البلاد تمامًا، حتى
أصبحت معالم الحياة الاقتصادية تخلو من وجه وطني واحد. وحتى يوهِم الخواجة جورج أبناء
القرية أنه قد أصبح واحدًا منهم، فقد خلع البذلة وارتدى الجلباب والطاقية، وادَّعى
الإسلام، وطلب من الفلاحين أن ينادوه بمحمد المهدي
١٢٧ (ونتذكر إسلام نابليون بونابرت!). وقد أفادت البنوك الأجنبية من ودائع
المصريين التي بلغت ملايين الجنيهات، كان أصحابها يشترطون ألَّا يحصلوا منها على فائدة،
وكان البنك يستثمرها بالتالي في تضخُّم أرباحه.
١٢٨ وكان علي (شجرة البؤس) واحدًا من التجار الوطنيين الذين عانوا من قدوم
الأجانب، ومنافستهم لهم في مجال رزقهم «أصبح ذات يوم، وإذا هو يرى نكرًا من الأمر، فقد
أنشئت بالمدينة متاجر جديدة أنشأها قوم غرباء، وزيَّنوها، ونسَّقوا فيها البضائع، فأقبل
الناس عليها، وأعرضوا عن المتاجر القديمة القذرة، وسافر علي إلى صديقه عبد الرحمن في
القاهرة، في نيَّته أن يقترض منه على مواجهة ظروفه القاسية، لكنه وجد أن العاصمة قد تعرضت
لمثل ما تعرضت له في الأقاليم. امتلأت بالمتاجر التي أنشأها الغرباء منظَّمة نظيفة جذابة.
وفي «طلائع الأحرار» يرسم لنا الفنان هذه الصورة الموحية: «وسلكا طريق محمد علي متجهين
إلى ميدان العتبة، وعلى الرغم من أن ذهن سامي كان مشغولًا بالاجتماع المرتقب، إلا أنه
كثيرًا ما كان يجُول ببصره فيما حوله، فهو لم يكن يمر بهذه الأحياء إلا نادرًا، وصادفه
من المَشاهِد ما لم يألفه. لفت نظره نظافة محلات البقالة اليونانية، وأناقة واجهات
المخازن الأجنبية. ثم ظهرت معالم ميدان العتبة عن بُعد، وتعدَّدت المطاعم قرب نهاية
الشارع، ورأى سامي — فيما رآه — مطعمًا خاليًا إلا من صاحبه المزهو بنفسه، الجالس
ببابه يدخن نرجيلة. كان يرمق في احتقار، محل الطعمية المقابل له، ويأخذه العجب والغيظ،
لكثرة العملاء المتكالبين عليه. وخرجا من ظلمة شارع محمد علي إلى فسحة الميدان الوضاح،
وطالعتهما البنايات العالية، والدكاكين الفخمة. ومرَّا بمقهًى متسع الأرجاء، يحتل مقاعده
الخيزرانية أناسٌ يختلفون في ملبسهم الأنيق عن رواد مقاهي حيِّهما. وسمعا صيحات الجالسين
متصاعدة: جورجي! مخالي! جارسون! وأسرع جورجي من ناحية، ومخالي من ناحية أخرى،
يختال كلٌّ منهما في هندامه الناصع البياض، ويقبِل أحدهما حاملًا الأقداح المترعة، ويعود
الآخر بالأقداح الفارغة. وتذكر الصديقان مقاهي حيِّهما، فانقبض صدرهما، ولم يخفف من
ضيقهما إلا تعللهما بالآمال، وهفَّت من بعيدٍ ألحان موسيقى عسكرية، ورأى الصديقان جماعات
من الناس تجري صوب ميدان إبراهيم — وكانا يقصدان إذ ذاك محطة الترام — فغيَّر نبيه
اتجاهه، وجذب صاحبه قائلًا: تعال نشاهد ذلك العرض العسكري.
– إنها موسيقى القِرب الاسكتلندية.
– أحب أن يرى كلانا … بل المصريون جميعًا … هذا المشهد.
١٢٩
كل شخوص هذه الصورة وسِماتها وأبعادها أجنبية خالصة: محلات بقالة يونانية، واجهات
مخازن يونانية، مطعم يجلس صاحبه الأجنبي ببابه يدخِّن نارجيلة، ويرمق في احتقارٍ محل
الطعمية الوطني المقابل، فهي لا تخرج نداءات الجالسين فيه عن اسمين: جورجي … مخالي،
أوبرا لا يدخلها مصريون، ثم موسيقى القِرب الاسكتلندية التي تصنع بأزيائها وموسيقاها
إطار الصورة كلها. ومن الطبيعي أن يكون محصِّلة ذلك قول ماسح الأحذية في رواية «المصابيح
الزرق»: أتمنى أن أكون خواجة مرة واحدة في حياتي، ثم لا أبالي أن أعيش أو أن أموت.
١٣٠ وأن يحرص والد مدحت على تعليمه الفرنسية والإنجليزية والتركية؛ «فأما
الفرنسية، فلكي يبدو ابن ذوات، وأما الإنجليزية فلكي يتخاطب مع أصحاب الحكم، وأما
التركية فلكي يكون أثيرًا لدى بلاط السلطان.»
١٣١ وكان تقدير ثريا الفتاة ذات التعليم العصري، أن الشاب يظل جاهلًا أميًّا
ما دام لا يعرف اللغة الفرنسية.
١٣٢ وتكتب «المؤيد» (١٨٩٠م): «إن الحوادث الماضية قضت بتداخل الأجنبي، ومزاحمته
في الأعمال مع الوطنيين، والأسباب التي قضت بالمزاحمة قد قضت أيضًا بالغلبة لذاك
الأجنبي، فكان هو صاحب الحظ في كل قسمة. وساعدت على ذلك عوامل شتى، أثَّرت على حواس
الوطنيين، فألبستهم ثوب الضَّعة والخمول حتى جُردوا من لباس الثقة أمام من بيدهم زمام
الأمور، وكادت تنحصر الوظائف في الأجانب وغيرهم، ولا ذنب للوطنيين غير كونهم أبناء
البلاد يشقُّون في أرضها زرعًا وقلعًا وحفرًا وإقامة جسور وإنشاء مصارف ومجارٍ وأجرة
أعمالهم الحرمان، فيعملون، وغيرهم يتمتع بنتائج أعمالهم، ويتنعم برواتب الوظائف، وربح
المقاولات التي يسخر فيها الفلاح المحروم.»
١٣٣ وكانت أمنية وديع نعوم (ثريا) أن يفتتح ورشة نجارة بمدخراته، تُورد الأثاث
للمحال الكبرى، بدلًا من استيرادها من أوروبا.
١٣٤
اضمحلت المؤثرات التركية — والشامية كذلك — في المجتمع المصري، لتحل محلها المؤثرات
الفرنسية والإنجليزية، وليزداد اتجاه مصر نحو الغرب. وتلك نتيجة طبيعية للوجود
الإنجليزي الاستعماري الذي كان يعبِّر عن الحضارة الغربية التي تختلف في أدق مكوناتها
عن
حضارة العثمانيين. لهذا، فعلى الرغم من استحالة اندماج أسرة ويمان (الخيط الأبيض) في
الشعب المصري، فإن آل شوكت ينصهرون فيه تمامًا، ربما لأن اللغة والدين عنصران مخففان
للتباين الفكري. وكان أفراد الطبقتين الأرستقراطية والمتوسطة هم الأشد تأثرًا بأنماط
الحياة الغربية، ممثَّلة في السلوك اليومي، واستخدام المفردات الغربية، والزي، وأنواع
الطعام … إلخ، أما الطبقات الدنيا، فلم يكن للتغريب، أو للجاليات الأجنبية، عليها، تأثير
ملموس. كانت معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم تتمحور حول امتدادات الشخصية المصرية منذ فجر
التاريخ، سواء في الزي أو الطعام، أو وسائل العمل كحرفي أو مزارع؛ ظل كل شيء على حاله،
لم تؤثر فيه رياح الغرب، أو حتى نسائمه!
•••
كان أول ما توفر عليه جهد سلطات الاحتلال هو إدخال الطابع الأوروبي إلى كل مظاهر
الحياة، فضلًا عن تأكيد السيطرة الأوروبية على مقدرات الحياة المصرية بقوانين متلاحقة،
مثل قانون المحاكم المختلطة (١٨٧٥م) الذي أوجد للرأسمال الأجنبي أرضًا رخوة لغرس
استثماراته، وأنشأ شركات عديدة، مثل الترام والمياه والسكر والكهرباء. ويبلغ السخط على
النفوذ الأجنبي حدًّا بالغًا في «ليالي سطيح» عندما يصادف الراوي رجلًا يبكي بشدة، ويسأله:
ما خطبك أيها النائح؟ يقول الرجل من بين دموعه: إن له أخًا يعوله، فاغتاله رومي بمدية
«وحرمني من حسن طلعته، بقر بطنه، وحضر دفنه، وحالت بيني وبينه حماية قومه.» وكان الناس
يتحدثون عن الحماية، وأن القتيل الذي يقتله «صاحب الحماية» ليس له ديَة.
١٣٥ وكما يقول نيرفال، فإنه لم يكن أحد في القاهرة — غير الأتراك — يستطيع
مقاومة الإفرنج «وأن كل أوروبي لا ينتمي إلى طبقة الصناع والتجار، يُعتبَر في مصر شخصية
كبيرة.»
١٣٦ كان الأجنبي لا يُحاكَم إلا في المحاكم القنصلية التابع لها، ولا تنطبق عليه
القوانين المحلية، ولا يُفتَّش مسكنه، ولا يُلقَى القبض عليه إلا بإذن من قنصليته. ساعد
ذلك — بالطبع — على الجريمة المعلنة، والمستترة، مثل التهريب والابتزاز وترويج المخدرات
وتسهيل الدعارة … إلخ. ويقول الراوي (حديث عيسى بن هشام): «وأما المحاكم المختلطة وقضاتها
من الأجانب، فهي تختص بالنظر فيما يقع من الخصومات بين الأهالي والأجانب، وبين الأجانب
وبعضهم في الحقوق المدنية، أعني في قضايا المال. ولما كان الأجانب هم أحق وأولى بالغنى
لسعيهم وجدِّهم، وكان المصريون أخلق بالنقد وأجدر لإهمالهم وتوانيهم، فقد كان معظم
القضايا التي تحكم فيها هذه المحاكم، لا بد أن تنتهي بسلخ المصري من ماله وعقاره.»
١٣٧ وعندما يسأل أحمد منصور صديقه المحامي مختار في قضية بيت أسرة ويمان، يقول
له مختار: لولا أني أراك متمسكًا بالدفاع في هذه الدعوى، لأشرت عليك أن تدفع بعدم
اختصاص المحاكم الأهلية بنظرها لأن موكلتك إنجليزية. ولا شك أن قضاة المحاكم المختلطة
سيكونون أرفق بها من القضاة المصريين. وفي «ليالي سطيح» يجري حافظ إبراهيم حوارًا طريفًا
بين شابَّين، يسأل أحدهما الآخر: «هل لك أن تذكر لي أقصى أمانيك في الحياة الدنيا؟ قال
الأكبر: أقصى أمانيَّ أن أصبح الرئيس الشرف للمحكمة المختلطة، فأجلس في كل عام ساعة
واحدة، أُنقد عليها ما يقوم بنفقة العام كله، فإن أسعد المصريين حالًا، وأرخاهم بالًا،
من سهَّلت له الأقدار الجلوس على ذلك الكرسي الذي لا يُسأل صاحبه عن الخطل، ولا يُخشى
عليه
من الوقوع في الزلل.»
١٣٨ وكان الباعث لأعدادٍ هائلة من العرب الذين يتمتعون بالامتيازات الأجنبية،
على الاحتفاظ ﺑ «الحماية» هو حماية أنفسهم من ظلم الاستعمار الذي يخضعون لحمايته، فضلًا
عن الاستعمار الذي أحكم قبضته على مصر. وقد عتب علماء الإسكندرية الشيخ سليمان باشا
المغربي لاحتفاظه بالجنسية الفرنسية — الدولة التي كانت تستعمر بلاده! — فقال: إن هذه
الحماية كالقبقاب الخشبي الذي يمنع وصول النجاسة إلى الإنسان عند دخول دورة المياه!
١٣٩ والغريب أن سلطات الاحتلال البريطاني كانت هي الأخرى تعاني الامتيازات
الممنوحة للدول الأجنبية فيما يتعلق بعلاقات رعاياها في مصر بالنسبة للقوانين المصرية.
١٤٠
وعلى الرغم من المأساة التي كان يحياها حسَّان (الشارع الجديد) فإنه لم تغب عنه طبيعة
الخطر الذي يهدد المصريين في وجودهم. يقول لرفاق الحانة: «إذا ادَّعى الترك أنهم
يحبُّونكم، وأنهم يريدون الخير لكم، وأنهم ما فكَّروا في غزو بلادكم إلا لطرد الإنجليز،
ومعاونتكم على نيل استقلالكم، فلا تصدقوهم. إنهم يريدون استعبادكم، وحمل خيراتكم إلى
بلادهم، إنهم أنانيون منافقون. سلوني كيف كانوا يعاملونني أنا المصري الذي انضم إليهم
متطوعًا لقتال الإنجليز. وإذا ادَّعى الألمان أنهم يحاربون الإنجليز لأنهم يبغضون
الاستعمار فلا تصدقوهم، فهم أنانيون منافقون، إنهم استعماريون لا يرضون عن الاستعمار
إلا إذا كان استعمارًا ألمانيًّا. وإذا ادَّعى الإنجليز أنهم أصدقاؤكم، وأنهم ما جاءوا
إلا للعمل على إسعادكم فلا تصدِّقوهم، فهم رأس النفاق، وبحر الأنانية، إنهم يريدون أن
يسلبوكم وأنتم عنهم لاهون، العالم كله خدَّاع منافق كذاب.»
١٤١ لم يكن الهدف الذي يتوخاه الاستعمار بالإفادة من الامتيازات الأجنبية، يقف
عند حد إفادة الرعايا الأجانب من المقدرات المصرية، لكنه يمتد، ليصبح النفوذ الأجنبي
مسيطرًا على كل شيء، فيسأم المصريون من حياة الاحتلال، ولا يجدون مفرًّا من طلب الحماية
خوفًا من استشراء هذا النفوذ إلى الحد الذي يحُول بينهم وبين السيطرة على مقدرات بلادهم
«ولو شاء لابس الرداء الأحمر، لدفع عنكم هذا الهواء الأصفر، وأمتعكم بالحياة في أعطاف
العيش الأخضر، ولكنه ترككم نهبًا للامتيازات، وغادر صدوركم ميدانًا للحزازات، حتى
تسأموا حياة الإذلال، وتسكنوا إلى رجال الاحتلال، ولا تجدون لكم من وقاية في غير طلب
الحماية.» ويشير الفنان (السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين) إلى إقدام الحكومة على
بيع عدد من البنايات في حي الجزيرة «على سبيل التوفير للأجانب.»
١٤٢ فقد باعت — مثلًا — سراي الجزيرة إلى شركة أجنبية، حوَّلتها إلى فندق هو
«الجزيرة»، ودفعت الشركة السراي مع الحديقة بثمانين ألف قطعة ذهبية، لا توازي — في
تقدير الفنان — قيمة ما قبضه المشتري من بعض قطع سوره الذي باعه وهو عاطب.
١٤٣ وكانت إقامة المدارس الأجنبية محاولة من الجاليات المختلفة للحفاظ على
تقاليدها وعاداتها وتراثها الحضاري من أن يغيب في الحياة المصرية، ومحاولة — في المقابل
— لفرض تلك العادات والتقاليد والتراث الحضاري على الطلبة المصريين الذين يلتحقون بها.
ونتيجة لتطبيق سياسة الامتيازات الأجنبية، لم يعُد المصريون يُعبَّر عنهم بهذه التسمية،
وإنما أصبحوا يُذكَرون باسم «الأهالي»، حتى التشريعات القضائية لجأت إلى التسمية الجديدة
في قوانينها.
١٤٤
ولعلَّه يجدر بنا أن نشير إلى إنشاء عدد من الأجانب جمعية باسم «مصر الفتاة»، خلت
من
المصريين تمامًا، وكان غالبية أعضائها من اليهود المنتمين إلى جنسيات أوروبية، ورفعت
الجمعية لائحة إلى الخديو تطالب فيها بحريات أوسع، وببعض الإصلاحات الاجتماعية، وأصدرت
— فيما بعد — جريدة باسم «مصر الفتاة» تدعو إلى المبادئ نفسها، برغم أن هؤلاء الأجانب
كانوا — في أعوام سابقة — يقرضون الفلاحين المائة بمائتين في بضعة أشهر، وكانوا ينظرون
إلى المصريين — ويعاملونهم — كجنس أدنى!
١٤٥
•••
كانت الجالية اليونانية هي أكبر الجاليات الأجنبية في مصر (بلغ عدد أفرادها أوائل
القرن العشرين ٤٠ ألفًا (شيري النجار، أرشيف، ديسمبر ٢٠٠١م)) ويرجع السبب في تعاظم
الوجود اليوناني إلى أن اليونان كانت — إلى أوائل القرن التاسع عشر — قسمًا من الدولة
العثمانية، وكان أبناؤها رعايا لدولة الخلافة، يتنقلون بين أرجائها دون قيود أو حواجز.
ويقول إليوس يانا كاكيس إن اليوناني كان يرى أن بلاده تعاني همومًا اقتصادية، فيبحر إلى
الإسكندرية «المدينة التي توجد في مجاله الجغرافي على ما بعد مسافة بشرية من مسقط رأسه،
فهو لا يغترب، وليس لديه الإحساس بأنه يقطع محيطات وقارات بينه وبين الأرض التي يهجرها.
وبذهابه إلى الإسكندرية، فهو ينتقل إلى منطقة محدودة؛ فالإسكندرية ومصر لا تمثِّلان
بالنسبة له أمريكا إيليا كازان.»
١٤٦ وقد بدأ نزوح اليونانيين إلى مصر في أواخر القرن الثامن عشر. بدءوا بتجارة
الحبوب، ثم انتقل نشاطهم إلى تجارة القطن، ومنها إلى أعمال البنوك وغيرها من الأنشطة
الاقتصادية. ويتحدث إبراهيم (النفس الحائرة) عن احتكار اليونانيين لتجارة الأقطان في
أواخر القرن التاسع عشر، «جنَوا منها الأرباح الوافرة، فأرسلوا معظمها إلى بلادهم،
فأفادوها فائدة كبرى، وقبضوا على نواصي كثير من الأعمال في هذه البلاد، حتى أصبحوا فيها
أكثر الجاليات الأوروبية عددًا، وأوسعها نفوذًا وغنى، وأشدها اختلاطًا بالمصريين مثل
الجالية الإيطالية.»
١٤٧ وفي ميرامار تعبِّر ماريانا عن إحساس يقيني يتملَّك اليونانيين الذين كانت
الإسكندرية — ذات يوم — «مدينتهم». تقول لعامر وجدي: آه يا مسيو عامر، تقول إن
الإسكندرية ليس كمثلها شيء، كلا، لم تعُد كما كانت على أيامنا، الزبالة تُرى الآن في
طرقاتها.
ويقول عامر وجدي: عزيزتي … كان لا بد أن تعود إلى أهلها.
– ولكننا نحن الذين خلقناها.
ويفر من إبداء الرأي الذي قد يغضبها: عزيزتي ماريانا … ألا تشربين كأيام زمان.
١٤٨ ويتميز الأروام — أو اليونانيون — عن أبناء الجاليات الأخرى بسرعة تخلُّقهم
بأخلاق أهل البلد، والتحدث بلغتهم، والصبر على معيشة تشبه معيشة الفلاحين، ومن ثَم فقد
استطاعوا أن يصلوا بنشاطهم إلى القرى النائية، ليمارسوا احتلالًا يصِفه أحمد أمين بأنه
«أشد أثرًا من الاحتلال الإنجليزي.»
١٤٩ وفي رواية «أوديسا العصر الحديث» بدأ بارلاميس حياته في مصر بالعمل كأجيرٍ في
محل بقالة، ثم انتقل إلى محال أخرى حتى استطاع أن يدخر مبلغًا من المال، تمكن به — مع
يوناني آخر — أن يستأجرا بارًا في شارع الجمرك بالإسكندرية، ثم اختلفا وانفصلا، وأصبح
البار ملكًا لبارلاميس وحده
١٥٠ تركز اليونانيون في الإسكندرية، وإن انتشروا — بنسبٍ متفاوتة — في أقاليم
مصر المختلفة، يفتحون القهاوي والبارات، ويقرضون الفلاحين بالربا، ويعملون بالتجارة.
يقول عبد الجواد بك (النفس الحائرة): «أما نحن أهل الأرياف، فلا ترى — غالبًا — بيننا
من الإفرنج إلا بعض البدالين والمرابين من اليونان الذين يهبطون البلد وهم لا يملكون
شيئًا، فلا تنقضي بضع سنوات حتى يصبح الواحد منهم صاحب مصر البلد المالي، وتاجرها
الغني، أو يأفل إلى بلاده حاملًا مالًا طائلًا.»
١٥١ كان اليوناني — الرومي — يدخل إلى قرية بعيدة عن المدينة المركز، يرحب به
الأهالي بائعًا للبقالة بالدَّين، ثم يبدأ في إقراض الفلاحين بالربا الفاحش ليصبح — بعد
سنوات — دائنًا لأغلب أهالي القرية، فينزع ملكية أراضيهم، ويحوِّلهم إلى أُجراء يعامَلون
بأساليب هي أقرب إلى السخرة.
١٥٢ وقدِم الخواجة كرياكو على القرية مع زوجته الجميلة، لا يملكان سوى صندوق
دنيا يعرضان مشاهده على الأولاد، ثم بدَّلاه إلى صندوق لبيع الصابون ذي الرائحة والأمشاط
والمناديل الحريرية الملونة وبعض العطور، يطوف بها القرى والعِزب، ومعظم زبائنه من
النساء. ثم افتتح الزوجان حانة اجتذب بها مدخرات رجال العزبة، فاشتريا الأرض، وفرضا
سيطرتهما حتى على العمدة، وحتى على مأمور المركز.
١٥٣ أما طناش الرومي (اليوناني) فقد ارتدى جلبابًا كجلباب الفلاحين، فلم يعُد ما
يشي بجنسيته سوى لون العينين والشعر.
١٥٤ وبدأ بنايوتي حياته في العزبة بفتح دكان بقالة، ثم حوَّلها إلى خمارة.
١٥٥ وهبط الخواجة خريستو — منذ أعوام بعيدة — على مدينة شبين، مغامرًا صعلوكًا،
واستطاع — في فترة قصيرة نسبيًّا — أن يدين أعيان الناحية وصعاليكها وبعض نسائها. ولم
يكن يمسك عن إقراض أحد قبل أن يبلغ الدَّين حدًّا معينًا، يراه خريستو قمة ما يجب إقراضه
لذلك الدَّين.
١٥٦ واختار أحد هؤلاء اليونانيين — واسمه مخالي — محطة بني نافع فبنى قهوة
صغيرة وبارًا وبقالة في الدور الأرضي، ثم وضع سريرًا في الطابق الثاني للموظفين والتجار
الذين يتخلَّفون عن قطار الليل، ثم أخذ يستأجر العِزب الكبيرة، ويؤجرها للفلاحين. وكان
الفلاحون يقولون عنه إنه جمع ثروة طائلة لأنه يعمل في الريف المصري منذ أربعين سنة.
١٥٧ وجاء البقال اليوناني إلى مركز قويسنا مهاجرًا لا يملك من حطام الدنيا
شيئًا، ثم جمع ثروة من إقراض الفلاحين بالربا الفاحش. وكانت البقالة بعض الأنشطة التي
غسل فيها أمواله، وإن لم يكن التعبير قد استُخدم بعد!
١٥٨ وقد اضطر رواد بار «العفار» — لمجاوزة ظروفهم المادية — إلى أن يتخذوا من
صاحبه اليوناني «يني» مرابيًا، يقترضون منه حتى أول كل شهر.
١٥٩ وفي تقرير كرومر: «لا تكاد قرية من القرى المصرية تخلو من حانة لبيع
المسكرات، وأصحاب هذه الحانات هم عامة من اليونان. ولا شك أن تأثيرها سيئ في آداب
الأهالي. ولم أسمع من وجهاء المسلمين شكوى قدر الشكاوى العديدة الحقة التي سمعتها منهم
بهذا المعنى.» وتصف لوسي جوردون التأثير الضاري لليونانيين في القرية المصرية بأنهم
ينفذون أوامر الدين التي تحضُّهم على «تخريب» المصريين، يتبعون جابي الضرائب القبطي كما
تتبع القصور الغربان، يعرُّون الفلاحين من كل شيء، فلا وازع عندهم من خُلق أو دين.
١٦٠
من هنا تتوضح دلالة قول الفنان، إن اليوناني يُوصَف بالرومي لدى المصريين تحقيرًا
لجنسية هذا المهاجِر الغريب.
١٦١ وكان من أشهر الأسماء في عالم الاقتصاد المصري في القرن التاسع عشر،
أنطونيادس، وقد أطلق اسمه على أهم حدائق الإسكندرية، وأنستاس، وغيرها. ويعبِّر اللورد
كرومر عن حجم الوجود اليوناني في الحياة المصرية أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن
العشرين: «أينما حركت حجرًا في مصر، وجدت تحته يونانيًّا»
١٦٢ قول لا يخلو من مبالغة، لكنه لا يخلو من دلالة أيضًا، فلم تقتصر إقامة
اليونانيين على المدن الكبرى، وإنما توزَّعوا في المدن والقرى، حتى القرى الصغيرة
والبعيدة أقاموا فيها، وأنشَئوا الدكاكين والمقاهي والبارات، وأنشَئوا دكاكين الصرافة
والربا وبيع القطن والأقمشة والمصنوعات الرخيصة والأدوات المنزلية. ويصف فكري أباظة
بعض مديريات القطر المصري بأنها عبارة عن مستعمرات رومية، الأروام هم الملاك، وهم
المزارعون، وهم دون غيرهم أصحاب المصالح الحقيقية.
١٦٣ أما الذين اتسع نشاطهم الاقتصادي فقد عملوا في الاستيراد والتصدير. وقد
أحبَّت الأم المصرية خمارًا يونانيًّا، ويقال إنه هرَّبها معه إلى بلاد اليونان.
١٦٤ ونتيجة لتضخم الجالية اليونانية، وتوزُّع أنشطتها، بدأت البنوك اليونانية في
إنشاء فروع لها بمصر. افتتح بنك أثينا فرعًا له في ١٩٠٦م بدلًا من البنك الشرقي الذي
صفَّى أعماله بعد فترة قصيرة من تأسيسه.
١٦٥ وكانت صناعة السجائر حكرًا على اليونانيين والأرمن.
١٦٦
وتاريخيًّا، فإن اليونانيين كانوا يضمرون — ويعلنون — تعاطفهم مع الشباب الوطني،
إلى
حد بذل محاولات لإخفائهم عن أعين سلطات الاحتلال.
١٦٧
•••
كان الأرمن في عهد محمد علي — على حد تعبير الجبرتي — قد دخلوا في كل مكان. لقد
أحسنوا تنفيذ سياسته، وحقَّق لهم محمد علي — في المقابل — ما يطمئنون به إلى أوضاعهم
في
الحياة المصرية. وساعد على استقبال النازحين من الأرمن، وجود جالية أجنبية تاريخية تعود
إلى زمن الفاطميين.
١٦٨ وظلت هجرة الأرمن — حتى منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر — تتسم بالفردية؛
أفراد أو أسر يبحثون عن فرص العمل أو الأمان، ثم صارت الهجرة جماعية منذ منتصف
التسعينيات، بتأثير المذابح التي اقترفتها السلطات العثمانية ضد الأرمن.
١٦٩ واضطرت أعداد من الأرمن — في ظل اضطهاد عباس للمسيحيين، ومن أدينوا بتهمة
الولاء لفرنسا — إلى العودة للوطن الأم. ثم تحوَّل الأمر ثانية في عهد سعيد، حيث تقلصت
المعاداة الأوروبية تجاه الأوروبيين والمسيحيين، وعرفت بعثات التبشير المسيحية طريقها
إلى المجتمع المصري. لكن الجالية الأرمنية واجهت — مع الجاليات الأجنبية الأخرى —
ضغوطًا عنيفة زمن الثورة العرابية، مما أدى إلى عودة عدد من أفرادها إلى أرمينيا، بينما
توقفت هجرة الأرمن إلى مصر. فلما قدِم الاحتلال البريطاني استؤنفت هجرات الأرمن إلى مصر،
فرارًا من اضطهاد العثمانيين، بعد أن أعلن السلطان عبد الحميد مطامعه في أرمينيا، ثم
قيام الحرب التي ابتلعتها، وتقاذفت الكثيرين مواني البحار الأسود والأحمر والأخضر
والأبيض، حتى نزلوا أخيرًا في المواني المصرية.
١٧٠ ثم زادت المذابح التي تعرض لها الأرمن على أيدي القوات العثمانية، حتى لا
يشكِّلوا عقبة أمام تنفيذ المشروع الطوراني، فضلًا عن ضمان عدم مطالبتهم بأية امتيازات
سياسية.
١٧١ لذلك فقد زادت هجرات الأرمن إلى مصر، برغم إحجام الحكومة المصرية عن تقديم
أية مساعدة للأرمن اللاجئين، حرصًا على علاقتها بدولة الخلافة التي كانت تَعتبر الأرمن
عصاة ومتمردين «شقوا عصا الطاعة على دولة ساستهم بالعدل أزمانًا.»
١٧٢ وتأكد وجودهم في دواوين الحكومة والمهن الحرفية، وظلت بعض الوظائف، مثل
التجارة الداخلية، مقصورة على الأرمن أو تكاد، طيلة القرن التاسع عشر. ساعد على ذلك
أنهم كانوا يجيدون اللغات الأجنبية، بما أتاح لهم فرصًا في الوظائف الحكومية تفوق ما
أتيح للعنصر الوطني.
١٧٣ فضلًا عن تولي الأرمني نوبار باشا رئاسة النظار ثلاث مرات، وظل نوبار باشا
في ذاكرة المصريين هو الذي أسَّس المحاكم المختلطة، وساعد على تقوية النفوذ الأوروبي،
ولم
يحاول التغلب على جهله باللغة العربية. وفي نهاية القرن التاسع عشر، كان عدد الأرمن في
مصر حوالي ثمانية آلاف نسمة. وعلى الرغم من تعدادهم القليل، فإن دورهم الاقتصادي
والسياسي كان ملحوظًا.
١٧٤ وكان الطبيب الأرمني في روايتَي «البوصيري وصيد العصاري» من الأرمن الفارِّين
من المذابح العثمانية.
١٧٥ كما كان صاحب محل الحلوى الأرمني بشارع باب البحر (شق الثعبان) واحدًا من
الهاربين من اضطهاد الأتراك.
١٧٦
•••
كانت السفن القادمة من المواني الإيطالية إلى الإسكندرية — في العصر العثماني — أكثر
من سواها. ثم تضاعفت تلك السفن مع بداية الهجرة الأوروبية، إلى مصر في عهد إسماعيل (١٨٦٣–١٨٧٩م)،
واحتلت الجالية الإيطالية المرتبة الثانية بعد اليونانيين. ولأن معظم
الوافدين كانوا من الطبقات الفقيرة، فقد اختلطوا بالمواطنين المصريين العاديين أكثر من
العناصر الأوروبية الأخرى، وشاع في البيئة المصرية الكثير من المفردات الإيطالية، مثل:
البالو، الكارو، البريمو، السكندو، الكانتو، وغيرها.
١٧٧
وكانت الآمال العريضة هي التي قادت الشاب الإيطالي بترو إلى الإسكندرية، فاستوطنها.
١٧٨ وقد امتلك الخواجة لمبو فندقًا جميلًا على ترعة الإبراهيمية، بالقرب من خط
السكة الحديد، وكان يجلب للمرقص الملحَق بالفندق أشهر الفِرق الراقصة من القاهرة والإسكندرية.
١٧٩
وقد ظل للإيطاليين وجودهم البارز في الحاشية الملكية (أنطون بوللي مثلًا) حتى قيام
ثورة يوليو.
•••
كان عدد الفرنسيين في مصر عام ١٧٩٠م، ٢٩ نسمة في القاهرة، و١٨ في الإسكندرية، و١٤
في رشيد.
١٨٠ وحين غادرت الحملة الفرنسية مصر في ١٨٠١م، اختار عدد كبير من الفرنسيين
البقاء في مصر، واختاروا — بالتحديد — خدمة محمد علي، سواء قبل توليه الحكم، أو بعد
استقرار حكمه. ثم هاجر عدد كبير آخر إلى مصر عقب هزيمة نابليون في واترلو عام ١٨١٥م؛
خشوا عقاب لويس الثامن عشر، فلاذوا ببلدان الشرق، ومصر من بينها، واعتنق بعضهم الإسلام،
وتبنَّى العادات المصرية، مارست فيه مصر سرها العجيب: الاحتواء.
•••
في ١٩١٧م أصبح عدد اليونانيين ٥٦ ألفًا، والإيطاليين ٥٠ ألفًا، والإنجليز ٢٤ ألفًا،
والفرنسيين ٢١ ألفًا.
١٨١ وكانت كل الحانات والمراقص ملكًا للأروام والإيطاليين «يحتمون بالامتيازات،
وينصبون الشِّباك للمغفلين ليسلبوهم أموالهم، فيغتني هؤلاء الأجانب، ويفتقر المصريون.»
١٨٢ تساندهم حزمة من التشريعات والقوانين، أخطرها ما كانت المحاكم المختلطة
تعمل في إطاره، وكما تقول اليهودية إستير: «المحاكم المختلطة لا تأخذ بالظواهر، فترى
الحق، ولا تحكم علينا بشيء.» وظلَّت تلك المحاكم مفروضة على المصريين، حتى اختفت في عام
١٩٤٩م.
١٨٣
•••
من هنا، فإن دعوة «مصر للمصريين» التي وضعها لطفي السيد شعارًا له، كانت بمثابة جواب
حاسم ومحدد لعشرات الأسئلة التي كان يلقيها الشباب المصري — آنذاك — في البحث عن مخرج
لأزمة
مصيره. لقد تلقفت حناجر الشباب صيحة الاستقلال التي أطلقها مصطفى كامل، لكنهم رفضوا أي
انتساب للمجتمع العثماني، تعبيرًا عن قلقهم من تسيُّد الأجناس الأجنبية والمتمصِّرة
للتركيب الاجتماعي، وتفاخر بعض المصريين — أحيانًا — بانتسابه إلى تلك الأجناس، ومناداة
بعض الزعماء — ومن بينهم لطفي السيد — بسياسة اللين مع الاستعمار، وارتادت أقدام الشباب
طريق الدعوة الجديدة، حتى قيام ثورة ١٩١٩م، التي وحَّدت طوائف الأمة تحت شعار «مصر
للمصريين» الذي تبنَّاه لطفي السيد: «كذلك نحن المصريون نحب بلادنا، ولا نقبل مطلقًا
أن
ننتسب إلى وطن غير مصر، مهما كانت أصولنا حجازية أو بربرية أو تركية أو شركسية أو سورية
أو رومية. ومصر بلد طيب ولد التمدن مرتين، وله من الثروة الطبيعية والشرف القديم ما
يكفل له الرقي.»
١٨٤ مع ذلك، فقد كان لطفي السيد هو الكاتب المصري الوحيد الذي دعا إلى اعتبار
الأجانب مصريين، وإعطائهم كل حقوق المصريين في وطنهم: «إن كل مصري يود لو أصبح كل من
على أرض مصر من العثمانيين وغير العثمانيين والأجانب أرباب الامتيازات، مصريين متساويين
في الحقوق والواجبات.»
١٨٥
وانطلاقًا من مفهوم شعار مصر للمصريين، ظهرت — على سبيل المثال — موسيقى سيد درويش،
التي سعت للتخلص من أثر البشارف التركية، واللجوء إلى الفولكلور المصري كأرضية طبيعية
لخلق موسيقى قومية، نتيجة لتلك الظروف التاريخية والاجتماعية للوطنية المصرية التي كانت
تنشد تأكيد وجودها، والتخلص من آثار السيطرة التركية. ولهذا، فإن موسيقى سيد درويش هي
التعبير الفني الموسيقي لثورة ١٩: بلادي بلادي، وألحان الفواعلية والصنايعية والسقايين
والجرسونات وغيرها … كانت هي النتاج المباشر لطبيعة تلك الفترة، وما لبثت أن وجدت صداها
في نفوس ملايين المصريين. وكانت أوبريت «العشرة الطيبة» بالذات، صدمة هائلة للأرستقراطية
التركية التي كانت — حين عُرض الأوبريت — ذات نفوذ قوي في المجتمع المصري. وكانت بعض
التيارات السياسية تبذل جهدها لإعادة مصر إلى حظيرة الخلافة العثمانية. صدمت «العشرة
الطيبة» — بكل ما حوته من نقد وسخرية بالطبقة الأرستقراطية التركية — ذوي الأصل التركي
من مشاهدي الأوبريت، واعتلوا مقاعدهم وهم يهتفون بحياة تركيا، وسلطان تركيا. واجه
الريحاني — بتقديم ذلك الأوبريت — اتهامًا بأنه «دسيسة إنجليزية» يهدف إلى تجسيم مساوئ
الأتراك في عين المصريين، مقابلًا لتقريب الإنجليز إلى نفوسهم، وهتف بعض المشاهدين في
أثناء عرض الأوبريت، بسقوط الريحاني، داعية الإنجليز وربيب نعمتهم.
١٨٦ ذلك ما يرويه الريحاني في مذكراته، وهو دليل على مدى إدانة محمد تيمور
للأرستقراطية التركية التي يعيب الناقد على محمد تيمور انتماءه إليها! كما عرضت
مسرحيات ذات طابع وطني صريح مثل «أبطال الحرية» كيف ينال الدستور، مصطفى كامل.
١٨٧ وفي أثناء عرض مسرحية «ضحايا الجهل» وقف إمام العبد — بين الفصلين الثالث
والرابع — وارتجل خُطبة ذكر فيها فضل الحرية، ووجوب طلبها، ولو اقتُحمَت في سبيلها
الأخطار، فاعتقله رجال البوليس وأطفئوا أنوار المسرح.
١٨٨ بعد تلك الحادثة، شرعت الحكومة في إيجاد قسم بمحافظة العاصمة يُطلَق عليه قسم
الآداب، بهدف مراقبة التمثيل والخطابة، «ويوظَّف به ثلاثة من الكُتاب والأدباء؛ لأن
المأمورين ليس في استطاعة أغلبهم الوقوف على سر الجمل والمعاني العربية، وذلك بعدما
أُخذ حضرة الشاعر المجيد محمد أفندي إمام من منبر الخطابة إلى مركز البوليس لتكلُّمه
عن الحرية.»
١٨٩ وكان تأكيد الشخصية المصرية هو الباعث لأن يكتب هيكل ومحمد تيمور — ومحمود
أيضًا — ومن بعدهم الحكيم، حوار قصصهم بالعامية، وتحدث محمد تيمور عن كتاب الوطنية، وأن
على صفحته الأولى كتب من ذهب: مصر للمصريين.
١٩٠ كما عبَّر شعراء العصر — شوقي وحافظ ومطران — في قصائدهم، عن أمجاد الفراعنة
والعرب. حتى المؤسسات الاجتماعية والثقافية، اتخذت أسماء تؤكد فكرة البعث، مثل جماعات
«آمون» و«الأهرام» و«أبو الهول» … ولعله كان أيضًا هو الباعث لأن يستعرض صالح حمدي
حماد في كتابه «حياتنا الأدبية» (١٩١٣م) أنواع الحكومات، وينتهي إلى أن الحكومة
الجمهورية هي التي يعبِّر فيها الشعب عن ذاته تمثيلًا صحيحًا، لأن رئاسة الجمهورية
بالانتخاب، وتُجدَّد كل بضع سنين، والمواطنين جميعًا لهم حق الانتخاب، والفرصة متاحة
أمام
أي مواطن ليصل إلى أعلى المناصب.
١٩١ وفي السنوات العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر، صدر العديد من الصحف
النسائية، مثل مجلة «السيدات» (١٨٩٢م) ومجلة «الهوانم» (١٩٠٠م) و«المرأة في الإسلام»
(١٩٠٠م) و«شجرة الدر» (١٩٠١م) و«السعادة» (١٩٠٢م) و«السيدات والبنات» (١٩٠٣م) و«فتاة
الشرق» (١٩٠٦م) و«ترقية المرأة» (١٩٠٨م) و«فتاة النيل» (١٩١٣م) وغيرها.
•••
فماذا عن فتاة مصر؟
إنها — باختصار — تروي قصة شاب إنجليزي، أحب فتاة مصرية قبطية، لأنها شبيهة بالفتاة
التي حلم بها في أثناء وجوده في إنجلترا. قالت له فيما يرى النائم: «إني قرينتك
المخلوقة لك، هلم فتِّش عني في ديار المشرق.»
١٩٢ وظلت الفتاة — بهية — عالِقة في خيال الشاب — هنري — إلى ما بعد الصحو.
ويتيقن الشاب أن الفتاة المصرية — بهية — هي تلك الفتاة التي رآها في المنام، دليله
أنها أطرقت — عند رؤيته — حياء، وصبغ الدم وجنتيها.
١٩٣ وظل طيف الفتاة يناوشه، وصورتها لا تبرح ذهنه، ويصارحها — في بيت أبيها
واصف بك — بأنه شعر — في أول لقاءاتهما — أنه رآها من قبل «وقلبي يدلني على أنكِ تشعرين
بشيء من ذلك.»
١٩٤ وسافر الشاب إلى اليابان في مهمة لصالح الإمبراطورية، ثم عاد فعقد قرانه
على فتاة أحلامه. ويبدي أحمد الشيخ المعمم ثناءه على الزيجة بالقول: «إني أحسب اقتران
هذا الفتى الإنكليزي بابنة مصرية من تباشير اقتران الغرب بالشرق، فلقد فُصِل بينهما
لأغراض السياسة زمانًا طويلًا من قبل عهد الإسكندر ذي القرنين، وعسى أن يتصلا بعد الآن،
فيزول ما نراه من الفتور بين الشرقي والغربي.»
١٩٥ المعنى الذي تريده الرواية، عبَّر عنه — فيما بعد — بصراحة أحد الخونة من
الساسة المصريين — وهو أمين عثمان — عندما تحدث عن العلاقة بين مصر وإنجلترا، وأنها
أضحت شبيهة بالزواج الكاثوليكي الذي لا يعرف الانفصال. ثم تتحدث الرواية عبر ما يقرب
من
الثلاثمائة صفحة، عن التقدُّم الحضاري الذي تتسم به الحياة المصرية منذ دخول الاحتلال،
وهو تقدم ربما لا يدركه المصريون، أو — في الأقل — لا يعترفون به. ثمة اللورد بنشيلد
الذي يرى أن «مصر نجحت تحت المراقبة نجاحًا لم يحلم به أهلها، ولا حلمنا به نحن.»
١٩٦ ويقول أحد الساسة الإنجليز لزميله: هل بقي شيء لا نود المجاهرة به، وكل ما
نسرُّ به ونعلن معروف عند الجميع، بل صرنا نُتَّهم بأكثر مما نقصد أو نُضمِر.
فيقول الآخر: أصبت، فإن مقاصدنا كلها معروفة، ولو لم نجاهر بها في جرائدنا، ولكن
البون شاسع بين ما نقوله نحن ونعترف به، وبين ما يُنسَب إلينا.
١٩٧
ولو أن الكاتب أجرى هذا الحوار بين مصري وإنجليزي، أو بين اثنين من الإنجليز أمام
مجموعة من المصريين، لنسبنا الموقف إلى النفاق الإنجليزي المعروف. ولكن أن يجري الحوار
بين إنجليزيَّين في لندن، فهو إيهام من المؤلف بالاستعمار البريطاني البريء! ثم يشيد
الكاتب بالحضارة الإنجليزية ومظاهرها، مثل حرص الإنجليز على تربية شبابهم تربية رياضية
«ولذلك ترى شبابهم مجدولي العضل، أشدَّاء الأعصاب، لا يحجمون عن المشاق، وهم يشرعون في
ترويض أبدانهم منذ الطفولة. وقد شرعوا الآن في إغراء بناتهم بترويض أبدانهن.»
١٩٨ بل إن واصف بك يتحدث طويلًا عن الوسائل الغريبة التي يلجأ إليها رأس المال
الأجنبي لسرقة أموال الفلاحين، لكنه يطنب — في الوقت نفسه — في «مدح ما فعله الإنكليز
من الإصلاح في البلاد، وجعل يقابل الأيام الحاضرة بالأيام الغابرة، أيام السخرة
والمغارم والكرباج، لكن الإنسان يطلب المزيد، لأنه مفطور على طلب الكمال؛ فقد أصلحتم
كثيرًا، وبقي أكثر مما أصلحتم، لا سيما فيما يعلي شأن الأمم، ويدنيها من الاستقلال.»
١٩٩ وثمة وزير من المغرب الأقصى، يعلن إعجابه بما رأى من التقدم الباهر في
القطر المصري، وأن على أبنائه «أن ينتفعوا من الفرص المباحة لهم، فيأخذوا أخذ
الأوروبيين، ويزاولوا الأعمال مثلهم.»
٢٠٠ ثم يعقد الكاتب مقارنة بين الإنجليز الذين لا يحجمون عن المهالك في سبيل
المجد، وبين المصريين الذين لا يذهبون إلى الحرب بمحض اختيارهم «مَن مِن أبناء المصريين
يذهب
إلى الحرب من تلقاء نفسه؟ أو مَن لا يستطيع أن يدفع البدَل العسكري ولا يدفعه؟»
٢٠١ وحين يطلب واصف بك من المهندس الزراعي الإنجليزي أن يدرس مشروعًا زراعيًّا
بنيَّة البدء بتنفيذه، يعترض المهندس بالقول إن الوطنيين لم يعتادوا تأليف الشركات
وإداراتها، وبالتالي، فإن الفشل هو النتيجة المتوقعة للمشروع.
٢٠٢ وعندما يقع أمين واصف تحت عجلات الترام، فإن الناس يكتفون بالتطلع إلى ما
حدث «بعيون شاخصة، وقلوب خافقة» دون أن يحاول أحدهم إنقاذه، لولا أن «بادر إليه بعض
السياح الأجانب، فتشجَّع غيرهم من الوطنيين، واقتربوا منه، ورفعوه عن الأرض.»
٢٠٣ ومن العجيب أن الإنجليزي بالذات هو الذي يشفق على الفلاح المصري، وهو الذي
يقول: هذه البلاد، كم طوت من الأمم الغابرين، وهي على حالها من عهد الفراعنة الأولين،
فلاحها يعيش بالكد والكدح، وغنيُّها يتمتع بجني فقرها، ثم يندرج الكل تحت التراب.»
٢٠٤ ويصل الأمر بالكاتب إلى حد السخرية من هزيمة الشعب المصري في موقعة التل
الكبير — وهي الهزيمة التي كانت الخيانة باعثها الأول — فيروي نكتة سخيفة عن القطار
الذي خاف صولة الإنجليز، عند وصوله إلى التل الكبير «فارتعد واضطرب».
٢٠٥
وعمومًا، فإن «فتاة مصر» تُعَد استمرارًا مباشرًا للخطة التي التزم بها يعقوب صروف
في
«المقطم»، مع زميليه فارس نمر وشاهين مكاريوس، منذ اشتراكهم في إصدار «المقتطف»،
٢٠٦ والتي تقوم — على حد تعبير النديم في «الأستاذ» — على «تنفير الأمة، وتحسين
الاعتراف بسلطة الغير، والتلويح بما يشف عن سوء مقاصدهم في الجانب الخديوي، والتزموا
ترجمة أوهام مستأجريها التي توهم الوعيد والتهديد، ليظهروا للأمة وهن السند الخديوي،
وقوة مستأجريهم.»
يحيى حقي وصف «المقطم» بأنها صحيفة الاحتلال،
٢٠٧ فمنذ ظهرت «المقطم» (١٨٨٩م) وهي «تعمل بكل جهدها على إقامة علاقات من حسن
الجوار بين المصريين والأجانب المقيمين في البلاد، وتعمل على تسيير دفة أمور مصر لرفعها
إلى مصاف الدول الأوروبية، إذا لم يتمكن الوطنيون المصريون فاقدو الخبرة والتجربة من
إعادتها إلى حالتها البربرية.»
٢٠٨ وكانت تدعو — صراحة — إلى تأييد الاحتلال «لما نال مصر من خير على يديه، ثم
الإشادة بالإنجليز، وتقدُّمهم على جميع دول العالم في العلوم وفن الحرب.» كما تحدثت عن
إنجلترا «سلطانة البحار والدولة التي تحكم ٣٢١ مليونًا من الأنفس.» وعقدت المقارنات بين
«البلاء الذي نزل بالبلاد في عام ١٨٨٢م، وكيف صال شيطان الفوضى، ولم تكن اليد المنقذة
شرقية، ولكنها أرجعت المياه إلى مجاريها، وشيَّدوا دعائم الحضارة، فهل نلام إذا شكرناهم
وفاء للدَّين الجميل؟» «إن العاقل هو من يرى اتِّباع سياسة المحاسنة والموادعة. ثم ما
هو
الاستقلال الذي يبكونه، والحرية التي يندبونها؟ ففي زمان الآباء والجدود تمتعوا
باستقلال وحرية حُرِموا منها الآن؟ ومتى كان زمام البلاد في قبضة يدهم وسُلِب الآن منهم؟
وأي شيء تغيَّر عليهم؟ وما ضرهم إذا انفردت بالنفوذ دولة واحدة «بريطانيا» بينهم، لا
سبع عشرة دولة أجنبية؟ وأية خسارة خسروها بتقليد رجال من الإنجليز وظائف كان يتقلَّدها
غيرهم من سائر الأجانب؟ وما ضرهم وجود فرقة من الجنود الإنجليز لزيادة توطيد الأمن،
ومشاورة دولة واحدة لا مرضاة سبع عشرة دولة؟» وكتبت «المقطم» تحت عنوان «مصلحة
المصريين لمصلحة الممثلين»: «تجشموا هول الإقامة في مصر، لرفع الظلم والاستبداد اللاحق
بالمصريين.» وأكدت أن غرضها هو «تأييد السياسة الإنجليزية التي لولاها ما كان في الشرق
بلدٌ يستطيع أحد أن يعيش فيه ويجاهِر بآرائه وأقواله.»
٢٠٩ فضلًا عن ذلك، كانت «المقطم» حريصة على أن تنشر خُطب ملكة إنجلترا كاملة
باللغة العربية في الصفحة الأولى. أما عيد ميلاد الملكة، فكانت تخصص له معظم مساحة
الصفحة الأولى، بل إن وفاة ابن ولي عهد إنجلترا، كانت لدى «المقطم» أشبه بوفاة الخديو
توفيق «كان المصابان في أسبوع واحد، وقد تشابهنا كلانا في المصاب الفادح، كما تشابهنا
في المصالح.»
٢١٠ ويقول وود: «إن الاحتلال اعتمد على صحيفة «الإجبشيان جازيت»، وصحيفة
«المقطم» الصادرة باللغة العربية، بالإضافة إلى «البروجريه» الفرنسية اللغة.»
٢١١ من هنا جاء وصف فتحي رضوان للمقطم بأنها جريدة احتلالية اسمًا ورسمًا، سرًّا
وعلنًا، وتدافع عن سياسة الإنجليز بلا تحرُّج ولا احتشام، وتجد في ذلك سعادة أن تكون
جريدة الاحتلال.
٢١٢ بل إن الجريدة كانت تلحُّ في إفهام المصريين أن صفة «العظمى» اللاصقة بكلمة
بريطانيا، لا تعني تفريقها في الحجم عن مقاطعة بريطانيا الفرنسية، بل تعني أنها أعظم
دولة في العالم.
٢١٣ وكان الإنجليز يدفعون مبلغًا ضخمًا من المال للمقطم «فهو لسان حالهم،
ويحاول الإنجليز استخدامه في مصر كوسيلة لإفساد الرأي العام؛ فكان أصحابه أكبر
المدافعين عن مصالح إنجلترا، ولا شك في أنهم كانوا رجال أعمال من الطراز الأول.» وتصف
جريدة «البسفور إجبسيان» المقطم، بأنها «تلك الصحيفة العربية التي تعمل جاهرة لخدمة
الإنجليز.» وقد أعلن اللورد كرومر — يومًا — «إني أحكم مصر بعشرة آلاف جنيه، وبجريدة
«المقطم».
٢١٤ وقال كرومر — في مناسبة تالية — «إنه يستطيع أن يحكم مصر بخمسين جنديًّا
إنجليزيًّا فقط، شريطة أن تواصل «المقطم» صدورها.» وقد تزوج السير والتر سمارت السكرتير
الشرقي للسفارة البريطانية، ابنة فارس نمر أحد أصحاب المقطم.
٢١٥ وبلغ من تزايد خطر «المقطم» أن سعد زغلول حصل على رخصة بإصدار جريدة
«العدالة» ليرد على افتراءات «المقطم»، لكن اختياره قاضيًا دفعه إلى وأد مشروعه. وفي
أوائل ١٨٩٣م خرجت من دار «الأستاذ» التي كان يحررها عبد الله النديم، مظاهرة تضم عددًا
من الطلبة، أثارتهم كلمات النديم حول الدور الذي تقوم به المقطم لصالح سلطات الاحتلال.
وكان من بين المتظاهرين شاب في الثامنة عشرة، هو مصطفى كامل.
٢١٦ ويروي سلامة موسى أن بعض الشبان — عقب مأساة دنشواي — كانوا يشترون
«المقطم» ويمزقونها حتى لا يقرؤه أحد.
٢١٧ وكان من بين ما أقدم عليه المتظاهرون في أحداث ثورة ١٩١٩م، تمزيق «المقطم»
باعتبارها ربيبة لسلطات الاحتلال.
٢١٨ وقد ظلت «المقطم» على ولائها للاحتلال البريطاني حتى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م،
فغابت عن الحياة المصرية.
وتُعَد «المقطم» هي الحلقة الثالثة في السلسلة التي تبدأ ﺑ «المقتطف العلمية» (١٨٨٥م)،
ثم
«اللطائف الأدبية» التي كان يصدرها شاهين مكاريوس (١٨٨٦م)، ثم صدرت «المقطم» لتعنى
بالنواحي السياسية. وكانت الصحف الثلاث حريصة على إظهار تبعيتها لسلطات الاحتلال، حتى
لقد ظهرت افتتاحية «المقتطف» غداة القضاء على الثورة العرابية، ونبضها تهنئة للقراء على
«خمود نيران الثورة المصرية، ورجوع مصر إلى مجاريها، وانكساف شمس باغيها، ولا عجب أن
حدا إليها حادي العمل، وأوى إليها طائر السلام.» وحتى بعد أن صدر وعد بلفور، وانتقال
النشاط الصهيوني العلني إلى فسطين، اجتذابًا لليهود من أنحاء العالم، فإن «المقطم» نصحت
أهل فلسطين بعد المبالغة في تقدير أخطار الهجرة اليهودية إلى فلسطين، حيث «لا يسع المرء
أن يعارض نواميس الطبيعة والعمران، فلا يحسن بالفلسطينيين أن يتمادوا في المبالغة في
وصف خطر يظهر أن اسمه أكبر من فعله.»
٢١٩ وبالإضافة إلى الصحف الثلاث، أصدر أصحابها أعمالًا أخرى، مثل «سر النجاح»
وهو كتاب «روحانيته إنجليزية وجسمانيته مصرية، يحوي من المبادئ الصادقة ما يشهد بجليل
الفطرتين؛ فكان أروع روح في أجمل جسد.» كما أصدر إسكندر شاهين — ابن أخ شاهين مكاريوس،
أحد أصحاب المقطم — رواية «تحفة العصر، أو الإنجليز في مصر»، وهي تعنى بإبراز الإصلاحات
التي قامت بها سلطات الاحتلال، وخطورة النتائج التي كان سيؤدي إليها نجاح الثورة
العرابية.»
٢٢٠ من هنا، فإني أختلف مع الرأي بأن الصحفيين السوريين في مصر عندما سعوا
للتخلص من اتخاذ موقف محدد في السياسات المصرية، يمكن أن يجلب عليهم غضب أحد الأطراف،
اتجهوا إلى الكتابة في الموضوعات الذهنية.» وكان شبلي شميل — في تقدير الكاتب — واحدًا
من هؤلاء (الأحزاب المصرية قبل ثورة ١٩٥٢م،٤٠).
إن غالبية المفكرين الشوام اتخذوا موقفًا منحازًا للاحتلال البريطاني، بما يتناقض
مع
آرائهم المؤيدة للحرية والاستقلال والتقدم. فولي الدين يكن الذي عني في كتابه «المعلوم
والمجهول» بالهجوم على الاستبداد والمستبدين، يصدِّر صفحات الكتاب نفسه بصورة كرومر
واصفًا إياه بأنه «مصلح مصر».
٢٢١ وشبلي شميل الذي دافع — في البداية — عن نظرية داروين، وسط رأي عام يصر على
رفضها، يعلن صراحة أن «مصر تحت سيطرة الإنجليز انتظم ريها، واتسعت زراعتها، وأثرى
فلاحها، وصارت حياته ذات قيمة، وانتظمت ماليتها، حتى صارت موضع ثقة العموم، وبلغت
الحرية فيها مبلغًا تفتحت له أبواب السجون.»
٢٢٢ وكتابات أخرى تؤكد دور شميل المشبوه في الحياة المصرية، وانحيازه إلى وجهة
النظر الاحتلالية، وهو الدور نفسه الذي أدَّاه أصحاب «المقطم» و«المقتطف». ولعلي أختلف
مع
الرأي بأن ترجمة شبلي شميل لنظرية «تطور النشوء والارتقاء» كانت طريقًا لإحداث رجَّة
فكرية في المجتمع، يمكن من خلالها مناقشة أصل الكون، وماديته، وتطور المجتمعات
والقوانين التي تحكمها، والإطاحة بالمستبدين، «وهكذا يحول العلم إلى سياسة مباشرة.»
٢٢٣ وأكاد أقول إنه لو أقدَم على ترجمة نظرية داروين كاتب آخر، لبناني أو مصري،
فرح أنطون — مثلًا — أو سلامة موسى، فربما اتفقنا مع ذلك الرأي، لكن المترجم هو شبلي
شميل، أحد الدعامات الأساسية في «المقطم» و«المقتطف»، والذي تكشف محصلة مواقفه طبيعة
تلك المواقف، والمنطلق الذي تصدر منه، فهو يُصر على رفض مساواة المرأة بالرجل لأن «دماغ
الذكر أثقل من دماغ الأنثى.» وعندما هبَّت مصر كلها ترفض مد امتياز قناة السويس تحديًا
للإنجليز،
عارض شميل هذا الموقف صراحة قائلًا: «حقوق الأمم هي فوق حقوق كل فرد مهما تعاظم، وحقوق
العالم أجمع فوق حقوق كل مملكة.»
٢٢٤ ولما دعا شبلي شميل إلى الاشتراكية — وهي الدعوة التي دفعت رفعت السعيد إلى
تبنِّي آراء الرجل على علَّاتها — فإنه قد تحفَّظ أساسًا بأن «ظروف المجتمع المصري لا
تسمح
بتكوين أي مجتمع اشتراكي، وأنها لن تسمح بذلك حتى بعد سنوات طويلة.»
٢٢٥ وكان يرى أيضًا أن الوضع في مصر من التخلُّف بحيث لا يسمح بإقامة أي حزب
لطبقة ما، في الوقت الذي يؤكد فيه رفعت السعيد أنه كانت توجد في مصر بالفعل مجموعات
اشتراكية لم تُعلن عن نفسها!
٢٢٦ بل إن السعيد يبرر للرجل مواقفه الممالئة للاحتلال البريطاني بأنه «شهد
المحتلِّين يمثِّلون دولة أكثر تقدمًا في العلوم الطبيعية من تركيا، وشهد بعص التقدم
في
مجال التعليم، فأغراه ذلك بتصوُّره أن هذا هو السبيل إلى تطوير المجتمع، وأن الاحتلال،
بالرغم من أي شيء، وبالرغم من كل شيء، يسير بالبلاد في الطريق الصحيح، طريق العلم.»
٢٢٧ مع ذلك فإن رفعت السعيد يلحظ أن شبلي شميل اتخذ «موقفًا سلبيًّا تقريبًا من
كل الأحداث والصراعات التي دارت في مجتمعه، فكل هذه — في اعتقاده — مسائل عارضة، ولن
تحل المشكلة الأساسية. ولعل هذا هو سر رفضه الانضمام إلى أية أحزاب أو جمعيات، معلنًا
إنه لا يريد أن يقيِّد نفسه بأي قيد.»
٢٢٨ وحتى لا نظلم شبلي شميل، فلعلنا نكتفي بالقول إن نظرياته وبحوثه لم تكن تضع
في تصورها الإنسان المصري. أما إذا تمسَّكنا بالقول إنه كان يكتب للجماهير المصرية، فإن
تلك الكتابات — في أقل تقدير — كانت تستهدف صالحًا آخر، يسهل تبيُّنه — كما قلت — من
محصلة مواقف الرجل جميعًا. كانت خطورة نقل نظرية النشوء والارتقاء إلى المجتمع المصري،
أنها تحمل صدمة مؤكدة لذوي الثقافة الدينية — وكان ذلك بالفعل حال غالبية المثقفين
المصريين — والضغط على نبذ السلفية، ومحاولة أن يكون للاجتهادات نصيبٌ حقيقي، وهو ما
عبَّر
عنه إسماعيل مظهر في قوله «في عام ١٩١١م كنت إذ ذاك مكبًّا على الفلسفة القديمة، أنهل
من
موارد العرب بأقصى ما تصل إليه استطاعتي، وحينذاك وقعت في يدي نسخة من كتاب دكتور شميل
«فلسفة النشوء والارتقاء» فأحدثت قراءتها في ذهني من الانقلاب والأثر ما تعجز الكلمات
واللغة عن التعبير عنه أو وصفه.»
٢٢٩ ومع أن الشيخ رشيد رضا — تلميذ الإمام محمد عبده — قد حاول التوفيق بين
آراء دارون وتعاليم الإسلام، حين استنكر الشيخ عبد القادر القباني ما كتبه شميل في
الهلال (يونيو ١٩٠٩م) عن فكرة النشوء والارتقاء، بحيث أنكر فكرة الخلق، فكتب رشيد رضا
يوضح اللَّبس الذي وقع فيه الشيخ القباني، وأكد أن نظرية النشوء إذا فُهمَت فهمًا جيدًا،
فإنها تتفق مع الإسلام تمامًا، وما كتبه شميل يهدف إلى التوفيق بين الدين والعلم.
٢٣٠ مع ذلك، فإن الدعوة إلى نظرية داروين تهدم — في بعض جوانبها — العقيدة
الدينية. وربما لهذا السبب كان قيام أصحاب «المقتطف» بالدعوة إليها؛ بحيث تحدِث شرخًا
في
العقيدة الدينية التي تُعَد تكوينًا أساسيًّا في الشخصية المصرية.
ولعل استمرارية «فتاة مصر» في التعبير عن موقف يعقوب صروف في «المقطم»، تتبدَّى في
تلك
المبادرات التي تنبض بها الرواية، ونجد في «المقطم» شبيهًا لها، مثل سلسلة المقالات
التي وضعت لها «المقطم» عنوانًا هو: هل مصر في تقدُّم؟ وأجاب على ذلك بأنها «تقدَّمت
وتتقدم، وهي الآن في تقدُّم لا ينكره إلا طامع بنا أو ذو رغبة. كيف لا، وهي رائعة في
ظل
خديويها ووزيرها، وآمنة بهمَّة أعوانها الإنجليز من كل طارق.» نفس الكلمات تقريبًا في
«فتاة مصر». بل إن ذلك الوزير المغربي الذي يفرضه الكاتب على الرواية «لم يخفِ إعجابه
بما رأى من التقدم الباهر في القطر المصري، وودَّ أن ينتفع أبناؤه كلهم من الفرص المباحة
لهم، فيأخذوا أخذ الأوروبيين، ويتعلَّموا تعلُّمهم، ويزاولوا الأعمال مثلهم.» أما «المقطم»
فتكتب في إحدى مقالاتها عن المصريين الذين «كانوا يتمنَّون لو أتيح لهم نصيب أهل تونس
والجزائر، حيث الأهلون يرتعون في بحبوحة ونعيم، ويديرون أمورهم بأنفسهم، لا يزاحمهم
الأجنبي المحتل لبلادهم على عيشهم أو مناصبهم أو مراتبهم، إلى غير ذلك من أضغاث الأحلام
وتُرهات الأوهام التي كانوا لا يطالعون سواها في صحائف الأخبار. أما الآن، وقد سمعوا
ما
قرره مجلس التجارة الفرنسوي عن سوء الأحوال في تونس، والتضييق على أهلها، وسوَّمهم الذل
والخسف ومسابقة المحتلين لهم على مناصب بلادهم، وأطايبها ولذاتها وخيراتها، فقد علموا
أنهم كانوا في ضلال مبين.» وشخصية الوزير المغربي وآراؤه توضح أن يعقوب صروف كتب روايته
قبل ١٩٠٤م — عام الوفاق الفرنسي الإنجليزي — ذلك لأن عقد المقارنات بين ما كان يفعله
الاستعمار الفرنسي في المغرب ضد أبناء البلاد، وما كان يفعله الاستعمار الإنجليزي في
مصر لصالح الوطنيين من خلال معلومات وإحصاءات أحادية المصدر، كان هو سبيل صحف الاحتلال،
مقابلًا للمعلومات التي كانت تنشرها الصحف الفرنسية النزعة، مثل قول «الأهرام»: «إن من
ينظر في أحوال تونس لا يمكن إلا أن يقرَّ بجميل فرنسا على تلك البلاد في البرهة اليسيرة
التي حلَّت بها، فلن تمر بضع سنين حتى تصبح تونس من أثرى البلاد الأفريقية بعد سن
القوانين وإنشاء المجالس والمدارس الفرنسية.» «فتاة مصر» تقارن بين الاستعمار البريطاني
في مصر، والاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، وتنتصر لإسهامات الإنجليز في تطوير
الحياة المصرية. أما الاستقلال، فإن الأخذ بالأصوات الداعية إليه هو في غير صالح الشعب
المصري؛ ذلك لأنه قد يبدد التقدم الحضاري الذي أصبح سِمة للحياة المصرية.
•••
ثم نجد أنفسنا أمام السؤال: ما طبيعة ذلك التقدم الحضاري الذي أصبح سِمة للحياة
المصرية — على حد تعبير يعقوب صروف — منذ دخول قوات الاحتلال؟
الجواب نجده في إلمامة سريعة بتطورات الحياة المصرية، خلال الأعوام التي تلت دخول
قوات الاحتلال. فقد غصَّت السجون بأكثر من تسعة وعشرين ألف رجل، منهم زعماء الثورة
السبعة، وعلماء الأزهر، ورؤساء العائلات الريفية، وأعضاء مجلس النواب الذي تم حلُّه عقب
الثورة، ونُفي الكثيرون إلى مصوع وسواكن وبيروت (لم تكن هي بيروت زماننا الحالي!) وفي
١٥ نوفمبر ١٨٨٣م، دفعت سلطات الاحتلال بمن تبقَّى من القوات العرابية، إلى معركة «كردفان»
بقيادة ضابط إنجليزي هو الجنرال هيكس، وكان عدد القوات المصرية ١٣ ألفًا «وتدل كل
الظروف والملابسات على أن غرض الإنجليز من إرسال هذا الجيش، وتعريضه لزحفٍ تعترضه
المهالك، كان التخلص منه لأن فيه البقية الباقية من جيش عرابي. وقد هلك الجيش، ولم ينجُ
منه سوى ضابطين برتبة الملازم و٣٠٠ جندي، واطمأن الاحتلال بعدئذٍ.»
٢٣١ وبعد إحكام سلطات الاحتلال سيطرتها على كل قوى الأمن الداخلي والخارجي،
بدأت — على مراحل ثلاث — في تنفيذ برامجها في السودان، واعتبار الثورة المهدية فرصة
لذلك، ثم إخلاؤه من الجنود والموظفين المصريين، واسترداده لصالح إنجلترا وحدها. ثم جنَّد
الإنجليز ما يزيد على مليون ونصف مليون من العمال والفلاحين للعمل في الجيش البريطاني،
وكانوا يُؤخذون كرهًا باسم المتطوعين، يُربَطون بالحبال، ويُساقون تحت حراسة مشدَّدة
إلى
معسكرات العمل. وأدخلت سلطات الاحتلال نظام البدل النقدي للإعفاء من التجنيد، بحيث لا
يؤدي الخدمة العسكرية إلا أبناء الطبقات الأدنى. وفي ١٨٩٢م أعلنت الحكومة البريطانية
— رسميًّا — أنها وافقت على زيادة جيش الاحتلال في مصر «نظرًا للحوادث الأخيرة التي حدثت
في مصر.»
٢٣٢ وقد أذنت سلطات الاحتلال — أو لعلَّها أسهمت — بإنشاء مجلسَين نيابيَّين، هما
مجلس شورى القوانين الذي يضم ثلاثين عضوًا، أربعة عشر منهم تعيِّنهم الحكومة، من بينهم
الرئيس وأحد الوكيلين، والباقون منتخبون. وكانت مهمة المجلس استشارية خالصة في الأمور
الداخلية ولا تلتزم الحكومة بتنفيذ رغباته. وكان ينعقد مرة كل شهرين. أما المجلس الثاني
فهو الجمعية العمومية، وعدد أعضائها اثنين وثمانين، وكان رأيها استشاريًّا كذلك، فيما
عدا سلطة تقرير الضرائب الجديدة، وكانت تنعقد مرة كل سنتين.
٢٣٣ وفي ١٩١٣م بدأت الجمعية التشريعية الجديدة جلساتها، وكان اللورد كتشنر قد
أفرغها تمامًا من أي محتوًى ديمقراطي، إلى حد التدخل في عملية الانتخاب، ومنع الأصوات
المعارضة.
٢٣٤ وبالنسبة للزراعة، فقد بدأت شركات الأراضي نشاطها منذ ١٨٨٨م تقريبًا. وتحدَّد
نشاطها في تملُّك الأراضي بهدف إصلاحها، ثم تقسيمها إلى مزارع متوسطة أو صغيرة، وتشغيلها
كوحداتٍ إنتاجية كبيرة، أو بيعها بأقساطٍ إلى المزارعين المصريين. وكانت رءوس أموال تلك
الشركات — في البداية — إنجليزية وفرنسية، بالإضافة إلى رءوس أموال أجنبية أخرى. ثم بدأ
رأس المال المحلي في الاشتراك بأجزاء صغيرة، ما لبثت أن زادت واتسعت. ساعدها على ذلك
استقرار الملكية الفردية للأراضي الزراعية، ودخول مساحات كبيرة من الأرض إلى الزراعة،
بعد إنشاء قناطر الدلتا، والنشاط المنظم للرأسمالية العالمية في أعقاب الاحتلال
البريطاني. ثم زاد عدد تلك الشركات مرة أخرى، بعد الزيادة التي حققتها التعلية الأولى
لخزان أسوان في ١٩٠٤م، والتي بلغت ١٢٧٦٠٠٠ فدان، وأصبحت شركات الأراضي — بعد ذلك —
بُعدًا ثابتًا في الحياة الاقتصادية المصرية.
٢٣٥
أما الصناعة، فقد بدا واضحًا أن نظام الطوائف — عندما شهد نهايته في ١٨٨٢م — إنما
كان
يعني — في الوقت نفسه — ذوي الأمل في ازدهار الصناعة في مصر، وأنه لن يكون لها في
التنمية الاقتصادية دور حقيقي. وكتب اللورد كرومر في تقريره عن مصر سنة ١٩٠٥م: «من يقابل
بين صناعة مصر الآن وبين ما كانت عليه منذ عشر سنوات، أو خمس عشرة سنة مضت، أي قبل
الاحتلال البريطاني، يجد أن الأمكنة التي كانت مزدحمة بصنَّاع الغزل والحياكة والصباغة
والخيام والأحذية والصياغة والعطارة والأدوات النحاسية والسروج والمناخل والأقفال، قد
قلَّت، أو اندثرت، وقام على أطلالها قهاوٍ وحوانيت ملأى ببضائع أوروبية.
٢٣٦
لقد شهدت الصناعة تدهورًا — حتى قيام الحرب العالمية الأولى — لجملة أسباب، في
مقدمتها: عدم اهتمام المصريين بالصناعة، وتفضيلهم الزراعة، تصديقًا للشائعة التي روَّج
لها الاحتلال بأن مصر بلد زراعي، إلى جانب حرص قوات الاحتلال على حجب كل الفرص لترقية
الصناعة، وتحويل مصر إلى مزرعة للقطن تصدِّر ما تنتجه إلى إنجلترا، ليتم تصنيعه هناك،
وعدم تمتُّع الصناعة المصرية بالحماية الجمركية التي تتيح لها منافسة الواردات الأجنبية،
فضلًا عن افتقاد الصانع المصري لحساسية الإتقان التي كان يمتلكها، وافتقاده — في الوقت
نفسه — لرأس المال الذي يتيح له الاستثمار الصناعي، وتطوير أدواته، وتحسينها، بما يكفل
له تطوير إنتاجه، وتحدي المنافسة الأجنبية بإنتاج أحسن شكلًا، وأقل ثمنًا، وهو ما كان
يبدو مستحيلًا — كما أشرنا — أمام المعوقات التي كانت تضعها سلطات الاحتلال. ولمنع قيام
صناعة حقيقية، فقد سُميت المصانع أماكن مقلِقة للراحة، لا بد من الحصول على ترخيص من
وزارة الداخلية لفتحها.
٢٣٧ وكتب روذنستين في ١٩١٠م أن الإنجليز في الثماني والعشرين سنة التي حكموا
فيها مصر، لم يكتفوا بعدم إنشائهم ولو صناعة واحدة فحسب، بل قتلوا بالفعل كل ما من شأنه
أن يعود ببعض التقدم الصناعي.»
٢٣٨ عارض اللورد كرومر تصنيع مصر، وأكد أن الصناعة في مصر ستظل أمنية مستحيلة
ما لم توازِها حماية جمركية. لكنه دافع عن حرية التجارة، وحذَّر من أن مصر ستفقد الضرائب
التي يدفعها التجار الأجانب إذا تحوَّلت رءوس أموالهم إلى التصنيع.
٢٣٩ وعندما أنشئ مصنعان للغزل والنسيج بالقاهرة والإسكندرية، فرضت الحكومة
ضريبة على جميع المصنوعات القطنية قدرها ٨٪، وهي تعادل الرسوم الجمركية المفروضة على
المصنوعات القطنية المستوردة، وتعرَّضت صناعة غزل ونسج القطن لمتاعب قاسية، وكتب كرومر
في
تقريره: إن الصناعات الأهلية تنقرض.
٢٤٠ لقد تحوَّلت الدول العربية — ومصر من بينها بالطبع — إلى مصادر للمواد الخام،
يحصل عليها بأبخس الأثمان، فيزوِّد بها صناعاته، ثم يصدِّر إليها منتجاته الصناعية بأثمان
مرتفعة، ترافقها حمايات جمركية وضريبية وغيرها، بما يضمن تميزها بفرص رواج مؤكدة.
٢٤١ ونتيجة لذلك، أغلقت عشرات المصانع أبوابها، مثل مصنع الورق ببولاق، ودار سك
النقود، وبيعت مغازل القطن ومصانع النسيج التي كانت باقية منذ عهد محمد علي، وعُطِّل
الحوض
البحري لإصلاح السفن، واندثرت غالبية الحرف الصغيرة، وأغرقت بريطانيا الأسواق
بصادراتها، وأنشأت الحكومة المصرية مكتبًا في لندن لشراء الصادرات البريطانية وحدها،
ولم تعُد مصر تصدِّر من الحاصلات الزراعية سوى القطن. وتطبيقًا لسياسة بريطانيا في الإفادة
— إلى أقصى حد — من قوة العمل المصرية، تحوَّلت ميزانية مصر كلها إلى ميزانية «تسديد
ديون»، حتى إن الفائدة على الدَّين العام، وليس أصل الدَّين نفسه، كانت تمثِّل نسبة مئوية
تصل
إلى ٣٢٪ من إيراد الدولة، في الفترة من ١٨٨٠م إلى ١٩٠٩م، و٢٩٪ من قيمة الصادرات في نفس
الفترة. وقُدِّرت الفوائد التي دفعتها مصر عن الدَّين الأجنبي منذ ١٨٨٢م إلى ١٩١٤م بحوالي
١٥٠
مليونًا من الجنيهات. علمًا بأن قيمة الدَّين نفسه كانت ٩٨ مليونًا من الجنيهات، وقد
ضاع
الجزء الأكبر منها في مشروعاتٍ غير منتِجة.
٢٤٢ كما تدفقت رءوس الأموال الأجنبية على مصر، وتركز نشاطها في مشروعات الري
واستغلال الأراضي. أما نشاطها المالي، فقد استهدف عمليات التسليف العقاري، وإقامة
البنوك التجارية التي تموِّل الصادرات والواردات. لقد كان الهدف المعلَن — منذ قدوم
الاحتلال — هو إصلاح الإدارة المصرية لضمان سداد الديون التي اقترضها إسماعيل من الدول
الأوروبية، لكن الهدف الحقيقي كان الحصول على أقصى ربح من قوة العمل المصرية، وتحويل
مصر إلى سوقٍ لتصدير المواد الخام، واستيراد السلع المصنَّعة. وقد اضمحلت الصناعات الصغيرة
— بالفعل — نتيجة لنظام الاحتكار والتوسُّع في إنتاج المصانع الحكومية، وبسبب المنافسة
الأجنبية.
٢٤٣ ويقول تقرير لجنة التجارة والصناعة الذي صدر إبان عهد الاحتلال: «مكانتنا
الصناعية ترتكز على محصول واحد، هو محصول القطن. فضلًا عن ذلك، فهذا المحصول معرَّض من
حيث قيمته وكميته لتقلبات أشد وأعظم مما يصيب سائر المحصولات المعادِلة له في الأهمية.»
والواقع أنه لم يحدث — منذ ١٨٨٢م — أي تطوير للسياسة الزراعية، بل لقد أصبح متوسط الفدان
الواحد من القطن ثلاثة قناطير، وكان قبلًا ستة قناطير. وفي تقرير لجنة الصناعة
والتجارة: «في عام ١٨٣٦م بلغت قيمة المنسوجات المصدَّرة إلى الخارج ٦٢ ألف جنيه، أي بنسبة
٣٪ من مجموع الصادرات. وفي سنة ١٩١٣م هبطت قيمتها إلى ألف جنيه، أي بنسبة تكاد تكون في
حكم العدم، وارتفع — في ظل الاحتلال — عدد الملاك الذين يملكون أكثر من ٥٠ فدانًا من
١١٢٢٠ مالكًا عام ١٨٩٤م إلى ١٢٤٨٠ مالكًا عام ١٩١٤م. وزادت أملاكهم من ٢٧٩٣٠٠٠ فدان
في ١٩١٤م.»
٢٤٤ وكان المرابون الأجانب يسهِّلون الدَّين للفلاح حتى يقع في براثنهم، ثم يبدءون
في الحجز على ممتلكاته، وبيعها بعد أن يعجز عن السداد.
وكانت قيمة صادرات مصر سنة ١٨٣٦م في المحصولات الصناعية ٥١ ألف جنيه، بنسبة ٢٫٥٪
من
مجموع الصادرات. ثم يقول التقرير: «حلَّت إنجلترا في المنزلة الأولى التي كانت لتركيا
في
سنة ١٨٣٦م في تجارة الواردات، وفي تجارة الصادرات، وقد أصبحت أهم بلد تورِّد لنا بضائعها
وتستورد بضائعنا.» ومع أن القطن كان هو — كما أسلفنا — المحصول الرئيس، وكان يمثِّل
أكثر من ٨٥٪ من تجارة البلاد، فإن تحديد أسعاره، فضلًا عن عمليات تمويله وتسويقه وحلجه
وكبسه وتصديره، كانت تخضع — بالكامل — لعناصر أجنبية. لقد أصبحت البلاد أشبه بمزرعة
هائلة للقطن، يستولي على محصولها المصدِّرون والمرابون من الأجانب. ونتيجة لذلك، احتفظت
مصر بنحو ٥٠ قنطارًا فقط من محصول القطن عام ١٨٨٤م (حوالي ٢٫٥ مليون قنطار) و٤١ قنطارًا
من محصول القطن عام ١٩٠٢م (حوالي ٥ ملايين قنطار)، وارتفع الوارد من المنسوجات القطنية
من ٢٦٠٠٠٠٠ جنيه في عام ١٨٨٢م، إلى ٧ ملايين جنيه في نهاية «سني الإصلاح». وفي
الفترة من دخول الاحتلال مصر إلى أول القرن، كان سعر الرطل من لحم الضأن قد ارتفع من
قرشين صاغ إلى أربعة قروش، ولحم البقر من قرش إلى ثلاثة، وإردب القمح من ٣٠ قرشًا إلى
١٤٥ قرشًا، كما ارتفع إيجار المنازل بنسبة ١٥٠٪، وعانى ذوو الدخل المحدود من غلاء
الأسعار سواء كانوا في خدمة الحكومة أم في غيرها.
٢٤٥ وعندما ظهر الطاعون في ١٨٨٤م كتبت لوسي دف جوردون: «زحف هذا البلاء إلى
الصعيد، ففي غضون ستة أسابيع نفقت كل ماشيتنا، والحمير الآن هي التي تذرو القمح،
والرجال هم الذين يديرون السواقي، ويجرُّون المحاريث، ويموتون بالعشرات في أماكن كثيرة
رهقًا وجوعًا، إن الزراعة جميعها تقوم على الثيران، وقد ماتت جميعًا.»
٢٤٦ وقد كتب خليل مطران مسرحية كوميدية — رواية هزلية كما سمَّاها — بعنوان
العلاج بالشنق (١٩٠١م) أشار فيها إلى تدنِّي الوضع الاقتصادي في مصر. قال على لسان رجل
الأعمال الفرنسي أدران: «… واعلم مع ذلك أن سكَّانه — القطر المصري — فقراء إلى
الأرمال، فهم يشربون ماء النيل الأحمر غير مقطَّر، كأنَّ بطونهم أراضٍ تحتاج إلى ذلك
السماد لتثمر قطنًا، وتورق قصبًا. واعلم أيضًا أنهم يأكلون الفول والبقل المخلل صباح
مساء. فيا لله، كيف يستطيع قوم أن يعيشوا من مثل هذا؟ يكثر تداول الناس فيما أوجب
منذ الأزل شقاء مصر، وأظن أني كشفت السر. ولا ريب عندي الآن أنه هو الفول والبقل
المخلل، ومما قرأته في جريدة هزلية أن طبيبًا مصريًّا بارًّا بأبناء جلدته، خشي أن يغلو
عليهم هذان الصنفان، فأكثر من التجارب حتى وُفِّق إلى اكتشاف البرسيم طعامًا للناس، وقال
إنه امتحنه بنفسه، فوجده نافعًا لذيذًا.»
٢٤٧ ويضيف رجل الأعمال الفرنسي قوله: «ولمثل هذا سهل ويسهل على الحكام في كل
وقت، أن يستقطروا من فاقة مصر مالًا، فينفقوا من سعة على أنفسهم، ويدفعوا ما يحق من
الدَّين، ويوسِّعوا للصناديق الاحتياطية التي فيها الآن بضعة ملايين من الجنيهات.»
٢٤٨ وفي تقرير للورد كرومر صدر أواخر القرن الماضي أشار إلى أن «يقارن الحالة
الراهنة بالحالة التي كانت منذ خمس عشرة سنة، يجد بونًا شاسعًا وفرقًا مدهشًا. فالشوارع
التي كانت مكتظة بدكاكين أرباب الصناعات والحرف من غزَّالين ونسَّاجين وحيَّاكين وصبَّاغين
وخيَّامين وصانعي أحذية وصائغين وسمكرية وصانعي قِرب وغرابيل وسروج وأقفال ومفاتيح …
إلخ، قد
أصبحت الآن مزدحمة بما قام على أنقاض هذه المحال من القهاوي والحوانيت الغاصة بالبضائع
الأوروبية.»
٢٤٩ وزاد كرومر، فحذَّر المصريين من الاشتغال بالصناعة (١٩٠١م): «أما فيما يخص
أصحاب الأسهم من المصريين، فإني أغتنم هذه الفرصة لتكرار التحذير، حيث قلت إن الذين
يضيِّعون أموالهم في الشركات يحسن بهم أن يتبصَّروا.»
٢٥٠ ويضيف النديم إلى بانورامية الصورة وقسوتها: «تخيل نفسك عائدًا إلى وطنك
بعد غيبة سبع سنوات، وحين تصل إلى الإسكندرية سوف تجد قائد الميناء بحارًا إنجليزيًّا.
فإذا ما وصلت حقائبك إلى الجمرك، فستجد مديره إنجليزيًّا كان موظفًا سابقًا بمصلحة
البريد. فإذا أردت أن تسافر إلى القاهرة بالسكة الحديد، فسوف تجد هذا المرفق يُدار
بواسطة موظفين إنجليز وهنود وفرنسيين، فإذا شئت أن ترسل تلغرافًا إلى أهلك تنبِّئهم
بوصولك، فستجد المشرف على التلغرافات موظفًا إنجليزيًّا أيضًا. وإذا شئت أن ترسل
لأصدقائك خطابات تخبرهم بقدومك، فستجد مصلحة البريد مرءوسة بموظف سابق في البريد
الإنجليزي. أما إذا رغبت في أن تذهب إلى الصعيد، فعليك أن تركب البواخر التي احتكرتها
شركة إنجليزية، فإذا ما ذهبت إلى الريف، فسوف تجد كثيرًا من الأهل والأصدقاء وقد ضاعت
أموالهم وأرضهم، وذهبت إلى أيدي المرابين الإنجليز والإيطاليين واليونانيين. فإذا سألت:
لماذا بقي المواطنون على جهلهم؟ أجابك واقع الحال أن الدَّين العام قد أتى على ميزانية
الدولة، فلم يبقَ شيء منها لبناء المدارس، أو لشق الترع. وأستطيع أن أستمر في ضرب
الأمثلة التي لا تُحصى، ولكني أعطيتك من الأسباب ما يكفيك أيها المصري، لتعرف أنك أجنبي
في بلادك، فإذا كنت حقًّا تحب وطنك، فيجب أن تؤيد الحركة الوطنية التي قامت لتحصل لك
على
حقوقك كإنسان، ومن ثَم تحس أن وطنك ملك لك أنت.»
٢٥١
أما التعليم، فقد أُلغيت في عام ١٨٨٣م — أي العام الذي يلي الاحتلال مباشرة — ١٢
مدرسة
تجهيزية وثلاث مدارس فنية، ومدارس المعلمين والمساحة والطب البيطري والزراعة والآثار
المصرية. كما أُلغيت المدارس الثانوية بالأقاليم، وحُوِّل طلبتها إلى المدرسة الخديوية
بالقاهرة، وسُمِّي ذلك العام بعام «هوجة» المدارس. وكان كل طالب يلتحق بالفصل الذي يناسب
طوله، فقصار القامة يلتحقون بالسنة الأولى، والذين أطول منهم في السنة الثانية، وهكذا.
وكان الحبس في الزنزانة من أنواع العقاب في بعض مدارس المرحلة الابتدائية، وكان بعض
التلاميذ تُوضَع قدماه في الحديد، لأنه ارتكب ذنبًا. ثم ألغت سلطات الاحتلال مجانية
التعليم، بعد أن كانت مقرَّرة في عهد الخديو إسماعيل في جميع درجات التعليم. وكتب اللورد
كرومر في تقرير له عام ١٩٠٠م: «كانت نسبة المجانية في مدارس الحكومة سنة ١٨٧٩م — أي قبل
الاحتلال — ٩٥٪. أما في السنة الماضية، فكانت نسبة الذين يدفعون المصروفات المدرسية في
المدارس الابتدائية الأميرية ٩٨٫٥٪، وفي المدارس الثانوية ٩٦٪، وأنا واثق أن هذه
السياسة ستظل متَّبَعة بثبات، حتى تُلغى طريقة التعليم المجاني إلغاء تامًّا، أو تكون
في حكم
ذلك.» ثم قال كرومر في تقرير آخر عام ١٩٠٤م: «ومما يستحق الذكر أن تلميذًا واحدًا فقط
يتعلم مجانًا في المدارس الابتدائية.» وفي عام ١٨٩١م دخلت اللغة الإنجليزية المدارس
الابتدائية، وفي العام الذي يليه دخلت المدارس الثانوية. بل إن العربية كانت لغة
التدريس بمدرسة الطب إلى عام ١٨٩٧م، ثم استُبدلَت بالإنجليزية، ثم أصبحت اللغة العربية
لغة
ثانية في كل مراحل التعليم. ولم تكن في مصر كلها مدرسة ثانوية واحدة للبنات. وبلغ عدد
طلبة المدارس الابتدائية في عام ١٩٠٥م ٦٤٩٤ طالبًا، وطلبة المدارس الثانوية ١٠٣٣
طالبًا. وفي نوفمبر ١٩٠٩م، كتب سعد زغلول: «في نظارة المعارف سياستان متقابلتان
ومتعارضتان تعارضًا شديدًا، فالأولى سياسة المستر دنلوب التي جرى عليها منذ تعيينه في
النظارة، وهي ترمي إلى تضييق دائرة التعليم حتى لا تشمل إلا عددًا محصورًا من
المتعلمين، ومقدارًا محدودًا من المعلومات، وإلى أن تكون وظائفه محصورة في الإنجليز
خاصة، وإلى منع مواهب من الظهور والنمو حتى يبقى — على الدوام — ضعيفًا قاصرًا عن إدارة
شئون بلاده. ويساعد المستشار على تنفيذ هذه السياسة جميع الموظفين من الإنجليز، سواء
كانوا مفتشين أو نظار مدارس أو معلمين، وعدد عظيم من الوطنيين الذين تربوا على الخوف
من
السلطة الإنجليزية، وامتلأت أوهامهم بها، وضعفت نفوسهم عن مقاومتها.»
٢٥٢ كان رأي كرومر أن مصر ليست في حاجة إلى مدارس، وإنما يكفيها «كتاتيب» تُعلَّم
فيها القراءة والكتابة والحساب «مع الالتفات إلى الرياضة البدنية.»
٢٥٣ وقد بلغ مجموع ما أنفِق على التعليم خلال الفترة من ١٨٨٢م إلى ١٩٠٢م ما يقل
عن١ ٪ من مجموع ميزانية الدولة.
٢٥٤ كان تقدير دنلوب — وهو تقدير يستند إلى عنصرية مؤكدة! — أن معرفة الموظفين
والمدرسين للغة العربية، «سيُوجِد لديهم أفكارٌ رومانسية بشأن أهالي البلاد؛ فهم سيضيعون
وقتهم في استخدام اللغة العربية لشرح ما يجب عليهم تعليمه للأهالي، بدلًا من جعل
الأهالي يتعلَّمون الإنجليزية.»
٢٥٥ وحتى عام ١٩١٧م كان لوزارة المعارف ست مدارس ثانوية للبنين، ثلاث منها
بالقاهرة، واثنتان بالإسكندرية، وواحدة بطنطا. وكان مجموع عدد تلاميذها ٢٤٤٢ تلميذًا.
٢٥٦ وكان مجموع عدد أفراد الشعب المصري ١١ مليون نسمة. والملاحَظ أن مدرسة
المعلمين كانت هي الوحيدة المجانية آنذاك، بينما كان دخول مدرسة الحقوق أو الآداب —
مثلًا — لقاء رسم يصل إلى ثلاثين جنيهًا في السنة بالنسبة للحقوق، وعشرين بالنسبة
للآداب. ولعل ذلك كان بعض الأسباب التي استند إليها أحمد عبد الجواد في رفض اختيار كمال
لمدرسة المعلمين؛ هل يبدو أمام الناس كأنه التحق بمدرسة مجانية فرارًا من رسم الدخول
في
مدرسة محترمة؟! وكان معلم اللغة العربية يُفصَل من وزارة المعارف إذا نزع عمامته وجُبَّته،
وارتدى الزي الأوروبي!
ورغم تلك السياسة، فقد صارت الشهادة العليا التي تؤهل للوظيفة، هدف غالبية الشباب
المصري، وهي دراسة ترتكز إلى المواد النظرية، بينما تهمل — تمامًا — الجوانب التجارية
والزراعية والصناعية، فضلًا عن الجوانب العملية والتطبيقية (رفض لطفي السيد دخول مدرسة
الهندسة، وفضَّل الالتحاق بمدرسة الحقوق، لأن الهندسة كانت تقبل راسبي الكفاءة!) ويحدد
اللورد كرومر أبعاد تلك السياسة — صراحة — في كتابه «مصر الحديثة»: «ويجب ألَّا نفترض
أن
المصريين أحسُّوا فجأة بالظمأ إلى المعرفة من أجل المعرفة ذاتها، أو أنهم استيقظوا على
إحساسٍ حادٍّ بالخجل من جهلهم، فالروح الجديدة مبعثها — عمومًا — أنه يوجد في القطر جزء
كبير
من الطبقة العليا والسفلى، يعتمدون على الوظيفة الحكومية. وقد أدرك الآباء أن أولادهم
إن لم يُبعَثوا إلى المدرسة، فإنهم لن يستطيعوا كسب قوتهم.»
٢٥٧
وأما بالنسبة للتطورات السياسية الداخلية، فقد بُعِث في عام ١٩٠٨م قانون الصحافة
الذي
صدر في ١٨٨٢م، مبيحًا للسلطات البريطانية حق إنذار الصحف وتعطيلها.
٢٥٨ حتى الصحف التي كانت تعنى — قبل الاحتلال — بالهموم والمشكلات الاجتماعية
والسياسية، تحوَّلت — بعد الاحتلال — إلى التسلية والترفيه. وصدر قانون النفي الإداري
لإرهاب المواطنين. كما صدر في يوليو ١٩١٣م قانون إنشاء الجمعية التشريعية، لتحل محل مجلس
شورى القوانين والجمعية العمومية. وكان من بين مواد قانون هذه الجمعية أنه «ليس للجمعية
التشريعية أن تنظر في مخصصات الأمير، أو في خراج الآستانة، أو الدَّين العمومي، ولا أن
تناقش الالتزامات الناتجة عن قانون التصفية، أو تبحث في الاتفاقات الدولية، أو المسائل
الخاصة بتعيين الموظفين أو عقوباتهم أو ترقياتهم.» ولا شك أن هذه المادة — وغيرها — قد
استلت من الجمعية التشريعية روحها، ولم يعُد ثمة فائدة تُرجى من قيامها. ولم تطُل حياة
هذه
الجمعية، فقد أنشئت في ٢٣ يناير ١٩١٤م، وانتهت جلساتها في صيف العام نفسه.
هوامش