فتاة الفيوم
ومن المنطلق ذاته — تبرير الوجود الاحتلالي — أصدر يعقوب صروف روايته الثانية «فتاة
الفيوم».١ وهي عن تنظيم سري يضم ٢٦ عضوًا، يعِد لثورة مسلحة ضد قوات الاحتلال، كان
أفراده يجتمعون في دار داخل عطفة بباب الخلق «جمعية سياسية سرية تهدف إلى تغيير الحالة
الحاضرة بأية وسيلة.» لكن السلطات تلقي القبض على أفراد التنظيم قبل أن يبدءوا الثورة،٢ وما بين الإعداد للثورة وإجهاضها قبل أن ترى النور، يحذِّر الكاتب من أية
محاولة لتغيير ما هو قائم؛ ذلك لأن النتائج التي ستسفر عنها المحاولة هي:
-
فرار رأس المال الأجنبي الذي استطاع أن «يخلق في مصر رخاء لم تكن تحياه من قبل.»٣
-
تعرُّض البلاد لخرابٍ محقق بعد أن تفقد الاستقرار الذي حققه لها الاحتلال.٤
-
غياب بريطانيا كموجِّه للسياسة المصرية القاصرة: «لا يخفى عليك أن عشرين سنة وثلاثين سنة لا تكفي لتربية أمة على الحنكة السياسية، ولا سيما إذا كان بين ظهرانينا أناس كثيرون من أمم مختلفة، ولكل منهم مصالح خاصة، ومصالحهم تضارب بمصالح أهل البلاد. وأنتم لو تركناكم وشأنكم، فمن المحتمل أن تستطيعوا السير وحدكم، ولكن المرجح أن الذين لهم مصالح كبيرة في بلادكم يغلبونكم على أمركم.»٥ ويوضح الرجل بواعث تزايد أعداد المتكلمين بالإنجليزية: «لم يكن الأمر كذلك منذ بضع عشرة سنة. وأتذكر أن أحد رجالكم تبرع حينئذٍ بجائزة لمن يفوق غيره في اللغة الإنكليزية من تلامذة نظارة المعارف، فترددت النظارة في قبول الجائزة وعرضها، فلا يقال إنها تنشِّط تعليم اللغة الإنكليزية، أما الآن، فصار أكثر التلامذة يتعلَّمونها ويفضِّلونها على الفرنسية.»٦
محور أحداث الرواية — إلى جانب أفراد التنظيم السري الذي لا نعلم إلا أن أمين
إبراهيم لبيب واحد منهم — أسرة لبيب إبراهيم بك، الذي يدين بآلاف الأفدنة التي يمتلكها
في الفيوم لقوات الاحتلال مقابلًا لخيانته للثورة العرابية، تلك التي لم تكن وليدة
الإرادة المصرية (!) بقدر ما كانت وليدة تحريض الخديو إسماعيل والأوروبيين في آنٍ.
فالخديو يحاول أن يستند إلى جدار الرأي العام الوطني، والأوروبيون يحاولون، بتحريك
الثورة، أن يتيحوا الفرصة لإحدى الدولتين: إنجلترا أو فرنسا، لاحتلال مصر، حتى يأمنوا
إلى استرداد ديونهم! والرجل يبرر خيانته بأنه كان محسوبًا من دعامات الحزب الوطني قبل
أن يتهور! ثم اضطر أن ينفصل عنه حين رأى بين أعضائه عددًا كبيرًا من المهاويس
والمفاليس! فقبضوا عليه، وزجُّوا به في السجن لأنهم ظنُّوا به الخيانة، مع أنه لم يكن
خائنًا!٧ وفضلًا عن أن دفاع الرجل يؤكد خيانته، فإنه يؤكد — في الوقت نفسه — البُعد
الاجتماعي للثورة. واللافت أن الكاتب لم يشغله التناقض في تحليل بواعث الثورة العرابية،
بقدر ما شغله تشويه الثورة، وحقيقة أهدافها، فلم تكن «فتاة الفيوم» — مثل شقيقتها «فتاة
مصر» — سوى محاولة لتبرير الوجود الاحتلالي في مصر، في السنوات ذاتها التي بدأ المجتمع
المصري يفيق فيها من صدمة الاحتلال. ثم يؤكد الرجل استمرارية خيانته عندما يبدي عجبه
من
أن المحتلين يقرِّبون إليهم فلانًا وفلانًا وفلانًا، وهم من دعائم رجال الثورة، ولا كيف
يثقون بهم، وهم عاملون على إثارة الفتنة في البلاد، ولا يفهم أيضًا كيف دخل مناصب
الإدارة والقضاء، «أناس لا يضمرون للمحتلين غير البغضاء.»٨ ثم يضغط إبراهيم بك على أن تفكير المصريين في الثورة ليس وليد إرادتهم بقدر
ما هو وليد التحريض الأوروبي؛ فالماليون الأوروبيون يريدون أن تشتعل نيران الثورة حتى
«تضطر» إنجلترا إلى إخلاء البلاد نهائيًّا، فتصبح ديونهم في مأمن.٩ فالرجل يبذل نصيحة بألَّا يفكر المصريون في الثورة، لأنها ستؤدي إلى عكس
النتائج المتوخاة، بالإضافة إلى أن سهولة القبض على أفراد التنظيم السري توضح يقظة
سلطات الاحتلال في القضاء على أية محاولة للثورة. ويحذِّر الرجل ابنه رياض، الطالب
بالمدرسة: «إنك راجع اليوم إلى المدرسة، فاحذر من أن تجاري غيرك من الشبان في المظاهرات
الفارغة كما فعلتم سابقًا، فإن الذين يحركونكم ويحرضونكم على ذلك خادعون أو مخدوعون،
وإني أرى الحوادث الجارية الآن مثل الحوادث التي كانت جارية قبل الثورة العرابية، وأخاف
من عاقبتها.»١٠ ويتنهد متحسرًا: إن الذين ذاقوا مرارة تلك الأيام يعرفون حلو هذه الأيام.١١ ويقول الابن أمين، الذي كان عضوًا في الحزب الوطني: «جاءتنا البنوك بأموال
أوروبا، فاستدنَّاها منها، ونحن نبذرها الآن، فرخصت بين أيدينا وغلت برخصها الحاجات
والكماليات … ولكن الدَّين لا بد من إيفائه عاجلًا أو عاجلًا، فمن أين نوفيه بعد أن نكون
قد بذرناه، وأنا أؤكد لك أن حالنا أسوأ مما كان عليه حال آبائنا منذ ثلاثين أو أربعين
سنة.» فيقول الأب ساخرًا: «نعم، أسوأ مما كان في زمن السخرة والكرباج [!]، أسوأ مما كان
في عهد الظلم والاستبداد. هذه الأطيان كلها، هذا التفتيش الكبير، نُزِع من أصحابه غصبًا
عنهم بثمن أو بلا ثمن، وضُمَّ إلى أملاك الدائرة السنية، وأجبر أصحابه على حرثه وزرعه
من
غير أجرة والكرباج فوق رءوسهم، وإذا هرب واحد منهم ألزِم إخوته أو أقاربه أو أهل بلده
أن
يقوموا بما كان مفروضًا عليه من العمل، وأن يدفعوا ما كان مفروضًا عليه من المال. ماذا
تعلم من الأيام الماضية حتى تفضِّلها على هذه الأيام؟ أبوك عرف الزمان. أنا عرفت ذلك
الزمان، وهذا الزمان، وإني معجب كيف بقي واحد منا في قيد الحياة. فبأي حق تفضِّل تلك
الأيام على هذه الأيام؟»١٢ ويسأل الابن أمين: «هل غاب عنكم أن الأحوال تغيرت جدًّا عما كانت عليه في
ذلك الحين؟ [أيام الثورة العرابية]. يقول أبوه: نعم، تغيَّرت … ولكن تغيُّرها لا يقوِّي
الحزب الوطني، بل يضعفه … ففي المرة الأولى كان الجيش المصري كله في يد الحزب الوطني.
أما الآن، فأكثر الجيش الوطني في السودان، وليس عنده ذخيرة حتى يُخشى جانبه. وفوق ذلك،
فجيش الاحتلال في البلاد، وهو يؤيد كلمة إنجلترا؛ ولذلك يستحيل علينا أن ننال حكومة
نيابية إلا برضا إنجلترا.»١٣ فإذا ناقش الرجل ابنه في نشاط الحزب الوطني — يقصد نشاط الوطنيين المصريين،
فلم يكن حزب مصطفى كامل قد أنشئ بعد — قال إنه «لا بد من أن يوقِع البلاد في مهلك.»١٤
ولعل أخطر ما في الرواية، تشكيك الكاتب في هوية الإنسان المصري؛ فليس ثمة «عنصر»
مصري
على وجه التحديد، ولكن دم اليونانيين والرومانيين اختلط بدم المصريين الأولين، والناس
كلهم إخوة وأبناء أب واحد وأم واحدة. وما هذا الاختلاف الذي نراه في أبدانهم وملامحهم
إلا من تأثير الإقليم والمعيشة.١٥ وبالطبع، فإن المقصود هو إضعاف الحس الوطني في نفس القارئ المصري، وليس
التبشير بالمساواة بالبشر. بل إن الكاتب يشكك حتى في أبناء الفيوم — هؤلاء الذين أثبتت
دراسات علماء المصريات أنهم أقرب أبناء الأقاليم المصرية إلى العنصر المصري في عصوره
الأولى. فالفلاحون لهم هيئة رومانية، وبشرتهم بيضاء، وأنفهم أقنى رقيق، وشفاههم رقيقة.
وحين يبدي المهندس الإنجليزي ملاحظة، تقول السيدة لبيب: ولماذا لا يكونون كذلك وكلنا
من
نسل القواد الرومانيين الذين أقطعوا الفيوم، فسكنوها وتناسلوا فيها.١٦
إن «فتاة مصر» و«فتاة الفيوم» محاولتان إعلاميتان، تنتسبان — ببساطة — إلى الأدب الدعائي الذي يحيل الفن أداة يعبِّر الكاتب — من خلالها — عن مقولة سياسية منحازة.
•••
لعل رواية يعقوب صروف «فتاة مصر» — بالإضافة إلى محاولتها التأكيد على الدور الحضاري
الذي يسهم به الاحتلال البريطاني — هي من أولى المحاولات التي بدأت بها الصهيونية
العالمية دعوتها داخل البلاد العربية، لإيجاد وطن قومي لليهود. يقول الشاب القبطي أمين
لشقيقته: «ألا تتذكرين ما قرأناه في التوراة من أن اليهود سيعودون إلى بلادهم بثروة
الأمم، وهم الآن من أغنى الناس في كل بلاد استتبَّ فيها الأمن، ورُوعيَت الحقوق.»١٧ وظني أن المقولة للكاتب، وإن أوردها على لسان الشاب المصري. إنها رواية
ملغومة. ويذهب أمين إلى أن اليهود من أصح أمم المشرق نسبًا.١٨ وفي مواجهة الاجتهادات التي تلاحِظ تشرذم اليهود، وانصهارهم في المجتمعات
التي استقبلتهم، يقول يعقوب صروف — على لسان الشاب الإنجليزي هنري — «إن جمهور العلماء
أثبت أن هيئة اليهود لم تزل واحدة في كل البلدان التي تفرقوا فيها، ولو تغيَّر لون بشرتهم.»١٩ نحن نلحظ أن الحديث تكرر — فيما بعد — عن وجوب عودة اليهود إلى بلادهم (!)
بثروة الأمم، وأن اليهود «من أصح أمم المشرق نسبًا» (أسقط الكاتب الجزم في عبارته!)،٢٠ وأنهم «لم يجهدوا النفس بإعادة مملكتهم في فلسطين إلا في السنوات الأخيرة،
حيث قام منهم أفراد من ذوي الثروة الطائلة، فاشتروا لهم الأراضي الفسيحة بها لزراعتها
وتنميتها وإسكان جاليتهم بها. ولهذا يرجِّح أن تكون لهم يومًا مملكة كبيرة في الشرق،
تعيد مجدهم القديم، وحضارتهم الزائلة، فيخدمون العلم والأدب والفلسفة كما خدموه في عهد
العرب وعصر المدنية الحديثة.»٢١ والواقع أن تلك المناداة بعودة اليهود إلى «بلادهم» كانت جزءًا من مخطط
إعلامي يؤكد أن وعد بلفور لم يكن هو المنطلَق الحقيقي لدعوة الوطن القومي لليهود، لقد
كان معلمًا هامًّا في طريق تحقيق تلك الدعوة، باعتباره اعترافًا من دولة لها شأنها
وتأثيرها على مجريات السياسة العالمية. لكن تلك الدعوة — وما يستتبعها من خطوات
تنفيذية، مثل الهجرة وشراء الأراضي — قائمة منذ أواخر القرن التاسع عشر. فضلًا عن تأكيد
الدعوة في عشرات المقالات والكتب. وفي المقابل، فإن وعد بلفور لم يكن لمجرد الرضوخ
للضغط الصهيوني، لكنه جاء ضمن استراتيجية الغرب بتجزئة المنطقة العربية، بغرس جسم غريب
في موضع القلب منها، كأداة مستقبلية تسهم في تحقيق أهداف الغرب.
هوامش
(١) يعقوب صروف، فتاة الفيوم، ١٩٠٥م، نسخة وحيدة بدار الكتب، بدون غلاف، تحت رقم
٤٧١٢ أدب.
(٢) المصدر السابق، ٩٥.
(٣) المصدر السابق، ٩٠.
(٤) المصدر السابق، ٩٠.
(٥) المصدر السابق، ٥٧.
(٦) المصدر السابق، ٦.
(٧) المصدر السابق، ١٦.
(٨) المصدر السابق، ٥٤.
(٩) المصدر السابق، ٤٨.
(١٠) المصدر السابق، ١٦.
(١١) المصدر السابق، ١٢.
(١٢) المصدر السابق، ١١.
(١٣) المصدر السابق، ٤٦-٤٧.
(١٤) المصدر السابق، ٣١.
(١٥) المصدر السابق، ١٠٠.
(١٦) المصدر السابق، ٧.
(١٧) المصدر السابق، ٧.
(١٨) المصدر السابق، ١١.
(١٩) المصدر السابق، ١١.
(٢٠) رعمسيس، أول سبتمبر ١٩١٠م.
(٢١) المرجع السابق.