الوارث ويهود مصر
«الوارث» رواية لخليل بيدس (١٩٢٠م). بدا من الاسم أنه من أبناء الشام المتمصرين،
لكن
أحداث الرواية تدور في القاهرة، بالتحديد في الفترة منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى،
إلى نشوب الحرب، وما تلا ذلك من تطورات،
١ عرفت — فيما بعد — من دراسة ممتازة للدكتورة صبحية عودة أن خليل بيدس
فلسطيني الجنسية، لم يختر موضوعه — كما يقول ناصر الدين الأسد — من البيئة المحلية في
بلده. وإذا ما كانت أحداث الرواية مما يكثر وقوعه في مصر آنذاك، وفي البلاد العربية
التي يوجد فيها الملاهي والمراقص والممثلات، فإن القارئ العربي في فلسطين لا بد أن يحسب
أن الموضوع غريب عنه وعن بيئته.
٢ لذلك فقد حرصت على أن أعرض للرواية، باعتبارها تعبيرًا مهمًّا عن البيئة
المصرية، وعن دور اليهود في هذه البيئة.
الشاب المصري عزيز يحيا مع عمِّه الثري، ومع وصيفة عمه مريم التي أنجب منها العم
ابنة
جميلة هي نجلاء. تفلح الممثلة اليهودية إستير في إغواء عزيز، وإخضاعه لإرادتها، فهو
يلبي كل ما تطلبه. وعندما أدركت عجزه عن تلبية مطلبها بشراء فراء وعقد من الألماس، دلَّته
على المرابي اليهودي ناثان. وفضَّل المرابي أن يشترى لعزيز ما طلبته إستير ليفيد من
ارتفاع السعر، ثم من الربا. ثم ابتدع وسيلة أخرى تزيد من خسارة عزيز، وتفيد يهوديًّا
آخر: دفعه إلى شراء آلات موسيقية، على أن يعيد بيعها مقابل الفراء والعقد. واشترى عزيز
آلات الطرب من تاجر يهودي اسمه إرميا، قيمتها أربعمائة وستون جنيهًا، فضلًا عن أربعين
جنيهًا سلفة، ثم كتب صكًّا بخمسمائة وخمسين جنيهًا، تُدفع بعد ستة أشهر.
٣ وقال ناثان لعزيز وهما خارجان من بيت إرميا: إننا سنذهب الآن إلى منزل
خيَّاط مشهور في عمل الفراء من كل نوع، فاختر منها الفردة التي تروقك، وساومه على الثمن،
وعليَّ الباقي، ولكني لا أكتمك — منذ الآن — أنك ستخسر شيئًا من ثمن الآلات التي
اشتريتها. قال عزيز: أنا أعلم ذلك، ولكني أرجو ألَّا تكون الخسارة كبيرة، كما أرجو أن
نُوفَّق إلى الفراغ من هذا الأمر الشاق، ونحصل على الفروة والعقد في هذا النهار. قال
ناثان: أنا أرغب منك في ذلك، وأسعى جهدي في سبيل مرضاتك، ولكني أرى أن نكتفي اليوم
بالفروة، وغدًا نسعى للحصول على العقد من أحد أصدقائي الجوهريين. قال عزيز: وهل يرضى
هذا الجوهري باستبدال العقد بشيء مما لديَّ من الآلات الموسيقية. قال ناثان: قد لا يرضى
إلا بثمنه مالًا، وقد يرضى بالمبادلة أيضًا إذا رضيتَ أنت بخسارة نحو ربع ثمن الآلات
أو
ثلثها. قال عزيز: وكيف العمل إذا كان الأمر كما تقول. قال ناثان: حينئذٍ لا يبقى لنا
إلا أن نرهن هذه الآلات على ثلثَي ثمنها، حتى إن إرميا نفسه، وهو الذي باعك إيَّاها،
لا
يبعد أن يسترهنها، أي يبقيها عنده، ويدفع لك ثلثَي ثمنها بربًا جديد. قال عزيز: فما دام
في وسع إرميا أن يسترهنها، فلماذا لم تأخذ منه المال المطلوب من أول الأمر؟ ألم يكن ذلك
أسهل علينا وأقرب تناولًا؟ قال ناثان: نعم، غير أن تلك الطريقة أوفر ربحًا لأصحابها
وأكثر فائدة. قال عزيز: ولكنها طريقة سلب ظاهرة، وهي غير شريفة في نظري. ضحك ناثان
وقال: أنت لا تزال جاهلًا في أساليب التجارة أيها الصديق، ولكن سوف تنفتح عيناك على كل
عجيب وغريب من هذه الأساليب إلى ألَّا تعود تستغرب شيئًا.
٤ وإلى بيت إشعيا ذهب صاحب البيت وناثان ليفحصا الآلات الموسيقية، وتركاه مع
ابنتَي إشعيا ليسلياه. الكبرى في الثامنة عشرة، والصغرى في السادسة عشرة. وقضى عزيز
«وإياهما نحو ساعة من الزمن، وهو طيب النفس، منشرح الخاطر، إلى أن عاد إشعيا وناثان.»
٥ ووافق عزيز — أرغمه حبُّه! — على مقايضة الآلات الموسيقية بالفرو والعقد
بخسارة مؤكدة. حتى الشروط التي كان وضعها ناثان رفضها إشعيا، بل إنه اشترط — لكي تتم
المقايضة — أن يحيك عزيز ثيابه عنده لمدة ثلاث سنوات، بستين جنيهًا كل سنة! وحتى يفي
عزيز باحتياجات أخرى لإستير، فقد وافق على رهن ما تبقَّى من آلات موسيقية عند بائعها.
ثم
كتب شيكًا بستين جنيهًا لصاحب محل عربات، مقابل الإيجار الشهري للعربة. وطلب منه أن
يرسل العربة إلى إستير حالًا. وحين أراد عزيز أن يشتري أثاثًا جديدًا لبيت محبوبته،
دلَّه ناثان على اليهودية رحاب، التي أعلنت رغبتها في بيع أثاثها لاعتزامها السفر، ووقَّع
عزيز شيكات أخرى، ثم اشترى العقد الماسي من الجواهري حاييم، ووقع شيكًا آخر، ثم أدخله
ناثان في سلسلة من الصفقات الخاسرة لعزيز، وإن حققت ثروة مؤكدة لناثان وتجار من اليهود.
ويشفق العم الشيخ على ابن أخيه من دلائل الاضطراب الواضح في تصرفاته، فيعرض عليه أن
يزوِّجه من ابنته نجلاء. ويرفض عزيز بالطبع، ويعلن حبَّه لإستير، فيهدِّده العم بعدم
توريثه،
إن أقدم على الزواج من الممثلة اليهودية. ويخبر عزيز محبوبته بتهديد العم، فتقول له
ببساطة: «ليكن جوابك بالقبول! وتضيف: نعم، لأنك إذا خالفت أمره يحرمك تركته كلها،
وحينئذٍ فما فائدتي منك وأنت صفر اليدين؟ وتهمس بنصيحتها: إذا تزوجت، فإنك تصبح غنيًّا
فيزداد حبي لك، ولا ترهب هذا الزواج، فسأكون لك، وأنت تتزوج كما كنت لك وأنت عزب، بلا
فرق بين الحالتين، لأن الزواج الآن لا يقيِّد الرجل بزوجته إذا كان له خليلة يحبها.»
٦ واقتنع الشاب بنصيحة إستير، وفي طريق عودته إلى بيته مرَّ على الصيرفي ناثان،
فأخبره أنه اشترى لحسابه — عزيز — أواني زجاجية بثمانمائة جنيه، وكتب للبائع شيكًا
بثمانمائة وخمسين جنيهًا لمدة شهرين، وأنه باع هذه الأواني لأحد التجار بستمائة وأربعين
جنيهًا، فأخذ الأربعين عمولة، ودفع لعزيز ستمائة جنيه، وقدَّم له شيكًا بثمانمائة
وخمسين جنيهًا، ووقَّع عزيز على الشيك وهو لا يدري ماذا يفعل. وزُفَّ عزيز ونجلاء، لكنه
ظل
— بعد الزواج — على علاقته بإستير، وأنفق عليها كل الأموال التي حصل عليها من عمِّه،
بل
لقد استكتبته شيكًا بألفي جنيه، تضمن به حياتها. واحتملت زوجه كل تصرفاته، وأخفتها عن
العم حتى لا تُفسِد علاقته بابن شقيقته. وبدأت مطاردة الدائنين لعزيز، بدءًا بإشعيا الذي
أصر أن ينفِّذ عزيز تعهُّده المكتوب بدفع ستين جنيهًا كل سنة مقابل حياكة ثيابه، حتى
لو لم
يفعل الخياط اليهودي شيئًا. ثم أتت الصدمة القاسية، عندما رفضت إستير دخوله بيتها — بيته!
— وشدَّدت على الخدم بطرده، وأمضى الشاب أيامًا طويلة مريضًا بالحمى. وبذلت نجلاء
وأمها من الرعاية والود ما حرَّك حبه لنجلاء، وتبدَّدت مشاعره نحو إستير تمامًا، لكن
الدائنين كانوا قد بدءوا في التردد عليه، يطالبون بأدائهم. وعرفت نجلاء بأمر ديونه،
فدفعت له جزءًا من دوطتها، استرد به ما عليه من شيكات، وعاش الزوجان في تبات ونبات بلغة
الحواديت، أما إستير فقد ماتت مخنوقة بيد أحد عشاقها، وأما ناثان الصيرفي ورفيقه فقد
صودرت أموالهما، وأودعا السجن بتهمٍ شتى.
قدَّم الفنان روايته على أنها «رواية اجتماعية غرامية تاريخية، تتضمن وصفَ كثير من
حوادث
الحياة الاجتماعية، وما يتوسل به بعض الناس فيها من ضروب المكر والدهاء.» وبعض الناس
الذين تناولتهم الرواية هم اليهود؛ دورهم في الحياة المصرية، وهو دور سلبي إطلاقًا.
فالبطلة إستير ممثلة يهودية، تجيد الاستيلاء على أموال الرجال، تساعدها عمتها وأفراد
من
الطائفة اليهودية. حتى اليهودي الذي يلجأ إليه البطل — عزيز — ليقرضه عشرين جنيهًا، يصرُّ
أن يزيد المبلغ — عند إعادته في اليوم التالي بالربا — إلى اثنين وعشرين جنيهًا،
٧ وهو ما كان يفعله اليهودي المسيو مناحم في رواية عبد الرحمن الغمراوي
«الضحية»، بإقراض النقود بالربا الفاحش.
٨ وكما تقول إستير، فإن الخطط كانت تستهدف الاستيلاء على أموال الشبان
المصريين، يعاونها أصدقاء «من جماعتنا الغُير على كل مصلحة من مصالح شعبنا إسرائيل.»
٩ ونتذكر قول كارل ماركس: «إن إله اليهود إله علماني، وهم يعبدون المال،
ونصبوه إلهًا. والمتاجرة هي ديانتهم الحقيقية، وبجانب المال لم يعُد يعيش بينهم إله آخر.»
١٠ تذكِّرنا الرواية كذلك بقول فولتير إن اليهود «مجرد شعب جاهل ومتوحش، زاولَ —
لمدة طويلة — أخس أنواع البخل، وأبغض أنواع الخرافات، ويحمل كراهية لا تعادلها كراهية
لكافة الشعوب التي تسامحت معه، وكانت سببًا في ثرائه.»
وظني أن النهاية المتعجلة، المبتسرة، قد أساءت إلى الرواية، كأنما الفنان قد تعب،
فأراد أن ينهي روايته على أي نحو، أشبه بالميلودراميات التي تتخلَّص من أبطالها لتصل
إلى
النهاية. فقد ماتت إستير مخنوقة — كما أشرنا — ودخل اليهوديان الآخران السجن، وعاد عزيز
إلى زوجه وبيته، ذلك كله في صفحة أو أقل!
•••
في تقديري أن هذه الرواية من أهم الأعمال الأدبية التي تناولت تأثير اليهود في مجتمع
ما، لا لأنها قد حدثت بالفعل، فهي عمل روائي وليست تاريخًا، وإنما قيمتها في تصوير
الفنان للتأثيرات السلبية التي أحدثها اليهود في المجتمع المصري. دعك من الممارسات
الجسدية للفتيات اليهوديات مع الشبان المصريين، وهو ما تُبيِّن عنه أعمال المازني ومحفوظ
والسحار، وإنما التشويه المتعمد لهذا المجتمع بوسائل متعددة، من بينها الجنس والإغراء
المادي والابتزاز … إلخ. يقول حنفي بك (لعبة ولد اسمه حسن): «وماذا يعمل اليهود في أي
مجتمع؟ الإرهابيون الذين يحيون على حافة المجتمعات، منعزلين عن الناس، يتربَّصون بهم
ويدبِّرون لهم المكائد، ويوقعون بهم. ماذا يفعلون غير تحطيم الأخلاق؟ إن لذَّتهم الكبرى
هي في تحطيم الأخلاق، والمجتمع الذي ينجو من تأثيرهم مجتمع يستحق أن يحاربوه. اليهود
خصوم الأخلاق! إنهم وحدهم شعب الله المختار، ولكي يظلوا في نظر أنفسهم شعب الله
المختار، فعليهم أن يشوِّهوا سائر الشعوب الأخرى.»
١١ وقد أضاع عياد (ثلاثة رجال وامرأة) معظم أمواله على حسناء يهودية، أهمل
أسرته من أجل علاقته بها، وكانت تصحبه إلى المصايف والمشاتي.
١٢
نحن إذا توقعنا — أو حدثت بالفعل — معجزة، قلنا «مات يهودي»!
١٣ والمثل يقول «احتاجوا لليهودي قال: اليوم عيدي!»، كما يقول المثل «شاف
اليهودي لحمة رخيصة، قال دي منتنة»! وكان زملاء حسين كامل علي من الموظفين يدعونه
باليهودي، لميله إلى التقتير.
١٤ ويشير الراوي (قصة «أم شحاتة») إلى أن احتذاء اليهود قد أفاد الزوج والزوجة
في الاحتفاظ بمنزلة الأسرة الاجتماعية.
١٥ ومن ثوابت الأدبيات الأوروبية أن نكتشف ديانة الشخص: إنه يهودي، يا للهول!
نتفاداه، ونكف عن احترامه!
١٦ والمثل العامي «كُل عند اليهود ونِم عند النصارى» يشي بنظرة المواطن المصري
إلى ميل اليهود للتآمر والغدر.
ولعلِّي أرفض المعادلات التي ترى «مصر» في حميدة (زقاق المدق) أو زهرة (ميرامار) على
سبيل المثال، فإن الدلالة التي يصعب إهمالها في هذه الرواية، هي المصير الذي يتهدد
الشعب المصري، ممثَّلًا في الشاب عزيز على أيدي اليهود. أجادوا نسج الخديعة والتآمر،
سعيًا إلى السلب والنهب والسيطرة على الثروات والقدرات، بحيث واجه عزيز — متماهيًا مع
الشعب المصري نفسه — مصيرًا مؤلمًا، وهو مصير وشت به — للأسف — تطورات الأحداث. وإذا
كانت «الوارث» تعاني — في بعض مواقفها — سذاجة البداية، فإنه مما يُحسَب لها ما حملته
من
استشراف فكري.
صدرت رواية الوارث في الوقت الذي كان اليهود جزءًا من نسيج المجتمع المصري، وكانت
لهم
عاداتهم وممارساتهم التي مثَّلت — في تصوري — دافعًا أساسيًّا لتناول الفنان. إنها أشبه
بصرخة تحذير من الممارسات اليهودية، وهو ما تبدَّى — فيما بعد — في كتابات علي أحمد
باكثير وعصام الدين حفني ناصف وإميل زيدان وغيرهم، لكن تظل لهذا العمل ريادته الباكرة.
•••
إن علاقة اليهود بمصر تعود إلى أيام يوسف بن يعقوب الذي فتح أبواب مصر أمام الكثير
من
بني جنسه، فاستقروا فيها، وأقطعهم ملوكها من الفراعنة مساحات من الأراضي في شرق الدلتا.
ويرتكز اليهود في دعوتهم لإقامة دولة إسرائيل، بما جاء في التوراة [هل هي التوراة؟!]
من قول الرب لإبرام-إبراهيم: «لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى
النهر الكبير، نهر الفرات.»
١٧ كان نابليون بونابرت من أوائل غير اليهود الذين دعوا لإنشاء
دولة صهيونية، فقد دعا اليهود في مارس ١٧٧٩م إلى «الانضمام تحت رايته لاستعادة القدس
القديمة»، ولوضع حدٍّ «للاضطهاد الذي يلاحق الورثة الشرعيين للقدس.» وقال: «إن الأمة
العظيمة التي تنجب الرجال تناديكم الآن، لا للعمل على إعادة احتلال وطنكم فحسب، ولا
لاسترجاع ما فُقِد منكم، بل لأجل ضمان مؤازرة هذه الأمة لتحفظوها مصونة من جميع الطامعين
بكم، ولكي تصبحوا أسياد بلادكم الحقيقيين.» وعمل بونابرت بالفعل على تكوين فرقة من
اليهود، وأكد نيَّته — عند نجاحه — أن يعيد بناء هيكل سليمان، وخلق دولة صهيونية.
١٨ وظل الهدف الصهيوني معلَنًا منذ العهد النابليوني، وإن كان النشاط المعلَن قد
بدأ قبل ذلك بسنوات. وقبل أن تبدأ الحملة البونابرتية عقد زعماء اليهود اجتماعًا مع
نابليون، أصدروا بعده بيانًا جاء فيه: «إن عددنا ستة ملايين، منتشرون في جميع أنحاء
العالم، وفي حوزتنا ثروات وأموال وممتلكات طائلة، وعلينا أن نتذرع بكل قوتنا لاستعادة
بلادنا؛ إن الفرصة سانحة، ويجب أن نغتنمها.»
١٩ واللافت أن مسار الأحداث — منذ الحملة النابليونية — يشير إلى مخططات —
فردية وجماعية — تسعى — بوسائل شتى — للعودة إلى أرض الميعاد. وكانت بداية التنفيذ
الفعلي لقيام دولة إسرائيل في أواخر القرن الثامن عشر، فلم تعُد «القضية» أحلامًا تجد
نفسها في الورق، أو في الصلوات، وإنما تحدد الهدف، وأصبحت الوسائل — لتحقيقه — مطلوبة.
واقترح يهودي إيطالي (١٧٩٨م) أن تضم دولة إسرائيل مصر السفلى، بالإضافة إلى منطقة تمتد
حدودها على خطٍّ يسير من عكا إلى البحر الميت، ومن الطرف الجنوبي للبحر الميت إلى البحر
الأحمر.
٢٠
كانت فلسطين ولاية عثمانية، وكانت الدولة العثمانية لا تزال متماسكة وقوية، والإقدام
على اقتطاع إحدى ولاياتها أقرب إلى التمني منه إلى التنفيذ الفعلي، ومن ثَم فقد كانت
البداية في تحطيم الدولة العثمانية نفسها، وتقويضها من الداخل، ليصبح استلاب أيٍّ من
ولاياتها أمرًا ميسورًا. وكانت الوسيلة الأساسية هي التسلل إلى مراكز القيادة السياسية
والاجتماعية في الولايات العثمانية المختلفة، ورفع بعض الشعارات الإصلاحية والثورية
التي تحرِّض كل ولاية على التخلص من الحكم العثماني. وكانت مصر — في الوقت نفسه — ولاية
عثمانية، وكانت أهم الولايات العثمانية على الإطلاق (ألم تبلغ من القوة حد التهديد
بالاستيلاء على عاصمة الخلافة؟!)، وكانت كذلك هي المعبر الحقيقي للوصول إلى
فلسطين.
ومع أن العصر العثماني لم يشهد مواجهات من أي نوعٍ ضد الأطماع الصهيونية، لأنها لم
تكن
قد أسفرت بعدُ عن كل ملامحها، فإن الشريف علي بن موسى قُتِل في ١٧٧٢م مسمومًا على يد
يهودي،
لأن الشريف فضح انحرافات اليهود، وتضليلهم، ومخالفتهم لشريعة موسى. حرص اليهود — ولم
يحرص المصريون — على أن يظلوا عضوًا غريبًا في الجسد المصري. فقد هيمنت على المستوى
الاجتماعي فكرة الجيتو، لا فارق في هذا بين الذين تواصلت أصولهم في مصر، أو الذين وفدوا
إليها في عصور مختلفة. أما على المستوى الاقتصادي، فقد انفرد اليهود بأنشطة اقتصادية
وتجارية، كادت تكون وقفًا عليهم. ففي أعقاب الفتح العربي لمصر، نمت الطائفة اليهودية،
وحققت ازدهارًا في المجالات المختلفة، وانتقل غالبية أبنائها إلى مدينة الفسطاط بعد أن
أصبحت عاصمة لمصر. واستطاع اليهود — زمن الدولة العثمانية — أن يتسللوا إلى الوظائف
الحساسة في الإدارات المختلفة، وقاموا بدورٍ متميزٍ في الإدارات المالية، و«نظموا
الحسابات بشكلٍ لا يحل طلاسمها غيرهم ليحافظوا بذلك على احتكارهم لهذه المدينة.»
٢١ ويقول الجبرتي إن كُتاب الدواوين اليهود في عهد محمد علي كانوا يحتفظون
لأنفسهم بكشوفٍ خاصة لحسابات المال والضرائب، مكتوبة باللغة العبرية التي لا يتقنها
سواهم، وقد اختار اليهود الإقامة في الحي المُسمى «حارة اليهود»، لقربه من الصاغة التي
تمارَس فيها الأنشطة المرتبطة بتجارة الذهب والفضة وتبادل العملات، وإن امتد عملهم —
بالطبع — فشمل الطب والخياطة والجزارة وتجارة الخمور.
٢٢
•••
في يناير ١٨٦٦م اقترضت الحكومة المصرية ثلاثة ملايين من الجنيهات من بنك أوبنهايم،
في
مقابل رهن إيرادات السكك الحديدية.
٢٣ وفي ١٨٦٨م وقع قرض آخر بحوالي ١٢ مليون جنيه من بنك أوبنهايم.
٢٤ وفي ١٨٧٣م، عُقد قرض جديد من أوبنهايم بمبلغ ٣٢ مليون جنيه، وقد وقَّعه
إسماعيل صديق باشا نيابة عن حكومة الخديو إسماعيل، مقابلًا لضمانات خطيرة، من بينها كل
إيرادات القطر المصري العامة: إيرادات سكك الحديد في الوجه البحري، إيراد الضرائب
الشخصية وغير المقرَّرة، كل مورد من موارد الحكومة التي يصح تأمينها بلا استثناء.
٢٥ ويصف إلياس الأيوبي ذلك القرض بأنه «القرض الأكبر المشئوم».
٢٦ ويشير الأيوبي إلى أن رجال المال اليهود أظهروا استعدادًا واضحًا لإجابة
جميع طلبات إسماعيل، بل إنهم بالغوا في إغراء الخديو على الاستدانة بما لا يصعب تصوره
«فتلا الاقتراض منهم الاقتراض، وإسماعيل في تلهبه الفائق لتحقيق أمنياته السامية لا
يفكر في أن يعمل للأعباء المالية، ولكيفية تراكمها على ساعديه حسابًا.»
٢٧ ويؤكد الأيوبي إن نيَّات المستر دزرائيلي، اليهودي الأصل «السيئة بمصر
وخديوها، لم تعُد سرًّا لأحد.»
٢٨ كان لورد بيكينسفلد (دزرائيلي) اليهودي الديانة، هو رئيس الوزارة
البريطانية في الأعوام التي أرهصت بالاحتلال مباشرة (١٨٧٤–١٨٨٠م)، وقد أسهم في خدمة
الأهداف الصهيونية بتحركات سرية ومعلنة. وكانت الرغبة في احتلال مصر هي الهدف الأول
لدزرائيلي؛ فقد حرص على زرع العقبات في طريق تخلُّصها من المأزق الاقتصادي، ومحاولة
اختلاق حجج الذئب التي يأكل بها الحمل! وقام — في إطار تحقيق ذلك الهدف — بزيارة المدن
المصرية من الإسكندرية إلى الشلال. وانتهز دزرائيلي (١٨٧٥م) فرصة عرض مصر أسهمها في قناة
السويس، فحصل من روتشيلد على أربعة ملايين جنيه قيمة الأسهم المصرية، دون أن ينتظر
موافقة البرلمان الإنجليزي الذي كان في إجازة الخريف. وكان أوبنهايم هو الذي أخبر
الصحفي جرينورد بنيَّة إسماعيل في بيع أسهم القناة، ثم أخبر جرينورد رئيس الوزراء دزرائيلي.
٢٩ ومن السذاجة تصوُّر أن تشجيع دزرائيلي لروتشيلد على إقراض الخديو كان مقصودًا
به إنقاذ الاقتصاد المصري من الهاوية التي كادت تبتلعه، فالعكس هو الصحيح. وكان لقرض
روتشيلد، والقروض الأخرى التي سبقته، تأثير مباشر في رجوع جلادستون رئيس الوزراء
البريطاني — عام بداية الاحتلال — عن معارضته، لأن القضية أصبحت «الحيطة لحماية حق
الدائنين»! ولعلنا نستطيع أن نتبيَّن قيمة الدور الذي قام به دزرائيلي لصالح الحركة
الصهيونية بشراء أسهم قناة السويس بكلماتٍ لصهيوني متعصب اسمه ليفي أبو عسل في كتاب
بعنوان «يقظة الأمة اليهودية»، صدر في القاهرة — نعم، في القاهرة عام ١٩٣٤م! — «فهذا
العمل الذي جعل بريطانيا العظمى الحاكمة الآمرة ماليًّا وعسكريًّا عليها — أي القناة
—
بلا منافس ولا معارض، كان أول عامل في توسيع دائرة سياستها التي امتدت جذورها خلال الحرب
الكبرى امتدادًا هائلًا، وتفرَّعت منها فكرة الوطن القومي اليهودي في فلسطين.»
٣٠
وحين بعث كِيف بتقريره عن الحالة الاقتصادية في مصر — وكان تقريرًا غير متشائم —
فقد
تعمَّد رئيس الوزارة البريطانية دزرائيلي إلى حجبه، وأعلن في مجلس العموم (٢٣ مارس ١٨٧٦م)
أن الخديو طلب منه — مداراة للحالة الاقتصادية السيئة في مصر — ألَّا ينشر التقرير الذي
وضعه المستر كِيف لأن «البيانات التي قدمها — الخديو — للمستر كِيف إنما كانت من نوع
ما
يُسَر إلى الصديق، لا من نوع ما تستحب إذاعته.»
٣١ وكان لذلك الخِطاب تأثيره الخطير في الأوساط المالية إلى حد هبوط سعر قرض
١٨٧٣م من ٦٣ إلى ٥١.
٣٢ وكان في باريس وزير يهودي آخر هو جمبتا الذي لم يكن يخفي عداءه للإسلام
بعامة، ولمصر بخاصة. وقد اعترض بشدة على فكرة إرسال جنود تركيا إلى مصر، وإن دعا إلى
التدخل المسلح المشترك من إنجلترا وفرنسا، لغير سببٍ حقيقي، اللهم إلا التدخل المسلح
لذاته. ولم يفلت فرصة لتحقيق ذلك، حتى سقطت وزارته في أول فبراير ١٨٨٢م لتحل محلها وزارة
أخرى برئاسة دي فرنيه، صرفت النظر عن مبدأ التدخل المسلح، ولتجد إنجلترا الفرصة التي
طال انتظارها لها باحتلال مصر منفردة! ومع أن وزارة جمبتا لم تستمر سوى شهر واحد، فإن
اللورد كرومر يصفه بأنه «كان رجلًا قويًّا، سارع بروحه المتسلطة إلى فرض سياسة جديدة
على
المسألة المصرية، عني شخصيًّا عناية خاصة بتنفيذها.»
٣٣
اشترت أسرة روتشيلد حصة مصر من أسهم قناة السويس لتشكِّل بها تربة لزرع الجسم الغريب
في
المنطقة. وتمكَّنت أسرة روتشيلد — بالفعل — في ١٨٧٨م من إقامة أول مستعمرة صهيونية في
فلسطين،
وأعقب ذلك بخمس سنوات (١٨٨٢م) احتلال إنجلترا لمصر، متزامنًا مع قدوم أول مجموعة من
المهاجرين اليهود إلى فلسطين بلغت ثمانية آلاف مهاجر.
كان هدف الصهيونية العالمية — بعد أن أجادت التسلل إلى الاقتصاد المصري بواسطة الديون
الباهظة التي أثقلت بها الميزانية المصرية في عهد إسماعيل، أن تقيم نظامًا سياسيًّا
جديدًا، يمكِّنها — على حد تعبير فتحي رضوان — من العبث في أحشاء السياسة المصرية والخوض
فيها. «لذلك لم يكن غريبًا — والكلام لفتحي رضوان — أن يظهر يعقوب صنوع الإسرائيلي، وأن
يؤلف المسرحيات والقصص ويُصدِر الصحف، يملؤها طعنًا في الخديو إسماعيل.»
٣٤
ولعلِّي أميل إلى رأي العقاد بأن «المبادرات الصهيونية» لتطويق مصر، وإغراقها في
هاوية
الديون والفساد والتعفن، لم تكن بفعل هيئة منظمة، بقدر ما كانت مبادرات فردية أو جماعية
٣٥ تستهدف صالح الصهيونية العام، وتتجه — كلٌّ في الدرب الذي يتوخاه — نحو الهدف
الذي لم يكن يعني العودة إلى أرض الميعاد فحسب، لكنه كان يعني أيضًا الإفادة من فرص
مالية هائلة. كانت أرض الميعاد هدفًا لا يقل — من وجهة نظر بيوت المال اليهودية
الأوروبية — أهمية وخطورة. ويشير هرتزل إلى آلاف المؤسسات الصهيونية في أنحاء العالم،
مقسَّمة إلى اتحادات في كل بلد. ثمة الاتحاد الإنجليزي ومقره لندن، واتحاد جنوبي أفريقيا
ومقره جوهانسبرج، والاتحاد الكندي ومقره مونتريال، فضلًا عن الاتحادات المماثلة في شرقي
أوروبا.
٣٦
•••
يقول الفنان (مدرسة المسرح) إن الشعب المصري «كان يعاشر اليهود في بلده معاشرة كريمة؛
لم يضطهدهم أقل اضطهاد، بل ترك لهم الحبل على الغارب، فاستولوا على التجارة والائتمان
المالي استيلاءً تامًّا. فتح لهم ذراعيه على سعتهما، وقبلهم بلا تفرقة بينهم وبين أهل
البلد. نحن ورثة مدنية لا تحتقر غيرها من الأديان ولا الأجناس، نؤمن بالمساواة، فكان
جزاؤنا اعتداءهم علينا بالطعن في الظهر خسة وغدرًا، وبالتآمر علينا بالدسيسة والمكر والدهاء.»
٣٧
لقد ظلَّت تجارة مصر الداخلية والخارجية — لعقود متتالية — في أيدي اليهود. وكتب
محمد
عمر (١٩٠٢م) أن الشعب الإسرائيلي له مركزه المالي العظيم في مصر، «فليس بعده في الدرجة
إلا الشعب القبطي.»
٣٨ ولا يخلو من دلالة أنه حين أراد الولد (بقية الورقة) فك العملة الورقية،
فإنه لجأ إلى الصرَّاف اليهودي القريب.
٣٩ وقد سيطر على الاقتصاد المصري بين ١٨٩٧–١٩٤٧م عائلات: موصيري ورولو وعدس
وشيكوريل وقطاوي وجاتينيو وجرين ومنشة وبنزايون ومزراحي وغيرها.
٤٠ واحتكر اليهود العديد من الصناعات الأساسية، مثل الصناعات الغذائية وصناعة
مواد البناء، والمنسوجات، وحلج القطن وكبسه، والصناعات الدوائية، والكيماوية، والصناعات
الهندسية والبترولية.
٤١ وسيطروا على الفنادق الكبرى ودور السينما والملاهي، والمثل سيطرة جوزيف
موصيري على معظم دور السينما في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والسويس، واحتكر استيراد
الأفلام الخام وبيعها، وطبع الترجمة على الأفلام الأجنبية.
٤٢ وكان من بين المحال التجارية لليهود: بنزايون، داود عدس، شيكوريل، شملا،
عمر أفندي، جاتينيو، هانو، صيدناوي، وكان الذي يتولى إقراض الحكومة المصرية بيوت مال
يهودية مراكزها في لندن وباريس وغيرها من عواصم أوروبا.
٤٣
وإذا كانت المعاملات الربوية هي النشاط الأهم لليهود — منذ القديم — في كل أنحاء
العالم، فإنهم قد وجدوا في مصر مجالًا مهمًّا لممارسة ذلك النشاط، حتى لقد أُطلِق على
عصر
إسماعيل «العصر الذهبي للمرابين».
٤٤ ويذهب جورج يونج إلى سرقات اليهود المنظَّمة والعشوائية من الاقتصاد المصري،
في أثناء حكم إسماعيل، بأنه «لم يحدث نهب للمصريين بهذا الحجم قام به شعب الله المختار.»
٤٥ وتقول الجدة لحفيدتها (أحاديث جدتي): «كان ابني يعمل في البورصة، فيضارب
على الأموال والأقطان. وكان — بحكم عمله هذا — كثير الاتصال بالأجانب الأغنياء من نزلاء
القطر، فهذا عملهم المستحَب الذي انفردوا به، فعرفوا كيف يسيطرون على أسواق البلد
التجارية، وكيف يستنزفون أموالها استنزافًا. وكانت كثرة هؤلاء من اليهود، فهم — كما
تعلمين — أهل تجارة ومال منذ وُجدوا في التاريخ. وكان هؤلاء اليهود كثيرًا ما يزوروننا،
وكثيرًا ما يولِم لهم، ويولِمون له. وكانت لأحد هؤلاء اليهود ابنة شابة جميلة خليعة كثيرة
التطرف والتقرب من الرجال شأن كثيرات من أمثالها، والخلاعة والتطرف هما السلاح الذي لا
يستطيع الرجل أن يقاومه في حينه، وإن قاومه بعد، فكان أن تسلَّطت على ابني تسلُّطًا يبيح
لها أن تقبل هداياه، وما ينفق عليها من مال. وشاع خبر تلك الصلة في أوساط الرجال، فجاء
إلى ابني أكثر من صديق، ونصحوه بأن يبتعد عن تلك اليهودية؛ فاليهود قوم يسعون وراء
المال في كل آنٍ، وفي كل مكان، وصحبة هذه اليهودية لن تكلِّفه ما ينفق عليها من مالٍ
فحسب،
بل ستفتح عليه أبوابًا أخرى لاستنزاف المال لن يستطيع هو أن يسدَّها، وهو الذي يعرف
للأخلاق وزنًا، وللعواطف قدرًا.»
٤٦
أفاد المرابون اليهود من بساطة المصريين في المعاملات، فهم يقرضون بعضهم بعضًا دون
أي
كمبيالات أو صكوك، ويردُّون الَّدين، مرتبطين بالوعد الشفوي لا غير. ثم جاء ثلاثة من
المرابين اليهود هم سوارس ورولو وقطاوي عام ١٨٨٠م، وفتحوا فروعًا لبنوكٍ فرنسية تعاملت
بالربا.
٤٧ وفي خلال سنة واحدة فقط، كان قد تم رهن ثلث المساحة المنزرعة المصرية لدى
هذا البنك، البنك العقاري المصري.
٤٨ ثم أنشئ في ١٨٩٨م البنك الأهلي المصري — أو البنك القومي كما سمَّاه كرومر —
مناصفة بين رأسمالي إنجليزي هو أرنست كاسل، واثنين من المستوطنين اليهود هما سلفاجو
وسوارس. وكانت مهمة البنك هي «إصدار أوراق تُدفَع لحاملها»، بالإضافة إلى «تقديم السلفيات
للمزارعين، وقبول الودائع، وخصم الكمبيالات، وتقديم سلفيات على التعهدات المضمونة
ببوالص أو إيصالات على البضائع.»
٤٩ وكما يقول فؤاد مرسي، فقد تقلَّد البنك الأهلي المصري منصب الأمين العام
لنظام النهب الاستعماري في مصر،
٥٠ فقد فرض على مصر التعامل على أساس الذهب، بعد أن كانت تتعامل بالذهب نفسه،
وذلك من خلال التعامل الرسمي بالعملات الورقية. وفي ١٨٩٨م صدرت أول عملة ورقية. كذلك
فقد
أنشئ البنك البلجيكي والبنك التجاري وبنك موصيري وبنك سوارس والبنك الزراعي وشركة الشرق
الأدنى المالية والشركة المصرية المالية وشركة الإسكندرية للتأمين وشركة التأمين
الأهلية المصرية. كما أسس اليهود شركات مضاربة في الأراضي الزراعية مثل شركة البحيرة،
وشركات استغلال زراعي، مثل «وادي كوم إمبو»، وشركات عقارية أخرى عديدة. وأيضًا شركات
للنقل البري والبحري، ومحالج للأقطان، ومصانع للزيوت والسكر والملح والصودا والثلج
والنحاس … إلخ.
٥١ وفي عام ١٩٤٢م كان اليهود يساهمون في إدارة وتوجيه ١٠٣ شركات من مجموع ٣٠٨
شركات، ويسيطرون على جانب ضخم من رءوس أموالها، فضلًا عن أن معظم العاملين في البنوك
والمشروعات الكبرى — من المدير إلى ضارب الآلة الكاتبة — كانوا يهودًا.
٥٢ وكما تقول الباحثة سعيدة محمد حسني في دراستها المتفوقة عن «اليهود في
مصر»: «لقد استغل اليهود في مصر بساطة وأمانة الشعب المصري، فسيطروا سيطرة تامة على
اقتصاد هذا البلد مستخدمين في ذلك أخبث الأساليب وأبشعها، الربا.»
٥٣ كانوا يقرضون بالربا بضمان مصوغات، وبفائدة مرتفعة.
٥٤ وحين أراد الراوي أن يبيع الساعة التي ورثها عن أبيه، فإنه لم يجد سوى أحد
اليهود، وكان ذلك في عهد عباس الأول.
٥٥ ويقول شيخ الخفراء (ما يقعش إلا الشاطر) «والله أنا خايف على حضرة العمدة
من الخواجة كوهين، دا راجل قفَل بيوت كتيرة.»
٥٦
كان المرابون اليهود يفضِّلون شراء محصول القطن دون سواه من المحاصيل الأخرى، لأسبابٍ
واضحة. وكانوا حريصين — بالتالي — على جعل ميعاد سداد ديون الفلاحين في شهر أكتوبر لأنه
الشهر الذي يجني فيه الفلاح القطن. وكان الفلاحون يُطلِقون على شهر أكتوبر شهر المرابين.
٥٧ ويشير طلعت حرب (١٩١٠م) في أسف، إلى المصريين كانوا «على حالة من البساطة في
المعاملة» فاليهود يقرضونهم بلا كمبيالات أو صكوك، مما أنشأ فكرة تأسيس بنوك رهون
عقارية منظَّمة، ونشأ بالفعل البنك العقاري الفرنسي برأسمال فرنسي، وإدارة ثلاثة من كبار
المرابين اليهود: سوارس ورولو وقطاوي. وقد رهن البنك ثلث المساحة المنزرعة في مصر خلال
السنة الأولى من تأسيسه (١٨٨٠م).
٥٨ كما يشير طلعت حرب إلى أن اليهود عملوا على تقسيم مصر فيما بينهم إلى مناطق
يمارسون فيها معاملاتهم الربوية، بحيث لا يعتدي أحدهم على مناطق الآخرين.
٥٩ لم يكن المرابي اليهودي يلحُّ على الفلاحين في أن يدفعوا ما عليهم، ولكنه كان
يجدد العقد كل عام، مع إضافة الفائدة إلى رأس المال، واحتساب فائدة جديدة، حتى يصبح
المبلغ ضعف ما أخذه الفلاح بضع مرات. وكان المرابي اليهودي يحيل الإيصال المكتوب إلى
مرابٍ يهودي آخر، مهمته الحصول على قيمة الإيصال بوسائل قانونية.
٦٠ ويبدأ المرابي في طلب أمواله التي يثق أن الفلاح سيعجز عن دفعها، فيحصل على
الأرض رهنًا، وقد يلجأ الفلاح إلى مرابٍ يهودي آخر ليدفع ديون المرابي الأول، وتدور
الحلقة الجهنمية.
•••
يشير يحيى حقي إلى أن الشعب المصري كان يجهل سعي الصهيونية منذ ١٨٨٢م (لماذا ذلك
العام؟) لإقامة دولة إسرائيل في فلسطين العربية، ومن يدري: «لعل يهود مصر كانوا على علمٍ
بهذا السعي يؤيِّدونه في غفلة منا.»
٦١
ظهرت الصهيونية — للمرة الأولى — في أواسط القرن التاسع عشر، حركة عنصرية قوامها
«اليهودية دين وقومية». وكان ظهورها متوافقًا مع ظهور القوميات الحديثة والبرجوازية
الجديدة التي أفرزها عصر الثورة الصناعية، وكتب الفرنسي جوزيف سلفادور (١٨٥٣م) «ستقام
دولة جديدة على شواطئ الجليل، وفي كنعان القديمة، وسوف تتغلب مطالب اليهود في هذا الصدد
تحت الضغط المزدوج للذكريات التاريخية والاضطهاد في بعض الدول، وتعاطف النزعة الدينية
المتطهرة في إنجلترا.» وأصدر زيفي هيرسن كاليشر (١٨٦٢م) باللغة العبرية كتابه «البحث
عن
صهيون»، يشير إلى أن عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين لا يمكن أن تتحقق إلا باستعمار
الدولة، وبخاصة من الناحية الزراعية.
٦٢ أما كلمة «الصهيونية» فلم يبدأ تداولها إلا عام ١٨٨٦م حين استخدمها الصحفي
النمساوي ناثان بيرنبوم.
٦٣ ونصَّت مبادئ أولى الجماعات الصهيونية «عشاق صهيون» على «جنسية يهودية لشعب،
يعيش في أرض وطنه.» واختارت الجمعية أرض فلسطين، أرض الميعاد كما سمَّتها التوراة، لتكون
هذا الوطن المشروع! وكانت مجهودات تلك الجمعية وراء إنشاء أولى المستعمرات الصهيونية
في فلسطين.
٦٤ ويلاحظ الكاتب الهندي ديوان بيرندراناث أن الموجات الأولى من المهاجرين
اليهود إلى فلسطين تزامنت مع قدوم الاستعمار الأوروبي الغربي إلى مصر عبر وادي النيل.
٦٥ ولا يخلو من دلالة أن الموجة الأولى من الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، كانت
في ١٨٨٢م، عام الاحتلال البريطاني لمصر، واستمرت حتى عام ١٩٠٣م. ثم أعلن مولد الحركة
الصهيونية العالمية في مؤتمر بازل — أغسطس ١٨٩٧م — بهدف إقامة دولة يهودية في فلسطين
«ولتحقيق هذا الهدف نقترح الآتي: ترقية فلسطين على يد عمال زراعيين وصناعيين يهود.
تنظيم وجمع شتات يهود العالم بواسطة المؤسسات المحلية والدولية طبقًا لقوانين الدولة.
تنمية شعور اليهود بالوطن. الحصول على موافقة الحكومات كلما دعت الضرورة إلى هدف صهيوني.»
٦٦
من السهل تأكيد العلاقة بين الوجود الاحتلالي والمخططات الصهيونية، إذا علمنا أن
عام
١٨٨٢م — وهو العام الذي دخلت فيه قوات الاحتلال الإنجليزي مصر — قد شهد البداية الحقيقية
لإنشاء المستعمرات الصهيونية في فلسطين، ففي ذلك العام تم إدخال ٢٠ ألف مستوطن، بواسطة
حركة «بيلو» الصهيونية، فشكَّلوا طليعة الهجرة اليهودية الأولى.
٦٧ وحوَّل هؤلاء المستوطنون عددًا من القرى العربية — بالقرب من مدينة يافا —
إلى مستعمرات صهيونية، وأطلقوا عليها اسم «ريشون ليزبون»، أي النازحون الأوائل إلى صهيون.
٦٨ وفي تقرير لكامبل بيتر مان رئيس وزراء بريطانيا (١٩٠٢م) «إن هناك قومًا
يسيطرون على أرض واسعة تزخر بالخيرات الظاهرة والمغمورة، وتسيطر على ملتقى طرق العالم.
وهي موطن الحضارات الإنسانية والأديان، ويجمع هؤلاء القوم ديانة واحدة ولغة وتاريخ واحد
وآمال واحدة، وليس هناك أي حاجز طبيعي يعزل القوم عن الاتصال ببعضهم البعض. ولو حدث
واتَّحدت هذه الأمة في دولة واحدة في يوم من الأيام، لتحكَّمت في مصير العالم، ولعزلت
أوروبا عنه. لذلك يجب زرع جسمٍ غريبٍ في قلب هذه الأمة يكون عازلًا من التقاء جناحيها،
ويشتِّت قواها في حروب مستمرة، ورأس جسر ينفذ إليه الغرب لتحقيق مطامعه.»
٦٩ وقد بلغ عدد المهاجرين اليهود الذين دخلوا فلسطين ما بين ١٨٨٢م و١٩٠٣م، حوالي
٣٥ ألف شخص، معظمهم من دول شرق أوروبا، ومن روسيا بصفة خاصة. وفي ١٩٠١م أعلن الصندوق
القومي اليهودي أن كل الأراضي التي يمتلكها، ستظل ملكًا لليهود، لا يمكن بيعها، ولا
تأجيرها للغير. وقد تكوَّنت أول جمعية صهيونية في القاهرة باسم «باركو خابا» في فبراير
١٨٩٧م أي قبل إعلان مولد الحركة الصهيونية العالمية ببضعة أشهر! وكان يرأسها يهودي
بلغاري اسمه جوزيف باركو باروخ.
٧٠ ثم تكوَّنت جمعية بني صهيون بالإسكندرية في ١٩٠٨م، وأعلنت تأييدها لبرنامج
المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقِد ببازل، واندمجت الجمعية في السنة التالية مع جمعية
«زئير صهيون»، وهي صهيونية كذلك.
٧١ وفي ١٩٢١م كان عدد الجمعيات الصهيونية في القاهرة قد بلغ خمس جمعيات، وبلغ
عدد المنضمين إليها ٢٠٠٠ عضو، وتولى رئاسة فرع المنظمة الصهيونية العالمية بالقاهرة في
العام نفسه — ١٩٢١م — جوزيف شيكوريل، كما تولى فليكس بن زافين رئاسة فرع الإسكندرية.
٧٢ وأقيمت مؤتمرات دولية للصهيونية، استضافتها عواصم الغرب، وحضرها أعداد من
اليهود المصريين، وأسهمت الأندية الرياضية اليهودية في إيقاظ الوعي القومي لليهود،
وتوثيق الروابط بين أبناء الطائفة اليهودية. وظلَّت جريدة «الحقيقة» التي كان يصدرها
الحاخام فرج مزراحي تصدر بالإسكندرية، لمدة ثلاث سنوات (١٨٨٩–١٩٠٢م) وتدعو للوطن القومي
لليهود. ثم توالت الصحف ذات الاتجاه الصهيوني المعلَن مثل «التهذيب» (١٩٠١–١٩٠٣م) ومحررها
مراد فرج، و«إسرائيل» التي كانت تصدر بالعربية والفرنسية والعبرية من ١٩٢٠م إلى ١٩٣٤م.
كانت أولى الصحف اليهودية التي تصدر في مصر بعد وعد بلفور، من هنا، جاء قولها «إن تأييد
الوطن القومي والدعوة إليه، من أهم مبادئنا، لأننا واثقون أن عودة اليهود إلى فلسطين
سوف تعود بالخير الجزيل على الشرق عامة، وفلسطين خاصة. لهذا دعَونا بحرارة وإيمان إلى
وجوب تعضيد هذا المشروع الإنساني الذي يرمي إلى إنهاض بلاد مقفرة، وإحياء أرض موات. وقد
دعونا بلسان عالٍ، بلسان عربي مبين، على رءوس الأشهاد، ليعلم الجميع من عرب ويهود أن
اليهود إذا ما عادوا إلى فلسطين فإنهم لا يعودون غزاة فاتحين، ولكن بناة عاملين للخير
العام ومنفعة الجميع. ولو كان اليهود يبطنون خلاف ما يظهرون لما نشرنا أنباء هذا الوطن
القومي، والآمال المعلَّقة عليه بلسان عربي يفهمه العرب.»
٧٣ وكانت جريدة «الحقيقة» تدعو — صراحة — إلى الوطن القومي لليهود، وبدأت —
منذ عددها الأول — في نشر سلسلة من المقالات بعنوان «السلسبيل في أسرار آل إسرائيل».
كما تحدثت عن الوطن اليهودي «إذ نهض أعيان اليهود في القدس، وأرباب اللغة العبرية،
فأنشَئوا جمعية غاياتها تعميم اللغة العبرية، وتعليمها للبالغين من الرجال والنساء
والأطفال حتى حسدهم شعراء العرب، وغاروا منهم، وأغاروا على بعضهم. لهذا أرى فرضًا على
كل من يهمُّه أمر أمته أن يسعف الجمعية ولا يوفر في ذلك تعبًا، حتى تصير اللغة العبرية
الشريفة لغة حية تتعزز بها شعوب الأرض عمومًا، وبنو إسرائيل خصوصًا.»
٧٤
ولم تقف الدعوة الصهيونية على الصحف اليهودية وحدها، كان ثمة صحف أخرى مثل الزراعة
ورمسيس وغيرها، تضغط على تلك الدعوة وتؤكدها. فمع أن «الزراعة» كانت مجلة علمية زراعية،
فإنها كانت تبرز دائمًا أنباء اليهود في أرجاء العالم تحت عنوان ثابت: «الإسرائيليون»،
كما كانت تحرص دومًا على أن تدافع عن نشاط اليهود الزراعي «إذ كثيرًا ما قال أعداؤهم
إنهم لا يتعاطون الزراعة. ولقد ركزنا في الكتاب الذي نشرناه — الأنتي ساميت — ما ينفي
هذا القول. ويقال إن البارون روتشيلد سيشتري خمسة ملايين متر مربع في شرق الأردن. وقد
علمنا من أخبار يافا أن الزراعة التي يتعاطونها في نمو.» وأفردت مجلة «رعمسيس» التي كان
يصدرها رمزي تادرس وكيرلس تادرس، مقالات عديدة للحديث عن إسرائيل «منارة الحضارة في
الشرق الأوسط، وواحة التقدم في صحراء التخلف»!
٧٥ وتحدثت المجلة عن ماضي اليهود، وأنهم «لم يجهدوا النفس بإعادة مملكتهم في
فلسطين إلا في السنوات الأخيرة، حيث قام منهم أفراد من ذوي الثروة الطائلة، فاشتروا
لهم الأراضي الفسيحة بها لزراعتها وتنميتها وإسكان جاليتهم بها. ولهذا يرجح أن تكون لهم
يومًا مملكة كبيرة في الشرق تعيد مجدهم القديم وحضارتهم الزائلة، فيخدمون العلم والأدب
والفلسفة كما خدموه في عهد العرب وعصر المدنية الحديثة.»
٧٦ وحتى بعد أن صدر وعد بلفور، وانتقال النشاط الصهيوني العلني إلى فلسطين، ونشرت صحيفة
«مصر» — ٧ / ١٢ / ١٩١٤م — تحت عنوان «مستقبل فلسطين»: تجديد مملكة
بني إسرائيل القديمة، أو إعادة الملك إلى إسرائيل: «قرأنا في الصحف الإنجليزية الأخيرة
بأن إنجلترا تريد جعل تلك البلاد — فلسطين — إمارة مستقلة لكي تفصل بين الأملاك المصرية
وولاية سوريا التي ستصبح فرنسوية.»
٧٧ وأكدت صحف أخرى أن تلك الولاية المشروع ستكون من نصيب اليهود.
٧٨ بل إن اليهودي المصري ألبرت مزراحي أصدر ملحقًا من الجريدة التي كان يصدرها
باسم «التسعيرة» (١٩٥٠م) باسم «التسعيرة لامينورا»، تتناول فصولًا من التاريخ اليهودي،
وأخبارًا عن دولة إسرائيل الناشئة!
٧٩ وفي المقابل، فقد أشارت مجلة «المجلة» البيروتية (مايو ١٩٦٣م) إلى اليهود
الذين يأتون إلى هذه البلاد — كانت فلسطين وسوريا ولبنان تُسمَّى بلاد الشام — مدفوعين
بفكرة، هدفها الظاهر إيجاد وطن قومي لهم في فلسطين، والهدف الحقيقي هو الاستيلاء على
فلسطين أولًا، ثم على بقية سوريا مع مرور الأيام. أما جريدة «المقطم» فقد واصلت أداء
دورها المشبوه في الحياة السياسية المصرية. دعت الفلسطينيين إلى عدم المبالغة في تقدير
أخطار الهجرة اليهودية حيث «لا يسع المرء أن يعارض نواميس الطبيعة والعمران، فلا يحسن
بالفلسطينيين أن يتمادوا في المبالغة في وصف خطر يظهر أن اسمه أكبر من فعله.»
٨٠
•••
وعندما صدر وعد بلفور أعلن يهود مصر ابتهاجهم، وأقيم احتفالان في مسرح الهمبرا وحديقة
رشيد بالإسكندرية، حضرهما محافظ المدينة زيور باشا الذي أصبح رئيسًا للوزراء فيما بعد،
وعبَّر الحاضرون عن تأييدهم لإعادة جبل فلسطين وطنًا قوميًّا للشعب اليهودي. وأعلن جاك
موصيري رئيس المنظمة الصهيونية في مصر أنه على ثقة من أن فلسطين ستصبح دولة يهودية
خالصة، وأن عدد العرب سيتقلص إلى حد استطاعة اليهود امتصاصهم.
٨١ كما أقيم احتفال في مسرح بلدية طنطا، حضره وكيل المديرية إسماعيل رمزي.
٨٢ وأصدر الملك فؤاد — عقب صدور الوعد — بيانًا يعلن فيه أن مصر «تنظر بعين
العطف إلى قضية اليهود، وتأمل أن يتحقق أملهم، وتعلن حمايتها لهم.»
٨٣
تجاهل وعد بلفور العرب باعتبارهم سكان البلاد الأصليين، والذين كانوا يتألَّفون من
٧٠٠
ألف عربي و٥٠ ألف يهودي، أي بنسبة ٩٤٪ للعرب، و٦٪ لليهود. وكان جملة ما يملكه اليهود
من
الأراضي الفلسطينية ٢٫٥٪ فقط. مع ذلك، فإن التصريح أشار إليهم باعتبارهم «الجماعات غير
اليهودية المقيمة في فلسطين.» وأعقب صدور وعد بلفور إنشاء جمعية زئير صهيون بالإسكندرية
مكتبًا للاستعلامات، يعنى بتوطين اليهود في فلسطين، ويشجع الهجرة إليها، وتسهيل مهمة
المهاجرين اليهود في أثناء مرورهم على الإسكندرية، في طريقهم إلى فلسطين. كما أنشأ ليون
كاسترو (١٩١٧م) أول فرع للمنظمة الصهيونية العالمية بالقاهرة والإسكندرية، ثم تعدَّدت
الفروع في الأقاليم. وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، قام اليهود في الإسكندرية بحملة
تبرعات علنية لشراء أرض في فلسطين لحساب الصهيونية العالمية. وبلغ جملة ما تم جمعه من
أموال ١٣ ألف جنيه مصري.
٨٤ وخرجت في الإسكندرية في ١٩١٨م، أول مظاهرة يهودية صهيونية، احتفالًا بالذكرى
الأولى لوعد بلفور. وكان المتظاهرون يحملون أعلام النجمة السداسية ويهتفون: تحيا
اليهود! وتكررت المظاهرة بطنطا في ٢ نوفمبر ١٩١٩م، احتفاء بالمناسبة نفسها، وشارك فيها
حاخام اليهود في الإسكندرية والكشَّافة اليهودية في القاهرة. وفي يناير ١٩٢٠م سافر السير
هربرت صموئيل إلى فلسطين لتولي مهام منصبه كمندوبٍ سام لبريطانيا هناك، وأعلن الرجل —
قبيل سفره — أنه يتوجه إلى فلسطين «لتنفيذ أوامر حكومتي بإنشاء وطن قومي لليهود
فيها.»
وما من شك أن وعد بلفور يمثِّل بُعدًا جديدًا في المأساة الفلسطينية، فقد أعطت الحكومة
البريطانية وعدًا للحركة الصهيونية (من لا يملك أعطى وعدًا لمن لا يستحق!) بأنها «سوف
تبذل أقصى جهودها لتسهيل تحقيق هذا الهدف: إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين.»
وساعد الاحتلال البريطاني لفلسطين — فيما بعد — على تنفيذ ذلك الوعد، وتقديم الحماية
للصهيونية لتحقيق أهدافها. وفي الثاني من أبريل ١٩٢٢م، أصدر المحفل الأكبر الوطني المصري
للبنائين الأحرار — المحفل الماسوني — بناء على طلب حاييم وايزمان رئيس المنظمة
الصهيونية العالمية، نداء إلى أهالي فلسطين، دعاهم فيه إلى إفساح المجال لليهود، في
سبيل فائدة الوطن المشترك وعظمته، وتوفير أسباب السلام والوئام والتسامح وحقن الدماء.
وقال النداء — في لغة مهادنة: «إن العربي والعبري صنوان، من شجرة إبراهيم، أبواهما
إسحاق وإسماعيل، فمتى وضع أحدهما يده في يد الآخر انتفعا جميعًا بما لديهما من الوسائل
المختلفة، وكان في تعاونهما تمام الخير وكمال البركة بإذن الله.»
٨٥
وكما يقول وايزمان، فإن «وعد بلفور والحماية البريطانية قد رفعا فلسطين — بشكل نهائي
— من سياق الشرق الأوسط، وربطاها بالمشكلة اليهودية على نطاق العالم.»
٨٦
وفي الثاني عشر من أغسطس ١٩١٨م عقد كبار الاقتصاديين اليهود اجتماعًا في الإسكندرية
لتدارس فرص الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها. والتقى زعماء اليهود — بعد ذلك الاجتماع
بيومين — بحاييم وايزمان. وأسفر اللقاء عن تكوين لجنة باسم اللجنة المتابعة لفلسطين،
تعنى بجمع التبرعات من أثرياء الطائفة، لتقيم بها على أرض فلسطين مستعمرات زراعية
ومستشفيات وجمعيات خيرية … إلخ.
٨٧ كما رفعت الصحف اليهودية في مصر لواء الدعوة السافرة للحركة الصهيونية.
٨٨ ثم توالى قدوم زعماء الحركة الصهيونية العالمية على مصر، بهدف مضاعفة
النشاط الصهيوني فيها، وتنشيط حركة التبرعات، وأصبحت الظاهرة — بتوالي الأعوام — تقليدًا
إلى عام ١٩٤٥م، عندما بدأ رد الفعل الوطني يعطي نتائجه الواضحة.
ولا يخلو من دلالة، تهديد اليهود المصريين لطلعت حرب بسحب أموالهم المُودَعة في بنك
مصر
إذا أصر على تنفيذ مشروع إنشاء بنك مصري فلسطيني، وإيجاد عملة فلسطينية مستقلة.
٨٩ ولا يخلو من دلالة أيضًا، أن التعداد العام في ١٩٤٧م أظهر أعدادًا من اليهود
كانوا يعملون في أعمال تتسم بالسرية ومريبة، ولا يرغبون في إعلانها.
٩٠
والمذهل — ربما الآن فقط بعد أن بعدت الأعوام! — أن الحكومة المصرية سمحت لليهود
بتأسيس جمعيات صهيونية، مارست أنشطتها على نحوٍ واسع. ويتواصل الذهول في إرسال الحكومة
المصرية ممثِّلًا عنها لحضور حفل افتتاح الجامعة العبرية بالقدس في أبريل ١٩٢٥م. وكان
ذلك
الممثل هو «أستاذ الجيل» أحمد لطفي السيد، مدير الجامعة المصرية آنذاك، على الرغم من
التقرير الصحفي الذي نشرته صحيفة «الحساب» اليسارية المصرية، تُدين فيه زيارة لورد بلفور
إلى فلسطين عام ١٩٢٥م، بهدف افتتاح الجامعة العبرية، وما أشارت إليه الصحيفة عن الصعاب
التي واجهها بلفور من الجماهير الغاضبة في كل من سوريا ولبنان وفلسطين، وما قالته
الصحيفة عن منح اللورد الإنجليزي وعدًا للحركة الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود في
فلسطين: «كأن لم تكفِه فعلته زيارته لأهالي فلسطين، وأي تذكار مؤلم تركه في أنفسهم،
فأراد أن يتسلى بتعذيب أهل سوريا، ويتلهى بأن يتفرج على عذابهم.» وأفاضت الصحيفة في
التحدث عن مطاردة الجماهير السورية واللبنانية للورد بلفور «الأمر الذي اضطره إلى
الفرار من المدينتين المذكورتين طلبًا للنجاة.»
٩١
رجاء النقاش يجد تبريرًا لما فعله لطفي السيد، في أنه ليس عملًا من أعمال الخروج
على
الوطنية، لكنه — في حقيقته — قصور ملموس في الإحساس العربي، وفهم محدود لقضية العلم
«فقد كان اشتراك لطفي السيد في افتتاح الجامعة العبرية مبنيًّا على ما قاله — آنذاك —
من
أنه يشترك في عمل علمي خالص لا علاقة له بالسياسة. ولو كان لطفي السيد على وعي بسيط
بارتباط مصر العربي، لما اتخذ هذا الموقف، ولا لجأ إلى هذا العلم ويفصله عن العمل
السياسي والوطني والإنساني، خاصة أنه كان يضع نفسه في طبقة المفكرين الذين تنتظر منهم
أمتهم دائمًا أن ينظروا إلى أمام، ويروا أبعد من حاضرهم.»
٩٢ رجاء النقاش يدافع — بهذه الكلمات — عن لطفي السيد، لكنها — في تقديري —
تنطوي على إدانة كاملة؛ فقد كانت الأطماع الصهيونية معلَنة، لا في فلسطين فحسب، وإنما
في
مصر أيضًا. وفي مذكرة من الكولونيل مايز تزهاجن، السكرتير العسكري للورد اللنبي إلى
رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج (١٩٢٠م) قال: «فإني أرى في مصر العدو المسلح لليهود،
وبتطور القوميتين العربية واليهودية إلى مرحلة السيادة، وبخسارتنا قناة السويس في سنة
١٨٦٨م، أي بعد ٤٧ سنة، فإن بريطانيا ستخسر مراكزها في الشرق الأوسط. ولتقوية هذه
المراكز، أقترح ضم سيناء إلى فلسطين. وفي حالة ضم سيناء إلينا، فإننا نربح حدًّا فاصلًا
بين مصر وفلسطين، ونثبِّت لبريطانيا مركزًا قويًّا في الشرق الأوسط، مع اتصال سهل بالبحرَين
المتوسط والأحمر، وقاعدة استراتيجية واسعة النطاق مع ميناء حيفا الممتاز، الذي سنستعمله
بموافقة اليهود، ومن حسنات هذا الضم أنه سيحبط أية محاولة مصرية لإغلاق القناة في وجه
ملاحتنا.»
٩٣ وقد أفردت صحيفة «المنار» — منذ أوائل القرن العشرين — تحقيقات ودراسات
مطولة، لتوضيح أبعاد الخطر الصهيوني، وخطورة ما يجري في الأرض الفلسطينية على المنطقة
العربية كلها، بل إن الصحف والدوريات الصهيونية التي كانت تصدر في القاهرة، كانت تدعو
—
صراحة — لعودة اليهود إلى فلسطين، بل وإلى اقتطاع سيناء!
•••
يقول شالوم بن أشير في كتابه «تاريخ اليهود في الدول الإسلامية»: «لقد اعتُبر اليهود
في الدول الإسلامية بمثابة آلية دينية يجب تحمُّل وجودها في الدولة، وضمان الحماية
والرعاية لها، ومنحها نوعًا من الإدارة الذاتية لتنظيم مؤسساتها وحياتها الداخلية، غير
أنها لم يُسمَح لها بالمشاركة في الحكم.»
٩٤
وهذا القول ينطوي على مغالطة واضحة. فكما يقول موريس مزراحي: «لم تكن هناك مشكلة
يهودية في مصر ابتداء من عهد محمد علي إلى الحرب في فلسطين. وكانت علاقات اليهود
بالأجانب من ناحية، وعلاقاتهم بالمصريين من ناحية أخرى، علاقات ودِّية جدًّا.»
٩٥ ويقول المؤرخ اليهودي مارك كوهين: «إن اليهود — في ضوء وثائق الجنيزة —
يبدون شرعية صغيرة، لكنها مهمة، من السكان المصريين، فقد عاشوا آمنين، فضلًا عن
اندماجهم الملحوظ بالبيئة المصرية.» والثابت — تاريخيًّا — أن اليهود تمتعوا — في عهد
السلطان حسين كامل — بكل حقوق المواطنة، فقد أنشَئوا مؤسساتهم الخاصة كالمعابد والشركات
الاقتصادية والأندية الاجتماعية والثقافية، وتفتَّحت أمامهم — عمومًا — كل الفرص في
مجالات الحياة المصرية.
٩٦ وقد توافد المهاجرون من يهود أوروبا وأقطار دولة الخلافة العثمانية ودول
البحر المتوسط والشمال الأفريقي. بلغ عددهم ما يربو عن ٣٠ ألف شخص في نهاية القرن
التاسع عشر، أكثر من ٥٠٪ منهم كانوا يحملون جنسيات أوروبية.
٩٧ ونتيجة لزيادة أعداد الوافدين من اليهود، فقد أنشِئت أول مدرسة لليهود بدرب
البرابرة القريب من ميدان العتبة في ١٨٩٢م، كان اسمها محفل ابن ميمون. وضمَّت خمسة فصول،
وعدد طلابها ١٣٠ طالبًا، يدرسون اللغات العربية والعبرية والفرنسية والإنجليزية.
٩٨ ونتيجة للحملة ضد اليهود في الشام وفلسطين، نزحت أعداد هائلة منهم إلى مصر،
فاستقبلتهم السلطات المصرية، وقدمت لهم التسهيلات اللازمة، وألَّف كبار الرأسماليين
اليهود لجنة باسم «لجنة إغاثة المهاجرين الفلسطينيين الروس» مهمتها تنظيم عملية الإغاثة
والإقامة لليهود المهاجرين من فلسطين.
٩٩ واستقبلت مصر في أعوام الحرب العالمية الأولى، آلافًا من اليهود من رعايا
دولة الخلافة، بعد أن طُردوا منها باعتبارهم أعداء. شكَّلت الحكومة لجنة لاستقبالهم،
ووضعت
تحت تصرفهم مبنى الحجر الصحي بالورديان بالإسكندرية، ودار المحافظة برأس التين، وأنشئت
لهم معسكرات وملاجئ حكومية، ومخابز خاصة، ومعبد، ومستشفى، وحدائق للنزهة.
١٠٠ (فيما بعد، تحولت مصر إلى معسكر انتقال لليهود إلى فلسطين) وفي كتابه
«خمسون عامًا من التاريخ» كتب «نارسيس لفن» عن أوضاع اليهود في مصر منذ أواخر القرن
التاسع عشر إلى مطالع القرن العشرين: «تتألف الطائفة اليهودية في القاهرة من ١٥ ألف
نسمة، وتتشكَّل من مجموعة من العناصر المتباينة، فهي تضم يهودًا من مختلف الجنسيات،
يتكلمون لغات ولهجات متعددة، وأبرز العناصر اليهودية وأهمها هو العنصر المحلي، فهو أكثر
الفئات اليهودية ثراء، وأكثرها أصالة، والعنصر المحلي يفخر بأنه صانع الأمجاد اليهودية
في مصر.»
١٠١ وقد ساعد الاحتلال البريطاني لمصر، على هجرة المئات من اليهود الإنجليز،
واستقرارهم في مصر، والعمل في مجالات الحياة المختلفة، مثل جوزيف ورافاييل سوارس اللذين
اشتُهرا بخطوط الأوتوبيس الشهيرة في القاهرة، وابن عمهما إدجار سوارس الذي عني بشراء
الأراضي واستصلاحها، وتأجيرها — من بعد — للفلاحين. وأيضًا جوزيف سموحة الذي أنشأ
الضاحية المسمَّاة باسمه في منطقة مستنقعات أعوام الثلاثينيات والأربعينيات.
١٠٢ وسكن العديد من أثرياء اليهود في حي قصر الدوبارة (جاردن سيتي) مثل آل
قطاوي وآل عدس وآل رولو وآل توليدانوس وآل هراري وغيرهم.
١٠٣
واستطاع اليهود أن يسيطروا تمامًا على الاقتصاد المصري، سواء في البنوك أو الصناعات
أو الشركات التجارية أو الأراضي. وتمثَّلت تلك السيطرة في عائلات بذاتها، أطلقت أسماء
عائليها على مدن وأحياء بأكملها مثل رولو، موصيري، عاداه، عدس، قطاوي، شيكوريل،
جاتينيو، جرين، منشة، مزراحي … إلخ. وكانت بداية كل تلك الأسر متواضعة للغاية، ثم أتاحت
لها ظروف ما بعد الاحتلال مضاعفة ثرواتها.
١٠٤ ومن الشركات التي أنشأها اليهود: وادي كوم إمبو لاستصلاح الأراضي وزراعة
المحاصيل النقدية، شركة مساهمة البحيرة، شركة الأراضي الغربية العقارية، شركة أراضي
الشيخ فضل العقارية، شركة التصديرات الشرقية، شركة حليج الوجه القبلي، شركة مكابس
الإسكندرية، شركة الأقطان المتحدة بالإسكندرية، شركة محلات شملا الكبرى لتجارة الملابس،
شركة محلات شيكوريل، شركة النسيج والحياكة المصرية، شركة محلات الملكة الصغيرة، شركة
الملابس والمهمات المصرية … إلخ، بالإضافة إلى البنوك وشركات الصرافة والنقل. وكان معظم
محال حي الصاغة مملوكة لتجار من اليهود الوراقين الذين توارثوا حرفة صياغة الذهب
وتجارته. «وفي الطرف الآخر من البناء الاجتماعي، كان اليهود الفقراء باعة متجولين أو
حرفيين صغارًا، ويعتمد بعضهم على الصدقة، ويعيشون في حالة جهل، وأكثرهم ينحدر من
المستوطنين الأصليين في البلد، بينما غالبية الطبقة العليا والمتوسطة من أصل أجنبي.
ولغة هذه الطبقة هي العربية، وتسكن أغلبيتهم في القاهرة في حارة اليهود في الموسكي،
وقسم خاص من الحي اليهودي يُسمَّى حارة اليهود القرائين، الذين اختلطوا مع جيرانهم العرب،
وتمثَّلوا عاداتهم، وأعطوا أبناءهم أسماء عربية حتى لا يمكن تمييزهم عنهم.»
١٠٥ وأحيانًا، كانت حارة اليهود تتعرض للهجوم من فتوات الأحياء المختلفة، لكنها، كما يقول
الفنان (أين صديقتي اليهودية؟) لم تتجاوز الغارات التي تحدث بين الأحياء
بعضها وبعض، فلم تحرق أو تدمر مثلما حدث لمناطق اليهود — عبر التاريخ — في كل أنحاء العالم.
١٠٦ وقد سكنت أسر من اليهود في العباسية،
١٠٧ وظلت العباسية من أهم الأحياء التي سكنها اليهود. يقول الراوي (حديث الصباح
والمساء): «كان الحي يعبق برائحة اليهود المتفرنجين.»
١٠٨ ويؤكد عبد الحميد جودة السحار في مذكراته أن حي الظاهر كان كل سكانه من اليهود.
١٠٩ ويقول أحدهم عن سعاد وهبي (المرايا) إنها من حي اليهود بالظاهر، وُلِدت
وترعرعت في جو من الحرية الجنسية المطلقة.
١١٠ وقد أحب يهودي من سكان السكاكيني فتاة مسلمة هي صافيناز، وتزوج منها بعد أن
أشهر إسلامه.
١١١ وتأسس في الإسكندرية العديد من مدارس اليهود، ومنها «ويلا بيرجولا» سنة
١٩١٩م برأس التين، و«جان بلاديم» سنة ١٩٢٣م بحي الجمرك، حيث كان يقطن بعض الأسر اليهودية
الفقيرة، و«ليسيه الاتحاد اليهودي» للتعليم سنة ١٩٢٥م.
١١٢ وكان فقراء اليهود يتمتعون بالجنسية المصرية، أما يهود الطبقة الوسطى فما
فوقها، فقد حرصوا على اكتساب جنسيات أجنبية ليفيدوا منها في الامتيازات التي تكفل لهم
حق التقاضي أمام المحاكم المختلطة، بما يعنيه من إمكانية الحصول على ما قد لا يكون حقًّا
لهم من الوطنيين، فضلًا عن التمتع بامتيازات أخرى، كانت تقتصر — للأسف — على أبناء
الجاليات الأجنبية في مجالات الحياة المختلفة، وكانت الممثلة اليهودية ليليان هي بطلة
مسرحيات — أو أوبريتات — الشيخ سلامة حجازي.
وثمة يهود امتلكوا إقطاعيات في بنها وميت غمر والبحيرة، مثل وهبة وقطاوي ومزراحي
وفرانكو. بل لقد احتكر صناعة السينما — تقريبًا — يهودي هو جوزيف موصيري الذي أنشأ في
١٩١٥م شركة جوزي فيلم، وأنشأ العديد من دُور السينما في القاهرة والإسكندرية والسويس
وبورسعيد. وشارك في النشاط الحزبي المصري عدد كبير من قيادات اليهود، مثل المحامي ليون
كاسترو الذي عمل ناطقًا باسم الوفد المصري في أوروبا، ورافق سعد زغلول في رحلاته
الأوروبية. كما دخل اليهودي يوسف دوبكتر مجلس النواب المصري ممثِّلًا للوفد عن الإسكندرية
عام ١٩٢٧م. وعيَّن الوفد في مجلس الشيوخ شيخين يهوديين هما يوسف قطاوي باشا — شقيق موسى
قطاوي رئيس الجالية اليهودية في مصر — والحاخام حاييم ناحوم. وفي ١٩٤٢م عُيِّن يوسف قطاوي
باشا وزيرًا للمالية. ثم دخلت زوجته السراي، كبيرة لوصيفات الملكة نازلي. ومن المؤكد
أن
أسرة قطاوي كانت تعمل — منذ البداية — لصالح الحركة الصهيونية، واستيطان اليهود لأرض
فلسطين. فقد حضر موسى قطاوي — الاجتماع الذي تقرر فيه — بموافقة الجنرال ماكسويل قائد
القوات البريطانية في مصر — (١٩١٥م) تكوين فرقة يهودية تابعة للقوات البريطانية للمحاربة
في الجبهة الفلسطينية. وعندما مرَّ الفيلق اليهودي بمدينة الإسكندرية في مارس ١٩١٨م،
في
طريقه إلى فلسطين، استقبله اليهود من مستوطني المدينة بحفاوة بالغة.
١١٣ وحضر يوسف قطاوي — الذي كان وزيرًا للمالية المصرية — اجتماعًا في أواخر
مارس ١٩٢٤م، مع أعضاء المجلس الأعلى للطائفة اليهودية، شارك فيه إسحاق بن زفي الذي أصبح
— فيما بعد — رئيسًا لجمهورية إسرائيل، وتدارس المجتمعون وسائل الإسراع في إقامة دولة
إسرائيل.
١١٤ وفي ذكريات اللورد كيلرن أن حسن صبري أحب فتاة يهودية اسمها «جنى القدسية»،
وسبَّبت له فضيحة طويلة، وجرَّدته من مكانته وماله، وتزوج أحمد صديق — مدير بلدية
الإسكندرية — من فتاة يهودية، حاول أن يفرضها على المجتمع السكندري.
١١٥
وقد أعلنت الوثائق السرية — فيما بعد — خطأ الرأي بأن الحكومة البريطانية أبدت تحفظًا
بالنسبة لفلسطين في موافقتها في أثناء الحرب العالمية الأولى، على منح أقطار الوطن
العربي استقلالها. فثمة فقرة واضحة من وثيقة أُعلنت في ١٩٦٤م، تقول: «فيما يختص بفلسطين
فإن حكومة صاحب الجلالة ملتزمة بمقتضى خِطاب السير هنري مكماهون للشريف حسين في ٢٤
أكتوبر ١٩١٥م بإدخالها في نطاق الأراضي العربية المستقلة.» وكانت المذكرة/الوثيقة
مودعة في إحدى الجامعات الأمريكية التي لم تقدِم على فتحها إلا بعد وفاة صاحبها — حسب
وصيته — وهو البروفسور ويليام لين ويسترمان مستشار الوفد الأمريكي في مؤتمر السلام
بباريس.
١١٦ كانت مهمة سلطات الانتداب — من واقع تصرفاتها — هي التعجيل بإقامة الدولة
الصهيونية في فلسطين. واللافت أن المندوب السامي البريطاني في السنوات الأولى للانتداب
كان يهوديًّا متعصبًا للصهيونية. وكان مديرو إدارات الهجرة والجوازات والجنسية من
اليهود، وكل مديري الإدارات المختلفة من الإنجليز واليهود. ولم يكن يُسمَح للعرب — على
الإطلاق — بالاشتراك في المناصب الحكومية، بينما سُمِح للوكالة اليهودية أن تمثِّل حكومة
داخل
حكومة الانتداب. مع ذلك، فعندما انتهت الحرب العالمية الأولى كان تعداد فلسطين ٦٠٠ ألف
نسمة، يمثِّل العرب المسلمون ٧٥ ٪ من السكان، ويعيشون في المدن مثل حيفا ويافا والقدس،
أو
البادية. أما باقي السكان فكان منهم ٧٠ ألف عربي مسيحي، و٥٥ ألف يهودي.
•••
في العام ١٨٩٦م تأسست أول جمعية صهيونية في القاهرة. وفي العام ١٩٠٨م تكونت في
الإسكندرية أول جمعية صهيونية هي «بني صهيون» التي أعلنت تبنِّيها لقرارات مؤتمر بال،
التي اعتبرت فلسطين وطنًا بلا سكان، لا بد أن يأخذها شعب بلا وطن، «وإن واجب اليهود هو
تضييق الخناق على عرب فلسطين حتى يجبروهم على الهرب.» ثم تكوَّنت في العام التالي جمعية
ثانية هي «زائير زيون». وقد اتحدت الجمعيتان — فيما بعد — في جمعية واحدة، ما لبثت أن
مدَّت نشاطها، وضمَّت إلى عضويتها معظم أفراد الطائفة اليهودية من المقيمين في المدينة.
وفي
أعقاب الحرب العالمية الأولى، تكوَّن — في مصر — أول فرع للمنظمة، وأعلن — صراحة — أن
هدفها هو نشر الدعوة الصهيونية، والسعي لإقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين «استعادة
أرض إسرائيل، وعودة شعب إسرائيل إلى أرضه.» وقد شكَّلت أندية اليهود في القاهرة
والإسكندرية جماعات للكشافة، وفِرقًا باسم العبري الصغير، تولَّت جمع التبرعات لشراء
الأراضي في فلسطين، وإنشاء المستعمرات اليهودية، وتشكَّلت من خلالها لجان لاستقبال اليهود
المهاجرين، من دول العالم، وتوفير سبل الراحة والإقامة لهم، وإعدادهم للسفر إلى فلسطين.
وكانت الصحف التي يصدرها اليهود منذ ١٨٧٧م إلى ١٩٤٧م، تدعو إلى التعاون بين العرب
واليهود، وتدعو — في الوقت نفسه — إلى «الحقوق التاريخية لليهود في فلسطين».
١١٧ وفي ٢٣ مارس ١٩١٨م نشرت سينما أمريكان كوزموجراف بالإسكندرية، إعلانًا في
جريدة «لا ريفورم» عن فيلم «المستوطنات اليهودية في فلسطين». ومن المؤكد أن السلطات
المصرية لم تقدم على تصرفات حاسمة. بل لعله يمكن القول إنها لم تنتبه لخطر الجماعات
الصهيونية في مصر، إلا بعد حادثة مصرع اللورد موين في حي الزمالك عام ١٩٤٥م، وبدأت
العينان اللتان طال إغفاؤهما عشرات السنين تحاولان الرؤية!
اليهود وفلسطين
في مارس ١٨٤١م بعث الاقتصادي اليهودي روتشيلد رسالة إلى بالمرستون، جاء فيها: «إن
هزيمة محمد علي وحصر نفوذه بمصر، ليست كافية؛ لأن هناك قوة جذب بين العرب، وهم
يدرون أن عودة مجدهم القديم مرهونة بإمكانيات اتحادهم واتصالهم. إننا لو نظرنا إلى
خريطة هذه البقعة من الأرض فسوف نجد أن فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر وبين
بقية العرب في آسيا، وكانت فلسطين دائمًا بوابة الشرق. والحل الوحيد هو زرع قوة
مختلفة على هذا الجسر، وفي هذه البوابة، لتكون هذه القوة بمثابة حاجز يمنع الخطر
العربي ويحُول دونه، وتستطيع القوة اليهودية في فلسطين أن تقوم بهذا الدور. وليست
تلك خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض الميعاد، وصداقًا للعهد القديم، ولكنها أيضًا
خدمة للإمبراطورية البريطانية ومخططاتها، فليس مما يخدم الإمبراطورية أن تتكرر
تجربة محمد علي، سواء بقيام دولة قوية في مصر، أو بقيام اتصال بين مصر والعرب الآخرين.»
١١٨ وفي ١٨٨٢م وضع قس يُسمَّى هكلر كتابًا بعنوان «عودة اليهود إلى فلسطين حسب
النبوءات»، وكتب دافيد بن جوريون في العام نفسه: «إن الهدف النهائي هو السيطرة على
فلسطين، وأن يستعيد الشعب اليهودي الاستقلال السياسي الذي حُرم منه لمدة ألفي عام.»
١١٩
وقد تبلورت أهداف الصهيونية في أول مؤتمر صهيوني في أغسطس ١٨٩٧م، وتبع ذلك إنشاء
الصندوق القومي اليهودي عام ١٩٠١م، وافتتاح المكتب الفلسطيني في يافا عام ١٩٠٧م،
والذي أسهم في عمليات استجلاب المهاجرين، وشراء الأراضي، وإنشاء أول مدينة كل
سكانها من اليهود (١٩٠٩م) وهي مدينة تل أبيب، وإنشاء أول مستوطنة — كيبوتز — في
العام نفسه. أما أين يذهب الفلسطينيون، أصحاب البلاد، فقد أجاب هرتزل على ذلك بحسمٍ
وبساطة: «عندما نحتل البلاد، سنستخلص ملكية الأراضي من أصحابها. سوف ينضم إلينا
أصحاب الأملاك الكبار، وسوف تتم تدريجيًّا عملية تجريدهم من الملكية طوعيًّا، وبأسعار
عالية. وسوف نقوم بإبعاد الفقراء، والتخلص منهم جنبًا إلى جنب، مع تجريد الملاك من
أراضيهم. وسنحاول تسريب السكان الفقراء والمعدمين عبر الحدود، وسنشجعهم ونغريهم
بالهجرة. أما من يبقى من أهل البلاد فيها فسوف نستخدمهم في المناطق التي تكثر فيها
الحيوانات والأفاعي الكبيرة، وفي مناطق الأوبئة والأمراض السارية، وتجفيف
المستنقعات، وبغير هذا الأسلوب ستكثر نسبة الموت بيننا، وبالإجمال، سنستخدم العرب
للعمل في المناطق الموبوءة.»
١٢٠
لقد كان الهدف منذ البداية إفراغ فلسطين من أهلها العرب، ليحل — بدلًا منهم —
شتات يهودي من أرجاء العالم. وكتب موشيه سميلانسكي (١٩١٤م) أنه «يوجد اتساع كبير في
فلسطين يكفي لمستوطنين جدد بأضعاف أضعاف عددهم الراهن، حتى يتحوَّل العرب في وقت من
الأوقات إلى أقلية في مواجهة اليهود.»
١٢١ ويعترف الروائي الصهيوني حاييم برينر أن عرب فلسطين «أقوى منا بكل
المفاهيم، وفي قدرتهم أن يدوسوا علينا كما يدوسون على التراب، لكننا نحن أبناء
إسرائيل قد اعتدنا أن نعيش ضعفاء بين أقوياء، وعلينا إذن أن نكون مستعدين لنتائج
الكراهية، وأن نستخدم كل الوسائل التي في أيدينا الضعيفة لكي نستطيع أن نعيش هنا
كذلك. ألسنا معتادين على أن نُحاط بالكراهية، وعلى أن نكون مليئين بالكراهية. إذن
فهكذا علينا أن نكون! اللعنة على الضعفاء المحبين!»
١٢٢ ويضيف المؤرخ الصهيوني يوسف كلاوزنر: «بما أننا نحن اليهود قد عشنا
ألفَي سنة وأكثر بين شعوب متحضرة، فإنه من المستحيل علينا، بل ومن غير المطلوب لنا،
أن نهبط هذه المرة إلى مستوى حضارة شعوب همجية. فضلًا عن ذلك، فإن أملنا أن نصبح
السادة في هذه الأرض في وقت من الأوقات يقوم على التمييز الحضاري الذي يميزنا على
العرب والأتراك، والذي عن طريقه سيزداد نفوذنا رويدًا رويدًا.»
١٢٣ أما الروائي الصهيوني سميلانسكي، فقد كتب في مطالع القرن: «إن من يؤمن
بالتوراة عليه أن يلتزم بالابتعاد عن القبح، عليه أن يبتعد عن الفلاحين ذوي المستوى المنحط.»
١٢٤
… ثم بدءوا في تعليمنا الزراعة، نحن الفلاحين!
ومع أن الخلافات كانت قوية بين المؤيدين للحركة الصهيونية والمعارضين لها من
اليهود المقيمين في مصر،
١٢٥ فإن من دعوا إلى التعايش بين العرب واليهود، لم يتخلَّوا عن أحلام
الاستيطان والتوسع. فقد كتب يتسحاق أفشتين — ١٩٠٧م — يشير إلى أن في أرض فلسطين
شعبًا كاملًا ارتبط بها منذ مئات السنين، وهو — ككل شعب — يرتبط بوطنه بروابط
وثيقة، ولكن هذا الشعب — في تقدير أفشتين — «مضطر من أجل مصلحته إلى إدخال اليهود
إلى أرضهم، لأنه عاجز عن تحسين وضعه بقوته الذاتية، وعاجز عن الخروج من فقره وجهله،
أما شعبنا اليهودي فقط، فهو القادر على تعويض قصور الشعب العربي.»
١٢٦
•••
ذهب اليهود إلى أرض فلسطين، ترافقهم كلمات هرتزل: «إننا نريد أن نطهر بلدًا من
الوحوش الضارية، ولن نحمل القوس والرمح، ولن نذهب فرادى في أثر الدببة، كما كانوا
يفعلون في أوروبا في القرن الخامس، لكننا سننظم حملة جماعية ومجهزة، ونطرد
الحيوانات، ونرمي وسطهم قنابل شديدة الانفجار.»
١٢٧ وقد اتسم موقف السكان العرب من الهجرات اليهودية خلال السنوات ١٨٨١–١٨٩١م بالهدوء والترحيب،
ثم بدأ الشك يفرض نفسه نتيجة لتزايد أعداد المهاجرين اليهود
بصورة مكثَّفة. وعبَّر الشك عن نفسه — أحيانًا — في عمليات اعتداء قام بها السكان
العرب ضد المستعمرات الصهيونية التي أخذت طابعًا عبرانيًّا خالصًا. ثم سجَّل
الفلسطينيون تخوفاتهم من الهجرة اليهودية — علانية — في برقية إلى الصدر الأعظم
يطالبونه فيها بمنع اليهود من الإقامة بفلسطين، والسماح لهم بزيارة القدس بما لا
يزيد عن ثلاثة أشهر. ثم أصدر الصدر الأعظم — في العام التالي — قرارًا بمنع اليهود
الأجانب — واليهود العثمانيين أيضًا — من تملُّك الأراضي الأميرية. ومع كل الخطوات
التي اتخذتها السلطات العثمانية للحد من الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، مثل حظر شراء
الأراضي، وحظر نقل ملكية الأراضي … إلخ، فإن الصهيونية واصلت محاولاتها لتحويل
فلسطين إلى دولة يهودية.
•••
لم يعُد الخطر مقتصرًا على الاستبداد التركي والأطماع الأوروبية. بدأت الأقلام
العربية تشير إلى خطرٍ ثالث، توضَّحت قسماته وملامحه، وهو الصهيونية العالمية التي
استطاعت — بالفعل — أن تبني رءوس جسور لها في فلسطين، بل وفي المنطقة العربية
بعامة. وكان محمد رشيد رضا — بمقالاته عن الخطر الصهيوني في مجلة «المنار»، منذ
أعدادها الأولى في العام ١٨٩٨م، وحتى قيام الحرب العالمية الأولى — من أوائل
المنبِّهين لأبعاد الغزوة الصهيونية. وقد اتَّهم اليهود — صراحةً — بالعمل على
الاستقلال بفلسطين، وإحداث ملك جديد لهم فيها.
١٢٨ وأصدر الكاتب الفلسطيني نجيب عازوري كتابه «يقظة الأمة العربية» — ١٩٠٥م
— ينبِّه إلى خطورة المشروعات الصهيونية، ووجوب اصطدامها — يومًا — باليقظة العربية.
وكتب سلامة موسى في افتتاحية «المجلة الجديدة» ينبِّه إلى خطورة الاستعمار الصهيوني
على مصر «إذ ليس بعيدًا أن يفيض على مصر، بل لقد أشيع — قبل سنوات — أن اليهود
ينوون شراء مزارع في شمال الدلتا، وهذا ما يجب الاحتراس منه.»
١٢٩ وظهر العداء للصهيونية — علانية — منذ ١٩٣٨م، حين نادى محمد علي علوبة
ورفاقه بمقاطعة اليهود، لأنهم يجمعون الأموال لصالح الحركة الصهيونية، ثم توالى
اكتشاف القنابل في المعابد اليهودية، مشفوعة بتحذيراتٍ لليهود ضد مساندة التحركات
الصهيونية في فلسطين.
•••
تدفقت الموجة الثانية من هجرة اليهود على ميناء يافا في عام ١٩٠٥م، وبالتحديد عقب
فشل الثورة الروسية. ورافق تلك الموجة طرد المزارعين والعمال العرب من المستعمرات
الصهيونية، فضلًا عن المقاطعة الصهيونية للمنتجات العربية، مما أثار جوًّا من
البغضاء بين العرب واليهود، تصاعد إلى صدامات مسلَّحة في ١٩٠٨م. فلما أعلن الدستور
العثماني — مجددًا — في ١٩٠٨م، شارك اليهود بقية طوائف الدولة العثمانية، ابتهاجًا
بذلك، وطالبوا «بالحكم الذاتي في فلسطين». وتعدَّدت الاعتراضات العربية بعد ذلك
وتصاعدت، في المقابل من التسلل — بل الاقتحام — الصهيوني لأراضي فلسطين، وإحلال
المستعمرات الصهيونية بديلًا لأراضي العرب الفلسطينيين. وأشارت جميعها إلى أن
الحركة الصهيونية قد صنعت لها علمها الخاص، وبريدها الخاص، وأنها تعمل على تكديس
السلاح. وفي العام ١٩١٤م دعا الفلسطينيون إلى «تأليف جامعة عربية فرعية في فلسطين،
تنبثق عن الجامعة العثمانية، يكون هدفها إنقاذ فلسطين من خطر الصهيونية بتأليف
القلوب وجمع الكلمة.»
١٣٠
وحين عرض هرتزل على السلطان عبد الحميد، في الفترة من يونيو ١٩٠١م إلى يوليو ١٩٠٣م،
أن يشتري اليهود قطعة من أرض فلسطين ليقيموا عليها دولتهم لقاء تسديد ديون تركيا
الباهظة لدول أوروبا، وتطوير الاقتصاد التركي بواسطة البنوك الأوروبية التي يملكها
اليهود، وأن يدافع الإعلام العالمي الذي تسيطر عليه الصهيونية عن سياسة السلطان عبد
الحميد في مواجهة السياسات الأوروبية، ويتبنى وجهة نظر الأتراك في المسألة
الأرمينية، بل ويأخذ جانب المسلمين ضد المسيحيين، فضلًا عن إنشاء جامعة عصرية
للشباب التركي، ومنح السلطان هدية مالية تبلغ مائة مليون جنيه ذهبًا.
١٣١ حين تلقَّى السلطان ذلك العرض، فإنه أعلن رفضه في حسم، وقال: «لا يريد
الصهيونيون الاشتغال بالزراعة فقط في فلسطين، بل إنهم يريدون إنشاء حكومة لهم،
وانتخاب ممثِّلين سياسيين، وإن أفهم جيدًا معنى تصوراتهم الطامعة هذه. إنهم لسذَّج إذا
تصوروا أني سأقبل محاولاتهم هذه. إن هرتزل يريد أرضًا لإخوانه في الدين، لكن الذكاء
ليس كافيًا لحل كل شيء.»
١٣٢ وتنقل الرواية عن السلطان عبد الحميد قوله لمن قدَّموا إليه العرض:
«انصحوا الدكتور هرتزل بألَّا يتخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع. إنني لا أستطيع أن
أتخلَّى عن شبر واحد من الأرض، فهي ليست ملك يميني، بل ملك شعبي. لقد قاتل شعبي في
سبيل هذه الأرض ورواها بدمه. فليحتفظ اليهود بملايينهم، إذا مزَّقت إمبراطوريتي
فربما يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، ولكن يجب أن يبدأ ذلك التمزق أولًا
في جثثنا، وأنا لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة.»
١٣٣ وقد سمَّى قيادات الصهيونية السلطان عبد الحميد «السلطان الأحمر»، ونسبوا
إليه أبشع الجرائم لأنه رفض مطالبهم في فلسطين.
١٣٤ ولتزايد النشاط الصهيوني في أقاليم الشام، وفلسطين بخاصة، أصدر الوالي
العثماني جمال باشا، في يناير ١٩١٥م، أمرًا بتحريم نشاط العناصر الصهيونية في أرض
فلسطين، وتجريد مستعمرات اليهود من السلاح، وحل جماعة «حراس هاشومير»، وإغلاق البنك
البريطاني الصهيوني.
١٣٥
أخفق هرتزل في استمالة القيصر الروسي غليوم الثاني، ثم أخفق في استمالة السلطان
العثماني عبد الحميد، ومن ثَم فقد اتجه إلى الحكومة البريطانية يداعب أطماعها
الاستعمارية.
وأيًّا تكن طبيعة الاستبداد الحميدي — كما سُميت تلك الفترة التي تولى منها
السلطان عبد الحميد سدة الخلافة — فما من شك أن رفضه منح أرض فلسطين لليهود، كان من
العوامل المباشرة في إسقاطه بواسطة مجموعة من العوامل، في مقدمتها إحياء النعرات
القومية بين الكيانات التي تتألَّف منها الدولة، وخلق زعامات جديدة تؤمن بتلك
النعرات، وتسعى لتعميقها، ونشاط جماعة تركيا الفتاة — وهي جماعة ذات هوية صهيونية —
الذي بلغ ذروته في الزحف على القصر الهمايوني، وانتزاع الموافقة على الدستور،
وتوريط تركيا بالوقوف إلى جانب الألمان، حتى يكون سقوطها على أيدي الحلفاء هو الباب
الأوسع الذي دخل منه الصهاينة فلسطين! وكما تقول بنت الشاطئ، فإن رفض السلطان عبد
الحميد بيع فلسطين وطنًا لليهود كان «إيذانًا بالقضاء عليه، وعلى كل ما يمثِّله من
خلافة إسلامية.»
١٣٦
عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، طلبت القيادة الصهيونية إباحة الهجرة الحرة
إلى فلسطين، وأعلن القاضي اليهودي الصهيوني برانديس، مستشار الرئيس الأمريكي ويلسون
أن الهدف من هجرة اليهود إلى فلسطين هو أن يصبحوا أكثرية فيها، ونصح العرب أبناء
البلاد أن يرحلوا إلى الصحراء.
١٣٧ وأكد وايزمان المعنى في كتابه «التجربة والخطأ» بالحديث عن اتفاق
بريطانيا مع القيادة الصهيونية على إفراغ فلسطين من سكانها العرب، لتخلو للوافدين
من اليهود.
والغريب أن الشريف حسين أعلن أن وجود اليهود في فلسطين لن يتعارض مع استقلال
الشعب العربي، وأكد في مقالٍ بصحيفة «القبلة» الناطقة باسمه — ٢٣ / ٣ / ١٩١٨م — أن الكتب
المقدسة والتقاليد العربية تحث على التسامح، وطالب العرب بالترحيب باليهود كإخوة،
والتعاون معهم من أجل الصالح العام.
١٣٨
وبعد أن نكصت بريطانيا عن كل وعودها للعرب لقاء حربهم معها ضد الأتراك، وفي
مقدمتها تأكيد عروبة واستقلال فلسطين، وبعد أن فقد العرب حوالي العشرين ألف مقاتل
خلال سنوات الحرب، قال «هوجارث» في تقرير له: «لا مناص من أن تفرض بريطانيا تعهدها
للصهاينة بواسطة القوة.»
١٣٩ ثم كان الرئيس الأمريكي ويلسون الذي وصفه محمد عودة بأنه «بداية
الرؤساء المتحيزين للصهيونية في الولايات المتحدة.»
١٤٠
يهود الدونمة
متى ترجع إلينا يا شبتاي تسفي؟
هذا هو مطلع النشيد الذي يردِّده — الآن — حوالي ٤٠ ألف يهودي في تركيا من طائفة
الدونمة. يصفهم عبد المنعم الحفني بأنهم «فرقة مسيحانية حلولية إباحية من المعطلة،
ومعنى اسمهم بالتركية المرتدُّون، لأنهم شايعوا داعيتهم المدعو شبتاي تسفي على
الإسلام الذي اعتنقه ظاهريًّا، أو كما نقول تقاة. فلما تأكد للسلطات التركية نفاقهم
لقَّبوهم بالمرتدين؛ إما مرتدون من اليهودية إلى الإسلام، وإما مرتدون عن الإسلام إلى
اليهودية.»
١٤١
كانت بداية تلك الطائفة في أواسط القرن السابع عشر، حين دعا شبتاي تسفي إلى رؤى
دينية جديدة، وتنقَّل في أرجاء الأقاليم التركية قبل أن يعلن — في أزمير — أنه المسيح
المنتظَر! وانضم إلى «المسيح» أعداد من يهود أزمير، ثم أعداد من يهود بقية المدن
التركية، لكن حاخامات اليهود طالبوا السلطان بإيقاف نشاط الطائفة الجديدة، فأصدر
الصدر الأعظم قرارًا بإبعاد شبتاي تسفي، فاتجه إلى فلسطين، ثم إلى مصر، وتزوج من
فتاة اسمها سارة، عاد معها إلى تركيا بعد وفاة الصدر الأعظم. وانقضت بضعة أشهر قبل
أن يتوضح للحكومة التركية أن شبتاي لم يتخلَّ عن دعوته. بل إنه في ١٦٦٦م ذهب إلى
القسطنطينية ليعزل السلطان، فأمر الوزير محمد كوبرولو باشا بإلقاء القبض عليه بتهمة
الزندقة! وسُجن في قلعة غاليبولي، فلما خشي من غضب السلطات الدينية، أعلن
إسلامه.
كان شبتاي تسفي واحدًا من قيادات اليهود الذين فرُّوا من الاضطهاد الإسباني بعد
انحسار المد العربي في الأندلس، فاتجهوا إلى تركيا واستوطنوا مدينتَي أزمير وسالونيك
وما حولهما. في داخل السجن، أعلن شبتاي تسفي توبته، وتحوَّل من اليهودية إلى الإسلام،
وسمَّى نفسه محمد عزيز أفندي، أما زوجته فقد سمَّاها فاطمة. وانطلت الحيلة على السلطان،
فأفرج عن شبتاي، ومنحه أموالًا وهدايا؛ ألم تكسب أمة الإسلام مؤمنًا جديدًا؟
صُدمت جماهير اليهود من إسلام شبتاي، لكنه ظل يمارس الطقوس الدينية اليهودية، وظل
يحتفظ باسمه، ودعوته، وإن اتَّسمت دعوته وتحركاته بالسرية المطلقة. وما لبث أن جاراه
عدد من اليهود؛ تظاهروا باعتناق الإسلام، وأطلق عليهم الأتراك اسم الدونمة.
انتشرت الدعوة — سرًّا — في سالونيك وأزمير، وتضاعفت أعداد الأتباع حتى شكَّلت
الدعوة خطرًا حقيقيًّا، فأقدمت الحكومة التركية على نفيه إلى ألبانيا، إحدى ولايات
السلطنة العثمانية آنذاك. في ألبانيا قضى شبتاي أيامه الأخيرة، لكن الدعوة ظلَّت
قائمة بعد وفاته، ارتكازًا إلى تنظيمات غاية في السرية والصرامة. وبدَّل الأتباع
أسماءهم بأسماء إسلامية للإفادة من حقوق المواطنة، وإن ظلَّت أدعيتهم بالعبرانية
وأعيادهم وطقوسهم بالأسلوب نفسه الذي كان ينتهجه مسيحهم المنتظَر! وحظرت الطائفة
على أفرادها الزواج إلا من بعضهم البعض، وقد مثَّلت طائفة الدونمة شريانًا رئيسًا في
جسد الصهيونية العالمية، على الرغم من أنهم مثَّلوا ردة في الديانة اليهودية، واسم
«دونمة» مأخوذ عن الكلمة التركية «دونماك»، أي الردة.
ولعل أخطر ما أسهمت به الدونمة في تيار الصهيونية العالمية، ذلك الدور المؤكد في
قلب الخلافة الإسلامية في تركيا، من خلال أهداف معلَنة هي: استقلال القومية التركية
عن الدين الإسلامي، وجعل التركي العثماني تركيًّا أولًا، ومسلمًا ثانيًا، وتحرير
اللغة التركية من الألفاظ العربية والفارسية.
١٤٢ وكانت الدونمة وراء كل الإجراءات التي اتخذها أتاتورك لإنهاء الخلافة
الإسلامية في تركيا.
١٤٣ ويشير أمين الحسيني في مذكراته إلى أن مدينة سالونيك كانت أكبر مركز
لليهود في الدولة العثمانية «حيث كان يهود الدونمة يعيثون في الدولة العثمانية
فسادًا، ويعملون — سرًّا — على تقويض أركانها.» ومن مدينة سالونيك نشبت الثورة على
السلطان عبد الحميد الذي كان يرفض منح اليهود أي حق في فلسطين. ولا يخلو من دلالة
مشاركة حاييم أفندي ناحوم — حاخام اليهود المصريين فيما بعد — في تأسيس رابطة
الاتحاد والتقدم التي كان لها الدور الأكثر فعالية في الانقلاب التاريخي لتركيا.
وقد حاولت الطائفة استغلال وفاة السلطان عبد الحميد بالتعاون مع ناحوم أفندي لتقريب
تحقيق الحلم. وبعد قيام دولة إسرائيل، أعلنت الدونمة ما كانت تحرص على العمل به
سرًّا خلال مئات الأعوام، فتناول كُتابها ومفكِّروها جوانب القضية الفلسطينية من وجهة
النظر الإسرائيلية. ولا يزال يهود الدونمة في تركيا، وفي غيرها من البلاد
الإسلامية، يؤدون دورهم في خدمة الصهيونية العالمية: شعارات إسلامية معلَنة، وديانة
يهودية مستترة، والنشيد الذي يحرصون — دومًا — على ترديده: متى سترجع إلينا يا
شبتاي تسفي؟
وتاريخيًّا، فإن حاييم ناحوم شغل منصب رئيس حاخامات اليهود في مدينة سالونيك
التركية التي كانت أكبر مركز لليهود في الدولة العثمانية، وكانت معقلًا ليهود
الدونمة الذين تظاهروا باعتناق الإسلام لتقويضه من الداخل. ومن تلك المدينة نشبت
الثورة على السلطان عبد الحميد الذي كان يرفض منح اليهود أي حق في فلسطين. وبعد
انهيار الدولة العثمانية نقل حاييم ناحوم نشاطه من العاصمة التركية إسطنبول — حيث
كان قد أصبح رئيسًا للحاخامات بها — إلى القاهرة التي ورثت مركز إسطنبول في العالم
الإسلامي، وكثَّف جهوده لخدمة الأهداف الصهيونية في فلسطين إلى حد أنه كان يُقيم في
بيته بالقاهرة — والرواية لأمين الحسيني مفتي فلسطين الراحل — ناديًا للقمار يرصد
كل ريعه للحركة الصهيونية في فلسطين. ومن المؤسف — والطريف في الوقت نفسه — أن
حاييم قد عُيِّن عضوًا رسميًّا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
١٤٤
هوامش