الخيط الأبيض ورفض السيطرة الاستعمارية
وعلى المستويين، الواقعي والرمزي، تأخذ رواية «الخيط الأبيض» لمحمد مفيد الشوباشي، موقفًا مناقضًا لفتاة مصر. فإذا كانت «فتاة مصر» تضغط على حتمية التزاوج بين الحضارة الغربية والمجتمع المصري، فإن «الخيط الأبيض» تؤكد صعوبة، أو استحالة، تحقيق ذلك التزاوج. إن أسرة ويمان تمثِّل السيطرة الاستعمارية التي قدِمت إلى الشرق للسيطرة عليه؛ لهذا فهي تُعَد تعبيرًا بالغ الدلالة عن لحظات الغروب الاستعماري. لقد قدمت الأسرة إلى مصر، رافدًا لهجرة الجاليات الأجنبية، التي حاولت أن تفرض سيطرتها على الحياة المصرية. ثم مات الأب، وأصيبت الابنة الكبرى بالبله، فضلًا عن رونالد الابن المخبول، أما لونا فقد جعلت من علة قلبها ذريعة لاعتزال الناس. وظل جفري أسير أفكاره الاستعمارية، حتى آثر الرحيل إلى بريطانيا، أما لورا التي أصرَّت على أن تبقى، فقد آلت حياتها إلى الوحشة القاتلة والعمى.
والملاحَظ أنه بينما أخذت العناصر التركية تذوب في البيئة المصرية، حتى إن آل شوكت هم الذين سعوا لأحمد عبد الجواد لتزويج ابنتيه إلى إبراهيم وخليل شوكت، ولم تكن هذه المصاهرة مما يدور في الأحلام.
أقول: بينما بدأت العناصر التركية في الانصهار والذوبان داخل البيئة المصرية، فإن جاليات أجنبية أخرى حرصت على أن تمارس أسلوب حياتها الخاص، دون أن تترك للحياة المصرية تأثيرًا مباشرًا عليها. وكانت أسرة ويمان تمثِّل وضعًا شاذًّا في ذلك كله، فهي — على حد تعبير مصطفى — تقيم في مصر بلا جذور، فلا هي تعيش في بيئة الإنجليز المقيمين بمصر، فتعيش في جوٍّ يلائمها، وتنعم — عندئذٍ — بحياة طبيعية، ولا هي تتمصَّر وتنسى أصلها، وتحاول أن تتلاءم مع البيئة المصرية. إن مثل هذه الحياة غير المستقرة على أساس لا بد أن تُحطِّم أصحابها. وكانت هذه النهاية المتوقعة ما حدث بالفعل، وكانت لورا هي آخر من تبقَّى من أفراد الأسرة، لتمثِّل — بفقدان بصرها، والوحشة المخيفة التي آلت إليها حياتها — خطأ الطريق التي اختارت السير فيها، فهي قد أعلنت رغبة صادقة في أن تصبح مصرية، لكن تفكيرها ظل على حاله، إنجليزيًّا، يؤمن بالسيطرة والتفوق وإملاء الرغبة. بينما حدَّد بقية أفراد الأسرة — وجفري بالذات — موقفهم، وهو الرفض لهذا المجتمع المتناقض مع العقلية والبيئة الإنجليزية. فعندما يزمع جفري السفر إلى إنجلترا، تتساءل الأم في خوف: لكن جفري هو رجل الأسرة الآن … كيف تكون حال أسرتنا بلا رجل؟ فتضحك كلوديا ضحكة قاسية وهي تجيب: إنك أصبحت شرقية حقًّا، ولكن لا تظنِّي أن جفري يقسو عليكن، فهو يقول إنه لن يتخلى عن رعايتكن إذا قبلتن السفر معنا إلى إنجلترا. أما إذا رفضتن فلن تكون له حيلة في الأمر؛ لأنه لا يستطيع إنفاق عمره هنا. وعندما تنبِّه السيدة ويمان ابنها إلى عدم مخاطبة شقيقته التي تكبره بعامين، بلهجة ساخرة، يجيبها الابن في ثورة: الأخت الكبرى … والأخ الأصغر! هل تشبَّعنا بتقاليد المصريين المضحكة إلى هذا الحد؟! ثم يعاود جفري تهكُّمه على التقاليد والعادات المصرية، عندما يتحدث عن رفض أخته للسفر مع الضابط الإنجليزي: صدِّقوا ما تقوله، فإنها رأت الميجر جاكسون في تلك اللحظة لأول مرة! ألم نفرض عليها الزواج به دون أن تراه كما يفعل أهل الفتيات المصريات؟!
«سيتحقق لنا الصفاء بعد أن نتفاهم، وبعد أن تنحازي إلى جانبي بعد انحيازك إلى جانبهم. لا بد أن تعرفيهم على حقيقتهم، ولو عرفهم الناس على حقيقتهم لانتهت مأساة العالم، وطلع عليه فجر جديد سعيد.
– اهدأ يا أحمد … اهدأ قليلًا … إنك ترتجف.
لا بد أن تعترفي أن حضارتهم زائفة.
وانفرج فم لورا، وحملقت: لا يمكن إقناعي بذلك أبدًا.
– الحضارة الأوروبية شكلية، وليست موضوعية.
– هل تحاول أن تنكر الشمس يا أحمد؟
وبلغت حماسة أحمد مداها: الحضارة الأوروبية مصطنَعة، متولِّدة من الصناعة، هدفها الأساسي تجميل المأوى والملبس وتوفير رغد العيش، ووسيلتها المنافسة الحرة التي يفترس فيها القوي الضعفاء، ومعنوياتها أساليب متعارف عليها في المعاملة وملاطفة يقوم أغلبها على الرياء و …
وقاطعته لورا: وما لب الحضارة في نظرك؟
– الإنسانية … ارتقاء التصور الإنساني إلى أسمى مراتبه.
– وهل يحُول الرقي الصناعي دون ذلك؟
– أبدًا … بالعكس … ولكن الذي يحُول دونه هو المنافسة الحرة في سبيل الكسب، أو في سبيل استعباد الضعيف.
ونما في نفس لورا حب الاستطلاع: هل تجد الأوروبيين مجرَّدين من الإنسانية؟
– إنها تختنق في صدورهم، وإلا لما انعدمت المحبة والعدالة اللتان تتحدثين عنهما دائمًا.
– هذا قول فريد عجيب.
– هناك فريق الأغنياء ذوي السلطان الذين يفترسون الضعفاء الفقراء، فيخنق الجشع والافتراس إنسانيتهم. وهناك فريق أولئك الضعفاء والفقراء الذين تختنق إنسانيتهم أيضًا تحت وطأة العوز والدَّين. والعجيب أن كلًّا من هذين الفريقين في أوروبا، يود أن تزداد مستعمرات دولته، ويزداد استغلالها لسائر شعوب الأرض، فتزداد إنسانيته اختناقًا.
– هل ترى إذن أن أوروبا بأسرها خالية من الشرفاء الإنسانيين؟
– لا … إن بها كثيرين منهم … وهؤلاء يقولون عن مواطنهم نفس ما أقول.
– هل أنت مقتنع حقًّا بما تقول؟ هذا عجيب.
– بل الأعجب ألَّا تقتنعي به أنتِ على وضوحه. أوَ لم تقولي إن المحبة والعدالة تنقصان العالم؟ أليسا هما عماد الحضارة الحقة؟ ألم تسألي نفسك قطُّ عن السبب الذي يحُول دون توطدهما؟
وأطرقت لورا قليلًا، ثم سألته: وآداب أوروبا وفنونها … هل تنكر قيمتها أيضًا؟
– لا … فهي ذات قيمة فنية شكلية أيضًا، ولكنها ترفيهية على الأغلب.
وشهقت لورا، وواصل أحمد حديثه: إن أغلبها يداعب أهواء الموسرين ذوي النفوذ الذين تحدثت عنهم. وأقلها يهتم بالفقراء الضائعين، ويحاول أن يقف إلى جانبهم، ويعينهم على الخلاص مما هم فيه.
– من أين لك العلم بكل هذا يا أحمد؟
وأحس الفتى المتحمس أن كلامه أحدث بعض الأثر، فقال في اطمئنان: لست أنكر أني قرأت ذلك في كتب أوروبية، ولكنها كتب الشرفاء الذين تحدثت عنهم.
– أوروبيون؟ ما دام في الدنيا أمثال هؤلاء، فهناك أمل … أليس كذلك؟
– هذا ما لا شك فيه … ولكن الطريق إلى تحقيقه شاق طويل، ولا بد أن يعمل كل فرد شريف على تعبيده.
وكان المساء قد بدأ ينشر ظلاله، وهبَّت نسمة رطبة سجواء، فضمَّت لورا ذراعيها إلى صدرها وارتجفت، ولم يلحظ أحمد ذلك، وقال فجأة: لا بد أن نتحرر من سيطرة بلادك على بلادنا، وعلى عقولنا.
واشتدت رعدة لورا، وغمغمت: على عقولكم؟
– نعم، إنهم عطَّلوا موارد إنتاجنا المادي وصدَّروا لنا السلع، وعطَّلوا إنتاجنا الذهني، وصدَّروا لنا الأفكار … عندما أمتحن أفكاري اليومية، أجد أغلبها إنجليزيًّا.
وقالت لورا وأسنانها تصطك: أشعر ببرد شديد يا أحمد … فهل ننصرف؟
وقال أحمد وهو ينهض: لا بد أن تتحرر عقولنا.»
إن أحمد منصور يقول للورا في ختام الرواية: كم كنت أشتهي تقبيلك وقتذاك يا لورا.
فتهتف في لوعة: وما الذي منعك؟ ما الذي منعك؟ وماذا يمنعك الآن؟
والحق أن هذه القبلة لو جاءت في أوانها، لغيَّرت من مسار الخيط الأبيض، والثورة بالتالي.
ولكن: هل تعبِّر لورا ويمان — حقيقة — عن الاحتلال؟ وهل يعبِّر أحمد منصور عن مصر الثورة؟
إن الأثر الذي يخرج به القارئ من الخيط الأبيض — رغم الرمز الواضح — هو التعاطف مع لورا ويمان، والسخط على أحمد منصور. فقد كانت كل تصرفاتها دليلًا على النبالة الأصيلة، والحب الذي لا ينشد مقابلًا أو منفعة؛ فهي لم تنكر إنجليزيتها، لكنها كانت صادقة في حبها لمصر، ورغبتها في الانتماء إليها، بل إنها قابلت خيانته لها بنفسٍ متسامحة، وذهبت إلى حد دفعه للزواج من فتاته المصرية. أما أحمد منصور، فقد أكد لها أن النتيجة الحتمية لحبه العميق — حب لم يحاول تأكيده بقبلة واحدة رغم سنوح عشرات الفرص — هو الزواج. ثم ما لبث أن تخلَّى عنها في أنانية غريبة ليجود عليها في نهاية الرواية بتلك القبلة المتأخرة، التي تعبِّر عن الإشفاق على تلك المخلوقة البائسة، بعد أن أودى بها حبها له إلى مصيرها المؤلم — دون أن تعبِّر عن حب حقيقي أصيل.
•••
ولعل السؤال: ماذا كان يحدث لو تزوج أحمد منصور من لورا ويمان … لعل ذلك السؤال يجد إجابة له في رواية محمد أمين حسونة «مصر الحرة» أو «أشبال الثورة» (١٩٣٠م). لقد اكتفى الشوباشي بفترة الصداقة للخروج بنتيجة محددة، هي — في المستوى الواقعي — صعوبة زواج المواطن المصري أحمد منصور من الإنجليزية لورا ويمان، أو — في المستوى الرمزي — استحالة التزاوج بين الحضارتين المصرية والغربية في الظروف القائمة وقتذاك. لو أننا اعتمدنا الدلالات الظاهرة، فإن أحمد منصور هو الشاب المصري المثقف الذي يريد أن يأخذ من المدنية الغربية أفضل ما فيها، ويهمل جوانبها السلبية الأخرى. أما لورا ويمان فهي تعبير عن موقف الأقلية الأجنبية المتعاطفة مع الشعب المصري، وإن لم يخلُ ذلك الموقف من استعلاء، وأما الزوجة المصرية رجاء، فقد أكد الفنان أن مصريتها هي التي جذبت البطل إليها، فهي إذن تعبير عن مصر.
وفي رواية «مصر الحرة»، أو «أشبال الثورة» لأمين حسونة، اقتحم الفنان التجربة، وسار في الدرب إلى غايته، حتى تزوج المواطن المصري محمد عزت من الإيطالية فلورانس ويفاني … فماذا كانت النتيجة؟
انتهى الزواج بالفشل. ومهما يكن من تفاهة الأسباب التي مهَّد بها الفنان لذلك الفشل، وفي مقدمتها الوهم الذي سعى به كلٌّ منهما إلى الارتباط بالآخر، فهو قد أقدم على الزواج مدفوعًا برغبته في أن يضع يده في ذراعها، سائرًا بها في الشوارع والطرقات، لكي يتباهى على أبناء وطنه بأنه فاز بقلب امرأة تمتاز برشاقتها وظرفها وعلمها من بنات جنسه، وهي قد اجتذبها نحوه عامل «الشهوة البهيمية والغريزة الحيوانية المتأصلة في المرأة.» ورغم تفاهة الأسباب التي ارتكز إليها فشل الزواج من وجهة نظر الفنان، فقد انتهى الزواج بالفشل، ولنفس السبب الذي حدَّده الشوباشي في «الخيط الأبيض». وبعكس إقبال أحمد منصور على رجاء في «الخيط الأبيض»، وتفضيله لها على الأجنبية لورا ويمان، فإن محمد عزت في «مصر الحرة» يتخلى عن ألفت في نذالة غريبة:
«… وها إنه لم يبق لي في العالم سواك، وقد جئتك ملتجئة أطلب عونك ويدك … فهل تتخلى عني أنت أيضًا؟
– لا … ولكن …
– ولكن ماذا أيضًا؟
– ولكن أنتِ تعلمين يا ألفت قسوة جدي معي. ماذا يكون جوابي إذا حضر في زيارتي يومًا ورآك، ثم سألني مَن تكونين؟ تصوري أي موقف حرج أقفه يومها أمامه! ماذا أقول؟ وبأية لفظة أجيبه؟ أأقول له إنها عشيقتي أو خليلتي جاءت تقاسمني الحياة؟ لا … لا … يا ألفت، خير لك أن تعودي إلى منزل أبيك، وأن ترضخي لأمره. وإذا لم يكن مقسومًا علينا في لوحة القدر أن نتشارك في حياة زوجية صحيحة، فهذه إرادته تُنفَّذ علينا كما تُنفَّذ على أشتات الناس جميعًا. لتكن صداقتنا أوفى من ذلك الرجاء الذي نستدرج به يد المستقبل على غير جدوى … وليكن وفاؤنا في هذه الصداقة عوضًا عن خيبتنا في أحلامنا.» لكن أمين حسونة يزيح غشاوة الانبهار بالحضارة الغربية عن عين محمد عزت شيئًا فشيئًا، بعد أن سافر إلى أوروبا، وغمره «تيار تلك الروح الغربية المملوءة بالتهتك والخلاعة، والتي ما زالت الروح المصرية تأباها وتتعفَّف عن الاندفاع في شهواتها.» (لاحظ أن المبررات هنا أخلاقية، بعكس الخيط الأبيض التي ترتكز إلى مبررات عقلانية وعاطفية) ثم يفيق إلى نفسه تمامًا عندما تتكشَّف له خيانة زوجته، فيهجرها، ويعود إلى ألفت وإلى ابنته الصغيرة منها.
•••
تبقى حقيقة هامة، هي أن اختيار الإسكندرية أرضية لأحداث الخيط الأبيض لم يأتِ عفوًا ولا مصادفة. فقد كانت الإسكندرية هي أكثر مدن مصر ازدحامًا بالأوروبيين، كان عددهم أثناء الحملة الفرنسية لا يزيد عن مائة شخص، لكن نابليون استشرف أهميتها بالنسبة للمستقبل في قوله: «هذه المدينة يجب أن تكون عاصمة الدنيا، فهي واقعة بين آسيا وأفريقيا، وعلى مسافة قصيرة من الهند وأوروبا.» وظلت الإسكندرية، حتى أوائل القرن التاسع عشر مدينة صغيرة، قليلة الشأن، ينحصر كردونها بين الميناء الشرقية والميناء الغربية، ثم بدأ ميلادها الحقيقي في ١٨٢٠م، بعد إتمام حفر قناة المحمودية: أخذت تعمر، وتتسع مساحتها، ويزداد عدد سكانها باطراد، وكان من بين تلك الزيادة نسبة كبيرة من الأجانب. وثمة حوار بين أحمد منصور ولورا ويمان، يشير إلى أنه كان للأجانب أحياؤهم المغلَقة والمنعزِلة — إلى حد كبير — عن الأحياء الوطنية. فهو يطل بها من نافذة مكتبه الجديد بحي العطارين، وتبدي استياءها من كل شيء، فيسألها: ما عيب هذا الشارع؟ أليس شارعًا تجاريًّا مليئًا بالدكاكين ومكاتب أصحاب الأعمال؟
– ما اسمه؟
– شارع مسجد العطارين.
– لم أسمع به قطُّ.
– وأي الشوارع سمعت به؟
– شارع رشيد … وشارع محطة الرمل … وشارع المسلة … و…
– أنت لم تذكري إلا شوارع الحي الأوروبي؟!
ولا جدال في أن تفضيل الأجانب للإسكندرية يأتي لجملة عوامل، في مقدمتها أن السفن الوافدة من أوروبا كانت ترسو في ميناء الإسكندرية. وكانت تخلِّف بعد رحيلها عددًا من الباحثين عن المغامرة وطلب العيش. ومن بين تلك الأسباب كذلك أنها تتمتع بجو «بحرسطي» (نسبة إلى البحر المتوسط) فهي لهذا أقرب إلى الجو الذي ألِفه الأجانب في بلادهم، بالإضافة إلى أن هذا الجو مكَّن الإسكندرية من إنشاء صناعات مهمة، مثل غزل القطن ونسجه، وهي صناعة تتطلب جوًّا معتدلًا يميل إلى الرطوبة، وأصبحت الإسكندرية تؤدي وظيفة مدينتَي ليفربول ومانشستر في إنجلترا. ففيها تتم عمليات تشوينه وبيعه وتصديره، وكلها — أو معظمها — عمليات كان يتولاها الأجانب. وثمة سبب آخر يعود إلى عام ١٨٢١م عندما أعلن عن نجاح غزالي لانكشير في تصنيع القطن المصري، وتزايد الطلب من حوله، حتى أصبح في وقت قصير من أهم مصادر الدخل الحكومي، فجاءت أعداد من التجار الأجانب — والإنجليز بخاصة — إلى مصر، وأقاموا في الإسكندرية. ومن بين الأسباب أيضًا، قرار الحكومة بتجميع كل الحاصلات الزراعية التي يُراد تصديرها في الإسكندرية، وبيعها هناك. فضلًا عن قرار آخر يحظر على التجار الأجانب شراء المحاصيل من الزرَّاع مباشرة، فلجأ التجار الأجانب إلى الإقامة في الإسكندرية، وأنشَئوا شركاتهم ومكاتبهم فيها، حتى بلغ عددهم في ١٨٦٨م أكثر من مائة ألف نسمة. أما آخر تلك الأسباب فهو أن الإسكندرية أصبحت — بعد الاحتلال — عاصمة البلاد الفعلية، نتيجة لإقبال المئات من الأجانب إلى الهجرة إليها. وكانت أكبر المواني المصرية في عهدٍ لم يكن قد عرف الطائرة بعد، وإفادتهم من النفوذ الاستعماري القائم في تحقيق ثروات هائلة، غير مهمِلين أن يجعلوا من الإسكندرية مظهرًا أكثر حضارية من بقية المدن المصرية — وأعني بالمظهر الحضاري: الشوارع المرصوفة، والأبنية الضخمة، والمرافق المتكاملة — لكن ذلك المظهر الحضاري اقتصر على الحي الأوروبي فقط، وبعض الشوارع التجارية المهمة. أما الأحياء الوطنية فقد كانت تعاني التخلف وانعدام الرعاية الصحية والاجتماعية. ففي عام ١٨٦٩م كوَّن تجار القطن — ومعظمهم من الأجانب — لجنة فيما بينهم، وفرضوا رسومًا معينة — يحصِّلونها من أنفسهم — على القطن والغلال، لتنفَق في رصف شوارع ميناء البصل والميناء الشرقية، التي كانت تُعقَد بها صفقات بيع القطن. وفي نفس العام، أنشئت بلدية مؤقتة تتولى الإصلاحات المهمة في المدينة. ثم صدر في يناير ١٨٩٠م مرسوم بتشكيل مجلس بلدي الإسكندرية — ومعظم أعضائه من الأجانب — لينهض بأعباء تخطيط المدينة وتنظيمها، ورفع مستواها الإداري والمدني والصحي والاجتماعي، لكن مجال تلك الخدمات لم يجاوز — إلا نادرًا — أحياء الأوروبيين ومناطق المكاتب التجارية والتصدير.