بذرة المقاومة في حديث عيسى بن هشام
وإذا كانت الخيط الأبيض قد عبَّرت — بالرمز — عن استحالة التزاوج بين الحضارة الغربية
والمجتمع المصري، في الظروف القائمة آنذاك، فإن «حديث عيسى بن هشام» و«ليالي سطيح» و«طلائع
الأحرار» وغيرها من الأعمال التي صدرت في تلك الفترة، أو عرضت لها، تضغط على نمو بذرة
المقاومة، بداية من السخط على الحياة الاجتماعية في «حديث عيسى بن هشام» إلى الإعداد
للثورة في «طلائع الأحرار».
أما «حديث عيسى بن هشام» فهي العمل الأدبي الوحيد الذي يعرض للفترة منذ بداية الاحتلال
(١٨٨٢م) إلى أوائل القرن العشرين. إن تلك الفترة التي تقرب من خمسة وعشرين عامًا، تكاد
تكون مجهولة تمامًا في الأعمال الأدبية، اللهم إلا «الحديث» الذي يقصر تناوله على
الجوانب الاجتماعية منها. وربما تُعَد «ليالي سطيح» تعبيرًا عن الجوانب السياسية لتلك
الفترة؛ فهي تعرض لحملة السودان، ومساوئ الإدارة الإنجليزية، وزيادة النفوذ الأجنبي،
وغيرها من الأحداث التي كانت نبضًا لتلك السنوات التي أهملها التاريخ والفن في آنٍ.
«الحديث» أول عمل نثري فني — بعد لوحات النديم — يعرض لمظاهر الحياة المصرية، ويناقش
أدق مشكلات المجتمع في مختلف ظواهرها، فضلًا عن تبشيره البارع بالحضارة الوافدة في رحلة
أوروبا، التي سبقتها إيماءات ذكية إلى المخترعات الحديثة، و«الحديث» — إلى ذلك — تعبير
عن المرحلة الجنينية للاتجاه الواقعي في الأدب المصري، ذلك الاتجاه الذي استهدف — ربما
للمرة الأولى — عرض مظاهر الحياة الاجتماعية المصرية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل
القرن العشرين، بنقدات صريحة وقاسية، تميل إلى الأسلوب التقريري المباشر، وتذكِّرنا —
بصورة ما — بالدور الذي قام به الجبرتي، في عرض مظاهر الحياة السياسية للمجتمع المصري،
منذ أواخر عهود العثمانيين إلى عهد محمد علي. وقد اعتبر محمود تيمور «حديث عيسى بن هشام»
«أول كتاب قصصي راقٍ ظهر في البلاغة القصصية المصرية، فإذا أردنا أن نكتب عن تاريخ
القصة المصرية الحديثة وجب علينا أن نبدأ بحثنا بهذا الكتاب.»
١ بل إن «الحديث» — رغم قالبه الفني الساذج — يذكِّرنا — بصورة أخرى — بأعمال
نجيب محفوظ التي تبدأ ﺑ «خان الخليلي»، وأعني بها أعمال مرحلة الواقعية الطبيعية. لذلك،
فنحن نرى — باطمئنان — أن «الحديث» كان قراءة أساسية لمؤلفي الأعمال القصصية التي تلت
صدوره، ابتداء من حافظ إبراهيم في «ليالي سطيح»، إلى توفيق الحكيم في «عودة الروح»، مرورًا
بأعمال محمود طاهر حقي ومحمد تيمور وحسين فوزي وعيسى عبيد وشحاتة عبيد ومحمود طاهر
لاشين وغيرهم.
صلاح ذهني يذهب إلى القول إن «الحديث» يتناول فترة من الزمن، هي فترة الاحتلال
البريطاني لمصر، أو عهد الركود الذي سبق الثورة المصرية، فهي تعرض لفترة من الزمن تمتد
ثلاثين عامًا في الأقل من حياة مصر، «وهي أعوام لها قيمتها لأنها سبقت ثورة.»
٢ وفي تقديري أن «حديث عيسى بن هشام» مرآة صادقة، تنعكس عليها صورة الحياة
الاجتماعية في مصر، أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين — لا أقول الحياة
السياسية؛ لأن الجبرتي — المؤرخ السياسي — كتب يومياته في مخطوطات قرَّاؤها قلة، ومع
ذلك،
فثمة ترجيحات على أنه مات مقتولًا بأيدي أعوان محمد علي. أما المويلحي، فإنه بدأ نشر
قصته في عام ١٨٩٨م في جريدة «مصباح الشرق»، وأتمَّ فصولها عام ١٩٠٠م. وكان الاحتلال قد
أحكم
قبضته على كل شيء. ومن هنا، خلت القصة من الحدث السياسي، لكنها لا تخلو من لمحات ذكية،
عميقة الدلالات. إن لقطات المستشرق إدوارد لين في رحلته إلى مصر، ولمحات النديم في
«التنكيت والتبكيت»، وزوايا السحار في «قلعة الأبطال»، هي ظلال الصورة الاجتماعية، أما
«حديث عيسى بن هشام» فهو تفاصيل الصورة ذاتها.
•••
لم يكن الفن — وحده — هو الدافع لأن يكتب المويلحي حديث عيساه، لقد تزاوج الهدفان:
الفني والاجتماعي، وربما كان الهدف الفني قالبًا أفرغ فيه المويلحي هدفه الاجتماعي (ألا
تُعَد دعوة مبكرة لقضية الفن من أجل المجتمع؟!) خاصة أن «الحديث» يعرض لفترة بالذات هي
التي تولى فيها كرومر السلطة في البلاد. يقول المويلحي: «فهذا الحديث، وإن كان في نفسه
موضوعًا على نسق التخييل والتصوير، فهو حقيقة متبرجة في ثوب خيال، لا أنه خيال مسبوك
في
قالب حقيقة، حاولنا أن نشرح به أخلاق أهل العصر وأطوارهم، وأن نصف ما عليه الناس من
مختلف طبقاتهم من النقائص التي يتعيَّن اجتنابها، والفضائل التي يجب التزامها.» لذلك
فنحن
نرفض القول بأن المويلحي «لم يجرؤ أن يُحدِث ثورة كاملة، تشمل الموضوع والشكل»، فالواقع
أنه كان صادقًا مع نفسه. إنه لم يدرك ثورة الشكل والموضوع بالصورة التي يجرؤ بها، أو
لا
يجرؤ، على أن تكون محورًا لثورة، ذلك الصدق الذي يتبدى — كأوضح ما يكون — في نقداته
العنيفة لنواحي القصور في المجتمع المصري. وظني أن ثورة المضمون تحتاج إلى جرأة تفوق
—
بأضعاف مضاعفة — تلك الجرأة التي تستهدفها ثورة الشكل، إن كانت ثورة الشكل تستحق ما
يمكن تسميته بالجرأة على الإطلاق. مع ذلك، فثمة رأي ينتصر لرواية المويلحي على رواية
الحكيم «عودة الروح»، فالثانية كُتبت في ضوء المعطيات الأوروبية في اللون ذاته. أما
«الحديث» فهي قد استلهمت شكل المقامة الأدبية بالصورة التي قدمها من قبل بديع الزمان
الهمذاني والحريري.
•••
المقامة جمعها مقامات، وهي اسم للمجلس، أو الجماعة من الناس. وكما يقول عبد الله
أبو
هيف، فقد تحددت المقامة في المجلس الذي يقوم فيه شخص بين يدي خليفة، أو مسئول ما،
ويتحدث واعظًا. ثم استعملت الكلمة بمعنى المحاضرة، وأعفيت بالتالي من معنى القيام،
وأصبحت تعبيرًا عن حديث الشخص في المجلس سواء أكان قائما أم جالسًا.
٣ المقامة إذن فن قصصي عربي، له جذوره في مقامات الزهاد عن الخلفاء الأوائل،
وأحاديث ابن دريد، ورسائل أحمد بن فارس، وحكاية أبي القاسم البغدادي للأزدي، ويجد
امتداداته في مقامات بديع الزمان الهمذاني وأبي الحسن المختار بن بطلان والغزالي
والحريري والزمخشري والسمعاني والسهروردي والبصري والشاب الظريف وابن الوردي.
٤ ويذهب بروكلمان إلى أن أقدم معاني كلمة «المقامة» يرجع إلى عهود الجاهلية.
ثم اتسمت — في العصر الأموي — سِمة دينية، وتطورت — فيما بعد — فأصبحت تُقرَن بالشعر
والأدب وأخبار الوقائع القديمة. ويعرِّف شولتز المقامة بأنها شكل ذو أنواع متعددة، فهي
بهذا تشبه القصيدة، وإن كانت تبدو عربية تمامًا، بعكس الأنواع الشعرية العربية التي تجد
مقابلًا لها في الثقافات الأجنبية. أما الأسباب الحقيقية لظهور المقامة — في تقدير
شولتز — فهي غير معروفة «إنها زهرة برية لا تعرف كيف تفتحت.»
٥ أما محمد لطفي جمعة فهو يرى أن المقامة الأدبية نواة القصة القصيرة، لأنها
تنطوي على عقدة وشخصيات.
٦ وهي — في اجتهاد آخر — جنس أدبي قصصي، يحتل مكانة وسطى بين كثافة الحكمة
والمثل، وترهُّل الحكاية الشعبية.
٧ ويرى أحمد درويش إنها تمثِّل مظهرًا ثقافيًّا يضرب بجذوره بعيدًا في تربة الفن
القصصي العربي. وإذا كان قد تولَّد عنه كثير من الأشكال القصصية الأخرى التي استجابت
إلى
تطور وسائل التقدم المرئية أو المسموعة أو المقروءة، وإلى سرعة الإيقاع في الحياة، وما
ترتَّب عليه من وجود ألوان من التخفيف في قيود الوحدات اللغوية المتتالية، مما لم تكن
المقامة تسمح بالتخفُّف منه غالبًا.
٨ أما عبد الله أبو هيف فهو يجد في المقامة شكلًا قصصيًّا، بل جنسًا قصصيًّا
متكاملًا «لوفرة عناصر القص فيها، وقابلية رؤية العالم والمصائر الإنسانية بالمعنى
الأعم، على الرغم من غلبة الأحاديث الأدبية واللغوية على تركيبها، فهي تُساق على نمط
حكاية لأحد الرواة في جماعة من الناس، والقالب القصصي فيها واضح لا يخلو من تشويق وإمتاع.»
٩ بل إن الناقد الفرنسي رينيه إيتاميل يرفض أن يعترف بعالمية الرواية دون
الرجوع إلى مقامات الحريري.
١٠ والملاحَظ أن المقامة كانت هي اللون الأدبي الأكثر انتشارًا في الفترة بين
أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ثمة مقامات اليازجي، وكتاب علم الدين
لعلي مبارك، والمقامة الحلوانية أو اللغزية لمحمود سلامة، وحديث عيسى بن عصام لإبراهيم
المويلحي، وليالي سطيح لحافظ إبراهيم، وصهاريج اللؤلؤ لتوفيق البكري، وغيرها. وحين قدَّم
سليم تكلا طلب ترخيص «الأهرام» ذكر أن مقاصده طبع بعض الكتب كمقامات الحريري. وظل
للمقامة تأثيرها، حتى إن القمص أيوب سميحة نشر في مجلة «صهيون» — تأمل الاسم! — (يناير
١٩٤٤م) «المقامة الصهيونية»، ثم حاول أن يطوِّع الشكل ليتناول — مضمونيًّا — اهتمامات
العصر. لجأ المويلحي إلى التراث، بحيث يحقق «الحديث» تواصلًا للأدب العربي في مراحله
المختلفة، مع إفادة واضحة من الأدب الغربي.
١١ القيمة السردية للحديث أنه «يشير بوضوح، وعلى كل المستويات، إلى أن شكلًا
أدبيًّا قديمًا قد مات، وأن شيئًا جديدًا آتٍ، فلغته تنبثق من الأسلوب النثري التقليدي
المسجوع الذي كانت تُكتَب به المقامة، لتمر بمستويات أو مراحل متعددة من النثر الذي فيه
أنه أكثر مباشرة وأقل زخرفة، بحيث يغدو أقرب إلى لغة الصحافة العربية الجديدة.»
١٢ إنها نقطة انطلاق رئيسة، توافق بين الشكل الأدبي، وبين التحولات التي تطرأ
على النسيج الواسع للبنية الاجتماعية، فلغة المقامة بنثرها المسجوع تقترب — إلى حدٍّ
كبير — من لغة الصحافة.
١٣ وكما يصفها نجيب محفوظ — فإنها «همزة وصل بين التراث والمعاصرة.»
١٤ وثمة مَن وصف «حديث عيسى بن هشام» بأنه من أكبر الثورات في مصر، «لأن الذي شق
المقابر، وأخرج لنا من الموت نشورًا جديدًا لإنسان، هو — في حقيقة الأمر — أخرج لنا
لغة، فاللغة العربية المتداوَلة قبل عيسى بن هشام كانت نظريات ومقالات أدبية ومقالات
سياسية، وعظ وإرشاد، ولم تدخل اللغة الفصحى إلى البيوت والمحاكم والشوارع، إلى الأماكن
الحياتية، كمكتب المحامي وقسم الشرطة، إلا بعد هذه الثورة الأدبية المتجسِّدة في حديث
عيسى بن هشام. المويلحي أرغم أنف اللغة الفصحى على الخروج من التوابيت والمقابر، لتجوس
في الشوارع، ولهذا أؤكد أنه من أكبر الثورات الأدبية في مصر.»
١٥
•••
عيسى بن هشام — الراوي — رأى في المنام، كأنه يسير عند مقبرة الإمام الشافعي، وكان
القمر ساطع الضياء، والسكون عميقًا، وثمة تأملات تملأ ذهنه عن مصير الإنسان، وعبث
الحياة. وفجأة، انشق أحد القبور، وخرج منه ميت في أكفانه. كان الميت هو المنيكلي باشا
الذي عاش في عهد محمد علي، وتُوفي عام ١٨٥٠م. وبعد نقاش طريف، يصبح الحي والميت صديقين.
ويغادر الرجلان مقبرة الإمام الشافعي، وينطلقان إلى القاهرة، بعد أن استبدل الباشا
بأكفانه معطف عيسى بن هشام، وفي أول طريقهما يصادفان مكاريًا — حمَّارًا — يصر على ركوب
الباشا لحماره، لأنه — في زعمه — أشار إليه. ويتشاتم الباشا والمكاري، وينادي المكاري
على «البوليس» الذي كان في شغل عنه «وقف وفي يده منديل أحمر، امتلأ بما يعرضه الباعة
لقاء سكوته عن مخالفاتهم.» ويذهب الجميع إلى قسم الشرطة، وهناك يأمرهما أحد الجنود
بالصمت «لأن حضرة المعاون غريق في نومه»، فيتجهون إلى حجرة الصول «فوجدناه يأكل والقلم
في أذنه، وقد نزع طربوشه، وخلع نعليه، وحل أزرار ثيابه، وبجانبه اثنان من الفلاحين،
أظنهما من أقربائه، يشاهدان ما يتمتع به من لذة الأمر والنهي.» ويطردهم الصول من الحجرة
حتى ينتهي من طعامه، ثم يأمر بتجريد «دفتر التشبيه» للباشا، واقتياده إلى «خشبة
المقاس»، ثم مبيته في القسم للكشف عن سوابقه قبل ذهابه إلى النيابة. ويبكر عيسى بن هشام
في الذهاب إلى الباشا، ليجده في طريقه إلى «دار المحافظة»، ومن هناك إلى النيابة التي
أمرت بإحالته إلى المحاكمة. ويقف الباشا أمام القاضي بضع دقائق، يحكم عليه بعدها بالسجن
عامًا ونصف. ويلجأ إلى محكمة الاستئناف، فتصدر حكمها بالبراءة «لأن التهمة، وإن كانت
ثابتة عليه، إلا أنه قد حالت دونه ودون دعوة القانون قوة قاهرة.» ويعترف الباشا بأن
العدل موجود «ولكنه بطيء لا يحتمل أعباء بطئه البريء.» ثم يواجه الباشا مشكلة محيِّرة؛
إنه لا يملك شيئًا يعينه على حياته الجديدة، بعد أن ضاعت خلال فترة موته أمواله
وأملاكه. ويهتدي إلى أحد أحفاده يطلب عونه، فينكره الحفيد ويطرده، فلا يجد الباشا إلا
تاجرًا من أبناء جيله يَدين له بمعروف، فيعطيه كيسًا من المال حتى يستعيد وقفه، وتمر
أشهر طوال قبل أن يتأكد حق الباشا في وقفه، وأخيرًا يقف أمام قاضي المحكمة الشرعية،
الذي يأمر بالتأجيل. ويحس الباشا أوجاعًا في جسده، فيعرضه عيسى بن هشام على أكثر من
طبيب، يخالف كلٌّ منهم الآخر في حقيقة الداء، حتى يشير أحدهم بأن الباشا ليس مريضًا،
لكنه
في حاجة إلى الراحة، وإلى تغيير الهواء (هذه الحادثة بالذات إرهاص بالإيمان بالعلم
الحدي، الذي يتمثَّل في الطبيب الشريف الذي عالج الباشا، وخلَّصه — في الوقت نفسه — من
بعض
مجرمي الأطباء، كما يتمثَّل في معمل الكيماوي الذي رأى فيه الباشا وعيسى ملايين
الميكروبات تسبح في نقطة من الماء تحت عدسة الميكروسكوب.) ويشد الباشا وعيسى الرحال إلى
الإسكندرية، ليفاجآ بأن الطاعون قد حل بالمدينة، فيقفلان إلى القاهرة، ليجدا أن وباء
«الهواء الأصفر» قد انتشر في البلاد كلها، ويعتزلان في إحدى الضواحي، يقرآن ويطالعان.
ويجد الباشا في تلك الحياة بُغيته، فيطلب من عيسى أن يذهب به إلى الندوات الأدبية. يختار
له عيسى — في البداية — ندوات الأزهر، فلا يصادف الرجل إلا كلامًا متزمتًا سلفيًّا: كل
المخترعات الحديثة والمقومات الحضارية بدع، الإشارة إليها زندقة وكفر. ويختار عيسى ندوة
ثانية يعقدها بعض الأعيان والتجار، فلا يجدان إلا أحاديث فارغة تدور حول لا شيء.
ويختار عيسى مجلسًا ثالثًا أصحابه من المشتغلين بالوظائف العامة، يتناولون في أحاديثهم
عشرات المشكلات والأنباء: صراع الجيش والأحزاب في فرنسا، والمقارنة بين الموظف والتاجر،
وقراءة الصحف اليومية. ثم يذهبان إلى بيوت الأمراء والنبلاء من أفراد الأسرة العلوية،
فيفاجآن بأنها لا تضم إلا الحاشية والخصيان. أما أصحابها، فهم يقضون وقتهم جميعًا في
«الكلوب»! وهناك يروعهما الأموال الهائلة التي تنفق في «المنادمة والمراهنة
والمغامرة». ومع ذلك، فالأبناء ساخطون على الآباء لقلة الأموال الموروثة، بل إن أحدهم
يقول: «وماذا لقينا من الجميل عند المصريين حتى نذكره لهم بغير القدح والذم؟!» ويُدعى
عيسى إلى حفل عرس، فيصحب الباشا معه. وبعد تناول الطعام، ينصرف العلماء والمشايخ، ذلك
«لأنها عادة ألفوها في الولائم والمآدب»، إذا انتهوا من غسل أيديهم — بعد تناول الطعام
—
بادروا إلى الخروج من العرس. إنهم يعملون بقوله تعالى «فإذا أطعمتم فانتشروا». ثم يبدأ
الغناء والمغنون. أحدهم يمزح ويقهقه، والآخر يتمطى ويتثاءب، وهذا يبصق يمينًا ويتمخط
شمالًا، وذاك يصيح بأعلى صوته: القهوة … القهوة. مرد ذلك إلى أن هؤلاء المغنيين «نشَئوا
في أمة يرى السواد الأعظم منها أن صناعة الغناء من سائل الصناعات، وأن في ممارستها حطة
ونقصًا، فصغرت لذلك نفوس المغنيين، وهانت عليهم صناعتهم، ولم يروا فيها سوى أنها أداة
للكسب والارتزاق، على مثال بقية الصناعات، فهم والحدَّادون، أو هم والبنَّاءون سواء بسواء،
وذهلوا كل الذهول عن جمال الصنعة وجمالها.»
١٦ ويدخل إلى الحفل عدد من الأجانب من الرجال والنساء، بيدهن آلات التصوير
«يحملنها ليأخذن بها مناظر الحرم وصور النساء في زينتهن وتبرجهن، وما تكون عليه هيئة
الزفاف، ليتهادين بها إذا رجعن إلى ديارهن، وربما نُسخت منها ألوف النسخ لتُباع في
الأسواق الأوروبية، وتُنشر هناك للاستهزاء والسخرية.»
١٧ ثم يذهب الباشا وعيسى إلى حديقة الأزبكية، وهناك يلتقيان بأشخاص ثلاثة:
عمدة وتاجر وشاب رقيع. يزيِّن الشاب لصديقيه قضاء «سهرة» لقاء بعض المال، ويرقب الباشا
وصديقه، الأصدقاء الثلاثة، وبين مطعم ومرقص وبار، ينفق العمدة أمواله جميعًا، حتى يضطر
إلى رهن ساعته وخاتمه، سدادًا لأثمان بعض المشروبات، ثم يقترض مبلغًا بالربا الفاحش،
وينتهي به الأمر إلى قسم الشرطة (التقط الريحاني في أثناء الحرب العالمية الأولى، ذلك
العمدة المفتون بليل القاهرة، وحوَّله إلى شخصية كاريكاتورية، هي كشكش بيه عمدة كفر
البلاص. هو — كما يصفه الريحاني — عمدة من الريف، وفد إلى مصر، يحمل الكثير من المال،
فالتفَ
حوله فيها فريق من الحسان، أضعن ماله، وتركنه على الحديدة، فعاد إلى قريته نادمًا،
وأقسم — بعد أن ثاب إلى رشده — ألَّا يعود إلى ما فعل.) كان الباشا قد تعرَّف إلى ما
يود
مشاهدته من مظاهر الحياة في المجتمع المصري القائم، فيطلب من صديقه التعرف إلى حياة
أخرى جديدة، ومن ثَم ينشدان الرحال إلى باريس، سعيًا وراء حضارة، كان تأثيرها واضحًا
في
كل ما صادفهما من ملامح المجتمع المصري.
•••
ولعل أهم ما يستوقفنا عبر صفحات الحديث، ذلك العرض التفصيلي في لوحات متتابعة، تهب
في
مجموعها كل الدلالات التي يريد الفنان أن يقولها. ولنأخذ — على سبيل المثال — وصفه لرجل
الشرطة، ذلك الذي يملأ منديله الأحمر بما يعرضه الباعة، لقاء سكوته عن مخالفاتهم. وعلى
الرغم من تقضِّي عشرات الأعوام ما بين شرطي «الحديث» والشرطي في قصة «بكرة» لمحمد صدقي،
فإن
تشابه الصورتين يصل إلى حد التطابق: المرور على الباعة، والحصول على بضع ثمرات من كل
بائع، والعودة بها إلى بيته، وإذا كان الدافع الاقتصادي يبدو بديهيًّا في «الحديث»، فإن
الزوجة في «بكرة» تعلنه — صراحة — حين سأل زوجها، بعد انتهائه من الدورية: خيرية … ما
بعتيش الغسالة ليه؟ إذن فلم تكن جولة الشاويش محفوظ اليومية لمجرد إرضاء رغبات شريرة
في الاستحواذ والامتلاك والسيطرة، بقدر ما كانت تعبيرًا عن حاجة ملحة في الحصول على قوت
يومه، الذي لم يكن يكفله له راتبه البسيط.
١٨ المويلحي في حديثه يعبِّر عن الواقع الموضوعي لحياة رجل الشرطة. رد فعل سلبي
لما يعانيه من ضغوط اجتماعية واقتصادية، بعكس ما أبدعه نجيب محفوظ بعد ذلك بأكثر من
خمسين عامًا، عندما يرمز بالعسكري في قصته «حنظل والعسكري» إلى السلطة القاهرة المسيطرة.
إن شرطي «الحديث» إنسان من قاع المجتمع لم يستطع أهله جمع عشرين جنيهًا في تسع عشرة
سنة، أو جنيهًا واحدًا وخمسة قروش وثمانية مليمات في سنة، أو ثمانية قروش وثمانية
مليمات في شهر، أو ثلاثة قروش في يوم، ليدفعها للبدل العسكري، حتى إن ميتشل مستشار
الداخلية المصرية عام ١٩٠٤م، كتب تقريرًا إلى كرومر يقول فيه: «وأجرة العامل في الأرض
في كثير من الجهات، حتى الوجه القبلي، خمسة قروش صاغ يوميًّا، وجميع الأعالي يستطيعون
دفع البدل العسكري، وقدره عشرون جنيهًا مصريًّا، ما عدا الفقير المدقع، فيكون بوليس
المديريات من الطبقة الدنيا، ليحافظوا على القانون والنظام، ويعيشوا وعائلاتهم على جنيه
واحد في الشهر.» أما شرطي «حنظل والعسكري» فإنه لا يقف عند حد الرشوة، لكنه يصادر الرزق،
ويضرب، ويلعب بعقل المحبوبة أيضًا! حنظل يحلم بدنيا جديدة، تدوم فيها معه صداقة
العساكر، لكنه يصحو من نومه ليفاجأ بالواقع كما هو لم يتغيَّر؛ لأن الشرطي هنا يرمز إلى
قوة السلطة المستبدة التي تحرص على أن تحافظ على جبروتها ونفوذها وسطوتها.
•••
أوافق يحيى حقي على أن «حديث عيسى بن هشام» خطوة موفَّقة للربط بين الاهتمامات الأدبية
في
الماضي، وما كان يجب أن توليه في المجتمع القائم. وكان أسلوب المقامة الذي اتخذه
المويلحي قوامًا لموضوعه، هو وسيلة الربط بين الماضي والحاضر. لقد سار بحديثه في طريقٍ
مليء بالعقبات؛ لأن الخيال القصصي كان أمرًا غير مستحب، بل إنه مهد الطريق ﻟ «زينب» هيكل،
فخرجت إلى الناس، ونبضها قصة حب، وحوار عامي، وخيال رومانسي شفاف. وتسبق «زينب» محاولة
أخرى، تسفر عن تأثُّر واضح بحديث المويلحي، وهي رواية «الأميرة يراعة». فالمؤلف — صالح
حمدي
حماد — يبدأ روايته بأسلوب السجع: «كنت جالسًا صبيحة يوم صفا أديمه، واعتل نسيمه،
وتغنَّت بحديقة داري أطياره.» … إلخ.
١٩ ثم يتخلى الرجل عن هذا الأسلوب — عجزًا، أو تطورًا، أو تأكيدًا لذاتيته؟ —
والقصة ذات هدف اجتماعي مباشر، بل إنها — في الواقع — مجموعة محاضرات، لخَّصها صالح حمدي
حماد عن الفيلسوف الفرنسي بول جانيه، وضمَّنها محاولة ساذجة تدور حول أميرة ذائعة الصيت
هي يراعة، تأتي إلى مصر لتلقي بعض المحاضرات في الفضيلة والأخلاق على أهل العلم والأدب
فيها. وكان الراوي واحدًا من هؤلاء المتأدبين، يذهب إلى قصر الأميرة ليتلقَّى محاضراتها
في السعادة والشهوات والعواطف والفكر والأخلاق والفضائل. ثم تزمع الأميرة الرحيل إلى
الصعيد لاستكمال رحلتها، وتخطب ابنة الراوي «سنية» لابن أختها «عقيل بك»، ثم يعدنا
المؤلف برواية ثانية هي ابنتي سنية (الرواية بداية لسلسلة، اختار المؤلف لها عنوانًا
«أحسن القصص»، لكنه — فيما أعلم — لم يُصدِر سواها). نحن لا نجد في الأميرة يراعة أية
إضافة حقيقية، إلا تخلُّص المؤلف من أسلوب السجع الذي اتخذه المويلحي إطارًا لروايته،
لكن «الحديث» أدنى إلى العمل الفني المتماسك من «الأميرة». بل إننا لا نجد في رواية صالح
حماد إضافات حقيقية، سوى الحب، وهو ما لم يأتِ ذكره في «الحديث». وقد وصفه محمد تيمور
بأنه «ذلك الشيطان الرجيم»، فلم يكن الحب سوى تجربة استثنائية بالنسبة لأدباء تلك
الفترة. وكما يرى المازني في قصة حياته، فقد كان ذِكر الحب عيبًا، وكان تقبيل الفتى لأمه
التي أنجبته قلة حياء!
٢٠ وإذا كان عبد الحميد جودة السحار قد عالج قصة حب — في عرضه لأحداث الثورة
العرابية — في قلب الريف المصري الذي كانت تحد انطلاق عواطف أبنائه، أحكامٌ وقيودٌ تذهب
إلى حد قتل الشاب الذي يُعلِن عن هواه؛ ذلك لأن الفنان في «قلعة الأبطال» يعبِّر عن المكونات
الفكرية والاجتماعية للخمسينيات من القرن العشرين، وإن دارت أحداث قصته في الثلث الأخير
من القرن التاسع عشر. ولعل ذكر الحب كان أحد الدوافع — كما يقول يحيى حقي — لأن يحذف
هيكل اسمه من رواية «زينب» في طبعتها الأولى. لكن صالح حماد لا يجد حرجًا في أن يضع اسمه
على رواية فيها هذا الكلام: «إنها بلا ريب أحبَّتني مهما كانت حالها، فكيف لا أحبها،
وأعشق قدَّها الممشوق وقوامها الأهيف وعينيها النجلاوين وفمها القرمزي الذي يقطر شهدًا
وينثر درًّا.» وإضافة أخرى مهمة — ولعلها الإضافة الحقيقية لعمل روائي مصري صدر في ١٩١٠م
—
وهي الحديث عن الاشتراكية. كانت الاشتراكية محور دراسات، كُتبت في نهايات القرن التاسع
عشر ومطالع القرن العشرين، بل لقد كانت محور أحاديث شخصيات «الخيط الأبيض» للشوباشي،
لكن
الشوباشي كتب روايته عام ١٩٦١م أو نحوها، وإن صوَّرت ثورة ١٩١٩م وما قبلها. أما رواية
صالح
حماد فقد كُتبت عام ١٩٠٨م. من هنا كان الحديث عن الاشتراكية فيها مثيرًا: «أما أولئك
الذين يريدون نظامًا جديدًا أرقى من النظام الحالي، ويشرحون مبادئهم الاشتراكية، شرحًا
مؤسَّسًا على قواعد وعمليات حسابية تقرب من الصواب، حتى عمت آراؤهم أهل الخافقين، فهؤلاء
— أيها السادة — مَن يجب تصحيح خطئهم، فإن ما يطلبون من سيادة الجماعات، أو حماية
الكافة، قَل أن تصح أحلامهم فيه من الوجهة العملية، إلا بما فيه مراعاة مصلحة الفرد،
وإلا فسدت الأحوال وتعطَّل الذكاء الإنساني، واعتمد كلٌّ على تلك الحماية، حماية الكافة،
وفسدت الأعمال على أيسر سبيل. ألستم من آرائي أيها السادة؟ ألستم ترون ذلك؟ أم أنتم من
تلك الشيعة، فكل حر في رأيه ومبادئه، ولكل وجهة هو موليها؟ فأجاب بعض الأفاضل من
الحضور — وهو من المطربشين: إني من تلك الشيعة، ولا غضاضة فيها، بل هي عدل صرف، ولا
تخالف الأدب. فقالت الأميرة: كلا، إن في مبادئكم ما يعبث بالحرية الشخصية، ويضيق على
الذكاء الإنساني الخِناق، ويخالف الأدب؛ لأنها تضحي بالمنفعة الذاتية في سبيل مصلحة
الجماعة، وتمنع الإنسان من الاعتماد على عمله ومسئوليته واجتناء ثمرته، والتعلُّق بأهداب
أمل فاسد، والركون إلى الدعة دون الجهاد الصحيح. والحياة كلها جهاد، ولا يمكن أن تكون
غير ذلك، ولا يمكن أن تكون ثَم حرية، والحرية عماد القوي … إلخ. ثم قامت من على كرسيها،
وقمنا، ثم ودَّعناها وانصرفنا، وقد التفَّ جمعنا حول صديقنا الاشتراكي، فقال له بعضنا
ممازحًا: منذ كم أنت اشتراكي يا صديقي؟ فقال: وهل في ذلك عيب؟ إننا نعاشر هؤلاء
الأوروبيين، ونقرأ صحفهم وكتبهم. وقد أعجبني مذهبهم هذا الجديد فانتحلته، ولا أراه إلا
قريبًا من النظام الإسلامي. لا تعجبوا أيها الإخوان. إني كنت أود أن أرد على الأميرة،
وأدحض أقوالها آرائها، ولكني رأيتها قد عطفت في آخر محاضراتها الجميلة علينا، ومدحت
المعتدلين من الاشتراكيين ومبادئهم، وأنا منهم … ولولا ذلك لطال بيني وبينها الجدال،
حتى كنت أنتصف لشيعتي، تلك الشيعة التي لا تريد إلا تقوية الحرية العملية من جهة،
والانتصاف من جهة أخرى، للطوائف العاملة بالمقدار المناسب، حتى لا يمتاز رأس المال
بالسلطة، ويستأثر بالخيرات، وهو لا يعمل إلا في الدرجة الثانية. ثم هي ترمي إلى نشر
السلام بين الشعوب، وإبطال الحروب من بين الأمم. فقلنا جميعًا، وقد احتدَّ صاحبنا في
كلامه، ونحن نضحك بملء أشداقنا: آمين»! لاحظ أن الاشتراكي هنا يرتدي الطربوش، فهو أكثر
تفهمًا للحضارة الأوروبية من سواه. ثم إشارة الفنان إلى أن حديث طلبة الأميرة إلى
زميلهم مبعثه الإشفاق، وربما الرثاء: «فقال له بعضنا ممازحًا.» «ونحن نضحك بملء
أشداقنا» لكننا — برغم كل شيء — أمام محاولة روائية للنقاش الجاد المثمر، ومتى؟ في
العقد الأول من القرن العشرين. ولعل أهمية هذا الحديث وخطورته تتبدَّى واضحة في مقدمة
سلامة موسى لكتابه «الاشتراكية» (١٩١٣م) والتي يقول فيها إن الباعث لإصدار الكتاب «كثرة
السخافات والغباوات التي تحكي عن الاشتراكية.» ثم في إشارة مجلة «البيان» (مارس ١٩١٦م)
إلى أن غرض الاشتراكية الأكيد هو عدم حرمان العمال من المصادر الطبيعية للحياة، ومن
التعليم، وأن النظام الحالي يقضي بتقسيم المجتمع إلى طبقتين: أصحاب ملايين يقف في
وجوههم جمهور من الفقراء المعدمين. ونشرت «الهلال» (يوليو ١٩١٨م) مقالة تؤكد فيها أن
الاشتراكية مبنية على سنة اجتماعية اقتصادية منصفة، وكتبت مي زيادة في مجلة «فتاة
الشرق» (مارس ١٩١٨م) تبيِّن فضل الإخاء والمساواة دواءً شافيًا لآلام البشرية. وصدَّرت
إدارة
«الهلال» لكتاب «الاشتراكية» لنيقولا الحداد (١٩٢٠م) بكلمة اعتذار، جاء فيها إن
الاشتراكية قد أصبح لها «شأن عظيم في حياة الشعوب الغربية، ولا سيما بعد الحرب العظمى،
فجدير بقراء العربية أن يطَّلعوا على حقيقة هذا المذهب وقضاياه ومراميه، إلى غير ذلك
من
المباحث الخطيرة الدائرة على إصلاح المجتمع العمراني. ولما كانت اللغة العربية مفتقرة
إلى كتاب في هذا الموضوع، فقد طلبنا إلى الكاتب الاجتماعي نقولا أفندي الحداد وضع مؤلَّف
وجيز لسد هذا النقص. وها هو ذلك المؤلَّف نقدمه إلى القراء، ويقيننا أنه يقع لديهم موقعًا
حسنًا، ويعينهم على فهم دقائق المشكلة الاجتماعية الكبرى، سواء وافقوا على العقيدة
الاشتراكية أو لم يوافقوا، فإن غاية هذا الكتاب شرح تلك العقيدة، وليست غايته نشر
الدعوة الاشتراكية، أو الحث على الانخراط في سلك الأحزاب الاشتراكية.»
٢١ وفي الكتاب الذي أصدره إسماعيل مظهر عام ١٩٢٧م بعنوان «الاشتراكية ضد النمو
والارتقاء»: «إن كل الشواهد القائمة في عصرنا هذا، تدل على أن دعوة القائمين ضد رأس
المال دعوة تهويمية تقويضية، لا دعوة ارتقائية بنائية.»
٢٢
•••
الحديث لا يخلو من الإشارة إلى الاشتراكية، وإن جاءت عفوًا في قول الصديق في معرض
باريس الدولي، وهو يناقش المئات من الملايين من أثمان الفحم — ثمرة كد العمال، ونتيجة
تعبهم — التي تذهب إلى أصحاب الشركات والامتيازات: من هنا نشأت المذاهب الاشتراكية
ونحوها، فإنه كيف يصبر الإنسان على هذه الحال، يعمل عمل الحشرات في باطن الغبراء، ليغني
المقعدين في قصور العز والهناء؟
٢٣ والبعد الزماني للحديث أواخر القرن التاسع عشر. أما المذكرات فإن بُعدها
الزماني يصل إلى السنة العاشرة من القرن العشرين. ثم لا نتبيَّن من الملامح الاجتماعية
في
«الأميرة يراعة» إلا أن الشوارع والطرق تضاء بمصابيح الغاز، وأن جزيرة الروضة حديثة عهد
الاتصال بمدينة القاهرة، وأن المرأة التي تحادث الرجال في الاجتماع والأخلاق — ولو كانت
أجنبية! — هي «أعجوبة»! وأن الشهادة الثانوية كانت فخارًا وشرفًا عظيمًا!
هل خلا «الحديث» من كل ذلك؟ لكنه بعد أقرب إلى أن يُسمَّى عملًا فنيًّا من «الأميرة»،
بل
إن «الحديث» — رغم الظروف السياسية والاجتماعية القائمة آنذاك — لا يخلو من الدلالات
الواعية. ففي الفصل الذي تحدَّث فيه الفنان عن الأسرة العلوية — مثلًا — يقول على لسان
المحامي: «هذه أيها الأعزاء عاقبة ما صارت إليه أموالكم ومقتنياتكم من بعدكم. ويا ليت
أولادكم وأحفادكم خفَّفوا عليكم من الإثم في جمعها من دماء المصريين بإنفاقها بينهم،
وتبذيرها فيهم، فيكون ذلك منهم كرد بعض الحق لأهله، لكن البلاء كل البلاء أنها ذهبت
جميعًا إلى أيدي الأجانب والغرباء، وكأن الدهر سلَّط المماليك على المصريين ينهبون
أموالهم، ويسلبون أقواتهم. ثم سلَّطكم الله عليهم لسلب ما جمعوه، ثم سلَّط عليكم أعقابكم،
فسلموا مجامع ذلك للأجانب يتمتعون به على أعين المصريين.» وعندما يسأل الباشا عن
«البنية الإيوانية، ذات الأرائك الخسروانية» يقول له عيسى بن هشام: «هو بيت لهو، رفع
إسماعيل قواعده، وبوَّأ الناس مقاعده، اقتداء بالغربيين في ديارهم، واحتذاء لآثارهم،
وقد
بقي من بعده تنفق عليه الحكومة من عيش الصانع والفلاح، لتفكهة النزلاء والسياح.»
والأمثلة عديدة …
أما الدلالات الاجتماعية فهي نبض الحديث جميعًا. وعلى الرغم من أن الباشا يمثِّل
العقلية القديمة التي تصطدم بعقلية معاصريه، فإن هؤلاء المعاصرين يمثِّلون واقعًا
متخلفًا، يحفل بالنقدات الاجتماعية، بل إن الباشا يشكو من قسوة هذا الواقع الذي لم
يعهده في عصره. تغيَّرت عشرات القيم لتحل محلها غيرها أسوأ منها، ولا يتبدَّى من سِمات
التطور سوى القانون الذي أنكره الباشا، باعتبار أن الخضوع لأي حكم لا يصدر عنه هو نفسه،
عار لا يستر منه إلا الموت! وأما رحلة باريس، فهي التفاتة ذكية إلى حضارة جديدة،
بالإضافة إلى أنها إفادة مؤكدة بقصة علي مبارك «علم الدين» التي بدأت برحلة الشيخ
وأستاذه داخل المدن المصرية، وانتهت برحلة الخارج لدراسة الحضارة الوافدة.
هوامش