بين القصرين … لماذا؟

هذه القاهرة، يحدُّها — من الشرق — جبل المقطم، ومن الغرب، الخليج الذي كان يخرج من النيل، إلى الجنوب قليلًا من فم الخليج، وينتهي عند خليج السويس — مكانه شارع بورسعيد الآن — ويحدُّها من الجنوب خطٌّ يمتد من ميدان باب الخلق، ويتجه شرقًا، مارًّا بباب زويلة، وينتهي عند جبل المقطم. وتبدأ حدودها الشمالية عند الجبهة الشرقية من ميدان باب الشعرية، متجهة شرقًا إلى باب الفتوح، فباب النصر، وتنتهي عند جبل المقطم، بالإضافة إلى أحياء أخرى — خارج الحدود — مثل الحسينية الذي يتوسط — من الجنوب إلى الشمال — شارع الحسينية، وشارع البيومي من باب الفتوح إلى ميدان الجيش.

هذه القاهرة، هي عالم نجيب محفوظ، منذ بدأ اتجاهه الواقعي، حتى انتهى من كتابة الثلاثية. قاهرة المعز التي لم تتأثر بما وفد على المجتمع المصري من أجناسٍ، فأبقتها نشازًا خارج حدودها، أو صهرتها تمامًا داخل هذه الحدود، وظل الطابع المصري الأصيل ميسمًا لها، ولأبنائها.

ولكن أعمال نجيب محفوظ — على الرغم من أبعادها المكانية المحدودة — تعبيرٌ بالغ الدلالة عن التناقضات التي أحاطت بالمجتمع المصري في أخصب فترات تاريخه الحديث، تلك الفترة التي تبدأ منذ عام ١٩١٧م١ والحرب العالمية الأولى تدنو من نهايتها، بعد أن أحدثت ما يشبه الهزَّة في تركيب المجتمع المصري، وكانت منطلقًا لتجسيد الشخصية المصرية، وتأكيدها، وإرهاصًا بالثورة الكبرى في عام ١٩١٩م. ثم يمتد البُعد الزماني لتلك الأعمال، فيعرض لطبيعة التغيُّرات في المجتمع المصري، حتى أواخر الحرب العالمية الثانية.
والحق أننا — في الثلاثية بالذات — أمام عملٍ رائد، لم يسبق للرواية العربية معالجته، فالمجتمع المصري بكل تناقضاته، هو بطل الثلاثية في فترة ما بين الحربَين، وإن تكن قد عبَّرت عن هذا المجتمع أسرة بالذات على مدى أجيالٍ متتابعة، بالإضافة إلى إبراز عملية الذوبان الهائلة لعشرات القيم والمثل والعادات والتقاليد، عبر سنوات حافلة بالأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية.٢

ثلاثية «بين القصرين» أقرب إلى رواية «يوميات أسرة» للكاتب الروماني «بترو ديمتريو» التي تدور أحداثها في مدى ربع قرن من الزمان، وترسم — من خلال حياة أسرة رومانية — صورة بانورامية للمجتمع الروماني، بدءًا بثورة ١٨٤٨م البرجوازية الديمقراطية، مرورًا بالأزمات الحادة العنيفة التي تعرضت لها تلك الطبقات، وانتهاءً بقيام مجتمعٍ جديد فوق الطبقات المحتضرة.

وربما لا يقف التاريخ الذي تبدأ به «بين القصرين» عند مرحلة حاسمة من تاريخنا السياسي، فإن تولِّي السلطان فؤاد العرش لا يرقى إلى مستوى الحدث السياسي المتميز الذي يمكن أن يصبح معلمًا هامًّا في مسار الحياة المصرية، ولكن هذا التاريخ (١٩١٧م) يشكِّل نقط انطلاق لأحداثٍ مهمة، بما يؤكد أن بداية «بين القصرين» ليست وليدة ذاتها ولا مصادفة.

  • أول تلك الأحداث، هو اقتراب الحرب العالمية الأولى من نهايتها، بعد أن أصابت البلاد بكوارث وأزمات مالية واقتصادية هائلة «ولم يكن أحد يرفع رأسه في مصر وقتذاك.» وخلال الظلام تسرَّب بصيص ضوء، ما لبث أن امتد وتزايد واتسع، حتى ملأ البلاد كلها؛ فقد توجَّه إلى دار الحماية وفدٌ مصري للمطالبة برفع الحماية وإعلان الاستقلال، وردَّت بريطانيا على هذا الطلب بنفي رئيس الوفد — سعد زغلول — وبعض رفاقه، إلى مالطة … ولكن المظاهرات والإضرابات عمَّت مدن القطر، منادية بعودة المنفيين، وإعلان الاستقلال، ولم تملك بريطانيا — أمام المد الثوري الهائل — إلا أن ترفع الحظر عن عودة المنفيين، وهنا تقف بنا الأحداث السياسية لرواية «بين القصرين»، أول أجزاء الثلاثية.

  • أما ثاني تلك الأحداث، فهو ابتداء الثورة الثقافية المصرية التي تستند إلى الأسلوب العلمي، والبحث عن الذات المصرية الخالصة، والتي عبَّر عن أحد أشكالها، ذلك التجمُّع الثقافي الذي أُطلِق عليه اسم «المدرسة الحديثة»، وكان يضم عددًا كبيرًا من الكُتاب الشبان آنذاك، مثل أحمد خيري سعيد وحسن محمود وحسين فوزي ومحمود طاهر لاشين وسعيد عبده وأحمد شوقي حسن وحبيب زحلاوي ومحمود عزي وأندريا جبريل وفايق رياض، ثم تحدد مسار تلك الرغبة في إحياء القومية المصرية، بعيدًا عن أية تأثيراتٍ عثمانية، أو خاضعة لنفوذ الاحتلال في العديد من الاتجاهات، أهمها: اتجاه مصري فرعوني، واتجاه إسلامي، واتجاه قومي عربي، واتجاه ينشد الاتصال المباشر بالحضارة الأوروبية، والمصارحة بغثاثة التراث العربي.

  • أما ثالث تلك الأحداث، فهو وعد بلفور الشهير بجعل فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، وكان ذلك «الوعد» منطلقًا لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى، التي تشمل فلسطين وشرق الأردن ولبنان وسوريا والعراق وسيناء ودلتا النيل وأجزاء من الجزيرة العربية، كذلك جسَّد «الوعد» تحالف الإمبريالية البريطانية والاستعمار الصهيوني. وأدركت الشعوب العربية — والشعب العربي من بينها — الطابع المصري العميق للأحداث، وما يحمله المستقبل من توقعات خطيرة، ويتصل بذلك الحدث، تقدُّم القوات البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي نحو القدس، ومعها بعض القوات العربية، وبعض القوات اليهودية كذلك (!) قام بتجميع أفرادها من الولايات المتحدة وبريطانيا، دافيد بن جوريون وإسحاق بن زفي، وما إن دخل اللنبي المدينة، حتى قال كلمته المشهورة: الآن، انتهت الحروب الصليبية!

  • وفي ١٩١٧م تمكَّن العالِم الأمريكي الكبير أينشتين من بناء أول نموذج كوني، معتمدًا على نظرية النسبية العامة، كما تمكَّن دي سيتير من بناء نموذج كوني يُعرَف باسمه، مستخدمًا معادلات المجال للنظرية النسبية العامة.٣
  • يبقى حدث هام، تشكِّل نتائجه خلفية بعيدة لتطورات الحياة المصرية منذ العشرينيات، لكنها تصبح — فيما بعد — عنصرًا مكونًا لطبيعة تلك الحياة، ففي عام ١٩١٧م قامت الثورة السوفييتية، ليمتد تأثيرها إلى خارج الحدود، وتدفع عجلة التحرر في مستعمرات آسيا وأفريقيا، كان ما حدث في روسيا فاصلًا بين عصرَين، في تاريخ العالم؛ لم يعُد العالم إلى ما كان عليه، وأدت التطورات التالية إلى متغيراتٍ إقليمية ودولية لم يكن يتصورها أحد. يقول السردار بانيكار: إعلان حقوق شعوب روسيا الذي وقَّعه لينين وستالين، يقرر المساواة والسيادة بين شعوب روسيا، وحق تلك الشعوب في حرية تقوير الأقليات الجنسية في الانفصال، له أثر بالغ في تكوين الرأي العام في آسيا خلال ربع القرن التالي، كما أعلن السوفييت أيضًا — منذ البداية — تأييدهم للكفاح في سبيل الاستقلال في الهند والصين وإندونيسيا والهند الصينية، ولم يكن ذلك مجرد شعار ثوري، وإنما كان مبنيًّا على أساس أن الاستعمار — في ذاته — أعلى مراحل الاستعمارية، وأن تحطيمه بواسطة الحركات الوطنية البرجوازية إنما يمثِّل مرحلة تطور تقدمية، وعلى ذلك، فهي مرحلة تستحق التأييد، «وليس هناك أدنى شك في أن الحركات الوطنية في كل البلاد الآسيوية قد كسبت قوة أدبية هامة بحدوث الثورة الروسية.»

وما من شك أن أيديولوجية الثورة السوفييتية قد استطاعت النفاذ إلى عقول وتصرفات أعداد كبيرة من المثقفين المصريين، تعاطفوا مع مبادئها، واتخذوا من هذه المبادئ شعارَ حياة، فتألَّفت الجمعيات السرية التي تهدف إلى تحقيقها، ثم تكوَّن الحزب الشيوعي المصري في عام ١٩٢١م.

وثمة ظاهرة لافتة، هي أن البداية السياسية المنظمة لإقامة دولة صهيونية في فلسطين، لم تتحدد قسماتها إلا بوعد بلفور في ١٩١٧م، وهو العام الذي شهد قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية، إضافة إلى أن الانتصارات الصهيونية كانت تزداد كلما فقدَ الاستعمار العالمي بعض أراضيه، مقابلًا لانتصارات حركات التحرر الوطني؛ فهي انتصارات تعويضية، أقرب إلى المقابل لما يفقده الاستعمار العالمي من أراضٍ.

وعلى الرغم من أن تلك الأحداث لم تشكِّل — في حينها — تأثيرًا مباشرًا على مجريات الحياة المصرية، إلا أنها غيَّرت — فيما بعد — وبوضوحٍ، من خريطة المجتمع المصري، وحدَّدت — بالتالي — طبيعة ذلك الحدث الفرعي الذي بدأ به نجيب محفوظ أحداث الرواية، وهو تولي السلطان فؤاد العرش.

•••

من هذا المنطلق، فإن التاريخ الذي تبدأ به «بين القصرين» ليس وليدَ ذاته ولا مصادفة، ولكن يبقى وصل الحدث السياسي بجذور مسبِّباته، بالإرهاصات السياسية والاجتماعية التي كان الحدث نتيجة حتمية لها.

هوامش

(١) الملاحَظ أن رواية فكري أباظة «الضاحك الباكي» تبدأ في أغسطس ١٩١٧م، وهو العام نفسه الذي تبدأ فيه أحداث «بين القصرين».
(٢) يعرِّف مجدي وهبة رواية الأجيال، أو الرواية النهر، في كتابه «معجم مصطلحات الأدب» بأنها «رواية نثرية طويلة، موضوعها حياة أسرة عبر أجيالها المختلفة.»
(٣) محمد جمال الدين الفندي، السموات السبع، هيئة الكتاب، ١٩٧٣م، ١٨٠-١٨١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥