ليالي سطيح والمسألة السودانية

وبقدر ما كان النبض الاجتماعي هو السِّمة الغالبة على «الحديث»، فإن «ليالي سطيح» (١٩٠٦م) لحافظ إبراهيم بانوراما متسعة الأبعاد لكل مناخات العصر الاجتماعية والسياسية. «الحديث» ينقد الأوضاع والتقاليد الاجتماعية في استاتيكية لا تشترط أن يكون الحدث ساخنًا، أما «ليالي سطيح» فهي ترتكز إلى الإدانة المباشرة لعهد الاحتلال. يروي العرب أن سطيحًا كان لحمًا يُطوى كما يُطوى الثوب، لا عظم فيه إلا الجمجمة، ووجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق، وكان في عصره من أشهر الكهان.١ والأرضية المكانية ﻟ «ليالي سطيح» تمتد ما بين عام الاحتلال (١٨٨٢م) حتى مأساة دنشواي (١٩٠٦م). ومن هنا، فهي تعرض لأحداث الفترة ذاتها وشخصياتها، مثل حملة السودان، وزيادة النفوذ الأجنبي، والاتفاق الإنجليزي الفرنسي، وحادثة دنشواي … إلخ. كما طُرحت عشرات القضايا الاجتماعية، مثل الحجاب والسفور واشتغال المرأة والعمل الحر والوظيفة الحكومية وعلاقة التعليم بالتأهيل، وكذلك بعض الظواهر الاجتماعية السلبية مثل زيارة أضرحة الأولياء، والنذور التي تذهب لغير مستحقيها، ومعاقرة الخمر، واللهو في الملاهي الليلية، وغيرها. بل إننا نتعرف — بالاسم الصريح — إلى الأسماء التي كانت محورًا لأحداث تلك الفترة — أو كانت الفترة محورًا لها — مثل الأفغاني والإمام وميتشل وكتشنر وسكوت ودنلوب وجورست. فهو — على سبيل المثال — يتحدث عن اللورد كرومر الذي «لقي من الأمة مهادًا طريًّا، ومن أمير البلاد مسالمة مرضية، ومن الوزارة استسلامًا، ليست العبودية أوفى منها في العبد لسيده.»٢ كما يتحدث عن كتشنر «قائد الجيشَين، ورافع العَلمين، الحاكم بالإرادتين، ووكيل الدولتين، فاتح أم درمان، وحاكم السودان، وصاحب جزيرة أسوان، رافع إرم ذات العماد، وقريع فرعون ذي الأوتاد، وصل أعصاب الفيافي والقفار بأعصاب المدائن والأمصار، ساكن القصر ونابش القبر، ناسف القبة، وسالب الجبة، وهو المهدي، رفات المهدي والجاعل قبَّته مربطًا للجياد، ومسجده ملعبًا لحمر الأجناد، الناقل تلك الكنوز والدفائن، إلى تلك المصارف والخزائن، المغربي الذي يستشف أحشاء الخبايا بسحر السياسة وطلسم الفراسة، ويفك ما عليها من الأرصاد، بدماء أبناء البلاد، بعد تبخيرها ببخور التمويه، تحت ملاءة الترفُّع والتنزيه.»٣ كذلك يتحدث الكاتب عن النزاع — أو الاتفاق — بين فرنسا وإنجلترا «ومَن تأمَّل في رقعة شطرنج الشرق، ورأى اليدين اللتين تجولان فيه، وعلم أن الأولى تديرها الأناة السكسونية، وأن الثانية تحركها الخفة الفرنسية؛ حكم بالفوز للتي يجب أن يحكم لها به كل من فرَّق بين عاقبة البدار تخالطه الخفة، وعاقبة الريث تخطئه الغفلة.»٤ ولعل هذا هو السبب في أن الحديث أقرب إلى العمل الفني المتكامل من «ليالي سطيح».

•••

الليالي سبع، يلتقي فيها الراوي الذي كان يروِّح عن نفسه المُثقَلة بالهموم، بالسير على ضفة النيل في ساعة الأصيل. ولم يكد يهم بالعودة، حتى فاجأه صوت إنسان يسبِّح الله، وانطلق إلى مصدر الصوت ليعرف أنه لسطيح الكاهن، أو العرَّاف، التاريخي الأسطوري. ويكتفي الراوي في تلك الليلة بما قاله سطيح: فانكفئ إلى كسر دارك، وبالِغ في كتم أسرارك، وأقبِل غدًا مع الليل، وترقَّب طلوع سهيل، ومتى سمعت من قبلنا التسبيح، فقل لصاحبك الذي يليك، هلم إلى سطيح.٥ ويبكِّر الراوي — في الليلة التالية — إلى حيث مصدر الصوت، فيلتقي هناك بشيخٍ وقور يتحدث بصوتٍ مرتفع، عن الحجاب وعدم جدواه في القضاء على الفساد الذي يعانيه المجتمع، ثم يدور حديث طويل عن وضع المرأة في المجتمع، وأن السفور هو الوسيلة المثلى للقضاء على كل التناقضات. ثم يرتفع صوت سطيح في دفاعٍ مباشرٍ عن قاسم أمين صاحب «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»: «صاحب مذهب جديد ورأي سديد. دعا القوم إلى رفع الحجاب، وطالبهم بالبحث في الأسباب، فألقوا معه نقاب الحياء، وتنقبوا من دونه بالبذاء، أي فلان إذا مضت على كتابك خمسون حجة، تكفَّل مستقبل الزمان بإقامة الدليل والبرهان، فلعل الذي سخَّر لجماعة الرقيق والخصيان، ومن أنقذهم من يد الذل والهوان، يسخِّر لتلك السجين الشرقية، والأسيرة المصرية، من يصدع قيد أسرها، ويعمل على إصلاح أمرها.»٦ وقبل أن يختفي الصوت، يسأله الراوي: «يا ولي الله، قد سمعنا صوتك، ولم ننظر إلى شخصك، فهل لك أن تمنَّ علينا برؤية شخصك الكريم؟ فيجيبه سطيح: لقد قُدِّر أن تراني بعد أن كشفت لك عن مكاني، فلا تقطع غدك الزيارة، واذكر ما بيننا من الإشارة.»٧ أما الليلة الثالثة، فيدور فيها الحديث عن الجالية الشامية في مصر، والارتباط التاريخي بين بلاد الشام والبلاد المصرية. وفي الليلة الرابعة، يدور الحديث عن الامتيازات الأجنبية، وحرص سلطات الاحتلال على تأكيدها. ثم يتحدثان — في الليلة الخامسة — عن الصحافة. وفي السادسة عن الأدب والشعر — وأحمد شوقي بصفة خاصة — أما الليلة السابعة، والأخيرة، فإن محور حديثها هو الثورة المهدية في السودان. وتلك الليلة الأخيرة بالذات، لا يدور فيها الحديث مع سطيح الذي كان قد تهيَّأ للقاء الخالق بعد أن انقطع عن كلام المخلوق، لكن مع ابنه الذي يظهر في صورة «غلام مراهق، يتيمَّن الناظر بمشهده، كأنه صور مِن نفس مَن ينظر إليه، فدانيته وأنا أكبره لما ألقى الله عليه من الهيبة، وقد بهرني جماله، وأخذ مني حسن سمته، فما هو إلا أن رآني، حتى أقبل بوجهه عليَّ، وخاطبني بلسان عربي، قد خلص من لوثة الأعرابية، وسلِم من لكنة الأعجمية.»٨ وتنتهي «الليالي» بطواف الراوي وابن سطيح على المراقص والأسواق والمتاجر، يتعرَّفان إلى مظاهر الحياة المصرية، وينقدانها في محاكاة صريحة — ومتعجلة — لصاحب «الحديث».

•••

وعلى الرغم من أن الثورة المهدية كانت أخطر الأحداث التي واجهها المجتمع المصري بعد دخول قوات الاحتلال، فإن الأعمال الأدبية التي تعرض لتلك الفترة خلت — أو كادت — من الإشارة إليها، فيما عدا «ليالي سطيح» التي تأخذ أهمية تسجيلها لتطورات أحداث الثورة، من أن حافظ إبراهيم كان أحد ضباط حملة كتشنر.

لقد بدأت الأنباء ترِد عن ذلك النبي الذي أتى بعد الأوان، في آخر الزمان، يدعو للثورة على فساد الحكم التركي، وما رآه من التدخل الإنجليزي، ونجح في تأكيد دعوته، وتوطيد سلطته في كردفان، وجعل من «الأُبيِّض» عاصمة لدولته.٩
ويرجع عبد العزيز السكري (ليست هي) سبب قيام الثورة المهدية إلى مقاومة الحكومة المصرية لتجارة الرقيق، لكن النخاسين رفضوا — بالطبع — ذلك الموقف، لأنه يحُول بينهم وبين مورد رزقهم، فعمدوا إلى إثارة خواطر الشعب السوداني ضد الحكومة. وساعدت على ذلك ظروف اقتصادية واجتماعية، وفي مقدمتها قسوة رجال الإدارة في معاملة السودانيين، والتعسف في فرض الضرائب، وفي تحصيلها. ثم كان للثورة العرابية (يرى الفنان أنها قد أنتجت أسوأ العواقب!) أثرها في تشجيع الثوار، فقد جعلوها مثلًا يُحتذى في الاستخفاف بأوامر الحكومة، وإمكان عصيانها، والخروج على طاعتها.١٠ يشير الفنان إلى الأدوار الخطيرة التي لعبها النخاسون في تجارة الرقيق، قبيل الثورة المهدية؛ كانوا يسرقون الرقيق من أهل النوبة، أو يشترون منهم، لأن أهل النوبة كانوا يبيعون من لا يقدرون على حماية أنفسهم، كاليتامى والفقراء والعاطلين، أو الأسرى الذين يؤخذون في القتال. واعتاد بعض البدو — من قبائل الحوازمة والمسارية والحمر — أن يخطفوا من أهالي النوبة مَن يقع في أيديهم، ثم يرسلونهم — بعد ذلك — إلى الشرق، للبيع.١١
كانت الحكومة المصرية قد نشطت — قبيل الثورة المهدية — في مقاومة الاتجار بالرقيق، وفي تعقُّب النخاسين في الطرق التي يسلكونها، والأساليب التي يعتمدون عليها في ترويج تجارتهم، سيَّرت الدوريات بالقرب من الشواطئ، حيث يكثر تهريب الرقيق إلى بلاد الحجاز وغيرها من بلاد الشرق.١٢
ويجد عبد الكريم السكري في مقاومة الحكومة المصرية للرق في السودان، سببًا في نشوب الثورة المهدية، فلم يرُق في نظر النخاسين ما اتخذته الحكومة المصرية من تدابير ضد تجارة الرقيق، ولجَئوا إلى إثارة خواطر الأهالي ضد موظفي الحكومة، وبخاصة لأن هؤلاء الموظفين كانوا يسرفون في إساءة معاملة الأهالي، ويفرضون عليهم الضرائب الباهظة. أضاف إلى ذلك السبب نشوبَ الثورة العرابية، حيث جعلها السودانيون مثلًا يُحتذى في الاستخفاف بأوامر الحكومة، وإمكان عصيانها، والخروج على طاعتها. وثمة سبب ثالث هو اعتقاد أبناء السودان أن قصة المهدي المنتظَر ستتحقق في بلادهم، وأن المهدي سيكون من بين رجال السودان.١٣ واستغل محمد أحمد الجو الديني القائم، والذي كان يتوقع ظهور المهدي، وعمَّق من هذا التطلُّع — في نفس الرجل — تعرُّفه إلى عبد الله التعايشي الذي كان يشتغل بالتنجيم وكتابة الأحجبة والتعاويذ، وواصل إقناع محمد أحمد بأنه هو المهدي، حتى اقتنع الرجل فعلًا، وأذاع ذلك في أعوانه، ثم ما لبثت الدعوة أن انتشرت بين القبائل. وكوَّن «المهدي» جماعات سمَّاها الدراويش، يرتدون الجُبة والمرقعة والسبحة والعكاز، وأعلن أنه «ولي الأمر الذي تجب طاعته على جميع الأمة المحمدية.»١٤ كان المهدي ومن معه — كما يقول ونستون تشرشل — يعانون الحاجة، لا يملكون أي شيء، كل ما حصلوا عليه أنفقوه على الناس. وكان أغلبية المقاتلين من البسطاء الذين لا يملكون شيئًا. كانوا شبه جوعى، ولا يملكون غير العصي والحجارة. وكان محمد أحمد يمتلك حصانًا واحدًا، بينما الخليفة يمشي على قدميه.١٥
فلما استولت قوات المهدي على فاشودة، «أعظمه السودانيون وأكبروه، وارتفع قدره عندهم، وأخذ الناس يدخلون في دعوة المهدي أفواجًا، وأصبح السودان — كافة — شعلة من النيران، تلتهم كل من وقف في وجه المهدي، حتى ضعف أمل الحكومة في التغلب عليه.»١٦ وكما يقول ونستون تشرشل، فقد «تأكد للجميع أنه المهدي المنتظَر الذي جاء لإنقاذهم من الذل والهوان. انتفضت كل القبائل العربية مرة واحدة، بدأ التمرد تلقائيًّا في كل من سنار ودارفور. هوجمت كل الحاميات المصرية في المناطق النائية، قُتِل كل جامعي الضرائب والإداريين، عدا الحاميات الكبيرة التي انقطعت عنها هي الأخرى سبل الاتصالات، وضرب الحصار عليها، ولم تبقَ سلطة إلا سلطة المهدي.»١٧
عجز حاكم السودان المصري من مواجهة تطورات الأحداث،١٨ فانتهز الإنجليز الفرصة «بما لهم من السيطرة على مصر بحكم الاحتلال العسكري»١٩ وقاموا بتنحية حاكم السودان وقائد الجيش المصري هناك، وتعيين ضابط إنجليزي — هو هيكس باشا — أركان حرب للقوات المصرية، وقائدًا للحملة التي أعدَّت لاسترداد «الأبيِّض»، وتأديب المهدي المنتظَر. يقول الراوي (ليست هي) «لما كان الإنجليز قد تم لهم احتلال مصر، وأصبحوا أصحاب النفوذ والرأي فيها، قرَّ رأيهم على استخدام بقايا جيش عرابي باشا في محاربة المهدي، فكانت نواة لحملة هيكس باشا على السودان.»٢٠ وخرج القائد الإنجليزي على رأس الحملة (عشرة آلاف ضابط وجندي) فوصلت إلى السويس بين ١٢ و١٤ ديسمبر ١٨٨٢م، ثم أبحرت بهم المراكب إلى ميناء سواكن، ومنه — برًّا — إلى الخرطوم. وكان الشيخ أمين (الشمندورة) أحد هؤلاء الذين عانوا حرب المهدية، فقد ربطه الإنجليز إلى حبل ليشد مراكب الذخيرة حين يتوقف النَّو، وكان يبكي، ويصرخ، والسياط تلهب ظهره.٢١ وبعد أن توغَّلت القوات لمسافة طويلة في صحراء كردفان — في الخامس من نوفمبر ١٨٨٢م على وجه التحديد — خرج عليهم من الأدغال رجال المهدي الذين يجاوزون الأربعين ألف مقاتل، ودارت مذبحة رهيبة، لم ينج منها إلا أقل من ثلاثمائة ضابط وجندي. وكما يقول الراوي في سطيح، فبعد أن غادرت الحملة سواكن، واتجهت إلى ميناء «ترنكيتات»، خرجت لها من الأدغال جموع غفيرة من مقاتلي المهدي، أعملت فيها الرصاص والتقتيل، فسرت في قوات الحملة فوضى قاسية، وقُتِل ٢٧٧٣ من ٣٧٤٦ جنديًّا، كانوا قوام الحملة، من بينهم بعض الضباط الإنجليز، والاستيلاء على ستة مدافع، وثلاثة آلاف بندقية، ونصف مليون طلقة، وانسحبت فلول القوات المنهزِمة إلى سواكن.٢٢ تقول الجدة — أحاديث جدتي — في أسًى وغضب عن ابنها رأفت الذي استُشهد في تلك المعركة: «لقد غدر به اللئام، لقد قتلوه، وقتلوا عشرة آلاف جندي مصري غدرًا وخيانة وظلمًا. ولو كانوا يا ابنتي قدَّموهم إلى المقصلة واحدًا واحدًا لكن أشرف لهم، فهم أقوياء، وهم يريدون فناء الجيش، فليَفنوه علنًا، وليشجعوا شجاعة تمكِّنهم من احتمال اشمئزاز العالم من الظلم والجور. أما أن يتستروا وراء الحيل والخديعة ليفوزوا بمآربهم الدنيئة، وباحترام العالم في وقت واحد، فهذا شر ما أعرف من حالات الجبن.»٢٣ تضيف الجدة: «خديعة والله يا ابنتي دبَّروها، وأحكموا تدبيرها، وهل يُعقَل أن يراد بجيش الثورة العرابية، بعد ثورتهم بقليل، إلا الشر والدمار؟ لقد خسرت إنجلترا قائدًا واحدًا قبل أن يضحي بحياته في سبيل الإضعاف، أو الانتقام منه. أما مصر، فقد خسرت مقابل هذا القائد الواحد حاكمًا وستة قواد وعشرة آلاف جندي بضباطهم جزاهم الله يا ابنتي.»٢٤ ومع أن الجنود المصريين كانوا هم الضحية الأولى — بل الوحيدة — لتلك المذبحة (فقدت مصر في الحرب ضد ثورة المهدي تسعة آلاف ضابط وجندي (مذكراتي في نصف قرن، ٢٣٣)) فإن رد الفعل بين أبناء الشعب، كان مزيجًا غريبًا من الأسى لقتلى حرب المهدي — بعد فترة قليلة من أحداث الثورة العرابية — ومن الشماتة والسخرية بالقادة الإنجليز الذين كانوا يقودون تلك الحملة. كانت هزيمة المصريين للمهدي أفضل — في تقديرهم — من انتصارهم للإنجليز، بل إن انتصارات المهدي كانت — بالنسبة لأعدادٍ غير قليلة من المصريين — مقابلًا معنويًّا لهزيمة العرابيين، باعتبار أن الهزيمة تلقَّاها — في الدرجة الأولى — الإنجليز الذين كانوا يحتلون الوطن المصري نفسه، بالإضافة إلى أن المهدي طلب من أتباعه أن يحفظوا على جوردون باشا حياته، ليفتدي به أسيرًا آخر هو أحمد عرابي.٢٥ وكان لذلك الطلب أثره البالغ في نفوس المصريين، وبلغ التعاطف ذروته في جندي محمود تيمور الذي أتمَّ خدمته بعد أن اشترك في القتال مع المهدي، وذاعت شهرته بين الناس أنه هو المهدي الجديد، وتخيَّل نفسه ذلك بالفعل، حتى مات مجنونًا، واعتبره الناس وليًّا بعد موته.٢٦ وفي المقابل، فإن ثورة المهدي في السودان هي انعكاس مؤكد لثورة العرابيين في مصر. ويتبدَّى تأثير الثورة العرابية في السودان، في إصدار المهديِّين لكتاب أحمد العوَّام — أحد زملاء عبد الله النديم — (١٨٨٨م) «نصيحة العوَّام للخاص والعام من أهل الإيمان والإسلام». ومن الملاحَظ أن الأفغاني والإمام قد أخذا — في «العروة الوثقى» — على الحكومة البريطانية وحكومة الخديو، محاولاتهما قمع الثورة المهدية بالقوة، وأعربا عن أملهما في أن تحقق تلك الثورة في جنوبي الوادي ما أخفقت في تحقيقه ثورة الشمال.٢٧ وكانت هزيمة حملة السودان دافعًا لأن تكتب «الأهرام» عدة مقالات تطالب بتقوية الجيش المصري بدلًا من حله، لأنه ليس ثمة موجب للحل «طالما أن جيش الإنجليز يقيم في البلاد.» كما انتهزت جريدة «العروة الوثقى» فرصة تفاقم الأحداث، ودعت إلى القيام «بحركة خفيفة في الشرقية والبحيرة والفيوم، فيرتبك الإنجليز، وتخور قواهم، فيتركوا البلاد لأهلها.» وقال الإمام لمندوب جريدة «البال مال جازيت»: «لا خطر على مصر من حركة المهدي، إنما الخطر على مصر من وجودكم أنتم فيها، وإنكم إذا غادرتم مصر، فالمصري لن يرغب في الهجوم عليها، ولن يكون في هجومه أدنى خطر. وهو الآن محبوب من الشعب، لأنهم يرون فيه المخلِّص لهم من الاعتداء الأوروبي، وسينضمون إليه عند قدومه.»٢٨ أما مصطفى كامل، فقد ذهب إلى «أن وجود الإنجليز على رأس جيشنا يكفي لعدم إنجاح الحملة، يكفي لتحقيق مصيبة عظيمة. وجودهم على رأس الجيش يفتح بيننا وبين السودانيين حفرة من أعمق الحفر، تؤخِّر — لزمن — صُلحنا معهم.»٢٩ ثم زادت حركة المهدي، وامتدت إلى السودان الشرقي، وتعدَّدت الحملات إلى السودان، لكن قُضي عليها جميعًا بالفشل، ولم ينج من أفرادها إلا أعداد قليلة جدًّا. ووجد المعتمد البريطاني — اللورد كرومر — في توالي الهزائم، فرصة كي يشير بتخلي مصر عن السودان، وتركه للثوار. ولما رأى ناظر النظار — شريف باشا — إصرار المعتمد البريطاني على رأيه، اضطر إلى تقديم استقالته في السابع من يناير ١٨٨٤م «تتعجل الحكومة البريطانية إخلاء السودان، ولكننا لا نملك حق الموافقة على اتخاذ مثل هذه الخطوة، لأن تلك المديريات التابعة للباب العالي قد وضعها أمانة في أيدينا لنديرها. فإذا أصرَّت بريطانيا على أن تكون توصياتها نافذة بغير معارضة، كان هذا العمل متناقضًا مع أحكام الديكريتو الخديوي الصادر في ٢٣ أغسطس ١٨٧٨م، الذي يشترط أن يحكم الخديو بواسطة وزرائه، وبالاشتراك معهم؛ لذلك نقدِّم استقالتنا لأنه قد حيل بيننا وبين أداء مهمتنا وفقًا للدستور.» ثم تولى نوبار النظارة بدلًا من شريف، بعد أن وافق على الانسحاب من السودان، والاحتفاظ بميناء سواكن. في رواية «فتاة الفيوم» يقول أمين للمستر مكنزي: قيل إنكم ستجعلون السودان هندًا ثانية، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تحمِّلون مصر نفقاتها أو عجز ميزانيتها؟ قال المستر مكنزي: أظن أن السبب واضح، وهو أننا إذا لم نحفظ السودان لمصر أخذتها دولة أخرى، ولم يعُد في طاقتنا أن نتصرَّف بالنيل تصرُّفًا يعود بالنفع على مصر. ويؤمِّن إبراهيم بك — وهو خائن! — على قوله: نعم، هذا هو الصواب، فقد كنا نقاسي الأهوال من قلة الماء في زمن التحاريق، أما الآن فاصطلحت الحال جدًّا.٣٠ وعلى الرغم من صيحات الاحتجاج التي علت بين الأوساط المثقفة، فإن الحكومة البريطانية واصلت خطتها، وعيَّنت جوردون باشا حاكمًا عامًّا لتنظيم عملية الإخلاء. كان هدف جوردون — وإن لم يعلنه — إبعاد مصر عن السودان نهائيًّا، وقد أيدته حكومته في السعي نحو هدفه، شريطة ألَّا تتكلَّف تضحية جسيمة في الأموال والجنود.٣١ ولعل مما يؤكد سياسة جوردون في السودان، التي كانت تستهدف إبعاد قلوب الأهالي عن الحكومة المصرية، تحت ستار محاربة الرق والنخاسة، أنه بعد أن حقق هدفه، واستقال في ١٨٧٩م، عاد في ذلك العام (١٨٨٤م) ليصدر قرارات، في مقدمتها إباحة تجارة الرقيق.٣٢ إن محاربة إنجلترا للرقيق، لم تكن — في الحقيقة — لهدفٍ إنساني، وإنما كانت — باعتراف قادة الإنجليز أنفسهم — ذريعة لبسط النفوذ الإنجليزي في وادي النيل.٣٣ لتقسيم الوطن النيلي الذي أنشأته مصر في القرن التاسع عشر.٣٤ وكما يقول هارولد ماكمايكل، فإن إنجلترا «لكي تثبت مركزها في مصر، اضطرت إلى أن تجعل مصر أقرب إلى أن تكون منطقة دولية، وأعطت للدول الأوروبية فيها كثيرًا من حقوق السيادة (الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة). أما السودان، فقد قررت إنجلترا — منذ البداية — ألَّا يكون امتدادًا لمصر حتى لا تمتد إليه هذه الصورة الدولية. ولهذا فقد قررت أن تفصل بينه وبين مصر، تحت ظل ما سُمِّي إذ ذاك بالحكم الثنائي.»٣٥ وكتب عضو في الوزارة البريطانية إلى بيكر — إثر عودته إلى لندن في أواخر ١٨٨٣م يقول: «مهما كان من أمر تجارة الرقيق، فإن حملتك لا بد أن تكون أدت إلى بسط النفوذ الإنجليزي في مصر. إنني لا أعرف في الوقت الحالي في العالم، شيئًا يعدل في عظمته التقدم المطَّرد السريع الذي يصحب تغلغلنا في قلب أفريقيا. ومن الثابت الذي لا ريب فيه أن الطريق يمر معظمه في الأراضي المصرية.»٣٦ كان رأي جوردون أن زحف المهدي عبر وادي حلفا، «ليس هو الخطر الذي يخشاه الإنجليز» فمن غير المحتمل أن يتوغل إلى الشمال أصلًا، ولكن الخطر هو من نوع آخر تمامًا، فهو ناشئ عن تأثير قيام دولة إسلامية منتصِرة، ملاصقة لحدودكم — رئيس الوزراء البريطاني — مباشرة، تأثيرها على الشعوب التي تحكمونها؛ إذ سيسود المدن المصرية كلها شعور بأن في وسع أبنائها أن يفعلوا ما فعله المهدي، وأن يطردوا الدخلاء والخونة كما طردهم، وليست إنجلترا وحدها هي التي تواجه هذا الخطر، فإن نجاح المهدي أهاج — بالفعل — غليانًا خطيرًا في بلاد العرب وسوريا، وعلت لافتات في دمشق تدعو لطرد الأتراك، ولو سلِّم السودان الشرقي بأسره للمهدي، فستثور حمية القبائل العربية على جانبَي البحر الأحمر. إذن، فمن الممكن أن تنفتح المسألة الشرقية بأسرها من جديد، بفضل انتصار المهدي، ما لم يُعالَج هذا الأمر.٣٧
كان أول ما فعله جوردون بعد نزوله في سراي الحكمدارية بالخرطوم، أن أدلى بتصريح قال فيه: «لقد صار فصل السودان عن مصر فصلًا تامًّا، وفُوِّض إليَّ الحكم المطلق، وقد خابرت السيد محمد أحمد المهدي بفحوى مأموريتي، واعترفت له بالسلطة المطلقة على السودان الغربي برمته، على شرط ألَّا يمد يده لغيره.»٣٨ وحاول جوردون استمالة مشاعر السودانيين، فأحرق مستندات الضرائب المتأخرة حتى عام ١٨٨٣م، كما أحرق ما جمعه الجنود من الكرابيج وأدوات العقاب، وأمر بإطلاق سراح جميع السجناء بصرف النظر عن نوعية جرائمهم، وقال جوردون في تصريحاته إنه اعتزم «ألَّا يكون أعضاء حكومتي إلا من الوطنيين؛ حيث إنني أود تشكيل حكومة وطنية ليحكم السودان نفسه بنفسه. وقد عيَّنت عوض الكريم أبا سن مديرًا للخرطوم، ولي الأمل بأن العلائق ستفتح بيني وبين سلطان الغرب، المهدي، وثيقة العرى. وقد أمرت — منذ اليوم — بفتح أبواب الحصون وإتلافها وسحب الجنود، لتلتفتوا إلى عمران بلادكم، وحرث أراضيكم، وإنماء تجارتكم، ومني عليكم السلام.»٣٩ وألَّف جوردون مجلسًا للأعيان في بربر والخرطوم، وكان أول قرارات المجلس مناشدة الحاكم العام — جوردون — بأن يؤجل عودة الأورط المصرية إلى مصر، وأكد أن بقاءها سيحُول دون امتداد ثورة المهدي إلى بقية المدن السودانية.٤٠ وقبل أن يشرع جوردون في تدمير الحصون، أبلغه العلماء أن المهدي لن يعبأ بكل ما جاء في تصريحه، وبالتالي فمن الخطورة تدمير الحصون. وبعد أيام قليلة، وصل رد المهدي الذي دعا فيه جوردون إلى الإسلام والتسليم، وبعث مع الرد هدية: جبَّة مرقَّعة، ورداءً، وسراويل، وعمامة، جميعها من الدمُّور، وطاقية من الخوص وحزامًا ومسبحة. ووصف الهدية بأنها «كسوة الزهَّاد، أهل السعادة الكبرى، الذين لا يبالون بما فات من المشتهيات، طلبًا لعالي الدرجات.»٤١ فلما قرأ جوردون رسالة المهدي، ورأى الهدية، ثارت ثائرته، وركلها بقدمه، وقال بالإنجليزية: «جوديم»، وبعث إلى المهدي يقول: «إنني أدعوك إلى السلم، وأنت تدعوني إلى الحرب، وأدعوك إلى حقن الدماء، وأنت لا تميل إلا إلى سفكها، فأقول لك الآن: لا بد من قهرك وكبح جماح طغيانك. ومهما يكن عندك من الأتباع، فلا بد أن ترضخ صاغرًا، أو تهلك حيال القوتين؛ قوة الحكومة الخديوية والدولة الإنجليزية.»٤٢ وكتب جوردون لحكومته يؤكد وجوب سحق الحركة المهدية، حتى لا يُستفحل خطرها.٤٣ وبقي جوردون أشهرًا يُعِد للدفاع عن الخرطوم، وينتظر وصول الإمدادات من الشمال «إذ لم يكن خافيًا عليه عدم ميل أهل السودان للانضمام إليه، لغلبة اعتقادهم في المهدي منذ هزيمة هيكس باشا، وحرصهم — بدافع هذه العقيدة — على الجهاد في سبيل الله والمهدي.»٤٤ وكتب يطلب النجدة من كرومر: «تسألني عن السبب والقصد من بقائي في الخرطوم؟ … إني باقٍ في الخرطوم لأن الثوار العرب يحبسوننا فيها، ولا يتركوننا نخرج منها.»٤٥ وكتب في برقية أخرى: «لا يزعجني إلا هذا التلكؤ، حتى ينقضي الوقت وتضيع الفرصة.»٤٦ وفي ٢٦ مايو ١٨٨٤م سقطت — في أثناء حصار الخرطوم — مدينة مهمة هي بربر التي كانت الطريق الوحيدة التي تصل الخرطوم بالعالم الخارجي.٤٧ يتحدث الفنان عن يوم سقوط الخرطوم في أيدي المهديين: جوردون باشا ببذلته العسكرية، وعليها النياشين والأنواط وقبعته الرسمية البريطانية، وكامل الأبهة الإمبراطورية، على رأس سُلَّم قصره الفخم، يرفع ذراعيه بحركة تهديد، أو إيماءة تسليم، بينما تقتحم القصر جموع الدراويش بثيابهم الفضفاضة، وأجسامهم النحيلة السوداء، وسيوفهم المشرعة.٤٨ استطاع «الدراويش» أن يقتحموا أسوار الخرطوم قبل وصول الإمدادات المرتقَبة، ولم تنقضِ ساعتان ونصف الساعة، حتى كانت الخرطوم قد وقعت في أيدي الثوار، ورأس جوردون في طريقه إلى المهدي. لم يتمكن جوردون من عمل شيء مع جنون الفرحة والانتصار والاندفاع الديني. هجموا عليه، فعجز حتى عن استعمال مسدسه، وانهالوا عليه طعنًا في أجزاء مختلفة في جسده، ووقع على درجات السلم. أجهزوا عليه، فقطعوا الرأس وحملوه للمهدي، «وأعملوا في باقي الجثة، حتى لم يتبقَّ منه شيء إلا أكوام لحم وخِرق ممزقة مليئة بالدم.»٤٩ كان آخر ما كتبه جوردون في مذكراته: «إذا لم تصل حملة الإنقاذ — وأنا لم أطلب أكثر من مائتَي رجل — في ظرف عشرة أيام، فإن المدينة سوف تسقط، لقد عملت كل ما في وسعي لشرف بلادنا، مع السلامة.»٥٠
شهدت العاصمة السودانية مذبحة رهيبة، أسفرت عن مقتل أربعة وعشرين ألف رجل، فضلًا عن آلاف النساء والأطفال الذين سيقوا كسبايا للمنتصرين (تساءل إبراهيم بك في أسًى: لماذا قتل الدراويش جوردون، ولم يسلِّموه حيًّا للمهدي، حتى يجعله رهينة يفتدي بها عرابي باشا، وينصبه سلطانًا على مصر والسودان؟ (عبد المنعم شميس، عتريس الأكبر، المجموعة، مطبوعات الجديد، العدد ١٢٢)) وأخيرًا، وصلت حملة الإنقاذ إلى الخرطوم في الثامن والعشرين من يناير ١٨٨٥م، بعد أن كانت قد أصبحت مدينة للموتى. وكان المهدي — بعد أن حقق انتصاره الحاسم في السودان — قد أرسل من عاصمة دولته في أم درمان، منشورات إلى سكان مصر، يبلغهم عزمه على غزوها، لكنه مات قبل أن ينفذ رغبته، فتولى الخليفة التعايشي الأمر من بعده. وكتب إلى رؤساء القبائل والعشائر في الصعيد، يطلب عونهم ومساندتهم في غزوته المرتقبة. وفي ٢٣ نوفمبر ١٨٨٨م عهِد التعايشي إلى عبد الرحمن النجومي بقيادة قوات الدراويش في غزو الأراضي المصرية. وبلغت القوات (١٥ ألف مقاتل) جنوبي معابد أبو سمبل في صيف ١٨٨٩م، ودارت معركة ضارية عند توشكى — بين كورسكو وحلفا — في ١٣ أغسطس بين القوات المصرية — بقيادة ضباط إنجليز — وقوات الدراويش، أسفرت عن هزيمة ساحقة لقوات الدراويش، وقُتِل معظم أفرادها، فيما عدا ثلاثمائة مقاتل من مجموع ١٥ ألفًا كانوا يشكِّلون الحملة، وكان من بين القتلى عبد الله النجومي نفسه. يصف الفنان أحداث المعركة بأن المناوشات أخذت تتوالى، ثم دارت المعركة الفاصلة «وقد استبسل المصريون في الهجوم على أعدائهم — الدراويش! — استبسالًا كان له أكبر الأثر في إلقاء الرعب والفزع في قلوب الدراويش، فقُتِل أغلبهم، وأُسر الباقون، ولم ينج من هذه الحملة إلا نفر قليل ولَّوا الأدبار بعد أن رأوا قوادهم ورؤساءهم قتلى في الميدان، وقاصمة الظهر أنهم رأَوا رأس قائدهم عبد الرحمن ولد النجومي قائد الحملة يُحز، ويُحمل فوق أسنة الحراب، وقد شاهد الضابط رأفت — شخصية روائية — أحد جنود الدراويش يحتضر من ضربة سيف أصابته في بطنه، فأراد أن يجهز عليه، فلما اقترب منه عرفه أنه ابن عم نور — شخصية روائية — فلما رآه واقفًا بملابسه العسكرية في صفوف الحامية المصرية وهم يدفنون القتلى ويجمعون الأسرى، حاول ذلك الجريح أن ينتصب على قدميه، ويهجم على الضابط رأفت. وقبل أن يتمكن من تصويب حربة إلى صدر رأفت، كان أحد الجنود المصريين قد لاحظه، فأسرع إلى بتر ذراعه بضربة من سيفه، فخارت قواه، وسقط على الأرض قتيلًا، فاقترب منه رأفت، وعرف أنه ابن عم نور التي أراد أن يفرِّق بينهما، فلقي حتفه غير مأسوف عليه، وعلى كل باغٍ تدور الدوائر.»٥١
وبعد انقضاء عشرة أعوام على التخلي عن السودان، قررت الحكومة البريطانية إعادة فتحه، نتيجة لمنشور «منليك» ملك الحبشة الذي أعلن فيه للدول عزمه على فتح السودان، ولتسابق الدول الأوروبية في التهام ما تصل إليه يدها من أطراف السودان، وعجز حكومة الخليفة عبد الله التعايشي عن مواجهة تلك التهديدات. فضلًا عن بدء الاستعدادات لإقامة خزان أسوان، والحاجة إلى تأمين موارد المياه. وتولَّى اللورد كتشنر قيادة القوات المصرية التي بلغ عدد أفرادها نحو ٤٥ ألف ضابط وجندي، بالإضافة إلى ١٢٠ من الضباط الإنجليز. وفي الثاني من ديسمبر ١٨٩٨م، في منتصف الثانية بعد الظهر، وبعد مذبحة دامية استمرت خمس ساعات، سقطت الدولة المهدية في السودان، وكان في مقدمة ما أمر به كتشنر — عقب دخول القوات أم درمان — نسف قبر المهدي، وإخراج جثته، وتقطيعها، وإلقاؤها في النيل طعامًا للأسماك. وبررت الحكومة ذلك التصرف الشائن بأن كتشنر قد لجأ إليه خوفًا من اعتقاد الأهالي في المهدي، ومن ثَم كان حرصه ألَّا يكون للمهدي قبر.٥٢ ويعبِّر مواطن مصري عن فجيعته وتأثُّره لما حدث بقوله: «الملكة فيكتوريا قتلت المهدي، وجزَّت رأسه كما جز الدراويش رأس جوردون. وأخذت رأس المهدي عندها في لندن يا بني، وضعته في صندوق من الزجاج. ملعونة فيكتوريا يا بني … ملعونة!»٥٣ وثمة إحصائية تقدِّر عدد سكان السودان قبل حكم المهدي بحوالي ٨ ملايين ونصف مليون نسمة، وهبط العدد إلى أقل من مليونين في ١٩٠٥م.٥٤
تم الاحتفال برفع العلم البريطاني، ثم رُفع من بعده العلم المصري، ومع رفع العلَمين عُزف النشيدان الإنجليزي والمصري. ومن المهم التأكيد على يقين المصريين بأن إعادة فتح السودان بمباشرة قوات الاحتلال البريطاني، إنما هو لمد السيطرة الاستعمارية إلى السودان، فضلًا عن تثبيتها في مصر. ومن ثَم، فقد كان ذهاب الجيش المصري إلى السودان لإعادة فتحه، إرغامًا، وليس اقتناعًا.٥٥ وثمة حدث مهم آخر، تلا موقعة أم درمان، فقد علمت مخابرات الجيش المصري أن كتيبة من الجيش الفرنسي بقيادة الكابتن مارشان، قد احتلت فاشودة منذ بضعة أشهر، وهي موقع استراتيجي هام على النيل الأبيض، عند ملتقى الطرق من الخرطوم والحبشة إلى جنوب السودان. وقاد كتشنر — سردار الجيش المصري — ١٨٠٠ جندي مصري ومائة ضابط إنجليزي، إلى الغرب من فاشودة، حيث التقى بالقائد الفرنسي، وأنذره بوجوب الانسحاب؛ لأن فاشودة ملك لمصر. ولأن مارشان كان قد احتل البلدة بتسعة ضباط فرنسيين، ومائة وعشرين جنديًّا من السنغال، فقد طلب إمهاله لتلقي تعليمات من حكومته، ووصلت التعليمات بالانسحاب، فانسحب.٥٦ وقيمة حادثة فاشودة ليست في مجرد استعادة موقع احتله الفرنسيون في السودان، لكنها أكدت — في تقدير البعض — حقوق مصر في السيادة على السودان.٥٧
أيًّا كان الأمر، فقد بدأ تنفيذ الحكم الثنائي، اسمًا لا فعلًا، بعد أن وقِّعت اتفاقية السودان التي يصفها مصطفى كامل يوم توقيعها بأنه «من أشأم الأيام في تاريخ الوزارة المصرية»، وكان لها — على حد تعبير مصطفى كامل — أسوأ الوقع على نفوس المصريين «إن اليأس لم، ولن، يدخل نفوسنا إطلاقًا في كفاحنا من أجل الوطن، وإنما قد يئسنا من كل عون يأتينا من أوروبا.»٥٨ وكان أهم وأخطر ما اشتملت عليه معاهدة ١٩ يناير ١٨٩٩م، والتي تم التصديق عليها في ١٠ يونيو ١٨٩٩م، التأكيد على أن السودان أصبح منفصلًا عن مصر، يحكمه الجانبان المصري والإنجليزي. ووقَّع المعاهدة باسم مصر بطرس غالي، وباسم إنجلترا اللورد كرومر.٥٩

•••

يقول محمد أنيس: «لم يقل المهدي مرة واحدة إن هدفه هو تحرير السودان من مصر، أو فصله عنها، فقد كان المهدي زعيمًا إسلاميًّا عامًّا، يتجه إلى جمع كلمة المسلمين لا إلى تفريقها. والمهدي نفسه يتحدث في رسائله عن تفكيره في الاستمرار في الفتح حتى يدخل مكة والمدينة، ويعيد مجد الإسلام.»٦٠ كان البعد الديني مهمًّا إذن ومطلوبًا، حتى تجتذب الدعوة تأييدًا، ليس في السودان، فحسب، وإنما في أقطار العالم الإسلامي جميعًا. وهو ما يفرض علينا أن نهمل التجاوزات التي لجأ إليها محمد أحمد لاجتذاب المؤيدين/المريدين. لقد أصبحت المهدية حركة دينية، استولت على قلوب أبناء السودان، وامتدت تطلعاتها فلم تعُد تقتصر على استقلال السودان فحسب، وإنما تطلَّعت إلى غزو مصر وتركيا، بل ومحاربة أوروبا في النهاية،٦١ ففي السادس عشر من يونيو (١٨٨٢م) أعلن محمد أحمد أنه هو المهدي المنتظَر. ودعا الناس إلى الإيمان به، والهجرة إليه، وتحرير بلاد المسلمين من كل صنوف الاستعمار الأجنبي: «إن مهديتي من الله ورسوله، ولست بمتحيِّل، ولا مريد ملكًا ولا جاهًا. فأنا خليفة رسول الله، ولا حاجة لي بالسلطنة، ولا بملك كردفان ولا غيرها [كان جوردون قد عرض عليه سلطنة كردفان]، ولا في مال الدنيا ولا زخرفها.» ويقول ج. سبنسر تربمنجهام إن أكثر المتأثرين بدعوة المهدية هم «المزارعون الذين عانوا الاضطهاد، وكانوا في شوق للمخلِّص، يليهم الدناقلة والسود الذين لا قبائل لهم، ومختلف القبائل العربية، خاصة البقارة المتعصبين.»٦٢ وقد أعلن المهدي — فيما بعد — أنه لم يكن راغبًا في المهدية، ولا سعى إليها، وإنما هي التي سعت إليه عندما هجمت عليه من رسول الله بحضرة الأولياء والصالحين. ودعا المهدي أنصاره للهجرة إلى جزيرة أبا في شهر رمضان، ثم صعد — بمن هاجر إليه — إلى جبل قدير، تأهبًا للقتال الذي قدَّمه على فريضة الحج، وحقق المهدي أول انتصاراته على قوات الحكومة في ١٦ رمضان ١٢٩٨ﻫ (أغسطس ١٨٨١م)، ثم عاود انتصاراته عليها في جبل قدير في أول نوفمبر من العام نفسه. ثم بدأ في إنشاء مؤسسات دولته الجديدة، مثل بيت المال، ومنصب قاضي الإسلام، وأمين السلاح … ثم توالت المعارك بينه وبين قوات الإنجليز.
كانت حركة محمد أحمد — في أساسها — نضالًا ضد الاستعمار، وكما يرى محمد جلال كشك، فإن «الثورة السودانية كانت جزءًا من الثورة الوطنية العامة لشعوب آسيا وأفريقيا ضد النهب الاستعماري الأوروبي، وهي — على وجه التخصيص — جزء من حركة المقاومة في العالم الإسلامي للغارة الصليبية الغربية، التي بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر. وإذا استنَّنا المزيد من التحديد، فهي جزء لا يتجزأ من الثورة العربية، وتحريرها من السيطرة التركية التي كانت تمكِّن للغزو الأوروبي بتخلُّفها واستبدادها، وهي التوءم أو الوجه الآخر للثورة العرابية في مصر.»٦٣ وفي تاريخ الأستاذ الإمام، أعلن السلطان رضاءه عن أعمال محمد أحمد، وصدرت التنبيهات إلى مواطني دولة الخلافة في كل مكان، بأن يتجنَّبوا محاربة المهدي، وأن يعتبروا الإنجليز بمثابة أعداء يجب مقاومتهم.٦٤ لكن السلطات البريطانية ركزت على الجانب الديني أو الأسطوري في ثورة المهدي (تطالعنا أصداء لذلك الزعم في وصف الفنان للسودان بأنه «بلد الخز والأحجبة والأولياء الصالحين»، يحيى الطاهر عبد الله، الطوق والإسورة، الأعمال الكاملة، دار المستقبل العربي)، وهو ادعاء محمد أحمد بأنه المهدي المنتظَر، وحاولت طمس الشق السياسي، وهو الدعوة — والعمل — ضد الوجود الاحتلالي. وكما قيل، فإن الحاجة إلى الثورة، والقدرة عليها، هي التي خلقت الاقتناع بالمهدية، وليست المهدية هي التي صنعت الثورة.٦٥ وقد واجه الأفغاني والإمام قضية «المهدية» في ثورة محمد أحمد بالقول إنه حتى لو ثبت أن محمد أحمد دجال، فإنه يجب تأييده، لما في حركته من نفعٍ في مقاومة الاستعمار. ونشرت «العروة الوثقى» رسالة من لاهور بالهند يقول صاحبها: «لو أن محمد أحمد هذا كان دجالًا، لأوجبت علينا الضرورة أن نعتقده مهديًّا، وألَّا نفرط في شيء مما يؤيده.»٦٦ ولعلِّي أتفق مع القول بأن «قسمة الفكر الاجتماعي في الثورة المهدية تؤكد أنها ثورة فقراء.» ولا يخلو من دلالة قول جوردون: «إذا أريد لمصر أن تبقى ساكنة، فلا بد من سحق المهدي.»
كان محمد أحمد المهدي — كما يصفه ونستون تشرشل — من أعظم أبطال عصره،٦٧ ويشير تشرشل إلى أن المهدي كان يعتمد على تأييد الجماهير المصرية، وكان يذكر دائمًا أنه سيذهب إلى دلتا مصر لتحرير المصريين من الاحتلال التركي، وظل يخطط لذلك حتى داهمته المنية.٦٨ قام المهدي بثورته ضد الاحتلال وحكم الخديو، واللافت أن قواته توقفت جنوبي الخرطوم؛ حيث كانت تعسكر حامية مصرية كبيرة، تتألَّف من جنود مصريين وسودانيين، أعلنوا تأييدهم للمهدي في حركته، ولم يحاولوا التصدي لقوات المهدي. أهمل المهدي السير إلى الخرطوم للقضاء على الحامية باعتبارها قوة حليفة.٦٩ وذهب تعاطف المهدي مع الجماهير المصرية — كما أشرنا — إلى حد المطالبة بتبادل أحمد عرابي والقائد الإنجليزي جوردون، فإن العلاقات بين المسئولين المصريين وقياديي حزب الأمة — الذي قام على دعوة المهدي — ظلت على فتورها، وربما توترها، إلى ما بعد ثورة يوليو ١٩٥٢م، رغم أن إنجلترا — العدو الذي استهدفته ثورة المهدي — أفلحت في التقارب مع خلفاء المهدي، بحيث أصبحوا أهم أصدقائهم في السودان!

•••

السودان — في تقدير تشرشل — يرتبط بمصر عن طريق النيل، كالغواص الذي يرتبط بالسطح بأنبوبة الأوكسجين، بدونها ليس هناك سوى الاختناق «لا حياة بدون النيل، لا نيل … لا حياة.»٧٠ يقول الرجل الحبشي إن أهالي السودان لم يعتبروا فتح محمد علي السودان — لأول مرة — أجنبيًّا عنهم؛ لأنه — كما أنقذ مصر من فوضى المماليك وظلمهم وطغيانهم — أراد بفتحه السودان أن يحقق الهدف نفسه، فلم يشعر السودانيون بشيء من الألم «ولأن حاكم مصر يجب أن يكون — بطبيعته — حاكمًا للسودان.»٧١ وفي تقدير يونان لبيب رزق إن «الذي حكم محمد علي في قراره بضم السودان، كان تعاظم شبكة الري المصري، وما استتبع ذلك من تزايد الإحساس بالحاجة لتتبُّع مجرى النيل واكتشاف منابعه.»٧٢ حددت مصر الكيان الجغرافي المعاصر للسودان، عندما احتل الجيش المصري شمال السودان ووسطه وشرقه في ١٨٢١م. ثم ألحق الجنوب بالسودان الشمالي والبحيرات الاستوائية في ١٨٣٩م. ثم ضمَّت مملكة دارفور في أقصى الغرب عام ١٨٧٤م. ولما حاول الخديو إسماعيل أن يمد سيطرة مصر على كل سواحل البحر الأحمر الغربية، انتهاء بالحبشة، وسيَّر لذلك بالفعل حملة عسكرية، فإن ما كان يملأ خياله، تلك الحملة التي قادها في ١٨٢٠م، على رأس خمسة آلاف جندي، لفتح السودان، فاستولى على العديد من المدن. لكن الإخفاق كان هو المصير الذي انتهت إليه تلك الحملة، مما أفسح الطريق — فيما بعد — للغزو الإيطالي منذ ١٨٨٥م.٧٣ والحق أن السودان لم يكن — ذات يوم — مستعمَرة تابعة للإمبراطورية، لأن مصر لم تكن إمبراطورية، ولم يكن السودان — كما قلت — مستعمَرة تابعة لها، إنما هو عمقها الاستراتيجي الذي يشكِّل — بالفعل — جنوب الوادي، بينما مصر هي شماله. والثابت تاريخيًّا أن مصر — في أيام محمد علي — قد أنفقت بسخاء لتعمير السودان، وإنعاش اقتصادياته، وتعليم أبنائه، وتشجيعهم — بكل الطرق — على السير في ركب الحضارة، بالإضافة إلى أن مصر عملت على تدريب السودانيين على حكم أنفسهم بأنفسهم، على أساس مبدأ إشراك العناصر الوطنية في شئون الحكم والإدارة، وهو المبدأ الذي سعى إلى تأكيده المعاصرون الأجانب الذين زاروا السودان آنذاك، والمعنى أن السودان قد شهد العمل بما يُعرَف الآن باسم «السودنة».٧٤ واستطاعت مصر — قبل الاحتلال الإنجليزي في ١٨٨٢م — أن تحقق إنجازات فعلية وملموسة في مجال التمدين، والاتصال بالحضارة الغربية، لكن تلك الإنجازات لم تصل بتأثيراتها إلى الحياة السودانية، فتأطر الوجود المصري هناك في صورة الاحتلال الذي أدى في ١٨٨٢م — عام الاحتلال البريطاني لمصر — إلى ثورة المهدي. ظلت مصر — حتى في أيام الاحتلال البريطاني — تساعد السودان. وقد اعترف اللورد كرومر — في خُطبة له بالخرطوم (٣٠ / ١ / ١٩٠٣م) أن المصريين يدفعون كل سنة ٣٥٠ ألف جنيه مصري للسودان، إلى جانب أكثر من نصف مليون جنيه إسترليني لتحسين السكك الحديدية السودانية، ومليون و٤٠٠ ألف جنيه مصري لإنشاء سكة حديد الخرطوم — بورسودان التي انتهى العمل فيها في ١٩٠٦م.٧٥ بل إن الأموال المصرية كانت — للأسف — هي التي نفَّذت السياسات البريطانية في السودان، ففي الفترة من ١٨٩٩م إلى ١٩١٢م بلغ مجموع المبالغ التي دفعتها مصر ٥٣٥٣٢١٥ جنيهًا، لسد العجز السنوي في ميزانية السودان، بالإضافة إلى نحو المليون جنيه سنويًّا لنفقات الجيشَين المصري والإنجليزي. وكذلك نفقات إنشاء الخطوط الجديدة، ومشروعات الري داخل السودان.

أحاديث جهينة

محمد المويلحي بعث المنيكلي باشا من قبره، ليقارن بين عهد محمد علي والعهد القائم، كما جعل حافظ إبراهيم من صوت الشخصية الأسطورية «سطيح» شاهدًا يُدين العصر، بينما اختار حفني ناصف في ديالوجاته سردًا أكثر مباشرة من «الحديث» و«الليالي». فالراوي يبدأ حديثه هكذا: «حدَّثني جهينة، وهو أصدق الناس في الحديث، وأقدرهم على تمييز الطيب من الخبيث، قال …» لا إرهاصات بذلك اللقاء، إنما هو حوار مباشر بين الراوي وجهينة — شخصية المثل العربي الشهير — مما يُوقع ديالوجات حفني ناصف خارج أسوار الفن القصصي عمومًا. ومع ذلك، فمن المفيد أن نقف أمام تلك الديالوجات باعتبارها «شكلًا» فنيًّا، يسهم في إضفاء بعض الظلال على الصورة البانورامية لعهد الاحتلال.

جهينة يروي للكاتب حرصه على أن يطوف بمصر، يمتِّع بمشاهدتها أحداقه، وينزِّه في مناظرها ناظره «ولقد مرَّت عليَّ ليالٍ في مساورة هواها، ما أطول عمرها وأشقاها، كنت أجد فيها كما يجد الولهان، وأعد أن العمر ذهب سدى إذا لم يسعدني برؤيتها الزمان، ولما كانت تحدثني الرواة ببهاء منظرها، وحسن خبرها ومخبرها، وصفاء جوِّها من الأكدار، وزينة آفاقها ببديع الآثار، وصحة أديمها، واعتلال نسيمها، وخصوبة مربعها، وجمال مرتعها، وحلاوة مائها، ورقة هوائها، وجودة مزارعها، ووفرة منافعها، وطيب العيش فيها، ولين عريكة أهاليها، يخال نزيلها أنه بين أهله، وينسى الغريب بها ادِّكار محلِّه، وأول ما شددت إليها الرحال، ووجهت العزيمة إلى الترحال، سمعت أن قد علقت بها الخطوب، ورميت بكروب الحروب، فأمسكت عن السير حتى تنجلي المحنة، وتنطفئ شعلة الفتنة. ولما طال بي المطال، وحالت الأحوال، ثنيت على تلك العزيمة فوثَّقت منها العرى، وهببت إلى السرى …»

فماذا رأى جهينة في رحلته؟

«وبينما أنا أجول في المدينة، أشاهد ما بها من الزينة؛ إذ سمعت قومًا يصخبون، وطورًا يستخفُّهم الطرب فيصفقون، فوليت وجهي شطر ذلك المنتدى، لعلِّي أجد على النار هدى، وحسبتهم علماء عقدوا مجلسًا للمناظرة، أو سياسيين دارت بينهم رحى المذاكرة، أو عقلاء احتفوا بخطيب، أو التقوا على مشاهدة غريب، فإذا بهم جماعة من الدراويش، يرصدون كواكب «الجوزاء» برج الحشيش، يتلقفون «الأنابيب»، ويتفنَّنون في الضحك على أساليب، ويدخلون القوافي من أبوابها المألوفة، ويلعبون الصينية حين تقف حركة ظروفها المصفوفة، فقلت: أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون، ولمثل هذه الجوزاء تجتمعون؟ فحوقلت، وانطلقت إلى أمام، فرأيت جماعة يتغامزون، ويأتمرون على أمرٍ يكون، فراقبتهم مراقبة خفية، حتى انتهوا إلى الأزبكية، فدخلوا بعض الحانات، وصرفوا عددًا من الجنيهات، وخرجوا وهم يناطحون الجدران ويشكون جور الزمان، فسمعت أحدهم يتأفف من العيلة، ويقول إنه ليس في بيته سوى قوت ليلة، ثم قال لصاحبه: نحن وإن أفطرنا من السوق، فالخمر مرزوق، انطلق بنا إلى إحدى النساء، قبل أن ينفجر الضياء، وتحرَّ عن أن يسرقنا الكلام … إلخ.»

وتظل ديالوجات حفني ناصف محاكاة ساذجة ﻟ «حديث عيسى بن هشام وليالي سطيح»، مما يقف بها خارج أسوار العمل الفني.

ليالي الروح الحائر

من خلال تأثُّر — يصعب إغفاله — بليالي سطيح، وإن تخلى فيها عن أسلوب السجع، بما يجعلها خطوة في فن الرواية أكثر تقدمًا، كتب محمد لطفي جمعة «ليالي الروح الحائر».٧٦ طلب مصطفى من صديقه — الراوي — أن يضع عنه كتابًا بعد وفاته.٧٧ ورحل الصديق بالفعل، وظلت قضية الكتابة عنه شاغلًا للراوي، يقلِّب الأمر ويناقشه، وينشد المدخل والسدى، حتى تناهى إلى سمعه — يومًا — «صوت خفي كأنه من جوف الأرض، ينطق خافتًا قال: أيها الباحث عن الحقيقة، التائه في بيداء الريب …

– من أنت أيها المتكلم الخفي؟

– أنا الروح الحائر، روح صديقك، أتيت مجيبًا نداءك.

– لعلك أيها الروح العزيز جئت لي بجواب سؤالي وحلٍّ لغوامض الكون.

– أنَّى لي ذلك، ولا فرق بيني وبينك سوى أنني تخليت عن بدني، وأنت لا تزال تجاهد ضد العناصر الأرضية، فتغلبها مرة، وتغلبك مرارًا.

– وهلا أراك أيها الروح الصديق، فأطمئن إليك.

– بلى، انظر.

فنظرت، ولم أرَ شيئًا. قال: انظر نحو الزاوية اليمنى. فأمعنت النظر، فإذا شبح أبيض في يده مصباح، ولكني لم أستطع تمييز تقاطيعه. قلت: وما هذا المصباح؟ قال: إنه دليلي في حيرتي، فيه شعاع من نور الحقيقة. قلت: حدِّثني بشيء مما رأيت. قال: ليس لديَّ من الوقت متسع، وموعدنا الليلة الثانية.»٧٨ وقدِم الروح الحائر في بطن الليل، وفي يده مصباحه، تحدَّث عن عودته من بلاد قصيَّة، تسكنها أمة عجيبة، اسمها أمة الهوز، كان أهلها يعانون — لعدة قرون — من البلادة والخمول، حتى قام بينهم مصلحون، ينهضون الهمم، وينبِّهون العزائم.

تختلف «ليالي الروح الحائر» عن «ليالي سطيح» — كما أشرت — في أنها لم تتجه إلى أسلوب المقامة، فضلًا عن أن لياليها متصلة، بعكس «ليالي سطيح» التي كانت سبعًا فقط. ولا يكتفي الروح الحائر بمناقشة المشكلات المصرية، لكنه يعنى بالمشكلات الإنسانية في أقطار شتى، ويختار قصصًا من كل مكان. من هنا، كان قول الروح الحائر — في الختام: «إنني رويت لك أحاديث عن الشرق والغرب، أممًا وأفرادًا، وفاتحتك فيما كان يجُول بصدري من دواعي الحزن الإنساني، ونقلت إليك شعر الأرواح، وأبحتُ لك إذاعة ما دوَّنته وطويته، فأعطيتك صورة من نفسي، ولكن لديَّ أحاديث لا تنتهي، وفي قلبي عواطف لا أفرغ مدى الدهر من وصفها؛ لأنني لا أستطيع حصرها. ولكنني أشعر بأن دور الحيرة قد انتهى، أو كاد ينتهي، فإن التقينا بعد الليلة كان لي معك حديث آخر لم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر.»

مع ذلك، فإن صوت الروح الحائر يبدو أكثر وضوحًا في مناقشته للوجود الاحتلالي، بل إنه يتحدث عن الإنجليز بقوله: «قاتلهم الله، يحبُّون الاستقلال حتى في الموت، وينكرونه على غيرهم في الحياة.»٧٩

هوامش

(١) أحمد الشنتناوي، التنبؤ بالغيب قديمًا وحديثًا، دار المعارف، ٥٢.
(٢) حافظ إبراهيم، ليالي سطيح، المكتبة العربية، ٣٧.
(٣) المصدر السابق، ٤٧-٤٨.
(٤) المصدر السابق، ١٧.
(٥) المصدر السابق، ٣.
(٦) المصدر السابق، ٦.
(٧) المصدر السابق، ٧.
(٨) المصدر السابق، ٤٥.
(٩) ينتمي محمد أحمد المهدي إلى عائلة فقيرة في شمال السودان، وقد ألجأتها الظروف الاقتصادية إلى الهجرة لوسط السودان، وعمل المهدي في بعض فترات حياته حطَّابًا، يحمل الحطب على كتفه من الغابة إلى السوق، أدب ونقد، العدد ٨، ١٩٨٤م.
(١٠) ليالي سطيح، ٣٢.
(١١) عبد الكريم أحمد السكري، ليست هي، مسامرات العصر، مطبعة ملجأ أمير الصعيد ببني سويف، ٣.
(١٢) المصدر السابق، ٢٠.
(١٣) المصدر السابق، ٢٠.
(١٤) المصدر السابق، ٣٦.
(١٥) ونستون تشرشل، حرب النهر، تاريخ الثورة المهدية، ت. عز الدين محمود، هيئة الكتاب، ٢٠٠٢م، ٤١.
(١٦) ليست هي، ٣٧.
(١٧) حرب النهر، ٤١.
(١٨) ليست هي، ٢٣.
(١٩) المصدر السابق، ٢٣.
(٢٠) المصدر السابق، ٧.
(٢١) محمد خليل قاسم، الشمندورة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩٦٨م، ١٠٣.
(٢٢) ليالي سطيح، ٣٢.
(٢٣) سهير القلماوي، أحاديث جدتي، ٥٠.
(٢٤) المصدر السابق، ٥١-٥٢.
(٢٥) المنافسة الدولية في أعالي النيل، ٩٠.
(٢٦) محمود تيمور، عم متولي، قال الراوي، دار المعارف، ١٩٧٠م.
(٢٧) المنافسة الدولية في أعالي النيل، المقدمة.
(٢٨) عباس محمود العقاد، محمد عبده، ١٣٨.
(٢٩) الهلال، نوفمبر ١٩٨٥م.
(٣٠) يعقوب صروف، فتاة الفيوم، ١٣.
(٣١) المنافسة الدولية في أعالي النيل، ٨٨.
(٣٢) المرجع السابق، ٥.
(٣٣) المرجع السابق، ٧١-٧٢.
(٣٤) المرجع السابق، ٥.
(٣٥) هارولد ماكمايكل، السودان الإنجليزي المصري، ٧٢.
(٣٦) المرجع السابق، ٧١-٧٢.
(٣٧) مجلة «أكتوبر»، ٣٠ / ٩ / ١٩٨٤م.
(٣٨) ليالي سطيح، ٣٧-٣٨.
(٣٩) المصدر السابق، ٣٧-٣٨.
(٤٠) المنافسة الدولية في أعالي النيل، ٨٩.
(٤١) ليالي سطيح، ٣٨.
(٤٢) المصدر السابق، ٣٨.
(٤٣) المنافسة الدولية في أعالي النيل، ٩٠.
(٤٤) ليالي سطيح، ٣٩.
(٤٥) المصدر السابق، ٤١.
(٤٦) المصدر السابق، ٤١.
(٤٧) المصدر السابق، ٤٠.
(٤٨) إدوار الخراط، حتة حلاوة طحينية، مضارب الأهواء، دار البستاني.
(٤٩) حرب النهر، ٦٥.
(٥٠) المرجع السابق، ٥٦.
(٥١) ليست هي، ٤٧–٥٠.
(٥٢) الهلال، نوفمبر ١٩٨٥م.
(٥٣) عبد المنعم شميس، عتريس الأكبر، ١٠٥.
(٥٤) ج. سبنسر تربمنجهام، الإسلام في السودان، ت. فؤاد محمد عكود، المجلس الأعلى للثقافة، ١٤.
(٥٥) دنشواي، ٥٦.
(٥٦) ثورة ١٩١٩، ٣٤.
(٥٧) مصر والسيادة على السودان، ٦٦.
(٥٨) مصطفى كامل، ٧٠.
(٥٩) محمد أنيس، دراسات في ثورة ١٩١٩م، ٣١٠.
(٦٠) المرجع السابق، ٣٠٢.
(٦١) المنافسة الدولية في أعالي النيل، ٨٨.
(٦٢) الإسلام في السودان، ١٥٢.
(٦٣) محمد جلال كشك، بين الثورة والانفصال، أكتوبر، ٣٠ / ٩ / ١٩٨٤م.
(٦٤) تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ٣٥٦.
(٦٥) أكتوبر، ٣٠ / ٩ / ١٩٨٤م.
(٦٦) المرجع السابق.
(٦٧) حرب النهر، ٤٤.
(٦٨) المرجع السابق، ٧٩.
(٦٩) دراسات في ثورة ١٩١٩، ٣٠٥.
(٧٠) حرب النهر، ٢١.
(٧١) ليست هي، ١٠.
(٧٢) الأهرام، ٢١ / ٥ / ١٩٨٦م.
(٧٣) الشاهد، يناير ١٩٨٨م. راجع ما كتبناه عن رواية «فتاة الثورة العرابية».
(٧٤) محمد فؤاد شكري، مصر والسودان، دار المعارف، ٩–١١.
(٧٥) محمد سيد كيلاني، وذهب كتشنر طعامًا للسمك، الهلال، ديسمبر ١٩٨٥م.
(٧٦) محمد لطفي جمعة، ليالي الروح الحائر، مكتبة التأليف بمصر، ١٩١٢م.
(٧٧) المصدر السابق، ٦.
(٧٨) المصدر السابق، ١١.
(٧٩) المصدر السابق، ٧٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥